استخراج المرام من استقصاء الافحام المجلد 1

اشارة

سرشناسه: حسيني ميلاني، علي ، 1326 -

عنوان قراردادي: منتهي الكلام.شرح

استقصاء الافحام.عربي. شرح

عنوان و نام پديدآور: استخراج المرام من استقصاءالافحام للعلم الحجة آيةالله السيد حامدحسين اللكهنوي بحوث و ردود تاليف علي الحسيني الميلاني.

مشخصات نشر: قم مركزالحقايق الاسلامية 1432 ق. - 1390-

مشخصات ظاهري: ج.

شابك: دوره ‮ 978-600-5348-50-7: ؛ 200000 ريال ج. 1 ‮ 978-600-5348-51-4: ؛ 200000 ريال ج. 2 ‮ 978-600-5348-52-1: ؛ 200000 ريال ج. 3 ‮ 978-600-5348-53-8:

يادداشت: عربي.

يادداشت: كتابنامه.

يادداشت: نمايه.

مندرجات: ج. 1. العقائد - ج. 2. التفسير والمفسرون والصحاح الستة و اصحابها - ج. 3. ائمةالمذاهب

موضوع: فيض آبادي ، حيدرعلي . منتهي الكلام -- نقد و تفسير

موضوع: كنتوري ، ميرحامد حسين 1830 - 1888م.. استقصاء الافحام -- نقد و تفسير

موضوع: شيعه -- عقايد

موضوع: شيعه -- دفاعيه ها و رديه ها

موضوع: اهل سنت -- دفاعيه ها و رديه ها

شناسه افزوده: فيض آبادي ، حيدرعلي . منتهي الكلام. شرح

شناسه افزوده: كنتوري ، ميرحامد حسين 1830 - 1888م.. استقصاء الافحام. عربي. شرح

شناسه افزوده: مركز الحقائق الاسلاميه

رده بندي كنگره: ‮ BP211/5 ‮ /ف94م80213 1390

رده بندي ديويي: ‮ 297/4172

شماره كتابشناسي ملي: 2375816

كلمة المؤلّف … ص: 5

الحمد للَّه ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام علي خير خلقه محمّد وآله الطاهرين، ولعنة اللَّه علي أعدائهم أجمعين من الأوّلين والآخرين.

وبعد

فإنّ كتاب (استقصاء الإفحام) من مؤلّفات آية اللَّه المجاهد، والمحقّق الفذ، والقدوة الرائد (السيّد ميرحامد حسين النيسابوري اللكهنوي) الملقّب ب (صاحب عبقات الأنوار) كتاب لم يصنّف مثله في بابه، وقد كنت سمعت به منذ أنْ تعرَّفت علي كتاب (العبقات) وعلي مؤلّفه الجليل، وذلك لمّا زار المحقّق الحجّة والعلّامة الكبير المرحوم السيّد محمّد سعيد نجل آية اللَّه السيّد ناصر حسين نجل السيّد (صاحب العبقات) كربلاء المقدّسة، ونزل ضيفاً علي سيّدي الوالد آية اللَّه السيّد نورالدين الميلاني، قبل حوالي أربعين سنة …

لقد حدّثني السيّد السعيد- رحمه اللَّه- عن آبائه وآثارهم، وشرح لي كثيراً من مآثرهم وأخبارهم، وعرّفني بكتبهم وأسفارهم، ثمّ رغّبني

في مشروع كتاب (العبقات) وشرعت بذلك من ذلك الوقت وكانت (النفحات) «1».

وكان كتاب (إستقصاء الإفحام) من جملة الكتب التي تحدّث عنها،

__________________________________________________

(1) نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار في إمامة الأئمّة الأطهار. طبع في 20 جزء.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 6

لاسيّما وأنه كان قد ألّف في النجف الأشرف، عندما كان يدرس في حوزتها العلميّة الكبري، كتاب (الإمام الثاني عشر)- الذي استفاد فيه كثيراً من (إستقصاء الإفحام)- واقترح عليّ إعادة طبعه، فوفّقت لذلك مع تعاليق وإضافات ثمينة والحمد للَّه «1».

ثمّ رأيت أكابر الطائفة، يذكرون (إستقصاء الإفحام) في تقاريظهم لمؤلّفات (صاحب العبقات)، ووجدت جماعةً من العلماء الأعلام ينقلون عنه ويستندون إليه في مؤلّفاتهم المختلفة …

وهكذا … ازداد شوقي إلي (إستقصاء الإفحام)، إلي أن وقفت عليه قبل أعوام، وقرأته من أوّله إلي آخره، فألفيته مثل (العبقات) في البحث والتحقيق والمتانة، وفي القوة والدقّة والرصانة، وإنْ لم يشتهر كاشتهاره.

فعزمت علي إخراج مطالبه التي لم يسبق إليها أحدٌ من أعلامنا الماضين، وكان عيالًا عليه فيها كثير من علمائنا المتأخّرين، وانتهزت لذلك فرص العطل، وواصلت العمل بلا ملل، حتّي وفقني اللَّه عزّوجلّ، لتنظيم فرائده وترتيب فوائده، فجاءت في أربعة أبواب وملحقاتٍ وخاتمة.

فالباب الأوّل: في المسائل الإعتقاديّة.

والباب الثاني: في التفسير والمفسّرين.

والباب الثالث: في الصّحاح الستّة وأصحابها.

والباب الرابع: في أئمّة المذاهب الأربعة.

أمّا الملحقات، فهي بحوثٌ في (مسائل فقهيّة) وفي (القياس) و (الإستحسان).

__________________________________________________

(1) طبع كتاب (الإمام الثاني عشر) في النجف الأشرف، مطبعة القضاء، سنة 1393.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 7

وأمّا الخاتمة، فتحقيقٌ عن (حديث الحوض) وما ورد عن أهل البيت عليهم السلام في (الصّحابة).

وقد وضعت له مقدّمةً، تعرّضت فيها لما تمتاز به العلوم الدينيّة وأعلامها عند الفرقة الإماميّة عن سائر الفرق

الإسلاميّة، وللتعريف بالكتاب وموضوعاته ومؤلّفه العظيم واسرته الأبرار، بالاستفادة من (دراسات في كتاب العبقات) وهي مقدّمة (نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار).

واللَّه أسأل أن ينفع به كما نفع بأصله، وأنْ يوفّقنا للدفاع عن الحق وأهله، وأنْ يحشرنا في زمرة أتباع الأئمّة المعصومين محمّد وآله الطيّبين الطاهرين، إنّه أكرم الأكرمين.

علي الحسيني الميلاني 10 ربيع الثاني 1424

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 9

تقديم … ص: 9

اشارة

زززز

افتراق الامّة … ص: 11

لقد افترقت الامّة الإسلاميّة بعد النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم إلي فرقٍ كثيرة وطوائف شتّي …

«كلّ حزب بما لديهم فرحون» «1».

وكلٌّ يدّعي وصلًا بليلي …

والنبيّ صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم قد أخبر عن ذلك وأعلن بأنّ فرقة واحدة فقط منها ناجية، والباقي في النار … «2»

ثمّ أرشد الامّة إلي تلك الفرقة وعرّفها لهم … كما في الأحاديث والأخبار …

وبذلك وقعت المحنة وحصل الإختبار … كما قال تعالي: «أحسب النّاس أن يتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يفتنون* ولقد فتنّا الذين من قبلهم … » «3».

معالم الفرقة النّاجية … ص: 11

وكان علي كلّ باحث- إذا ما أراد أن يعرف الفرقة الحقّة الناجية- أنْ __________________________________________________

(1) سورة المؤمنون 23: 53. سورة الروم 30: 32.

(2) إشارة إلي حديثٍ عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة في سننهم، وأحمد في المسند 2: 332.

(3) سورة العنكبوت 29: 2- 3.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 12

يعرض معالم الدين عند الفرق علي الكتاب والسنّة، لأنّهما المصدران الأصليّان والأساسيّان في جميع الشئون الدينيّة والمعارف الإسلاميّة، فما وافقهما أو كان مستنبطاً منهما اخذ به، وما لم يكن كذلك طرح وترك، إذ ما من شي ء إلّاوبه كتاب أو سنّة:

روي الشيخ الكليني بإسناده عن حمّاد عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال:

سمعته يقول: «ما من شي ء إلّاوفيه كتاب أو سنّة».

وعن عمر بن قيس، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «سمعته يقول: إنّ اللَّه تبارك وتعالي لم يدع شيئاً يحتاج إليه الامّة إلّاأنزله في كتابه وبيّنه لرسوله صلّي اللَّه عليه وآله، وجعل لكلّ شي ء حدّاً وجعل عليه دليلًا يدلّ عليه، وجعل علي من تعدّي ذلك الحدّ حدّاً».

وعن المعلّي بن خنيس قال: قال أبو عبداللَّه عليه

السلام: «ما من أمرٍ يختلف فيه اثنان إلّاوله أصلٌ في كتاب اللَّه عزّ وجلّ، ولكنْ لا تبلغه عقول الرجال».

وعن سماعة عن أبي الحسن موسي عليه السلام قال: «قلت له: أكلّ شي ء في كتاب اللَّه وسنّة نبيّه صلّي اللَّه عليه وآله أو تقولون فيه؟ قال: بل كلّ شي ء في كتاب اللَّه وسنّة نبيّه صلّي اللَّه عليه وآله».

وعن إسماعيل بن جابر عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «كتاب اللَّه فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وفصل ما بينكم، ونحن نعلمه» «1».

وإذا كان أئمّة أهل البيت عليهم السلام يؤكّدون- كما في الأخبار الكثيرة الواردة عنهم- علي ضرورة الرجوع إليهم في كلّ الامور والأخذ منهم __________________________________________________

(1) راجع: الكافي 1/ 59 باب الرد إلي كتاب اللَّه والسنّة …

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 13

والتمسّك بهم … فإنّ ذلك ما أوصي به رسول اللَّه الصّادق الأمين في الأحاديث الثابتة عنه المرويّة في كتب جميع الفرق.

ومن أشهر تلك الأحاديث قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم:

«كأنّي قد دعيت فأجبت، وإنّي قد تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب اللَّه تعالي وعترتي … » «1».

دور الأئمّة في حفظ الدين ونشر العلم … ص: 13

وفي هذا الباب روايات خاصّة بأميرالمؤمنين عليه السلام، بيّن فيها رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم منزلة الإمام ومقامه العلمي، وأنّه ما من شي ء من العلوم إلّاولابدّ أنْ يؤخذ منه ويرجع إليه فيه ويتّبع قوله …

ومن أشهر تلك الروايات قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم:

«أنا مدينة العلم وعليّ بابها فمن أراد العلم فليأت الباب» «2».

__________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 3/ 109. وهذا هو الحديث المعروف بحديث الثقلين، أخرجه المحدّثون والمفسّرون والمؤرّخون وسائر العلماء في مختلف الكتب وبألفاظٍ مختلفة، فراجع:

مسند أحمد 5/ 181 و 3/ 26 وغيرهما، والمصنَّف لابن

أبي شيبة 10/ 505، صحيح الترمذي 5/ 663، جامع الاصول 1/ 278، الطبقات الكبري 1/ 194، المعجم الكبير 3/ 62، مصابيح السنّة 4/ 190، كتاب السنّة لابن أبي عاصم: 336، مجمع الزوائد 9/ 165، فيض القدير في شرح الجامع الصغير 3/ 14، الصواعق المحرقة: 233 وغيرها من كتب المتقدّمين والمتأخّرين من أهل السنّة. ومن شاء التفصيل فليرجع إلي كتاب (نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار) الأجزاء 1- 3.

(2) المستدرك علي الصحيحين 3/ 127. وهذا هو حديث مدينة العلم، ورواته من الأئمّة الأعلام عند السنّة كثيرون جدّاً، فراجع:

تهذيب الكمال وتهذيب التهذيب، بترجمة الإمام علي عليه السلام، تاريخ ابن كثير 7/ 359، جامع الاصول 9/ 473، جمع الجوامع 1/ 373، تاريخ بغداد 2/ 377 و 4/ 348 و 7/ 172 و 11/ 204، الرياض النضرة 2/ 255، فيض القدير 3/ 47، تاريخ الخلفاء: 170، المعجم الكبير 11/ 65، اسد الغابة 4/ 22، تذكرة الحفّاظ 4/ 28، مجمع الزوائد 9/ 114، عمدة القاري في شرح البخاري 7/ 631، إتحاف السادة المتقين 6/ 244. ومن شاء التفصيل فليرجع إلي كتاب (نفحات الأزهار) الأجزاء 10- 12.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 14

حيث أفاد أنّ العلوم كلّها مجموعة عنده، وأنّه يجب علي الناس طلب العلم، وأنّ الطريق الوحيد إليه هو مولانا عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

وكذلك كان أميرالمؤمنين عليه السلام … فقد كان المرجع الوحيد للمتصدّين للأمر، وكبار الصحابة، فكم من مشكلةٍ علميّة عجزوا عن حلّها أو مسألةٍ فقهيّة جهلوا الحكم الشرعي فيها، فكان هو المرجع وإليه المفزع، حتّي قال الحافظ النووي بترجمته:

«وسؤال كبار الصّحابة له ورجوعهم إلي فتاواه وأقواله في المواطن الكثيرة والمسائل المعضلات، مشهور» «1».

وإنّ ذلك من

أقوي الأدلّة علي إمامته المطلقة وولايته العامّة بعد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم … لأنّ من أولي الصفات المعتبرة في الإمام- عند علماء الكلام من الخاصّة والعامّة- هو العلم:

قال شارح المواقف: «المقصد الثاني، في شروط الإمامة، الجمهور علي أنّ الإمامة ومستحقّها من هو مجتهد في الاصول والفروع، ليقوم بامور الدين، متمكّناً من إقامة الحجج وحلّ الشّبه في العقائد الدينيّة، مستقلّاً بالفتوي في النوازل وأحكام الوقائع، نصّاً واستنباطاً، لأنّ أهمّ مقاصد الإمامة حفظ العقائد

__________________________________________________

(1) تهذيب الأسماء واللغات 1/ 346.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 15

وفصل الحكومات ورفع المخاصمات، ولن يتمّ ذلك بدون هذا الشّرط» «1».

وليس فقط رجوع كبار الصحابة وغيرهم … بل العلوم الإسلاميّة كلّها منه اخذت وعنه انتشرت …

أمّا في المدينة المنوّرة، فقد عرفت أنّه كان المرجع للمتقمّصين للخلافة ولغيرهم، حتّي اشتهر عن عمر بن الخطّاب قوله: «لولا علي لهلك عمر» «2»، و «أقضانا علي» «3» و «لا أبقاني اللَّه بعدك يا علي» «4».

وعن سعد بن أبي وقّاص- في كلامٍ له عن الإمام عليه السلام يخاطب الناس- « … ألم يكن أعلم الناس» «5».

وعن ابن عبّاس: «واللَّه، لقد اعطي عليّ بن أبي طالب تسعة أعشار العلم، وأيم اللَّه، لقد شارككم في العشر العاشر» «6».

وعن أبي سعيد الخدري: «أقضاهم علي» «7».

وعن ابن مسعود: «كنّا نتحدّث أنّ أقضي أهل المدينة علي» «8».

وعن عائشة: «عليّ أعلم الناس بالسنّة» «9».

وأمّا مكّة المكرّمة، فقد عاش فيها الإمام منذ ولادته حتّي الهجرة،

__________________________________________________

(1) شرح المواقف 8/ 349.

(2) الاستيعاب 3/ 1103، فيض القدير 4/ 357.

(3) الاستيعاب 3/ 1102.

(4) الرياض النضرة 2/ 197، فيض القدير 4/ 357.

(5) المستدرك 3/ 500.

(6) الاستيعاب 3/ 1104، الرياض النضرة 2/ 194.

(7) فتح الباري 8/ 136.

(8)

الاستيعاب 3/ 1105.

(9) الرياض النضرة 2/ 193.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 16

وسافر إليها بعد الإستيطان بالمدينة غير مرّة، ولا ريب في أخذ أهل مكّة منه العلم والمعرفة في خلال هذه المدّة.

علي أنّ تلميذه الخاص- أعني عبداللَّه بن العبّاس- كان بمكّة مدّةً مديدة ينشر العلم، ويفسّر القرآن، ويعلّم المناسك، ويدرّس الفقه، قال الذهبي بترجمته: «الأعمش، عن أبي وائل قال: استعمل علي ابن عبّاس علي الحج، فخطب يومئذٍ خطبةً لو سمعها الترك والروم لأسلموا، ثمّ قرأ عليهم سورة النور فجعل يفسّرها» «1».

وروي ابن سعد عن عائشة: «إنّها نظرت إلي ابن عبّاس ومعه الخلق ليالي الحج، وهو يسئل عن المناسك. فقالت: هو أعلم من بقي بالمناسك» «2».

وقال ابن عبدالبر: «روينا أنّ عبداللَّه بن صفوان مرّ يوماً بدار عبداللَّه بن عبّاس بمكّة، فرأي فيها جماعة من طالبي الفقه … » «3».

واعترف ابن تيميّة بهذه الحقيقة … قال السيوطيّ: «قال ابن تيميّة: أعلم الناس بالتفسير أهل مكّة، لأنّهم أصحاب ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما، كمجاهد وعطاء بن أبي رباح وعكرمة مولي ابن عبّاس وسعيد بن جبير وطاووس، وغيرهم» «4».

وأمّا الشام، فقد انتشر العلم فيه عن أبي الدرداء، وهو تلميذ عبداللَّه بن مسعود، وابن مسعود من تلامذة الإمام، فانتهي إليه عليه السلام علم أهل الشام:

__________________________________________________

(1) تذكرة الحفّاظ 1/ 40- 41.

(2) الطبقات الكبري 2/ 282.

(3) الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3/ 937.

(4) الإتقان في علوم القرآن 2/ 536.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 17

روي الحافظ أبو العبّاس المحبّ الطبري: «عن أبي الزعراء عن عبداللَّه قال: علماء الأرض ثلاثة، عالم بالشام، وعالم بالحجاز، وعالم بالعراق. فأمّا عالم أهل الشام فهو أبوالدرداء، وأمّا عالم أهل الحجاز فهو عليّ بن أبي طالب، وأمّا

عالم أهل العراق فأخ لكم.

وعالم أهل الشام وعالم أهل العراق يحتاجان إلي عالم أهل الحجاز، وعالم أهل الحجاز لا يحتاج إليهما. أخرجه الحضرمي» «1».

وأمّا البصرة، فقد ورد إليها الإمام عليه السلام بنفسه، وتلك خطبه ومواعظه فيها مدوّنة في كتب التاريخ.

وأيضاً، فقد أخذ أهل البصرة وتفقّهوا علي ابن عبّاس حيث كان والياً علي البصرة من قبل الإمام، وهو من أشهر تلاميذه وملازميه بلا كلام، قال الحافظ ابن حجر:

«إنّ ابن عبّاس كان يغشي الناس في رمضان وهو أمير البصرة، فما ينقضي الشهر حتّي يفقّههم» «2».

وأمّا الكوفة، فقد تعلّم أهلها القرآن والسنّة منه عليه السلام مباشرة مدّة بقائه بها … ولو كانوا قد تعلّموا شيئاً من ذلك قبل وروده إليها، فمن عبداللَّه بن مسعود وعمّار بن ياسر، وهما من تلامذته عليه السلام.

وأمّا اليمن، فقد روي الكلّ أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم قد بعثه إلي اليمن قاضياً، والقضاء هو الفقه، فهو أفقه الامّة، لقوله صلّي اللَّه عليه وآله __________________________________________________

(1) الرياض النضرة في مناقب العشرة 3/ 199- 200.

(2) الإصابة في معرفة الصحابة 4/ 150.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 18

وسلّم- فيما رواه الفريقان- «أقضاكم علي» «1».

وهو الذي فقّه أهل اليمن وعلّمهم، وقد قال النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم حين بعثه إليهم: «اللّهمّ اهد قلبه وثبّت لسانه» «2».

فهذا بعث علي إلي اليمن، وهذا شأنه في العلم وموقعه من الفقه، فقد انتشر العلم في تلك البلاد بواسطته.

وأمّا معاذ بن جبل، فقد بعثه النبي إلي طائفةٍ من اليمن «ليجبره» بعد أنْ «أغلق ماله عن الدين … فباع النبي ماله كلّه في دينه، حتّي قام معاذ بغير شي ء» «3».

وأمّا شأن معاذ في العلم والفقه فلا يقاس بالإمام- كما لا يقاس

به غيره- بل في نفس خبر بعثه إلي اليمن ما يدلّ علي فسقه أو جهله بأدني الأحكام الشرعيّة «4».

وهكذا كان حال سائر أئمّة أهل البيت عليهم السلام، فقد كانوا الحافظين لحدود الشريعة المقدّسة من أن يتلاعب بها المبتدعون، بإدخال شي ء في الدين أو نقص شي ء منه، وللعقائد الثابتة من الشبهات، والامّة من __________________________________________________

(1) ورد بألفاظٍ مختلفة في: المستصفي في علم الاصول 1/ 70، تاريخ دمشق 51/ 300، حلية الأولياء 1/ 65، الطبقات الكبري 2/ 258 و 259، كشف الخفاء 1/ 162.

(2) سنن ابن ماجة 2/ 774 ح 2310، كتاب الأحكام، باب ذكر القضاء، سنن أبي داود 3/ 299- 300 ح 3582، سنن البيهقي 5/ 116 ح 8419، مسند عبد بن حميد: 61 ح 94، تاريخ بغداد 12/ 444 رقم 6916، الطبقات الكبري 2/ 257، دلائل النبوّة للبيهقي 5/ 397، نصب الراية 5/ 36 وغيرها.

(3) الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3/ 1404.

(4) الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3/ 1405.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 19

الضّلالات، وبواسطتهم انتشرت المعارف الإسلاميّة، ومنهم أخذ فقهاء المذاهب، وقد جاء ذلك كلّه بتراجمهم في كتب مخالفيهم أيضاً:

* فقد ذكروا بترجمة الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين: أنّه كان «أفضل هاشميّ في زمانه» «1» و «كان كثير الحديث» «2» وقد سمّاه رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم- فيما رواه الفريقان عن جابر بن عبداللَّه- «سيّد العابدين» «3»، وأنّه قد روي عنه الزهري في جماعةٍ من أكابر القوم «4».

والزهري هو الذي دوَّن السنّة لمّا أمر بذلك عمر بن عبدالعزيز، بعد قرنٍ من منع عمر بن الخطّاب كتابة الأحاديث النبويّة.

* وبترجمة الإمام محمّد بن علي الباقر: إنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم هو الذي

سمّاه بهذا اللّقب، في حديث جابر بن عبداللَّه الأنصاري الذي أشرنا إليه.

وروي ابن قتيبة: «إنّ هشاماً قال لزيد بن علي: ما فعل أخوك البقرة؟

فقال زيد: سمّاه رسول اللَّه باقر العلم وأنت تسمّيه بقر! فاختلفتما إذن» «5».

وقال الجوهري: «التبقّر: التوسّع في العلم … وكان يقال: محمّد بن علي ابن الحسين بن علي بن أبي طالب الباقر، لتبقّره في العلم» «6».

وقال الزبيدي صاحب تاج العروس: «وقد ورد في بعض الآثار عن جابر

__________________________________________________

(1) تهذيب التهذيب 7/ 304 وفي ط 268.

(2) تهذيب التهذيب 7/ 304 وفي ط 268.

(3) الصواعق المحرقة: 120، تذكرة الخواص: 337، مناقب آل أبي طالب 4/ 196، كشف الغمّة في معرفة الأئمّة 2/ 331.

(4) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب وغيره.

(5) عيون الأخبار 1/ 212.

(6) صحاح اللغة «ب. ق. ر».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 20

ابن عبداللَّه الأنصاري: إنّ النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال له: يوشك أن تبقي حتّي تلقي ولداً لي من الحسين يقال له محمّد، يبقر العلم بقراً، فإذا لقيته فاقرأه منّي السلام. خرّجه أئمّة النسب» «1».

روي عنه من الأئمّة: الزهري والأوزاعي والأعمش وأبوحنيفة وابن جريج «2».

* وبترجمة الإمام جعفر بن محمّد الصادق:

عن مالك بن أنس: «اختلفت إليه زماناً، فما كنت أراه إلّاعلي إحدي ثلاث خصالٍ: إمّا مصلٍّ وإمّا صائم وإمّا يقرأ القرآن. وما رأيته يحدّث إلّاعن طهارة» «3».

وعن أبي حنيفة: «ما رأيت أفقه من جعفر بن محمّد.

لمّا أقدمه المنصور بعث إليّ فقال: يا أبا حنيفة: إنّ الناس قد افتتنوا بجعفر بن محمّد، فهيّئ له من المسائل الشداد، فهيّأت له أربعين مسألة. ثمّ بعث إلي أبوجعفر- وهو بالحيرة- فأتيته فدخلت عليه، وجعفر بن محمّد جالس عن يمينه، فلمّا أبصرت به دخلتني من الهيبة

لجعفر بن محمّد الصادق ما لم يدخلني لأبي جعفر، فسلّمت عليه وأومأ إليّ، فجلست، ثمّ التفت إليه فقال:

يا أبا عبداللَّه، هذا أبو حنيفة.

قال جعفر: نعم. ثمّ أتبعها: قد أتانا. كأنّه كره ما يقول فيه قوم أنّه إذا

__________________________________________________

(1) تاج العروس في شرح القاموس «ب. ق. ر».

(2) تهذيب التهذيب 10/ 401 و 9/ 312، حلية الأولياء 3/ 188، تذكرة الحفّاظ 1/ 124.

(3) تهذيب التهذيب 2/ 89.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 21

رأي الرجل عرفه.

ثمّ التفت المنصور إليّ فقال: يا أبا حنيفة، ألق علي أبي عبداللَّه من مسائلك. فجعلت القي عليه فيجيبني فيقول:

أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا، فربّما تبعناهم وربّما خالفنا جميعاً.

حتّي أتيت علي الأربعين مسألة.

ثمّ قال أبو حنيفة: ألسنا روينا أنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس» «1».

فهذا كلام مالك وأبي حنيفة وهما من تلامذته، وقال الآلوسي في كلامٍ له:

«هذا أبو حنيفة يفتخر ويقول بأفصح لسان: لولا السّنتان لهلك النّعمان» «2».

وعن أبي حاتم الرازي: «لا يسئل عن مثله» «3».

وعن ابن حِبان: «كان من سادات أهل البيت فقهاً وعلماً وفضلًا» «4».

وقال النووي: «اتّفقوا علي إمامته وجلالته» «5».

وقال الشهرستاني: «قد أقام بالمدينة مدّةً يفيد الشيعة المنتمين إليه،

__________________________________________________

(1) جامع مسانيد أبي حنيفة 1/ 222، تذكرة الحفّاظ 1/ 157.

(2) مختصر التحفة الإثني عشريّة: 8.

(3) تهذيب التهذيب 2/ 89.

(4) تهذيب التهذيب 2/ 88.

(5) تهذيب الأسماء واللغات 1/ 155.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 22

ويفيض علي الموالين أسرار العلوم، ثمّ دخل العراق وأقام بها مدّةً» «1».

وقال اليافعي: «له كلام نفيس في علوم التوحيد وغيرها، قد ألّف تلميذه جابر بن حيّان الصّوفي كتاباً يشتمل علي ألف ورقة، يتضمّن رسائله وهي خمسمائة رسالة» «2».

وقال ابن حجر: «ونقل الناس عنه من

العلوم ما سارت به الركبان وانتشر صيته في البلدان. وروي عنه الأئمّة الأكابر، كيحيي بن سعيد وابن جريج ومالك والسفيانين وأبي حنيفة وشعبة وأيوب السختياني» «3».

* وبترجمة الإمام موسي بن جعفر الكاظم: إنّه كان يدعي «العبد الصالح» من عبادته واجتهاده «4».

وإنّه «إمام من أئمّة المسلمين» «5».

وقال الذهبي: «موسي الكاظم … الإمام القدوة … ذكره أبو حاتم فقال: ثقة صدوق، إمام من أئمّة المسلمين …

له مشهد عظيم مشهور ببغداد، دفن معه فيه حفيده الجواد، ولولده عليّ ابن موسي مشهد عظيم بطوس» «6».

__________________________________________________

(1) الملل والنحل 1/ 147.

(2) مرآة الجنان 1/ 304.

(3) الصواعق المحرقة: 111.

(4) تهذيب التهذيب 10/ 302، تاريخ بغداد 13/ 27، تهذيب الكمال 29/ 44، صفوة الصفوة 2/ 124.

(5) تهذيب الأسماء 1/ 302.

(6) سير أعلام النبلاء 6/ 270.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 23

وقال ابن حجر: «هو وارث أبيه علماً ومعرفةً وكمالًا وفضلًا، سمّي الكاظم لكثرة تجاوزه وحلمه، وكان معروفاً عند أهل العراق بباب قضاء الحوائج عند اللَّه، وكان أعبد أهل زمانه وأعلمهم وأسخاهم» «1».

* وبترجمة الإمام عليّ بن موسي الرضا: أنّه كان يفتي بمسجد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم وهو ابن نيّف وعشرين سنة «2».

وقال الذهبي: «علي بن موسي الرضا، أحد الأعلام. هو الإمام أبوالحسن … كان سيّد بني هاشم في زمانه وأجلّهم وأنبلهم، وكان المأمون يعظّمه ويخضع له ويتغالي فيه، حتّي أنّه جعله وليَّ عهده من بعده وكتب بذلك إلي الآفاق» «3».

وذكر أبوالفرج ابن الجوزي وغيره في خبر جعل المأمون الإمام وليّ العهد:

«وذلك أنّه نظر في بني العبّاس وبني عليّ، فلم يجد أحداً أفضل ولا أورع ولا أعلم منه، وأنّه سمّاه الرضي من آل محمّد، وأمر بالبيعة له» «4».

روي عنه من

الأئمّة: أحمد بن حنبل «5».

وأخرج عنه: الترمذي وأبو داود وابن ماجة.

وروي الحافظ ابن حجر عن الحاكم أبي عبداللَّه قوله: «سمعت أبابكر محمّد بن المؤمّل بن الحسن بن عيسي يقول: خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر ابن خزيمة وعديله أبي علي الثقفي مع جماعةٍ من مشايخنا- وهم إذ

__________________________________________________

(1) الصواعق المحرقة: 112.

(2) تهذيب التهذيب 7/ 338، المنتظم 10/ 120، تذكرة الخواص: 351.

(3) تاريخ الإسلام، حوادث 201- 210 ص: 269.

(4) المنتظم في تاريخ الامم 10/ 93، وفيات الأعيان 2/ 432 وغيرهما.

(5) سير أعلام النبلاء 9/ 387.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 24

ذاك متوافرون- إلي زيارة قبر عليّ بن موسي الرضا بطوس، فرأيت من تعظيمه- يعني ابن خزيمة- لتلك البقعة وتواضعه لها وتضرّعه عندها ما تحيّرنا» «1».

وجاء في غير واحدٍ من الكتب: إنّه لمّا دخل الإمام عليه السلام نيسابور راكباً، خرج إليه علماء البلد وبأيديهم المحابر والدّوي، وتعلَّقوا بلجام دابّته وحلّفوه أن يحدّثهم بحديثٍ عن آبائه فقال: حدّثني أبي موسي الكاظم عن أبيه … عليّ بن أبي طالب قال: حدّثني حبيبي وقرّة عيني رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم قال: حدّثني جبريل قال: سمعت ربّ العزّة يقول: لا إله إلّااللَّه حصني، فمن قالها دخل حصني وأمن من عذابي.

وفي روايةٍ: إنّه روي عن آبائه عن أميرالمؤمنين عليه السلام قال: سألت رسول اللَّه: ما الإيمان؟ قال: معرفة بالقلب وإقرار باللّسان وعمل بالأركان.

وعن أحمد بن حنبل: إن قرأت هذا الإسناد علي مجنونٍ برئ من جنونه.

هذا، وكان علي رأس العلماء الذين طلبوا من الإمام أن يحدّثهم:

أبوزرعة الرازي، ومحمّد بن أسلم الطوسي، وياسين بن النضر، وأحمد ابن حرب، ويحيي بن يحيي …

وقد عدّ أهل المحابر والدّوي الذين كانوا يكتبون، فأنافوا علي عشرين

ألفاً «2».

* فهؤلاء- وسائر الأئمّة الإثني عشر- هم المؤسّسون لمذهب الإماميّة،

__________________________________________________

(1) تهذيب التهذيب 7/ 339.

(2) أخبار اصبهان 1/ 138، المنتظم 10/ 120 وغيرهما.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 25

والمشيّدون لأركان العلوم الإسلاميّة.

وقد علم ممّا تقدّم:

1- إنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام كان كلّ واحدٍ منهم أعلم الناس في زمانه وأفضلهم، وقد شهد بذلك المخالف كالمؤالف.

2- إنّ العلوم الإسلاميّة إنّما انتشرت في البلاد بواسطة الأئمّة عليهم السلام في كلّ عصر، فالصّحابة العلماء كابن عبّاس وابن مسعود وابيّ بن كعب وأبي ذر الغفاري وأمثالهم، تعلّموا من أميرالمؤمنين، وكذلك التابعون قد أخذوا عنه وعن الأئمّة من بعده والصحابة من تلامذته.

3- إنّ علماء المذاهب الاخري قد حضروا عند الأئمّة، ومنهم أخذوا وعنهم رووا، وعلي رأسهم: مالك بن أنس وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل …

نشر العلم والمعرفة بشتّي الطرق … ص: 25

ثمّ إنّ نشر الأئمّة عليهم السلام للعلوم وتعليمهم الامّة معارف الدين، لم يقتصر علي طريقٍ من الطرق أو اسلوب من الأساليب … بل لقد استفادوا لذلك من كافّة الوسائل وشتّي الطّرق، كالكتابة، والخطابة، والدعاء، والإملاء، والتدريس:

ففي الوقت الذي منعت الحكومة- ولأغراضٍ عديدة- من تدوين السنّة النبويّة الشريفة، لم يقنع أميرالمؤمنين عليه السلام بأجوبة الإستفتاءات وحلّ المشكلات وتعليم العلوم، بل عمد إلي الكتابة أيضاً وحثَّ عليها … يقول الحافظ السيوطي:

«كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كثير في كتابة العلم،

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 26

فكرهها كثير منهم، وأباحتها طائفة وفعلوها، منهم: علي وابنه الحسن» «1».

وما كتبه عليه السلام كان موجوداً لدي أبنائه، ينظرون فيه وينقلون عنه، كما لا يخفي علي من راجع أحاديثهم … «2»

وكتب أيضاً كاتبه الجليل علي بن أبي رافع: «وهو تابعي، من خيار الشيعة، كانت له صحبة مع أميرالمؤمنين، وكان

كاتباً له، وحفظ كثيراً، وجمع كتاباً في فنون الفقه، كالوضوء والصلاة وسائر الأبواب، وكانوا يعظّمون هذا الكتاب» «3».

وعن الإمام الصّادق عليه السلام مخاطباً أصحابه:

«أُكتبوا، فإنّكم لا تحفظون حتّي تكتبوا» «4».

«أُكتبوا، فإنّكم لا تحفظون إلّابالكتاب» «5».

«ما يمنعكم من الكتاب؟ إنّكم لن تحفظوا حتّي تكتبوا، إنّه خرج من عندي رهط من أهل البصرة يسألون عن أشياء فكتبوها» «6».

وورد الحثّ علي الإحتفاظ بالكتب:

«إحتفظوا بكتبكم فإنّكم سوف تحتاجون إليها» «7».

وأمّا خطب الأمير عليه السلام من علي منبر الكوفة، فما زالت محطّ

__________________________________________________

(1) تدريب الراوي 2: 65.

(2) انظر كتاب: وسائل الشيعة، في مختلف الأبواب منه.

(3) رجال النجاشي: 6/ 2.

(4) وسائل الشيعة 27: 323/ 33844.

(5) مستدرك الوسائل 17: 285/ 21359.

(6) مستدرك الوسائل: 17: 292- 293/ 21383.

(7) وسائل الشيعة 28: 323/ 33845.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 27

أنظار أهل العلم ومحور أفكار أهل الفهم … فقد زخرت بأسرار الحكمة الإلهيّة، وكشفت عن أستار كثير من المعارف الدينيّة، واشتملت علي امّهات الحقائق المعنويّة … فيها براهين إثبات المبدء والمعاد، ومباحث صفات الباري وآيات عظمته وحكمته …

ثمّ جاءت هذه المعاني في قالب الأدعية، علي لسان حفيده الإمام السجّاد عليه السلام … وعرف بالصحيفة السجّاديّة.

وجاءت علي شكل الإملاء عن الإمام الصادق عليه السلام فيما نقله المفضَّل بن عمر، وعرف بكتاب: توحيد المفضّل.

وأمّا جلسات الدّرس والسؤال والجواب، فعن الحافظ أبي العبّاس ابن عقدة الكوفيّ المتوفي سنة 333 أنّه وضع كتاباً في أسماء تلامذة الإمام الصادق عليه السلام، فذكر ترجمة 4000 رجل منهم «1».

وعن الحسن الوشاء: «إنّي أدركت في هذا المسجد- يعني مسجد الكوفة- 900 شيخٍ كلٌّ يقول: حدّثني جعفر بن محمّد» «2».

ومن هنا، انتشر التشيّع وأحاديث أهل البيت عليهم السلام بين أهل الكوفة، وأصبحت الكوفة مركزاً

من مراكز الإشعاع الفكريّ لمذهب العترة الطاهرة، ومعقلًا من معاقل أتباعهم الأخيار، ودخلت رواياتهم في كتب أهل السنّة وخاصّةً صحاحهم المعروفة، فإنّهم- وإنْ نبزوهم بالرفض للمتقدّمين علي علي عليه السلام- لم يتمكّنوا من رفض رواياتهم، لاتّصافهم بأسمي صفات الوثاقة وأتمّ شروط الإعتبار والإعتماد، حتّي قال الذهبي:

__________________________________________________

(1) تاريخ الكوفة: 408.

(2) رجال النجاشي: 39- 40/ 80.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 28

«أبان بن تغلب [م، عو] الكوفي، شيعي جلد، لكنّه صدوق، فلنا صدقه وعليه بدعته.

وقد وثّقه أحمد بن حنبل وابن معين وأبو حاتم. وأورده ابن عدي وقال: كان غالياً في التشيّع. وقال السعدي: زائغ مجاهر.

فلقائل أن يقول: كيف ساغ توثيق مبتدع وحدّ الثقة العدالة والإتقان، فكيف يكون عدلًا من هو صاحب بدعة؟

وجوابه: إنّ البدعة علي ضربين: فبدعة صغري، كغلوّ التشيّع أو كالتشيّع بلا غلو ولا تحرّف، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق، فلو رُدّ حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبويّة، وهذه مفسدة بيّنة» «1».

ولذا قال السيّد شرف الدين العاملي رحمه اللَّه:

«وتلك صحاحهم الستّة وغيرها تحتجُّ برجالٍ من الشيعة، وصمهم الواصمون بالتشيّع والإنحراف، ونبزوهم بالرفض والخلاف، ونسبوا إليهم الغلوّ والإفراط والتنكّب عن الصراط، وفي شيوخ البخاري رجال من الشيعة نبزوا بالرفض ووصموا بالبغض، فلم يقدح ذلك في عدالتهم عند البخاري وغيره، حتّي احتجّوا بهم في الصّحاح بكلّ ارتياح.

إنّ الشيعة إنّما جروا علي منهاج العترة الطاهرة واتّسموا بسماتها، وإنّهم لايطبعون إلّاعلي غرارها ولا يضربون إلّاعلي قالبها، فلا نظير لمن اعتمدوا عليه من رجالهم في الصّدق والأمانة، ولا قرين لمن احتجّوا به من أبطالهم في الورع والإحتياط، ولا شبيه لمن ركنوا إليه من أبدالهم في الزهد والعبادة وكرم __________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1/ 5.

استخراج المرام من استقصاء

الافحام، ج 1، ص: 29

الأخلاق وتهذيب النفس ومجاهدتها ومحاسبتها بكلّ دقة، آناء اللّيل وأطراف النهار، لايبارون في الحفظ والضبط والإتقان، ولا يجارون في تمحيص الحقائق والبحث عنها بكلّ دقّة واعتدال.

وقد علم البرّ والفاجر حكم الكذب عند هؤلاء الأبرار، والالوف من مؤلَّفاتهم المنتشرة تلعن الكاذبين، وتعلن أنّ الكذب في الحديث من الموبقات الموجبة لدخول النار، ولهم في تعمّد الكذب في الحديث حكم قد امتازوا به، حيث جعلوه من مفطّرات الصائم، وأوجبوا القضاء والكفّارة علي مرتكبه في شهر رمضان، كما أوجبوهما بتعمّد سائر المفطّرات، وفقههم وحديثهم صريحان بذلك، فكيف يتّهمون- بعد هذا- في حديثهم وهم الأبرار الأخيار قوّامون اللّيل صوّامون النهار؟ وبماذا كان الأبرار من شيعة آل محمّد وأولياؤهم متّهمين، ودعاة الخوارج والمرجئة والقدريّة غير متّهمين، لولا التحامل الصريح أو الجهل القبيح؟ نعوذ باللَّه من الخذلان، وبه نستجير من سوء عواقب الظلم والعدوان».

ثمّ ذكر السيّد أسماء مائةٍ من رجال الشيعة الواردين في أسناد الصّحاح الستّة … «1»

أقول:

إنّ من النقاط الجديرة بالذكر في تراجم العلماء الشيعة والسنّة في كتب التاريخ والرجال لأهل السنّة:

أوّلًا: إنّهم يترجمون للرجل من أهل السنّة وإن كان خاملًا، وأمّا إن كان من علماء الشيعة فيحاولون التناسي عنه وإنْ كان كبيراً فيهم، ولذا تري تراجم __________________________________________________

(1) المراجعات: 102- 103 بتلخيص.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 30

علماء الإماميّة في كتب القوم الرجاليّة والتاريخيّة قليلة جدّاً.

وثانياً: إنّه إن كان من أهل السنّة يتعرّضون لجميع جوانب حياته، فيذكرون مشايخه وتلامذته ومؤلّفاته ومناقبه وما قيل فيه وحتّي أسفاره … أمّا العالم الإمامي فيختصرون الكلام بترجمته جدّاً، وربّما لا يترجمون لشخصيّة من أكابرهم المشهورين إلّابأسطرٍ أو سطرين!

وثالثاً: - وهي المهمّة هنا- أنّك تري بتراجم علمائهم إرتكاب الكبائر والموبقات الموجبة لدخول

النار، ولا تجد شيئاً من ذلك بتراجم علماء الإماميّة، ولو كان أحدهم متّهماً- ولو من قِبَل الخصوم- بموبقةٍ، لذكروا بل وهرّجوا … !

وسنورد نماذج من تراجم علماء الإماميّة، ونماذج من الموبقات المذكورة بتراجم علماء السنّة.

أهمُّ العلوم في المدرسة الشيعيّة … ص: 30

وكان أكثر الإهتمام والإشتغال- في مدرسة أهل البيت عليهم السلام- بمسائل العقائد وعلوم القرآن الكريم والأحكام الفقهيّة، وعلي هذه الامور كانت تدور بحوثهم وحلقات دروسهم، وفيها ألّفوا الكتب ووضعوا الرسائل التي لا تحصي، ونبغ فيها العلماء الفطاحل الأعلام في مختلف القرون:

علم الكلام … ص: 30

ففي علم الكلام، قال الشيخ الحرّ العاملي- وعنه السيّد حسن الصّدر- ما ملخّصه:

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 31

إنّه لمّا توفّي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم لم يكن من شيعة علي عليه السلام إلّاأربعة مخلصون: سلمان والمقداد وأبوذر وعمّار، ثمّ تبعهم جماعة، وكانوا يكثرون بالتدريج، فلمّا أخرج عثمان أباذر إلي الشام تشيّع علي يده جماعة كثيرون، ثمّ أخرجه معاوية إلي القري، فوقع في جبل عامل فتشيّعوا من ذلك اليوم «1».

وفي الصحابة أيضاً: ابن عبّاس وقيس بن سعد بن عبادة وصعصعة بن صوحان وأبوالطفيل … في جماعة آخرين «2».

أمّا في أصحاب الأئمّة وتلامذتهم، فالمشهورون منهم في علم الكلام:

سليم بن قيس الهلالي والأصبغ بن نباتة

وكميل بن زياد النخعي والحارث الهمداني وهشام بن الحكم وهشام بن سالم الجواليقي وحمران بن أعين وأبو جعفر محمّد بن علي بن النعمان الأحول، الملقّب بمؤمن الطاق وقيس الماصر

وعلي بن إسماعيل بن ميثم التمّار

والفضل بن شاذان النيسابوري __________________________________________________

(1) تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام: 351.

(2) أعيان الشيعة 1: 133.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 32

وقد اشتهر من أعلام الإماميّة في علم الكلام:

أبو جعفر ابن قبة الرازي والحسن بن الحسين النوبختي والشيخ المفيد البغدادي والسيّد المرتضي الموسوي والشيخ أبوالفتح الكراجكي والشيخ أبو جعفر الطوسي والشيخ نصيرالدين الطوسي والعلّامة الحلّي

علوم القرآن … ص: 32

واشتهر في علوم القرآن من الإماميّة بعد طبقة الصحابة:

ميثم بن يحيي التمّار

وسعيد بن جبير

وإسماعيل بن عبدالرحمن السدّي، وهو المعروف بالسدّي الكبير

ومحمّد بن السائب الكلبي وأبو حمزة الثمالي وهشام بن محمّد الكلبي وأبان بن تغلب ويونس بن عبدالرحمن والحسن بن محبوب السرّاد

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 33

ومحمّد بن مسعود العياشي وفرات بن إبراهيم الكوفي وعلي بن إبراهيم القمّي وأبو جعفر الطوسي وابن

شهرآشوب السروي وأبو علي الطبرسي والعلّامة الحلّي

علم الفقه والحديث … ص: 33

وأمّا الفقهاء والمحدّثون الكبار من أصحاب الأئمّة عليهم السلام ومن بعدهم، فنذكر منهم جماعةً:

علي بن أبي رافع وأبو حمزة الثمالي وجابر بن يزيد الجعفي وزيد بن علي بن الحسين وأبان بن تغلب ومحمّد بن مسلم الطائفي وأبو بصير يحيي بن القاسم وزرارة بن أعين ومعاوية بن عمّار الدّهني ومعروف بن خرّبوذ المكّي استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 34

وجميل بن درّاج وصفوان بن يحيي وعبيداللَّه بن موسي العبسي وأحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي وأحمد بن محمّد بن خالد البرقي ومحمّد بن يعقوب الكليني وابن الجنيد الإسكافي وابن أبي عقيل العماني وابن بابويه الصدوق القمي والمفيد البغدادي والسيّد المرتضي الموسوي وأبو جعفر الطوسي وأبوالفتح الكراجكي وابن إدريس الحلّي وأبوالقاسم جعفر بن الحسن الحلّي والعلّامة الحلّي

وهنا فوائد: … ص: 34

الفائدة الاولي قد ظهر ممّا تقدّم أنّ الأصل في العلوم الإسلاميّة- الموجودة بأيدي المسلمين، والتي نبغ فيها العلماء الأعلام في مختلف القرون- هم أئمّة أهل استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 35

البيت وعلي رأسهم أميرالمؤمنين وباب مدينة العلم عليّ بن أبي طالب عليهم السلام.

الفائدة الثانية

إنّ من أعلام الإماميّة من تضلّع وتبحّر في عدّةٍ من العلوم الإسلاميّة، فالشيخ أبو جعفر الطوسي- مثلًا- فقيه، مفسّر، متكلّم، محدّث، وهذا في علماء هذه الطائفة كثير، وبين علماء سائر الفرق قليل.

الفائدة الثالثة

إنّ الجوامع الحديثيّة المعروفة عند الإماميّة، والتي عليها المدار في الفقه والحديث، هي الكتب الأربعة:

1- الكافي للشيخ أبي جعفر الكليني 2- من لا يحضره الفقيه، للشيخ ابن بابويه الصّدوق القمي 3- تهذيب الأحكام 4- الإستبصار فيما اختلف من الأخبار

وكلاهما للشيخ أبي جعفر الطوسي.

ثمّ الكتب الأربعة الثانية:

1- بحار الأنوار، للشيخ محمّد باقر المجلسي 2- الوافي، للشيخ الفيض الكاشاني 3- وسائل الشيعة، للشيخ

الحرّ العاملي 4- مستدرك وسائل الشيعة، للشيخ النوري الطبرسي.

الفائدة الرابعة

إنّ الكتب الفقهيّة التي ألّفها أصحاب الأئمّة عليهم السلام كانت تحتوي استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 36

امّهات المسائل في كثير من الأبواب، ثمّ الّفت الكتب الكبار شيئاً فشيئاً، حتّي توسّع الفقه الشيعي، وصُنّف فيه الموسوعات الضخمة مثل (الحدائق الناضرة) للشيخ يوسف البحراني، و (جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام) للشيخ محمّدحسن النجفي المعروف بصاحب الجواهر.

تنبيه قد اكتفينا في طبقات العلماء في مختلف العلوم بذكر أسماء جماعةٍ من أشهرهم في كلّ علم، ابتداءً بالأصحاب وانتهاءً بالعلّامة الحلّي رحمه اللَّه.

وأمّا من جاء بعد العلّامة- وإلي يومنا هذا- من أكابر العلماء فلا يعدّون كثرةً.

***

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 37

تراجم أعلام الشيعة في كتب السنّة … ص: 37

ولأجل أنْ نعرّف بطائفةٍ من أعلام الإماميّة في الكلام والفقه والحديث وعلوم القرآن، ونشيد بدورهم في حفظ هذه العلوم ونشرها بين الامّة في مختلف الأدوار والأعصار، وخاصّةً علي لسان المخالفين، فإنّا نورد هنا طرفاً من تراجم علماء الشيعة في كتب أهل السنّة، مع الإلتفات إلي النقاط التي ذكرناها سابقاً:

الأصبغ بن نباته وهو من رجال ابن ماجة، وثّقه جماعة، وتكلّم فيه آخرون لتشيّعه، حتّي قال ابن حبّان: «فتن بحبّ عليّ فأتي بالطامّات فاستحقّ الترك». وقال ابن عدي: «عامّة ما يرويه عن علي لا يتابعه أحد عليه … وإذا حدّث عنه ثقة فهو عندي لا بأس بروايته، وإنّما أتي الإنكار من جهة من روي عنه». وذكر العقيلي: «كان يقول بالرّجعة»، وقال ابن سعد: «كان علي شرطة علي» «1».

الحارث الهمداني قال الذهبي: «حديث الحارث في السنن الأربعة، والنسائي مع تعنّته في الرجال فقد احتجّ به وقوّي أمره، والجمهور علي توهين أمره مع روايتهم __________________________________________________

(1) تهذيب التهذيب 1/ 316- 317.

استخراج

المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 38

لحديثه في الأبواب، فهذا الشعبي يكذّبه ثمّ يروي عنه، والظاهر أنّه كان يكذّب في لهجته وحكاياته، وأمّا في الحديث النبوي فلا، وكان من أوعية العلم».

وروي عن ابن أبي داود: كان الحارث الأعور أفقه الناس وأفرض الناس وأحسب الناس، تعلّم الفرائض عن علي.

وأورد الذهبي تكلّم بعضهم فيه، وكلماتهم كلّها ترجع إلي تشيّعه «1».

ونحن تكفينا رواية النسائي وسائر أصحاب السنن عنه.

كميل بن زياد

من رجال النسائي، ووثّقه ابن سعد وابن معين والعجلي وابن حبان وابن حجر العسقلاني وغيرهم «2».

سعيد بن جبير

روي الكشي بإسناده عن أبي عبداللَّه الصادق قال: «إنّ سعيد بن جبير كان يأتمّ بعلي بن الحسين عليه السلام، وكان علي بن الحسين يثني عليه، وما كان سبب قتل الحجّاج له إلّاعلي هذا الأمر، وكان مستقيماً … » «3».

وروي البلاذري بإسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال: «يوم الخميس وما يوم الخميس، اشتدّ فيه وجع النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم فقال:

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1/ 435.

(2) تهذيب التهذيب 8/ 402، تقريب التهذيب 6/ 136.

(3) رجال الكشي: 119/ 190.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 39

ايتوني بالدواة والكتف أكتب لكم كتاباً لا تضلّون معه بعدي أبداً، فقالوا: أتراه يهجر! وتكلّموا ولغطوا، فغمّ ذلك رسول اللَّه وأضجره وقال: إليكم عنّي، ولم يكتب شيئاً» «1».

وقال ابن حجر العسقلاني: «ع- سعيد بن جبير الأسدي، مولاهم، الكوفي، ثقة ثبت فقيه … قتل بين يدي الحجّاج سنة 95» «2».

وقال ابن الجزري: «التابعي الجليل والإمام الكبير، عرض علي عبداللَّه ابن عبّاس، وعرض عليه أبو عمرو بن العلاء والمنهال بن عمرو. قال إسماعيل بن عبدالملك: كان سعيد بن جبير يؤمّنا في شهر رمضان، فيقرأ ليلة بقراءة عبداللَّه- يعني ابن

مسعود- وليلة بقراءة زيد بن ثابت، قتله الحجّاج بواسط شهيداً في سنة 95 وقيل سنة 94» «3».

أبو حمزة الثمالي ذكر النديم في كتب التفسير: كتاب تفسير أبي حمزة قال: «واسمه ثابت ابن دينار، من أصحاب علي- يعني الإمام زين العابدين- من النجباء الثقات، وصحب أبا جعفر، يعني الإمام الباقر» «4».

وترجم له علماؤنا ووثّقوه، ورووا عن الإمام أبي عبداللَّه عليه السلام قوله: «أبو حمزة في زمانه مثل سلمان في زمانه» «5».

__________________________________________________

(1) أنساب الأشراف 1/ 562.

(2) تقريب التهذيب 1/ 292.

(3) غاية النهاية 1/ 305.

(4) الفهرست: 36.

(5) رجال النجاشي: 115.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 40

وقد روي عنه من أصحاب الصّحاح الستّة: النسائي في مسند علي، وأبو داود وابن ماجة «1» والترمذي «2».

لكنْ تكلّم فيه جماعة من أجل التشيّع، فقد عدّه السليماني في قومٍ من الرافضة «3» وفي التقريب: رافضي «4».

وروي الذهبي: إنّه ذكر حديثاً في ذكر عثمان بن عفّان فنال منه، فقام ابن المبارك وفرّق ما كتب عنه «5».

جابر بن يزيد الجعفي قال الذهبي: «جابر بن يزيد [د، ت، ق بن الحارث الجعفي، الكوفي، أحد علماء الشيعة، له عن أبي الطفيل والشعبي وخلق، وعنه: شعبة وأبو عوانة وعدّة.

قال ابن مهدي عن سفيان: كان جابر الجعفي ورعاً في الحديث، ما رأيت أورع منه في الحديث.

وقال شعبة: صدوق. وقال يحيي بن أبي بكر عن شعبة: كان جابر إذا قال أخبرنا، وحدّثنا، وسمعت، فهو من أوثق الناس.

وقال وكيع: ما شككتم في شي ء فلا تشكّوا أنّ جابراً الجعفي ثقة.

وقال ابن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: قال سفيان الثوري لشعبة:

__________________________________________________

(1) تقريب التهذيب 1/ 116.

(2) ميزان الاعتدال 1/ 363.

(3) ميزان الاعتدال 1/ 363.

(4) تقريب التهذيب 1/ 166.

(5) ميزان الاعتدال 1/ 363.

استخراج

المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 41

لئن تكلَّمت في جابر الجعفي لأتكلّمنّ فيك … ».

ثمّ نقل عن جرير بن عبدالحميد أنّه تكلّم فيه لأنّه «كان يؤمن بالرجعة».

وعن سفيان بن عيينة أنّه تركه لمّا سمعه قال: دعا رسول اللَّه عليّاً فعلّمه ممّا تعلّم، ثمّ دعا علي الحسن فعلّمه ممّا تعلّم، ثمّ دعا الحسن الحسين فعلّمه ممّا تعلّم، ثمّ دعا ولده … حتّي بلغ جعفر بن محمّد.

وعن زائدة: جابر الجعفي رافضي يشتم أصحاب النبي.

وعن الحميدي: سمعت رجلًا يسأل سفيان: أرأيت- يا أبا محمّد- الذين عابوا علي جابر الجعفي قوله: حدّثني وصيّ الأوصياء؟ فقال سفيان:

هذا أهونه «1».

فكان تشيّعه والعقائد الشيعيّة عنده هي السبب لتكلّم من تكلّم فيه …

هشام بن الحكم قال النديم: «من متكلّمي الشيعة، ممّن فتق الكلام في الإمامة وهذّب المذهب والنظر، وكان حاذقاً بصناعة الكلام، حاضر الجواب» «2».

محمّد بن مسلم من أصحاب الإمام أبي جعفر الباقر والإمام أبي عبداللَّه الصادق عليهما السلام، وقد روي أصحابنا عن الصادق عليه السلام. أنّه قال: أوتاد الأرض وأعلام الدين أربعة: محمّد بن مسلم وبريد بن معاوية وليث بن البختري __________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1/ 379.

(2) الفهرست: 223.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 42

المرادي وزرارة بن أعين «1».

وإنّه قال فيهم: أربعة نجباء امناء اللَّه علي حلاله وحرامه، لولا هؤلاء انقطعت آثار النبوّة واندرست «2».

وأنّه: هؤلاء حفّاظ الدين وامناء أبي علي حلاله وحرامه، وهم السابقون إلينا في الدنيا والسّابقون إلينا في الآخرة «3».

وقال العلماء في حقّه: فقيه ورع، وجه أصحابنا بالكوفة، من أوثق الناس.

وذكروا أنّه توفّي سنة 150 «4».

وترجم له علماء الجمهور في أغلب كتبهم، ولم يتكلّم فيه أحد منهم بشي ء.

وقد أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، واستشهد به

البخاري، وروي له في كتاب الأدب المفرد «5».

معاوية بن عمّار

من أصحاب الإمام محمّد الباقر وجعفر الصادق عليهما السلام، وله كتب في المسائل الفقهيّة مثل: كتاب الصلاة وكتاب الحج وكتاب الزكاة وكتاب __________________________________________________

(1) رجال الكشي: 238/ 432.

(2) رجال الكشي: 170/ 286.

(3) رجال الكشي: 136- 137/ 219.

(4) رجال الكشي: 161- 169، رجال النجاشي: 323/ 882، رجال الشيخ: 294/ 4293، خلاصة الأقوال: 251/ 858.

(5) تهذيب الكمال 26/ 416.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 43

الطلاق …

قال النجاشي: كان وجهاً من أصحابنا ومقدّماً، كبير الشأن، عظيم المحل، ثقة، وكان أبوه عمّار ثقة في العامّة وجهاً … ومات معاوية سنة 175 «1».

وأخرج عنه مسلم والنسائي والترمذي والبخاري في أفعال العباد «2».

قال الذهبي وابن حجر: صدوق «3».

حمران بن أعين من رجال ابن ماجة، روي عن أبي الطفيل وغيره.

كان يتقن القرآن وقرأ عليه حمزة الزيّات، وروي عنه جماعة من الأكابر، منهم سفيان الثوري.

ترجم له البخاري في تاريخه فلم يذكر له جرحاً.

وقال ابن عدي- بعد أن ذكر له بعض الأخبار-: «وحمران- هذا- له غير ما ذكرنا من الحديث وليس بالكثير، ولم أر له حديثاً منكراً جدّاً فيسقط من أجله، وهو غريب الحديث، ممّن يكتب حديثه».

وذكره ابن حبّان في الثقات.

وقد تكلّم فيه جماعة من أجل التشيّع، ورماه بعضهم بالغلوّ في التشيّع وآخرون بالرفض.

وقال ابن الجزري: «حمران بن أعين، أبو حمزة، الكوفي، مقرئ كبير،

__________________________________________________

(1) رجال النجاشي: 411/ 1096 وانظر: خلاصة الأقوال: 273/ 995.

(2) تقريب التهذيب 2/ 260.

(3) ميزان الاعتدال 4/ 137، تقريب التهذيب 2/ 260.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 44

أخذ القراءة عرضاً عن عبيد بن نضلة وأبي حرب بن أبي الأسود وأبيه أبي الأسود ويحيي بن وئاب ومحمّد بن علي الباقر، روي القراءة

عنه عرضاً حمزة الزيّات.

وكان ثبتاً في القراءة، يرمي بالرفض.

قال الذهبي: توفّي في حدود الثلاثين والمائة أو قبلها» «1».

معروف بن خرّبوذ

من أصحاب الإمام زين العابدين، والإمام الباقر، والإمام الصادق، عليهم السلام.

قال الكشي: أجمعت العصابة علي تصديق هؤلاء الأوّلين من أصحاب أبي جعفر وأبي عبداللَّه عليهما السلام، وانقادوا لهم بالفقه، فقالوا: أفقه الأوّلين:

زرارة ومعروف بن خربوذ … «2».

وقد أخرج عنه: البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجة.

قال الذهبي: صدوق شيعي «3».

وقال ابن حجر: صدوق ربّما وهم، وكان أخباريّاً علّامةً «4».

__________________________________________________

(1) التاريخ الكبير 3/ 80، الكامل في الضعفاء 3/ 366، ميزان الاعتدال 1/ 604، كتاب الثقات 4/ 179، غاية النهاية في طبقات القرّاء 1/ 261.

(2) رجال الكشي: 238/ 431.

(3) ميزان الاعتدال 4/ 144.

(4) تقريب التهذيب 2/ 264.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 45

الحسن بن محبوب السرّاد

روي عن الإمام موسي بن جعفر، والإمام علي بن موسي الرضا، عليهما السلام، وثّقه أصحابنا وقالوا: كان جليل القدر، يعدّ في الأركان الأربعة في عصره «1».

ولم أجد له ترجمةً في كتب القوم، إلّاعند ابن حجر، نقلًا عن شيخ الطائفة، ولم يذكر سوي أسماء مشايخه والرواة عنه «2».

السدّي الكبير

ذكره شيخ الطائفة في أصحاب الإمام زين العابدين والإمام الباقر عليهما السلام «3».

وأخرج عنه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة «4».

ووثّقه: أحمد والعجلي وابن حبّان، وقال النسائي: صالح، وقال ابن عدي: مستقيم الحديث، صدوق «5».

وقال ابن حجر: صدوق يهم، رمي بالتشيّع «6».

__________________________________________________

(1) رجال الشيخ الطوسي: 334، خلاصة الأقوال: 97/ 222، قاموس الرجال 3/ 347. الفهرست للشيخ الطوسي: 96/ 162.

(2) لسان الميزان 2/ 288 الطبعة الحديثة.

(3) رجال الشيخ: 109/ 1062.

(4) تقريب التهذيب 1/ 73.

(5) تهذيب التهذيب 1/ 274.

(6) تقريب التهذيب 1/ 73.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1،

ص: 46

بل قال الذهبي: «قال حسين بن واقد المروزي: سمعت من السدّي، فما قمت حتّي سمعته يشتم أبابكر وعمر، فلم أعد إليه» «1».

الحسن بن الحسين النوبختي أبو محمّد الحسن بن الحسين بن علي بن العبّاس بن إسماعيل بن أبي سهل ابن نوبخت، النوبختي، البغدادي الكاتب، المتوفّي سنة 402.

هو من كبار علمائنا من آل نوبخت، وقد ترجم له الخطيب البغدادي فقال: «كان سماعه صحيحاً، وقال الأزهري: كان النوبختي رافضيّاً ردي ء المذهب، سألت البرقاني عن النوبختي فقال: كان معتزليّاً وكان يتشيّع إلّاأنّه تبيّن أنّه صدوق» «2».

وقال ابن حجر: «قال العقيقي: كان يذهب إلي الإعتزال، ثقة في الحديث.

وقال البرقاني: كان معتزليّاً وكان يتشيّع إلّاأنّه تبيّن أنّه صدوق» «3».

وقال السمعاني: «كان معتزليّاً رافضيّاً، ردي ء المذهب، إلّاأنّه صدوق صحيح السّماع» «4».

أبو جعفر الكليني قال الذهبي: «الكليني، شيخ الشيعة وعالم الإماميّة، صاحب التصانيف،

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1/ 237.

(2) تاريخ بغداد 7/ 299.

(3) لسان الميزان 2/ 199- 201 الطبعة القديمة.

(4) الأنساب 5/ 529.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 47

أبوجعفر محمّد بن يعقوب الرازي الكليني- بالنون-. روي عنه: أحمد بن إبراهيم الصيمري وغيره، وكان ببغداد، وبها توفي، وقبره مشهور. مات سنة 328. وهو بضمّ الكاف وإمالة اللّام. قيّده الأمين» «1».

أبو جعفر ابن بابويه قال الذهبي: «ابن بابويه، رأس الإماميّة، أبو جعفر محمّد بن العلّامة علي بن الحسين بن موسي بن بابويه القمي، صاحب التصانيف السائرة بين الرافضة، يضرب بحفظه المثل، يقال: له ثلاث مائة مصنّف منها: كتاب دعائم الإسلام، كتاب الخواتيم، كتاب الملاهي، كتاب غريب حديث الأئمّة، كتاب التوحيد، كتاب دين الإماميّة.

وكان أبوه من كبارهم ومصنّفيهم.

حدّث عن أبي جعفر جماعة، منهم: ابن النعمان المفيد، والحسين بن عبداللَّه الفحّام، وجعفر بن حسنيكه القمّي» «2».

الشيخ المفيد

قال

الذهبي: «الشيخ المفيد، عالم الرافضة، صاحب التصانيف، الشيخ المفيد، واسمه محمّد بن محمّد بن النعمان البغدادي الشيعي، ويعرف بابن المعلّم.

كان صاحب فنون وبحوث وكلام واعتزال وأدب، ذكره ابن أبي طي في __________________________________________________

(1) سير أعلام النبلاء 15/ 280.

(2) سير أعلام النبلاء 16/ 303.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 48

تاريخ الإماميّة فأطنب وأسهب وقال: كان أوحد في جميع فنون العلم، الأصلين والفقه، إلي أن قال: مات سنة 413 وشيّعه ثمانون ألفاً.

وقيل: بلغت تواليفه مائتين، لم أقف علي شي ء منها وللَّه الحمد، يكنّي أباعبداللَّه» «1».

السيّد المرتضي قال الذهبي: «المرتضي- العلّامة الشريف المرتضي، نقيب العلويّة، أبوطالب، علي بن الحسين بن موسي، القرشي العلوي الحسيني الموسوي البغدادي، من ولد موسي الكاظم.

ولد سنة 355 وحدّث عن: سهل بن أحمد الديباجي وأبي عبداللَّه المرزباني وغيرهما.

قال الخطيب: كتبت عنه.

قلت: هو جامع كتاب نهج البلاغة المنسوبة ألفاظه إلي الإمام علي رضي اللَّه عنه، ولا أسانيد لذلك وبعضها باطل وفيه حق، ولكن فيه موضوعات يجلّ الإمام من النطق بها، ولكن أين المنصف؟ وقيل: بل جمع أخيه الشريف الرضي.

وديوان المرتضي كبير، وتواليفه كثيرة، وكان صاحب فنون، وله كتاب الشافي في الإمامة، والذخيرة في الاصول، وكتاب التنزيه، وكتاب إبطال القياس، وكتاب في الإختلاف في الفقه، وأشياء كثيرة، وديوانه في أربع مجلّدات.

__________________________________________________

(1) سير أعلام النبلاء 17/ 344.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 49

وكان من الأذكياء الأولياء، المتبحّرين في الكلام والإعتزال والأدب والشعر، لكنّه إمامي جلد، نسأل اللَّه العفو.

قال ابن حزم: الإماميّة كلّهم علي أنّ القرآن مبدّل وفيه زيادة ونقص، سوي المرتضي فإنّه كفّر من قال ذلك، وكذلك صاحباه أبو يعلي وأبوالقاسم الرازي.

قلت: في تواليفه سبّ أصحاب رسول اللَّه، فنعوذ باللَّه من علمٍ لا ينفع.

توفّي المرتضي في

سنة 436» «1».

أبوالفتح الكراجكي قال الذهبي: «الكراجكي، شيخ الرافضة وعالمهم، أبوالفتح، محمّد بن علي، صاحب التصانيف. مات بمدينة صور سنة 449» «2».

أبو جعفر الطوسي قال الذهبي: «أبو جعفر الطوسي، شيخ الشيعة وصاحب التصانيف، أبوجعفر محمّد بن الحسن بن علي الطوسي.

قدم بغداد، وتفقّه أوّلًا للشافعي، ثمّ أخذ الكلام واصول القوم عن الشيخ المفيد رأس الإماميّة، ولزمه وبرع، وعمل التفسير، وأملي أحاديث ونوادر في مجلّدين، عامّتها عن شيخه المفيد.

روي عن هلال الحفّار والحسين بن عبيداللَّه الفحّام والشريف المرتضي __________________________________________________

(1) سير أعلام النبلاء 17/ 558 وفيه مافيه.

(2) سير أعلام النبلاء 18/ 121.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 50

وأحمد بن عبدون وطائفة.

روي عنه ابنه أبو علي.

وأعرض عنه الحفّاظ لبدعته، وقد احرقت كتبه عدّة نوب في رحبة جامع القصر، واستتر لما ظهر عنه من التنقّص بالسلف، وكان يسكن بالكرخ محلّة الرافضة.

ثمّ تحوّل إلي الكوفة وأقام بالمشهد يفقّههم.

ومات في المحرّم سنة 460.

وكان يعدّ من الأذكياء.

ذكره ابن النجار في تاريخه.

وله تصانيف كثيرة منها: كتاب تهذيب الأحكام، كبير جدّاً، وكتاب مختلف الأخبار، وكتاب المفصح في الإمامة. ورأيت له مؤلّفاً في فهرسة كتبهم وأسماء مؤلّفيها» «1».

ابن شهرآشوب السروي قال ابن حجر: «محمّد بن علي بن شهرآشوب، أبو جعفر السروي المازندراني، من دعاة الشيعة، فقال ابن أبي طي في تاريخه: اشتغل بالحديث ولقي الرجال ثمّ تفقّه وبلغ النهاية في فقه أهل البيت، ونبغ في الاصول، ثمّ تقدّم في القراءات والغريب والتفسير والعربيّة، وكان مقبول الصورة، مليح العرض علي المعاني، وصنّف في المتفق والمفترق والمؤتلف والمختلف، والفصل والوصل، وفرّق بين رجال الخاصّة ورجال العامّة، يعني أهل السنّة

__________________________________________________

(1) سير أعلام النبلاء 18/ 334.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 51

والشيعة، كان كثير الخشوع. مات في شعبان

سنة 558» «1».

وقال الصفدي: «أحد شيوخ الشيعة، حفظ القرآن وله ثمان سنين، وبلغ النهاية في اصول الشيعة، كان يرحل إليه من البلاد، ثمّ تقدّم في علم القرآن والغريب والنحو، ووعظ علي المنبر أيّام المقتفي ببغداد فأعجبه وخلع عليه.

وكان بهيّ المنظر حسن الوجه والشيبة، صدوق اللّهجة، مليح المحاورة، واسع العلم، كثير الخشوع والعبادة والتهجّد، لا يكون إلّاعلي وضوء. أثني عليه ابن أبي طي في تاريخه ثناءً كثيراً … » «2».

الشيخ نصيرالدين الطوسي الشيخ نصيرالدين محمّد بن محمّد الطوسي المتوفّي سنة 672.

قال الذهبي- في وفيات السنة المذكورة-: «وكبير الفلاسفة خاجا نصيرالدين محمّد بن محمّد بن حسن الطوسي، صاحب الرصد» «3».

«وكان رأساً في علم الأوائل، ذا منزلة من هولاكو» «4».

وقال ابن كثير: «النصير الطوسي … اشتغل في شبيبته وحصّل علم الأوائل جيّداً، وصنّف في ذلك وفي علم الكلام، وشرح الإشارات لابن سينا، وقد ذكره بعض البغاددة فأثني عليه وقال: كان عاقلًا، فاضلًا، كريم الأخلاق، ودفن في مشهد موسي بن جعفر في سردابٍ كان قد اعدّ للخليفة الناصر لدين اللَّه، وهو الذي كان قد بني الرصد بمراغة، ورتّب فيه الحكماء من الفلاسفة

__________________________________________________

(1) لسان الميزان 5/ 305.

(2) الوافي بالوفيات 4/ 164.

(3) تذكرة الحفّاظ 4/ 1491.

(4) العبر في خبر من غبر 3/ 326.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 52

والمتكلّمين والفقهاء والمحدّثين والأطبّاء وغيرهم من أنواع الفضلاء، وبني له فيه قبّة عظيمة، وجعل فيه كتباً كثيرة جدّاً … » «1».

وقال الصّفدي: «الفيلسوف صاحب علم الرياضي، كان رأساً في علم الأوائل، لاسيّما في الأرصاد والمجسطي، فإنّه فاق الكبار … وكان حسن الصّورة، سمحاً، كريماً، جواداً، حليماً، حسن العشرة، غزير الفضل … وكان للمسلمين به نفع، خصوصاً الشيعة والعلويّين والحكماء وغيرهم … »

«2».

العلّامة الحلّي جمال الدين أبو منصور الحسن بن يوسف بن علي بن مطهّر الحلّي المتوفّي سنة 726.

ترجم له الصفدي فقال: «الإمام العلّامة ذوالفنون جمال الدين ابن المطهّر الأسدي الحلّي المعتزلي، عالم الشيعة وفقيههم، صاحب التصانيف التي اشتهرت في حياته، تقدّم في دولة خربندا تقدّماً زائداً، وكان له مماليك وإدارات كثيرة وأملاك جيّدة، وكان يصنّف وهو راكب، شرح مختصر ابن الحاجب وهو مشهور في حياته، وله كتاب في الإمامة ردّ عليه الشيخ تقي الدين ابن تيميّة في ثلاث مجلّدات، وكان يسمّيه ابن المنجَّس.

وكان ابن المطهَّر ريّض الأخلاق، مشتهر الذكر، تخرَّج به أقوام كثيرة، وحجّ في أواخر عمره وخمل وانزوي إلي الحلّة، وتوفّي سنة 25 وقيل 26 وسبعمائة في شهر المحرّم وقد ناهز الثمانين. وكان إماماً في الكلام __________________________________________________

(1) البداية والنهاية 13/ 267- 268.

(2) الوافي بالوفيات 1/ 179- 183.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 53

والمعقولات.

قال الشيخ شمس الدين: قيل اسمه يوسف، وله: الأسرار الخفيّة في العلوم العقليّة» «1».

وهكذا ترجم له ابن حجر العسقلاني، قال: «لازم النصير الطوسي مدّةً، واشتغل في العلوم العقليّة فمهر فيها، وصنّف في الاصول والكلام، وكان صاحب أموال وغلمان وحفدة، وكان رأس الشيعة بالحلّة، واشتهرت تصانيفه، وتخرّج به جماعة، وشرحه علي مختصر ابن الحاجب في غاية الحسن في حلّ ألفاظه وتقريب معانيه، وصنّف في فقه الإماميّة، وكان قيّماً بذلك داعيةً إليه» «2».

من تراجم علماء السنّة في كتبهم … ص: 53

وعلي الجملة، فإنّهم إمّا يهملون علماء الإماميّة فلا يترجمون لهم أصلًا، وإلّا ترجموا بسطرين أو أسطرٍ قليلةٍ، مع أغلاطٍ وهفوات كثيرة … لكنْ لا تجد في هذه التراجم نسبة شي ء من الآثام والقبائح الموبقة، ولو كان- ولو نسبةً كاذبةً- لذكروا، كما يذكرون بتراجم علمائهم …

فهذا الذهبي الذي نقلنا عن كتابه (سير

أعلام النبلاء) تراجم جملةٍ من علمائنا … قد ذكر فيه بتراجم علماء السنّة أشياء قبيحة مخجلة، نورد بعضها في هذا المجال:

فقد ذكر بترجمة زاهر بن طاهر بعد أنْ وصفه ب «الشيخ العالم، المحدّث __________________________________________________

(1) الوافي بالوفيات 13/ 85.

(2) الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة 2/ 71- 72.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 54

المفيد، المعمّر، مسند خراسان، أبوالقاسم ابن الإمام أبي عبدالرحمن، النيسابوري، الشحامي، المستملي، الشروطي، الشاهد»!! وعدّد مشايخه وتصانيفه … ذكر عن جماعةٍ أنّه كان يخلُّ بالصّلوات إخلالًا ظاهراً … «1»

وذكر بترجمة عمر بن محمّد، المعروف بابن طبرزد، وقد وصفه ب «الشيخ المسند الكبير الرحلة، أبو حفص عمر بن محمّد بن معمّر بن … »

وعدّد شيوخه ومن روي عنه من المشاهير كابن النجّار والكمال ابن العديم والمجد ابن عساكر والقطب ابن عصرون وأمثالهم، ثمّ أورد قول ابن نقطة:

«ثقة في الحديث»، وقول ابن الحاجب: «كان مسند أهل زمانه»، حتّي نقل عن ابن النجّار: «كان متهاوناً بامور الدين، رأيته غير مرّة يبول من قيام، فإذا فرغ من الإراقة أرسل ثوبه وقعد من غير استنجاءٍ بماءٍ ولا حجر» قال الذهبي:

«قلت: لعلّه يرخّص بمذهب من لا يوجب الإستنجاء!».

ثمّ حكي عن ابن النجّار: «وكنّا نسمع منه يوماً أجمع، فنصلّي ولا يصلّي معنا، ولا يقوم لصلاة … ».

قال الذهبي: «وقد سمعت أبا العبّاس ابن الظاهري يقول: كان ابن طبرزد لايصلّي» «2».

ثمّ إنّ الذهبي روي خبرين بترجمة مسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي القصّاب في سند أحدهما «زاهر» وفي الآخر «عمر» فقال: «في الإسنادين ضعف، من جهة زاهر وعمر، لإخلالهما بالصّلاة، فلو كان فيَّ ورع لَما رويتُ __________________________________________________

(1) سير أعلام النبلاء 20/ 9.

(2) سير أعلام النبلاء 21/ 507.

استخراج المرام من استقصاء الافحام،

ج 1، ص: 55

لمن هذا نعته» «1».

لكنْ في مشايخ الذهبي غير واحدٍ من هؤلاء، فقد نصَّ- مثلًا- بترجمة علي بن مظفّر الإسكندراني، شيخ دار الحديث النفيسيّة!! المتوفّي سنة 716:

«لم يكن عليه ضوء في دينه، وحملني الشّره علي السماع من مثله، واللَّه يسامحه، كان يخلُّ بالصّلوات، ويُرمي بعظائم!!» «2».

وذكر بترجمة الشيخ المعمّر أبي المعالي عثمان بن علي بن المعمّر بن أبي عِمامة البغدادي البقّال: «قال ابن النجّار: كان عسراً، غير مرضي السيرة، يخلُّ بالصّلوات، ويرتكب المحظورات» «3».

وبترجمة الجعابي الموصوف ب «الحافظ البارع العلّامة، قاضي الموصل، أبوبكر محمّد بن عمر بن محمّد بن سلم التميمي البغدادي» قال بعد ذكر مشايخه، وأنّه حدّث عنه: أبوالحسن الدارقطني وأبو حفص ابن شاهين وابن رزقويه وابن مندة والحاكم … وبعد ذكر بعض الكلمات في الثناء عليه … قال:

«ونقل الخطيب عن أشياخه أنّ ابن الجعابي كان يشرب في مجلس ابن العميد. وقال أبو عبدالرحمن السلمي: سألت الدارقطني عن ابن الجعابي، فقال: خلّط، وذكر مذهبه في التشيّع، وكذا نقل أبو عبداللَّه الحاكم عن الدارقطني قال: وحدّثني ثقة أنّه خلّي ابن الجعابي نائماً وكتب علي رجله، قال: فكنت أراه ثلاثة أيّام لم يمسّه الماء … »..

__________________________________________________

(1) سير أعلام النبلاء 10/ 317.

(2) معجم الشيوخ 2/ 58.

(3) سير أعلام النبلاء 19/ 453.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 56

«قال الحاكم: قلت للدّارقطني: يبلغني عن ابن الجعابي أنّه تغيَّر عمّا عهدناه. قال: وأيّ تغيّر!! قلت: باللَّه هل اتّهمته؟! قال: إي واللَّه. ثمّ ذكر أشياء.

فقلت: وضح لك أنّه خلط في الحديث؟! قال: إي واللَّه، قلت: هل اتّهمته حتّي خفت المذهب؟! قال: ترك الصّلاة والدّين» «1».

أقول:

لكنّ بقاء الكتابة علي رجله ثلاثة أيّام، إنّما يدلّ علي عدم غسله لرجليه في الوضوء، ولا يدلّ علي عدم

الوضوء وترك الصلاة، فلعلّه كان من القائلين بالمسح في الوضوء، تعييناً أو تخييراً، فإنّ هذا مذهب كثيرٍ من الصحابة والتابعين والفقهاء الكبار، كابن جرير الطبري- صاحب التفسير والتاريخ- وأتباعه … «2»

* وأمّا شرب المسكر، فمذكور بتراجم كثيرٍ من أعلام القوم:

ففي ترجمة نصرك وهو: «الحافظ، المجوّد، الماهر، الرحّال، أبو محمّد، نصر بن أحمد بن نصر، الكندي البغدادي»: «قال أبوالفضل السليماني:

يقال إنّه كان أحفظ من صالح بن محمّد جزرة، إلّاأنّه كان يتّهم بشرب المسكر» «3».

وبترجمة علي بن سراج وهو: «الإمام الحافظ البارع، أبوالحسن ابن أبي الأزهر»: «إلّا أنّ الدارقطني قال: كان يشرب ويسكر» «4».

وبترجمة الذهبي وهو: «الحافظ العالم الجوّال، أبوبكر أحمد بن محمّد

__________________________________________________

(1) سير أعلام النبلاء 16/ 88.

(2) قد بحثنا ذلك في رسالتنا: (حكم الأرجل في الوضوء).. وهو من البحوث المنشورة عن مؤتمر ألفيّة الشيخ المفيد رحمه اللَّه في قم المقدّسة سنة 1413.

(3) سير أعلام النبلاء 13/ 538.

(4) سير أعلام النبلاء 14/ 284.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 57

ابن حسن بن أبي حمزة البلخي ثمّ النيسابوري» فذكر مشايخه ومن حدّث عنه وهم أكابر المحدّثين الحفّاظ ثمّ قال: «لكنّه مطعون فيه. قال الإسماعيلي: كان مستهتراً بالشرب» «1».

وبترجمة عبداللَّه بن محمّد بن الشرقي: «ذكر الحاكم أنّه رآه … قال: ولم يدَعِ الشرب إلي أن مات، فنقموا عليه ذلك، وكان أخوه لا يري لهم السّماع منه لذلك» «2».

وبترجمة أبي عبيد الهروي: «قال ابن خلّكان … قيل: إنّه كان يحبّ البِذلة، ويتناول في الخلوة، ويعاشر أهل الأدب في مجالس اللذّة والطرب» «3».

وبترجمة الزوزني، وهو: «الشيخ المسند الكبير، أبو سعد أحمد بن محمّد … من مشاهير الصوفيّة»!! حدّث عنه: ابن عساكر والسمعاني وابن الجوزي وآخرون، «قال السمعاني: كان منهمكاً في الشرب،

سامحه اللَّه …

وقال ابن الجوزي: ينسبونه إلي التسمّح في دينه» «4».

أقول:

ومثل هذه القضايا في تراجمهم كثير، وهم حفّاظ، أئمّة، يقتدون بهم …

وقد جاء بترجمة «الإمام!! القدوة!! العابد!! الواعظ!! محمّد بن يحيي الزبيدي، نزيل بغداد» عن السمعاني: «سمعت جماعةً يحكون عنه أشياء، السكوت عنها أَوْلي وقيل: كان يذهب إلي مذهب السالميّة، ويقول: … إنّ __________________________________________________

(1) سير أعلام النبلاء 14/ 461.

(2) سير أعلام النبلاء 15/ 40.

(3) سير أعلام النبلاء 17/ 147.

(4) سير أعلام النبلاء 20/ 57.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 58

الشارب والزاني لا يلام، لأنّه يفعل بقضاء اللَّه وقدره» «1».

فهذا مذهب القوم، وهذه أعمالهم …

وجاء بترجمة «الشيخ المعمَّر المحدّث!!» أحمد بن الفرج الحجازي من مشايخ: النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهم من الأئمّة، عن محمّد بن عوف: «هو كذّاب!! رأيته في سوق الرستن وهو يشرب مع مُردان وهو يتقيّأ!! وأنا مشرفٌ عليه من كوّة بيتٍ كانت لي فيه تجارة سنة 219 … » «2».

فاجتمع عنده: الشرب!! والكذب! والعبث بالمردان!!

* وكان العبث بالمردان من أفعال غير واحدٍ من أعلام القوم، فقد جاء بترجمة قاضي القضاة!! يحيي بن أكثم: «قال فضلك الرازي: مضيت أنا وداود الأصبهاني إلي يحيي بن أكثم، ومعنا عشرة مسائل، فأجاب في خمسةٍ منها أحسن جواب، ودخل غلام مليح، فلمّا رآه اضطرب، فلم يقدر يجي ء ولا يذهب في مسألةٍ. فقال داود: قم، اختلط الرجل» «3».

وبترجمة الخطيب البغدادي الذي أطنب وأسهب الذهبي ترجمته بعد أن وصفه ب «الإمام الأوحد، العلّامة المفتي، الحافظ الناقد، محدّث الوقت …

خاتمة الحفّاظ» ونحو ذلك من الألقاب، وبعد أن أورد كلمات الأئمّة في مدحه، قال:

«كان سبب خروج الخطيب من دمشق إلي صور أنّه كان يختلف إليه __________________________________________________

(1) سير أعلام

النبلاء 20/ 318.

(2) سير أعلام النبلاء 12/ 585.

(3) سير أعلام النبلاء 12/ 10.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 59

صبي مليح، فتكلّم الناس في ذلك» «1».

وبترجمة ابن الأنماطي وهو: «الشيخ العالم الحافظ، المجوّد، البارع، مفيد الشام، تقي الدين أبوالطاهر إسماعيل بن عبداللَّه» عن ابن الحاجب:

«وكان يُنبَز بالشرّ، سألت الحافظ الضياء عنه فقال: حافظ ثقة مفيد إلّاأنّه كثير الدعابة مع المُرد» «2».

وجاء بترجمة الحافظ أبي بكر أحمد بن إسحاق الصِبغي: «قال الحاكم:

وسمعت أبابكر ابن إسحاق يقول: خرجنا من مجلس إبراهيم الحربي ومعنا رجل كثير المجون، فرأي أمرد، فتقدّم فقال: السلام عليك، وصافحه وقبَّل عينيه وخدّه، ثمّ قال: حدّثنا الدَبَري بصنعاء بإسناده، قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إذا أحبّ أحدكم أخاه فليعلمه. فقلت له: ألا تستحي؟! تلوط وتكذب في الحديث!! يعني: أنّه ركّب إسناداً للمتن» «3».

هذا، ولا اريد أنْ اطيل في هذا المقام، وفي كتابنا «الإنتقاء من سير أعلام النبلاء» من هذا القبيل كثير عن الصحابة والتابعين وكبار الرجال … وبعضه عجيبٌ وغريبٌ!

كانت تلك دراسة مقارنة موجزة عن أهمّ العلوم- وهي العقائد والفقه والتفسير والحديث- عند الشيعة الإماميّة، ولمحة عن تراجم علماء هذه الطائفة في العلوم المذكورة … وموقف الرّجاليين من أهل السنّة منهم، ولمحة عن تراجم علماء السنّة، حسبما ذكروا بتراجمهم في أشهر كتبهم …

وقد تبيّن أنّ الإهمال، أو الاختصار في الترجمة مع الطعن في المذهب، من جملة أساليب الخصوم في المحاربة مع هذا المذهب وأعلامه.

__________________________________________________

(1) سير أعلام النبلاء 18/ 281.

(2) سير أعلام النبلاء 22/ 174.

(3) سير أعلام النبلاء 15/ 487.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 60

ولكنّهم- مع ذلك- لم يُتّهموا بموبقةٍ من الموبقات.

علي خلاف ما جاء بأحوال علماء المخالفين.

فلينظر العاقل المتدبّر

أنّ الإماميّة عمّن يأخذون، وأنّ غيرهم لمن يتّبعون!

***

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 61

كتب الردود في المكتبة الشيعيّة … ص: 61

لقد واجهت هذه الطائفة- منذ اليوم الأوّل- شتّي أنواع الظلم والإضطهاد، من القتل والحبس والتشريد، ولم تترك الحكومات- وأهل العلم المتعاونون مع الحكّام في كلّ دور- وسيلةً ولم تفوّت فرصةً إلّاواستفادت منها وانتهزتها، للقضاء علي هذا المذهب وشخصيّاته ورموزه، علي مختلف الأصعدة …

وهذه القضايا مسجّلة في كتب التّواريخ عند جميع الفرق.

فلمّا لم تجد هذه الأساليب للقضاء علي التشيّع … جعلوا يتّبعون الأساليب الاخري، …

فكان ترك الذكر والإهمال للعلماء والشخصيّات الشيعيّة في كتب التراجم والرجال أحد الأساليب … وقد أوضحنا ذلك بقدر الضرورة.

ومن الطرق والأساليب في كلّ عصرٍ وفي كلّ بلدٍ من البلدان الإسلاميّة:

تأليف الكتب للتهجّم علي الشيعة والتشيّع، وقد نهجوا هذا النهج منذ القديم، وما زال متّبعاً حتّي الآن.

تأليف الكتب للصدّ عن التشيّع … ص: 61

اشارة

فإنّ كثيراً من الكتب التي وضعها العلماء السابقون من أهل السنّة في الردّ علي الشيعة، إنّما الّفت للحيلولة دون انتشار هذا المذهب، والصدّ عن إقبال استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 62

الناس عليه ودخول الامم فيه …

وهذا ما صرّح به ونصّ عليه غير واحدٍ من علماء أهل السنّة في مختلف البلاد.

في الحجاز … ص: 62

ففي الحجاز- مثلًا- لمّا رأي القوم كثرة الشيعة وازديادها في مكّة المكرّمة، طلبوا من ابن حجر المكّي أن ينشر كتابه (الصواعق المحرقة) وذلك ما نصّ عليه في ديباجته إذ قال:

«فإنّي سئلت قديماً في تأليف كتابٍ يبيّن حقيّة خلافة الصدّيق وإمارة ابن الخطّاب، فأجبت إلي ذلك، مسارعةً في خدمة هذا الباب، فجاء- بحمد اللَّه- انموذجاً لطيفاً، ومنهاجاً شريفاً، ومسلكاً منيفاً.

ثمّ سئلت قديماً في إقرائه في رمضان سنة 950 بالمسجد الحرام، لكثرة الشيعة والرافضة ونحوهما الآن بمكّة المشرّفة، أشرف بلاد الإسلام، فأجبت إلي ذلك، رجاءً لهداية بعض من زلّ به قدمه عن أوضح المسالك … ».

في الهند … ص: 62

وفي الهند، كذلك … وخاصّة في القرنين الثاني عشر والثالث عشر …

فقد نبغ بين الشيعة الإماميّة في تلك البلاد، فقيه كبير، ومجاهد عظيم، هو السيّد دلدار علي بن معين الدين النقوي المولود سنة 1166 والمتوفّي سنة 1235 «1»، الذي انتشرت بفضل جهوده تعاليم المذهب الجعفري في تلك الأرجاء، وانتظمت علي يده امور الطائفة، بعد أن كانوا متفرّقين ليست لهم __________________________________________________

(1) انظر: أعيان الشيعة 6/ 425، هدية العارفين 5/ 772.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 63

دعوة إلي مذهبهم، وما كانت لهم جامعة تجمعهم، واشتغل طيلة أيّام حياته الشريفة بترويج الدين ونشر الأحكام بإقامة الشعائر وتأليف الكتب وتربية العلماء.

ولمّا وصل خبره إلي حسن رضاخان- من وزراء حكومة «أوده» في لكنهو- استدعاه للإقامة بلكنهو، فهاجر إليها، وانصرف إلي بثّ تعاليم الدين وإقامة الشعائر.

وكان العلّامة المولي محمّد عليّ الكشميري الشهير بپادشاه «1» نزيل فيض آباد، قد ألّف في تلك الأيّام رسالة في فضل صلاة الجمعة، حثّ فيها السّلطان آصف الدولة ابن الشجاع بن صدر جنك سلطان مملكة «أوده» في لكنهو، علي إقامة الجمعة، وذكر من هو

أهل لإمامة الجماعة، وهم: السيّد دلدار عليّ وتلميذاه الميرزا محمّد خليل والأمير السيّد مرتضي، فأمر السلطان بإقامتها، ورشّح السيّد لها. فأقامها ابتداء من ظهر اليوم الثالث عشر من رجب- يوم ولادة أميرالمؤمنين عليه السلام- سنة 1200.

ثمّ اقيمت الجمعة في السابع والعشرين منه، يوم مبعث النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وكانت أوّل صلاة جماعة للشيعة تقام في تلك الديار.

ثمّ استمرّت الجماعة والخطب، وانتشرت أندية الذكر ومجالس الوعظ، واهتمّ السلطان لترويج الشريعة، وتشييد الدين، وكثر طلّاب العلم، وأخذوا يتواردون علي السيّد من كلّ صوب «2».

__________________________________________________

(1)

أعلام الشيعة، نزهة الخواطر 7/ 456.

(2) أعلام الشيعة- الكرام البررة 2/ 519.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 64

قال السيّد عبدالحيّ اللكهنوي المحقّق السنّي: ثمّ إنّه بذل جهده في إحقاق مذهبه وإبطال غيره من المذاهب، لاسيّما الأحناف والصوفيّة والأخباريّة، حتّي كاد يعمّ مذهبه في بلاد «أوده» ويتشيّع كلّ الفرق «1».

وفي هذه الأيّام خرج للناس كتاب للمولوي شاه عبدالعزيز بن شاه وليّ اللَّه الدهلوي الحنفي، المولود سنة 1159، والمتوفّي سنة 1239 باسم (التحفة الإثني عشريّة) في الردّ علي الشيعة الإماميّة …

قال في مقدّمة الكتاب:

«وقد سمّيت هذه الرسالة ب (التحفة الإثني عشريّة) ولقّبتها ب (نصيحة المؤمنين وفضيحة الشياطين).

وكان السبب في تأليف هذه الرسالة وتحرير هذه المقالة هو: إنّ البلاد التي نحن بها ساكنون، وفي هذا الزّمان الذي نحن فيه، قد راج مذهب الإثني عشريّة وشاع، حتّي قلّ بيتٌ لم يتمذهب من أهله واحد أو اثنان بهذا المذهب، ولم يرغب فيه، لكنّ أكثرهم جاهلون بالتاريخ والأخبار … ».

فألّف علماء الشيعة في تلك الديار الردود الحاسمة علي كتاب (التحفة) وأشهرها كتاب (عبقات الأنوار في إمامة الأئمّة الأطهار) الذي سنتحدّث عنه فيمابعد باختصار.

في العراق … ص: 64

وفي العراق كذلك …

فقد نشر محمود شكري الآلوسي البغدادي مختصر ترجمة (التحفة الإثني عشريّة) إلي العربيّة في سنة 1301- أي قبل __________________________________________________

(1) نزهة الخواطر 7/ 167.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 65

وفاة السيّد صاحب (عبقات الأنوار) في الردّ علي (التحفة) بخمس سنوات- وقد ذكر في مقدّمة الكتاب ما نصّه:

«وبعد، فيقول المفتقر إلي اللَّه، الملتجئ إلي ركن فضله وعلاه، خادم العلوم الدينيّة في مدينة دار السلام المحمية، محمود شكري ابن السيّد عبداللَّه الحسيني الآلوسي البغدادي، كان اللَّه تعالي له خير معين وأحسن هادي:

إنّ علماء الشيعة لم يزالوا قائمين علي ساق المناظرة، واقفين في ميادين المنافرة والمكابرة، مع كلّ قليل البضاعة، ممّن ينتمي إلي مذاهب أهل السنّة والجماعة، لاسيّما في الديار العراقيّة وما والاها من ممالك الدولة العليّة العثمانيّة، حتّي اغترّ بشبههم من الجهلة الالوف، وانقاد لزمام دعواهم ممّن لم يكن له علي معرفة الحقّ وقوف، فلمّا رأيت الأمر اتّسع خرقه والشرّ تعدّدت طرقه، شمّرت عن ساعد الجدّ والاجتهاد في الذبّ عن ملك ذوي الرشاد، ورأيت أن اؤلّف في هذا الباب كتاباً مشتملًا علي فصل الخطاب به يتميّز القشر عن اللباب ويتبيّن الخطأ من الصواب.

وقد ألّف العالم العلّامة والنحرير الفهّامة الشيخ غلام محمّد أسلمي الهندي، تغمّده اللَّه تعالي بغفرانه الأبدي، ترجمة (التحفة الإثني عشريّة في الردّ علي فرق الشيعة الإماميّة)، فوجدته كتاباً انكشفت شبه المناظرين بأنوار دلائله واندفعت شكوك المعاندين بمسلَّم براهينه … فحداني التوفيق الإلهي إلي تلخيص ذلك الكتاب، وهداني التأييد الرباني إلي إبراز غواني معانيه بأبهي لباب، مع ضمّ ما يؤدّي إليه المقام ممّا أفاده العلماء الأعلام، بعبارات سهلة موجزة مشتملة ينتفع بها الخاص والعام ويتلقّاها بالقبول ذوو الإنصاف من الأنام.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص:

66

ولمّا يسّر اللَّه تعالي ما طلبته، وأجابني فيما رجوته ودعوته، سمّيت الكتاب (المنحة الإلهيّة بتلخيص ترجمة التحفة الإثني عشريّة).

وقدّمته لأعتاب خليفة اللَّه في أرضه ونائب رسوله … ألا وهو أميرالمؤمنين الواجب طاعته علي الخلق أجمعين، سلطان البرّين وخاقان البحرين، السلطان ابن السلطان، السلطان الغازي عبدالحميد خان … ».

منتهي الكلام للفيض آبادي … ص: 66

وكتاب (منتهي الكلام) تأليف المولوي حيدر علي الفيض آبادي، من هذا القبيل …

فقد ألّف الشيخ سبحان علي خان، من علماء الشّيعة في الهند، المتوفّي سنة 1264، رسالةً في حديث الحوض، قال صاحب (كشف الحجب والأستار):

«رسالة في حديث الحوض، لسبحان علي خان، رفع اللَّه درجته في فراديس الجنان، ذكر فيها انطباق حديث الحوض علي الخلفاء الثلاثة والتابعين لهم، صنّفها سنة 1252.

لقد أحسن وأجاد وأحرق ببيانه قلوب أهل العناد … » «1».

ولهذا الشيخ كتب ورسائل اخري منها:

رسالة في فضائح البخاري وصحيحه «2».

رسالة في حديث الثقلين «3».

__________________________________________________

(1) كشف الحجب والأستار: 258/ 1363.

(2) كشف الحجب والأستار: 276/ 1478.

(3) كشف الحجب والأستار: 257/ 1362.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 67

رسالة في حديث الإثرة، ذكر فيها حديث الإثرة علي الخلفاء الثلاثة «1».

رسالة في لزوم أفضليّة أولاد الشيخين من أولاد فاطمة عليها السلام علي قواعد أهل السنّة أسماها ب (لطافة المقال) «2».

فردّ عليه رشيد الدين الدهلوي- من تلاميذ صاحب التحفة الإثني عشريّة- بكتاب أسماه (إيضاح لطافة المقال) «3».

فردّ عليه الشيخ سبحان علي خان بكتاب (فذلكة الكلام) «4».

كما ردّ عليه الشيخ حسين علي خان المتوفّي سنة بضع وأربعين ومائتين بعد الألف «5».

هذا، وقد ترجم صاحب (نزهة الخواطر) الشيخ سبحان علي خان، ووصفه ب «الأمير الفاضل» قال: «وكان مع اشتغاله بمهمّات الامور يشتغل بالبحث والتنقير والمناظرة بأهل السنّة والجماعة، وبالشيعة الاصوليّة، وله مصنّفات عديدة، منها: الباقيات

الصالحات، ومنها: شمس الضحي» وأرّخ وفاته بسنة 1264 «6».

لكنّ صاحب (كشف الحجب) وصفه بألقاب جليلة وصفاتٍ ضخمة، مثل:

«قدوة الأعيان واسوة الأقران، راقم آثار الشرف علي صحائف الإحسان،

__________________________________________________

(1) كشف الحجب والأستار: 257/ 1361.

(2) كشف الحجب والأستار: 479/ 2701.

(3) كشف الحجب والأستار: 479/ ضمن 2701.

(4) كشف الحجب والأستار: 397/ 2296.

(5) كشف الحجب والأستار: 534/ 2999 وسمّاه ب (معتمد الكلام).

(6) نزهة الخواطر- تراجم كبار علماء الهند 7/ 195.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 68

جامع أطوار الرعاية بين طوائف الإنسان، عين الإنسان، علّامة الدوران، فريد الدهر والأوان».

«صدر الزمان، قدوة الأعيان، شرف أبناء الزمان بالتزام الفضل والإحسان، علّامة الدوران، مليح البيان، فصيح اللّسان … ».

«علّامة الزمان واعجوبة الدوران، فصيح البيان، مليح اللّسان، المزري لطائف منشآته علي أزهار الربيع وأنوار البديع، ذي العز المنيع والفخر الرفيع … » «1».

وعلي الجملة، فقد ألّف الشيخ سبحان علي خان رسالته في حديث الحوض، وأثبت انطباقه علي المشايخ، علي أساس أحاديث القوم في أصحّ كتبهم ككتاب البخاري وغيره.

فلمّا وقف الشيخ المولوي الفيض آبادي المتوفّي سنة 1299 علي رسالة حديث الحوض، ألّف في الردّ عليها كتاب (منتهي الكلام) بطلبٍ من بعض أصدقائه، الذي ضاق صدره من «رواج التشيّع المحدَث!!» في بلاد الهند … كما قال … وهذه ترجمة كلامه في المقدّمة باختصار:

«بسم اللَّه الرحمن الرحيم. الحمد للَّه الذي وفّقنا لمنتهي الكلام مع الخصام وتمييز الحق من الباطل كالنور من الظلم، وكرّمنا بتنبيهات أهل الخوض لاعتراضهم علي حديث الحوض بتقرير اللّسان وتحرير القلم، والصّلاة والسلام علي عباده الذين اصطفي سيّما من خصّ بالشفاعة العظمي يجري علي لسانه ينابيع الحكم، وعلي آله وخلفائه الأربعة المتناسبة يشربون من السلسبيل ولن يسمعوا حسيس جهنّم، فبعداً وسحقاً لمن لم يزالوا

__________________________________________________

(1) كشف الحجب

والأستار: 599، 257، 161- 162.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 69

مرتدّين عنهم من أهل الإبدال، يؤخذ بهم ذات اليمين وذات الشمال، يختلجون دون الأدبار فلا تدري أن يخلص منهم إلّامثل همل النعم.

أمّا بعد، فيقول أقلّ الخليقة عديم الإدراك وذميم الأخلاق حيدر علي الفيض آبادي، أعطاه اللَّه تعالي في الدنيا النفس اللّوامة وتجاوز عن جرائمه يوم القيامة، وبصّره بعيوب نفسه وجعل غده خيراً من أمسه، ابن صفوة الحفّاظ والعابدين الشيخ محمّد حسن، ابن قدوة العارفين الشيخ محمّد ذاكر، ابن اسوة الواصلين الشيخ عبدالقادر الدهلوي، ألطفهم اللَّه سبحانه بالإعادة وأكرمهم بالحسني وزيادة:

إنّ أحد الأصدقاء الأحباب، الذي طالما تألّم ليلًا ونهاراً ممّا آل إليه أمر الدين، وضاق صدره وارتعد قلبه واحترق كبده من رواج التشيّع المحدَث، قد تمكّن من الحصول علي رسالةٍ- لإمام المتشيّعين، نظام المتكلّمين، البحر المحيط للفهم والفطانة، والنهر العميق للفصاحة والبلاغة، رئيس العلماء الكبار سبحان علي خان، جنّبه اللَّه تعالي عن فساد اعتقاداته وبصّره اللَّه ببطلان خيالاته وهفواته، ألّفها بسنة سبع وأربعين ومائتين وألف من الهجرة النبويّة، في حديث اصيحابي- بواسطة بعض المؤمنين، وأطلعني عليها، وألحّ عليّ بأن أكتب ردّاً لها، فعزمت علي إنجاح مرامه عوناً لأهل الحق والإنصاف، وصوناً لعقائدهم عن الزيغ والإعتساف …

ولمّا كان هذا الكتاب، بحيث يقول كلّ من وقف عليه- موافقاً كان أو مخالفاً- إنّه قد بلغ النهاية القصوي في البحث، فقد سمّيته ب (منتهي الكلام)، ولمّا كان كلّ ورقةٍ من أوراقه مشتملًا علي تنبيه تعريضاً للمخالفين المعترضين علي حديث الحوض، الذين صدق عليهم قوله تعالي «وكنّا نخوض مع استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 70

الخائضين» فقد لقّبته ب (تنبيهات أهل الخوض لاعتراضهم علي حديث الحوض)».

ثمّ إنّه ذكر ثمان

مقدّمات، فقال في المقدّمة الثامنة:

«إنّه لمّا كان دأبي في المناظرة مع الشيعة، بعد التحقيق في الموضوع وإلزامهم بالحجّة، هو قلب تقريراتهم في الإستدلال، فقد خصصت المسلك الثاني- بعد الفراغ من الأوّل- لهذا الغرض، وفصلت في هذا المسلك بين كلامي وكلام المؤلّف بخطوطٍ لئلّا يقع الخلط، وجعلت بعض مطالب المؤلّف الخارجة عن الموضوع في الخاتمة.

فجاء الكتاب مشتملًا علي خاتمةٍ ومسلكين، أحدهما جوابي والآخر انقلابي».

هذا، وقد تعرّض في المسلك الأوّل- الجوابي- لمسائل مهمّة، كقضيّة صلاة أبي بكر بالناس بأمر من النبي في مرضه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم- فيما يروون-، وكونه معه في الغار ليلة الهجرة، وقضيّة تزوّج عمر بن الخطّاب بامّ كلثوم بنت أميرالمؤمنين عليه السلام- برضاً منه كما يزعمون-، وكان مقصوده من الأوليين إثبات فضيلة لأبي بكر، ومن الثالثة إنكار هجوم عمر علي بيت الزهراء الطاهرة عليها السلام ودفع الطعن عليه، ونفي الخصومة بينه وبين الإمام عليه السلام.

أقول:

ولكنّي قد أثبتُّ في رسالةٍ مفردةٍ مطبوعة: أنّ صلاة أبي بكرٍ تلك لم تكن بأمرٍ من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، بل إنّه لمّا علم بذلك خرج معتمداً علي الإمام علي ورجلٍ آخر، ورجلاه تخطّان في الأرض، وصلّي استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 71

بالناس وتنحّي أبوبكر … فلا فضيلة له في تلك القضيّة إنْ لم يكن العكس.

وأثبتُّ في رسالةٍ اخري مطبوعة: أنّ كلّ ما رواه القوم في كتبهم في زواج عمر بامّ كلثوم لا أساس له من الصحّة، وأمّا ما جاء في رواية أصحابنا- بناءً علي الأخذ به- فلا فائدة في الإستدلال به للخصم، بل يدلّ علي عكس المدّعي.

وأمّا قصّة الغار، فالرسائل المؤلّفة فيها من قبل علمائنا متعدّدة، فقد كتب فيها السيّد الشهيد التستري صاحب

كتاب (إحقاق الحق) والسيّد مير حامد حسين صاحب (استقصاء الإفحام) و (عبقات الأنوار) وكذا غيرهما من علماء الشيعة الكبار في بلاد الهند وغيرها … وإنّه ليكفي في هذه القضيّة أن نقول:

إنّه قد كان في ليلة الهجرة واقعتان، نزلت في كلّ منهما آية، إحداهما:

مبيت مولانا علي أميرالمؤمنين في فراش النبي صلّي اللَّه عليه وآله، والاخري:

خروج أبي بكر معه إلي الغار. أمّا في الاولي فنزلت الآية «ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات اللَّه» «1»

وأمّا في الثانية فنزلت الآية «ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إنّ اللَّه معنا» «2».

أمّا عن علي عليه السلام، فأخبر اللَّه عزّ وجلّ بأنّه قد «شري نفسه» ابتغاء مرضات اللَّه، وأمّا عن أبي بكر فأخبر عن حزنه ونهي النبي إيّاه … فكم فرق بين الحالين؟ ولذا ورد مباهاة اللَّه سبحانه بفعل عليّ في رواية

__________________________________________________

(1) سورة البقرة 2: 207.

(2) سورة التوبة 9: 40.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 72

الفريقين «1».

أمّا في المسلك الثاني- الإنقلابي- فقد حاول الفيض آبادي التهجّم علي الشيعة الإثني عشريّة في بعض عقائدها، والطعن في بعض كتبها، والكذب علي بعض علمائها.

فتعرّض لمسألة ولادة الإمام المهدي ابن الحسن العسكري عليهما السلام، ولمسألة البداء، ونسب إلي الشيعة القول بنقصان القرآن الكريم … وإلي السيّد المرتضي علم الهدي إنكار الميثاق …

وحاول الطعن في تفسير علي بن إبراهيم القمي، والتكلّم في كتاب سليم بن قيس الهلالي …

وهكذا في مسائل اخري …

ترجمة الفيض آبادي … ص: 72

وقد أثني صاحب كتاب (نزهة الخواطر) علي الفيض آبادي، ووصفه بألقابٍ ضخمة، وذكر كتابه (منتهي الكلام) في أوّل مؤلّفاته، وهذا نصّ عبارته:

«مولانا حيدر علي الفيض آبادي، الشيخ العالم الكبير العلّامة، حيدر علي بن محمّد حسن بن محمّد ذاكر بن

عبدالقادر، الدهلوي، الفيض آبادي.

أوحد المتكلّمين والنظار.

__________________________________________________

(1) الأمالي للشيخ الطوسي: 469/ ضمن الحديث 1031. تفسير الثعلبي 2: 125- 126، اسد الغابة 4/ 25 تفسير الرازي 3/ 222 والآية في سورة البقرة: 207.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 73

ولد ونشأ بفيض آباد، وقرأ العلم علي مرزا فتح علي والسيّد نجف علي والحكيم مير نوّاب، كلّهم كانوا من علماء الشيعة بفيض آباد. ثمّ سافر إلي دهلي وأخذ عن الشيخ رشيد الدين والشيخ رفيع الدين، واستفاض عن الشيخ عبدالعزيز بن وليّ اللَّه الدهلوي أيضاً، ولازمه زماناً، حتّي برع في كثير من العلوم والفنون، ثمّ قدم لكهنو وأقام بها مدّةً طويلة وجدّ في البحث والإشتغال، وأقبل علي الجدل والكلام، فصار أوحد زمانه، أقرّ بفضله الموافق والمخالف، ثمّ سار إلي بهوپال وأقام بها مدّةً، ثمّ سافر إلي حيدر آباد، فولّاه نوّاب مختار الملك العدل والقضاء، فاستقلّ به مدّة حياته مع اشتغاله بالتصنيف والتأليف.

ومن مصنّفاته: منتهي الكلام، في مجلّد كبير، وإزالة الغين عن بصارة العين، في ثلاث مجلّدات، ونضارة العينين عن شهادة الحسنين، وكاشف اللثام عن تدليس المجتهد القمقام، والداهية الحاطمة علي من أخرج من أهل البيت فاطمة، ورؤية الثعاليب والغرابيب في إنشاء المكاتيب، وكتابه في إثبات البيعة المرتضويّة، وكتابه في إثبات ازدواج عمر بن الخطّاب بسيّدتنا ام كلثوم بنت علي المرتضي، وله تكملة فتح العزيز، في مجلّدات كبار، صنّفها بأمر نوّاب سكندر بيكم ملكة بهوپال.

مات سنة 1299» «1».

وذكره خيرالدين الزركلي في (الأعلام) فقال:

«حيدر علي بن محمّد الفيض آبادي. متكلّم هندي، من فقهاء الحنفيّة، له تصانيف، منها: إزالة الغين. ط. تكملة لتفسير العزيزي، ومنتهي الكلام في __________________________________________________

(1) نزهة الخواطر 7/ 156 أعيان القرن 13 برقم 274.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1،

ص: 74

الردّ علي الشيعة قال صاحب الهدية: مجلّدان ضخمان» «1».

وقال عمر كحّالة:

«حيدر علي بن محمّد الفيض آبادي الهندي الحنفي، متكلّم فقيه. من آثاره: منتهي الكلام في الردّ علي الشيعة، في مجلّدين ضخمين، فرغ منه سنة 1250» «2».

وكذلك في (هدية العارفين 1/ 342).

استقصاء الإفحام للسيّد حامد حسين … ص: 74

وهذا الكتاب عنوانه الكامل (استقصاء الإفحام واستيفاء الإنتقام في نقض منتهي الكلام).

وكأنّ المؤلّف قد وضع عليه هذا الاسم ليشير إلي أنّ للبحث فيه جهتين، وأنّ له من تأليفه غرضين:

أحدهما: دفع الشبه والإعتراضات عن جملةٍ من العقائد، وردّ التُّهم عن بعض الأعلام، والتكلّم علي بعض الكتب المعروفة عند الإماميّة.

وعنوان (استقصاء الإفحام) ناظر إلي هذه الجهة.

والثاني: التحقيق عن موقع العلوم الإسلاميّة من علم العقائد والتفسير والحديث والفقه وعن حال مؤسّسيها، عند أهل السنّة، وبيان حال علمائهم وأشهر كتبهم المعتمدة في هذه العلوم.

__________________________________________________

(1) الأعلام 2/ 290.

(2) معجم المؤلفين 4/ 92.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 75

وعنوان (استيفاء الإنتقام) ناظر إلي هذه الجهة.

وبتعبير آخر، فإنّ هذا الكتاب قد الّف نقضاً لكتاب (منتهي الكلام) في كلا مسلكيه، الجوابي والإنقلابي، حسب تعبير الفيض آبادي.

إلّاأنّ مؤلّفه العلّامة الفذ الأجلّ، قد قدّم المسلك الثاني علي الأوّل، وقد ذكر السبب في ذلك بقوله:

«وقد كنت كتبت من النقض علي مقامات شتّي من المسلك الأوّل لهذا الكتاب، ما فيه نفع لأوام اولي الألباب وشفاء للأسقام والأوصاب، وغنية بإظهار الصواب ونضو الحجاب، وكنت لإتمامه وإنجازه صامداً ولتبييضه وإبرازه قاصداً.

ولكنْ ألفيت رغبات الناس إلي تقديم المسلك الثاني وافرة، وهممهم عن الصبر والإنتظار قاصرة، وأيضاً: وجدت صاحب الكتاب ومن اقتصّ أثره وحذا حذوه، يستصعبون نقض هذا المسلك غاية الإستصعاب، ويزعمونه ويحسبونه بالخصوم ممتنع الجواب، ويعدّون اجتياح جذمه من أنكر الأشياء وأعجب العجاب.

فخفت علي نفسي محاجزات الدهر

الكنود، ورابئت عوائق الزمن العنود، وأشفقت أنْ لا أبلغ إلي حمادي المقصود، ويحال بيني وبين الإتيان عليه كملًا واردع عمّا أرود، فيكون ذلك تصديقاً لظنونهم الخاسرة وتأييداً لما يلعج في صدورهم الواغرة.

فأشحت بوجهي عن التوجّه إلي المسلك الأوّل لعناني ثانياً، وقمت- بعون اللَّه- لنقض المسلك الثاني نصرةً لدينه غير متعتع ولا وانياً، ثمّ إذا وفّق اللَّه لاستيعاب جواب هذا المسلك وإتمامه وإبراز أثماره من أكمامه، سأنثني- إنْ شاء اللَّه- إلي إتمام نقض المسلك الأوّل وهدم جدرانه، ورضّ أركانه استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 76

وهصر فنونه وأغصانه، وعضب عروقه وأفنانه.

وإنْ حيل بيني وبين هذا المراد، واقتطعت عن هذه البغية وضربت دونها الأسداد، فليستدل الناظر بما في هذا المسلك الآخر من غرائب البوادر علي حقيقة ما في الأوّل من الوهن الظاهر، فإنّ الغرفة تنبئ عن الغدير والقزير يدلّ علي الغزير وأثر القدم علي المسير، فكيف لا يدلّ هذا التحرير والتقرير الكثير علي سقوط ما في المسلك الأوّل من إفادات المخاطب النحرير؟»

فهرس موضوعات استقصاء الإفحام … ص: 76

وقد خرج من المسلك الثاني مجلّدان.

* وبحوث المجلّد الأوّل هي:

مبحث تحريف القرآن مبحث البداء

مبحث التجسيم مطاعن أبي حنيفة

مبحث القياس والإستحسان كلام في مسألة الميثاق كلام في مسألة الصور

كلام في ردّ الشمس وشقّ القمر

مسألة العبث في الصّلاة

حول كتاب سليم بن قيس الهلالي مبحث إسلام آباء النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 77

كلام حول نسب عمرو بن العاص كلام حول حكم ولد الزنا وأنّه يدخل الجنّة أو لا؟

من قبائح مذهب الأشاعرة

الكلام في الصحاح الستّة وأصحابها

الكلام في مالك والشافعي * وأمّا المجلّد الثاني، فبحوثه هي:

الدفاع عن تفسير علي بن إبراهيم القمي الكلام في التفسير والمفسّرين عند القوم، ابتداءً بالصّحابة ثمّ

التابعين ثمّ من بعدهم … علي ضوء كتبهم، فأورد هنا دراسات جليلة عن الأعلام الأئمّة في التفسير عند أهل السنّة، وهم:

عبداللَّه بن مسعود

أبو موسي الأشعري عبداللَّه بن الزبير

أنس بن مالك أبو هريرة

عبداللَّه بن عمرو بن العاص مجاهد

عكرمة

الحسن البصري عطاء

أبو العالية

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 78

الضحّاك قتادة

زيد بن أسلم مرّة بن شراحيل سفيان بن عيينة

عبدالرزاق وجماعة غيرهم … إلي الفخر الرازي.

ثمّ تعرّض للتحقيق عن حديث الحوض ومفاده، وما ورد عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام في الصحابة.

***

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 79

ترجمة السيّد مير حامد حسين … ص: 79

نسبه … ص: 79

وهو: السيّد حامد حسين، ابن السيّد محمّد قلي، ابن السيّد محمّد حسين المعروف بالسيّد اللَّه كرم، ابن السيّد حامد حسين، ابن السيّد زين العابدين، ابن السيّد محمّد المعروف بالسيّد البولاقي، ابن السيّد محمّد المعروف بالسيّد مدا، ابن السيّد حسين المعروف بالسيّد ميئهر، ابن السيّد جعفر، ابن السيّد علي، ابن السيّد كبيرالدين، ابن السيّد شمس الدين، ابن السيّد جمال الدين، ابن السيّد شهاب الدين أبي المظفّر حسين الملقّب بسيّد السادات المعروف بالسيّد علاء الدين أعلي بزرك، ابن السيّد محمّد المعروف بالسيّد عزّ الدين، ابن السيّد شرف الدين أبي طالب المعروف بالسيّد الأشرف، ابن السيّد محمّد الملقّب بالمهدي المعروف بالسيّد محمّد المحروق، ابن حمزة بن علي بن أبي محمّد بن جعفر بن مهدي بن أبي طالب بن علي بن حمزة بن أبي القاسم حمزة، ابن الإمام أبي إبراهيم موسي الكاظم، ابن الإمام أبي عبداللَّه جعفر الصادق، ابن الإمام أبي جعفر محمّد الباقر، ابن الإمام أبي محمّد علي زين العابدين، ابن السبط الشهيد الإمام أبي عبداللَّه الحسين ابن أميرالمؤمنين صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين «1».

ولد في 4 محرّم الحرام سنة 1246، وتوفّي في 18

صفر سنة 1306.

__________________________________________________

(1) تكملة نجوم السماء 2/ 25 الفضل الجلي: 2 عن تذكرة ناصر الملّة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 80

اسرته … ص: 80

وهو من اسرةٍ عريقةٍ في العلم والفضيلة والجهاد، والدّفاع عن مذهب أهل البيت الطاهرين عليهم السلام.

قال شيخنا الحجّة الطهراني رحمه اللَّه: «إنّ هذا البيت الجليل من البيوت التي غمرها اللَّه برحمته، فقد صبّ سبحانه وتعالي علي أعلامه المواهب، وأمطر عليهم المؤهلات وأسبل عليهم القابليّات وغطّاهم بالإلهام، وأحاطهم بالتوفيق، فقد عرفوا قدر نعم اللَّه عليهم فلم يضيّعوها. بل كرّسوا حياتهم وبذلوا جهودهم وأفنوا أعمارهم في الذبّ عن حياض الدين، وسعوا سعياً حثيثاً في تشييد دعائم المذهب الجعفري، فخدماتهم للشرع الشريف وتفانيهم دون إعلان كلمة الحقّ غير قابلة للحدّ والإحصاء، ولذا وجب حقّهم علي جميع الشيعة الإماميّة ممّن عرف قدر نفسه واهتمّ لدينه ومذهبه … » «1».

وقد اشتهر من أعلام هذه الاسرة جماعة، ونحن نكتفي منهم بترجمته وترجمة والده السيّد محمّد قلي ونجله الكبير السيّد ناصر حسين.

والده السيّد محمّد قلي … ص: 80

ولد السيّد محمّد قلي يوم الإثنين، الخامس من شهر ذي القعدة، سنة 1188 في بلدة كنتور، وتتلمذ علي الإمام الأكبر السيّد دلدار علي النقوي، وله مصنّفات جليلة، من أشهرها ردوده علي أبوابٍ من كتاب (التحفة الإثني عشريّة) وأكثرها فائدةً (تشييد المطاعن) … وله (الفتوحات الحيدريّة في الردّ

__________________________________________________

(1) طبقات أعلام الشيعة- الكرام البررة 2/ 148.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 81

علي كتاب الصراط المستقيم لعبد الحيّ الدهلوي) و (الشعلة الجوّالة في الردّ علي الشوكة العمريّة، لرشيد الدين الدهلوي) و (الأجوبة الفاخرة في ردّ الأشاعرة) و (نفاق الشيخين بحكم أحاديث الصحيحين) و (تقريب الأفهام في تفسير آيات الأحكام) وله غير ذلك.

وهذه الكتب مذكورة له في كتاب (الذريعة إلي تصانيف الشيعة) وبترجمته في (نزهة الخواطر) إذ قال:

«الشيخ الفاضل المفتي محمّد قلي بن محمّد حسين بن حامد حسين بن زين العابدين الموسوي النيسابوري الشيعي

الكنتوري.

أحد الأفاضل المشهورين.

ولد سنة 1188، وقرأ العلم علي أساتذة لكهنو، ثمّ لازم السيّد دلدار علي بن محمّد معين النقوي النصيرآبادي المجتهد «1»، وأخذ عنه الفقه والاصول والحديث، ثمّ ولي الإفتاء ببلدة ميرت، فاستقلّ مدّةً من الزمان، وصنّف كتباً في الاصول والكلام …

مات لتسع خلون من محرّم سنة ستّين ومائتين وألف، كما في تذكرة

__________________________________________________

(1) هو: من أعاظم علماء الشيعة في عصره وكبار فحول علماء الهند، وهو الذي نشر عقائدالشيعة هناك، عبّر عنه الشيخ صاحب الجواهر بكلمات قلّما جاءت في حقّ أحد من الشيخ رحمه اللَّه ومن غيره، قرأ في الهند، وهاجر إلي العراق فحضر في كربلاء المقدّسة علي الوحيد البهبهاني وصاحب الرياض، والميرزا الشهرستاني، وفي النجف الأشرف علي السيّد بحر العلوم، ثمّ سافر إلي مشهد الرضا، فحضر هناك علي الشهيد السيّد محمّد مهدي بن هداية اللَّه الخراساني، ثمّ رجع إلي بلاده حاملًا الإجازات والشهادات الثمينة، وخلّف آثاراً جليلة في الفقه والاصول والفلسفة والكلام، وأولاداً علماء أبرار ستأتي تراجم بعضهم، ولد سنة 1166، وتوفّي سنة 1235. (ريحانة الأدب 4/ 230، أعلام الشيعة، الترجمة رقم 948)

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 82

العلماء» «1».

أساتذته … ص: 82

قرأ المقدّمات ومبادئ العلوم والكلام علي والده العلّامة.

وأخذ الفقه والاصول عن السيّد حسين «2» ابن السيّد دلدار علي.

والمعقول علي السيّد مرتضي «3» ابن السيّد محمّد ابن السيّد دلدار علي.

والأدب عن المفتي السيّد محمّد عبّاس «4».

وكلّ هؤلاء من أعاظم الوقت ومشاهير العصر.

كلمات العلماء في حقّه … ص: 82

1- قال الحجّة الأمين العاملي:

«كان من أكابر المتكلّمين الباحثين عن أسرار الديانة، والذابّين عن بيضة

__________________________________________________

(1) نزهة الخواطر 7/ 471- 472.

(2) من مشاهير علماء الشيعة في الهند، لقّب ب «سيّد العلماء» نشأ علي أبيه وإخوته، بلغ رتبة الاجتهاد في سنّ الشباب، نبغ نبوغاً باهراً وذاع صيته وقصده الطلّاب، وله مصنّفات ثمينة. ولد سنة 1211، وتوفّي سنة 1273، كما في أعلام الشيعة، الكرام البررة، الترجمة رقم 793.

(3) كان عارفاً بالعلوم العقليّة، وتوفّي شابّاً في حياة والده، وكان عالماً كاملًا أريباً. أمّا والده السيّد محمّد، فكان من كبار المجتهدين ومن أعاظم المتكلّمين، لقّب ب «سلطان العلماء». (أحسن الوديعة في تراجم علماء الشيعة 1/ 43، ريحانة الأدب في المعروفين بالكنية واللّقب، وغيرهما)

(4) هو العالم الشهير، أديب الهند الكبير، ذكره شيخنا بترجمة السيّد حسين النقوي من الكرام البررة في أعلام القرن الثالث بعد العشرة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 83

الشريعة وحوزة الدين الحنيف، علّامة نحريراً ماهراً بصناعة الكلام والجدل، محيطاً بالأخبار والآثار، واسع الإطلاع، كثير التتبع، دائم المطالعة، لم ير مثله في صناعة الكلام والإحاطة بالأخبار والآثار في عصره بل وقبل عصره بزمان طويل وبعد عصره حتّي اليوم.

ولو قلنا: إنّه لم ينبغ مثله في ذلك بين الإماميّة بعد عصر المفيد والمرتضي لم نكن مبالغين، يعلم ذلك من مطالعة كتاب (العبقات) وساعده علي ذلك ما في بلاده من حرّيّة الفكر والقول والتأليف والنشر، وقد طار صيته في الشرق والغرب

وأذعن لفضله عظماء العلماء.

وكان جامعاً لكثير من فنون العلم، متكلّماً، محدّثاً، رجاليّاً، أديباً، قضي عمره في الدرس والتصنيف والتأليف والمطالعة» «1».

2- وقال شيخنا الحجّة الطهراني:

«من أكابر متكلّمي الإماميّة وأعاظم علماء الشيعة المتبحّرين في أوليات هذا القرن، كان كثير التتبّع، واسع الاطّلاع والإحاطة بالآثار والأخبار والتراث الإسلامي، بلغ في ذلك مبلغاً لم يبلغه أحد من معاصريه ولا المتأخّرين عنه، بل ولا كثير من أعلام القرون السابقة، أفني عمره الشريف في البحث عن أسرار الديانة، والذبّ عن بيضة الإسلام، وحوزة الدين الحنيف، ولا أعهد في القرون المتأخّرة من جاهد جهاده وبذل في سبيل الحقائق الراهنة طارفه وتلاده، ولم تر عين الزمان في جميع الأمصار والأعصار مضاهياً له، في تتبّعه وكثرة اطّلاعه ودقّته وذكائه وشدّة حفظه وضبطه.

قال سيّدنا الحسن الصّدر في (التكملة): كان من أكابر المتكلّمين، وأعلام علماء الدين وأساطين المناظرين المجاهدين، بذل عمره في نصرة

__________________________________________________

(1) أعيان الشيعة 4/ 381.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 84

الدين وحماية شريعة سيّد المرسلين والأئمّة الهادين، بتحقيقات أنيقة وتدقيقات رشيقة، واحتجاجات برهانيّة، وإلزامات نبويّة، واستدلالات علويّة، ونقوض رضويّة، حتّي عاد الباب من (التحفة الإثني عشريّة) خطابات شعريّة وعبارات هنديّة تضحك منها البريّة، ولا عجب:

فالشبل من ذاك الهِزَبر وإنّما تلد الاسود الضاريات اسودا» «1»

3- وقال المحقّق الشيخ محمّد علي التبريزي:

«حجّة الإسلام والمسلمين، لسان الفقهاء والمجتهدين، ترجمان الحكماء والمتكلّمين، علّامة العصر مير حامد حسين، من ثقات وأركان علماء الإماميّة، ووجوه وأعيان فقهاء الإثني عشريّة، كان جامعاً للعلوم العقليّة والنقليّة، بل من آيات اللَّه وحجج الفرقة المحقّة، ومن مفاخر الشيعة بل الامّة الإسلاميّة، وبالأخص؛ فإنّه يعدّ من أسباب افتخار قرننا علي سائر القرون … » «2».

4- وقال العلّامة المحدّث القمّي:

«السيّد الأجل العلّامة والفاضل الورع

الفهّامة، الفقيه المتكلّم المحقّق والمفسّر المحدّث المدقّق، حجّة الإسلام والمسلمين آية اللَّه في العالمين، وناشر مذهب آبائه الطاهرين، السيف القاطع، والركن الدافع، والبحر الزاخر، والسحاب الماطر، الذي شهد بكثرة فضله العاكف والبادي، وارتوي من بحار علمه الضمآن والصّادي:

هو البحر لا بل دون ما علمه البحر هو البدر لا بل دون طلعته البدر

__________________________________________________

(1) أعلام الشيعة 1/ 347 بتلخيص.

(2) ريحانة الأدب في المعروفين بالكنية واللقب 3/ 432.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 85

هو النجم لا بل دونه النجم طلعة هو الدرّ لا بل دون منطقه الدرّ

هو العالم المشهور في العصر والذي به بين أرباب النُهي افتخر العصر

هو الكامل الأوصاف في العلم والتقي فطاب به في كلّ ما قطر الذكر

محاسنه جلّت عن الحصر وازدهي بأوصافه نظم القصائد والنثر

وبالجملة: فإنّ وجوده كان من آيات اللَّه وحجج الشيعة الإثني عشريّة، ومن طالع كتابه (العبقات) يعلم أنّه لم يصنّف علي هذا المنوال في الكلام- لاسيّما في مبحث الإمامة- من صدر الإسلام حتّي الآن … » «1».

5- وقال صاحب تكملة نجوم السماء:

«آية اللَّه في العالمين وحجّته علي الجاحدين، وارث علوم أوصياء خير البشر، المجدّد للمذهب الجعفري علي رأس المئة الثالثة عشر، مولانا ومولي الكونين المقتفي لآثار آبائه المصطفين، جناب السيّد حامد حسين، أعلي اللَّه مقامه وزاد في الخلد إكرامه.

بلغ في علوّ المرتبة وسموّ المنزلة مقاماً تقصر عقول العقلاء وألباب الألباء عن دركه، وتعجز أَلسنة البلغاء وقرائح الفصحاء عن بيان أيسر فضائله … » «2».

6- وقال صاحب المآثر والآثار:

«مير حامد حسين اللكهنوي، آية من الآيات الإلهيّة، وحجّة من حجج الشيعة الإثني عشريّة، جمع إلي الفقه التضلّع في علم الحديث والإحاطة بالأخبار والآثار وتراجم رجال الفريقين، فكان في ذلك المتفرّد بين الإماميّة،

__________________________________________________

(1) الفوائد

الرضويّة: 91- 92.

(2) تكملة نجوم السماء 2/ 24.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 86

وهو صاحب المقام المشهود، والموقف المشهور بين المسلمين في فنّ الكلام- ولاسيّما مبحث الإمامة- ومن وقف علي كتابه عبقات الأنوار عَلم أنّه لم يصنّف علي منواله في الشيعة من الأوّلين والآخرين … ومن الأمارات علي كونه مؤيّداً من عند اللَّه ظفره بكتاب الصواقع لنصر اللَّه الكابلي الذي انتحل الدهلوي كلّه … » «1».

7- وقال صاحب أحسن الوديعة:

«لسان الفقهاء والمجتهدين، وترجمان الحكماء والمتكلّمين، وسند المحدّثين مولانا السيّد حامد حسين … كان رحمه اللَّه من أكابر المتكلّمين الباحثين في الديانة، والذابّين عن بيضة الشريعة وحوزة الدين الحنيف، وقد طار صيته في الشرق والغرب، وأذعن بفضله صناديد العجم والعرب، وكان جامعاً لفنون العلم، واسع الإحاطة، كثير التتبّع، دائم المطالعة، محدّثاً رجاليّاً أديباً أريباً، وقد قضي عمره الشريف في التصنيف والتأليف، فيقال أنّه كتب بيمناه حتّي عجزت بكثرة العمل، فأضحي يكتب باليسري.

وله مكتبة كبيرة في لكهنو، وحيدة في كثرة العدد من صنوف الكتب، ولاسيّما كتب المخالفين.

وبالجملة، فهو في الديار الهنديّة سيّد المسلمين حقّاً وشيخ الإسلام صدقاً، وأهل عصره كلّهم مذعنون لعلوّ شأنه في الدين والسّيادة وحسن الإعتقاد وكثرة الإطّلاع وسعة الباع ولزوم طريقة السلف» «2».

__________________________________________________

(1) المآثر والآثار: 168.

(2) أحسن الوديعة في تراجم علماء الشيعة: 103.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 87

8- وقال كحّالة:

« … أمير، متكلّم، فقيه، أديب … » «1».

9- وقال صاحب نزهة الخواطر:

«ولد لأربع خلون من المحرّم سنة 1246 في «ميرته» حيث كان والده صدر الصدور، وقرأ عليه الكتب الإبتدائيّة المتداولة، ومات أبوه وله 15 سنة من العمر، فقرأ الأدب علي المولوي بركة علي السنّي والمفتي محمّد عبّاس اللّكهنوي، والعلوم العقليّة علي

السيّد مرتضي ابن المولوي سيّد محمّد، وكتب العلوم الشرعيّة علي السيّد محمّد بن دلدار علي وعلي السيّد حسين، وكان أكثر أخذه ودراسته علي الأخير، واشتغل بعد التحصيل بترتيب مؤلّفات والده وتصحيحها ومقابلتها بالاصول.

وبدأ بتأليف استقصاء الإفحام في الردّ علي منتهي الكلام للشيخ حيدر علي الفيض آبادي، وأكمل شوارق النصوص.

وسافر في سنة 1282 للحج والزيارة، واقتبس من الكتب النادرة في الحرمين، ورجع إلي الهند وانصرف إلي المطالعة والتأليف واقتناص الكتب النادرة، وكثير منها بخطّ مؤلّفيها من كلّ مكان وبكلّ طريق، وأنفق عليها الأموال الطائلة، حتّي اجتمع عنده عشرة آلاف من الكتب، منها ما جلبت من مصر والشام والبلاد البعيدة.

وكان بارعاً في الكلام والجدل، واسِع الاطّلاع، كثير المطالعة، سائل القلم، سريع التأليف، وقد أضني بنفسه في الكتابة والتأليف، حتّي اعترته الأمراض الكثيرة وضعفت قواه.

__________________________________________________

(1) معجم المؤلّفين 1/ 521 رقم 3897.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 88

وكان جلّ اشتغاله بالردّ علي أهل السنّة ومؤلّفات علمائهم وأئمّتهم، كالشيخ الإمام وليّ اللَّه الدهلوي وابنه الشيخ عبدالعزيز والشيخ حيدر علي الفيض آبادي وغيرهم.

ومن مؤلّفاته: استقصاء الإفحام، في مجلّدين ضخمين، وعبقات الأنوار، في ثلاثين جزءً، وشوارق النصوص، في خمسة أجزاء، وكشف المعضلات في حلّ المشكلات، وكتاب النجم الثاقب في مسألة الحاجب- في الفقه، والدرر السنيّة في المكاتيب والمنشآت العربيّة، وله غير ذلك من المؤلّفات.

مات في 18 صفر سنة 1306 في لكهنو، ودفن في حسينيّة العلّامة السيّد دلدار علي المجتهد» «1».

المكتبة الناصريّة … ص: 88

ومن آثار هذه الاسرة وخدماتهم للعلم والطائفة: المكتبة العظيمة التي خلّفتها في مدينة لكهنو، هذه المكتبة التي كانت كتب العلّامة السيّد محمّدقلي نواةً لها، ثمّ ضمّ إليها نجله السيّد حامد حسين كلّ ما حصل عنده من الكتب، ولاسيّما ما كان يفحص

عنه وحصل عليه في البلاد المختلفة من امّهات المصادر في مختلف العلوم والفنون لأجل كتابه (عبقات الأنوار)، ثمّ سعي نجله السيّد ناصر حسين في تطويرها وتوسعتها فاشتهرت بالمكتبة الناصريّة.

لقد كانت في زمن السيّد حامد حسين تحتوي علي ثلاثين ألف كتاب.

قال شيخنا الطهراني بترجمته: «وللمترجم خزانة كتب جليلة وحيدة في لكهنو بل في بلاد الهند، وهي إحدي مفاخر العالم الشيعي، جمعت ثلاثين __________________________________________________

(1) نزهة الخواطر 8/ 99- 100.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 89

ألف كتاب بين مخطوط ومطبوع، من نفائس الكتب وجلائل الآثار، ولاسيّما تصانيف أهل السنّة من المتقدّمين والمتأخّرين.

حدّثني شيخنا العلّامة الميرزا حسين النوري أنّ المترجم كتب إليه من لكهنو يطلب منه إرسال أحد الكتب إليه، فأجابه الاستاذ: بأنّه من العجيب خلوّ مكتبتكم من هذا الكتاب علي عظمها واحتوائها، فأجابه المترجم: بأنّ من المتيقّن لديَّ وجود عدّة نسخ من هذا الكتاب، ولكن التفتيش عنه والحصول عليه أمر يحتاج إلي متّسع من الوقت، والكتاب الذي ترسله إليّ يصلني قبل وقوفي علي الكتاب الذي هو في مكتبتي التي أسكنها، إنتهي.

فمن هذا يظهر عظم المكتبة واتّساعها.

وحدّثني بعض فضلاء الهند أنّ أحد أهل الفضل حاول تأليف فهرس لها وفشل في ذلك.

وقد أهدي إليّ بعض أجلّاء الأصدقاء صورة جانب واحد من جوانبها الأربع وهو كتب التفاسير، وقد زرناه فأدهشنا.

وبالجملة، فإنّ مكتبة هذا الإمام الكبير من أهمّ خزائن الكتب في الشرق» «1».

وقال السيّد محسن الأمين: «ومكتبته في لكهنو وحيدة في كثرة العدد من صنوف الكتب، ولاسيّما كتب غير الشيعة. ويناهز عدد كتبها الثلاثين ألفاً، مابين مطبوع ومخطوط … فيما كتبه الشيخ محمّد رضا الشبيبي في مجلّة العرفان ما صورته: من أهمّ خزائن الكتب الشرقيّة في عصرنا هذا، خزانة كتب المرحوم

السيّد حامد حسين اللكهنوي- نسبة إلي لكهنو من بلاد الهند-

__________________________________________________

(1) أعلام الشيعة، نقباء البشر 1/ 348.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 90

صاحب كتاب (عبقات الأنوار) الكبير في الإمامة، من ذوي العناية بالكتاب والتوفّر علي جمع الآثار، أنفق الأموال الطائلة علي نسخها ووراقتها، وفي كتابه (عبقات الأنوار) المطبوع في الهند ما يشهد علي ذلك.

وقد اشتملت خزانة كتبه علي الوف من المجلّدات، فيها كثير من نفائس المخطوطات القديمة» «1».

وفي (أحسن الوديعة) بترجمته: «وله مكتبة كبيرة في لكهنو وحيدة في كثرة العدد من صنوف الكتب، ولاسيّما كتب المخالفين».

وجاء في (صحيفة المكتبة) الصادرة عن مكتبة أميرالمؤمنين عليه السلام في النجف الأشرف، في ذكر المكتبات التي زارها العلّامة الحجّة المجاهد صاحب الغدير في مدينة لكهنو بالهند ما نصّه: «مكتبة الناصريّة العامّة، تزدهر هذه المكتبة العامرة بين الأوساط العلميّة وحواضر الثقافة في العالم الإسلامي بنفائسها الجمّة، ونوادرها الثمينة، وما تحوي خزانتها من الكتب الكثيرة في العلوم العالية من؛ الفقه واصوله، والتفسير، والحديث والكلام، والحكمة والفلسفة، والأخلاق، والتاريخ، واللغة، والأدب، إلي معاجم ومجاميع وموسوعات في الجغرافيا، والتراجم، والرجال، والدراية، والرواية.

وهي نتيجة فكرة ثلاثة من أبطال العلم والدين، جمعت يمين كلّ منهم قسماً من هذه الثروة الإسلاميّة الطائلة في حياته السعيدة، فأسدي بها إلي امّة القرآن الكريم خدمة كبيرة، تذكر وتشكر مع الأبد، ولم يكتف أولئك الفطاحل بذلك إلي أن وقف كلّ منهم ماله عليه وقفاً، فغدت يقضي بها كلّ عالم مأربه، ويسدّ بها كلّ ثقافي حاجته.

__________________________________________________

(1) أعيان الشيعة 4/ 381، بترجمة السيّد حامد حسين.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 91

وكانت النواة لها مكتبة السيّد محمّد قلي الموسوي … ثمّ حذا حذوه وضمّ كتبه إليها نجله القدوة والاسوة السيّد حامد حسين

… ثمّ شفعت تلك المكتبة بمكتبة شبله السيّد ناصر حسين.

وهذه المكتبة العامرة تسمّي باسمه، يناهز عدد كتبها اليوم ثلاثين ألفاً من المطبوع والمخطوط، يقوم بإدارة شؤونها شقيقا الفضيلة: السيّد محمّد سعيد العبقاتي، والزعيم المحنّك السيّد محمّد نصير العبقاتي، وقد شيّدت لها حين كنّا في تلكم الديار بهمّتهما القعساء بناية فخمة تقع في أهدء مكان، قد خصّصت لها الإدارة المحلّيّة لمتصرّفية لكهنو والإدارة المركزيّة للشؤون الثقافيّة للحكومة الهنديّة، منحة ماليّة سنويّة لإدارة شؤونها، وتسديد رواتب موظّفيها، وهي وإن كانت جلّ ذلك فضلًا عن الكلّ، إلّاأنّها مساعدة تحمد عليها وتقدّر».

ثمّ ذكر الكاتب أسماء نفائس من هذه الخزانة ممّا وقف عليه العلّامة الأميني وغيره.

وقال صاحب (نزهة الخواطر) بترجمته: «وسافر في سنة 1282 للحج والزيارة، واقتبس من الكتب النادرة في الحرمين، ورجع إلي الهند وانصرف إلي المطالعة والتأليف واقتناص الكتب النادرة، وكثير منها بخطّ مؤلّفيها، من كلّ مكان، وبكلّ طريق، وأنفق عليها الأموال الطائلة … ».

تصانيفه … ص: 91

قال شيخنا العلّامة الطهراني: «وله تصانيف جليلة نافعة، تموج بمياه التحقيق والتدقيق، وتوقف علي ما لهذا الحبر من المادّة الغزيرة، وتعلم الناس استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 92

بأنّه بحر طام لا ساحل له».

ومصنّفاته كثيرة ومتنوّعة، منها:

1- الذرائع في شرح الشرائع، في الفقه.

2- العضب البتّار في مبحث آية الغار.

3- الدرر السنيّة في المكاتيب والمنشآت العربيّة.

4- إفحام أهل المين في ردّ إزالة الغين.

5- كشف المعضلات في حلّ المشكلات.

6- شوارق النصوص في مناقب اللّصوص.

7- عبقات الأنوار في إمامة الأئمّة الأطهار، في الردّ علي الباب السابع من (التحفة الإثني عشريّة) وهو في الإمامة.

8- استقصاء الإفحام واستيفاء الإنتقام في نقض منتهي الكلام، وهو الكتاب الذي نقدّم له وتكلّمنا حوله.

قال المحقّق التبريزي:

«وقد صرّح بعض الأكابر ببلوغ مؤلّفاته

المائتين مجلّداً» «1».

وقال الشيخ الطهراني:

«الأمر العجيب أنّه ألّف هذه الكتب النفائس والموسوعات الكبار وهو لايكتب إلّابالحبر والقرطاس الإسلاميّين، لكثرة تقواه وتورّعه، وأمر تحرّزه عن صنائع غير المسلمين مشهور متواتر» «2».

__________________________________________________

(1) ريحانة الأدب 3/ 432.

(2) طبقات أعلام الشيعة- نقباء البشر في أعلام القرن الرابع عشر 1/ 347.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 93

أشهر مصنّفاته: … ص: 93

اشارة

وإنّ أشهر مصنّفاته وأهمّها وأوسعها هي الكتب الثلاثة الأخيرة، وخاصّةً كتاب (عبقات الأنوار) الذي لقّب به المؤلّف واشتهر ب (صاحب العبقات).

وقد ألّف كتاب (شوارق النصوص) ثمّ (العبقات) ثمّ كتاب (استقصاء الإفحام).

1- استقصاء الإفحام … ص: 93

أمّا كتاب (استقصاء الإفحام) فقد تقدّم التعريف به، وسنذكر فيما بعد عملنا فيه.

2- شوارق النصوص … ص: 93

وأمّا كتاب (شوارق النصوص) فقد تناول فيه ما رواه القوم في كتبهم في فضل المشايخ الثلاثة بالبحث والتحقيق في السند والدلالة، علي ضوء كلمات أئمّتهم في الجرح والتعديل، ونصوص عبارات عظمائهم في الحديث والكلام، فأثبت سقوط تلك الأحاديث عن درجة الإعتبار، وأنّه لا يجوز الإستناد إليها والإحتجاج بها في باب من الأبواب … وقد طبع هذا الكتاب في الآونة الأخيرة … وهو كتاب فريد في بابه …

3- عبقات الأنوار … ص: 93

وأمّا كتابه (عبقات الأنوار) فقد قال الميرزا أبوالفضل الطهراني:

« … عبقات الأنوار: تصنيف السيّد الجليل، المحدّث العالم العامل، نادرة الفلك وحسنة الهند، ومفخرة لكهنو وغرّة العصر، خاتم المتكلّمين، المولوي الأمير حامد حسين المعاصر الهندي اللّكهنوي قدّس سرّه وضوعف برّه، الذي استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 94

أعتقد أنّه لم يصنّف مثل هذا الكتاب المبارك منذ بداية تأسيس علم الكلام حتّي الآن في مذهب الشيعة، من حيث الإتقان في النقل، وكثرة الإطّلاع علي كلمات المخالفين، والإحاطة بالروايات الواردة من طرقهم في باب الفضائل.

فجزاه اللَّه عن آبائه الأماجد خير جزاء ولد عن والده، ووفّق خلفه الصالح لإتمام هذا الخير الناجح» «1».

وقال السيّد الأمين:

«عبقات الأنوار في إمامة الأئمّة الأطهار بالفارسيّة، لم يكتب مثله في بابه في السلف والخلف، وهو في الردّ علي باب الإمامة من (التحفة الإثني عشريّة) للشاه عبدالعزيز الدهلوي، فإنّ صاحب التحفة أنكر جملة من الأحاديث المثبتة إمامة أميرالمؤمنين عليه السلام، فأثبت المترجم تواتر كلّ واحد من تلك الأحاديث من كتب من تسمّوا بأهل السُّنّة.

وهذا الكتاب يدلّ علي طول باعه وسعة اطّلاعه، وهو في عدّة مجلّدات، منها مجلّد في حديث الطير … وقد طبعت هذه المجلّدات ببلاد الهند، وقرأت نبذاً من أحدها فوجدت مادّة غزيرة وبحراً طامياً، وعلمت

منه ما للمؤلّف من طول الباع وسعة الاطّلاع.

وحبّذا لو ينبري أحد لتعريبها وطبعها بالعربيّة، ولكن الهمم عند العرب خامدة … » «2».

وقال شيخنا الحجّة الطهراني:

__________________________________________________

(1) شفاء الصدور: 99- 100.

(2) أعيان الشيعة 4/ 381.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 95

«وهو أجلّ ما كتب في هذا الباب من صدر الإسلام إلي الآن» «1».

وقال أيضاً:

«هو من الكتب الكلاميّة التاريخيّة الرجاليّة، أتي فيه بما لا مزيد عليه لأحدٍ من قبله» «2».

وقال المحدّث الكبير الشيخ القمّي ما تعريبه:

«لم يؤلّف مثل كتاب (العبقات) من صدر الإسلام حتّي يومنا الحاضر، ولايكون ذلك لأحدٍ إلّابتوفيق وتأييد من اللَّه تعالي ورعاية من الحجّة عليه السلام» «3».

وقال المحقّق الشيخ محمّد علي التبريزي ما تعريبه:

«ويظهر لمن راجع كتاب (عبقات الأنوار) أنّه لم يتناول أحد منذ صدر الإسلام حتّي عصرنا الحاضر علم الكلام- لاسيّما باب الإمامة منه- علي هذا المنوال … وظاهر لكلّ متفطّن خبير أنّ هذه الإحاطة الواسعة لا تحصل لأحدٍ إلّا بتأييد من اللَّه تعالي وعناية من وليّ العصر عجّل اللَّه فرجه» «4».

وقال العلّامة الحجّة المجاهد الشيخ الأميني، في المؤلّفين في حديث الغدير:

«السيّد مير حامد حسين ابن السيّد محمّد قلي الموسوي الهندي اللكهنوي المتوفّي سنة 1306 عن 60 سنة. ذكر حديث الغدير وطرقه وتواتره ومفاده في مجلّدين ضخمين، في ألف وثمان صحائف، وهما من مجلّدات __________________________________________________

(1) أعلام الشيعة 1/ 348.

(2) مصفي المقال في مصنّفي علم الرجال: 149.

(3) هدية الأحباب في المعروفين بالكني والألقاب: 177، وانظر الفوائد الرضويّة: 91- 92.

(4) ريحانة الأدب في المعروفين بالكنية واللقب 3/ 432.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 96

كتابه الكبير (العبقات).

وهذا السيّد الطاهر العظيم- كوالده المقدّس- سيف من سيوف اللَّه المشهورة علي أعدائه، وراية ظفر الحقّ والدين، وآية كبري

من آيات اللَّه سبحانه، قد أتمّ به الحجّة وأوضح المحجّة.

وأمّا كتابه (العبقات) فقد فاح أريجه بين لابتي العالم، وطبّق حديثه المشرق والمغرب، وقد عرف من وقف عليه أنّه ذلك الكتاب المعجز المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وقد استفدنا كثيراً من علومه المودعة في هذا السفر القيّم، فله ولوالده الطاهر منّا الشكر المتواصل، ومن اللَّه تعالي لهما أجزل الاجور» «1».

أقول:

والحمد للَّه الذي وفّقني لتأليف كتاب (نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار) وإخراجه للناس في 20 مجلّداً، فمجلّد في سبع آيات وهي:

آية الولاية، وآية التطهير، وآية المودّة، وآية المباهلة، وآية الإنذار، والآية:

وقفوهم إنهم مسؤولون، والآية: السّابقون السّابقون.

وتسعة عشر مجلّداً في الأحاديث، وهي: حديث الغدير، وحديث المنزلة، وحديث الطير، وحديث مدينة العلم، وحديث النور، وحديث السفينة، وحديث التشبيه، وحديث الثقلين.

التقاريظ علي كتبه … ص: 96

ولمّا وصلت كتب السيّد ميرحامد حسين إلي الأقطار الإسلاميّة

__________________________________________________

(1) الغدير في الكتاب والسنّة والأدب 1/ 156.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 97

والعواصم العلميّة فيها، كالنجف الأشرف، واطّلع عليها كبار الفقهاء، ووقف عليها رجالات الحديث والكلام والعلماء الأعلام في سائر العلوم، أكبروها غاية الإكبار، وأثنوا عليها وعلي مؤلّفها العظيم الثناء البالغ الجليل، وأرسلوا إلي السيّد المؤلّف ونجله رسائل التقريظ والتبجيل، شاكرين اللَّه تعالي علي هذه النعم ومعبّرين عن غاية سرورهم واعتزازهم بهذه الموهبة.

وقد جمعت نصوص تلك التقاريظ في كتاب سمّي ب (سواطع الأنوار في تقاريظ عبقات الأنوار)، ونحن نكتفي بذكر نصوص بعضها:

(1)

تقريظ سيّد الطائفة في عصره المجدّد السيّد الميرزا الشيرازي «1»

بسم اللَّه الرحمن الرحيم الحمد للَّه الذي أبدع بقدرته علي وفق إرادته فطرة الخليقة، وكلّاً بحسب قابليّته ما يليق به من صبغة الحقيقة، فعلّم آدم الأسماء، واصطفي أكابر ذرّيّته، وخلّص صفوته للبحث عن حقائق الأشياء،

والاطّلاع علي ما في بطون الأنبياء فألهمهم علوم حقائقه، وأعلمهم نوادر دقائقه، وجعلهم مواضع ودائع أسراره، وطالع طوالع أنواره، فاستنبطوا وأفادوا، واستوضحوا وأجادوا، والصلاة

__________________________________________________

(1) هو السيّد الميرزا محمّد حسن الشيرازي النجفي، أعظم علماء عصره وأشهرهم، وأعلي مراجع الإماميّة في الأقطار الإسلاميّة في زمانه، حضر علي الشيخ محمّد تقي صاحب حاشية (المعالم) والسيّد حسن المدرّس، والشيخ محمّد إبراهيم الكلباسي في أصفهان، وفي النجف الأشرف علي الشيخ صاحب (الجواهر)، والشيخ الأنصاري، والشيخ حسن آل كاشف الغطاء، وكان أيّام زعامته مقيماً في سامراء المشرّفة، وقصّة (التنباك) وفتواه بتحريمه مشهورة.

ولد سنة 1230 وتوفّي سنة 1312. (أعلام الشيعة)

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 98

والسلام علي من حبّه خير وأبقي، وآله الذين من تمسّك بهم فقد استمسك بالعروة الوثقي.

أمّا بعد: فلمّا وقفت بتأييد اللَّه تعالي وحسن توفيقه علي تصانيف ذي الفضل الغزير، والقدر الخطير، والفاضل النحرير، والفائق التحرير، والرائق التعبير، العديم النظير، المولوي السيّد حامد حسين، أيّده اللَّه في الدارين، وطيّب بنشر الفضائل أنفاسه، وأذكي في ظلمات الجهل من نور العلم نبراسه.

رأيت مطالب عالية، تفوق روائح تحقيقها الغالية، عباراتها الوافية دليل الخبرة، وإشاراتها الشافية محلّ العبرة، وكيف لا؟ وهي من عيون الأفكار الصافية مخرجة، ومن خلاصة الإخلاص منتجة، هكذا هكذا وإلّا فلا، العلم نورٌ يقذفه اللَّه في قلب من يشاء من الأخيار، وفي الحقيقة أفتخر كلّ الافتخار، ومن دوام العزم، وكمال الحزم، وثبات القدم، وصرف الهمم- في إثبات حقّيّة أهل بيت الرسالة بأوضح مقالة- أغار، فإنّه نعمة عظمي وموهبة كبري، ذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء.

أسأل اللَّه أن يديمه لإحياء الدين ولحفظ شريعة خاتم النبيّين صلوات اللَّه عليه وآله أجمعين.

فليس حياة الدين بالسيف والقنا فأقلام أهل العلم أمضي من السيف

والحمد للَّه علي أنّ قلمه الشريف ماضٍ نافع، ولألسنة أهل الخلاف حسام قاطع، وتلك نعمة منّ اللَّه بها عليه، وموهبة ساقها إليه.

وإنّي وإنْ كنت أعلم أنّ الباطل فاتح فاه من الحنق، إلّاأنّ الذوات المقدّسة لايبالون في إعلاء كلمة الحق، فأين الخشب المسنّدة من الجنود المجنّدة، وأين ظلال الضلالة من البدر الأنور، وظلام الجهالة من استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 99

الكوكب الأزهر.

أسأل اللَّه ظهور الحق علي يديه، وتأييده من لديه، وأن يجعله موفّقاً منصوراً مظفّراً مشكوراً، وجزاه اللَّه عن الإسلام خيراً.

والرجاء منه الدعاء مدي الأيّام، بحسن العاقبة والختام، والسلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته.

حرّره الأحقر محمّد حسن الحسيني في ذي الحجّة الحرام سنة 1301

(الختم المبارك)

(2)

تقريظ خاتمة المحدّثين الميرزا حسين النوري «1»

بسم اللَّه الرحمن الرحيم الحمد للَّه الذي خصّنا من بين الفرق بالفلج، وأيّدنا ما دونهم بأوضح الحجج، والصلاة علي من اصطفاه لدين قيّم غير ذي عوج، وعلي آله الذين نشروا لواء الحقّ ولو بسفك المهج، وأحضوا علي العلم ولو بخوض اللجج، عجّل اللَّه لهم النصر والفرج، وصلّي اللَّه عليهم ما مدحت الثغور بالبلج، ووصفت الحواجب بالزجج.

__________________________________________________

(1) هو إمام أئمّة الحديث والرجال في الأعصار المتأخّرة، مؤلّفاته تربو علي العشرين، أشهرها وأهمّها (المستدرك) استدرك فيه علي كتاب (وسائل الشيعة) وهو أحد المجاميع الثلاثة المتأخّرة، في ثلاث مجلّدات كبار تشتمل علي زهاء (23000) حديث، وقد ختمها بخاتمة ذات فوائد جليلة، وله في بعض مؤلّفاته آراء لم يوافقه عليها سائر العلماء. ولد سنة 1254 وتوفّي سنة 1320. (أعلام الشيعة)

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 100

وبعد: فإنّ العلم مشرع سلسال لكن علي أرجائه ضلال، وروض مسلوف لكن دونه قلل الجبال دونهنّ حتوف، وإنّ من أجلّ من اقتحم موارده، وارتاد آنسه وشارده،

وعاف في طلابه الرّاحة، ورأي في اجتلاء أنواره مروحة وراحة، حتّي فاز منه بالخصل، بل وأدرك الفرع منه والأصل؛ السّد السديد، والركن الشديد، سبّاح عيالم التحقيق، سيّاح عوالم التدقيق، خادم حديث أهل البيت، ومن لا يشقّ غباره الأعوجي الكميت، ولا يحكم عليه لو ولا كيت، سائق الفضل وقائده وأميرالحديث ورائده، ناشر ألوية الكلام، وعامر أندية الإسلام، منار الشيعة، مدار الشريعة، يافعة المتكلّمين، وخاتمة المحدّثين، وجه العصابة وثبتها، وسيّد الطائفة وثقتها، المعروف بطنطنة الفضل بين ولايتي المشرقين، سيّدنا الأجل حامد حسين، لا زالت الرواة تحدّث من صحاح مفاخره بالأسانيد ممّا تواتر من مستفيض فضله المسلسل كلّ معتبر عال الأسانيد.

ولعمري، لقد وفي حقّ العلم بحقّ براعته، ونشر حديث الإسلام بصدق لسان يراعته، وبذل من جهده في إقامة الأودٍ، وإبانة الرشد ما يقصر دونه العيوق فأنّي يدرك شأوه المسح السابح السبوق!!

فتلك كتبه قد حبت الظلام وجلت الأيّام، وزيّنت الصدور وأخجلت المدور، ففيها (عبقات) أنوار اليقين و (استقصاء) شاف في تقدير نزهة المؤمنين، وظرائف طرف في إيضاح خصائص الإرشاد هي غاية المرام من مقتضب الأركان، وعمدة وافية في إبانة نهج الحقّ لمسترشد الصراط المستقيم إلي عماد الإسلام ونهج الإيمان، وصوارم في استيفاء إحقاق الحقّ هي مصائب النواصب، ومنهاج كرامة كم له في إثبات الوصيّة بولاية الإنصاف من مستدرك استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 101

مناقب، ولوامع كافية لبصائر الانس في شرح الأخبار تلوح منها أنوار الملكوت، ورياض مونقة في كفاية الخصام من أنوارها المزرية بالدرّ النظيم تفوح منها نفحات اللاهوت.

فجزاه اللَّه عن آبائه الأماجد خير ما جزي به ولداً عن والد، وأيّد اللَّه أقلامه في رفع الأستار عن وجه الحقّ والصواب، وأعلي ذكره في الدين ما شهد ببارع

فضله القلم والكتاب، وملأت بفضائله صدور المهارق وبطون الدفاتر، ونطقت بمكارمه ألسنة الأقلام وأفواه المحابر.

آمين آمين لا أرضي بواحدة حتّي اضيف إليها ألف آمينا

وصلّي اللَّه عليه سيّدنا محمّد والميامين من عترته وسلّم تسليماً.

كتب بيمناه الدائرة الخاثرة العبد المذنب المسي ء حسين بن محمّد تقي النوري الطبرسي.

في ليلة الثاني عشر من شهر الصيام في الناحية المقدّسة سرّ من رأي- سنة 1303 حامداً مصلّياً

(3)

تقريظ الفقيه الكبير الشيخ زين العابدين المازندراني الحائري «1»

« … چون متدرّجاً مجلّدات كتب مؤلّفات و مصنّفات آن جناب سامي __________________________________________________

(1) من كبار الفقهاء ومراجع التقليد، درس في النجف الأشرف ثمّ انتقل إلي كربلاء المقدّسة واشتغل بالتدريس والتصنيف حتّي توفّي في 16 ذي القعدة سنة 1309 ودفن في الصحن الحسيني الشريف.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 102

صفات- كه عبارت از (استقصاء الإفحام) و (عبقات) بوده باشد- در اين صفحات به دست علماء و فضلاي اين عتبات عرش درجات ملحوظ و مشاهد افتاد، به أضعاف مضاعف آنچه شنيده مي شد ديده شد «كتابٌ احكمت آياته ثمّ فصّلت من لدن حكيم خبير» از صفحاتش نمودار «كتاب مرقوم* يشهده المقرّبون» از أوراقش پديدار، از عناوينش «آياتٌ محكمات هنّ امّ الكتاب» پيدا، و از مضامينش «هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنّما هو إله واحد وليذّكّر أُولوا الألباب» هويدا، از فصولش عالمي را تاج تشيّع و استبصار بر سر نهاده، و از ابوابش به سوي «جنّاتُ عدنٍ تجري من تحتها الأنهار» بابها گشاده، كلماتش «وجعلناها رجوماً للشياطين» كلامش «ألا لعنة اللَّه علي الظالمين» مفاهيمش «ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنّه لكم عدوٌّ مبين» مضامينش در لسان حال أعداء «يا ليت بيني وبينك بُعد المشرقين

فبئس القرين» دلائلش «هذا بيان للناس وهدي وموعظة للمتّقين» براهينش «كتاب انزل إليك فلا يكن في صدرك حرجٌ منه لتنذر به وذكري للمؤمنين».

براي دفع يأجوج و مأجوج مخالفين دين مبين سدّي است متين، و از جهت قلع و قمع زمره معاندين مذهب و آئين چون تيغ أميرالمؤمنين، سيمرغ سريع النقل عقل از طيران به سوي شرف اخبارش عاجز، هماي تيزپاي خيال از وصول به سوي غرف آثارش قاصر. كتبي به اين لياقت و متانت و اتقان تا الآن از بنان تحرير نحريري سر نزده، و تصنيفي در اثبات حقّيّت مذهب و ايقان تا اين روز ظاهر نگشته.

از (عبقاتش) رائحه تحقيق وزان، و از (استقصايش) استقصا بر جميع استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 103

دلائل قوم عيان، وللَّه درّ مؤلّفها ومصنّفها:

«أكان للناس عجباً أن أوحينا إلي رجل منهم أن أنذر الناس وبشّر الذين آمنوا أنّ لهم قَدم صدقٍ عند ربّهم قال الكافرون إنّ هذا لساحرٌ مبين».

ولده السيّد ناصر حسين … ص: 103

ولد في 19 جمادي الثانية سنة 1284، وقرأ العلوم علي والده العلّامة والمفتي محمّد عبّاس وغيرهما من الأعلام، وله تصانيف كثيرة ومتنوّعة.

* قال السيّد محسن الأمين العاملي:

«إمام في الرجال والحديث، واسع التتبّع، كثير الإطّلاع، قوي الحافظة، لا يكاد يسأله أحد عن مطلب إلّاويحيله إلي مظانّه من الكتب مع الإشارة إلي عدد الصفحات، وكان أحد الأساطين والمراجع في الهند، وله وقار وهيبة في قلوب العامّة، واستبداد في الرأي ومواظبة علي العبادات، وهو معروف بالأدب والعربيّة معدود من أساتذتهما وإليه يرجع في مشكلاتهما، وخطبه مشتملة علي عبارات جزلة وألفاظ مستطرفة، وله شعر جيّد» «1».

* وقال العلّامة المحدّث القمّي- في ذيل ترجمة السيّد حامد حسين- ما تعريبه:

«وجناب السيّد مير ناصر حسين خلفه

في جميع الملكات والآثار، ووارث ذاك البحر الزخّار، وهو مصداق قوله:

إنّ السري إذا سري فبنفسه وابن السرّي إذا سري أسراهما

ولم يترك جهود والده تذهب سُدي، بل اشتغل بتتميم عبقات الأنوار

__________________________________________________

(1) أعيان الشيعة 10/ 201.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 104

وأخرج إلي البياض حتّي الآن عدّة مجلّدات وطبعت، أدام الباري بركات وجوده الشريف وأعانه لنصرة الدين الحنيف» «1».

* وقال المحقّق العلّامة الشيخ التبريزي ما تعريبه ملخصاً:

«السيّد ناصر حسين الملّقب ب «شمس العلماء» كان عالماً متبحّراً، فقيهاً اصوليّاً، محدّثاً رجاليّاً، كثير التتبّع واسع الاطّلاع، دائم المطالعة، من أعاظم علماء الإماميّة في الهند والمرجع في الفتيا لأهالي تلك البلاد» «2».

* وقال المحقّق الشيخ محمّد هادي الأميني:

«إمام في الفقه والحديث والرجال والأدب» «3».

* وقال العلّامة السيّد محمّد مهدي الأصفهاني:

«شمس العلماء السيّد ناصر حسين، عارف بالرجال والحديث، واسع التتبّع، كثير الاطّلاع، دائم المطالعة، وهو أحد مراجع أهالي الهند، ولد سلّمه اللَّه في 19 جمادي الثانية 1284» «4».

* وقال العلّامة السيّد مرتضي حسين اللاهوري:

«هذا السيّد العظيم شبل من ذاك الأسد، آية من آيات اللَّه، قد أتمّ به الحجّة وأوضح المحجّة، كان فقيهاً محدّثاً رجالياً متضلّعاً، أديباً متطلّعاً، خطيباً مفوّهاً عالي الهمّة، نبيه المنزلة، واسع العطاء، كريم الأخلاق، ليّن الجانب، ذا فكرة وقّادة، حصيف الرأي، مرجع الامور، نافذ الأمر، ومع أعمال المرجعيّة وأشغاله الكثيرة كان ضابطاً للأوقات، مثابراً علي التحقيق والبحث، عاكفاً علي __________________________________________________

(1) هدية الأحباب: 177.

(2) ريحانة الأدب 4/ 144- 145.

(3) معجم رجال الفكر والأدب: 390.

(4) أحسن الوديعة: 104.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 105

التصنيف والتأليف، حتّي في أضيق الأحوال والمرض والأسقام، يروح ويغدو دائماً في المكتبة ويجلس طول النهار، فكتب وأكثر وصنّف وأفاض، فأتمّ قسماً هامّاً من تأليف

عبقات الأنوار، ونشر كتب والده، ووسّع في المكتبة، إلي أن صارت تلك الخزانة من أكبر خزائن الكتب للشيعة وأشهرها في العالم» «1».

بين السيّد حامد حسين والمولوي الفيض آبادي … ص: 105

ولم يقتصر الردّ والإيراد بين السيّد حامد حسين والمولوي فيض آبادي علي الكتابين (منتهي الكلام) و (استقصاء الإفحام).

فلقد ردّ السيّد علي كتاب (إزالة الغين) للفيض آبادي، بكتاب (إفحام أهل المين).

كما حاول الفيض آبادي أنْ يكتب ردّاً علي كتاب (عبقات الأنوار)، واستعان لذلك ببعض كبار العلماء، إلّاأنّه قد فشل، وهذا ما جاء في كتاب (نزهة الخواطر) بترجمة المولوي السهسواني، إذ قال:

«مولانا أمير حسن السهسواني، الشيخ الفاضل العلّامة حسن بن لياقت علي بن حافظ علي بن نور الحق، الحسيني السهسواني.

أحد العلماء المشهورين بالفضل والكمال.

ولد سنة 1247 ببلدة سهسوان، قرأ بعض الكتب الدرسيّة … فدرّس وأفاد مدّةً من الزمان … وكان غايةً في سرعة الحفظ وقوّة الإدراك والفهم وبطوء النسيان، حتّي قال غير واحد من العلماء: إنّه لم يكن يحفظ شيئاً فينساه.

__________________________________________________

(1) الفضل الجلي. طبع بمقدّمة كتاب تشييد المطاعن.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 106

وكان له يد بيضاء في معرفة النحو واللغة، واصول الفقه، والكلام، والجدل، والرجال وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم، وسائر فنون الحديث واختلاف المذاهب.

وكان فيه زهد وقناعة باليسير في الملبس والمأكل، يقوم بمصالحه ولا يقبل الخدمة في غالب الأوقات لئلّا يفوته خدمة العلم.

وإنّي سمعت بعض الفضلاء يقول: إنّ مولانا حيدر علي الفيض آبادي استقدمه إلي حيدر آباد ورتّب له ثلاثمائة ربيّة شهرياً يعينه في الرد علي عبقات الأنوار، لأنّ أوقاته لا تفرغ لذلك، لكثرة الخدمات السلطانيّة، فأبي قبوله وقال:

إنّي لا أرضي بأنْ احتمل همّ ثلاثمائة ربيّة، أين أضعها؟ وفيم أبذلها؟ قال:

وكان مولانا حيدر علي يصنّف الكتب ويدرّس، فلمّا رحل إلي حيدر آباد وولي الخدمة

الجليلة تأخّر عن ذلك حتّي احتاج إلي أنْ يولي غيره أمر التصنيف، فإنّي لا اريد أن اضيّع العلم بالمال، إنتهي.

وللسيّد أمير حسن تعليقات علي طبيعيّات الشفا، وله رسالة في إثبات الحق، ورسالة في الرد علي الشيعة، ورسائل اخري لم تشتهر باسمه.

وكان لا يقلّد أحداً من الأئمّة الأربعة، بل يتتبّع النصوص ويعمل بالكتاب والسنّة.

مات يوم الإثنين لإحدي عشرة خلون من صفر سنة 1291» «1».

***__________________________________________________

(1) نزهة الخواطر 7/ 81- 82.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 107

عملنا في الكتاب … ص: 107

إنّه قد علم ممّا تقدّم: إنّ كتاب (استقصاء الإفحام) يحتوي علي قضايا مهمّة ومسائل أساسيّة، ففيه بحثٌ قرآني علي ضوء روايات القوم في كيفيّة جمع القرآن وما ورد عن عثمان وغيره حوله، وهو بحثٌ لا يوجد في أيّ كتابٍ قبله.

وكذا تحقيقه في القول بالتجسيم ومسألة البداء، وغيرهما من البحوث الإعتقاديّة …

ثمّ دراسته للكتب والمؤلّفين، فهو يدافع عن كتاب سليم بن قيس الهلالي ويثبت اعتباره، ويناقش اعتبار الصحاح الستّة وأحوال مؤلّفيها، وكذلك يدافع عن تفسير علي بن إبراهيم القمي، ثمّ يتعرّض لطبقات المفسّرين وكتب التفسير عند أهل السنّة وينظر في أحوالها علي ضوء ما جاء في كتب القوم.

وما يذكره حول عقائد أبي حنيفة وأخذه بالقياس، وما قيل فيه وفي مالك والشافعي وغيرهم من أئمّة الفقه … ممّا يتبيّن امتياز مذهب الإماميّة الآخذين فقههم عن أهل البيت عليهم السلام عن المذاهب الاخري …

فهذه بحوثٌ ودراسات … ونقود وردود … قد اجتمعت في هذا الكتاب، وكثير منها- إنْ لم نقل كلّها- ممّا تفرّد به السيّد المؤلّف، ولم يسبقه إليها غيره.

التعريب: ولمّا كان الكتاب باللّغة الفارسيّة، فقد قمنا بتعريب مطالبه ونقلها إلي العربيّة، لكن الترجمة ليست حرفيّةً وإنْ حاولنا ذلك قدر الإمكان.

استخراج المرام من

استقصاء الافحام، ج 1، ص: 108

التلخيص: وقد لخّصنا المطالب، بحذف المكرّر وإسقاط ما لا دخل له فيه، فهو تلخيص دقيق لا يفوّت شيئاً من فوائد الكتاب ولا يخلّ بالمقصود.

التنسيق: وبذلنا الجهد الكبير للتنسيق بين المواضيع، لأنّها كانت متشتّتةً جدّاً، بسبب أنّ كثيراً منها أو كلّها إنّما جري علي قلم الفيض آبادي بصورة الجمل المعترضة، فاهتمّ السيّد المؤلّف بذلك ولم يسكت عنه، بل فصّل الكلام في موضعه، ومن الطبيعي حينئذٍ أن ينقطع الكلام وينفصل بعضه عن البعض … فجمعنا كلّ بحثٍ في مكانٍ واحدٍ تحت عنوانٍ يخصّه، ليصل القارئ إلي النتيجة المطلوبة منه بسهولة.

وأيضاً، فقد حاولنا التنسيق بين المطالب من الناحية الموضوعيّة، من البحوث الإعتقاديّة والفقهيّة، والتفسيريّة، والحديثيّة، وجعلنا بحوثاً في المجلّد الأخير تحت عنوان الملحقات …

الإضافة والتعليق: ثمّ أضفنا إلي مطالب الكتاب- في بعض فصوله- ما رأينا من الضروري إضافته تكميلًا للبحث، كما علّقنا علي مواضع منه في داخله بقدر الحاجة وفي النيّة التعليق في الهامش علي كلّ الكتاب في الطبعة اللّاحقة بعد مراجعته وتكميل نواقصه وتصحيح أخطائه إن شاء اللَّه تعالي

التحقيق: وقد وثّقنا النصوص المنقولة في الكتاب، وأرجعناها إلي المصادر بعد تطبيقها عليها بقدر الإمكان.

وقد سمّينا هذا المجهود باسم (استخراج المرام من استقصاء الإفحام).

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 109

الباب الأوّل: مسائل اعتقاديّة … ص: 109

اشارة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 111

الصحيحان أصحُّ من القرآن؟ … ص: 111

اشارة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 113

القرآن الكريم كلام اللَّه عزّوجل …

والأخبار الواردة عن النبي وآله الأطهار في تلاوته وحفظه والعمل به والرجوع إليه … كثيرة جدّاً، ولا خلاف بين العلماء في وجوب تعظيمه بكلّ أنحاء التعظيم وحرمة إهانته مطلقاً، وذلك مذكور في محلّه من الفقه الشيعي.

وقد أفتي الأعاظم من علماء الإماميّة بأنّ القرآن الكريم لم يقع فيه أيّ نقصٍ في سوره وآياته، معرضين عن الروايات الواردة في بعض كتبهم الظاهرة في ذلك، لكون أكثرها ضعيفاً في السّند، وأنّ القليل المعتبر فيها معارض بما هو أقوي دلالةً وسنداً وأكثر عدداً … لاسيّما وأنّه قد تقرّر أن ليس عند جمهور الطائفة الإماميّة الإثني عشريّة كتابٌ صحيحٌ من أوّله إلي آخره، فضلًا عن أن يقولوا بقطعيّة صدور جميع ألفاظه عن النبي والأئمّة عليهم الصّلاة والسلام …

أمّا أهل السنّة، فجمهورهم علي القول بصحّة ما اخرج في كتابي البخاري ومسلم المعروفين بالصحيحين.

بل إنّ كثيراً من المحقّقين منهم ذهبوا إلي أنّ جميع ألفاظ هذين الكتابين مقطوعة الصدور، وهذه كلمات كبار علمائهم تنادي بهذا المعني:

قال السيوطي: «وذكر الشيخ- يعني ابن الصّلاح-: إن ما روياه أو أحدهما فهو مقطوع بصحّته والعلم القطعي حاصل فيه، خلافاً لمن نفي ذلك.

قال البلقيني: نقل بعض الحفاظ المتأخّرين مثل قول ابن الصّلاح عن جماعةٍ من الشافعيّة كأبي إسحاق وأبي حامد الإسفرانيين والقاضي أبي الطيّب استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 114

والشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وعن السرخسي والزاغوني من الحنابلة، وابن فورك وأكثر أهل الكلام من الأشعريّة، وأهل الحديث قاطبة، ومذهب السلف عامّة. بل بالغ ابن طاهر المقدسي في صفوة التصوّف فألحق به ما كان علي شرطهما وإنْ

لم يخرجاه.

وقال ابن كثير: وأنا مع ابن الصلاح فيما عوّل عليه وأرشد إليه.

قال السيوطي: قلت: وهو الذي أختاره ولا أعتقد سواه «1».

إلّاأنّ في نفس هذين الكتابين وكذا في سائر كتبهم من الصحاح والمسانيد والمعاجم المشهورة، رواياتٍ وآثاراً كثيرة، عن جمعٍ كبير من كبار الصّحابة وأعلام التابعين، مفادها وقوع الخطأ والحذف والنقصان في ألفاظ القرآن …

ألا تكون النتيجة لهاتين المقدّمتين هي «الصّحيحان أصحُّ من القرآن»؟

فإمّا أنْ ترفع اليد عن صحّة الكتابين- فضلًا عن القول بقطعيّة صدور ما فيهما- وهو مقتضي التحقيق، كما سيأتي في (المجلّد الثاني) من هذا الكتاب، وعن ثبوت تلك الأخبار والآثار، كما هو الحق، وإمّا أنْ يلتزم بالنتيجة المذكورة.

وهذا طرفٌ ممّا جاء في كتبهم حول القرآن الكريم:

__________________________________________________

(1) تدريب الراوي 1: 131- 134 ملخّصاً.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 115

الأخبار والآثار في وقوع النقص والغلط في القرآن في كتب السنّة … ص: 115

ذهب من القرآن كثير! … ص: 115

قال السيوطي في (الدرّ المنثور):

«أخرج أبو عبيد وابن الضّريس وابن الأنباري في المصاحف عن ابن عمر قال: لا يقولنّ أحدكم قد أخذت القرآن كلّه، ما يدريه ما كلّه؟ قدذهب منه قرآن كثير، ولكن يقل: قد أخذت ما ظهر منه» «1».

سورة الأحزاب … ص: 115

وقال السيوطي في (الإتقان):

«قال- أي أبو عبيد-: حدّثنا إسماعيل بن جعفر، عن المبارك بن فضالة، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش قال: قال ابيّ بن كعب كأيّن تعدّ سورة الأحزاب؟ قلت: اثنتين وسبعين آية أو ثلاثاً وسبعين آية. قال:

إن كانت لتعدل سورة البقرة، وإن كنّا لنقرأ فيها آية الرّجم. قلت: وما آية الرّجم؟ قال: إذا زنا الشّيخ والشّيخة فارجموهما ألبتّة نكالًا من اللَّه واللَّه عزيز

__________________________________________________

(1) الدر المنثور في التفسير بالمأثور 1: 258.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 116

حكيم» «1».

وقال الراغب الإصفهاني في (المحاضرات):

«وقالت عائشة: كانت الأحزاب تقرء في زمن رسول اللَّه مائة آية، فلمّا جمعه عثمان لم يجد إلّاما هو الآن، وكان فيه آية الرّجم» «2».

وقال السيوطي في (الإتقان) عن أبي عبيد:

«حدّثنا ابن أبي مريم، عن ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير، عن عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تقرء في زمان النّبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم مائتي آية، فلمّا كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلّاعلي ما هو الآن» «3».

وقال في (الدر المنثور):

«أخرج ابن الضّريس عن عكرمة رضي اللَّه عنه قال: كانت سورة الأحزاب مثل سورة البقرة أو أطول، وكانت فيها آية الرّجم.

وأخرج البخاري في تاريخه عن حذيفة قال: قرأت سورة الأحزاب علي النّبيّ، فنسيت منها سبعين آية ما وجدتها.

وأخرج أبو عبيد في الفضائل وابن الأنباري وابن مردويه عن عائشة قالت: كانت سورة الأحزاب تقرء في زمان النّبيّ

صلّي اللَّه عليه وسلّم مائتي آية، فلمّا كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلّاعلي ما هو الآن» «4».

__________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 3: 82.

(2) محاضرات الادباء 2: 434.

(3) الإتقان في علوم القرآن 3: 82.

(4) الدر المنثور في التفسير بالمأثور 6: 559- 600.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 117

سورة تشبه براءة … ص: 117

وأخرج الحاكم في (المستدرك) بإسناده عن أبي حرب بن أبي الأسود:

«بعث أبو موسي الأشعري إلي قرّاء البصرة، فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرأوا القرآن، فقال: أنتم خيار أهل البصرة قرّاؤهم، فاتلوه، ولا يطولنّ عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم، وإنّا كنّا نقرأ سورة كنّا نشبّهها في الطّول والشّدّة ببراءة، فأنسيتها غير أنّي حفظت منها: لو كان لابن آدم واديان من المال لابتغي وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب، وكنّا نقرأ سورة كنّا نشبّهها بإحدي المسبّحات، فأنسيتها غير أنّي حفظت منها: يا أيّها الّذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم».

وأخرجه مسلم في (الصحيح) «1».

وقال السيوطي في (الدر المنثور):

«أخرج مسلم وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الدلائل عن أبي موسي الأشعري قال: كنّا نقرأ سورة نشبّهها في الطّول والشدّة ببراءة فأنسيتها غير أنّي حفظت منها: لو كان لابن آدم واديان من مالٍ لابتغي وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوفه إلّاالتراب، وكنّا نقرأ سورة نشبّهها بإحدي المسبّحات أوّلها: سبّح للَّه ما في السّماوات، فأنسيتها، غير أنّي حفظت منها: يا أيّها الّذين آمنوا لا تقولوا ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسئلون عنها يوم القيامة» «2».

__________________________________________________

(1) صحيح مسلم 2: 726/ 1050، كتاب الزكاة الباب 39.

(2) الدر المنثور 1: 256- 257.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 118

وفي (الإتقان):

«أخرج

ابن أبي حاتم عن أبي موسي الأشعري قال: كنّا نقرأ سورة نشبّهها بإحدي المسبّحات فأنسيناها غير أنّي قد حفظت: يا أيّها الّذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسئلون عنها يوم القيامة» «1».

البراءة تعدل البقرة … ص: 118

«وفي المستدرك عن ابن عبّاس قال: سألت عليّ بن أبي طالب: لم لم يكتب في براءة بسم اللَّه الرحمن الرحيم؟ قال: لأنّها أمان، وبراءة نزلت بالسيف.

وعن مالك: أنّ أوّلها لمّا سقط سقط معه البسملة، فقد ثبت أنّها كانت تعدل البقرة لطولها» «2».

وفيه:

«وفي المستدرك عن حذيفة قال: ما تقرؤون ربعها. يعني براءة» «3».

وفي (الدر المنثور):

«أخرج ابن أبي شيبة والطّبراني في الأوسط وأبو الشّيخ والحاكم وابن مردويه عن حذيفة قال: الّتي تسمّون سورة التّوبة هي سورة العذاب، واللَّه ما تركت أحداً إلّانالت منه، وما تقرؤون منها ممّا كنّا نقرأ إلّاربعها» «4».

__________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 3: 83.

(2) الإتقان في علوم القرآن 1: 225- 226.

(3) الإتقان في علوم القرآن 3: 84.

(4) الدر المنثور 4: 120.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 119

وفيه:

«أخرج ابن الضّريس وأبو الشّيخ عن حذيفة قال: ما تقرؤون ثلثها. يعني سورة التوبة» «1».

وفيه:

«أخرج أبو عبيد وابن المنذر وأبو الشّيخ وابن مردويه عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عبّاس: سورة التّوبة. قال: التّوبة! بل هي الفاضحة، ما زالت تنزل فيهم وتنال منهم، حتّي ظننّا أنّه لا يبقي منّا أحد إلّاذكر فيها.

وأخرج ابن المنذر وأبو الشّيخ وابن مردويه عن ابن عبّاس أنّ عمر قيل له: سورة التّوبة. قال: هي إلي العذاب أقرب، ما أقلعت عن النّاس حتّي ما كانت تدع منهم أحداً.

وأخرج أبو الشّيخ عن عكرمة قال: قال عمر: ما فرغ من تنزيل براءة حتّي ظننّا أنّه لم يبق

منّا أحد إلّاتنزل فيه، وكانت تسمّي الفاضحة» «2».

وفي (تفسير الرازي):

«عن حذيفة: إنّكم تسمّونها سورة التوبة، واللَّه ما تركت أحداً إلّانالت منه.

وعن ابن عبّاس في هذه السّورة قال: إنّها الفاضحة، ما زالت تنزل فيهم وتنال منهم حتّي خشينا أن لا تدع أحداً» «3».

__________________________________________________

(1) الدر المنثور 4: 121 عن أبي الشيخ.

(2) الدر المنثور 4: 120- 121.

(3) تفسير الرازي 15: 215.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 120

سورتا الحفد والخلع … ص: 120

وفي (الإتقان):

«وفي مصحف ابن مسعود مائة واثنتا عشرة سورة، لأنّه لم يكتب المعوّذتين.

وفي مصحف ابيّ ست عشرة، لأنّه كتب في آخره سورتي الحفد والخلع.

أخرج أبو عبيد عن ابن سيرين قال: كتب ابي بن كعب في مصحفه فاتحة الكتاب والمعوّذتين و: اللّهمّ إنّا نستعينك واللّهمّ إيّاك نعبد، وتركهنّ ابن مسعود، وكتب عثمان منهنّ فاتحة الكتاب والمعوّذتين.

وأخرج الطبراني في الدّعاء من طريق عباد بن يعقوب الأسدي عن يحيي بن يعلي الأسلمي عن ابن لهيعة عن أبي هبيرة عن عبداللَّه بن رزين الغافقي قال: قال لي عبدالملك بن مروان: لقد علمت ما حملك علي حبّ أبي تراب إلّاأنّك أعرابيّ جاف، فقلت: واللَّه لقد جمعت القرآن من قبل أن يجتمع أبواك، ولقد علّمني منه عليّ بن أبي طالب سورتين علّمهما إيّاه رسول اللَّه ما علّمتهما أنت ولا أبوك: اللّهمّ إنّا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك، اللّهمّ إيّاك نعبد ولك نصلّي ونسجد وإليك نسعي ونحفد، نرجو رحمتك ونخشي عذابك إنّ عذابك بالكفّار ملحق.

وأخرج البيهقي من طريق سفيان الثوري عن ابن جريج عن عطاء عن عبيد بن عمير أنّ عمر بن الخطّاب قنت بعد الرّكوع فقال: بسم اللَّه الرحمن الرّحيم اللّهمّ إنّا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من

يفجرك. بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم اللّهمّ إيّاك نعبد ولك نصلّي ونسجد

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 121

وإليك نستغيث ونحفد نرجو رحمتك ونخشي عذابك إنّ عذابك بالكفّار ملحق. قال ابن جريج: حكمة البسملة أنّها سورتان في مصحف بعض الصّحابة.

وأخرج محمّد بن نصر المروزي في كتاب الصّلاة عن ابي بن كعب: أنّه كان يقنت بالسّورتين، فذكرهما، وإنّه كان يكتبهما في مصحفه.

قال ابن ضريس: ثنا أحمد بن جميل المروزي عن عبداللَّه بن المبارك أنا الأجلح عن عبداللَّه بن عبدالرحمن عن أبيه قال: في مصحف ابن عبّاس قرائة أبي موسي: بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم اللّهمّ إنّا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك.

وفيه: اللّهمّ إيّاك نعبد ولك نصلّي ونسجد وإليك نسعي ونحفد ونخشي عَذابك ونرجو رحمتك إنّ عذابك بالكفّار ملحق» «1».

وفي (الدر المنثور):

«قال ابن الضّريس في فضائله: أخبرني موسي بن إسماعيل، أنبأنا حمّاد قال: قرأنا في مصحف ابيّ بن كعب: اللّهمّ إنّا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير كلّه ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك …

وفيه أيضاً: وأخرج ابن الضّريس عن عبيداللَّه بن عبدالرحمن عن أبيه قال: صلّيت خلف عمر بن الخطّاب، فلمّا فرغ من السّورة الثّانية قال: اللّهمّ إنّا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك، اللّهمّ إيّاك نعبد ولك نصلّي وإليك نسعي ونحفد نرجو رحمتك ونخشي عذابك إنّ عذابك بالكفّار ملحق.

__________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 1: 226- 227 مع بعض الاختلاف.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 122

وفي مصحف ابن عبّاس قرائة ابيّ وأبي موسي: بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم اللّهمّ إنّا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك.

وفي مصحف حجر: اللّهمّ إنّا نستعينك.

وأخرج محمّد بن

نصر عن ابن إسحاق قال: قرأت في مصحف ابيّ بن كعب بالكتاب الأوّل العتيق: بسم اللَّه الرحمن الرحيم قل هو اللَّه أحد إلي آخرها، بسم اللَّه الرحمن الرحيم قل أعوذ بربّ الفلق إلي آخرها، بسم اللَّه الرحمن الرحيم قل أعوذ بربّ النّاس إلي آخرها، بسم اللَّه الرحمن الرحيم اللّهمّ إنّا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك، بسم اللَّه الرحمن الرحيم اللّهمّ إيّاك نعبد ولك نصلّي ونسجد وإليك نسعي ونحفد، نرجو رحمتك ونخشي عذابك إنّ عذابك بالكفّار ملحق …

وأخرج محمّد بن نصر عن الشّعبي قال: قرأت- أو حدّثني من قرأ- في بعض مصاحف ابيّ بن كعب هاتين السّورتين: اللّهمّ إنّا نستعينك والاخري بينهما بسم اللَّه الرحمن الرحيم، قبلهما سورتان من المفصل وبعدهما سور من المفصل» «1».

آيتان لم تكتبا … ص: 122
اشارة

وفي (الإتقان):

«وقال أبو عبيد: حدّثنا ابن أبي مريم، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن عمرو المعافري، عن أبي سفيان الكلاعي أنّ مسلمة بن مخلد الأنصاري قال لهم ذات يوم: أخبروني بآيتين من القرآن لم تكتبا في المصحف؟ فلم يخبروه __________________________________________________

(1) الدر المنثور 8: 695- 697، وفيه بعض الاختلاف.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 123

وعندهم أبوالكنود سعد بن مالك، فقال لي مسلمة: «إنّ الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل اللَّه بأموالهم وأنفسهم ألا أبشروا أنتم المفلحون، والذين آووهم ونصروهم وجادلوا عنهم القوم الذين غضب اللَّه عليهم أولئك لا تعلم نفس ما اخفي لهم من قرّة أعين جزاء بما كانوا يعملون» «1».

آية اخري … ص: 123

وفي (الإتقان) أيضاً:

«قال- أي أبو عبيد-: حدّثنا عبداللَّه بن صالح، عن هشام بن سعيد [سعد] عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي واقد اللّيثي قال: كان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم إذا اوحي إليه أتيناه فعلّمنا ممّا اوحي إليه، قال:

فجئت ذات يوم فقال: إنّ اللَّه يقول: إنّا أنزلنا المال لإقام الصّلاة وإيتاء الزّكاة، ولو كان لابن آدم واد من ذهب لأحبّ أن يكون إليه الثاني، ولو كان له الثاني لأحبّ أن يكون إليهما الثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّاالتراب، ويتوب اللَّه علي من تاب» «2».

وفي (الدر المنثور):

«أخرج أبو عبيد وأحمد والطبراني في الأوسط والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي واقد اللّيثي قال: كان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم إذا اوحي إليه أتيناه فعلّمنا ممّا اوحي إليه، قال: فجئته ذات يوم فقال: إنّ اللَّه يقول: إنّا أنزلنا المال لإقام الصّلاة وإيتاء الزّكاة، ولو أنّ لابن آدم وادياً لأحبّ أن يكون إليه الثاني، ولو كان له ثان لأحبّ أن

يكون إليهما ثالث، ولا يملأ جوف ابن __________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 3: 84.

(2) الإتقان في علوم القرآن 3: 83.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 124

آدم إلّاالتراب، ويتوب اللَّه علي من تاب.

وأخرج أبو عبيد وأحمد وأبو يعلي والطّبراني عن زيد بن أرقم قال: كنّا نقرأ علي عهد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: لو كان لابن آدم واديان من ذهب وفضّة لابتغي الثالث، ولا يملأ بطن ابن آدم إلّاالتراب، ويتوب اللَّه علي من تاب.

وأخرج أبو عبيد عن جابر عن عبداللَّه قال: كنّا نقرأ: لو أنّ لابن آدم ملأ وادٍ مالًا لأحبّ إليه مثله، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّاالتراب، ويتوب اللَّه علي من تاب.

وأخرج البزار وابن الضّريس عن بريرة قالت: سمعت النّبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم يقرأ: لو أنّ لابن آدم وادياً من ذهب لابتغي إليه ثانياً، ولو اعطي ثانياً لابتغي إليه ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّاالتراب، ويتوب اللَّه علي من تاب.

وأخرج ابن الأنباري عن أبي ذر قال: في قرائة ابيّ بن كعب: ابن آدم لو اعطي وادياً من مال لالتمس ثانياً، ولو اعطي واديين من مال لالتمس ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّاالتّراب، ويتوب اللَّه علي من تاب» «1».

وفي (الإتقان):

«أخرج الحاكم في المستدرك عن ابيّ بن كعب قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: إنّ اللَّه أمرني أن أقرأ عليك القرآن، فقرأ: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين- ومن بقيّتها-: لو أنّ ابن آدم سأل وادياً من مال فأعطيته سأل ثانياً فأعطيته سأل ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا

__________________________________________________

(1) الدر المنثور 1: 257- 258 مع اختلاف قليل.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 125

التراب، ويتوب

اللَّه علي من تاب. وإنّ ذات الدّين عند اللَّه الحنفيّة غير اليهوديّة ولا النّصرانيّة، ومن يعمل خيراً فلن يكفره» «1».

وفي (جامع الاصول):

«عن ابيّ بن كعب: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: إنّ اللَّه أمرني أن أقرأ عليك القرآن، وقرأ عليه: لم يكن الذين كفروا، وقرأ فيها: إنّ الدّين عند اللَّه الحنفيّة المسلمة لا اليهوديّة ولا النّصرانيّة ولا المجوسيّة ومن يعمل خيراً فلم يكفره، وقرأ عليه: لو أنّ لابن آدم وادياً من مال لابتغي إليه ثانياً، ولو أنّ له ثانياً لابتغي ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّاالتّراب، ويتوب اللَّه علي من تاب؛ أخرجه الترمذي» «2».

وفي (الدر المنثور):

«أخرج أحمد والتّرمذي والحاكم وصحّحه عن ابيّ بن كعب أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: إنّ اللَّه أمرني أن أقرأ عليك، فقرأ: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب، فقرأ فيها: ولو أنّ ابن آدم سأل وادياً من مال فأعطيته لسأل ثانياً ولو سأل ثانياً فأعطيته لسأل ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّاالتّراب ويتوب اللَّه علي من تاب، وإنّ ذات الدّين عند اللَّه الحنفيّة غير المشركة ولا اليهوديّة ولا النّصرانيّة ومن يفعل ذلك فلن يكفره.

وأخرج [أحمد] عن ابيّ بن كعب قال: قال لي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ اللَّه أمرني أن أقرأ عليك، فقرأ: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكّين حتّي تأتيهم البيّنة رسول من اللَّه يتلوا صحفاً

__________________________________________________

(1) الإتقان 3: 83.

(2) جامع الاصول 2: 500/ 972.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 126

مطهّرة، وما تفرّق الذين اوتوا الكتاب إلّامن بعد ما جاءتهم البيّنة، إنّ الدّين عند اللَّه الحنفيّة غير المشركة ولا اليهوديّة ولا النّصرانيّة، ومن يفعل ذلك فلن يكفره.

قال

شعبة رضي اللَّه عنه: ثمّ قرأ آيات بعدها، ثمّ قرأ: لو أنّ لابن آدم وادياً من مال لسأل وادياً ثانياً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّاالتّراب، ثمّ ختم بما بقي من السّورة» «1».

وفي (الدر المنثور) أيضاً عن أحمد:

«عن ابن عبّاس قال: رجل أتي عمر يسأله، فجعل عمر ينظر إلي رأسه مرّة وإلي رجليه اخري هل يري عليه من البؤس، ثمّ قال له عمر: كم مالك؟

قال: أربعون من الإبل. قال ابن عبّاس: قلت: صدق اللَّه ورسوله: لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغي الثالث ولا يملأ جوف ابن آدم إلّاالتراب ويتوب اللَّه علي من تاب. فقال عمر رضي اللَّه عنه: ما هذا؟ فقلت: هكذا أقرأني ابيّ.

قال: فمرّ بنا إليه فجاء إلي ابيّ فقال: ما يقول هذا؟ قال ابيّ: هكذا أقرأنيها رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، قال: فأثبتها في المصحف؟ قال: نعم» «2».

وفي (الدر المنثور) أيضاً:

«أخرج ابن الضّريس عن ابن عبّاس قال: قلت: يا أميرالمؤمنين! إنّ ابيّاً يزعم أنّك تركت من كتاب اللَّه آية لم تكتبها، قال: واللَّه لأسألنّ ابيّاً فإن أنكر لتكذبنّ، فلمّا صلّي صلاة الغداة غدا علي ابيّ رضي اللَّه عنه فأذن له، فطرح له وسادة وقال: يزعم هذا إنّك تزعم أنّي تركت آية من كتاب اللَّه لم أكتبها؟!

__________________________________________________

(1) الدر المنثور 8: 586.

(2) الدر المنثور 8: 587.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 127

فقال: إنّي سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: لو أنّ لابن آدم واديين من مال لابتغي إليهما وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلّاالتّراب ويتوب اللَّه علي من تاب، فقال: أو أكتبها؟ قال: لا أنهاك» «1».

آية الرجم … ص: 127

وفي (صحيح البخاري):

«إنّ اللَّه بعث محمّداً صلّي اللَّه عليه وسلّم بالحقّ

وأنزل عليه الكتاب، فكان ممّا أنزل اللَّه آية الرّجم، فقرأناها وعقلناها ووعيناها، ورجم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم ورجمنا بعده، فأخشي إن طال بالنّاس زمان أن يقول قائل واللَّه ما نجد آية الرّجم في كتاب فيضلّوا بترك فريضة أنزلها اللَّه، فالرّجم في كتاب اللَّه حقّ علي من زنا» «2».

وقال الراغب في (المحاضرات) في ذكر «ما ادّعي أنّه من القرآن ممّا ليس في المصحف»:

«وروي أنّ عمر رضي اللَّه عنه قال: لولا أن يقال زاد عمر في كتاب اللَّه لأثبتُّ في المصحف، فقد نزلت: الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة نكالًا من اللَّه واللَّه شديد العقاب» «3».

وفي (الإتقان):

«وقال- أي أبو عبيد-: ثنا عبداللَّه بن صالح، عن اللّيث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن غزوان بن عثمان، عن أبي امامة بن سهل __________________________________________________

(1) الدر المنثور 8: 587.

(2) صحيح البخاري 8: 209.

(3) محاضرات الادباء 2: 433- 434.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 128

أنّ خالته قالت: لقد أقرأنا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم آية الرّجم: الشّيخ والشّيخة فارجموهما ألبتّة بما قضيا من اللذّة» «1».

وفي (الموطأ):

«مالك عن يحيي بن سعيد، عن سعيد بن المسيّب قال: لمّا صدر عمر ابن الخطّاب من مني أناخ بالأبطح ثمّ كوّم كومة من بطحاء ثمّ طرح عليها رداءه فاستلقي ثمّ مدّ يديه إلي السّماء فقال: اللّهمّ كبرت سنّي وضعفت قوّتي وانتشرت رعيّتي فاقبضني إليك غير مضيّع ولا مفرّط، ثمّ قدم المدينة فخطب النّاس ثمّ قال: أيّها النّاس قد سنّت لكم السنن وفرضت لكم الفرائض وتركتم علي الواضحة إلّاأن تضلّوا بالنّاس يميناً وشمالا، وضرب بإحدي يديه علي الاخري ثمّ قال: إيّاكم أن تهلكوا عن آية الرّجم أن يقول قائل: إنّا

لا نجد حدّين في كتاب اللَّه، فقد رجم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم ورجمنا، والذي نفسي بيده لولا أن يقول النّاس زاد عمر في كتاب اللَّه لكتبتها: الشّيخ والشّيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتّة، فإنّا قد قرأناها» «2».

وفي (مسند) أحمد بن حنبل:

«حدّثنا عبداللَّه قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا هشيم قال: أخبرنا الزهري، عن عبداللَّه بن عبيداللَّه بن عتبة بن مسعود قال: أخبرني عبداللَّه بن عبّاس قال:

حدّثني عبدالرحمان بن عوف أنّ عمر بن الخطّاب خطب النّاس فسمعه يقول:

ألا وإنّ اناساً يقولون ما بال الرجم وفي كتاب اللَّه الجلد، وقد رجم رسول اللَّه ورجمنا بعده، ولولا أن يقول قائلون أو يتكلّم المتكلّمون أنّ عمر زاد في __________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 3: 82.

(2) الموطأ 2: 824 كتاب الحدود/ 10 مع اختلاف.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 129

كتاب اللَّه ما ليس فيه لأثبتُّها كما نزلت» «1».

وفيه أيضاً:

«حدّثنا عبداللَّه قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا عبدالرّحمان قال: حدّثنا مالك عن الزهري عن عبيداللَّه بن عبداللَّه عن ابن عبّاس قال: قال عمر: إنّ اللَّه عزّوجلّ بعث محمّداً صلّي اللَّه عليه وسلّم وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرّجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها، فأخشي أن يطول بالنّاس عهد فيقولون إنّا لا نجد آية الرّجم فتترك الفريضة أنزلها اللَّه، وإنّ الرجم في كتاب اللَّه حقّ علي من زنا إذا احصن من الرجال والنساء إذا قامت البيّنة أو كان الحبل أو الإعتراف» «2».

وفيه:

«حدّثنا عبداللَّه قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا محمّد بن جعفر وحجّاج قالا: حدّثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم قال: سمعت عبيداللَّه بن عبداللَّه بن عتبة يحدّث عن ابن عبّاس عن عبدالرحمن بن عوف قال: حجّ عمر بن الخطّاب فأراد أن

يخطب النّاس خطبة فقال عبدالرحمان بن عوف: إنّه قد اجتمع عندك رعاع النّاس فأخِّر ذلك حتّي تأتي المدينة، فلمّا قدم المدينة دنوت قريباً من المنبر فسمعته يقول: إنّ ناساً يقولون ما بال الرّجم وإنّما في كتاب اللَّه الجلد، وقد رجم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم ورجمنا بعده، لولا أن يقولوا أثبت في كتاب اللَّه ما ليس فيه لأثبتّها كما انزلت» «3».

__________________________________________________

(1) مسند أحمد بن حنبل 1: 49/ 198 مع اختلاف.

(2) مسند أحمد بن حنبل 1: 66/ 278.

(3) مسند أحمد بن حنبل 1: 81/ 354.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 130

وفي (صحيح البخاري):

«قال عكرمة: قال عمر لعبدالرحمان بن عوف: لو رأيت رجلًا علي حدّ زني أو سرقة وأنت أمير؟ فقال: شهادتك شهادة رجل من المسلمين. قال:

صدقت. قال عمر: لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب اللَّه لكتبت آية الرجم بيدي» «1».

وفي (فتح الباري) في شرح قوله: قال عمر الخ:

«قال المهلّب: إستشهد البخاري لقول عبدالرحمان بن عوف المذكور قبله بقول عمر هذا: إنّه كانت عنده شهادة في آية الرجم أنّها من القرآن فلم يلحقها بنصّ المصحف بشهادته وحده وأفصح بالعلّة في ذلك بقوله: لولا أن يقال زاد عمر في كتاب اللَّه، فأشار إلي أنّ ذلك من قطع الذّرائع لئلّا يجد حكّام السوء سبيلًا إلي أن يدّعوا العلم لمن أحبّوا له الحكم بشي» «2».

آية الرضاع … ص: 130

وفي (المحاضرات):

«قالت عائشة رضي اللَّه عنها: لقد نزلت آية الرجم ورضاع الكبير وكانت في رقعة تحت سريري وشغلنا بشكاة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فدخلت داجن للحيّ فأكلته» «3».

وفي (تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق) في حكم الرضاع:

«قال الشافعي: لا يحرم إلّابخمس رضعات يعني مشبعات، لما روي __________________________________________________

(1) صحيح البخاري 9:

86.

(2) فتح الباري- شرح صحيح البخاري 13: 135.

(3) محاضرات الادباء 2: 434 مع اختلاف قليل.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 131

عن عائشة رضي اللَّه عنها أنّها قالت: كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات معلومات ثمّ نسخن بخمس معلومات، فتوفّي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وهي فيما يقرأ من القرآن؛ رواه مسلم».

فأجاب عن استدلال الشافعي بقوله:

«ولا حجّة له في خمس رضعات أيضاً، لأنّ عائشة رضي اللَّه عنها أحالتْها علي أنّها قرآن وقالت: ولقد كان في صحيفة تحت سريري فلمّا مات رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وتشاغلنا بموته دخلت دواجن فأكلتها» «1».

آية الجهاد … ص: 131

وفي (الإتقان):

«قال- أي أبو عبيد-: حدّثنا ابن أبي مريم، عن نافع بن عمر الجُمحي، حدّثني ابن أبي مُلَيكة، عن المِسْور بن مَخْرمة قال: قال عمر لعبدالرحمان بن عوف: ألم تجد فيما انزل علينا: أن جاهدوا كما جاهدتم أوّل مرّة، فإنّا لا نجدها. قال: اسقطت فيما اسقط من القرآن» «2».

ورواه في (الدر المنثور) حيث قال:

«أخرج أبو عبيد عن المسور بن مخرمة قال: قال عمر لعبدالرحمان بن عوف: ألم تجد فيما انزل علينا: أن جاهدوا كما جاهدتم أوّل مرّة، فإنّا لا نجدها. قال: اسقطت فيما اسقط من القرآن» «3».

وفي (كنز العمال):

__________________________________________________

(1) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق 2: 630- 631.

(2) الإتقان في علوم القرآن 3: 84.

(3) الدر المنثور 1: 258.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 132

«عن المِسْور بن مخرمة قال: قال عمر لعبدالرحمان بن عوف: ألم تجد فيما انزل علينا: أن جاهدوا كما جاهدتم أوّل مرّة، فإنّا لم نجدها. قال:

اسقطت فيما اسقط من القرآن؛ أبو عبيد» «1».

آية: لا ترغبوا عن آبائكم … ص: 132

وفي (الدر المنثور):

«أخرج ابن الضّريس عن ابن عبّاس قال: كنّا نقرأ: لا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم وإنّ كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم.

وأخرج عبدالرزاق وأحمد وابن حبّان عن عمر بن الخطّاب قال: إنّ اللَّه بعث محمّداً بالحقّ وأنزل معه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرّجم ورجمنا بعده، ثمّ قال: قد كنّا نقرأ: ولا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم إن ترغبوا عن آبائكم.

وأخرج الطيالسيّ وأبو عبيد والطّبراني عن عمر بن الخطّاب: كنّا نقرأ فيما نقرأ: لا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم، ثمّ قال لزيد بن ثابت: أكذلك يا زيد؟ قال: نعم» «2».

آية حميّة الجاهليّة … ص: 132

وفي (المستدرك):

«عن ابن إدريس عن ابيّ بن كعب أنّه كان يقرأ: إذ جعل الذين في قلوبهم الحميّة حميّة الجاهليّة كما حموا لفسد المسجد الحرام فأنزل اللَّه __________________________________________________

(1) كنز العمال 2: 567/ 4741.

(2) الدر المنثور 1: 258.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 133

سكينته علي رسوله … » «1».

وفي (الدرّ المنثور):

«أخرج النسائي والحاكم وصحّحه من طريق ابن أبي إدريس عن ابيّ بن كعب رضي اللَّه عنه إنّه كان يقرأ: إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحميّة حميّة الجاهليّة ولو حميتم كما حموا لفسد المسجد الحرام فأنزل اللَّه سكينته علي رسوله، فبلغ ذلك عمر رضي اللَّه عنه فاشتدّ عليه، فبعث إليه فدعا ناساً من أصحابه فيهم زيد بن ثابت فقال: من يقرأ فيكم سورة الفتح، فقرأ زيد علي قرائتنا اليوم فغلّظ له عمر فقال: إنّي أتكلّم؟ قال: تكلّم. قال: لقد علمت أني كنتُ أدخل علي النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم ويُقرئني وأنت بالباب، فإن أحببت أن اقرئ النّاس علي ما أقرأني وإلّا لم أقرأ حرفاً ما حييتُ. قال: بل أقرئ النّاس»

«2».

آية الصلاة علي النبي … ص: 133

وفي (الإتقان):

«قال- أي أبو عبيد-: حدّثنا حجّاج، عن ابن جريج، أخبرني ابن أبي عبيدة عن حميدة بنت أبي يونس قالت: قرأ عليّ أبي وهو ابن ثمانين سنة في مصحف عائشة: إنّ اللَّه وملائكته يصلّون علي النبيّ يا أيّها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليماً وعلي الذين يصلون الصفوف الاوَل، قالت: قبل أن يُغيّر عثمان المصاحف» «3».

__________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 2: 225 و فيه: أبي إدريس.

(2) الدر المنثور 7: 535 و فيه: من طريق أبي إدريس، بدل: ابن أبي إدريس.

(3) الإتقان في علوم القرآن 3: 82، وفيه: ابن أبي حميد عن حميدة قالت. بدل: ابن أبي عبيدة عن حميدة …

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 134

آية: وهو أبٌ لهم … ص: 134

وفي (الدر المنثور):

«أخرج الفِريابي والحاكم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنه إنّه كان يقرأ هذه الآية: النبيّ أولي بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه امّهاتهم.

وأخرج عبدالرزاق وسعيد بن منصور وإسحاق بن راهويه وابن المنذر والبيهقي عن بَجَالة قال: مرّ عمر بن الخطّاب بغلام وهو يقرأ في المصحف:

النبي أولي بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه امّهاتهم وهو أب لهم، فقال: يا غلام حُكّها، فقال: هذا مصحف ابيّ، فذهب إليه فسأله، فقال: إنّه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق بالأسواق» «1».

آية الصلاة الوسطي … ص: 134

وأخرج مسلم في (الصحيح):

«حدّثنا يحيي بن يحيي التميمي قال: قرأت علي مالك عن زيد بن أسلم عن القعقاع بن حكيم عن أبي يونس مولي عائشة أنّه قال: أمرتني عائشة أن أكتبَ لها مصحفاً وقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذنّي: «حافظوا علي الصّلوات والصّلاة الوسطي» قال: فلمّا بلغتها آذنتها، فأملَتْ عليّ: حافظوا علي الصّلوات والصّلاة الوسطي وصلاة العصر وقوموا للَّه قانتين. قالت عائشة:

سمعتها من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم» «2».

وفي (الدر المنثور):

__________________________________________________

(1) الدر المنثور 6: 567 بتقديم وتأخير والمعني واحد.

(2) صحيح مسلم 1: 437/ 629.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 135

«أخرج عبدالرزاق والبخاري في تاريخه وابن جرير وابن أبي داود في المصاحف عن أبي رافع مولي حفصة قال: إستكتبتني حفصة مصحفاً فقالت:

إذا أتيت علي هذه الآية فتعال حتّي امليها عليك كما أقرأتها، لمّا أتيت علي هذه الآية «حافظوا علي الصلوات» قالت: اكتب: حافظوا علي الصلوات والصلاة الوسطي وصلاة العصر. فلقيت ابيّ بن كعب فقلت: أباالمنذر! إنّ حفصة قالت كذا وكذا. فقال: هو كما قالت، أوليست أشغل ما نكون عند صلاة الظهر في عملنا لو أصبحنا.

وأخرج مالك وأبوعبيد وعبد بن حميد وأبويعلي وابن جرير

وابن الأنباري في المصاحف والبيهقي في سننه عن عمرو بن نافع قال: كنت أكتبُ مصحفاً لحفصة زوج النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم، فقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذنّي «حافظوا علي الصّلوات والصّلاة الوسطي» فلمّا بلغتُها آذنتها، فأملت عليّ: حافظوا علي الصّلوات والصّلاة الوسطي وصلاة العصر وقوموا للَّه قانتين، وقالت: أشهد أنّي سمعتها من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم.

وأخرج عبدالرزاق عن نافع: إنّ حفصة دفعت مصحفاً إلي موليً لها يكتب وقالت: إذا بلغتَ هذه الآية «حافظوا علي الصّلوات والصّلاة الوسطي» فآذنّي، فلمّا بلغها جاءها فكتبت بيدها: حافظوا علي الصّلوات والصّلاة الوسطي وصلاة العصر.

وأخرج مالك وأحمد وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن جرير وابن أبي داود وابن الأنباري في المصاحف والبيهقي في سننه عن يونس مولي عائشة قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً وقالت:

إذا بلغت هذه الآية فآذنّي: حافظوا علي الصّلوات والصّلاة الوسطي وصلاة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 136

العصر وقوموا للَّه قانتين. قالت عائشة: سمعتها من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم.

وأخرج عبدالرزاق وابن جرير وابن أبي داود في المصاحف وابن المنذر عن ام حميد بنت عبدالرحمان أنّها سألت عائشة عن الصّلاة الوسطي فقالت:

كنّا نقرؤها في الحرف الأوّل علي عهد النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم: حافظوا علي الصّلوات والصّلاة الوسطي وصلاة العصر وقوموا للَّه قانتين» «1».

وروي ابن حجر في (فتح الباري):

«روي مسلم وأحمد من طريق أبي يونس عن عائشة أنّها أمرته أن يكتب لها مصحفاً، فلمّا بلغتُ «حافظوا علي الصّلوات والصّلاة الوسطي» قال: فأملَتْ عليّ: وصلاة العصر. قالت: سمعتها من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم.

وروي مالك عن عمرو بن رافع قال: كتبت مصحفاً لحفصة، فقالت: إذا أتيت هذه الآية فآذنّي، فأملَتْ عليّ:

حافظوا علي الصّلوات والصّلاة الوسطي وصلاة العصر.

أخرجه ابن جرير- من وجه آخر حسن- عن عمرو بن رافع.

وروي ابن المنذر من طريق عبيداللَّه بن رافع: أمرتني ام سلمة أن أكتبَ لها مصحفاً. نحوه.

ومن طريق نافع: إنّ حفصة أمرت موليً لها أن يكتب لها مصحفاً، فذكر مثله وزاد: كما سمعت من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقولها» «2».

__________________________________________________

(1) الدر المنثور 1: 721- 722 وفيه: … في عملنا ونواضحنا، بدل: في عملنا لو أصبحنا.

(2) فتح الباري- شرح صحيح البخاري 8: 158- 159.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 137

وفي (الموطّأ):

«مالك عن زيد بن أسلم، عن القعقاع بن حكيم بن أبي يونس مولي عائشة امّ المؤمنين إنّه قال: أمرتني عائشة أن أكتبَ لها مصحفاً ثمّ قالت: إذا بلغتَ هذه الآية فآذنّي «حافظوا علي الصّلوات والصّلاة الوسطي وقوموا للَّه قانتين» فلمّا بلغتها آذنتُها، فأملت عليّ: حافظوا علي الصّلوات والصّلاة الوسطي وصلاة العصر وقوموا للَّه قانتين، ثمّ قالت: سمعتها من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم» «1».

وفيه:

«مالك عن زيد بن أسلم عن عمرو بن نافع أنّه قال: كنتُ أكتبُ مصحفاً لحفصة امّ المؤمنين، فقالت: إذا بلغتَ هذه الآية فآذنّي «حافظوا علي الصّلوات والصّلاة الوسطي وقوموا للَّه قانتين» فلمّا بلغتها آذنتها، فأملت عليّ:

حافظوا علي الصّلوات والصّلاة الوسطي وصلاة العصر وقوموا للَّه قانتين» «2».

آية صلاة الجمعة … ص: 137

وفيه:

«مالك إنّه سأل ابن شهاب عن قول اللَّه تبارك وتعالي: «إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلي ذكر اللَّه» «3»

فقال ابن شهاب: كان عمر بن الخطّاب يقرؤها: إذا نودي للصّلاة من يوم الجمعة فامضوا إلي ذكر اللَّه» «4».

__________________________________________________

(1). الموطأ 1: 138- 139.

(2). الموطأ 1: 139.

(3). سورة الجمعة 62: 9.

(4). الموطأ 1: 129.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 138

وقال في

(الدر المنثور):

«أخرج أبو عبيد في فضائله وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف عن خَرَشَة بن الحُر رضي اللَّه عنه قال:

رأي معي عمر بن الخطّاب رضي اللَّه عنه لوحاً مكتوباً فيه: «إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلي ذكر اللَّه» «1»

فقال: من أملي عليك هذا؟ قلت: ابيّ ابن كعب. قال: إنّ ابيّاً أقرؤنا للمنسوخ، إقرأها: فامضوا إلي ذكر اللَّه.

وأخرج عبد بن حميد عن إبراهيم رضي اللَّه عنه قال: قيل لعمر رضي اللَّه عنه: إنّ ابيّاً يقرأ فاسعوا إلي ذكر اللَّه. قال عمر رضي اللَّه عنه: ابيّ أعلمني بالمنسوخ وكان يقرؤها: فامضوا إلي ذكر اللَّه.

وأخرج الشافعي في الامّ وعبدالرزاق والفِريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف والبيهقي في سننه عن ابن عمر قال: ما سمعت عمر يقرأ قطّ إلّا: فامضوا إلي ذكر اللَّه.

وأخرج عبدالرزاق وعبد بن حميد عن ابن عمر رضي اللَّه عنه قال: لقد توفي عمر رضي اللَّه عنه وما يقرأ هذه الآية التي في سورة الجمعة إلّا: فامضوا إلي ذكر اللَّه.

وأخرج عبدالرزاق والفِريابي وأبو عبيد وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن الأنباري والطبراني من طرق عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه إنّه كان يقرأ: فامضوا إلي ذكر اللَّه. قال: ولو كان __________________________________________________

(1) سورة الجمعة 62: 9.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 139

فاسعوا لَسَعَيْتُ حتّي يسقط ردائي» «1».

آية اخري … ص: 139

وفي (صحيح الترمذي):

«حدّثنا عبد بن حميد، نا عبيداللَّه، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبدالرحمان بن يزيد، عن عبداللَّه بن مسعود قال: أقرأني رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه

وسلّم: إنّي أنا الرزّاق ذوالقوّة المتين؛ هذا حديث حسن صحيح» «2».

وفي (مسند) أحمد بن حنبل:

«حدّثنا عبداللَّه، حدّثني أبي، ثنا يحيي بن آدم ويحيي بن أبي بكر قالا:

حدّثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبدالرحمان بن يزيد، عن عبداللَّه بن مسعود قال: أقرأني رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّي أنا الرزّاق ذوالقوّة المتين» «3».

آية الطلاق … ص: 139

وفي (الدر المنثور):

«أخرج مالك والشافعي وعبدالرزّاق في المصنَّف وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وأبو يعلي وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عمر رضي اللَّه عنه أنّه: طلّق امرأته وهي حائض، فذكر ذلك عمر رضي اللَّه عنه لرسول اللَّه،

__________________________________________________

(1) الدر المنثور 1: 161.

(2) صحيح الترمذي 5: 191/ 2940.

(3) مسند أحمد بن حنبل 1: 651/ 3733.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 140

فتغيّظ فيه رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم ثمّ قال: ليراجعها ثمّ يمسكها حتّي تطهر ثمّ تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلّقها فليطلّقها طاهراً قبل أن يمسكها، فتلك العدّة التي أمر اللَّه تعالي أن يطلّق بها النساء، وقرأ صلّي اللَّه عليه وسلّم:

يا أيّها النّبيّ إذا طلّقتم النساء فطلّقوهنّ في قبل عدّتهنّ.

وأخرج عبدالرزّاق في المصنَّف وابن المنذر والحاكم وابن مردويه عن ابن عمر رضي اللَّه عنه أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قرأ: فطلّقوهنّ في قبل عدّتهنّ.

وأخرج عبدالرزّاق وأبو عبيد في فضائله وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن مردويه والبيهقي عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنه أنّه كان يقرأ:

وطلّقوهنّ لقبل عدّتهنّ.

وأخرج ابن الأنباري عن ابن عمر رضي اللَّه عنه أنّه قرأ: فطلّقوهنّ لقبل عدّتهنّ.

وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي عن مجاهد رضي

اللَّه عنه أنّه كان يقرأ: فطلّقوهنّ لقبل عدّتهنّ» «1».

آية التبليغ … ص: 140

وفيه:

«أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنّا نقرأ علي عهد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: يا أيّها الرّسول بلّغ ما انزل إليك من ربّك أنّ عليّاً مولي المؤمنين وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته واللَّه يعصمك من النّاس» «2».

وقال محمّد بن معتمدخان البدخشاني:

__________________________________________________

(1) الدر المنثور 8: 189- 190. مع اختلاف.

(2) الدر المنثور 3: 117.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 141

«وأخرج- أي ابن مردويه- عن زِرّ عن عبداللَّه قال: كنّا نقرأ علي عهد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: يا أيّها الرّسول بلّغ ما انزل إليك من ربّك أنّ عليّاً مولي المؤمنين وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته واللَّه يعصمك من النّاس» «1».

آية كفي اللَّه المؤمنين … ص: 141

وفي (الدر المنثور):

«أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن ابن مسعود أنّه كان يقرأ هذا الحرف: وكفي اللَّه المؤمنين القتال بعليّ بن أبي طالب» «2».

وفي (مفتاح النجا):

«وأخرج- أي ابن مردويه- عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه أنّه كان يقرأ هذا الحرف: وكفي اللَّه المؤمنين القتال بعليّ بن أبي طالب وكان اللَّه قويّاً عزيزاً» «3».

وفي (تفسير الثعلبي):

«أخبرني أبو محمّد عبداللَّه بن محمّد بن عبداللَّه القايني، نا أبوالحسين محمّد بن عثمان بن الحسين النصيبي، نا أبوبكر محمّد بن الحسين بن صالح السبيعي، نا أحمد بن محمّد بن سعيد، نا أحمد بن ميثم بن أبي نعيم، نا أبو جنادة السلولي، عن الأعمش، عن أبي وائل قال: قرأت في مصحف عبداللَّه ابن مسعود: إنّ اللَّه اصطفي آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران وآل محمّد

__________________________________________________

(1) مفتاح النجا في مناقب آل العبا- مخطوط.

(2) الدر المنثور 6: 590.

(3) مفتاح النجا في مناقب آل العبا- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 142

علي العالمين» «1».

عثمان: إنّ في القرآن لحناً! … ص: 142

وقال ابن قتيبة:

«إنّ عثمان قال في قوله تعالي: «إن هذان لساحران» إنّ في القرآن لحناً. فقال رجل: صحّح ذلك الغلط. فقال: دعوه فإنّه لا يُحلّل حراماً ولا يُحرِّم حلالًا» «2».

وفي بعض الروايات:

«قال عثمان: إنّ في المصحف لحناً وسيقيمه العرب بألسنتهم، فقيل له:

ألا تغيّره؟ فقال: دعوه، فلا يحلّل حراماً ولا يحرّم حلالًا» فقد جاء في (معالم التنزيل) للبغوي بتفسير الآية: «لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما انزل إليك وما انزل من قبلك والمقيمين الصلاة» ما نصّه:

«واختلفوا في وجه انتصابه فحكي عن عائشة وأبان بن عثمان أنّه غلط من الكاتب ينبغي أن يصلح ويكتب: والمقيمون الصلاة، وكذلك قوله في سورة المائدة «إنّ الذين آمنوا والذين هادوا

والصابئون» وقوله: «إن هذان لساحران» قالوا: ذلك خطأ من الكُتّاب، وقال عثمان رضي اللَّه عنه: إنّ في المصحف لحناً وسيقيمه العرب بألسنتها، فقيل له: ألا تُغيّره؟ فقال: دعوه فإنّه لا يحلّ حراماً ولا يحرّم حلالًا» «3».

وقد ذكر ابن تيمية في (منهاجه) تفسير البغوي، فقال بالنسبة إلي __________________________________________________

(1) تفسير الثعلبي 3: 53.

(2) تأويل مشكل القرآن: 50- 51.

(3) تفسير البغوي/ معالم التنزيل 2: 187- 188.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 143

الأحاديث المروية فيه:

«وأمّا الأحاديث، فلم يذكر في تفسيره شيئاً من الموضوعات التي رواها الثعلبي، بل يذكر منها الصحيح … ولم يذكر الأحاديث التي يظهر لعلماء الحديث أنها موضوعة كما يفعله غيره من المفسّرين كالواحدي … » «1».

وفي (الدر المنثور):

«أخرج ابن أبي داود، عن عبدالأعلي بن عبداللَّه بن عامر القرشي قال:

لمّا فرغ من المصحف اتي به عثمان فنظر فيه فقال: قد أحسنتم وأجملتم، أري شيئاً من لحن ستقيمه العرب بألسنتها. قال ابن أبي داود: وهذا عندي يعني بلغتها فينا وإلّا فلو كان فيه لحن لا يجوز في كلام العرب جميعاً لما استجاز أن يبعث إلي قوم يقرؤونه.

وأخرج ابن أبي داود عن عكرمة قال: لمّا اتي عثمان بالمصحف رأي فيه شيئاً من لحن، فقال: لو كان المملي من هُذيل والكاتب من ثقيف لم يوجد فيه هذا.

وأخرج ابن أبي داود عن قتادة: إنّ عثمان لمّا رفع إليه المصحف فقال:

إنّ فيه لحناً وستقيمه العرب بألسنتها.

وأخرج ابن أبي داود عن يحيي بن يَعمر قال: قال عثمان: إنّ في القرآن لحناً وستقيمه العرب بألسنتها» «2».

وفي (الإتقان):

«حدّثنا حجّاج، عن هارون بن موسي، أخبرني الزبير بن الخِرّيت، عن __________________________________________________

(1) منهاج السنّة 4: 39.

(2) الدر المنثور 2: 745.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 144

عكرمة

قال: لمّا كُتبت المصاحف عُرضَت علي عثمان فوجد فيها حروفاً من اللحن، فقال: لا تغيّروها فإنّ العرب ستغيّرها- أو قال: ستعربها- بألسنتها، لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم يوجد فيه هذه الحروف؛ أخرجه من هذه الطريق ابن الأنباري في كتاب الردّ علي من خالف مصحف عثمان وابن أشتة في كتاب المصاحف.

ثمّ أخرج ابن الأنباري نحوه من طريق عبدالأعلي بن عبداللَّه بن عامر وابن أشتة نحوه من طريق يحيي بن يعمر» «1».

وفي (تفسير) أبي الليث:

«قال- أي أبو عبيد-: وروي عن عثمان رضي اللَّه عنه أنّه عُرِض عليه المصحف فوجد فيه حروفاً من اللحن، فقال: لو كان الكاتب من ثقيف والمملي من هذيل لم يوجد فيه هذه الحروف» «2».

وقال ابن روزبهان بجواب العلّامة الحلّي:

«وأمّا عدم تصحيح لفظ القرآن، لأنّه كان يجب عليه متابعة صورة الخط وهكذا كان مكتوباً في المصاحف، ولم يكن التغيير له جائزاً فتركه، لأنّه لغة بعض العرب».

ولنعم ما أفاده العلّامة التستري في جوابه حيث قال:

«وأمّا ما ذكره في إصلاح إطلاق عثمان اللّحن علي القرآن فلا يصدر إلّا عن محجوج مبهوت، فإنّ المصنّف اعترض علي عثمان بأنّه أطلق علي القرآن اشتماله علي اللحن المذموم المخلّ بالفصاحة، وهذا النّاصب يغمض العين __________________________________________________

(1) الاتقان في علوم القرآن 2: 320.

(2) تفسير أبي الليث السمرقندي 1: 404 و 450 و 2: 347- 348.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 145

عن جواب هذا الذي هو محطّ الطعن ويتعرّض بوجه ترك عثمان لتغييره وإصلاحه بقوله: دعوه …

وما أشبه جوابه هذا بما أجاب به أجاب أهل خراسان عمداً عن سؤال أهل ماوراء النهر، بأنّ النبّال إذا أراد استعلام استقامة النبل واعوجاجه لِمَ يغمض أحد عينيه. وبأنّ الطير المسمّي باللق لق

إذا قام لِمَ يرفع إحدي رجليه.

فأجاب أهل خراسان بأنّ النبّال إنّما يغمض إحدي عينيه لأنّه لو أغمض العين الاخري لا يري شيئاً، والطّير المذكور إنّما يرفع إحدي رجليه لأنّه لو رفع الرجل الآخر لسقط علي الأرض، فليضحك أولياؤه كثيراً.

ومن العجب: أنّ عثمان صرّح بأنّ تلك العبارة من القرآن لا تقبل الإصلاح وأنّه لا حاجة إلي إصلاحه، لعدم تحليله حراماً وتحريمه حلالًا، وهذا الناصب المرواني- الذي غلب عليه هوي عثمان- لمّا علم أنّ ما قاله عثمان طعن لا مدفع له، عَدَل عن دفعه عنه وقال: تركه لأنّه كان لغة بعض العرب، فإنّ كونه لغة بعض العرب هو الوجه الذي ذكره العلماء لدفع وهم عثمان لا لدفع الطعن عنه، وأنّي يندفع الطعن عنه بذلك، ولو كان عثمان عالماً بموافقة ذلك للغة بعض العرب كيف صحّ له مع كثرة حياءه عند القوم أن لا يستحيي من اللَّه ويطلق علي بعض كلماته التامّات أنّه لحن وخطأ في القول؟

مع ظهور أنّ بعض ألفاظ القرآن وارد علي لغة قريش وبعضها علي لغة بني تميم وبعضها علي لغة غيرهم».

نقد القول بوقوع اللحن في القرآن … ص: 145

هذا، وقد قال صاحب (الكشّاف): «لا يلتفت إلي ما زعموا من وقوعه استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 146

لحناً في [خطّ] المصحف» «1».

ونصّ النيسابوري صاحب (التفسير) علي ركاكة القول المذكور حيث قال: «ولا يخفي ركاكة هذا القول، لأنّ هذا المصحف منقول بالنّقل المتواتر» «2».

وهكذا الفخر الرازي … فإنّه بعد حكاية القول بذلك عن عثمان وعائشة قال: «واعلم أنّ هذا بعيد» «3» ولا استبعاد في استبعاده بل في كفر قائله بإجماع أهل العلم علي ما في (الشفاء) للقاضي عياض «4».

والسيوطي تحيَّر بعد نقل تلك الآثار في حلّها، فإنّه قال:

«وهذه الآثار مشكلة جدّاً، وكيف

يظنّ بالصّحابة أوّلًا: إنّهم يلحنون في الكلام فضلًا عن القرآن وهم الفصحاء اللّد، ثمّ كيف يظنّ بهم ثانياً: في القرآن الذي تلقّوه من النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم كما انزل وحفظوه وضبطوه وأتقنوه، ثمّ كيف يظنّ بهم ثالثاً: اجتماعهم كلّهم علي الخطأ وكتابته، ثمّ كيف يظنّ بهم رابعاً: عدم تنبّههم ورجوعهم عنه. ثمّ كيف يظنّ بعثمان إنّه ينهي عن تغييره؟

ثمّ كيف يظنّ أنّ القرآن استمرّ علي مقتضي ذلك الخطأ وهو مرويّ بالتّواتر خلفاً عن سلف، هذا ممّا يستحيل شرعاً وعقلًا وعادة» «5».

ثمّ إنّ السيوطي حاول الإجابة عن الإشكالات فقال:

«وقد أجاب العلماء عن ذلك بثلاثة أوجه:

__________________________________________________

(1) الكشاف في تفسير القرآن 1: 582.

(2) تفسير النيسابوري/ غرائب القرآن 6: 529.

(3) تفسير الفخر الرازي 11: 106.

(4) الشفا بتعريف حقوق المصطفي 2: 646- 647.

(5) الإتقان في علوم القرآن 2: 321.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 147

أحدها: أنّ ذلك لا يصحّ عن عثمان، فإنّ إسناده ضعيف مضطرب منقطع، ولأنّ عثمان جعل للنّاس إماماً يقتدون به، فكيف يري فيه لحناً ويتركه ليقيمه العرب بألسنتها؟ فإذا كان الذين تولّوا جمعه وكتابته لم يقيموا ذلك وهم الخيار، فكيف يقيمه غيرهم؟ وأيضاً، فإنّه لم يكتب مصحفاً واحداً بل كتب عدّة مصاحف، فإن قيل: إنّ اللحن وقع في جميعها فبعيد اتّفاقها علي ذلك، أو في بعضها فهو اعتراف بصحّة البعض، ولم يذكر أحد من النّاس إنّ اللّحن كان في مصحف دون مصحف، ولم تأت المصاحف قطّ مختلفة إلّافيما هو من وجوه القرائة وليس ذلك بلحن.

الوجه الثاني: علي تقدير صحّة الرواية، إنّ ذلك مأوّل علي الرّمز والإشارة ومواضع الحذف نحو الكتب والصبرين وما أشبه ذلك.

الثّالث: إنّه مأوّل علي أشياء خالف لفظها رسمها كما كتبوا «لأوضعوا» و

«لأذبحنّه» بألف بعد لا «لا اوضعوا» و «لا اذبحنّه» و «جزاؤ الظالمين» بواو وألف، و «بأيد» بيائين، فلو قري ء ذلك بظاهر الخط لكان لحناً. وبهذاالجواب وما قبله جزم ابن أشتة في كتاب المصاحف» «1».

هذا، ولا يجدي شي ء من هذه الوجوه نفعاً، فالروايات تلقّاها العلماء بالقبول ونسبوها إلي قائليها عن جزم، كما في (معالم التنزيل): «قال عثمان: إنّ في المصحف لحناً وستقيمه العرب بألسنتها … » «2».

وأمّا الجواب بالحمل علي التأويل، فواضح ما فيه، وقد ذكره السيوطي فقال:

__________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 2: 321- 322. وفيه اختلاف.

(2) تفسير البغوي/ معالم التنزيل 2: 188.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 148

«ومن زعم أنّ عثمان أراد بقوله: أري فيه لحناً: أري في خطّه لحناً إذا أقمناه بألسنتنا كان لحن الخط غير مفسد ولا محرّف من جهة تحريف الألفاظ وإفساد الإعراب، فقد أبطل ولم يصب؛ لأنّ الخط منبي ء عن النطق؛ فمن لحن في كتبه فهو لاحن في نطقه، ولم يكن عثمان ليؤخّر فساداً في هجاء ألفاظ القرآن من جهة كتب ولا نطق، ومعلوم أنّه كان مواصلًا لدرس القرآن متقناً لألفاظه موافقاً علي ما رسم في المصاحف المنفذة إلي الأمصار والنواحي» «1».

وقال:

«أخرج- أي ابن أشتة- عن إبراهيم النخعي أنّه قال: آية و «إنّ هذين ساحران» سواء، لعلّهم كتبوا الألف مكان الياء، والواو في قوله: «والصابئون» و «الرّاسخون» مكان الياء. قال ابن أشتة: يعني إنّه من إبدال حرف في الكتابة بحرف، مثل الصّلاة والزّكاة والحياة.

وأقول: هذا الجواب إنّما يحسن لو كانت القرائة بالياء فيها والكتابة بخلافها، وأمّا والقرائة علي مقتضي الرسم فلا» «2».

ثمّ ذكر السيوطي جواباً آخر جعله أقوي ما يجاب به، قال:

«ثمّ قال ابن أشتة: أنبأنا محمّد بن يعقوب، حدّثنا أبو

داود سليمان بن الأشعث، ثنا حميد بن مسعدة، ثنا إسماعيل أخبرني الحارث بن عبدالرحمن، عن عبدالأعلي بن عبداللَّه بن عامر قال: لمّا فرغ من هذا المصحف اتي به عثمان فنظر فيه، فقال: أحسنتم وأجملتم، أري شيئاً سنقيمه بألسنتنا.

فهذا الأثر لا إشكال فيه وبه يتّضح معني ما تقدّم، فكأنّه عرض عليه __________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 2: 322.

(2) الإتقان في علوم القرآن 2: 324- 325.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 149

عقب الفراغ من كتابته، فرأي فيه شيئاً كتب علي غير لسان قريش، كما وقع لهم في التابوت والتابوة، فوعد بأنّه سيقيمه علي لسان قريش، ثمّ وفي بذلك عند العرض والتقويم ولم يترك شيئاً.

ولعلّ من روي الآثار السابقة عنه حرّفها ولم يتقن اللّفظ الذي صدر من عثمان، فلزم منه ما لزم من الإشكال، فهذا أقوي ما يجاب به عن ذلك، وللَّه الحمد» «1».

وأمّا أبو القاسم الراغب الإصفهاني فلم يرتض شيئاً من هذه الوجوه فقال:

«كأن القوم الذين كتبوا المصحف لم يكونوا قد حذقوا الكتابة، فلذلك وضعت أحرف علي غير ما يجب أن تكون عليه. وقيل: لمّا كتبت المصاحف وعرضت علي عثمان فوجد فيها حروفاً من اللّحن في الكتابة قال: لا تغيّروها، فإنّ العرب ستغيّرها- أو ستعربها- بألسنتها ولو كان الكاتب من ثقيف والممل من هذيل لم يوجد فيه هذه الحروف» «2».

عائشة: أخطأوا في الكتب!

وقال السيوطي في (الإتقان):

«قال أبو عبيد في فضائل القرآن: ثنا أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن جدّه قال: سألت عائشة عن لحن القرآن عن قوله «إن هذان لساحران» وعن قوله: «والمقيمين الصّلاة والمؤتون الزّكاة» وعن قوله «إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والصّابئون والنّصاري» قالت: يا ابن أخي هذا عمل __________________________________________________

(1) الإتقان

في علوم القرآن 2: 323- 324.

(2) محاضرات الادباء 2: 434.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 150

الكتّاب أخطأوا في الكتاب؛ هذا إسناد صحيح علي شرط الشيخين» «1».

وقال في (الدر المنثور):

«أخرج أبو عبيد في فضائله وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي داود وابن المنذر عن عروة قال: سألت عائشة عن لحن القرآن «إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والصّابئون» «والمقيمين الصّلاة والمؤتون الزّكاة» و «إن هذان لساحران» فقالت: يا ابن اختي! هذا عمل الكتّاب أخطأوا في الكتاب» «2».

وقال أبو عمرو الداني في (المقنع):

«نا الخاقاني قال: نا أحمد بن محمّد قال: نا علي بن عبدالعزيز قال: نا أبوعبيد قال: نا أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه قال: سألت عائشة رضي اللَّه عنها عن لحن القرآن عن قول اللَّه عزّ وجلّ: «إن هذان لساحران» وعن قوله: «والمقيمين الصلاة والمؤتون الزّكاة» وعن قوله تعالي: «إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والصّابئون» فقالت: يا ابن اختي! هذا عمل الكتّاب أخطأوا في الكتاب» «3».

والحقُّ: أن الحديث الصحيح المتقدّم ونحوه لا يمكن الجواب عنه بما ذكروه، وهذا ما اعترف به الحافظ السيوطي بالتالي حيث قال بعد ذكر الأجوبة التي تقدّمت وما استحسنه من جوابه:

«وبعد؛ فهذه الأجوبة لا يصح شي ء منها عن حديث عائشة؛ أمّا الجواب __________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 2: 320.

(2) الدر المنثور 2: 744- 745.

(3) المقنع لأبي عمرو الداني: 119.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 151

بالتضعيف، فلأنّ إسناده صحيح كما تري، وأمّا الجواب بالرمز وما بعده، فلأنّ سؤال عروة عن الأحرف المذكورة لا يطابقه» «1».

ولقد أنصف القاضي ثناء اللَّه الهندي- وهو أكبر تلامذة شاه ولي اللَّه- إذ خطّأ عائشة وجعل قولها خرقاً للإجماع، حيث قال

في (تفسيره) في تفسير قوله تعالي: «إن هذان لساحران»:

«واختلفوا في توجيهه، فروي هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنّه خطأ من الكاتب. وهذا القول خطأ خارق للإجماع».

وكذا ابن السمين في تفسيره (الدر المصون) حيث قال:

«ذهب جماعة- منهم عائشة رضي اللَّه عنها وأبو عمرو- إلي أنّ هذا ممّا لحن فيه الكاتب واقيم بالصواب، يعنون أنّه كان من حقّه أن يكتب بالياء فلم يفعل ولم يقرأه النّاس إلّابالياء علي الصواب» «2».

وقال السيوطي في (الإتقان):

«تذنيب: يقرب ممّا تقدّم عن عائشة ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده وابن أشتة في المصاحف، من طريق إسماعيل المكّي عن أبي خلف مولي بني جمح: أنّه دخل مع عبيد بن عمير علي عائشة فقال: جئت أسألك عن آية من كتاب اللَّه كيف كان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقرؤها. قالت: أيّة آيةٍ؟

قال: الذين يؤتون ما آتوا أو الذين يأتون ما آتوا. فقالت: أيّهما أحبّ إليك؟

قلت: والذي نفسي بيده لإحداهما أحبّ إليّ من الدنيا جميعاً. قالت: أيّهما؟

قلت: الذين يأتون ما آتوا. فقالت: أشهد أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم __________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 2: 324.

(2) الدر المصون/ تفسير ابن السمين 5: 34- 35.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 152

كذلك كان يقرؤها وكذلك انزلت ولكن الهجاء حُرّف» «1».

وقال في (الدر المنثور):

«أخرج سعيد بن منصور وأحمد وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه وابن المنذر وابن أبي شيبة وابن الأنباري معاً في المصاحف والدّارقطني في الإفراد والحاكم وصحّحه وابن مردويه عن عبيد بن عمير رضي اللَّه عنه: إنّه سأل عائشة رضي اللَّه عنها: كيف كان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقرأ هذه الآية: والذين يؤتون ما آتوا والذين يأتون ما آتوا،

فقالت: أيّتهما أحبّ إليك؟

قلت: والذي نفسي بيده لإحداهما أحبّ إليّ من الدنيا جميعاً. قالت: أيّهما؟

قلت: الذين يأتون ما آتوا. فقالت: أشهد أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم كذلك كان يقرؤها، وكذلك انزلت ولكن الهجاء حرّف» «2».

ابن عبّاس: أخطأ الكاتب وقال في (الإتقان) عاطفاً علي ما تقدم:

«وما أخرجه ابن جرير وسعيد بن منصور في سننه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عبّاس في قوله «حَتّي تستأنسوا وتُسلّموا» قال: إنّما هي خطأ من الكاتب: حتّي تستأذنوا وتسلّموا؛ أخرجه ابن أبي حاتم بلفظ هو فيما أحسب ممّا أخطأ به الكتّاب» «3».

وأخرج الحاكم:

«عن مجاهد عن ابن عبّاس في قوله: «لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتّي __________________________________________________

(1) الاتقان في علوم القرآن 2: 327.

(2) الدر المنثور في التفسير بالمأثور 6: 106 وفيه: ابن اشته بدل ابن أبي شيبة.

(3) الإتقان في علوم القرآن 2: 327.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 153

تستأنسوا» قال: أخطأ الكاتب، تستأذنوا». ثمّ قال: «هذا حديث صحيح علي شرط الشيخين» «1».

وفي (الدر المنثور):

«أخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف وابن مندة في غرائب شعبة والحاكم وصحّحه وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان والضياء في المختارة من طرق عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما في قوله تعالي: «حتّي تستأنسوا وتسلّموا علي أهلها» قال: أخطأ الكاتب، إنّما هي: حتّي تستأذنوا» «2».

والعجب: أن الحكيم الترمذي يجعل هذا الحديث وأمثاله- مما أخرجه كبار الأئمة كما عرفت وصحّحوه- من مكائد الزنادقة، وفي ذلك فضيحة لثقات المحدثين بل لأعلام الصحابة وغيرهم من أركان الدين … إنّه يقول:

«والعجب من هؤلاء الرواة، أحدهم يروي عن ابن عبّاس إنّه قال في قوله «حتّي

تستأنسوا وتسلّموا» هو خطأ من الكاتب إنّما هو تستأذنوا وتسلّموا، وما أري مثل هذه الروايات إلّامن كيد الزنادقة في هذه الأحاديث، إنّما يريدون أن يكيدوا الإسلام بمثل هذه الروايات، فيا سبحان اللَّه، كان كتاب اللَّه بين ظهرانيّ أصحاب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في مَضِيعة حتّي كتب الكتّاب فيها ما شاؤوا وزادوا ونقصوا!!

وروي عنه أيضاً أنّه قال: خطأ من الكتّاب قوله: «أفلم ييأس الذين __________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 2: 396.

(2) الدر المنثور: 6: 171.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 154

آمنوا أن لو يشاء اللَّه لهدي الناس جميعاً» إنّما هو: أفلم يتبيّن، فهذه اللغات إنّما يتغيّر معانيها بزيادة حرف ونقصان حرف، أفيحسب ذو عقل إنّ أصحاب محمّد صلّي اللَّه عليه وسلّم أهملوا أمر دينهم حتّي فوّضوا عهد ربّهم إلي كاتب يخطي ء فيه، ثمّ يقرّه أبوبكر وعمر وابيّ بن كعب رضي اللَّه عنهم أجمعين، حيث جمعوه في خلافة أبي بكر ثمّ من بعده مرّة اخري في زمن عثمان رضي اللَّه عنه … ».

وقد أشار الحكيم إلي ما رواه السيوطي في (الإتقان) إذ قال:

«وما أخرجه ابن الأنباري من طريق عكرمة عن ابن عبّاس إنّه قرأ: أفلم يتبيّن الذين آمنوا أن لو يشاء اللَّه لهدي الناس جميعاً، فقيل له: إنّها في المصحف: أفلم ييأس الذين آمنوا، قال: أظنّ الكاتب كتبها وهو ناعس» «1».

وهو في (الدر المنثور):

«أخرج ابن جرير وابن الأنباري في المصاحف عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما إنّه قرأ: أفلم يتبيّن الذين آمنوا، فقيل له: إنّها في المصحف: أفلم ييأس الذين آمنوا، فقال: أظنّ الكاتب كتبها وهو ناعس» «2».

ونصّ الحافظ ابن حجر علي صحّته في (فتح الباري):

«روي الطبري وعبد بن حميد بإسناد صحيح كلّهم من رجال

البخاري عن ابن عبّاس إنّه كان يقرؤها: أفلم يتبيّن، ويقول: كتبها الكاتب وهو ناعس» «3».

__________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 2: 327.

(2) الدر المنثور 4: 653.

(3) فتح الباري في شرح البخاري 8: 300.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 155

ثمّ تعرّض ابن حجر لإنكار من أنكر هذه الأحاديث وردّ عليهم بشدّة فقال:

«وأمّا ما أسنده الطبري عن ابن عبّاس، فقد اشتدّ إنكار جماعة ممّن لا علم له بالرجال صحّته، وبالغ الزمخشري في ذلك كعادته- إلي أن قال- وهي واللَّه فرية بلا مرية، وتبعه جماعة بعده واللَّه المستعان. وقد جاء عن ابن عبّاس نحو ذلك في قوله تعالي: «وقضي ربّك ألّا تعبدوا إلّاإيّاه» أخرجه سعيد بن منصور بإسناد جيّد عنه، وهذه الأشياء وإن كان غيرها المعتمد، لكن تكذيب المنقول بعد صحّته ليس من دأب أهل التحصيل، فلينظر في تأويله بما يليق [به » «1».

وقد روي السيوطي ما ذكره ابن حجر:

«أخرج الفريابي وسعيد بن منصور و ابن جرير و ابن المنذر و ابن الأنباري في المصاحف من طريق سعيد بن جبير عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنه في قوله: «وقضي ربّك أن لا تعبدوا إلّاإيّاه» قال: التزقت الواو بالصاد وأنتم تقرؤونها: وقضي ربّك.

وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الضحّاك عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنه مثله.

و أخرج أبو عبيد و ابن منيع وابن المنذر وابن مردويه من طريق ميمون ابن مهران عن ابن عبّاس قال: أنزل اللَّه هذا الحرف علي لسان نبيّكم: ووصّي ربّك ألّا تعبدوا إلّاإيّاه، فلصقت إحدي الواوين بالصاد فقرأ النّاس: وقضي __________________________________________________

(1) فتح الباري في شرح البخاري 8: 300- 301 مع بعض الاختلاف.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 156

ربّك، ولو نزلت علي القضاء ما أشرك

به أحداً» «1».

وفي (الإتقان):

«أخرج سعيد بن منصور من طريق سعيد بن جبير عن ابن عبّاس أنّه كان يقول في قوله: «وقضي ربّك» إنّما هي: ووصّي ربّك، التزقت الواو بالصاد.

وأخرجه ابن أشتة بلفظ: استمدّ الكاتب مداداً كثيراً فالتزقت الواو بالصاد.

وأخرج هو من طريق الضحّاك عن ابن عبّاس أنّه كان يقرأ: ووصّي ربّك، ويقول: أمر ربّك، إنّهما واوان التصقت إحداهما بالصاد.

وأخرج من طريق اخري عن الضحّاك إنّه قال: كيف تقرأ هذا الحرف؟

قال: وقضي ربّك، قال: ليس كذلك نقرؤها نحن ولا ابن عبّاس، إنّما هي:

ووصّي ربّك، كذلك كانت تقرأ وتكتب، فاستمدّ كاتبكم فاحتمل القلم مداداً كثيراً فالتزقت الواو بالصاد، ثمّ قرأ: «ووصّينا الذين اوتوا الكتاب» ولو كانت قضاء من الربّ لم يستطع أحد ردّ قضاء الربّ، ولكنّه وصيّة أوصي بها العباد» «2».

وروي السيوطي في (الإتقان):

«وما أخرجه سعيد بن منصور وغيره من طريق عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عبّاس إنّه كان يقرأ: ولقد آتينا موسي وهارون الفرقان ضياء،

__________________________________________________

(1) الدر المنثور في التفسير بالمأثور 5: 257.

(2) الإتقان في علوم القرآن 2: 327- 328 مع اختلاف.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 157

ويقول: خذوا هذه الواو واجعلوها هاهنا: «الذين قال لهم النّاس إنّ النّاس قد جمعوا لكم» الآية.

وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق الزّبير بن خرّيت عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: إنزعوا هذه الواو فاجعلوها في: «الذين يحملون العرش ومن حوله»» «1».

وفي (الدر المنثور):

«أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما إنّه كان يقرأ: ولقد آتينا موسي وهارون الفرقان ضياء، ويقول: خذوا هذه الواو واجعلوها هاهنا في: «الذين يحملون العرش ومن حوله»» «2».

وروي في (الإتقان):

«وما أخرجه ابن أشتة وابن أبي حاتم من طريق عطاء

عن ابن عبّاس في قوله تعالي: «مثل نوره كمشكاة» قال: هي خطأ من الكاتب، هو أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة، إنّما هي: مثل نور المؤمن كمشكاة» «3».

وفي (الدر المنثور):

«أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس في قوله تعالي: «مثل نوره» قال:

هي خطأ من الكاتب، هو أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة، قال: مثل نور المؤمن كمشكاة» «4».

ثمّ حاول السيوطي تأويل هذه الروايات والدفاع عن رواتها:

«وقد أجاب ابن أشتة عن هذه الآثار كلّها: بأنّ المراد أخطأوا في الإختيار

__________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 2: 328.

(2) الدر المنثور 5: 634.

(3) الإتقان في علوم القرآن 2: 328.

(4) الدر المنثور 6: 197.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 158

وما هو الأولي بجمع الناس عليه من الأحرف السبعة، لا أنّ الذي كُتب خطأ خارج عن القرآن.

قال: فمعني قول عائشة «حرّف الهجاء» القي إلي الكاتب هجاء غير ما كان بالأولي أن يُلقي إليه من الأحرف السبعة.

قال: وكذا معني قول ابن عبّاس: كتبها وهو ناعس، يعني فلم يتدبّر الوجه الذي هو أولي من الآخر، وكذا سائرها» «1».

وذكر مثل ذلك في رسالته (جزيل المواهب):

«ونظير ما قلناه من أنّ المذاهب كلّها صواب وأنّها من باب جائز وأفضل لا من باب صواب وخطأ: ما ورد عن جماعة من الصحابة في قرائات مشهورة أنّهم أنكروها علي عثمان وقرؤوا غيرها. وأجاب العلماء عن إنكارهم بأنّهم أرادوا أنّ الأولي اختيار غيرها ولم يريدوا إنكار القرائة بها البتّة، وقد عقدتُ لذلك فصلًا في الإتقان».

وقال في (الإتقان) بعد العبارة السابقة:

«وأمّا قول ابن الأنباري، فإنّه جنح إلي تضعيف الروايات ومعارضتها بروايات اخر عن ابن عبّاس وغيره بثبوت هذه الأحرف في القرآن، والجواب الأوّل أولي وأقعد» «2».

هذا، وقد

كان الأولي بالسّيوطي أن يترك التعرّض لمثل هذه الخرافات كما تركها ابن حجر …

ثمّ جاء في (الإتقان) ما هو الأعجب من ذلك، حيث قال:

__________________________________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 2: 328- 329.

(2) الإتقان في علوم القرآن 2: 329.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 159

«قد حكي أبو عمر الزاهد في كتاب اليواقيت عن ثعلب إنّه قال: إذا اختلف الإعرابان في القرآن لم افضّل إعراباً علي إعراب، فإذا خرجتُ إلي كلام النّاس فضّلتُ الأقوي.

وقال أبو جعفر النحّاس: السلامة عند أهل الدّين إذا صحّت القرائتان أن لا يقال لإحداهما أجود، لأنّهما جميعاً عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم، فيأثم من قال ذلك، وكان رؤساء الصحابة رضوان اللَّه عليهم ينكرون مثل هذا.

وقال أبو شامة: أكثر المصنّفون من الترجيح بين قرائة مالك وملك، حتّي أنّ بعضهم بالغ إلي حدّ يكاد يُسقط وجه القرائة الاخري، وليس هذا بمحمود بعد ثبوت القرائتين» «1».

فإذا كان الترجيح إثماً فكيف بالتخطئة، وقد عرفنا أنّ ابن عباس وعائشة وغيرهما قد خطّأوا آيات عديدة؟

بل جاء في بعض الآثار الصحيحة أن ترجيح قراءةٍ علي قراءةٍ يكاد يكون كفراً! قال ابن حجر في كلام له في جمع المصاحف:

«وقد جاء عن عثمان أنّه إنّما فعل ذلك بعد أن استشار الصّحابة، فأخرج ابن أبي داود بإسناد صحيح من طريق سويد بن غفلة قال: قال عليّ: لا تقولوا في عثمان إلّاخيراً، فواللَّه ما فعل الذي فعل في المصاحف إلّاعن ملإٍ منّا.

قال: ما تقولون في هذه القرائة فقد بلغني أنّ بعضهم يقول إنّ قرائتي خير من قرائتك، وهذا يكاد يكون كفراً. قلنا: فما تري؟ قال: أري أن يجمع النّاس علي مصحف واحد فلا يكون فرقة ولا اختلاف. قلنا: فنعم ما رأيت» «2».

__________________________________________________

(1) الإتقان

في علوم القرآن 1: 281.

(2) فتح الباري 9: 15.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 160

هذا، وفي (تفسير الثعلبي) في قوله تعالي: «والمقيمين الصلاة»:

«إختلفوا في وجه انتصابه؛ فقالت عائشة وأبان بن عثمان: هو غلط من الكاتب، ونظيره قوله: «الذين آمنوا والذين هادوا والصّابئون والنّصاري» وقوله: «إن هذان لساحران»» «1».

مجاهد والضحّاك وسعيد بن جبير …

وفي (الدر المنثور):

«أخرج عبد بن حميد والفريابي وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله تعالي: «وإذ أخذ اللَّه ميثاق النبيّين لما آتيتكم من كتاب وحكمة» قال: هي خطأ من الكتّاب، وهي في قرائة ابن مسعود: ميثاق الذين اوتوا الكتاب.

وأخرج ابن جرير عن الربيع إنّه قرأ: وإذ أخذ اللَّه ميثاق الذين اوتوا الكتاب قال: وكذلك كان يقرؤها ابيّ بن كعب. قال الربيع: ألا تري إنّه يقول:

«ثمّ جاءكم رسول مصدّقاً لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه» لتؤمننّ بمحمّد ولتنصرنّه، قال: هم أهل الكتاب» «2».

وفي (تفسير الثعلبي) بتفسير الآية المتقدّمة:

«قال عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه عنه: لم يبعث اللَّه نبيّاً آدم ومن بعده إلّا أخذ عليه العهد في محمّد، وأمره بأخذ العهد علي قومه ليؤمننّ به، ولئن بعث وهم أحياء لينصرنّه. وقال آخرون: إنّما أخذ الميثاق علي أهل الكتاب الذين أرسل منهم النبيّون؛ وهو قول مجاهد والربيع. قال مجاهد: هذا غلط من الكاتب، وهي في قرائة ابن مسعود وابيّ بن كعب: وإذ أخذ اللَّه ميثاق الذين __________________________________________________

(1) تفسير الثعلبي 3: 414.

(2) الدر المنثور 2: 252.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 161

قالوا، ألا تري إلي قوله: ثمّ جاءكم» «1».

وفي (الإتقان):

«وأخرج- أي ابن أشتة- من طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير إنّه كان يقرأ: والمقيمين الصّلاة، ويقول: هو لحن من الكاتب» «2».

ثمّ نقل السيوطي

عن ابن اشتة تأويلًا غريباً فقال:

«أمّا قول سعيد بن جبير: لحن من الكاتب، فعني باللّحن القرائة واللّغة، يعني: إنّها لغة الذي كتبها وقرائته، وفيها قرائة اخري» «3».

واتّبع الضحاك أيضاً ابن عباس، فقد جاء في (الدر المنثور):

«أخرج أبو عبيد وابن جرير وابن المنذر عن الضحّاك بن مزاحم رضي اللَّه عنه إنّه قرأها «ووصّي ربّك» قال: إنّهم ألصقوا إحدي الواوين بالصاد فصارت قافاً» «4».

والأقبح الأشنع من ذلك كلّه: قول بعضهم بأنّ في القرآن أغلاطاً لم يتنبّه إليها الرسول الكريم ولا جبريل الأمين … فاستمع لما جاء في كتاب (اليواقيت والجواهر):

«كان حمزة الزيّات يقول: قرأت سورة يس علي الحقّ تعالي حين رأيته، فلمّا قرأت: «تنزيل العزيز الرّحيم» بضمّ اللام فردّ عليّ الحقّ تعالي تنزيل بفتح اللام وقال: إنّي نزّلته تنزيلًا. وقال: قرأت عليه جلّ وعلا أيضاً سورة طه، فلمّا بلغت إلي قوله تعالي: «وأنا اخترتك» فقال تعالي: وإنّا

__________________________________________________

(1) تفسير الثعلبي 3: 105.

(2) الإتقان في علوم القرآن 2: 321.

(3) الإتقان في علوم القرآن 2: 324.

(4) الدر المنثور 5: 258.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 162

اخترناك» «1».

ونعوذ باللَّه من هذه الاعتقادات الفاسدة في حق كلام اللَّه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه!

موقف ابن مسعود

ومن العجائب: ما يروونه عن عبداللَّه بن مسعود- هذا الصحابي الجليل- بالنسبة إلي هذا القرآن الموجود، فقد جاء في (جامع الاصول):

«وزاد الترمذي: قال الزهري: فأخبرني عبيداللَّه بن عبداللَّه بن مسعود إنّه- أي ابن مسعود- كره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف وقال: يا معشر المسلمين أُعزل عن نسخ المصاحف و يتولّاها رجل- واللَّه- لقد أسلمتُ وإنّه لفي صلب رجل كافر- يريد زيد بن ثابت- ولذلك قال عبداللَّه بن مسعود: يا أهل العراق اكتموا

المصاحف التي عندكم وغلّوها فإنّ اللَّه يقول: «ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة» فالقوا اللَّه بالمصاحف» «2».

وفي (فتح الباري):

«وفي رواية النسائي وأبي عوانة وابن أبي داود من طريق ابن شهاب عن الأعمش عن أبي وائل قال: خطبنا عبداللَّه بن مسعود علي المنبر فقال: «ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة» غلّوا مصاحفكم، وكيف تأمرونني أن أقرأ علي قرائة زيد بن ثابت وقد قرأت من فيّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم.

وفي رواية خمير بن مالك بيان السبب في قول ابن مسعود هذا، ولفظه:

لمّا أمر بالمصاحف أن تُغَيَّر ساء ذلك عبداللَّه بن مسعود فقال: من استطاع …

__________________________________________________

(1) اليواقيت والجواهر للشيخ عبدالوهاب الشعراني 1: 162.

(2) جامع الاصول 2: 506/ 975- وانظر الترمذي 5: 285/ 3104.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 163

وقال في آخره: أفأترك ما أخذت من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، وفي رواية له: فقال: إنّي غال مصحفي فمن استطاع أن يغلّ مصحفه فليفعل.

وعند الحاكم من طريق أبي ميسرة قال: زحتُ فإذا أنا بالأشعري وحذيفة وابن مسعود فقال ابن مسعود: واللَّه لا أدفعه- يعني مصحفه- أقرأني رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم. فذكره» «1».

وفي (مجمع البحار) بتفسير قول ابن مسعود: «ومن يغلل»:

«يعني: إنّ مصحفه ومصحف أصحابه كان مخالفاً لمصحف الجمهور، فأنكر عليه النّاس وطلبوا إحراق مصحفه كما فعلوا فامتنع وقال لأصحابه: غُلّوا مصاحفكم أي اكتموها، ومن يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة، وكفاكم به شرفاً، ثمّ قال إنكاراً: ومن هو الذي تأمرونّي أن آخذ بقرائته وأترك مصحفي الذي أخذته من فيّ رسول اللَّه» «2».

هذا، وقد كان في مصحف ابن مسعود زيادة ونقصان بالنسبة إلي المصحف الموجود، جاء ذلك في كلمات غير واحدٍ من

أئمة القوم، كالقوشجي حيث قال مدافعاً عن عثمان، في (شرح التجريد):

«اجيب: بأن ضرب ابن مسعود إن صحّ فقد قيل: إنّه لمّا أراد عثمان أن يجمع النّاس علي مصحف واحد ويرفع الاختلاف بينهم في كتاب اللَّه طلب مصحفه منه فأبي ذلك، مع ما كان فيه من الزيادة والنقصان، ولم يرض أن يجعل موافقاً لما اتّفق به أجلّة الصحابة، فأدّبه عثمان لينقاد» «3».

__________________________________________________

(1) فتح الباري 9: 39.

(2) مجمع البحار «غلّ».

(3) شرح التجريد للقوشجي: 375.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 164

وأبو الدرداء

وفي مصحف أبي الدرداء الصحابي أيضاً زيادة كما أخرج مسلم في (الصحيح):

«حدّثنا أبوبكر ابن أبي شيبة وأبو كُرَيب- واللفظ لأبي بكر- قال: حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة قال: قدمنا الشام فأتانا أبوالدرداء فقال: فيكم أحد يقرأ علي قرائة عبداللَّه؟ فقلت: نعم أنا. قال:

فكيف سمعت عبداللَّه يقرأ هذه الآية: «والليل إذا يغشي»؟ قال: سمعته يقرأ: والليل إذا يغشي والذكر والانثي. قال: أنا واللَّه هكذا سمعت رسول اللَّه يقرأ، ولكن هؤلاء يريدون أن أقرأ «ما خلق» فلا اتابعهم» «1».

وفي (صحيح مسلم) أيضاً:

«وحدّثني علي بن حجر السعدي حدّثنا، إسماعيل بن إبراهيم، عن داود ابن أبي هند، عن الشعبي، عن علقمة قال: لقيت أباالدرداء فقال لي: ممّن أنت؟ قلت: من أهل العراق. قال: من أيّهم؟ قلت: من أهل الكوفة. قال: هل تقرأ علي قرائة عبداللَّه بن مسعود؟ قال: قلت: نعم. قال: فاقرأ «والليل إذا يغشي» فقرأت: والليل إذا يغشي والنّهار إذا تجلّي والذكر والانثي. قال:

فضحك ثمّ قال: هكذا سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقرؤها» «2».

وفي (صحيح البخاري):

«حدّثنا قبيصة بن عقبة قال: حدّثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة قال: دخلت في نفر من

أصحاب عبداللَّه الشام، فسمع بنا

__________________________________________________

(1) صحيح مسلم 1: 565- 566/ 823 كتاب صلاة المسافرين الباب 50.

(2) صحيح مسلم 1: 565.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 165

أبوالدرداء فأتانا فقال: أفيكم من يقرأ؟ فقلنا: نعم. قال: فأيّكم أقرأ؟ فأشاروا إليّ. فقال: إقرأ، فقرأت: والليل إذا يغشي والنّهار إذا تجلّي والذكر والانثي، فقال: أنت سمعتها من فيّ صاحبك؟ قلت: نعم. قال: وأنا سمعتها من فيّ النبيّ وهؤلاء يأبون علينا» «1».

وفي (صحيح البخاري) أيضاً:

«حدّثنا عمرو بن حفص، حدّثنا أبي قال: حدّثنا الأعمش، عن إبراهيم قال: قدم أصحاب عبداللَّه علي أبي الدرداء فطلبهم فوجدهم، فقال: أيّكم يقرأ علي قرائة عبداللَّه؟ قال: كلّنا. قال: فأيّكم أحفظ؟ فأشاروا إلي علقمة. قال:

كيف سمعته يقرأ: «والليل إذا يغشي»؟ قال علقمة: والذكر والانثي. قال:

أشهد إنّي سمعت النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم يقرأ هكذا، وهؤلاء يريدونني علي أن أقرأ: ما خلق الذكر والانثي، واللَّه لا اتابعهم» «2».

وفي (صحيح الترمذي):

«حدّثنا هناد، نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة قال:

قدمنا الشام فأتانا أبوالدرداء، فقال: أفيكم أحد يقرأ علي قرائة عبداللَّه؟

فأشاروا إليّ، فقلت: نعم. قال: كيف سمعت عبداللَّه يقرأ هذه الآية: «والليل إذا يغشي»؟ قال: قلت: سمعته يقرؤها: والليل إذا يغشي والذكر والانثي.

فقال أبوالدرداء: وأنا واللَّه هكذا سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وهو يقرؤها، وهؤلاء يريدونني أن أقرأها: [و] ما خلق، فلا اتابعهم.

هذا حديث حسن صحيح، وهكذا قرائة عبداللَّه بن مسعود: والليل إذا

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 6: 210.

(2) صحيح البخاري 6: 210- 211 وفيه: عمر بن حفص.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 166

يغشي والنّهار إذا تجلّي والذكر والانثي» «1».

وجاء في كتاب (المحاضرات) ما يلي:

«وقيل: أحرق عثمان رضي اللَّه عنه مصحف ابن مسعود، وإنّ ابن

مسعود رضي اللَّه عنه كان يقول: لو ملكت كما ملكوا لصنعت بمصحفهم مثل الذي صنعوا بمصحفي» «2».

أقول:

قد يحمل بعض ما جاء في هذه الأخبار والآثار علي اختلاف القراءة، وبعضها الآخر علي نسخ التلاوة، ولكنَّ طرفاً كبيراً من ذلك لا يمكن حمله لا علي النسخ ولا علي القراءة، كما هو واضحٌ لأهل العلم والتحقيق، فهل يلتزم القوم بما جاء في هذه النصوص؟!

__________________________________________________

(1) صحيح الترمذي 5: 191/ 2939 كتاب القراءات، الباب 7.

(2) محاضرات الأدباء 2: 433 باختلاف يسير.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 167

رجال الحديث والعرفان و ولادة الإمام المهدي صاحب الزمان … ص: 167

اشارة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 169

وأورد السيّد نصوص ما وقف عليه من عبارات أعلام أهل السنّة، من عرفاء ومحدّثين ومؤرّخين، في بلاد الهند وخارجها، يصرّحون فيها بولادة الإمام المهدي وأنّه ابن الإمام الحسن العسكري، من ولد الإمام أبي عبداللَّه الحسين الشهيد عليهم الصلاة والسلام …

ونحن ننقل تلك النصوص، ونترجم لأصحابها، تنويهاً بمقامهم وشأنهم بين أهل السنّة:

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 170

الشيخ عبدالوهاب الشعراني … ص: 170

اشارة

قال الشيخ عبدالوهاب الشعراني في كتابه (لواقح الأنوار في طبقات الأخيار):

«ومنهم: الشيخ الصالح العابد الزاهد، ذوالكشف الصحيح والحال العظيم، الشيخ حسن العراقي المدفون فوق الكوم المطِل علي بركة الرطلي، كان رضي اللَّه عنه عمّر نحو مائة سنة وثلاثين سنة، ودخلت عليه مرّة أنا وسيّدي أبوالعبّاس الحرشي، فقال:

احدّثكم بحديث تعرفون به أمري من حيث كنت شابّاً إلي وقتي هذا؟

فقلنا: نعم.

فقال: كنت شابّاً أمرد، أنسج العباء في الشام، وكنت مسرفاً علي نفسي، فدخلت جامع بني اميّة فوجدت شخصاً علي الكرسي يتكلّم في أمر المهدي وخروجه، فتشرّب حبّه قلبي وصرت أدعو في سجودي بأنّ اللَّه يجمعني عليه، فمكثت نحو سنة وأنا أدعو، فبينما أنا بعد المغرب في الجامع إذ دخل عليّ شخص عليه عمامة كعمائم العجم، وجبّة من وبر الجمال، فجسّ بيده علي كتفي وقال:

مالك بالإجتماع بي؟

فقلت له: من أنت؟

فقال: أنا المهدي. فقبّلت يده وقلت: إمض بنا إلي البيت.

فأجاب وقال: أخْلِ لي مكاناً لا يدخل عليّ فيه أحد غيرك، فأخليت له.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 171

فمكث عندي سبعة أيّام ولقّنني الذكر، وأمرني بصوم يوم وإفطار يوم، وبصلاة خمسمائة ركعة في كلّ ليلة، وأن لا أضع جنبي علي الأرض للنوم إلّا غلبة.

ثمّ طلب الخروج وقال لي: يا حسن! لا تجتمع بأحد بعدي

ويكفيك ما حصل لك منّي، فما ثَمّ إلّادون ما وصل إليك منّي فلا تتحمّل من أحد بلا فائدة.

فقلت: سمعاً وطاعة.

وخرجت اودّعه، فأوقفني عند عتبة باب الدار وقال: من هنا.

فأقمت علي ذلك سنين عديدة- إلي أن قال الشعراني بعد ذكر حكاية سياحة حسن العراقي-:

وسألت المهدي عن عمره؟

فقال: يا ولدي! عمري الآن ستمائة سنة وعشرون سنة، ولي عنه الآن مائة سنة.

فقلت ذلك لسيّدي علي الخواصّ فوافقه علي عمر المهدي رضي اللَّه عنهما» «1».

وقال في كتابه (اليواقيت والجواهر):

«المبحث الخامس والستّون: في بيان أنّ جميع أشراط الساعة التي أخبر بها الشارع صلّي اللَّه عليه وسلّم حقّ لابدّ أن يقع كلّها قبل قيام الساعة، وذلك كخروج المهدي ثمّ الدجّال ثمّ نزول عيسي وخروج الدابّة وطلوع الشمس من مغربها ورفع القرآن وفتح سدّ يأجوج ومأجوج، حتّي لو لم يبق من الدنيا إلّا

__________________________________________________

(1) لواقح الأنوار في طبقات الأخيار 2: 139 ترجمة الشيخ حسن العراقي.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 172

مقدار يوم واحد لوقع ذلك كلّه.

قال الشيخ تقي الدين بن أبي منصور في عقيدته: وكلّ هذه الآيات تقع في المائة الأخيرة من اليوم الذي وعد به رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم امّته بقوله: إن صلحت امّتي فلها يوم وإن فسدت فلها نصف يوم، يعني من أيّام الرب المشار إليها بقوله: «وإنّ يوماً عند ربّك كألف سنة ممّا تعدّون».

وقال بعض العارفين: وأوّل الألف محسوب من وفاة عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه عنه آخر الخلفاء، فإنّ تلك المدّة كانت من جملة أيّام نبوّة رسول اللَّه ورسالته، فمهّد اللَّه تعالي بالخلفاء الأربعة البلاد، ومراده صلّي اللَّه عليه وسلّم إنْ شاء اللَّه بالألف قوّة سلطان شريعته إلي انتهاء الألف، ثمّ تأخذ في الاضمحلال إلي

أن يصير الدين غريباً كما بدأ، وذلك الاضمحلال يكون بدايته من مُضِيّ ثلاثين سنة من القرن الحادي عشر، فهناك يُتَرَقَّب خروج المهدي، وهو من أولاد الإمام حسن العسكري، ومولده عليه السلام ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين، وهو باق إلي أن يجتمع بعيسي بن مريم عليه السلام، فيكون إلي وقتنا هذا- وهو سنة ثمان وخمسين وتسعمائة- سبعمائة سنة وست سنين؛ هكذا أخبرني الشيخ حسن العراقي المدفون فوق كوم الريش المُطِلِّ علي برْكة الرطلي بمصر المحروسة، عن الإمام المهدي حين اجتمع به ووافقه علي ذلك شيخنا سيّدي علي الخَوّاص رحمهما اللَّه.

وعبارة الشيخ محي الدين في الباب السادس والستين وثلاثمائة من الفتوحات هكذا: واعلموا أنّه لابدّ من خروج المهدي رضي اللَّه عنه، لكن لا يخرج حتّي تمتلي ء الأرض جوراً وظلماً فيملؤها قسطاً وعدلًا، ولو لم يبق من استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 173

الدنيا إلّايوم واحد طوّل اللَّه تعالي ذلك اليوم حتّي يلي هذا الخليفة.

وهو من عترة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم من ولد فاطمة رضي اللَّه عنها، جدّه الحسين بن علي بن أبي طالب، ووالده حسن العسكري ابن الإمام عليّ النقي بالنون ابن محمّد التقي بالتاء ابن الإمام عليّ الرضا ابن الإمام موسي الكاظم ابن الإمام جعفر الصادق ابن الإمام محمّد الباقر ابن الإمام زين العابدين عليّ بن الإمام الحسين ابن الإمام عليّ بن أبي طالب.

يواطي ء اسمه اسم رسول اللَّه.

يبايعه المسلمون مابين الركن والمقام.

يشبه رسول اللَّه في الخلق- بفتح الخاء-.

وينزل عنه في الخلق- بضمّها- إذ لا يكون أحد مثل رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في أخلاقه واللَّه تعالي يقول: «إنّك لعلي خُلُقٍ عظيم».

هو أجلي الجبهة، أقني الأنف.

أسعد الناس به أهل الكوفة.

يقسم

المال بالسويّة، ويعدل في الرعيّة، يأتيه الرجل فيقول: يا مهدي أعطني، وبين يديه المال، فيحثي له ما استطاع أن يحمله.

يخرج علي فترة من الدين، يزع اللَّه به ما لا يزع بالقرآن.

يمسي الرجل جاهلًا وجباناً وبخيلًا فيصبح عالماً شجاعاً كريماً.

يمشي النصر بين يديه.

يعيش خمساً أو سبعاً أو تسعاً.

يقفو أثر رسول اللَّه ولا يخطي، له ملك يُسدّده من حيث لا يراه، يحمل الكل ويعين الضعيف ويساعد علي نوائب الحقّ، يفعل ما يقول، ويقول ما

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 174

يفعل، ويعلم ما يشهد، يصلحه اللَّه في ليلة، يفتح المدينة الروميّة بالتكبير مع سبعين ألف من المسلمين من ولد إسحاق، يشهد الملحمة العظمي مأدبة اللَّه بمرج عكاء، يبيد الظلم وأهله، ويقيم الدين، وينفخ الروح في الإسلام، يُعِزّ اللَّه به الإسلام بعد ذلّه، ويحييه بعد موته، يضع الجزية، ويدعو إلي اللَّه بالسيف، فمن أبي قتل ومن نازعه خُذِل، يظهر من الدين ما هو عليه في نفسه حتّي لو كان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم حيّاً لحكم به.

فلا يبقي في زمانه إلّاالدّين الخالص عن الرأي، يخالف في غالب أحكامه مذاهب العلماء فينقبضون منه لذلك، لظنّهم أنّ اللَّه تعالي لا يحدث بعد أئمّتهم مجتهداً.

وأطال في ذلك وفي ذكر وقائعه معهم، ثمّ قال:

واعلم أنّ المهدي إذا خرج يفرح جميع المسلمين خاصّتهم وعامّتهم، وله رجال إلهيّون يقيمون دعوته وينصرونه، وهم الوزراء له، يتحمّلون أثقال المملكة ويعينونه علي ما قلّد اللَّه له.

ينزل عليه عيسي بن مريم عليه السلام بالمنارة البيضاء شرقي دمشق متّكياً علي ملكين: ملك عن يمينه وملك عن شماله والنّاس في صلاة العصر، فيتنحّي له الإمام من مكانه فيتقدّم ويصلّي بالنّاس يوم البأس بسنّة النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم، يكسر

الصليب ويقتل الخنزير.

ويقبض المهديّ طاهراً مطهّراً.

وفي زمانه يقتل السفياني عند شجرة بغُوطة دمشق، ويخسف بجيشه في البيداء، فمن كان مجبوراً من ذلك الجيش مكرهاً يحشر علي نيّته، وقد جاءكم زمانه وأظلّكم أوانه.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 175

وقد ظهر في القرن الرابع اللّاحق بالقرون الثلاثة الماضية قرن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وهو قرن الصحابة، ثمّ الذي يليه، ثمّ الذي يلي الثاني، ثمّ جاء بينها فترات وحدثت امور، وانتشرت أهواء، وسفكت دماء، فاختفي إلي أن يجي ء الوقت المعلوم، فشهداؤه خير الشهداء، وامناءه أفضل الامناء.

قال الشيخ محي الدين: وقد استوزر اللَّه تعالي له طائفة خبأهم الحقّ له في مكنون غيبه، أطلعهم كشفاً وشهوداً علي الحقائق وما هو أمر اللَّه عليه في عباده وهم علي أقدام رجال من الصحابة الذين صدقوا ما عاهدوا اللَّه عليه، وهم من الأعاجم ليس فيهم عربيّ لكن لا يتكلّمون إلّابالعربيّة، لهم حافظ من غير جنسهم، ما عصي اللَّه قطّ هو أخصّ الوزراء وأعلم» «1».

ثمّ قال الشعراني بعد كلامٍ له:

«فإن قلت: فما صورة ما يحكم به المهدي إذا خرج؟ هل يحكم بالنصوص أو بالإجتهاد أو بهما؟

فالجواب كما قاله الشيخ محي الدين: إنّه يحكم بما ألقي إليه ملك الإلهام من الشريعة، وذلك أن يلهمه اللَّه الشرع المحمّديّ فيحكم به كما أشار إليه حديث المهدي: إنّه يقفو أثري. فعرّفنا صلّي اللَّه عليه وسلّم أنّه متّبع لا مبتدع، وأنّه معصوم في حكمه، إذ لا معني للمعصوم في الحكم إلّاأنّه لا يخطئ، وحكم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم لا يخطئ، فإنّه لا ينطق عن الهوي إن هو إلّاوحي يوحي، وقد أخبر عن المهدي أنّه لا يخطئ وجعله ملحقاً بالأنبياء في ذلك الحكم.

قال الشيخ: فعلم

أنّه يحرم علي المهدي القياس مع وجود النصوص __________________________________________________

(1) اليواقيت والجواهر 2: 422- 423.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 176

التي منحه اللَّه إيّاها علي لسان ملك الإلهام.

بل حرّم بعض المحقّقين علي جميع أهل اللَّه القياس، لكون رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم مشهوداً لهم، فإذا شكّوا في صحّة حديث أو حكم رجعوا إليه في ذلك فأخبرهم بالأمر الحقّ يقظة ومشافهة، وصاحب هذا المشهد لا يحتاج إلي تقليد أحد من الأئمّة غير رسول اللَّه، قال اللَّه تعالي: «قل هذه سبيلي أدعو إلي اللَّه علي بصيرة أنا ومن اتّبعني» وأطال في ذلك» «1».

أقول:

وفي النصوص المتقدّمة إقرار جماعة من الأعلام بوجود المهدي عليه السلام، ولربّما يوجد فيها ما لا تساعد عليه الأدلّة.

ترجمة الشعراني … ص: 176

هو: الشيخ أبو المواهب عبدالوهّاب بن علي الشعراني المتوفّي سنة 973:

قال ابن العماد- في وفيات السنة المذكورة-: وفيها: الشيخ عبدالوهّاب ابن أحمد الشعراوي الشافعي. قال الشيخ عبدالرؤف المناوي في طبقاته: هو شيخنا الإمام العامل، العابد، الزاهد، الفقيه، المحدّث، الاصولي، الصوفي المربّي، المسلك، من ذريّة محمّد بن الحنفيّة … جدّ واجتهد، فخفظ عدّة متون … وعرض ما حفظ علي علماء عصره.

ثمّ شرع في القراءة … وحبّب إليه الحديث، فلزم الإشتغال به والأخذ عن أهله، ومع ذلك، لم يكن عنده جمود المحدّثين ولا لدونة النقلة، بل هو

__________________________________________________

(1) اليواقيت والجواهر 2: 424- 425.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 177

فقيه النظر صوفي الخبر …

ثمّ أقبل علي الإشتغال بالطريق فجاهد نفسه مدّةً وقطع العلائق الدنيويّة، ومكث سنين لايضطجع علي الأرض ليلًا ولانهاراً، بل اتّخذ له حبلًا بسقف خلوته يجعله في عنقه ليلًا حتي لا يسقط، وكان يطوي الأيّام المتوالية ويديم الصوم … حتّي قويت روحانيّته، فصار يطير من صحن الجامع

الغمري إلي سطحه …

ثمّ تصدّي للتصنيف، فألّف كتباً …

وحسده طوائف، فدسّوا عليه كلمات يخالف ظاهرها الشرع وعقائد زائفة ومسائل تخالف الإجماع، وأقاموا عليه القيامة وشنّعوا وسبّوا ورموه بكلّ عظيمة، فخذلهم اللَّه وأظهره عليهم.

وكان مواظباً علي السنّة، مبالغاً في الورع، مؤثراً ذوي الفاقة علي نفسه …

ومن كلامه: دوروا مع الشرع كيف كان لا مع الكشف فإنّه قد يخطئ … » «1».

الشيخ المودودي … ص: 177

وتبعهم الشيخ علي أكبر بن أسد اللَّه المودودي وهو من علمائهم المتأخرين، فإنّه قال في (المكاشفاتِ- حاشية النفحات) بترجمة علي بن سهل بن الأزهر الإصفهاني:

«ولقد قالوا: إنّ عدم الخطأ في الحكم مخصوص بالأنبياء آكد الخصوصيّة، والشيخ رضي اللَّه عنه يخالفهم في ذلك، لحديث ورد في شأن __________________________________________________

(1) شذرات الذهب في أخبار من ذهب 8: 372- 374.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 178

الإمام المهدي الموعود علي جدّه وعليه الصلاة والسلام كما ذكر ذلك صاحب اليواقيت عنه حيث قال: صرّح الشيخ رضي اللَّه عنه في الفتوحات بأنّ الإمام المهدي يحكم بما ألقي إليه ملك الإلهام من الشريعة، وذلك أنّه يلهمه الشرع المحمّدي فيحكم به كما أشار إليه حديث المهدي. إنّه يقفو اثري لا يخطي، فعرّفنا صلّي اللَّه عليه وسلّم أنّه متّبع لا مبتدع، وأنّه معصوم في حكمه، إذ لا معني للمعصوم في أمر إلّاأنّه لا يخطي، وحكم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم لا يخطي فإنّه لا ينطق عن الهوي إن هو إلّاوحي يوحي، وقد أخبر عن المهدي أنّه لا يخطي وجعله ملحقاً بالأنبياء في ذلك الحكم، وأطال صاحب اليواقيت في ذلك نقلًا عن الشيخ رضي اللَّه عنه وعن غيره من العلماء والفضلاء من أهل السنّة والجماعة.

وقال رحمة اللَّه عليه في المبحث الحادي والثلاثين، في بيان

عصمة الأنبياء من كلّ حركة وسكون وقول وفعل ينقص مقامهم الأكمل، وذلك لدوام عكوفهم في حضرة اللَّه تعالي الخاصّة؛ فتارة يشهدونه سبحانه وتارة يشهدون أنّه يراهم ولا يرونه، ولا يخرجون أبداً عن شهود هذين الأمرين، ومن كان مقامه كذلك لا يتصوّر في حقّه مخالفة قطّ صوريّة كما سيأتي بيانه، وتسمّي هذه حضرة الإحسان، ومنها عصم الأنبياء وحفظ الأولياء؛ فالأولياء يخرجون ويدخلون، والأنبياء مقيمون، ومن أقام فيها من الأولياء كسهل بن عبداللَّه التستري وسيّدي إبراهيم المتبولي، فإنّما ذلك بحكم الإرث والتبعية للأنبياء، استمداداً من مقامهم لا بحكم الاستقلال. فافهم.

ثمّ قال في المبحث الخامس والأربعين: قد ذكر الشيخ أبوالحسن الشاذلي رضي اللَّه عنه: إنّ للقطب خمسة عشر علامة: أن يمدّد بمدد العصمة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 179

والرحمة والخلافة والنيابة ومدد حملة العرش، ويكشف له عن حقيقة الذات، وإحاطة الصفات إلي آخره؛ فبهذا صحّ مذهب من ذهب إلي كون غير النبي معصوماً، ومن قيّد العصمة في زمرة معدودة ونفاها عن غير تلك الزمرة فقد سلك مسلكاً آخر، وله أيضاً وجه يعلمه من علمه، فإنّ الحكم بكون المهدي الموعود رضي اللَّه عنه موجوداً وهو كان قطباً بعد أبيه الحسن العسكري عليهما السلام، كما كان هو قطباً بعد أبيه إلي الإمام عليّ بن أبي طالب كرّمنا اللَّه بوجوههم، يشير إلي صحّة حصر تلك الرتبة في وجوداتهم من حين كان القطبيّة في وجود جدّه عليّ بن أبي طالب إلي أن تتمّ فيه لا قبل ذلك، فكلّ قطب فرد يكون علي تلك الرتبة نيابة عنه لغيبوبته عن أعين العوام والخواصّ لا عن أعين أخصّ الخواص، وقد ذكر ذلك عن الشيخ صاحب اليواقيت وعن غيره أيضاً رضي اللَّه عنه وعنهم، فلابدّ

أن يكون لكلّ إمام من الأئمّة الإثني عشر عصمة؛ خذ هذه الفائدة.

قال الشيخ عبدالوهاب الشعراوي في المبحث الخامس والستين: قال الشيخ تقي الدين بن أبي المنصور في عقيدته، بعد ذكر تعيين السنين للقيامة:

فهناك يترقّب خروج المهدي عليه السلام، وهو من أولاد الإمام الحسن العسكري، ومولده عليه السلام ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين، وهو باق إلي أن يجتمع بعيسي بن مريم عليهما السلام، فيكون عمره إلي وقتنا هذا- وهو سنة ثمان وخمسين وتسعمائة- سبعمائة سنة وست سنين؛ هكذا أخبرني الشيخ حسن العراقي عن الإمام المهدي حين اجتمع به، ووافقه علي ذلك شيخنا سيّدي علي الخواص رحمه اللَّه تعالي.

وعبارة الشيخ محي الدين في الباب السادس والسبعين وثلاثمائة من استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 180

الفتوحات: واعلموا أنّه لابدّ من خروج المهدي عليه السلام، ثمّ قال: وهو من عترة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، من ولد فاطمة رضي اللَّه عنها، جدّه الحسين بن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه، ووالده الحسن العسكري ابن الإمام عليّ النقي بالنون ابن الإمام محمّد التقي بالتاء ابن الإمام عليّ الرضا ابن الإمام موسي الكاظم ابن الإمام جعفر الصادق ابن الإمام محمّد الباقر ابن الإمام زين العابدين ابن الإمام الحسين ابن الإمام عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه تعالي عنهم أجمعين، يواطي ء اسمه اسم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم.

ثمّ عَدَّ رضي اللَّه عنه نبذة من شيم المهدي وأخلاقه النبويّة التي تكون فيه علي جدّه وعليه الصلاة والسلام، ونحن نذكرها في أحوال العارف الجندي قدّس سرّه إن شاء اللَّه تعالي» «1».

الخواجه محمد پارسا … ص: 180

اشارة

وقال الخواجا السيد محمد پارسا في كتاب (فصل الخطاب):

«ولمّا زعم أبو عبداللَّه جعفر بن أبي الحسن

علي الهادي رضي اللَّه عنه أنّه لا ولد لأخيه أبي محمّد الحسن العسكري رضي اللَّه عنه، وادّعي أنّ أخاه الحسن العسكري رضي اللَّه عنه جعل الإمامة فيه سمّي: الكذّاب، وهو معروف بذلك، والعقب من ولد جعفر بن علي هذا في علي بن جعفر، وعقب علي هذا في ثلاثة: عبداللَّه وجعفر وإسماعيل.

وأبو محمّد الحسن العسكري ولده محمّد رضي اللَّه عنهما معلوم عند خاصّة أصحابه وثقات أهله.

__________________________________________________

(1) المكاشفات في الحاشية علي نفحات الانس- ترجمة علي بن سهل الإصبهاني.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 181

ويروي أنّ حكيمة بنت أبي جعفر محمّد الجواد رضي اللَّه عنه عمّة أبي محمّد الحسن العسكري رضي اللَّه عنه كانت تحبّه وتدعو له وتتضرّع أن تري له ولداً، وكان أبو محمّد الحسن العسكري اصطفي جارية يقال لها نرجس، فلمّا كان ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين، دخلت حكيمة فدعت لأبي محمّد الحسن العسكري، فقال لها: يا عمّة! كوني الليلة عندنا لأمر، فأقامت كما رسم، فلمّا كان وقت الفجر اضطربت نرجس، فقامت إليها حكيمة، فلمّا رأت المولود أتت به أبامحمّد الحسن العسكري رضي اللَّه عنه وهو مختون مفروغ منه، فأخذه وأمرّ يده علي ظهره وعينيه وأدخل لسانه في فمه وأذّن في اذنه اليمني وأقام في الاخري، ثمّ قال: يا عمّة! اذهبي به إلي امّه، فذهبت به وردّته إلي امّه.

قالت حكيمة: فجئت إلي أبي محمّد الحسن العسكري رضي اللَّه عنه، فإذا المولود بين يديه في ثياب صفر وعليه من البهاء والنور ما أخذ بمجامع قلبي، فقلت: سيّدي! هل عندك من علم في هذا المولود المبارك فتلقيه إليّ؟

فقال: أي عمّة! هذا المنتظر، هذا الذي بُشّرنا به. فقالت حكيمة: فخررت للَّه تعالي ساجدة شكراً علي

ذلك.

قالت: ثمّ كنت أتردّد إلي أبي محمّد الحسن العسكري رضي اللَّه عنه، فلمّا لم أره فقلت له يوماً: يا مولاي! ما فعلت سيّدنا ومنتظرنا؟ قال: استودعناه الذي استودعته امّ موسي ابنها» «1».

__________________________________________________

(1) انظر: ينابيع المودّة 3: 171 عن كتاب فصل الخطاب.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 182

ترجمة خواجه پارسا … ص: 182

هو: الحافظ محمّد بن محمّد بن محمود البخاري المعروف بخواجة پارسا، المتوفّي سنة 822:

قال الكفوي في كتابه في تراجم فقهاء الحنفيّة: «محمّد بن محمّد بن محمود الحافظي البخاري المعروف بخواجه محمّد پارسا، أعزّ خلفاء الشيخ الكبير خواجة بهاء الدين نقشبند …

ولد سنة 756، وقرأ العلوم علي علماء عصره، وكان قد بهر علي أقرانه في دهره، وحصّل الفروع والاصول، وبرع في المعقول والمنقول وكان شابّاً.

أخذ الفقه عن قدوة وبقيّة أعلام الهدي الشيخ الإمام العارف الولي أبي الطاهر محمّد بن الحسن بن علي الطاهر، … وأخذ الفروع والاصول عن المولي العالم الكامل إلياس بن يحيي بن حمزة الرّومي … ».

وقال صاحب حبيب السير: «كان من أولاد عبداللَّه بن جعفر الطيّار، توجّه في المحرّم سنة 822 لأداء فريضة الحج وزيارة قبر خير الأنام عليه الصلاة والسلام …

وبعد أن وصل إلي مكّة وفرغ من المناسك، مرض مرضاً شديداً …

فتوجّه إلي المدينة المنوّرة ودخلها في يوم الأربعاء الثالث والعشرين من شهر ذي الحجّة، وتوفّي في يوم الخميس، فصلّي عليه مولانا شمس الدين الفناري ودفن بجوار العبّاس عليه السلام».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 183

الشيخ عبدالرحمن الجامي … ص: 183

اشارة

والشيخ عبدالرحمن بن أحمد الجامي في كتابه (شواهد النبوّة):

ذكر المهدي خلف الإمام الحسن العسكري عليه السلام، بعنوان الإمام الثاني عشر، فأورد جملةً من غرائب حالاته عند ولادته، من قبيل عدم ظهور آثار الحمل علي والدته الكريمة، وأنّه عندما ولد خرَّ ساجداً للَّه عزّوجلّ، وقرأ قوله تعالي: «ونريد أنْ نمنَّ علي الَّذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمّةً ونجعلهم الوارثين» في حال السجدة … إلي غير ذلك.

وقد نصّ الشيخ الجامي علي أنّه هو الإمام والخليفة بعد والده الإمام الحسن العسكري، وذكر أنّ خليفة الوقت قد أرسل رجالًا إلي بيت

الإمام للقبض عليه، وقد أمرهم بقتل كلّ من يجدونه هناك، وأنّه قد ظهرت المعجزة من الإمام صاحب الزمان في غرق اثنين منهم، وقد رأوه عليه السلام واقفاً علي الماء يصلّي للَّه عزّوجلّ.

وبعد هذا كلّه، حكي خبر حكيمة عمّة الإمام عليه السلام، وما رأته من الكرامات قبل ولادته وبعدها بالتفصيل …

ثمّ أورد النصوص علي إمامته عن والده الإمام الحسن العسكري عليه السلام.

ترجمة الجامي … ص: 183

هو: عبدالرحمن بن أحمد الجامي المتوفّي سنة 898، ترجم له ابن العماد في شذراته 8/ 360 والشوكاني في البدر الطالع 1/ 327 واللكهنوي في استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 184

الفوائد البهيّة في طبقات الحنفيّة: 86. قال ابن العماد:

«وفيها: الإمام العارف باللَّه تعالي عبدالرحمن بن أحمد الجامي، ولد ب (جام) من قصبات خراسان، واشتغل بالعلوم العقليّة والشرعيّة فأتقنها، ثمّ صحب مشايخ الصوفيّة وتلقّي الذكر من الشيخ سعد الدين كاشغري، وصحب خواجة عبيداللَّه السمرقندي وانتسب إليه أتم الانتساب … وكان مشتهراً بالفضائل، وبلغ صيت فضله الآفاق وسارت بعلومه الركبان …

وكان رحمه اللَّه تعالي اعجوبة دهره علماً وعملًا وأدباً وشعراً.

وله مؤلّفات جمّة … وله كتاب شواهد النبوّة- بالفارسيّة- وكتاب:

نفحات الانس، بالفارسيّة أيضاً، وكتاب سلسلة الذهب، حطّ فيه علي الرافضة … وكلّ تصانيفه مقبولة … ».

الشيخ عبدالحق الدهلوي … ص: 184

اشارة

وكذلك ذكر الشيخ عبدالحق المحدّث الدهلوي، في رسالته في (مناقب الأئمّة الأطهار) حيث ذكره بعنوان الإمام الثاني عشر، وأنّه معروف عند خواصّ أصحابه وثقات أهله.

ثمّ أورد خبر ولادته عن السيّدة حكيمة عمّته …

ترجمة عبدالحق الدهلوي … ص: 184

هو: الشيخ أبو المجد عبدالحق بن سيف الدين الدهلوي، المتوفّي سنة 1052:

قال الصّديق حسن خان بترجمته من كتاب (أبجد العلوم): «هو المتضلّع استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 185

في الكمال الصوري والمعنوي، رزق من الشهرة قسطاً جزيلًا، وأثبت المؤرّخون ذكره إجمالًا وتفصيلًا، حفظ القرآن، وجلس علي مسند الإفادة وهو ابن 22 سنة، ورحل إلي الحرمين الشريفين وصحب الشيخ عبدالوهّاب المتقي خليفة الشيخ علي المتقي، واكتسب علم الحديث، وعاد إلي الوطن واستقرّ به 52 سنة بجمعيّة الظاهر والباطن، ونشر العلوم، وترجم كتاب المشكاة بالفارسي وكتب شرحاً علي سفر السعادة، وبلغت تصانيفه مائة مجلّد.

ولد في محرّم سنة 958 وتوفّي سنة 1052.

وأخذ الخرقة القادريّة من الشيخ موسي القادري من نسل الشيخ عبدالقادر الجيلاني.

وكان له اليد الطولي في الفقه الحنفي».

السيد جمال الدين المحدّث … ص: 185

اشارة

وقال السيد جمال الدين المحدّث الشيرازي في كتاب (روضة الأحباب):

«الكلام في بيان الإمام الثاني عشر المؤتمن محمّد بن الحسن … » فذكر ولادته واسم والدته وأسمائه وألقابه، فاسمه إسم جدّه رسول اللَّه وكنيته كنيته، وألقابه: المهدي المنتظر، والخلف الصالح، وصاحب الزمان.

قال: «وكان عمره عند وفاة والده- في أحد القولين وهو الأقرب- خمس سنوات، وعلي القول الآخر سنتين، وقد آتاه اللَّه الحكمة في حال الطفولة كيحيي وزكريّا، وبلغ مرتبة الإمامة في حال الصبا».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 186

قال: «وقد غاب عن الأنظار، في زمن المعتمد، سنة خمس وستين أو ست وستّين ومائتين، علي اختلاف القولين، في سرداب في سرّ من رأي».

أقول:

وبهذه التصريحات يسقط قول المنكر أو المشكّك في ولادة الإمام المهدي وأنّه الإمام الثاني عشر من الأئمّة الاثني عشر بعد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله.

ثمّ أورد طائفةً من الأحاديث الواردة في المهدي، وجعل الإمام عليه السلام هوالمصداق

لتلك الأحاديث … كالحديث عن جابر بن عبداللَّه الأنصاري في نزول قوله تعالي: «يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا اللَّه وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم» قال سألته: قد عرفنا اللَّه والرسول، فمن أولوا الأمرالذين قرن اللَّه طاعتهم بطاعتك؟

فقال صلّي اللَّه عليه وسلّم:

هُم خلفائي من بعدي أوّلهم عليّ بن أبي طالب، ثمّ الحسن، ثمّ الحسين، ثمّ عليّ بن الحسين، ثمّ محمّد بن علي المعروف في التوراة بالباقر وستدركه يا جابر، فإذا لقيته فاقرأه منّي السلام.

ثمّ الصادق ثمّ جعفر بن محمّد ثمّ موسي بن جعفر ثمّ عليّ بن موسي ثمّ محمّد بن عليّ ثمّ عليّ بن محمّد ثمّ الحسن بن عليّ ثمّ حجّة اللَّه في أرضه وبقيّته في عباده محمّد بن الحسن بن علي.

ذلك الذي يفتح اللَّه عزّ وجلّ علي يديه مشارق الأرض ومغاربها.

وذلك الذي يغيب عن شيعته وأوليائه غيبة لا يبيت فيها علي القول بإمامته إلّامن امتحن اللَّه قلبه للإيمان.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 187

فقال: إي والذي بعثني بالنبوّة، إنّهم يستضيئون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع النّاس بالشمس وإن علاها سحاب».

ثمّ ذكر عقيدته في الإمام المهدي بكلّ صراحةٍ، فنصّ علي ما تقول به الطائفة الإماميّة بلا فرق.

ثمّ إنّه جعل يدعو اللَّه عزّوجلّ في أنْ يعجّل الفرج للإمام ويظهره لبسط العدل وتطبيق أحكام الإسلام.

ترجمة الجمال المحدّث الشيرازي … ص: 187

هو: السيّد جمال الدين عطاء اللَّه ابن السيّد غياث الدين فضل اللَّه ابن السيّد عبدالرحمن المعروف بالمحدّث الشيرازي، المتوفّي سنة 926 كما في معجم المؤلّفين 6/ 285، قال: «عطاء اللَّه بن محمود بن فضل اللَّه بن عبدالرحمن الشيرازي، الحسيني، الدشتكي، نزيل هراة، جمال الدين. فاضل.

من آثاره: تكميل الصناعة في القوافي».

وفي كشف الظنون 1/ 922: «روضة الأحباب في سير النبي والآل والأصحاب، فارسي،

لجمال الدين عطاء اللَّه بن فضل اللَّه الشيرازي النيسابوري المتوفّي سنة 1000- 926، ألّفه في مجلّدين بالتماس الوزير أمير علي شير بعد الإستشارة مع استاذه وابن عمّه السيّد أصيل الدين عبداللَّه … ».

الشيخ أبو عبداللَّه الكنجي … ص: 187

اشارة

وقال الشيخ أبو عبداللَّه محمد بن يوسف الكنجي الشافعي في كتاب (البيان في أخبار صاحب الزمان):

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 188

«من الدلالة علي كون المهدي باقياً منذ غيبته إلي الآن: أنّه لا امتناع في بقائه كبقاء عيسي بن مريم والخضر وإلياس من أولياء اللَّه، وبقاء الأعور الدجّال وإبليس اللعين من أعداء اللَّه، وهؤلاء قد ثبت بقاؤهم بالكتاب والسنّة» «1».

ترجمة الكنجي الشافعي … ص: 188

هو: أبو عبداللَّه محمّد بن يوسف القرشي الكنجي الشافعي المقتول سنة 658، بسبب روايته أخبار مناقب أميرالمؤمنين عليه السلام وسط جامع دمشق، وكان حافظاً للحديث، راويةً للأخبار، مطّلعاً في العلوم، وقد اعترف بمقامه العلمي مترجموه ذاكرين السبب في مقتله متبجحين بذلك، انظر حوادث السنة المذكورة من تاريخ ابن كثير والنجوم الزاهرة وغيرهما من المصادر.

سبط ابن الجوزي … ص: 188

اشارة

وقال الحافظ سبط ابن الجوزي الحنفي في كتاب (تذكرة خواص الامّة):

«هو محمّد بن الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسي بن جعفر ابن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام، وكُنيته أبو عبداللَّه وأبوالقاسم، وهو الخلف الحجّة صاحب الزمان القائم والمنتظر الباقي، وهو آخر الأئمّة … » «2».

__________________________________________________

(1) البيان في أخبار صاحب الزمان ط مع كفاية الطالب: 521. مع اختلاف.

(2) تذكرة خواص الامة في معرفة الأئمة: 325.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 189

ترجمة سبط ابن الجوزي … ص: 189

هو: شمس الدين يوسف سبط أبي الفرج ابن الجوزي، توفي سنة 654 أو 656، وصفوه بالإمام، الحافظ، الواعظ، المؤرّخ، الفقيه، الحنفي، كما في جامع مسانيد أبي حنيفة 1/ 70، وفيات الأعيان 3/ 142، العبر ومرآة الجنان وتاريخ أبي الفداء وغيرها في حوادث سنة 654.

إبن الصبّاغ المالكي … ص: 189

اشارة

وقال نور الدين علي بن محمّد المعروف بابن الصبّاغ المالكي في كتاب (الفصول المهمة):

«الفصل الثاني عشر: في ذكر أبي القاسم محمّد الحجّة الخلف الصالح ابن أبي محمّد الحسن الخالص- وهو الإمام الثاني عشر- وتاريخ ولادته، ودلائل إمامته، وذكر طرف من أخباره وغيبته، ومدّة قيام دولته، وذكر نسبه وكنيته ولقبه وغير ذلك» «1».

ثمّ قال بعد كلامٍ له:

«وروي ابن الخشّاب في كتابه مواليد أهل البيت يرفعه بسنده إلي عليّ ابن موسي الرضا عليه السلام أنّه قال: الخلف الصالح من ولد أبي محمّد الحسن بن علي، وهو صاحب الزمان والقائم المهدي.

وأمّا النصّ علي إمامته من جهة أبيه، فروي محمّد بن عليّ بن بلال قال:

خرج إليّ أمر أبي محمّد الحسن بن عليّ العسكري قبل مضيّه بسنتين،

__________________________________________________

(1) الفصول المهمة في معرفة الأئمة: 291.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 190

يخبرني بالخلف من بعده، ثمّ خرج إليّ قبل مضيّه بثلاثة أيّام يخبرني بالخلف بأنّه ابنه من بعده.

وعن أبي هاشم الجعفري قال: قلت لأبي محمّد الحسن بن علي:

جلالتك تمنعني من مسألتك، أفتأذن لي أن أسألك؟ فقال: سل. فقلت: يا سيّدي! هل لك ولد؟ قال: نعم. قلت: فإن حدث حادث فأين أسأل عنه؟

قال: بالمدينة.

ولد أبوالقاسم محمّد الحجّة بن الحسن الخالص بسرّ من رأي، ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين للهجرة» «1».

قال:

«وهذا طرف يسير ممّا جاء من النصوص الدالّة علي الإمام الثاني عشر عن الأئمّة الثقات، والروايات في

ذلك كثيرة، والأخبار شهيرة، أضربنا عن ذكرها، وقد دوّنها أصحاب الحديث في كتبهم واعتنوا بجمعها» «2».

ثمّ أورد نصوصاً كثيرة من الأحاديث فقال:

«قال الشيخ أبو سعيد محمّد بن يوسف بن محمّد الكنجي الشافعي في كتابه البيان في أخبار صاحب الزمان: من الدلالة علي كون المهدي حيّاً باقياً منذ غيبته إلي الآن أنّه لا امتناع في بقائه كبقاء عيسي … » «3».

ثمّ قال في آخر المبحث:

«قال بعض علماء أهل الأثر: المهدي هو القائم المنتظر، وقد تعاضدت __________________________________________________

(1) الفصول المهمة في معرفة الأئمة: 292.

(2) الفصول المهمة في معرفة الأئمة: 293.

(3) الفصول المهمة في معرفة الأئمة: 299.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 191

الأخبار علي ظهوره وتظاهرت الروايات علي إشراق نوره، وسيستسفر ظلمة الأيّام والليالي بسفوره، وتنجلي برؤيته الظُلَمُ انجلاء الصباح عن ديجوره، ويخرج من أسرار الغيبة فيملأ القلوب بسروره … » «1».

وقال بترجمة الإمام العسكري عليه السلام:

«وخلّف أبو محمّد الحسن رضي اللَّه عنه من الولد: ابنه الحجّة القائم المنتظر لدولة الحقّ، وكان قد اخفي مولده وستر أمره لصعوبة الوقت وخوف السلطان وتطلّبه للشيعة وحبسهم والقبض عليهم» «2».

ترجمة ابن الصبّاغ المالكي … ص: 191

هو: الشيخ علي بن محمّد المالكي المكي المتوفّي سنة 855، ترجم له الحافظ السخاوي في الضوء اللامع 5/ 283 وذكر له كتاب (الفصول المهمّة لمعرفة الأئمّة). وترجم له في معجم المؤلّفين 7/ 178 قال: فقيه مالكي، وذكر له الكتاب.

الشيخ كمال الدين ابن طلحة الشافعي … ص: 191

اشارة

وقال الشيخ كمال الدين ابن طلحة الشافعي في كتاب (مطالب السئول):

«الباب الثاني عشر، في أبي القاسم محمّد الحجّة ابن الحسن الخالص ابن عليّ المتوكّل ابن محمّد القانع ابن عليّ الرضا عليهم السلام …

__________________________________________________

(1) الفصول المهمة في معرفة الأئمة: 303.

(2) الفصول المهمة في معرفة الأئمة: 390.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 192

فهذا الخلف الحجّة قد أيّده اللَّه هداه منهج الحقّ وآتاه سجاياه وأعلي في ذري العليا بالتأييد مرقاه وآتاه حلي فضل عظيم فتحلّاه وقد قال رسول اللَّه قولًا قد رويناه وذوالعلم بما قال إذا أدرك معناه يري الآثار في المهدي جائت مسمّاه وقد أبداه بالنسبة والوصف وسمّاه ويكفي قوله منّي لإشراق محيّاه ومن بضعته الزهراء مرساه ومسراه ولن يبلغ ما اوتيه أمثال وأشباه فإن قالوا هو المهدي فما مانوا ولا فاهوا

قد أرتع من النبوّة في أكناف عناصرها، ورضع من الرسالة أخلاف أواصرها، ونزع من القرابة بسجال معاصرها، وبرع في صفات الشرف فعقدت عليه بخناصرها، فاقتني من الأنساب شرف نصابها، واعتلا عند الإنتساب علي شرف أحسابها، واجتني جنا الهداية من معادنها وأسبابها، فهو من ولد الطّهر البتول المجزوم بكونها بضعة من الرّسول، فالرسالة أصلها، وإنّها لأشرف العناصر والاصول.

فأمّا مولده فبسرّ من رأي في ثالث وعشرين من شهر رمضان سنة ثمان وخمسين ومائتين للهجرة.

وأمّا نسبه أباً وامّاً، فأبوه أبو محمّد الحسن الخالص بن عليّ المتوكّل بن استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 193

محمّد القانع بن عليّ الرضا

بن موسي الكاظم بن جعفر الصّادق بن محمّد الباقر ابن عليّ زين العابدين بن الحسين الزكي بن عليّ المرتضي أميرالمؤمنين، وقد تقدّم ذكر ذلك مفصّلًا، وامّه امّ ولد تسمّي صقيل، وقيل حكيمة، وقيل غير ذلك.

وأمّا اسمه فمحمّد، وكنيته أبوالقاسم، ولقبه الحجّة، والخلف الصالح، وقيل: المنتظر.

وأمّا ما ورد عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم في المهدي عليه السلام من الأحاديث الصحيحة.

فمنها: ما نقله الإمامان أبو داود والترمذي رضي اللَّه عنهما، كلّ واحد منهما بسنده في صحيحه يرفعه إلي أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: المهديّ منّي أجلي الجبهة، وأقني الأنف، يملأ الأرض قسطاً وعدلًا كما ملئت جوراً وظلماً، ويملك سبع سنين.

ومنها: ما أخرجه أبو داود رحمه اللَّه بسنده في صحيحه يرفعه إلي عليّ قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: لو لم يبق من الدهر إلّايوم لبعث اللَّه رجلًا من أهل بيتي يملؤها عدلًا كما مُلئت جوراً.

ومنها: ما رواه أيضاً أبو داود رضي اللَّه عنه في صحيحه يرفعه بسنده إلي امّ سلمة زوج النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم قالت: سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: المهدي من عترتي من ولد فاطمة.

ومنها: ما رواه القاضي أبو محمّد الحسين بن مسعود البغوي رضي اللَّه عنه في كتابه المسمّي بشرح السنّة، وأخرجه الإمامان البخاري ومسلم كلّ واحد منهما بسنده في صحيحه يرفعه إلي أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلّي استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 194

اللَّه عليه وسلّم: كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم.

ومنها: ما أخرجه أبو داود والترمذي بسندهما في صحيحيهما، يرفعه كلّ واحد منهما بسنده إلي عبداللَّه بن مسعود أنّه قال: قال رسول اللَّه

صلّي اللَّه عليه وسلّم: لو لم يبق من الدنيا إلّايوم واحد لطوّل اللَّه ذلك اليوم حتّي يبعث اللَّه رجلًا منّي ومن أهل بيتي، يواطي ء اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي يملأ الأرض قسطاً وعدلًا كما ملئت ظلماً وجوراً.

وفي رواية اخري: لا تنقضي الدنيا حتّي يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطي ء اسمه اسمي.

وفي رواية اخري: إنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: يلي رجل من أهل بيتي يواطي ء اسمه اسمي.

هذه الروايات عن أبي داود والترمذي.

ومنها: ما نقله الإمام أبو إسحاق أحمد بن محمّد الثعلبي في تفسيره يرفعه بإسناده إلي أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم:

نحن ولد عبدالمطّلب سادة أهل الجنّة: أنا وحمزة وجعفر وعليّ والحسن والحسين والمهدي.

قال المعترض: هذه الأحاديث النبويّة الكثيرة بتعدادها المصرّحة بجملتها وإفرادها، متّفق علي صحّة إسنادها ومجمع علي نقلها عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وإيرادها، وهي صحيحة صريحة في إثبات كون المهدي من ولد فاطمة عليها السلام، وأنّه من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، وأنّه من عترته، وأنّه من أهل بيته، وأنّ اسمه يواطي ء اسمه، وأنّه يملأ الأرض قسطاً وعدلًا، وأنّه من ولد عبدالمطّلب، وأنّه من سادات الجنّة، وذلك ممّا لا نزاع استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 195

فيه، غير أنّ ذلك لا يدلّ علي أنّ المهدي الموصوف بما ذكره صلّي اللَّه عليه وسلّم من الصفات والعلامات هو هذا أبوالقاسم محمّد بن الحسن الحجّة الخلف الصّالح؛ فإنّ ولد فاطمة عليها السلام كثيرون، وكلّ من يولد من ذرّيّتها إلي يوم القيامة يصدق عليه أنّه من ولد فاطمة وأنّه من العترة الطاهرة وأنّه من أهل البيت عليهم السلام، فتحتاجون مع هذه الأحاديث المذكورة إلي

زيادة دليل علي أنّ المهدي المراد هو الحجّة المذكور، ليتمّ مرامكم.

فجوابه: أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم لمّا وصف المهدي عليه السلام بصفات متعدّدة، من ذكر اسمه ونسبه ومرجعه إلي فاطمة عليها السلام وإلي عبدالمطّلب، وأنّه أجلي الجبهة أقني الأنف، وعدّد الأوصاف الكثيرة التي جمعتها الأحاديث الصّحيحة المذكورة آنفاً، وجعلها علامة ودلالة علي أنّ الشخص الذي يسمّي بالمهدي ويثبت له الأحكام المذكورة هو الشخص الذي اجتمعت تلك الصفات فيه، ثمّ وجدنا تلك الصفات المجعولة علامة ودلالة مجتمعة في أبي القاسم محمّد الخلف الصّالح دون غيره، فيلزم القول بثبوت تلك الأحكام له وأنّه صاحبها، وإلّا فلو جاز وجود ما هو علامة ودليل ولا يثبت ما هو مدلوله، قدح ذلك في نصبها علامة ودلالة من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، وذلك ممتنع.

فإن قال المعترض: لا يتمّ العمل بالعلامة والدلالة إلّابعد العلم باختصاص من وجدت فيه بها دون غيره وتعيّنه لها، فأمّا إذا لم يعلم تخصيصه وانفراده بها فلا يحكم له بالدلالة، ونحن نسلّم أنّ من زمن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم إلي ولادة الخلف الصالح الحجّة محمّد عليه السلام، ما وجد من ولد فاطمة عليها السلام شخص جمع تلك الصّفات التي هي العلامة والدّلالة،

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 196

غيره، لكن وقت بعثة المهدي وظهوره وولايته هو في آخر أوقات الدنيا، عند ظهور الدجّال ونزول عيسي بن مريم، وذلك سيأتي بعد مدّة مديدة، ومن الآن إلي ذلك الوقت المتراخي الممتد أزمان متجدّدة، وفي العترة الطاهرة من سلالة فاطمة عليها السلام كثرة يتعاقبون ويتوالدون إلي ذلك الآن، فيجوز أن يولد من السّلالة الطاهرة والعترة النبويّة من يجمع تلك الصّفات فيكون هو المهدي المشار إليه

في الأحاديث المذكورة، ومع هذا الإحتمال والإمكان كيف يبقي دليلكم مختصّاً بالحجّة المذكور؟

فالجواب: إنّكم إذا عرفتم أنّه إلي وقت ولادة الخلف الصّالح وإلي زماننا، لم يوجد من جمع تلك الصّفات والعلامات بأسرها سواه، فيكفي ذلك في ثبوت تلك الأحكام له عملًا بالدلالة الموجودة في حقّه، وما ذكرتموه من احتمال أن يتجدّد مستقبلًا في العترة الطّاهرة من أن يكون بتلك الصفات، لا يكون قادحاً في إعمال الدلالة وما مانعاً من ترتيب حكمها عليها؛ فإنّ دلالة الدليل راجحة لظهورها، واحتمال تجدّد ما يعارضها مرجوح، ولا يجوز ترك الراجح بالمرجوح؛ فإنّه لو جوّزنا ذلك لامتنع العمل بأكثر الأدلّة المثبتة للأحكام، إذ ما من دليل إلّاوإحتمال تجدّد ما يعارضه متطرّق إليه، ولم يمنع ذلك من العمل به وفاقاً.

والذي يوضح ذلك ويؤكّده: أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فيما أورد به الإمام مسلم بن الحجاج في صحيحه يرفعه بسنده قال لعمر بن الخطّاب: يأتي عليك مع إمداد أهل اليمن أويس بن عامر من مراد ثمّ قرن، كان به برص فبرأ منه إلّاموضع درهم، له والدة هو بها برّ، لو أقسم علي اللَّه لأبرّه، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل، فالنّبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم ذكر

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 197

اسمه ونسبه وصفته، وجعل ذلك علامة ودلالة علي أنّ المسمّي بذلك الإسم المتّصف بتلك الصّفات لو أقسم علي اللَّه لأبرّه، وأنّه أهل لطلب الإستغفار منه، وهذه منزلة عالية ومقام عند اللَّه تعالي عظيم.

فلم يزل عمر رضي اللَّه عنه بعد وفاة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وبعد وفاة أبي بكر رضي اللَّه عنه يسأل إمداد اليمن من الموصوف بذلك حتّي قدم وفد من اليمن، فسألهم، فاخبر بشخص متّصف

بذلك، فلم يتوقّف عمر رضي اللَّه عنه في العمل بتلك العلامة والدّلالة التي ذكرها رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، بل بادر إلي العمل بها واجتمع به وسأله الإستغفار وجزم أنّه المشار إليه في الحديث النّبوي لمّا علم تلك الصفات فيه، مع وجود احتمال أن يتجدّد في وفود اليمن مُستقبلًا من يكون بتلك الصّفات، فإنّ قبيلة مراد كثيرة والتوالد فيها كثير، وعين ما ذكرتموه من الإحتمال موجود.

وكذلك قضيّة الخوارج لمّا وصفهم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم بصفات ورتّب عليها حكمهم، ثمّ بعد ذلك لمّا وجدها عليّ رضي اللَّه عنه موجودة في أولئك في واقعة حرورا والنهروان، جزم بأنّهم هم المرادون بالحديث النّبوي وقاتلهم وقتلهم، فعمل بالدلالة عند وجود الصّفة مع احتمال أن يكون المرادون غيرهم، وأمثال هذه الدلالة والعمل بها مع قيام الإحتمال كثيرة، فعلم أنّ الدلالة الرّاجحة لا تترك لاحتمال المرجوح.

ونزيده بياناً وتقريراً فنقول: لزوم ثبوت الحكم عند وجود العلامة والدلالة لمن وجدت فيه، أمر يتعيّن العمل به والمصير إليه، فمن تركه وقال بأنّ صاحب الصّفات المراد بإثبات الحكم له ليس هو هذا بل شخص غيره سيأتي، فقد عدل عن النّهج القويم ووقف نفسه موقف اللّئيم.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 198

ويدلّ علي ذلك: أنّ اللَّه عزّ وعلا لمّا أنزل في التوراة علي موسي أنّه يبعث النبيّ العربيّ في آخر الزّمان خاتم الأنبياء، ونعته بأوصافه وجعلها علامة ودلالة علي إثبات حكم النبوّة له، وصار قوم موسي عليه السلام يذكرونه بصفاته ويعلمون أنّه يبعث، فلمّا قرب زمان ظهوره وبعثه صاروا يهدّدون المشركين به ويقولون: سيظهر الآن نبيّ نعته كذا وصفته كذا ونستعين به علي قتالكم، فلمّا بعث صلّي اللَّه عليه وسلّم ووجدوا العلامات

والصّفات بأسرها التي جعلت دلالة علي نبوّته أنكروه وقالوا: ليس هو هذا بل هو غيره وسيأتي، فلمّا جنحوا إلي الاحتمال وأعرضوا عن العمل بالدلالة الموجودة في الحال، أنكر اللَّه تعالي عليهم كونهم تركوا العمل بالدلالة التي ذكرها لهم في التوراة، وجنحوا إلي الإحتمال، وهذه القصّة من أكبر الأدلّة وأقوي الحجج علي أنّه يتعيّن العمل بالدلالة بعد وجودها، وإثبات الحكم لمن وجدت تلك الدلالة فيه.

فإذا كانت الصفات التي هي علامة ودلالة لثبوت الأحكام المذكورة موجودة في الحجّة الخلف الصالح محمّد، تعيّن إثبات كونه المهدي المشار إليه من غير جنوح إلي احتمال تجدّد غيره في الإستقبال.

فإن قال المعترض: نسلّم أنّ الصفات المجعولة علامة ودلالة إذا وجدت تعيّن العمل بها ولزوم إثبات مدلولها لمن وجدت فيه، لكن نمنع وجود تلك العلامة والدلالة في الخلف الصالح محمّد، فإنّ من جملة الصفات المجعولة علامة ودلالة: أن يكون اسم أبيه مواطئاً لاسم أب النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، هكذا صرّح به الحديث النبويّ علي ما أوردتموه، وهذه الصفة لم توجد فيه، فإنّ اسم أبيه الحسن واسم أب النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم عبداللَّه، وأين استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 199

الحسن من عبداللَّه؟ فلم توجد هذه الصفة التي هي جزء من العلامة والدلالة، وإذا لم يوجد جزء العلّة لا يثبت حكمها؛ فإنّ الصفات الباقية لا تكفي في إثبات تلك الأحكام، إذ النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم لم يجعل تلك الأحكام ثابتة إلّا لمن اجتمعت تلك الصفات فيه كلّها التي جزءها مواطاة اسمي الأبوين في حقّه، وهذه لم تجتمع في الحجّة الخلف، فلا يثبت تلك الأحكام له، وهذا إشكال قوي.

فالجواب: لابدّ قبل الشروع في تفصيل الجواب، من بيان أمرين يبني عليهما

الغرض:

الأوّل: إنّه شائع في لسان العرب إطلاق لفظة الأب علي الجدّ الأعلي، وقد نطق القرآن الكريم بذلك فقال تعالي: «ملّة أبيكم إبراهيم» وقال تعالي حكاية عن يوسف عليه السلام: «واتّبعت ملّة آبائي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق» ونطق بذلك النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم في حديث الإسراء إنّه قال:

قلت: من هذا؟ قال: أبوك إبراهيم؛ فعلم أنّ لفظة الأب تطلق علي الجدّ وإن علا؛ فهذا أحد الأمرين.

الثاني: إنّ لفظة الإسم تطلق علي الكنية وعلي الصفة، وقد استعملها الفصحاء ودارت بها ألسنتهم ووردت في الأحاديث، حتّي ذكر الإمامان البخاري ومسلم رضي اللَّه عنهما، كلّ منهما يرفعه إلي سهل بن سعد الساعدي رضي اللَّه عنه أنّه قال عن عليّ رضي اللَّه عنه: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم سمّاه بأبي تراب ولم يكن له اسم أحبّ إليه منه، فأطلق لفظة الإسم علي الكنية، ومثل ذلك قول الشاعر:

إنّي اجِلّ قدرك أن اسمي مؤنته ومن كناك فقد سماك للعرب ويروي: ومن يصفك، فأطلق التسمية علي الكناية أو الصفة، وهذا شائع ذائع في لسان العرب.

فإذا وضح ما ذكرناه من الأمرين، فاعلم أيّدك اللَّه بتوفيقه: أنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم كان له سبطان: أبو محمّد الحسن وأبو عبداللَّه الحسين، ولمّا كان الحجّة الخلف الصّالح محمّد عليه السلام ومن ولد أبي عبداللَّه الحسين ولم يكن من ولد أبي محمّد الحسن، وكانت كنية الحسين أباعبداللَّه، فأطلق النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم علي الكنية لفظ الإسم لأجل المقابلة بالإسم في حقّ أبيه، وأطلق علي الجدّ لفظة الأب، فكأنّه قال: يواطي ء اسمه اسمي فهو محمّد، وأنا محمّد، وكنية جدّه اسم أبي، إذ هو أبو عبداللَّه وأبي عبداللَّه، لتكون تلك الألفاظ المختصرة جامعة لتعريف صفاته وإعلام أنّه

من ولد أبي عبداللَّه الحسين بطريق جامع موجز، وحينئذٍ تنتظم الصّفات وتوجد بأسرها مجتمعة للحجّة الخلف الصالح محمّد عليه السلام، وهذا بيان شاف كافٍ في إزالة ذلك الإشكال، فافهمه.

وأمّا ولده، فلم يكن له ولد ليذكر، لا انثي ولا ذكر.

وأمّا عمره، فإنّه في أيّام المعتمد علي اللَّه خاف فاختفي وإلي الآن فلم يمكن ذكر ذلك، إذ من غاب وإن انقطع خبره لا توجب غيبته وانقطاع خبره الحكم بمقدار عمره ولابانقضاء حياته، وقدرة اللَّه تعالي واسعة وحكمه وألطافه بعباده عظيمة عامّة، ولو رام عظماء العلم أن يدركوا حقائق مقدوراته وكنه قدرته لم يجدوا إلي ذلك سبيلًا، ولانقلب طرف تطلّعهم إليه حسيراً وحدّه كليلًا، ولتلا عليهم لسان عجزهم عن الإحاطة به «وما اوتيتم من العلم استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 201

إلّا قليلًا» «1»، وليس ببدع ولا مستغرب تعمير بعض عباد اللَّه المخلصين ولا امتداد عمره إلي حين، فقد مدّ اللَّه سبحانه وتعالي أعمار جمع كثير من خلقه من أصفيائه وأوليائه ومن مطروديه وأعدائه.

فمن الأصفياء عيسي عليه السلام، ومنهم الخضر عليه السلام، وخلق آخرون من الأنبياء عليهم السلام طالت أعمارهم حتّي جاز كلّ واحد منهم ألف سنة أو قاربها كنوح عليه السلام وغيره.

وأمّا من الأعداء المطرودين فإبليس، وكذلك الدجّال، ومن غيرهم كعاد الاولي كان فيهم مَنْ عمره ما يقارب الألف، وكذلك لقمان صاحب البلاء، وكلّ هذا لبيان اتّساع القدرة الربانيّة في تعمير بعض خلقه، فأيّ مانع يمنع من امتداد عمر الخلف الصالح إلي أن يظهر فيعمل ما حكم اللَّه تعالي له به.

وحيث وصل الكلام إلي هذا المقام وانتهي جريان القلم بما خطّه من هذه الأقسام الوسام، فلنختمه بالحمد للَّه ربّ العالمين، فإنّها كلمة مباركة جعلها اللَّه سبحانه وتعالي

آخر دعوي أهل جنانه وخصّها بمن اجتباه من خلقه وكساه ملابس رضوانه» «2».

ترجمة ابن طلحة الشافعي … ص: 201

هو: أبو سالم محمّد بن طلحة بن محمّد القرشي العدوي الشافعي __________________________________________________

(1) سورة الإسراء 17: 85.

(2) مطالب السئول في مناقب آل الرسول: 311- 320.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 202

المتوفّي سنة 652، ترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء 23/ 293 ووصفه بالعلّامة الأوحد، برع في المذهب واصوله وشارك في فنون، ولكنّه دخل في هذيان علم الحروف، وتزهّد، وقد ترسّل عن الملوك، وولي وزارة دمشق يومين وتركها، وكان ذا جلالةٍ وحشمة … وتوجد ترجمته كذلك في كثير من كتب التاريخ والرجال، كالبداية والنهاية، والعبر، والنجوم الزاهرة، وشذرات الذهب، في وقائع السنة المذكورة. وفي طبقات الشافعيّة الكبري للسبكي 8/ 63 الترجمة رقم 1076 والوافي بالوفيات 3/ 176.

الشيخ ولي اللَّه الدهلوي … ص: 202

اشارة

وقال شاه ولي اللَّه الدهلوي- وهو والد الشيخ عبدالعزيز الدهلوي، صاحب التحفة الاثني عشرية- في (مسلسلاته) الموسومة ب (الفضل المبين):

«قلت: شافهني ابن عقلة بإجازة جميع ما يجوز له روايته، ووجدت في مسلسلاته حديثاً مسلسلًا بانفراد كلّ راوٍ من رواته بصفة عظيمة تفرّد بها، قال رحمه اللَّه: أخبرني فريد عصره الشيخ حسن بن علي العجيمي، أنا حافظ عصره جمال الدين البابلي، أنا مسند وقته محمّد الحجازي الواعظ، أنا صوفي زمانه الشيخ عبدالوهاب الشعراوي، أنا مجتهد عصره الجلال السيوطي، أنا حافظ عصره أبو نعيم رضوان العقبي، أنا مقري ء زمانه الشمس محمّد ابن الجوزي، أنا الإمام جمال الدين محمّد بن محمّد الجمال زاهد عصره، أنا الإمام محمّد بن مسعود محدّث بلاد فارس في زمانه، أنا شيخنا إسماعيل بن مظفّر الشيرازي عالم وقته، أنا عبدالسلام بن أبي الربيع الحنفي محدّث زمانه، أنا أبوبكر عبداللَّه بن محمّد بن شابور القلانسي شيخ عصره، أنا عبدالعزيز، ثنا محمّد الآدمي إمام أوانه، أنا سليمان بن إبراهيم

بن محمّد بن سليمان نادرة عصره، ثنا أحمد بن محمّد بن هاشم البلاذري حافظ زمانه، ثنا محمّد بن استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 203

الحسن بن علي المحجوب إمام عصره، ثنا الحسن بن علي، عن أبيه، عن جدّه، عن أبي جدّه عليّ بن موسي الرضا، ثنا موسي الكاظم قال: ثنا أبي جعفر الصادق، ثنا أبي محمّد الباقر بن علي، ثنا أبي عليّ بن الحسين زين العابدين السجّاد، ثنا أبي الحسين سيّدالشهداء، ثنا أبي عليّ بن أبي طالب سيّد الأولياء قال: أخبرنا سيّد الأنبياء محمّد بن عبداللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال:

أخبرني جبرئيل سيّد الملائكة قال: قال اللَّه تعالي سيّد السادات: إنّي أنا اللَّه لا إله إلّاأنا، من أقرّ لي بالتوحيد دخل حصني، ومن دخل حصني أمن من عذابي.

قال الشمس ابن الجزري: كذا وقع هذا الحديث من المسلسلات السعيدة والعهدة فيه علي البلاذري».

ترجمة وليّ اللَّه الدهلوي … ص: 203

هو: وليّ اللَّه بن عبدالرحيم الدهلوي المتوفّي سنة 1180، قال في معجم المؤلفين 4/ 292: فقيه، اصولي، محدّث، مفسّر.

مع الأعور الواسطي … ص: 203

وبما ذكرنا يظهر عداء الأعور الواسطي لأهل البيت عليهم السلام، فإنّه مضافاً إلي إنكاره وجود الإمام المهدي بن الحسن العسكري وإمامته، يردُّ علي تسميته بصاحب الزمان ويجعلها من الفسوق، حيث يقول في (رسالته):

«أكبر الفسوق تسمية هذا المفقود بصاحب الزمان، ولا صاحب للزمان غير اللَّه تعالي، ما أجرأهم علي اللَّه»!!

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 204

مع ابن حجر المكي … ص: 204

وابن حجر المكي أيضاً عاند الحق وتكلّم في أهله حيث قال في (الصواعق):

«ثمّ المقرّر في الشريعة المطهّرة أنّ الصغير لا تصحّ ولايته، فكيف ساغ لهؤلاء الحمقي المغفّلين أن يزعموا إمامة من عمره خمس سنين، وأنّه اوتي الحكم صبيّاً، مع أنّه صلّي اللَّه عليه وسلّم لم يخبر به، ما ذلك إلّامجازفة وجرأة علي الشريعة الغَرَّاء.

قال بعض أهل البيت: وليت شعري من المخبر لهم بهذا؟ وما طريقه؟

ولقد صاروا بذلك وبوقوفهم بالخيل علي ذلك السرداب وصياحهم بأن يخرج إليهم ضحكة لُاولي الألباب.

ولقد أحسن القائل:

ما آن للسّرداب أن يلد الذي كلّمتموه بجهلكم ما آنا

فعلي عقولكم العفا فإنّكم ثلّثتم العنقاء والغيلانا»

وقد قال ابن حجر بترجمة الإمام الحسن العسكري:

«ولم يخلّف غير ولده أبي القاسم محمّد الحجّة، وعمره عند وفاة أبيه خمس سنين لكن آتاه اللَّه فيها الحكمة، ويسمّي القائم المنتظر، قيل: لأنّه ستر بالمدينة وغاب فلم يعلم أين ذهب … » «1».

أقول:

لقد أرسل بعض الناصبة من أهل بغداد هذا الشعر إلي النجف الأشرف،

__________________________________________________

(1) الصواعق المحرقة 2/ 483.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 205

فانبري للجواب عنه الشيخ ميرزا حسين النوري الطبرسي بكتاب (كشف الأستار عن الإمام الغائب عن الأبصار) ثمّ نظم غير واحدٍ من العلماء الأعلام مطالب هذا الكتاب في أشعارٍ لهم جواباً عن الشعر المذكور، منهم: الشيخ محمّدجواد البلاغي، والسيّد محسن الأمين العاملي، والشيخ

محمّد حسين كاشف الغطاء …

ثمّ إنّ العلماء الذين ذكرهم السيّد هم عدّة من وقف علي كتبهم، ولكنّ من يقول بمقالة الشيعة الإماميّة في موضوع الإمام الثاني عشر من أكابر أهل السنّة في مختلف العلوم والفنون كثيرون، ومنهم الذين أضافهم حفيد السيّد في كتابه (الإمام الثاني عشر) وهم:

1- الشيخ محي الدين ابن عربي، المتوفّي سنة 638.

2- رشيدالدين الدهلوي الهندي، المتوفّي سنة 1243.

3- صلاح الدين الصفدي، المتوفّي سنة 764.

4- الشيخ العطّار النيسابوري، المتوفّي سنة 618.

5- الشيخ صدرالدين أبو المجامع الحمويني، المتوفّي سنة 723.

ثمّ إنّا قد استدركنا عليه في طبعته النجفيّة عام 1393 بأعلامٍ آخرين من أهل السنّة في مختلف القرون، وهم:

1- الحافظ أحمد بن محمّد البلاذري البغدادي، المتوفّي سنة 279.

2- الحافظ أو محمّد الحسين بن مسعود البغوي، المتوفّي سنة 516.

3- الحافظ شمس الدين ابن الجزري، المتوفّي سنة 833.

4- الحافظ جلال الدين السيوطي، المتوفّي سنة 911.

5- أبو عبداللَّه ابن الخشاب، المتوفّي سنة 567.

6- المؤرخ ابن الأزرق، المتوفّي سنة 590.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 206

7- المؤرخ ابن خلكان، المتوفّي سنة 681.

8- المؤرخ الشيخ ابن الوردي، المتوفّي سنة 749.

9- الحافظ أبوبكر البيهقي، المتوفّي سنة 458.

10- الحافظ أبو الفتح ابن أبي الفوارس، المتوفّي سنة 412.

11- الشيخ علي القاري الهروي 1014.

12- الحسين بن معين الدين الميبدي، شارح ديوان الإمام علي، المتوفّي سنة 870.

13- الشيخ عبداللَّه المطيري صاحب كتاب (الرياض الزاهرة).

14- الشيخ سعدالدين الحموي 650.

15- جلال الدين محمّد الرومي العارف المشهور بالمولوي 628.

16- شمس الدين التبريزي المتوفّي في منتصف القرن السابع الهجري.

17- الشيخ عبدالرحمن البسطامي 858.

18- السيد النسيمي 901.

19- الشيخ صدرالدين القونوي 672.

20- الشيخ حسن العراقي أوائل القرن الحادي عشر.

21- الشيخ علي الخواص.

22- السيّد مؤمن بن حسن الشبلنجي 1290.

23- الشيح حسن

العدوي الحمزاوي صاحب (مشارق الأنوار) المتوفّي سنة 1303.

24- المولي محمّد الشهير بابن بدرالدين الرومي شيخ الحرم المدني، المتوفّي سنة 1001.

25- الشيخ سليمان بن أحمد القندوزي الحنفي، المتوفّي سنة 1294.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 207

التجسيم والمجسّمة … ص: 207

اشارة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 209

قد ينسب في بعض الكتب إلي الفرقة المحقة القول بالتجسيم، وإلي خصوص هشام بن الحكم، والقول بأنه سبعة أشبار بشبر نفسه … وهذا افتراء محض عليه وعلي الطائفة، وتعالي اللَّه عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً.

تبرئة الشهرستاني هشام بن الحكم … ص: 209

ولقد أحسن الشهرستاني، وهو من أعلام علماء أهل السنّة، حيث ردَّ علي الكعبي نسبة القول بذلك إلي هشام، فقد جاء في (الملل والنحل) ما نصّه:

«حكي الكعبي عن هشام بن الحكم أنّه قال: هو جسم ذو أبعاض، له قدر من الأقدار ولكن لا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا تشبهه. ونقل عنه أنّه قال: هو سبعة أشبار بشبر نفسه» «1».

ثمّ قال بعد كلامٍ له:

«وهذا هشام بن الحكم صاحب غور في الأصول لا يجوز أن يغفل عن إلزاماته علي المعتزلة، فإنّ الرجل وراء ما يلزمه علي الخصم ودون ما يظهره من التشبيه، وذلك أنّه ألزم العلّاف فقال: إنّك تقول إنّ الباري تعالي عالم بعلم وعلمه ذاته، فيشارك المحدثات في أنّه عالم بعلم ويباينها في أنّه علمه ذاته، فيكون عالماً لا كالعالمين، فلم لا تقول هو جسم لا كالأجسام، وصورة لا

__________________________________________________

(1) الملل والنحل 1: 184.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 210

كالصّور، وله قدر لا كالأقدار، إلي غير ذلك» «1».

ترجمة الشهرستاني … ص: 210

وأبوالفتح عبدالكريم الشهرستاني الفقيه، المتكلّم، صاحب التصانيف، من أعلام العلماء المحققين عند القوم:

قال اليافعي في (مرآة الجنان):

«أبوالفتح محمّد بن عبدالكريم بن أحمد الشهرستاني، المتكلّم علي مذهب الأشعري، كان إماماً مبرّزاً فقيهاً متكلّماً، تفقّه علي أبي نصر القشيري وأحمد الخوافي وغيرهما، وبرع في الفقه، وقرأ الكلام علي أبي القاسم الأنصاري وتفرّد فيه، وصنّف كتباً منها: نهاية الإقدام في علم الكلام، وكتاب الملل والنحل، وتلخيص الأقسام لمذاهب الأنام، وكان كثير المحفوظ، حسن المحاورة» «2».

وعلي الجملة، فإنّ نسبة هذا القول الباطل إلي الفرقة المحقة أو خصوص هشام باطلة، والناسب كاذب ولا حاجة إلي إطالة الكلام في ذلك، وقد بحث عنه بالتفصيل في محلّه.

__________________________________________________

(1) الملل والنحل 1: 185.

(2) مرآة الجنان 3: 221- 222.

السَّنة: 548.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 211

المجسمون من أهل السنّة … ص: 211

اشارة

ولكنّ العجب من هؤلاء، كيف يغفلون أو يتغافلون عن القائلين بهذه المقالة في صفوف علمائهم وهم كثيرون:

ابن تيميّة وابن القيّم … ص: 211

فابن تيميّة، قد ثبت عنه القول بذلك:

قال ابن حجر المكي في (أشرف الوسائل في شرح الشمائل) في ذكر إرخاء العمامة علي الكتفين:

«قال ابن القيّم عن شيخه ابن تيميّة إنّه ذكر شيئاً بديعاً وهو: أنّه صلّي اللَّه عليه وسلّم لمّا رأي ربّه واضعاً يده بين كتفيه أكرم ذلك الموضع بالعذبة.

قال العراقي: ولم نجد لذلك أصلًا، بل هذا من قبيل رأيهما وضلالهما، إذ هو مبني علي ما ذهبا إليه وأطالا في الاستدلال له والحطّ علي أهل السنّة في نفيهم له، وهو إثبات الجهة والجسميّة للَّه، تعالي عمّا يقول الظالمون والجاحدون علوّاً كبيراً، ولهما في هذا المقام من القبائح وسوء الإعتقاد ما يصمّ عنه الآذان ويقضي عليه بالزور والكذب والضلال والبهتان، قبّحهما اللَّه وقبّح من قال بقولهما، والإمام أحمد وأجلّاء مذهبه مبرّؤون عن هذه الوصمة القبيحة، كيف وهي كفر عند كثيرين».

وقال الجلال الدواني في (شرح عقائد العضدي):

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 212

«ولابن تيميّة أبي العبّاس أحمد وأصحابه ميل عظيم إلي إثبات الجهة ومبالغة في القدح في نفيها، ورأيت في بعض تصانيفه أنّه لا فرق عند بديهة العقل بين أن يقال هو معدوم أو يقال طلبته في جميع الأمكنة فلم أجده، ونسب النافين إلي التضليل، هذا مع علوّ كعبه في العلوم النقليّة والعقليّة كما يشهد به من تتبّع تصانيفه».

وقال المفتي صدر الدين، وهو من أكابر فضلاء السنة في الهند في رسالته (منتهي المقال) التي قرّظها علماؤهم بتقريظات عديدة:

«قال شيخ الامّة الهمام، سند المحدّثين الشيخ محمّد البريسي، في كتابه إتحاف أهل العرفان برؤية الأنبياء والملائكة والجان: قد تجاسر ابن تيميّة الحنبلي-

عامله اللَّه تعالي بعدله- وادّعي أنّ السفر لزيارة قبر النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم حرام، وإنّ الصلاة لا تقصر فيه لعصيان المسافر به، وأطال في ذلك بما تمجّه الأسماع وتنفر منه الطباع، وقد عاد شؤم كلامه عليه حتّي تجاوز الجناب الأقدس المستحق لكلّ كمال أنفس وخرق سياج الكبرياء والجلال، وحاول إثبات منافي العظمة والكمال، بادّعائه الجهة والتجسيم ونسبة من لم يعتقدهما إلي الضلالة والتأثيم، وأظهر هذا الأمر علي المنابر وشاع وذاع ذكره بين الأكابر والأصاغر، وخالف الأئمة المجتهدين في مسائل كثيرة، استدرك علي الخلفاء الراشدين باعتراضات سخيفة حقيرة، فسقط من أعين علماء الامّة وصار مثلة بين العوام فضلًا عن الأئمة، وتعقّب العلماء كلماته الفاسدة وزيّفوا حججه الداحضة الكاسدة، وأظهروا عور سقطاته وبيّنوا قبائح أوهامه وغلطاته».

وهذه بعض الجُمل الواردة في المنشور السلطاني في ابن تيمية:

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 213

«وكان الشقي ابن تيميّة في هذه المدّة قد بسط لسان قلمه ومدَّ عنان كلمه وتحدّث في مسائل القرآن والصفات، ونصّ في كلامه علي امور منكرات، وتكلّم فيما سكت عنه الصحابة والتابعون، وفاه بما يمجّه السلف الصالحون، وأتي في ذلك بما أنكره أئمّة الإسلام، وانعقد علي خلافه إجماع العلماء الأعلام، واشتهر من فتاواه في البلاد ما استخفّ به عقول العوام، وخالف في ذلك علماء عصره وفقهاء شامه ومصره، وبعث رسائله إلي كلّ مكان، وسمّي كتبه أسماء ما أنزل اللَّه بها من سلطان، ولمّا اتّصل بنا ذلك من سلكه من هذه المسالك وأظهروه من هذه الأحوال وأشاعوه، وعلمنا أنّه استخفّ قومه فأطاعوه، حتّي اتّصل بنا أنّهم صرّحوا في حقّ اللَّه بالحرف والصوت والتجسيم، فقمنا في حقّ اللَّه تعالي مشفقين من هذا النبأ العظيم».

إلي آخر المنشور الطويل، المثير

لأوليائه العويل، الهادم لأساس فخرهم الجزيل ومجدهم الأثيل.

بل قال ابن تيمية بقدم العرش، فأثبت للباري شريكاً في الأزليّة، كما ذكر الدوّاني في (شرح العقائد) بذكر القدم الجنسي للعالم:

«وقد قال به بعض المحدّثين المتأخّرين، وقد رأيت في بعض تصانيف ابن تيميّة القول به في العرش».

وقال المولوي عبدالحليم- من علماء الهند- في حاشية شرح العقائد المسماة (حلّ المعاقد):

«كان تقيّ الدين ابن تيميّة حنبليّاً، لكنّه تجاوز عن الحدّ وحاول إثبات ما ينافي عظمة الحقّ تعالي وجلاله، فأثبت له الجهة والجسم، وله هفوات اخر كما يقول: إنّ أميرالمؤمنين سيّدنا عثمان رضي اللَّه عنه كان يحبّ المال، وإنّ استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 214

أميرالمؤمنين سيّدنا علي رضي اللَّه عنه ما صحّ إيمانه فإنّه آمن في حال صباه، وتفوّه في حقّ أهل بيت النبيّ صلّي اللَّه عليه وعليهم ما لا يتفوّه به المؤمن المحقّ، وقد ورد الأحاديث الصحاح في مناقبهم في الصحاح.

وانعقد مجلس في قلعة حبل، حضر العلماء الأعلام والفقهاء العظام، ورئيسهم كان قاضي القضاة زين الدين المالكي، وحضر ابن تيميّة، فبعد القيل والقال، بهت ابن تيميّة وحكم قاضي القضاة بحبسه، وكان ذلك سنة سبع مائة وخمس من الهجرة، ثمّ نودي بدمشق وغيره: من كان علي عقيدة ابن تيميّة حلَّ ماله ودمه؛ كذا في مرآة الجنان للإمام أبي محمّد عبداللَّه اليافعي، ثمّ تاب وتخلّص من السجن سنة سبع مائة وسبع من الهجرة وقال: إنّي أشعريّ، ثمّ نكث عهده وأظهر مكنونه ومرموزه، فحبس حبساً شديداً مرّة ثانية، ثمّ تاب وتخلّص من السجن وأقام في الشام، وله هناك واقعات كتبت في كتب التواريخ.

وردّ أقاويله وبيّن أحواله الشيخ ابن حجر في المجلّد الأوّل من الدرر الكامنة، والذهبي في تاريخه، وغيرهما من المحقّقين.

هذا

كلام وقع في البين. والمرام أنّ ابن تيميّة لمّا كان قائلًا بكونه تعالي جسماً قال بأنّه ذو مكان، فإنّ كلّ جسم لابدّ له من مكان علي ما ثبت، ولما ورد في الفرقان الحميد «الرحمن علي العرش استوي» قال: إنّ العرش مكانه، ولمّا كان الواجب أزليّاً عنده وأجزاء العالم حوادث عنده، فاضطرّ إلي القول بأزليّة جنس العرش وقدمه وتعاقب أشخاصه الغير المتناهية، فمطلق التمكّن له تعالي أزليّ، والتمكّنات المخصوصة حوادث عنده، كما ذهب المتكلّمون إلي حدوث التعلّقات».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 215

وهذا نصّ كلام الحافظ ابن حجر بترجمة ابن تيمية من (الدرر الكامنة):

«وافترق الناس فيه شيعاً:

فمنهم: من نسبه إلي التجسيم، لما ذكر في العقيدة الحموية والواسطيّة وغيرهما من ذلك بقوله: إنّ اليد والقدم والساق والوجه صفات حقيقيّة للَّه، وإنّه مستوٍ علي العرش بذاته، فقيل له: يلزم من ذلك التحيّز والإنقسام، فقال:

أنا لا أسلّم إنّ التحيّز والإنقسام من خواصّ الأجسام، فالزم بأنّه يقول بالتحيّز في ذات اللَّه.

ومنهم: من ينسبه إلي الزندقة، لقوله إنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم لا يستغاث به، وإنّ في ذلك تنقيصاً ومنعاً من تعظيم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، وكان أشدّ النّاس عليه في ذلك النور البكري، فإنّه لمّا عُقِدَ له المجلس بسبب ذلك قال بعض الحاضرين: يعزّر، فقال البكري: لا معني لهذا القول، فإنّه إن كان تنقيصاً يقتل، وإن لم يكن تنقيصاً لا يعزّر.

ومنهم: من ينسبه إلي النفاق، لقوله في عليّ ما تقدّم، ولقوله إنّه كان مخذولًا حيث ما توجّه، وإنّه حاول الخلافة مراراً فلم ينلها، وإنّما قاتل للرياسة لا للديانة، ولقوله: إنّه كان يحبّ الرياسة، وإنّ عثمان كان يحبّ المال، ولقوله:

أبوبكر أسلم شيخاً يدري ما يقول، وعليّ أسلم

صبيّاً والصبيّ لا يصحّ إسلامه علي قول، ولكلامه في قصّة خطبة بنت أبي جهل وما نسبه من الثناء علي قصّة أبي العاص بن الربيع وما يؤخذ من مفهومها، فإنّه شنّع في ذلك فألزموه بالنفاق لقوله صلّي اللَّه عليه وسلّم: لا يبغضك إلّامنافق.

ونسبه قوم إلي أنّه يسعي في الإمامة الكبري، فإنّه كان يلهج بذكر ابن تومرت ويطريه، فكان ذلك مولّداً لطول سجنه وله وقائع شهيرة، وكان إذا

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 216

حوقق والزم يقول لم أرد هذا إنّما أردت كذا، فيذكر احتمالًا بعيداً» «1».

بعض شيوخ الحديث … ص: 216

وبعض شيوخ أهل الحديث أيضاً ذهب إلي هذا القول الفاسد، فقد قال البيهقي في كتاب (الأسماء والصفات):

«و قد زلّ بعض شيوخ أهل الحديث ممّن يرجع إلي معرفته بالحديث والرجال، فحاد عن هذه الطريقة حين روي حديث النزول، ثمّ أقبل علي نفسه فقال: إن قال قائل كيف ينزل ربّنا إلي السماء؟ قيل له: ينزل كيف يشاء. فإن قال: هل يتحرّك إذا نزل؟ فقال: إن شاء تحرّك وإن شاء لم يتحرّك.

وهذا خطأ فاحش عظيم، واللَّه تعالي لا يوصف بالحركة؛ لأنّ الحركة والسكون يتعاقبان في محلّ واحد، وإنّما يجوز أن يوصف بالحركة من يجوز أن يوصف بالسكون، وكلاهما من أعراض الحدث وأوصاف المخلوقين، واللَّه تبارك وتعالي متعال عنهما ليس كمثله شي ء» «2».

الذهبي … ص: 216

والذهبي، الذي يعدّ من أكابر حفّاظهم المحققين، هذا مذهبه، كما نصّ علي ذلك علماؤهم الأعلام، كالسبكي في (طبقات الشافعية) حيث قال:

«وأمّا تاريخ شيخنا الذهبي غفر اللَّه له، فإنّه علي جمعه وحسنه مشحون بالتعصّب المفرط لا واخذه اللَّه، فلقد أكثر الوقيعة في أهل الدين أعني الفقراء الذين هم صفوة الخلق، واستطال بلسانه علي كثير من الأئمة الشافعيين __________________________________________________

(1) الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة 1: 155- 156.

(2) الأسماء والصفات للبيهقي 3: 615- 616.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 217

والحنفيين ومال فأفرط علي الأشاعرة، ومدح فزاد في المجسمة، هذا وهو الحافظ المِدْرَه والإمام المبجّل» «1».

وقال السبكي أيضاً:

«ونقلت من خطّ الحافظ صلاح الدين خليل بن كيكلدي العلائي رحمه اللَّه ما نصّه: الشيخ الحافظ شمس الدين الذهبي لا شكّ في دينه وورعه وتحريه فيما يقوله في الناس، ولكنّه غلب عليه مذهب الإثبات ومنافرة التأويل والغفلة عن التنزيه، حتّي أثّر ذلك في طبعه انحرافاً شديداً عن أهل التنزيه وميلًا قويّاً

إلي أهل الإثبات، فإذا ترجم واحداً منهم يطنب في وصفه بجميع ما قيل فيه من المحاسن ويبالغ في وصفه ويتغافل عن غلطاته ويتأوّل له ما أمكن، وإذا ذكر أحداً من الطرف الآخر كإمام الحرمين والغزالي ونحوهما لا يبالغ في وصفه ويكثر من قول من طعن فيه ويعيد ذلك ويبديه ويعتقده ديناً وهو لا يشعر، ويُعرض عن محاسنهم الطافحة فلا يستوعبها، وإذا ظفر لأحدٍ منهم بغلطة ذكرها، وكذلك فعله في أهل عصرنا إذا لم يقدر علي أحد منهم بتصريح يقول في ترجمته واللَّه يصلحه، ونحو ذلك، وسببه المخالفة في العقائد، إنتهي.

والحال في حقّ شيخنا الذهبي أزيد ممّا وصف، وهو شيخنا ومعلّمنا، غير أنّ الحقّ أحقّ أن يتّبع» «2».

وقال السبكي في (طبقاته):

«إعلم أنّ أباإسماعيل عبداللَّه بن محمّد الهروي، الذي يسمّيه المجسّمة

__________________________________________________

(1) طبقات الشافعية للسبكي 2: 22.

(2) طبقات الشافعية للسبكي 2: 13.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 218

شيخ الإسلام قال: سألت يحيي بن عمّار عن ابن حبّان قلت: رأيته؟ قال:

وكيف لم أره … » «1».

ولا يخفي أنّ مراده من «المجسمة» هو «الذهبي»، فهو الذي وصفه ب «شيخ الاسلام» كما في (ميزان الإعتدال) حيث قال:

«قال أبو إسماعيل الأنصاري شيخ الإسلام سألت يحيي بن عمّار عن أبي حاتم … » «2».

أبوالقاسم ابن مندة … ص: 218

وابن مندة أيضاً من القائلين بثبوت الجهة للباري عزّوجل، فقد قال اليافعي في (مرآة الجنان):

«الحافظ أبوالقاسم عبدالرحمن بن مندة الأصبهاني صاحب التصانيف، كان ذا هيبة ووقار، وله أصحاب وأتباع. قال الذهبي: وفيه تسنّن مفرط، أوقع بعض العلماء في الكلام في معتقده وتوهّموا فيه التجسيم، قال: وهو بري ء منه فيما علمت، ولكن لو قصّر من شأنه لكان أولي به.

قلت: وكلام الذهبي هذا يحتاج إلي إيضاح، فقوله: فيه تسنّن مفرط، أي

يبالغ في الأخذ بظواهر السنّة والاستدلال بها وجحد حملها فيه التجسيم، لأنّ الجري علي اعتقاد الظواهر ومنع التأويل فيها يدلّ علي ذلك، والكلام فيه يطول، وقد أوضحت ذلك في الاصول. وقوله: لو قصّر من شأنه لكان أولي به، أي لوترك المبالغة في التظاهر بذلك والاستشهار به لكان أولي. وأمّا قوله:

وهو بري ء منه، فشهادة علي أمر باطل واللَّه أعلم بحقيقته، وغاية ما ثمَّ أنّه ما

__________________________________________________

(1) طبقات الشافعية للسبكي 3: 132.

(2) ميزان الاعتدال 6: 99/ 7352.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 219

يصرّح بالتجسيم بلسانه لكنّه يقول بالجهة، وأسلم ما في ذلك أنّه يلزم منه القول بالتجسيم، وفي ملزوم المذهب خلاف مشهور عند العلماء، هل هو مذهب أم لا؟ هذا إذا اقتصر علي اعتقاد الجهة، فأمّا إذا اعتقد الحركة والنزول والجارحة فصريح في التجسيم» «1».

ولا تتوهَّمن أن هذه المقالات الفاسدة إنما قال بها المتأخّرون من تلقاء أنفسهم، فإنّهم قد تبعوا فيها أسلافهم …

جماعة من القدماء … ص: 219

فإنّ ذلك مذهب جماعة من القدماء … فقد قال في (الملل والنحل) بعد ذكر مذهب أحمد بن حنبل وأمثاله من منع تأويل الآيات الدالّة علي التشبيه:

«وليس- أي هذا المذهب- من التشبيه في شي ء، غير أنّ جماعة من الشيعة الغالية وجماعة من أصحاب الحديث الحشويّة صرّحوا بالتشبيه، مثل الهشامين من الشيعة، ومثل مضر وكهمس وأحمد الهجيمي وغيرهم من أهل السنّة قالوا: معبودهم صورة ذات أعضاء وأبعاض روحانيّة وجسمانيّة، ويجوز عليه الانتقال والصعود والنزول والاستقرار والتمكّن.

فأمّا مشبّهة الشيعة، فسيأتي مقالاتهم في باب الغلاة.

وأمّا مشبّهة الحشويّة، فقد حكي الأشعري عن محمّد بن عيسي أنّه حكي عن مضر وكهمس وأحمد الهجيمي إنّهم أجازوا علي ربّهم الملامسة والمصافحة، وإنّ المخلصين من المسلمين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذا بلغوا في

الرياضة والإجتهاد إلي حدّ الإخلاص والإتحاد المحض، وحكي الكعبي عن بعضهم إنّه كان يُجوّز الرؤية في الدنيا وأن يزوره ويزورهم. ويحكي عن __________________________________________________

(1) مرآة الجنان وعبرة اليقظان 3: 76- 77 ترجمة الحافظ أبي القاسم عبدالرحمن بن مندة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 220

داود الجواربي إنّه قال: إعفوني عن اللّحية والفرج وسلوني عمّا وراء ذلك، وقال: إنّ معبوده جسم ولحم ودم، وله جوارح وأعضاء من يد ورجل ورأس ولسان وعينين واذنين، وهو مع ذلك جسم لاكالأجسام، ولحم لا كاللحوم، ودم لا كالدماء، وكذلك سائر الصفات، وهو لا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شي ء. وحكي أنّه قال: هو أجوف من أعلاه إلي صدره ومصمّت ما سوي ذلك، وأنّ له وفرةً سوداء، وله شعر قطط.

وأمّا ما ورد في التنزيل من الإستواء واليدين والوجه والرجلين والجنب والمجي ء والإتيان والفوقيّة وغير ذلك، فأجروها علي ظاهرها، يعني ما يفهم عند الإطلاق علي الأجسام، وكذلك ما ورد في الأخبار من الصورة في قوله:

خلق آدم علي صورة الرحمان، وقوله: يضع الجبّار قدمه في النّار، وقوله: قلب المؤمنين بين إصبعين من أصابع الرحمان، وقوله: خمّر طينة آدم بيده أربعين صباحاً، وقوله: فوضع يده أو كفّه علي كتفي فوجدت برد أنامله في صدري، إلي غير ذلك، أجروها علي ما يتعارف في صفات الأجسام» «1».

أكثر المحدّثين … ص: 220

وهو قول أكثر المحدّثين، فيما نسب إليهم جلال الدين الدواني في (شرح العقائد) حيث قال:

«وأكثر المجسّمة هم الظاهريون المتبعون بظواهر الكتاب والسنّة، وأكثرهم المحدّثون».

ونسب ابن الجوزي في (تلبيس ابليس) ذلك إلي عموم المحدّثين:

«واعلم أنّ عموم المحدّثين حملوا ظاهر ما نقلوا من صفات الباري __________________________________________________

(1) الملل والنحل 1: 105- 106.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 221

سبحانه وتعالي علي مقتضي الحسّ

فشبّهوا، لأنّهم لم يخالطوا الفقهاء، فيعرفوا حمل المتشابه علي مقتضي المحكم».

مقاتل بن سليمان … ص: 221

ومقاتل بن سليمان من القائلين بالتشبيه والتجسيم، وهو- كما في (الملل والنحل)- من أئمة السلف، وفي عداد أحمد بن حنبل وأمثاله، قال الشهرستاني:

«فأمّا أحمد بن حنبل وداود بن علي الأصبهاني وجماعة من أئمّة السلف فجروا علي منهاج السلف المتقدمين عليهم من أصحاب الحديث كمالك بن أنس ومقاتل بن سليمان سلكوا طريق السلامة وقالوا: نؤمن بما ورد به الكتاب والسنّة ولا نتعرّض للتأويل» «1».

وقد ورد قوله بالتجسيم في (المواقف) حيث قال:

«والمجسّمة قالوا هو جسم حقيقة. فقيل: مركّب من لحم ودم، كمقاتل ابن سليمان» «2».

وفي (منهاج السنة):

«قال الأشعري في المقالات: وقال داود الجواربي ومقاتل بن سليمان:

إنّ اللَّه جسم، وإنّه جثّة وأعضاء وعلي صورة الإنسان لحم ودم وشعر وعظم، له جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعينين، ومع هذا لا يشبه غيره ولا يشبهه» «3».

__________________________________________________

(1) الملل والنحل 1: 104.

(2) شرح المواقف في علم الكلام 3: 38.

(3) منهاج السنة 1: 372.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 222

وإذا كان الأشعري ينسب ذلك إلي مقاتل، فلا يصغي إلي تشكيكات بعض الناس.

وأيضاً، فقد جاء بترجمة مقاتل من (الأنساب) ما نصّه:

«أبوالحسن مقاتل بن سليمان الخراساني مولي الأزد، أصله من بلخ، وانتقل إلي البصرة، وبها مات بعد قدوم الهاشميّة، وكان يأخذ عن اليهود والنصاري علم القرآن الذي يوافق كتبهم، وكان مشبّهاً يُشبّه الربّ بالمخلوقين، وكان يكذب مع ذلك في الحديث، وكان أبو يوسف القاضي يقول: قال أبو حنيفة رحمه اللَّه: يا أبايوسف إحذر صنفين من خراسان: الجهميّة والمقاتليّة» «1».

وهكذا في (ميزان الإعتدال):

«قال أبو حنيفة: أفرط جهم في نفي التشبيه حتّي قال إنّه تعالي ليس بشي ء، وأفرط مقاتل- يعني في الإثبات- حتّي

جعله مثل خلقه» «2».

وفيه:

«قال ابن حبان: كان يأخذ عن اليهود والنصاري من علم القرآن الذي يوافق كتبهم، وكان يشبّه الربّ بالمخلوق، وكان يكذب في الحديث» «3».

نعيم بن حمّاد … ص: 222

ومنهم نعيم بن حمّاد … قال السمعاني في (الأنساب) بترجمته:

«يقال له: الفارض، لأنّه يعرف الفرائض وقسمة المواريث معرفة حسنة،

__________________________________________________

(1) الأنساب للسمعاني 2: 337.

(2) ميزان الإعتدال 6: 505/ 8747.

(3) ميزان الإعتدال 6: 507.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 223

واشتهر بهذه النسبة حتّي كان يقال له نعيم الفارض- إلي أن قال- وكان من العلماء ولكنّه ربّما يهمّ ويخطي ومن ينجو من ذلك؟ ثبت في المحنة حتّي مات في الحبس، وسمع منه حمزة الكاتب في الحبس، وكان قد امتنع عن القول بخلق القرآن، وكان يقول: أنا كنت جهميّاً فلذلك عرفت كلامهم، فلمّا طلبت الحديث علمت أنّ أمرهم يرجع إلي التعطيل» «1».

وقال الذهبي بترجمته في (ميزان الاعتدال):

«نعيم بن حمّاد الخزاعي المروزي، أحد الأئمة الأعلام، علي لين في حديثه. قال الخطيب: يقال: إنّ نعيم بن حمّاد أوّل من جمع المسند.

وقال الحسين بن حبّان: سمعت يحيي بن معين يقول: نعيم بن حمّاد صدوق وأنا أعرف الناس به، وكان رفيقي في البصرة، كتب عن روح بن عبادة خمسين ألف حديث.

وكذا وثّقه أحمد.

وروي إبراهيم بن الجنيد عن ابن معين: ثقة.

وقال أحمد العجلي: ثقة صدوق.

وقال العبّاس بن مصعب في تاريخه: نعيم بن حمّاد وضع كتباً في الردّ علي الجهميّة، وكان من أعلم النّاس بالفرائض.

وقال الحافظ أبو علي النيسابوري: سمعت النسائي يذكر فضل نعيم بن حمّاد وتقدّمه في العلم ومعرفة السنن» «2».

وأما قوله بالتجسيم، فقد حكاه ابن الجوزي في (تلبيس ابليس) فإنه قال:

__________________________________________________

(1) الأنساب 4: 333.

(2) ميزان الإعتدال 7: 41- 42/ 9109.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص:

224

«قال أبو يحيي: وقد حكي كثير من المتكلّمين إنّ مقاتل بن سليمان ونعيم بن حمّاد وداود الجواربي يقولون إنّ اللَّه صورة وأعضاء، أفتري هؤلاء كيف يثبتون له القدم دون الآدميّين، ولم لا يجوز عليه عندهم ما يجوز علي الآدميّين، من مرض وتلف» إلي آخر ما أفاد وأجاد «1».

وقال الخطيب:

«نعيم بن حمّاد بن معاوية بن الحارث، أبو عبداللَّه الخزاعي، الأعور المروزي، كان قد سكن مصر، ولم يزل مقيماً حتّي اشخص للمحنة في القرآن إلي سرّ من رأي في أيّام المعتصم، فسُئل عن القرآن فأبي أن يجيبهم إلي أنّ القرآن مخلوق، فسجن إلي أن مات في السجن سنة ثمان وعشرين ومائتين، والقي في حفرة، ولم يكفّن ولم يُصلَّ عليه.

وروي مسنداً إلي مروان بن عثمان، عن عمارة بن عامر، عن امّ الطّفيل قالت: سمعت النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم يذكر إنّه رأي ربّه تعالي في المنام في أحسن صورة، شابّاً موفّراً، رجلاه في خصر عليه نعلان من ذهب، علي وجهه فراش من ذهب.

وروي الخطيب عقيب هذا الخبر عن نعيم بإسناده يرفعه قال: سمعت أباعبدالرحمان النسوي يقول: ومن مروان بن عثمان حتّي يصدّق علي اللَّه عزّوجلّ؟

وقال صالح بن محمّد: إنّ نعيماً كان يحدّث من حفظه، وعنده مناكير كثيرة لا يتابع عليها» «2».

__________________________________________________

(1) تلبيس ابليس: 100.

(2) تاريخ بغداد 13: 306- 314 ملخّصاً.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 225

البداء … ص: 225

اشارة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 227

إعلم:

أنّ علماء الطائفة المحقّة قد ذكروا في كتبهم العقيدة بالبداء، وبيّنوا أدلَّتها العقليّة والنقليّة، لكنَّ بعض الناس لمّا جهلوا بهذه الحقيقة ولم يطّلعوا علي أدلّتها، جعلوا يشنّعون علينا، وينسبون إلينا القول بعروض الندم أو الجهل علي الباري، عزوجلّ وتعالي عمّا يقول الظّالمون علوّاً كبيراً

فرأينا من المناسب التعرّض لهذا المطلب بإيجاز، رفعاً للشبهة ودفعاً للتهمة … واسوةً بعلمائنا الأبرار الذين وضعوا رسائل مفردة في هذه المسألة، تبييناً للعقيدة ودفاعاً عن المذهب.

وأمّا من يتفوّه بذلك وهو عالم بواقع الحال، ففي قلبه مرض لا يمكننا علاجه، ونكل أمره إلي اللَّه، وكفي به حسيباً …

هذا، وسيكون بحثنا في مقامات:

أحدها: في نقل كلام الشيخ المجلسي وجماعة من علمائنا.

والآخر: في نقل روايات من طرق أهل السنة متضمّنة للتغيير والتبديل في المقدّرات الإلهية، وهي عين مفاد أحاديث البداء.

والثالث: في ذكر موارد وقوع البداء في كتب الجمهور.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 228

كلام الشيخ المجلسي وسائر علمائنا الأعلام … ص: 228

قال العلامة الشيخ محمّدباقر المجلسي صاحب (بحارالأنوار) بعد رواية نبذةٍ من أحاديث البداء وأقوال العلماء فيه:

«ولنذكر ما ظهر لنا من الآيات والأخبار بحيث تدلّ عليه النصوص الصريحة ولا تأبي عنه العقول الصحيحة فنقول وباللَّه التوفيق:

إنّهم عليهم السلام إنّما بالغوا في البداء ردّاً علي اليهود الذين يقولون: إنّ اللَّه قد فرغ من الأمر والنظام، وبعض المعتزلة الذين يقولون: إنّ اللَّه خلق الموجودات دفعة واحدة علي ما هي عليه الآن، معادن ونباتاً وحيواناً وإنساناً، ولم يتقدّم خلق آدم علي خلق أولاده، والتقدّم إنّما يقع في ظهورها لا في حدوثها ووجودها، وإنّما أخذوا هذه المقالة من أصحاب الكمون والظهور من الفلاسفة، وعن بعض الفلاسفة القائلين بالعقول والنفوس الفلكية، وبأنّ اللَّه تعالي لم يؤثر حقيقة إلّافي العقل الأوّل، فهم يعزلونه تعالي عن ملكه وينسبون الحوادث إلي هؤلاء.

فنفوا عليهم السلام ذلك، وأثبتوا أنّه تعالي كلّ يوم في شأنٍ، من إعدام شي ء وإحداث آخر، وإماتة شخص وإحياء آخر إلي غير ذلك، لئلّا يترك العباد التضرّع إلي اللَّه ومسألته وطاعته والتقرّب إليه بما يصلح امور دنياهم وعقباهم، وليرجوا عند

التصدّق علي الفقراء وصلة الأرحام وبرّ الوالدين والمعروف والإحسان ما وُعِدوا عليها، من طول العمر وزيادة الرزق وغير ذلك.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 229

ثمّ اعلم: أنّ الآيات والأخبار تدلّ علي أنّ اللَّه تعالي خلق لوحين أثبت فيهما ما يحدث من الكائنات:

أحدهما: اللّوح المحفوظ الذي لا تغيّر فيه أصلًا، وهو مطابق لعلمه تعالي.

والآخر: لوح المحو والإثبات، فيثبت فيه شيئاً ثمّ يمحوه، لحكم كثيرة لا تخفي علي اولي الألباب، مثلًا يكتب إنّ عمر زيد خمسون سنة، ومعناه: أنّ مقتضي الحكمة أن يكون عمره كذا إذا لم يفعل ما يقتضي طوله أو قصره، فإذا وصل الرحم مثلًا يمحي الخمسون ويكتب مكانه ستّون، وإذا قطعها يكتب مكانه أربعون، وفي اللّوح المحفوظ إنّه يصل عمره ستّون، كما أنّ الطبيب الحاذق إذا اطّلع علي مزاج شخص يحكم بأنّ عمره بحسب هذا المزاج يكون ستّين سنةً، فإذا شرب سمّاً ومات أو قتله إنسان فنقص من ذلك أو استعمل دواءاً قوي مزاجه به فزاد عليه لم يخالف قول الطبيب، والتغيّر الواقع في هذا اللّوح مسمّي بالبداء؛ إمّا لأنّه شبيه به، كما في سائر ما يطلق عليه سبحانه من الإبتلاء والاستهزاء والسخرية وأمثالها، أو لأنّه يظهر للملائكة أو للخلق إذا اخبروا بالأوّل خلاف ما علموا أوّلًا.

وأيّ استبعاد في تحقّق هذين اللّوحين؟ وأيّة استحالة في هذا المحو والإثبات حتّي يحتاج إلي التأويل والتكلّف، وإن لم يظهر الحكمة فيه لنا بعجز عقولنا عن الإحاطة بها؟ مع أنّ الحكم فيه ظاهرة:

منها: أن يظهر للملائكة الكاتبين في اللّوح والمطّلعين عليه لطفه تعالي بعباده، وإيصالهم في الدنيا إلي ما يستحقّونه فيزدادوا به معرفة.

ومنها: أن يعلم العباد- بإخبار الرسل والحجج عليهم السلام- أنّ استخراج المرام من استقصاء الافحام،

ج 1، ص: 230

لأعمالهم الحسنة مثل هذه التأثيرات في صلاح امورهم، ولأعمالهم السيّئة تأثيراً في فسادها، فيكون داعياً لهم إلي الخيرات، صارفاً لهم عن السيّئات.

فظهر أنّ لهذا اللّوح تقدّماً علي اللّوح المحفوظ، من جهة صيرورته سبباً لحصول بعض الأعمال، فبذلك ينقش في اللوح المحفوظ حصوله، فلا يتوهّم أنّه بعد ما كتب في هذا اللّوح حصوله لا فائدة في المحو والإثبات.

ومنها: إنّه إذا أخبر الأوصياء أحياناً من كتاب المحو والإثبات ثمّ أخبروا بخلافه، يلزمهم الإذعان به ويكون في ذلك تشديد للتكليف عليهم، تسبيباً لمزيد الأجر لهم، كما في سائر ما يبتلي اللَّه عباده به من التكاليف الشاقّة وإيراد الامور التي يعجز أكثر العقول عن الإحاطة بها، وبها يمتاز المسلّمون الذين فازوا بدرجات اليقين عن الضعفاء الذين ليس لهم قدم راسخ في الدين.

ومنها: أن يكون هذه الأخبار تسلية لقوم من المؤمنين المنتظرين لفرج أولياء اللَّه وغلبة الحقّ وأهله، كما روي في فرج أهل البيت عليهم السلام وغلبتهم، لأنّهم عليهم السلام لو كانوا أخبروا الشيعة- في أوّل ابتلاءهم باستيلاء المخالفين وشدّة محنتهم- أنّه ليس فرجهم إلّابعد ألف سنة أو ألفي سنة، ليئسوا ورجعوا عن الدين، ولكنّهم أخبروا شيعتهم بتعجيل الفرج، وربّما أخبروهم بأنّه يمكن أن يحصل الفرج في بعض الأزمنة القريبة، ليثبتوا علي الدين ويثابوا بانتظار الفرج، كما مرّ في خبر أميرالمؤمنين صلوات اللَّه عليه».

وقال- رحمه اللَّه- بعد إيراد حديثين:

«فأخبارهم عليهم السلام بما يظهر خلافه ظاهراً، من قبيل المجملات والمتشابهات التي تصدر عنهم ثمّ يصدر بعد ذلك تفسيرها وبيانها، وقولهم استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 231

يقع الأمر الفلاني في وقت كذا معناه إن كان كذا، أو إن لم يقع الأمر الفلاني الذي ينافيه، ولم يذكروا الشرط كما

قالوا في النسخ قبل الفعل، وقد أوضحناه في باب ذبح إسماعيل عليه السلام.

فمعني قولهم عليهم السلام: ما عبد اللَّه بمثل البداء، إنّ الإيمان بالبداء من أعظم العبادات القلبيّة، لصعوبته ومعارضة الوساوس الشيطانيّة فيه، ولكونه إقراراً بأنّ له الخلق والأمر، وهذا كمال التوحيد، أو المعني أنّه من أعظم الأسباب والدواعي إلي عبادة الربّ تعالي كما عرفت.

وكذا قولهم: ما عُظِّم اللَّه بمثل البداء، يحتمل الوجهين، وإن كان الأوّل فيه أظهر.

وأمّا قول الصادق عليه السلام: لو علم النّاس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه.

فلما مرّ أيضاً، من أنّ أكثر مصالح العباد موقوفة علي القول بالبداء، إذ لو اعتقدوا أنّ كلّ ما قُدِّرَ في الأزل فلابدّ من وقوعه حتماً، لَمَا دعوا اللَّه في شي ء من مطالبهم، وما تضرّعوا إليه وما استكانوا لديه، ولا خافوا منه ولا رجوا إليه، إلي غير ذلك ممّا قد أومأنا إليه.

وأمّا إنّ هذه الامور من جملة الأسباب المقدّر في الأزل أن يقع الأمر بها لا بدونها، فممّا لا يصل إليه عقول أكثر الخلق.

فظهر أنّ هذا اللوح وعلمهم بما يقع فيه من المحو والإثبات أصلح لهم من كلّ شي ء» «1».

__________________________________________________

(1) بحارالأنوار 4: 129- 133.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 232

أقول:

ومثله في إثبات علم اللَّه عزّوجلّ بالأشياء كلّها قبل كونها، وأنّه ليس معني أخبار البداء ظهور الأمر له تعالي، كلمات غيره من أعلام الطائفة، بل صريح بعضهم أنْ أخذ «البداء» بمعني العلم بعد الجهل كفر:

قال الشيخ الصدوق: «وعندنا: من زعم أنّ اللَّه تعالي يبدو له اليوم في شي ء لم يعلمه أمس، فهو كافر، والبراءة منه واجبة» «1».

وقال الشيخ المفيد: «وليس هو الانتقال من عزيمةٍ إلي عزيمة، ولا من تعقّب الرأي، تعالي

اللَّه عمّا يقول المبطلون علوّاً كبيراً» «2».

وقال الشيخ الطوسي: «والوجه في هذه الأخبار: ما قدّمنا ذكره من تغيير المصلحة فيه، واقتضائها تأخير الأمر إلي وقتٍ آخر علي ما بيّناه، دون ظهور الأمر له تعالي، فإنّا لا نقول به ولا نجوّزه، تعالي اللَّه عن ذلك علوّاً كبيراً».

بل قال: «فأمّا من قال بأنّ اللَّه تعالي لا يعلم بشي ء إلّابعد كونه، فقد كفر وخرج عن التوحيد» «3».

وكذلك كلام غير هؤلاء من علمائنا المتقدّمين والمتأخّرين.

__________________________________________________

(1) كتاب التوحيد: 135 باب العلم.

(2) تصحيح الاعتقاد: 200.

(3) كتاب الغيبة: 430- 431.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 233

روايات السنّة في البداء … ص: 233

والروايات والأخبار المخرّجة في كتب أهل السنّة من طرقهم، الدالّة علي عقيدة البداء عن الصحابة والتابعين كثيرة:

فالرواية الأولي ما أخرجه جماعة من الأئمة عن مجاهد.

قال السيوطي في تفسيره (الدر المنثور):

«أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن مجاهد رضي اللَّه عنه قال: قالت قريش حين انزل: «وما كان لرسول أن يأتي بآية إلّابإذن اللَّه» ما نراك يا محمّد تملك من شي ء ولقد فرغ من الأمر، فانزلت هذه الآية تخويفاً ووعيداً لهم: «يمحو اللَّه ما يشاء ويثبت» إنّا إن شئنا أحدثنا له من أمرنا ما شئنا، ويحدث اللَّه تعالي في كلّ رمضان، فيمحو اللَّه ما يشاء ويثبت من أرزاق الناس ومصائبهم وما يعطيهم وما يقسم لهم» «1».

الرواية الثانية عن ابن عباس كما في (الدر المنثور) حيث قال:

«أخرج عبدالرزاق والفريابي وابن جرير وابن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنه في قوله «يمحو اللَّه ما يشاء ويثبت» قال: ينزل اللَّه في كلّ شهر رمضان إلي سماء الدنيا، فيدبّر أمر السّنة إلي السّنة في ليلة

القدر، فيمحو اللَّه ما يشاء ويثبت، إلّا الشقاوة والسعادة والحياة والمماة» «2».

__________________________________________________

(1) الدر المنثور 4: 659.

(2) الدر المنثور 4: 659.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 234

الرواية الثالثة عن جابر، ففي (الدر المنثور):

«أخرج ابن سعد وابن جرير وابن مردويه عن الكلبي رضي اللَّه عنه في الآية قال: يمحو اللَّه من الرزق ويزيد فيه، ويمحو من الأجل ويزيد فيه.

فقيل له: من حدّثك بهذا؟

قال: أبو صالح عن جابر بن عبداللَّه بن رباب الأنصاري عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم» «1».

وقال السيوطي في رسالته (إفادة الخبر بنصّه في زيادة العمر ونقصه):

«أخرج ابن جرير وابن مردويه في تفسيرهما عن الكلبي في قوله «يمحو اللَّه ما يشاء ويثبت» قال: يمحو من الرزق ويزيد فيه، ويمحو من الأجل ويزيد فيه.

فقيل: من حدّثك بهذا؟

قال: أبو صالح عن جابر بن عبداللَّه بن رباب الأنصاري عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم».

الرواية الرابعة عن أبي الدرداء، قال عمر بن عادل في (اللّباب):

«روي أبوالدرداء قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: ينزل اللَّه تعالي في آخر ثلاث ساعات يبقين من اللّيل، فينظر في الساعة الاولي منهنّ في امّ الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره، فيمحو ما يشاء ويثبت» «2».

الرواية الخامسة ما رواه ابن مردويه في تفسيره، وابن عساكر في تاريخه عن أميرالمؤمنين، فقد قال السيوطي في (إفادة الخبر بنصّه):

__________________________________________________

(1) الدر المنثور 4: 660.

(2) اللباب في علوم الكتاب 11: 320.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 235

«أخرج ابن مردويه في تفسيره وابن عساكر في تاريخه عن عليّ رضي اللَّه عنه: إنّه سأل رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم عن قوله «يمحو اللَّه ما يشاء ويثبت» فقال: لُاقرّنّ عينك بتفسيرها، ولُاقرّنّ عين امّتي بعدي بتفسيرها:

الصدقة علي

وجهها وبرّ الوالدين واصطناع المعروف، يحوّل الشقاء سعادة ويزيد في العمر ويقي مصارع السوء».

وفي (الدر المنثور) بتفسير الآية:

«أخرج ابن مردويه وابن عساكر عن عليّ رضي اللَّه عنه إنّه سأل رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم عن هذه الآية، فقال له: لُاقرّنّ عينك بتفسيرها، ولُاقرّنّ عين امّتي بعدي بتفسيرها:

الصدقة علي وجهها وبرّ الوالدين واصطناع المعروف، يحوّل الشقاء سعادة ويزيد في العمر ويقي مصارع السوء» «1».

وقال القاضي ثناء اللَّه في (تفسيره):

«سأل عليّ عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم عن هذه الآية- يعني «يمحو اللَّه» الآية- قال: لُاقرّنّ عينك بتفسيرها واقرّنّ عين امّتي بتفسيرها: الصدقة علي وجهها وبرّ الوالدين واصطناع المعروف يحوّل الشقاء سعادة ويزيد في العمر.

مر، أي رواه ابن مردويه.

قلت: المراد بهذا القضاء المعلّق».

الرواية السادسة ما أخرجه الحاكم وصحّحه، كما في (الدر المنثور) قال:

__________________________________________________

(1) الدر المنثور 4: 661.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 236

«أخرج الحاكم وصحّحه عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما قال: لا ينفع الحذر من القدر، ولكن اللَّه يمحو بالدعاء ما يشاء من القدر» «1».

الرواية السابعة عن قيس بن عبّاد، أخرجها ابن جرير.

قال في (الدر المنثور):

«أخرج ابن جرير عن قيس بن عباد رضي اللَّه عنه قال: العاشر من رجب يمحو اللَّه فيه ما يشاء» «2».

الرواية الثامنة أخرجها جماعة عن قيس بن عباد أيضاً.

قال في (الدر المنثور):

«أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن قيس بن عباد رضي اللَّه عنه قال: للَّه أمر في كلّ ليلة العاشر من الأشهر الحرم، أمّا العاشر من الأضحي فيوم النحر، وأمّا العاشر من المحرّم فيوم عاشورا، وأمّا العاشر من رجب ففيه يمحو اللَّه ما يشاء ويثبت.

قال: ونسيت ما قال في ذي القعدة» «3».

الرواية التاسعة عن عمر بن الخطّاب،

أخرجها جماعة.

قال في (الدر المنثور):

«أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عمر بن الخطّاب رضي اللَّه عنه إنّه قال- وهو يطوف بالبيت-: اللهمّ إن كنت كتبت عليّ شقاوة أو ذنباً فامحه، فإنّك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك امّ الكتاب، فاجعله سعادة ومغفرة» «4».

الرواية العاشرة عن ابن مسعود:

__________________________________________________

(1) الدر المنثور 4: 661.

(2) الدر المنثور 4: 661.

(3) الدر المنثور 4: 661.

(4) الدر المنثور 4: 661.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 237

«أخرج ابن أبي شيبة في المصنّف وابن أبي الدنيا في الدعاء عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه قال: ما دعا عبدٌ قط بهذه الدعوات إلّاوسّع اللَّه عليه في معيشته:

يا ذا المنّ ولا يمنّ عليه، يا ذاالجلال والإكرام، يا ذا الطَّوْل، لا إله إلّا أنت، ظهر اللّاجين وجار المستجيرين، ومأمن الخائفين، إن كنت كتبتني عندك في امّ الكتاب شقيّاً، فامح عنّي اسم الشقاوة وثبّتني عندك سعيداً، وإن كنت كتبتني عندك في امّ الكتاب محرّماً مقتَّراً علَيّ رزقي، فامح حرماني ويسّر رزقي وثبّتني عندك سعيداً موفّقاً للخير، فإنّك تقول في كتابك الذي أنزلت «يمحو اللَّه ما يشاء ويثبت وعنده امّ الكتاب»».

هكذا في (الدر المنثور) «1».

ورواه عمر بن عادل الحنبلي في تفسيره (اللباب في علوم الكتاب) عن ابن مسعود وعمر فقال:

«عن ابن عمر وابن مسعود إنّهما قالا: يمحو السعادة والشقاوة ويمحو الرزق والأجل ويثبت ما يشاء.

وروي عن عمر: إنّه كان يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول: اللّهمّ إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبتني في أهل الشقاوة فامحني وثبّتني في أهل السعادة والمغفرة، فإنّك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك امّ الكتاب، ومثله عن ابن مسعود» «2».

وقال الفخر الرازي بتفسير الآية: «يمحو اللَّه ما يشاء»:

__________________________________________________

(1)

الدر المنثور 4: 661.

(2) اللباب في علوم الكتاب 11/ 320.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 238

«في هذه الآية قولان:

الأوّل: إنّها عامّة في كلّ شي ء كما يقتضيه ظاهر اللّفظ، قالوا: إنّ اللَّه يمحو من الرزق ويزيد فيه، وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر.

وهو مذهب عمر وابن مسعود.

ورواه جابر عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم» «1».

أقول:

وقد ذكر مذهب ابن مسعود وعمر بن الخطّاب بتفسير الآية في تفسير ابن كثير والقرطبي والواحدي وابن الجوزي والبيضاوي وغيرهم، وقد نسب ذلك في بعضها إلي غيرهما من الصّحابة أيضاً.

الرواية الحادية عشر أخرجها ابن جرير عن مجاهد.

قال السيوطي في (الدر المنثور) و (إفادة الخبر بنصّه):

«أخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله «يمحو اللَّه ما يشاء ويثبت» قال:

اللَّه ينزّل كلّ شي ء يكون في السنة في ليلة القدر، فيمحو ما يشاء من الآجال والأرزاق والمقادير إلّاالشقاوة والسعادة».

الرواية الثانية عشر، أخرجها جماعة عن ابن عباس.

قال في (الدر المنثور):

«أخرج ابن جرير ومحمّد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصحّحه عن ابن عبّاس «يمحو اللَّه ما يشاء ويثبت» قال: من أحد الكتابين هما كتابان يمحو اللَّه ما يشاء من أحدهما ويثبت وعنده امّ الكتاب. أي جملة

__________________________________________________

(1) تفسير الرازي 19: 64- 65.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 239

الكتاب» «1».

الرواية الثالثة عشر رواها ابن جرير عن كعب الأحبار، وهو جليل القدر عندهم، وإنْ كذَّبه ابن عباس في بعض الأحاديث كما في (حياة الحيوان) «2».

قال السيوطي في (الدر المنثور):

«أخرج ابن جرير عن كعب رضي اللَّه عنه أنّه قال لعمر رضي اللَّه عنه: يا أميرالمؤمنين، لولا آية في كتاب اللَّه لأنبأتك بما هو كائن إلي يوم القيامة. قال:

وما هي؟ قال: قول اللَّه: «يمحو اللَّه

ما يشاء ويثبت وعنده امّ الكتاب»» «3».

وهذه الرواية- بالإضافة إلي دلالتها علي البداء- تدلّ علي أفضلية كعب الأحبار من عمر بل الثلاثة، فقد ادّعي العلم بجميع الامور المستقبلة إلي يوم القيامة، والقوم لم يكذّبوه في هذه الدعوي التي ليس لأحدٍ من الثلاثة أنْ يدَّعيها.

وإذا جاز لكعبٍ أن يدّعي مثل هذه الدّعوي، وأنْ يتلقّاها القوم بالتصديق، فلماذا يستبعدون ما ورد في هذا الباب عن الأئمّة الأطهار عليهم السلام؟

قال في (البحار):

«عن أميرالمؤمنين عليه السلام إنّه قال: لولا آية في كتاب اللَّه لأخبرتكم بما كان وبما يكون وبما هو كائن إلي يوم القيامة وهي هذه الآية «يمحو اللَّه ما يشاء ويثبت وعنده امّ الكتاب» «4».

__________________________________________________

(1) الدر المنثور 4: 660.

(2) حياة الحيوان 1: 258.

(3) الدر المنثور 4: 664.

(4) بحارالأنوار 4: 97.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 240

وأيضاً في (البحار):

«عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان عليّ بن الحسين عليهما السلام يقول: لولا آية في كتاب اللَّه لحدّثتكم بما يكون إلي يوم القيامة، فقلت:

أيّة آية؟ قال: قول اللَّه: «يمحو اللَّه ما يشاء ويثبت وعنده امّ الكتاب»» «1».

الرواية الرابعة عشر رواها ابن جرير عن الضحاك، قال في (الدر المنثور):

«أخرج ابن جرير عن الضحّاك رضي اللَّه عنه في الآية قال: يقول: أنسخ ما شئت وأصنع في الآجال ما شئت، إن شئت زدت فيها وإن شئت نقصت، وعنده امّ الكتاب. قال: جملة الكتاب وعلمه، يعني بذلك ما ينسخ منه وما يثبت» «2».

__________________________________________________

(1) بحارالأنوار 4: 118.

(2) الدر المنثور 4: 664.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 241

من موارد وقوع البداء في أخبار القوم … ص: 249

اشارة

فإنْ قيل: إن مفاد هذه الروايات تجويز وقوع التغيير في التقدير الإلهي، لكنّ أخبار البداء عند الامامية تدلّ علي وقوع التغيير بعد اطّلاع الأنبياء

أو الملائكة أو غيرهم علي الأمر الأوّل، وهذا ما لا تدلّ عليه روايات القوم.

قلنا: إنّه وإنْ كان ما ذكرناه كافياً لدفع هذه الشبهة، لكنّا مع ذلك نأتي بأحاديثهم في جملةٍ من القضايا الواقعة من هذا القبيل.

قصّة الأبرص والأعمي والأقرع في بني إسرائيل فمنها: قصّة الثلاثة في بني إسرائيل، وأنّه «بدا للَّه» فيهم:

أخرج البخاري بسنده عن أبي هريرة أنّه سمع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم يقول: «إنّ ثلاثة في بني إسرائيل: أبرص وأقرع وأعمي، بدا للَّه أنْ يبتليهم، فبعث إليهم ملكاً.

فأتي الأبرص فقال: أيّ شي ء أحبّ إليك؟

قال: لون حسن وجلد حسن، قد قذرني الناس.

قال: فمسحه، فذهب عنه، فاعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً.

فقال: أيّ المال أحبّ إليك؟

قال: الإبل أو قال البقر- هو شك في ذلك أنّ الأبرص والأقرع قال أحدهما الإبل وقال الآخر البقر- فأعطي ناقةً عشراء فقال: يبارك لك فيها.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 242

وأتي الأقرع فقال: أيّ شي ء أحبّ إليك؟

قال: شعر حسن ويذهب عنّي هذا، قد قذرني الناس.

قال: فمسحه، فذهب، واعطي شعراً حسناً.

قال: فأيّ المال أحبّ إليك؟

قال: البقر.

قال: فأعطاه بقرةً حاملًا وقال: يبارك لك فيها.

وأتي الأعمي فقال: أيّ شي ء أحبّ إليك؟

قال: يردّ اللَّه إليَّ بصري، فأبصر به الناس.

قال: فمسحه، فردّ اللَّه إليه بصره.

قال: فأيّ المال أحبّ إليك؟

قال: الغنم. فأعطاه شاةً والداً.

فانتج هذان وولّد هذا، فكان لهذا وادٍ من إبل، ولهذا وادٍ من بقر، ولهذا واد من الغنم … » «1».

قصّة يونس عليه السلام … ص: 242

ومنها: قصّة يونس كما في (الدر المنثور) حيث قال:

«أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود رضي اللَّه عنه عن النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: إنّ يونس دعا قومه، فلمّا أبوا أن يجيبوه وعدهم العذاب فقال: إنّه يأتيكم يوم كذا وكذا، ثمّ خرج

عنهم، وكانت الأنبياء عليهم السلام إذا وعدت قومها العذاب خرجت، فلمّا أظلّهم العذاب خرجوا، ففرّقوا بين __________________________________________________

(1) صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، الباب: 947.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 243

المرأة وولدها وبين السّخلة وأولادها، وخرجوا فعجّوا إلي اللَّه وعلم اللَّه منهم الصدق، فتاب عليهم وصرف عنهم العذاب، وقعد يونس في الطريق يسأل عن الخبر، فمرّ به رجل فقال: ما فعل قوم يونس؟ فحدّثه بما صنعوا، فقال: لا أرجع إلي القوم فقد كَذِبْتُهم، وانطلق مغاضباً يعني مراغماً» «1».

وفي (الدر المنثور) أيضاً:

«أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما قال: لمّا دعا يونس عليه السلام علي قومه، أوحي اللَّه إليه: إنّ العذاب مصبحهم، فقال لهم، فقالوا: ما كذب يونس عليه السلام وليصبحنا العذاب، فتعالوا حتّي نخرج سخال كلّ شي ء فنجعلها مع أولادنا لعلّ اللَّه أن يرحمنا، فأخرجوا النساء مع الولدان وأخرجوا الإبل مع فصلانها، وأخرجوا البقر مع عجاجيلها، وأخرجوا الغنم مع سخالها فجعلوها أمامهم وأقبل العذاب، فلمّا رأوا جأروا إلي اللَّه ودعوا وبكي النساء والولدان ورغت الإبل وفصلانها وخارت البقر وعجاجيلها وثغت الغنم وسخالها، فرحمهم اللَّه فصرف ذلك العذاب عنهم، وغضب يونس عليه السلام فقال: كذبت، فهو قوله «إذْ ذهب مغاضباً» «2».

وفي (تفسير) القاضي ثناء اللَّه:

«أخرج ابن أبي حاتم عن عليّ رضي اللَّه عنه قال: تعيبَ علي قوم يونس يوم عاشورا، وكان يونس قد خرج ينتظر العذاب وهلاك قومه، فلم ير شيئاً، وكان من كذب ولم يكن له بيّنةٌ قتل، فقال يونس: كيف أرجع إلي قومي وقد كذبتهم، فانطلق عاتباً علي ربّه مغاضباً لقومه».

__________________________________________________

(1) الدر المنثور 4: 392.

(2) الدر المنثور 5: 667.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 244

وفيه:

«قال

عروة بن الزبير وسعيد بن جبير وجماعة: وذهب عن قومه مغاضباً لربّه، إذ كشف عن قومه العذاب بعدما وعدهم، وكره أن يكون بين قوم جرّبوا عليه الخلف فيما وعدهم واستحيي منهم، ولم يعلم السبب الذي به رفع العذاب عنهم، وكان غضب من ظهور خلف وعده وأن يسمّي كذّاباً، لا كراهيّة لحكم اللَّه عزّ وجلّ.

وفي بعض الأخبار: إنّه كان من عادة قومه أن يقتلوا من جرّبوا عليه الكذب، فخشي أن يقتلوه لمّا لم يأتهم العذاب للميعاد، فغضب».

وقال السيوطي في (الدر المنثور):

«أخرج ابن أبي حاتم واللالكائي في السنّة عن عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه عنه قال: إنّ الحذر لا يردّ القدر، وإنّ الدعاء يردّ القدر، وذلك في كتاب اللَّه «إلّاقوم يونس لمّا آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي».

وأخرج ابن المنذر وأبوالشيخ عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنه قال: إنّ الدعاء ليردّ القضاء، وقد نزل من السماء، إقرأوا إن شئتم: «إلّاقوم لمّا آمنوا كشفنا عنهم» دعوا، فصرف عنهم العذاب» «1».

قصّة موسي عليه السلام … ص: 244

ومنها: ما رووه في قصة موسي عليه السلام.

قال السيوطي في (الدر المنثور):

«أخرج عبدالرزاق وعبد بن حميد عن مجاهد: «وواعدنا موسي ثلاثين ليلة» قال: ذوالقعدة «وأتممناها بعشر» قال: إنّ موسي قال لقومه: إنّ ربي __________________________________________________

(1) الدر المنثور 4: 392.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 245

وعدني ثلاثين ليلة أن ألقاه وأخلف هارون فيكم، فلمّا اتّصل موسي إلي ربّه زاده اللَّه عشراً، فكانت فتنتهم في العشر التي زادها اللَّه … » «1».

وفي حديث طويل أخرجه السيوطي عن العدني وعبد بن حميد والنسائي وجماعة غيرهم: إن قوم موسي قالوا:

«فما بال موسي وعدنا ثلاثين ليلة ثمّ أخلفنا» «2».

ومنها: ما جاء في قصة الرجل الذي أتي وكر طائر … قال الدميري في (حياة

الحيوان):

«وفي تاريخ ابن النجّار وعوالي أبي عبداللَّه المثنّي بن أنس بن مالك الأنصاري قاضي البصرة وعالمها ومسندها، وهو من كبار شيوخ البخاري، من حديث الحسن بن أبي الحسن البصري.

عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه: أنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: كان فيمن قبلكم رجل يأتي وكر طائر كلّما أفرخ يأخذ فرخه، فشكي ذلك الطائر إلي اللَّه تعالي ما يفعل به، فأوحي اللَّه إليه: إن عاد فسأهلكه، فلمّا أفرخ الطائر خرج ذلك الرجل كما كان يخرج، فبينما هو في بعض الطريق فسأله سائل فأعطاه رغيفاً كان معه يتغذاه ثمّ مضي، حتّي أتي الوكر فوضع سلّمه ثمّ صعد وأخذ الفرخين وأبواهما ينظران إليه، فقالا: ربّنا إنّك لا تخلف الميعاد وقد وعدتنا أن تهلك هذا إذا عاد، وقد عاد وأخذ فرخينا ولم تهلكه؟! فأوحي اللَّه إليهما: ألم تعلما أنّي لا اهلك أحداً تصدّق في يومه بميتة سوءٍ» «3».

__________________________________________________

(1) الدر المنثور 3: 535.

(2) الدر المنثور 5: 577 مع فرق.

(3) حياة الحيوان للدميري 2: 151.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 246

قصّة القصّار … ص: 246

ومنها: ما جاء في قصّة القصّار الذي مرّ علي عيسي عليه السلام، رواها الزندوبستي في (روضة العلماء) قال:

«حدّثنا أبو عبداللَّه المطوّعي بإسناد له عن وهب رحمه اللَّه قال: كان عيسي النبي صلوات اللَّه عليه قاعداً مع الحواريّين، إذ مرّ قصّار علي ظهره حزمة ثياب، فقال عيسي عليه السلام للحواريين: إنّ هذا القصّار ليهلك الساعة ويرد علَيّ جنازته، فجلسوا، فلمّا كان عند المساء رجع القصّار سالماً مع ثيابه، فتعجّب الحواريّون بذلك، فقال عيسي للقصّار: أخبرني عن قصّتك. قال:

خرجت بالغداة ومعي ثلاثة أرغفة، فاستقبلني سائل فدفعت إليه واحداً فدعا وقال: صرف اللَّه عنك السّوء، فمضيت فاستقبلني سائل آخر فسألني

فدفعت إليه الرغيف الثاني، فقال: صرف اللَّه عنك البلاء، فإذا فتحت حزمة ثيابي رأيت فيها حيّة سوداء تلتهب النّار من عينها وفي عنقها سلسلتان، وإذا ملكان يمدّان تلك الحيّة حتّي إذا أخرجاها من حزمة ثيابي. فقال عيسي: لذلك الرغيف سلّمك اللَّه تعالي وزاد في عمرك».

قصّة الرجل من قوم صالح عليه السلام … ص: 246

ومنها: قصة الرجل من قوم صالح الذي كان يؤذي الناس، فيما روي في كتاب (حياة الحيوان) حيث قال:

«روي أحمد في كتاب الزهد عن سالم بن أبي الجعد قال: كان رجل من قوم صالح عليه السلام قد آذاهم، فقالوا: يا نبيّ اللَّه ادع اللَّه عليه، فقال: اذهبوا، فقد كفيتموه. قال: وكان يخرج كلّ يوم يحتطب. قال: فخرج يومئذ معه رغيفان، فأكل أحدهما وتصدّق بالآخر. قال: فاحتطب ثمّ جاء بحطبه سالماً لم استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 247

يصبه شي ء، فجاؤوا إلي صالح عليه السلام وقالوا: قد جاء بحطبه سالماً لم يصبه شي ء. قال: فدعاه صالح عليه السلام وقال له: أيّ شي ء صنعت اليوم؟

قال: خرجت ومعي قرصان، فتصدّقتُ بأحدهما وأكلت الآخر. فقال صالح:

حُلَّ حطبك، فحلّه، فإذا فيه أسود مثل الجذع عاضّ علي جذل من الحطب، فقال: بهذا دفع عنك، يعني بالصدقة» «1».

قصّة الملكين … ص: 247

ومنها: قصة الملكين من بني إسرائيل … رواها صاحب (مختار مختصر تاريخ بغداد) عن عبدالصمد بن علي قال:

«حدّثني أبي عن جدّي عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّه كان في بني إسرائيل ملكان أخوان علي مدينتين، وكان أحدهما بارّاً برحمه عادلًا علي رعيّته، وكان الآخر عاقّاً برحمه جائراً علي رعيّته، وكان في عصرهما نبيّ، فأوحي اللَّه إلي ذلك النبيّ إنّه قد بقي من عمر هذا البارّ ثلاث سنين وبقي من عمر هذا العاقّ ثلاثون سنة. قال: فأخبر النبيّ رعيّة هذا ورعيّة هذا، فأحزن ذلك رعيّة الجائر وأحزن ذلك رعيّة العادل. قال: ففرّقوا بين الأطفال والامّهات وتركوا الطعام والشراب، وخرجوا إلي الصحراء يدعون اللَّه تعالي أن يمتّعهم بالعادل ويزيل عنهم أمر الجائر. فأقاموا ثلاثاً، فأوحي اللَّه إلي ذلك النبيّ أن أخبر عبادي بأنّي قد رحمتهم وأجبت

دعائهم، فجعلت ما بقي من عمر هذا البارّ لذلك الجائر وما بقي من عمر الجائر لهذا البارّ. قال: فرجعوا إلي بيوتهم، ومات العاقّ لتمام ثلاث سنين، وبقي العادل فيهم ثلاثين سنة، ثمّ تلا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: «وما يعمّر من معمّر ولا ينقص من عمره إلّافي كتاب __________________________________________________

(1) حياة الحيوان 1: 37 «الأسود السالخ».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 248

إنّ ذلك علي اللَّه يسير»».

ورواه أبوالحسن البزار في كتابه في (فضائل أهل البيت) علي ما نقل عنه في كتاب (مفتاح كنز الدراية) حيث قال:

«قال الإمام الثقة أبوالحسن علي بن معروف البزّار، في حديث البرّ والصّلة وهو من آخر الجزء: حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبدالصّمد بن موسي بن محمّد ابن إبراهيم بن محمّد بن عليّ بن عبداللَّه بن عبّاس قال:

حدّثني محمّد بن إبراهيم الإمام، عن عبدالصمد بن علي بن عبداللَّه بن عبّاس قال: حدّثني أبي عن جدّي عبداللَّه رضي اللَّه عنهما عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم إنّه قال: كان في بني إسرائيل ملكان أخوان علي مدينتين، وكان أحدهما بارّاً برحمه عادلًا في رعيّته، وكان الآخر عاقّاً لرحمه جائراً علي رعيّته، وكان في مصرهما نبيّ، فأوحي اللَّه عزّ وجلّ إلي ذلك النبيّ إنّه قد بقي من عمر هذا البارّ ثلاث سنين وبقي من عمر هذا العاقّ ثلاثون سنة، فأخبر ذلك النبيّ رعيّة هذا ورعيّة هذا، فأحزن ذلك رعيّة العادل وأحزن ذلك رعيّة الجائر. قال:

ففرّقوا بين الأطفال والامّهات وتركوا الطعام والشراب، وخرجوا إلي الصحراء يدعون اللَّه عزّوجلّ أن يمتّعهم بالعادل ويزيل عنهم أمر الجائر، فأقاموا ثلاثاً، فأوحي اللَّه عزّ وجلّ إلي ذلك النبيّ أن أخبر عبادي إنّي قد رحمتهم فأجبت دعائهم، فجعلت مابقي من

عمر هذا البارّ لذلك الجائر وما بقي من عمر الجائر لهذا البارّ. قال: فرجعوا إلي بيوتهم، ومات العاقّ لتمام ثلاث سنين وبقي العادل فيهم ثلاثين سنة، ثمّ تلا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: «وما يعمّر من معمّر ولا ينقص من عمره إلّافي كتاب إنّ ذلك علي اللَّه يسير»» «1».

__________________________________________________

(1) مفتاح كنز الدراية- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 249

والعجب من الدهلوي صاحب (التحفة الاثني عشرية) حيث يروي هذه القصة في كتابه (بستان المحدثين) المنتحل من (مفتاح كنز دراية المسموع) ومع ذلك يردّ علي أخبار أهل الحق في مسألة البداء، وهذه عبارة (بستان المحدّثين) حيث ذكر بأنّ (جزء فضائل أهل البيت) صنّفه أبوالحسن علي بن معروف البزار، وفي آخره في حديث البرّ والصلة:

«حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبدالصّمد بن موسي بن محمّد بن إبراهيم بن محمّد بن عليّ بن عبداللَّه بن عبّاس قال: حدّثني محمّد بن إبراهيم الإمام عن عبدالصمد بن علي بن عبداللَّه بن عبّاس قال: حدّثني أبي عن جدّي عبداللَّه رضي اللَّه عنه قال:

قال النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّه كان في بني إسرائيل ملكان أخوان علي مدينتين، كان أحدهما بارّاً برحمه عادلًا في رعيّته، وكان الآخر عاقّاً لرحمه جائراً علي رعيّته، وكان في عصرهما نبيّ، فأوحي اللَّه عزّ وجلّ إلي ذلك النبيّ: قد بقي من عمر هذا البارّ ثلاث سنين، وبقي من عمر هذا العاقّ ثلاثون سنة، فأخبر ذلك النبيّ رعيّة هذا ورعيّة هذا، فأحزن ذلك رعيّة العادل وأحزن ذلك رعيّة الجائر. قال: ففرّقوا بين الأطفال والامّهات، وتركوا الطعام والشراب، وخرجوا إلي الصحراء يدعون اللَّه عزّ وجلّ أن يمتّعهم بالعادل ويزيل عنهم أمر الجائر، فأقاموا ثلاثاً، فأوحي اللَّه عزّ وجلّ إلي

ذلك النبيّ أن أخبر عبادي إنّي قد رحمتهم فأجبت دعائهم، فجعلت مابقي من عمر هذا البارّ لذلك الجائر وما بقي من عمر الجائر لهذا البارّ. قال: فرجعوا إلي بيوتهم، ومات الجائر لتمام ثلاث سنين وبقي العادل فيهم ثلاثين سنة، ثمّ تلا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: «وما يعمّر من معمّر ولا ينقص من عمره إلّافي كتاب استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 250

إنّ ذلك علي اللَّه يسير»».

قصّة الملك الذي إذا ذكر ذكر عمر … ص: 250

ومنها: قصة الملك الذي إذا ذكر ذكر عمر، ففي (الدر المنثور):

«أخرج ابن سعد في الطبقات عن كعب قال: كان في بني إسرائيل ملك، إذا ذكرناه ذكرنا عمر، وإذا ذكرنا عمر ذكرناه، وكان إلي جنبه نبيّ يُوحي إليه، فأوحي اللَّه إلي النبيّ أن يقول له: إعهد عهدك واكتب وصيّتك فإنّك ميّت إلي ثلاثة أيّام، فأخبره النبيّ بذلك، فلمّا كان اليوم الثالث وقع بين الجدار والسرير ثمّ جاء إلي ربّه، فقال: اللّهمّ إن كنت تعلم إنّي كنت أعدل في الحكم وإذا اختلف الأمر اتّبعت هداك وكيت وكيت، فزدني في عمري حتّي يكبر طفلي وتربو أمتي، فأوحي اللَّه … إلي النبي أنّه قد قال كذا وكذا وقد صدق، وقد زدته في عمره خمس عشرة سنة، ففي ذلك ما يكبر ولده وتربوا أمته، فلمّا طُعِن عمر قال كعب: لئن سأل عمر ربّه ليبقيّنه، فأخبر بذلك عمر، فقال: اللّهمّ اقبضني إليك غير عاجز ولا ملوم» «1».

قصّة بعض الفضلاء … ص: 250

ومنها: قصة تغيّر الأمر الإلهي في قبض روح بعض الفضلاء من أهل السنّة، كما حكاه الشعراني في (لواقح الأنوار) بترجمة الشيخ محمد الشريبي، إذ قال:

«وأخبرني والده الشيخ أحمد أيضاً وصدّقه علي ذلك الإمام العالم العلّامة شهاب الدين البهوني الحنبلي قال: مرضت مرّة حتّي أشرفت علي __________________________________________________

(1) الدر المنثور 3: 449.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 251

الموت، وحضرني عزرائيل ورأيته جالساً عندي لقبض روحي، فدخل علَيّ والدي فقال لعزرائيل: راجع ربّك فإنّ ذلك الأمر تغيَّر، فخرج عزرائيل وأنا أعيش إلي الآن، والحكاية لها أكثر من ثلاثين سنة» «1».

تبدّل حال الرجل … ص: 251

ومنها: تبدّل حال الرّجل من الشقاوة إلي السعادة، كما ذكر القاضي ثناء اللَّه في (تفسيره) بعد ذكر مذهب ابن مسعود وعمر، قال:

«ويوافق مذهب عمر وابن مسعود رضي اللَّه عنهما ما ذكر في المقامات المجدديّة: أنّ المجدّد رضي اللَّه عنه نظر ببصيرة الكشف مكتوباً في ناصية ملّا طاهر اللّاهوري «شقيّ»، وكان ملّا طاهر معلّماً لابنيه الكريمين محمّد سعيد ومحمّد معصوم رضي اللَّه عنهما، فذكر المجدّد رضي اللَّه عنه ما أبصر لولديه الشريفين، فالتمسا منه رضي اللَّه عنهم أن يدعو اللَّه سبحانه أن يمحو عنه الشقاوة ويثبت مكانه السعادة، فقال المجدّد رضي اللَّه عنه: نظرت في اللّوح المحفوظ، فإذا فيه إنّه قضاء مبرم لا يمكن ردّه، فألجأه ولداه الكريمان في الدعاء لمّا التمسا منه، فقال المجدّد رضي اللَّه عنه: تذكّرت ما قال غوث الثقلين السيّد السند محي الدين عبدالقادر الجيلي رضي اللَّه عنه: إنّ القضاء المبرم أيضاً يردّ بدعوتي، فدعوت اللَّه سبحانه وقلت: اللّهمّ رحمتك واسعة وفضلك غير مقتصر علي أحد، أرجوك وأسألك من فضلك العظيم أن تجيب دعوتي في محو كتاب الشقاء من ناصية ملّا طاهر وإثبات السعادة

مكانه، كما أجبت دعوة السيّد السند رضي اللَّه عنه. قال: فكأنّي أنظر إلي ناصية ملّا طاهر

__________________________________________________

(1) لواقح الأنوار- ترجمة الشيخ محمّد الشريبي.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 252

إنّه مُحِي منها كلمة «شقيّ» وكتب مكانه «سعيد» وما ذلك علي اللَّه بعزيز».

قصّة أبي رومي … ص: 252

ومنها: قصة أبي رومي، التي رووها عن ابن عباس، كما في (الدر المنثور) قال:

«أخرج ابن مردويه والديلمي عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنهما قال: كان أبو رومي من شرّ أهل زمانه، وكان لا يدع شيئاً من المحارم إلّاارتكبه، وكان النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول: لئن رأيت أبا رومي في بعض أزقّة المدينة لأضربنّ عنقه.

وإنّ بعض أصحاب النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم أتاه ضيف له، فقال لامرأته: إذهبي إلي أبي رومي فخذي لنا منه بدرهم طعاماً حتّي ييسّر اللَّه تعالي. فقالت له: إنّك لتبعثني إلي أبي رومي وهو أفسق أهل المدينة؟! فقال:

إذهبي فليس عليك منه بأس إنْ شاء اللَّه تعالي، فانطلقت فضربت عليه الباب، فقال: من هذا؟ قالت: فلانة. قال: ما كنت لنا بزوّارة؟! ففتح لها الباب فأخذها بكلام رفث، ومدّ يده إليها فأخذتها رعدة شديدة، فقال: ما شأنك؟ قالت: إنّ هذا عمل ما عملته قطّ. قال أبو رومي: ثكلت أبا رومي امّه، هذا عمل عَمِله وهو صغير لا تأخذه رعدة ولا يبالي علي أبي رومي، عهد اللَّه إن عاد لشي ء من هذا أبداً.

فلمّا أصبح غدا علي النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم فقال: مرحباً يا أبا رومي وأخذ يوسّع له المكان وقال له: يا أبارومي ما عملت البارحة؟ فقال: ما عسي أن أعمل يا نبيّ اللَّه، أنا شرّ أهل الأرض، فقال النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ اللَّه قد حوّل مكتبك إلي الجنّة فقال:

«يمحو اللَّه ما يشاء ويثبت».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 253

وأخرج يعقوب بن سفيان وأبو نعيم عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنه قال:

كان أبو رومي من شرّ أهل زمانه، وكان لا يدع شيئاً من المحارم إلّاارتكبه، فلمّا أصبح غدا علي النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم، فلمّا رآه النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم من بعيد قال: مرحباً يا أبا رومي وأخذ يوسّع له المكان، فقال له: يا أبا رومي، ما عملت البارحة؟ قال: ما عسي أن أعمل يا نبيّ اللَّه، أنا شرّ أهل الأرض. فقال النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ اللَّه جعل مكتبك إلي الجنّة فقال:

«يمحو اللَّه ما يشاء ويثبت وعنده امّ الكتاب»» «1».

وبعد:

فهل يبقي المعاندون يشنّعون علي الإمامية رواياتهم في البداء وعقيدتهم في هذه الحقيقة الدينية؟ وهل يستمرّون علي التبحّج بكلام سليمان ابن جرير الزيدي «2» وأمثاله من أعداء أهل البيت؟

__________________________________________________

(1) الدر المنثور 4: 663.

(2) انظر الملل والنحل 1: 159- 160.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 255

الميثاق والصّور … ص: 255

اشارة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 257

رأي السيّد المرتضي في خبر الميثاق … ص: 257

لقد نسب الشيخ عبدالعزيز الدهلوي صاحب كتاب (التحفة الإثني عشريّة)- تبعاً لشيخه الكابلي صاحب (الصواقع)- إلي السيّد المرتضي- رضي اللَّه عنه- الحكم بوضع خبر الميثاق، وقد أجاب عن ذلك علماؤنا الأعلام في ردودهم علي كتاب (التحفة) بالجملة والتفصيل، وكان مجمل كلامهم: إنّ السيّد المرتضي لم يكذّب أخبار الميثاق المرويّة بالطرق المختلفة والأسانيد المتكثّرة، ونحن نذكر أوّلًا كلام (التحفة) ثمّ نعقّبه بنصّ عبارة السيّد المرتضي رحمه اللَّه، ليتّضح واقع الحال، ويظهر كذب الدهلوي فيما نسب إلي السيّد من المقال:

قال الدهلوي في (التحفة) عند تعداد موارد غلوّ الإماميّة في الأئمّة المعصومين عليهم الصلاة والسلام:

«الثاني- قولهم: إنّ اللَّه تعالي أخذ من الملائكة والأنبياء الميثاق علي ولاية الأئمّة وطاعتهم.

وهذا أيضاً خلاف العقل تماماً، لأنّ أخذ الميثاق من الأنبياء علي ذلك- مع العلم القطعي بعدم معاصرتهم للأئمّة- عبث محض، إذ الغرض من أخذ الميثاق هو النصرة والإعانة وبيان المناقب ونشر المدائح، وأيّ فائدة في ذلك مع عدم اتّحاد الزمان. وأمّا أخذ الميثاق منهم علي بيان وصف خاتم الأنبياء كما في القرآن المجيد، فلأنّ نصوص نبوّته وصفاته ونعوته نازلة في الكتب استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 258

السماويّة ومصرَّح بها فيها، ووجود أهل الكتاب في زمانه وإظهار تلك النصوص علي يده مقطوع به، فلذا أخذ الميثاق من الأنبياء علي تفهيم تلك النصوص وتبليغها إلي اممهم، وأخذ ذلك الميثاق من الامم أيضاً، حتّي تبقي تلك النصوص قرناً بعد قرن، من دون تغيير وتبديل، إلي أنْ يأتي وقت الحاجة إلي إظهارها والإحتجاج بها.

بخلاف إمامة الأئمّة، فلا هي ممّا نزل في كتب الأنبياء، ولا هي ممّا ابلغ به الامم، ولا ممّا وقعت الحاجة إلي إظهاره؛

لأنّ الإمامة إنّما تثبت بالنصّ من النبي، لكونها نيابةً عنه، ولم يراجع أهل الكتاب بشأنها ولم يكن لقولهم فيها اعتبار، ولو كان أخذ الميثاق في هذا الأمر ضروريّاً، لُاخذ من أبي بكر وعمر وعثمان، بل كان علي النبيّ أنْ يأخذ منهم كتاباً في أنْ ليس لهم حقّ في الإمامة، ويستشهد علي ذلك الثقات، ويودعه عند الأمير، لا أنْ يأخذ الميثاق من موسي وعيسي وهارون، الذين ليس لهم ولا لأتباعهم دخلٌ في غصب الإمامة من الأئمّة أو تقريرها والتسليم بها.

ومستمسك هؤلاء في هذا الغلوّ الباطل ما رواه محمّد بن الحسن الصفّار عن محمّد بن مسلم قال: سمعت أباجعفر يقول: إنّ اللَّه أخذ ميثاق النبيّين بولاية عليّ بن أبي طالب.

وما رواه محمّد بن بابويه في كتاب التوحيد عن داود الرّقي عن أبي عبداللَّه في خبر طويل قال: لمّا أراد اللَّه أن يخلق الخلق نشرهم بين يديه وقال:

من أنا؟ فكان أوّل من نطق رسول اللَّه وأميرالمؤمنين والأئمّة عليهم السلام، فقالوا: أنت ربّنا. فحمّلهم العلم والدين ثمّ قال للملائكة: هؤلاء حملة علمي وديني وأمانتي من خلقي، ثمّ قال لبني آدم: أقرّوا للَّه بالربوبيّة ولهؤلاء النّفر

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 259

بالطاعة، فقالوا: نعم ربّنا أقررنا.

في هذه الرواية والرواية السابقة لم يذكر أخذ الميثاق من الملائكة، وإنّما الغرض من الرواية الثانية مجرّد إظهار فضل الأئمّة وشرفهم عند الملائكة، ومن الواضح أنْ لا معني لأخذ الميثاق من الملائكة، ولذا لم يدخل الملائكة في أخذ ميثاقٍ من المواثيق؛ لأنّ الميثاق إنّما يؤخذ من المكلَّفين، لأنّهم الذين يحتمل منهم الطاعة والعصيان، بخلاف الملائكة فإنّهم «لا يعصون اللَّه ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمرون» فأيّ فائدةٍ في أخذ الميثاق منهم؟

وأيضاً، فلم يذكر في الرواية الأخيرة

أخذ الميثاق من الأنبياء، إلّاأنْ يستفاد ذلك من عموم لفظ «بني آدم» ولكنْ قد اشتهر أنّه: ما من عام إلّاوقد خصّ منه البعض.

وأيضاً، فإنّ هذه الرواية فيها أخذ ميثاق الطاعة للنبيّ والأمير والأئمّة فقط، فلابدَّ وأنْ يكون وجوب الطاعة للأنبياء أولي العزم وغيرهم- الذي لا شكّ في ثبوته- قد وقع بطريق البداء!

والرواية التي تعجب هؤلاء القوم تجدها في مجاميع الشيخ ابن بابويه، فقد روي ابن بابويه في خبر طويل عن ابن عباس عن النبي أنّه لمّا اسري به وكلّمه ربّه قال بعد كلامٍ: إنّك رسولي إلي خلقي وإنّ عليّاً وليّ المؤمنين، أخذت ميثاق النبيّين وملائكتي وجميع خلقي بولايته.

وأحوال الصفّار وابن بابويه ورجالهما- خصوصاً محمّد بن مسلم وغيره- معروفة، وركّة ألفاظ هذه الأخبار تشهد بكونها كذباً وافتراءً، ومع هذا، فإنّ أهل السنّة- والحمد للَّه- في غنيً عن توهين وتضعيف هذه الأخبار أو تأويل هذه المفتريات؛ لأنّ الشريف المرتضي- الملقَّب بزعم الشيعة ب «علم الهدي»

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 260

- قد أثبت جدارته بهذا اللقب في كتابه (الدرر والغرر) بتكذيب خبر الميثاق بكلّ جزم وحتم، وكفي اللَّه المؤمنين القتال» «1».

التحقيق فيما نسب إلي السيّد المرتضي … ص: 260

حاصل هذا الكلام دعوي موافقة السيّد المرتضي العامّةَ في إنكار أخذ الميثاق علي ولاية أميرالمؤمنين عليه السلام من الأنبياء والملائكة، وهل هذا إلّا محض البهتان وصريح الإفك وواضح الهذيان؟

وتوضيح ذلك:

أوّلًا: إنّ السيّد المرتضي لم يذكر في كتابه (الدرر والغرر) خبر الميثاق أصلًا، فضلًا عن أن يكذّب أو يصدّق به، نعم، قد ذكر السيّد قوله تعالي «وإذ أخذ ربّك من بني آدم … » وأنكر أن يكون المراد منها أنّ اللَّه تعالي أخذ من جميع ذريّة آدم الذين في ظهره الميثاق علي الإقرار بمعرفته تعالي، وأنّه أشهدهم

علي ذلك، وإنّما ذكر للآية تأويلًا آخر، وأيّ ربطٍ لذلك بتكذيب أخبار الميثاق؟!

وثانياً: إنّه علي فرض أنّ السيّد ينكر وقوع أخذ الميثاق في عالم الأرواح، فأين الدليل من كلامه علي إنكار أخذ الميثاق علي الإطلاق كما يدّعيه الدهلوي؟ وكيف يثبت بذلك تضعيف خبر الصفّار وخبر ابن بابويه الدالّين علي مطلق أخذ ميثاق ولاية أميرالمؤمنين عليه السلام؟

فظهر أنّ نسبة تكذيب أخبار الميثاق علي الإطلاق إلي السيّد المرتضي كذب بحت وبهتان صريح، وهذا كتاب (الغرر والدرر) موجود بين أيدي الناس، ونسخه شائعة في البلاد …

__________________________________________________

(1) التحفة الاثني عشريّة: 161.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 261

وبعد، فإنّ العلماء قد اختلفوا في معني الآية المباركة علي قولين، فذهب الأكثر إلي الأخذ بظاهرها وقالوا: بأنّ ذريّة آدم كانوا في عالم الأرواح ذوي عقولٍ- كما هم في هذا العالم- وقد أخذ منهم الميثاق، وقال جماعة- منهم السيّد المرتضي- بتأويل الآية علي معنيً آخر، وهذا نصُّ عبارة السيّد في الكتاب المذكور:

«إنّه تعالي لمّا خلقهم وركّبهم تركيباً يدلّ علي معرفته ويشهد بقدرته ووجوب عبادته، وأراهم العبر والآيات والدلائل في غيرهم وفي أنفسهم، كان بمنزلة المشهد لهم علي أنفسهم، وكانوا- في مشاهدة ذلك ومعرفته وظهوره فيهم علي الوجه الذي أراده اللَّه تعالي وتعذر امتناعهم منه وانفكاكهم من دلالته- بمنزلة المقرّ المعترف وإن لم يكن هناك إشهاد ولا اعتراف علي الحقيقة، ويجري ذلك مجري قوله تعالي: «ثمّ استوي إلي السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين» وإن لم يكن منه تعالي قول علي الحقيقة ولا منهما جواب، ومثله قوله تعالي: «شاهدين علي أنفسهم بالكفر» ونحن نعلم أنّ الكفّار لم يعترفوا بالكفر بألسنتهم، وإنّما لما يظهر منهم ظهوراً لا

يتمكّنون من دفعه كانوا بمنزلة المعترفين به … » «1».

فدلَّ هذا الكلام منه علي أنّه غير منكر لأصل الميثاق، وإنّما له كلامٌ في كيفيّته، وله رأي في تأويل الآية.

رأي الغزالي في خبر الميثاق … ص: 261

وهذا بخلاف الغزّالي مثلًا- من علماء القوم- فإنّه ينكر أصل الميثاق كما في كتابه (المضنون به علي أهله):

__________________________________________________

(1) الغرر والدرر/ أمالي السيّد المرتضي 1: 30.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 262

«فقيل له- أي للغزالي-: إن كانت الأرواح حادثة مع الأجساد، فما معني قوله صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ اللَّه خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام، وقوله عليه السلام: أنا أوّل الأنبياء خلقاً وآخرهم بعثاً، وقال عليه السلام: كنت نبيّاً وآدم بين الماء والطين؟

فقال رضي اللَّه عنه: شي ء من هذه لا يدلّ علي قدم الروح، بل يدلّ علي حدوثه وكونه مخلوقاً، نعم، ربّما يدلّ بظاهره علي تقدّم وجوده علي الجسد، وأمر الظواهر ضعيف وتأويلها يمكن، والبرهان القاطع لا يدرء بالظواهر، بل يسلّط علي تأويل الظواهر، كما في ظواهر التشبيه في حقّ اللَّه.

وأمّا قوله صلّي اللَّه عليه وسلّم: خلق اللَّه الأرواح قبل الأجساد بألفي عام، فأراد بالأرواح أرواح الملائكة، وبالأجساد أجساد العالم من العرش والكرسي والسماوات والكواكب والماء والهواء والأرض، كما أنّ أجساد الآدميّين بجملتهم صغيرة بالإضافة إلي الأرض، وجرم الأرض أصغر من الشمس بكثير، ثمّ لا نسبة لجرم الشمس إلي فلكه، ولا لفلكه إلي السماوات التي فوقه، ثمّ كلّ ذلك اتّسع له الكرسي، إذ وسع كرسيّه السماوات والأرض، والكرسي صغير بالإضافة إلي العرش، فإذا تفكّرت في جميع ذلك، استحقرت جميع أجساد الآدميّين، ولم تفهمها من مطلق لفظ الأجساد.

فكذلك فاعلم وتحقّق: أنّ أرواح البشر بالإضافة إلي أرواح الملائكة كأجسادهم بالإضافة إلي أجساد العالم، ولو انفتح لك باب

معرفة أرواح الملائكة لرأيت الأرواح البشريّة كسراج اقتبس من نار عظيمة طبّق العالم، وتلك النار العظيمة هي الروح الأخير من أرواح الملائكة، ولأرواح الملائكة ترتيب، ولكلّ واحد انفراد بمرتبة، ولا يجتمع في مرتبة واحدة اثنان، بخلاف استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 263

الأرواح البشريّة المتكثّرة مع اتّحاد النوع والمرتبة، أمّا الملائكة فكلّ واحد نوع برأسه وهو كلّ ذلك النوع، وإليه الإشارة بقوله تعالي: «وإنّا لنحن الصافّون وإنّا لنحن المسبّحون» وبقول النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ الراكع منهم لا يسجد، والقائم منهم لا يركع، وإنّه ما من واحد إلّاله مقام معلوم، فلا تفهمنّ إذاً من الأرواح والأجساد المطلقة أرواح الملائكة.

وأمّا قوله عليه الصلاة والسلام: أنا أوّل الأنبياء خلقاً وآخرهم بعثاً؛ فالخلق هاهنا هو الإيجاد، فإنّه قبل أن ولدته امّه ليس موجوداً مخلوقاً، ولكن الغايات والكمالات سابقة في التقدير لاحقة في الوجود، وهو معني قولهم:

أوّل الفكرة آخر العمل. بيانه: أنّ المقدّر المهندس أوّل ما يتمثّل صورته في تقديره، وهي دار كاملة، وآخر ما يوجد في أثر أعماله هي الدار الكاملة؛ فالدار الكاملة أوّل الأشياء في ذهنه تقديراً وآخرها وجوداً، لأنّ ما قبلها من ضرب اللبنات وبناء الحيطان وتركيب الجذوع وسيلة إلي غاية الكمال وهي الدار، فالغاية هي الدار، ولأجلها تقدّر الآلات والأعمال» «1».

فإن لم يتيسّر الوقوف علي كتاب الغزالي، فقد نقل المتأخرون مقالته في كتبهم، ففي (المواهب اللدنيّة)- مثلًا- جاء محصّل المقالة المذكورة حيث قال:

«فإن قلت: إنّ النبوّة وصف، ولابدّ أن يكون الموصوف به موجوداً، وإنّما يكون بعد بلوغ أربعين سنة أيضاً، فكيف يوصف به قبل وجوده وإرساله؟

__________________________________________________

(1) المضنون به علي أهله. وهذا الكلام موجود في رسالته (الأجوبة الغزالية في المسائل الاخرويّة) ضمن (مجموعة رسائل

الإمام الغزالي): 178- 180.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 264

قلت: أجاب الغزالي في كتاب النفخ والتسوية عن هذا وعن قوله عليه الصّلاة والسّلام: أنا أوّل الأنبياء خلقاً وآخرهم بعثاً، بأنّ المراد بالخلق هنا التقدير دون الإيجاد، فإنّه قبل أنْ ولدته امّه لم يكن موجوداً مخلوقاً، ولكن الغايات والكمالات سابقة في التقدير لاحقة في الوجود … » «1».

فإنّ هذا الكلام يفيد أنّ الغزالي ينكر تقدّم خلق الأرواح علي الأجساد، ولا يسلّم بأنّ للخلق وجوداً سابقاً علي ولادتهم الظاهريّة في هذا العالم، ولا يري خلقةً للنبيّ قبل وجوده الظاهري، فضلًا عن القول بالوجود في عالم الذرّ.

ومن الواضح أنّ أخذ الميثاق في عالم الأرواح فرع علي وجودها فيه.

فالغزالي ينكر وقوع الميثاق في ذلك العالم، مع دلالة الأحاديث الكثيرة الواردة من طرقهم في ذلك، وكونها مخرّجةً في كتابي البخاري ومسلم، وفي الموطّأ لمالك «2»، وغيرها من كتبهم … كما أنّ السيوطي أخرج ما يقارب الخمسين حديثاً في أخذ الميثاق من ذريّة آدم في عالم الأرواح، بذيل الآية المباركة من (الدرّ المنثور) «3».

وقد نصَّ الشعراني في (اليواقيت) علي ابتناء كثيرٍ من الإعتقادات في إثبات الحشر والنشر علي مسألة الميثاق «4».

وحينئذٍ، فكلّ جوابٍ يذكرونه من طرف الغزالي، فهو الجواب من طرف السيّد المرتضي لو صحّت النسبة إليه!

__________________________________________________

(1) شرح المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّدية 1: 36.

(2) الموطأ 2: 898- 899/ 2 كتاب القدر، باب النهي عن القول بالقدر.

(3) الدر المنثور 3: 598- 607.

(4) اليواقيت والجواهر: 439- 442.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 265

رأي مجاهد في آية الميثاق … ص: 265

هذا، وقد أنكر مجاهد أخذ الميثاق من الأنبياء، والتزم بتحريف الآية المباركة الناصّة علي ذلك، كما ذكر السيوطي في (تفسيره) إذ قال:

«أخرج عبد بن حميد والفريابي وابن جرير

وابن المنذر، عن مجاهد في قوله تعالي: «وإذ أخذ اللَّه ميثاق النبيّين لما آتيتكم من كتابٍ وحكمةٍ» قال: هي خطأ من الكتّاب، وهي في قراءة ابن مسعود: ميثاق الذين اوتوا الكتاب.

وأخرج ابن جرير عن الربيع أنّه قرأ: وإذ أخذ اللَّه ميثاق الذين اوتوا الكتاب، قال: وكذلك كان يقرؤها ابي بن كعب، قال الربيع: ألا تري إنّه يقول:

«ثمّ جاءكم رسولٌ مصدّقٌ لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنّه» لتؤمننّ بمحمّد ولتنصرنّه. قال: هم أهل الكتاب» «1».

حول كلام الطبرسي في آية الصّور … ص: 265

وقد نسب إلي الشيخ الطبرسي بل إلي الشيخ المفيد القول بأنّ «الصور» في قوله تعالي: «ونُفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض» «2»

هو «جمع صورة» وليس المراد «صور إسرافيل».

وهذه النسبة باطلة، وقد نشأت من الخطأ والغلط في فهم عبارة الشيخ المجلسي …

فإنّ هذا المتوهّم قد نظر إلي قول الشيخ المجلسي: «وأمّا الصور فيجب الإيمان به، علي ما ورد في النصوص الصريحة، وتأويله بأنّه جمع الصورة كما

__________________________________________________

(1) الدر المنثور 2: 252.

(2) سورة الزمر 39: 68.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 266

مرَّ من الطبرسي وقد سبقه الشيخ المفيد … » «1» وغفل عن كلامه السابق حيث قال:

«قال الطبرسي في قوله تعالي: «ونُفِخ في الصور»: اختلف في الصور.

فقيل: هو قرن ينفخ فيه. عن ابن عباس وابن عمر. وقيل: هو جمع صورة، فإنّ اللَّه يصوّر الخلق في القبور كما صوّرهم في أرحام الامّهات، ثمّ ينفخ فيهم الأرواح كما نفخ وهم في أرحام امّهاتهم. عن الحسن وأبي عبيدة.

وقيل: إنّه ينفخ إسرافيل في الصور ثلاث نفخات: النفخة الاولي نفخة الفزع، والثانية نفخة الصعق يصعق من في السماوات والأرض بها فيموتون، والثالثة نفخة القيام لربّ العالمين فيحشر الناس بها من قبورهم» «2».

فهذا كلام صاحب (مجمع

البيان)، وأين اختيار القول الذي نسب إليه؟

فقول الشيخ المجلسي: «كما مرّ من الطبرسي» يعني: كما مرَّ نقل هذا القول- الذي قاله غير الطبرسي- من الطبرسي، حيث نقله في تفسيره، لا أنّه قائل به ومعتقد له.

بل لعلّ في تقديمه القول الأوّل إشارة إلي اختياره له … بل إنّ كلامه في تفسير الآية المذكورة صريح في ذلك، فإنّه قال في (مجمع البيان):

««ونفخ في الصور» وهو قرن ينفخ فيه إسرافيل. ووجه الحكمة في ذلك: إنّها علامة جعلها اللَّه ليعلم بها العقلاء آخر أمرهم في دار التكليف ثمّ __________________________________________________

(1) بحارالأنوار 6: 336.

(2) بحارالأنوار 6: 318.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 267

تجديد الخلق، فشبّه ذلك بما يتعارفونه من بوق الرحيل والنزول، ولا تتصوّره النفوس بأحسن من هذه الطريقة. وقيل: إنّ الصّور جمع صورة، فكأنّه ينفخ في صور الخلق» «1».

ثمّ قال رحمه اللَّه: ««فصعق من في السماوات ومن في الأرض» أي:

يموت من شدّة تلك الصيحة التي يخرج من الصور جميع من في السماوات والأرض، يقال: صعق فلان: إذا مات بحال هائلة شبيهةٍ بالصيحة العظيمة».

قال: ««ثُمّ نُفِخ فيه اخري» يعني: نفخة البعث، وهي النفخة الثانية.

وقال قتادة في حديثٍ رفعه: إنّ ما بين النفختين أربعين سنة. وقيل: إنّ اللَّه تعالي يفني الأجسام كلّها بعد الصعق وموت الخلق ثمّ يعيدها. وقوله: «فإذا هم قيام» إخبار عن سرعة إيجادهم، لأنّه سبحانه إذا نفخ النفخة الثانية أعادهم عقيب ذلك فيقومون من قبورهم أحياء» «2».

وعلي هذا المنوال كلامه في تفسيره الآخر (جوامع الجامع) في قوله تعالي: «يوم يُنْفَخ في الصور» «3»: «والصور قرن ينفخ فيه إسرافيل نفختين، فيفني الخلق بالنفخة الاولي ويحيون بالثانية. وعن الحسن إنّه جمع صورة» «4».

وقد قال في (مجمع البيان) بتفسيرها: «وأمّا الصور

فقيل فيه إنّه قرن ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام نفختين، فيفني الخلائق كلّهم بالنفخة الاولي ويحيون بالنفخة الثانية، فتكون الاولي لانتهاء الدنيا والثانية لابتداء الآخرة.

وقال الحسن: هو جمع صورة، كما أنّ السور جمع سورة، وعلي هذا فيكون معناه: يوم ينفخ الروح في الصور.

ويؤيّد الأوّل: ما رواه أبو سعيد الخدري عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله __________________________________________________

(1) مجمع البيان في تفسير القرآن 8: 459.

(2) مجمع البيان 8: 460.

(3) سورة الأنعام 6: 73.

(4) جوامع الجامع 1: 584.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 268

وسلّم إنّه قال: كيف أنتم وقد التقم صاحب القرن وحنا جبينه وأصغي سمعه ينتظر أنْ يؤمر فينفخ؟ قالوا: فكيف نقول يا رسول اللَّه؟ قال: قولوا: حسبنا اللَّه ونعم الوكيل.

والعرب تقول: نفخ الصور ونفخ في الصور، قال الشاعر:

لولا ابن جعدة لم يفتح قهندركم ولا خراسان حتّي ينفخ الصور» «1»

وكما أيّد القول الأوّل هنا بالحديث، كذلك أيّده به بتفسير «ويوم ينفخ في الصور» حيث قال: «وقد ورد ذلك في الحديث» أي: إنّ القول الآخر لا مؤيّد له في الأحاديث …

وقال بتفسير «فإذا نُقِر في الناقور»: «الناقور فاعول من النقر، كهاضوم من الهضم وحاطوم من الحطم، وهو الذي من شأنه أن ينقر فيه للتصويت به» قال:

«معناه: إذا نفخ في الصور، وهي كهيئة البوق، عن مجاهد. وقيل: إنّ ذلك في النفخة الاولي وهو أول الشدّة الهائلة العامة. وقيل: إنّه النفخة الثانية، وعندها يحيي اللَّه الخلق وتقوم القيامة وهي صيحة الساعة، عن الجبائي» «2».

وعلي الجملة، فإنّ التتبع في كلمات الشيخ الطبرسي في المواضع المختلفة من تفسيريه، يفيد أنّ ما نسب إليه من إنكار الصور بالمعني بالمذكور من غرائب التوهّمات، بل من عجائب الإفتراءات.

حول كلام المفيد في معني «الصور»

وأمّا ما

نسب إلي الشيخ المفيد رحمه اللَّه من تأويل «الصور»، وأنّه يقول __________________________________________________

(1) مجمع البيان 4: 95.

(2) مجمع البيان 10: 191 و 195.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 269

بأنّه جمع للصّورة، ففيه كلام كذلك، ومجرّد قول الشيخ المجلسي «وسبقه الشيخ المفيد» لا يكفي، إذ يحتمل أن يكون مراده أنّ الشيخ المفيد قد سبق الشيخ الطبرسي في نقل القول المذكور عن بعض العامّة.

ولو سلّمنا أنّ الشيخ المفيد يجوّز أنْ يكون «الصور» جمعاً للصورة، فإنّه لا ينكر «الصور» بمعني «القرن» الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام، لثبوت ذلك في الكتاب والسنّة، غاية ما هناك أنّه جوّز في بعض تلك الأدلّة أنْ يكون «الصور» جمعاً للصورة، وذلك لا يلازم إنكار كون المراد هو «القرن» في البعض الآخر كما هو واضح …

فإنْ كان الخصم في شكٍّ من هذا، ذكرنا له كلام إمامه الفخر الرازي بتفسير قوله تعالي: «يوم يُنْفَخ في الصور» فإنّه يصدّق ما قلناه تماماً، وهذا نصّه:

«المسألة الثالثة: قوله تعالي: «يوم يُنْفَخُ في الصور» لا شبهة أنّ المراد منه يوم الحشر، ولا شبهة عند أهل الإسلام أنّ اللَّه سبحانه خلق قرناً ينفخ فيه ملك من الملائكة، وذلك القرن مسمّي بالصور علي ما ذكر اللَّه هذا المعني في مواضع من الكتاب الكريم، ولكنّهم اختلفوا في المراد بالصّور في هذه الآية علي قولين: الأوّل: إنّ المراد منه ذلك القرن الذي ينفخ فيه وصفته مذكورة في سائر السور، والقول الثاني: إنّ الصور جمع صورة، والنفخ في الصور عبارة عن النفخ في صور الموتي» «1».

فلو فرض تفسير الشيخ المفيد لفظ «الصور» في بعض الموارد ب «جمع الصورة»، فإنّ هذا لا يستلزم كونه منكراً وجود «الصور» بمعني «النفخ»، وكيف __________________________________________________

(1) تفسير الرازي 13:

33.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 270

يجوز نسبة ذلك إليه؟ والحال أنّ كلامه في (أجوبة المسائل السروية) صريح في الإعتقاد بالصور. و هذه عبارة السؤال والجواب علي ما نقل في (البحار):

«ما قوله- أدام اللَّه تأييده- في عذاب القبر وكيفيّته؟ ومتي يكون؟ وهل تردّ الأرواح إلي الأجساد عند التعذيب أم لا؟ وهل يكون العذاب في القبر أو يكون بين النفختين؟

الجواب: الكلام في عذاب القبر طريقه السمع دون العقل، وقد ورد عن أئمة الهدي عليهم السلام أنّهم قالوا: ليس يعذّب في القبر كلّ ميّت، وإنّما يعذّب من جملتهم من محّض الكفر محضاً، ولا ينعم كلّ ماض لسبيله، وإنّما ينعم منهم من محّض الإيمان محضاً، فأمّا سوي هذين الصنفين فإنّه يلهي عنهم، وكذلك روي: أنّه لا يُسئَل في قبره إلّاهذان الصنفان خاصّة، فعلي ما جاء به الأثر من ذلك يكون الحكم ما ذكرناه.

فأمّا عذاب الكافر في قبره، ونعيم المؤمنين فيه، فإنّ الخبر أيضاً قد ورد بأنّ: اللَّه تعالي يجعل روح المؤمن في قالب مثل قالبه في الدنيا في جنّة من جنانه ينعمه فيها إلي يوم الساعة، فإذا نُفِخ في الصور انشي ء جسده الذي بُلي في التراب وتمزّق، ثمّ أعاده إليه وحشره إلي الموقف وأمر به إلي جنّة الخلد، فلا يزال منعّماً ببقاء اللَّه عزّوجلّ، غير أنّ جسده الذي يعاد فيه لا يكون علي تركيبه في الدنيا، بل تعدّل طباعه وتحسّن صورته، فلا يهرم مع تعديل الطباع، ولا يمسّه نصبٌ في الجنّة ولا لغوب.

والكافر يجعل في قالب كقالبه في الدنيا في محلّ عذاب يعاقب به ونار يعذّب بها حتّي الساعة، ثمّ انشي ء جسده الذي فارقه في القبر ويعاد إليه، ثمّ يعذّب به في الآخرة إلي الأبد، ويركّب أيضاً

جسده تركيباً لا يفني معه، وقد

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 271

قال اللَّه عزّ وجلّ اسمه: «النّار يُعرضون عليها غدوّاً وعشيّاً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشدّ العذاب» وقال في قصّة الشهداء: «ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيلِ اللَّه أمواتاً بل أحياءٌ عند ربّهم يُرزقون».

فدلّ أنّ العذاب والثواب يكونان قبل يوم القيامة وبعدها.

والخبر وارد بأنّه يكون مع فراق الروح الجسد من الدنيا، والروح هاهنا عبارة عن الفعّال الجوهر البسيط، وليس بعبارة عن الحياة التي يصحّ معها العلم والقدرة، لأنّ هذه الحياة عرض لا يبقي ولا يصحّ الإعادة فيه.

فهذا ما عوّل عليه بالنقل وجاء به الخبر علي ما بيّنّاه» «1».

هذا كلام الشيخ المفيد، وهو نصّ قاطع في أنّه غير منكر للصور، بل ذكر عقيدته علي أساس الأخبار المرويّة عن الأئمّة الأطهار- عليهم السلام- وجعلها المعوَّل عليه والمعتَمد.

ولا يتوهّم أنّ هذا الكلام أيضاً، يحتمل كون المراد من الصور هو نفخ الأرواح في الأجساد، وأنّ الصور جمع الصورة.

لأنّ هذا الإحتمال فاسد قطعاً، وكلامه صريح في أنّ المراد من «الصور» هو «القرن» لا جمع الصورة، ويدلّ علي ذلك وجهان:

الأوّل: قوله: «فإذا نفخ في الصور انشي ء جسده … » فإنّه يدلّ بوضوحٍ علي أنّ إنشاء الجسد إنّما يكون بعد نفخ الصور، فنفخ الصور متقدّم علي إنشاء الجسد الذي بلي في التراب وتمزّق، وهذا مقتضي الشرط والجزاء، فإنّ الجزاء متفرّع علي وجود الشرط متأخّر عنه. ومن البديهي أنّه لو كان «الصور» جمع الصّورة، وكان المراد نفخ الأرواح في الأجساد، لم يكن تأخّر إنشاء

__________________________________________________

(1) بحارالأنوار 6: 272- 273 عن أجوبة المسائل السرويّة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 272

الجسد، وإلّا لزم تأخّر الشي ء عن نفسه، لأنّ النفخ في الصور- علي

تقدير كون «الصور» جمع الصورة- هو نفخ الأرواح في الأجساد، فلابدّ من إنشاء الأجساد قبل النفخ حتي ينفخ فيها الأرواح.

الثاني: إنّ لفظة «ثمّ» في قوله: «ثمّ أعاد إليه وحشره إلي الموقف … »

صريحٌ في تأخّر إعادة الروح إلي الجسد عن نفخ الصور وإنشاء الجسد، كما هو ظاهر لفظة «ثمّ» الموضوعة للتراخي والبعديّة، ولا ريب أنّ إعادة الروح إلي الجسد هو عين نفخ الروح فيه … فلو كان المراد من «فإذا نُفخ في الصور» هو جمع الصورة، وكان المراد من النفخ هو نفخ الأرواح في الأجساد، لزم تأخّر الشي ء عن نفسه.

وتلخّص: أنّ الشيخ المفيد رحمه اللَّه يقول بوجود الصور بمعني القرن، وبوقوع النفخ فيه كما دلّت عليه الأدلّة، وقد أشار إليها في جواب السؤال ونصَّ علي الإعتماد عليها … فلا يجوز نسبة غير ذلك إليه ألبتّة.

عقيدة الحسن البصري وأبي عبيدة … ص: 272

لكنّها عقيدة الحسن البصري وأبي عبيدة وغيرهما من أهل السنّة، وقد نصّ غير واحدٍ من أعلام القوم علي أنّها خلاف ما عليه أهل السنّة والجماعة:

قال العيني في (عمدة القاري) بشرح قول البخاري: (باب نفخ الصور):

«الصور، وهو بضمّ الصاد وسكون الواو، وذكر عن الحسن إنّه قرأها بفتح الواو جمع الصورة، وتأوّله علي أنّ المراد النفخ في الأجسام ليعاد إليها الأرواح. قال الأزهري: إنّه خلاف ما عليه أهل السنّة والجماعة» «1».

__________________________________________________

(1) عمدة القاري بشرح البخاري 23: 98 باب نفخ الصور.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 273

بل هو عقيدة جماعة … ص: 273

وليس هذا قول الحسن وحده، ففي (فتح الباري) ما نصّه:

«باب نفخ الصور، تكرّر ذكره في القرآن، في الأنعام والمؤمنين والنمل والزمر وقاف وغيرها، وهو بضمّ المهملة وسكون الواو، وثبت كذلك في القراآت المشهورة والأحاديث، وذكر عن الحسن البصري إنّه قرأها بفتح الواو جمع صورة، وتأوّله علي أنّ المراد النفخ في الأجساد ليعاد إليها الأرواح. وقال أبو عبيدة في المجاز: يقال الصور يعني بسكون الواو جمع صورة، كما يقال سور المدينة جمع سورة. قال الشاعر:

لمّا أتي خبر الزبير تواضعت سور المدينة

فيستوي معني القراءتين.

وحكي مثله الطبري عن قوم وزاد: كالصوف جمع صوفة.

قالوا: والمراد بالنفخ في الصور- وهي الأجساد- أن تعاد فيها الأرواح، كما قال تعالي: «ونَفَخْتُ فيه من روحي».

وتعقّب قوله: جمع، بأنّ هذه أسماء أجناس لا جموع.

وبالغ النحّاس وغيره في الردّ علي التأويل المذكور.

وقال الأزهري: إنّه خلاف ما عليه أهل السنّة والجماعة» «1».

وقال الرازي في (تفسيره):

«إعلم: إنّ اللَّه سبحانه لمّا قال «ومن ورائهم برزخٌ إلي يوم يُبعثون» ذكر أحوال ذلك اليوم فقال: «فإذا نُفِخ في الصور» وفيه ثلاثة أقوال:

أحدها: أنّ الصور آلة، إذا نفخ فيها يظهر صوت عظيم جعله اللَّه علامة

__________________________________________________

(1) فتح

الباري في شرح البخاري 11: 308 باب نفخ الصور.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 274

لخراب الدنيا وإعادة الأموات. روي عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم إنّه قرن ينفخ فيها.

وثانيها: إنّ المراد من الصور مجموع الصور، والمعني: فإذا نفخ في الصور أرواحها، وهو قول الحسن، وكان يقرأ بفتح الواو، وبالفتح والكسر عن أبي رزين، وهو حجّة لمن فسّر الصّور بجمع صورة.

وثالثها: إنّ النفخ في الصور استعارة، والمراد منه البعث والحشر.

والأولي الأوّل» «1».

وقال ابن الأثير في (النهاية):

«وفيه ذكر النفخ في الصور، هو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام عند بعث الموتي إلي المحشر. وقال بعضهم: إنّ الصور جمع صورة، يريد صور الموتي ينفخ فيه الأرواح، والصحيح الأوّل، لأنّ الأحاديث تعاضدت عليه تارة بالصور وتارة بالقرن» «2».

وقال محمد طاهر في (مجمع البحار):

«ونفخ في الصور، هو قرن ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام عند بعث الموتي إلي المحشر، وقيل: هو جمع صورة يريد صور الموتي ينفخ فيها الأرواح، والصحيح الأوّل لتظاهر الأحاديث فيه» «3».

وفي (الصحاح):

«الصور القرن. قال الراجز:

__________________________________________________

(1) تفسير الرازي 23: 121.

(2) النهاية في غريب الحديث والأثر «صور».

(3) مجمع البحار «صور».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 275

لقد نطحناهم غداة الجمعين نطحاً شديداً لا كنطح الصورين ومنه قوله تعالي: «يوم ينفخ في الصور» قال الكلبي: لا أدري ما الصور، ويقال: هو جمع صورة مثل بسرة وبسر، أي ينفخ في صور الموتي الأرواح، وقرأ الحسن يوم ينفخ في الصور، والصور- بكسر الصاد- لغة في الصور جمع صورة … » «1».

وفي (تفسير البغوي):

«والصور قرن ينفخ فيه. قال مجاهد كهيئة البوق، وقيل: هو بلغة أهل اليمن. وقال أبو عبيدة: الصور هو الصور جمع الصورة، وهو قول الحسن.

والأول أصحّ» «2».

بل هو القول المشهور بينهم … ص: 275

وظاهر

(تفسير النيسابوري) أنّه قول مشهور:

«وفي الصور قولان، أشهرهما: أنّه القرن، يؤيّده قوله تعالي: «فإذا نُقِر في النّاقور» وإنّه تعالي يُعرّف امور الآخرة بأمثال ما شوهد في الدنيا، ومن عادة الناس النفخ في البوقات عند الأسفار وفي العساكر، فجعل اللَّه تعالي النفخ في تلك الآلة علامة لخراب الدنيا ولإعادة الأموات.

وأقربهما من المعقول أنّ الصور جمع صورة، يؤكّده قراءة من قرأ بفتح الراء، ويقال: صورة وصُوَر وصِوَر، كدرّة ودُرَر» «3».

__________________________________________________

(1) صحاح اللغة 2: 716.

(2) تفسير البغوي 2: 377.

(3) تفسير النيسابوري 4: 570.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 276

وهو قول أهل اللغة منهم … ص: 276

وصريح كلام السجستاني في (غريب القرآن) إنّه قول أهل اللّغة، قال:

«قال أهل اللغة: الصّور جمع صورة ينفخ فيها روحها فتحيي، والذي جاء في التفسير أنّ الصور قرن ينفخ فيه إسرافيل. واللَّه أعلم» «1».

وقال محمد بن أبي بكر الرازي في (غريب القرآن):

«الصور قرن ينفخ فيه إسرافيل: وقيل هو جمع صورة مثل بسرة وبسر، فقوله تعالي «يوم ينفخ في الصور» أي ينفخ في صور الموتي أرواحها، وقرأ الحسن رضي اللَّه عنه «يوم ينفخ في الصور» بفتح الواو» «2».

وقال النسفي في (تفسيره):

«يوم ينفخ، ظرف لقوله: وله الملك، في الصور هو القرن بلغة اليمن، أو جمع صورة» «3».

وفي (تفسير الرازي):

«وأمّا قوله تعالي: «يوم يُنْفَخ في الصور» ففيه وجوه:

أحدها: إنّه شي ء يشبه بالقرن، وإنّ إسرافيل عليه السلام ينفخ فيه بإذن اللَّه تعالي، وإذا سمع النّاس ذلك الصوت- وهو في الشدّة بحيث لا تحتمله طبايعهم- يفزعون عنده ويصعقون ويموتون، وهو كقوله تعالي: «فإذا نُقر في النّاقور». وهذا قول الأكثرين.

وثانيها: يجوز أن يكون تمثيلًا لدعاء الموتي، فإنّ خروجهم من قبورهم __________________________________________________

(1) غريب القرآن: 245 باب الصاد المضمومة.

(2) غريب القرآن «صور».

(3) تفسير النسفي/ مدرك التنزيل 1:

372.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 277

كخروج الجيش عند سماع صوت الآلة.

وثالثها: إنّ الصّور جمع الصورة» «1».

وقال ابن الملقن في (شرح البخاري):

«والذي عليه المفسّرون: إنّ الصور قرن ينفخ فيه إسرافيل. قال أهل اللغة: هو جمع صورة مثل بسرة وبسر ينفخ فيها الروح نفخاً. وقرأ الحسن بفتح الواو، والصور بكسر الصاد لغة في الصور جمع صورة، وأنكره النحاس وقال: لا يعرف هذا أهل التفسير. قال: والحديث علي أنّه الصور الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام».

وفيه أيضاً:

«قال القرطبي: وليس الصور جمع صورة كما زعم بعضهم أنّه ما ينفخ في صور الموتي، بدليل الأحاديث المذكورة، والتنزيل أيضاً يدلّ علي ذلك، قال تعالي: «ثُمّ نُفِخ فيه اخري» ولم يقل فيها، فعلم أنّه ليس بجمع صورة.

وقال الكلبي: لا أدري ما الصور، ويقال: هو جمع صورة مثل بسر وبسرة أي ينفخ في صور الموتي الأرواح. وقرأ الحسن: «يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة» وإلي هذا ذهب أبو عبيدة معمر، وهو مردود بما ذكرناه، وأيضاً: لا ينفخ في الصور للبعث مرّتين بل ينفخ مرّة واحدة، فإسرافيل ينفخ في الصور الذي هو القرن، واللَّه هو الذي يحيي الصور فينفخ فيها الروح كما قال تعالي «فنفخنا فيه من روحنا»، «ونفخت فيه من روحي» وقد أنكر بعض أهل الزيغ أن يكون الصور قرناً. قال أبوالهيثم: من قال ذلك فهو كمن أنكر العرش __________________________________________________

(1) تفسير الرازي 24: 219.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 278

والميزان وطلب لها تأويلات» «1».

بل هو عقيدة البخاري!! … ص: 278

لقد ثبت أنّ أصحابنا لا يقولون بهذه المقالة الفاسدة، بل القائلون بها هم من أهل السنّة، كالحسن البصري، وأبي عبيدة، وصاحب سراج العقول، وغيرهم من الأئمّة …

ولو أنّ الخصم أجاب بأنّ الحسن البصري قدري، وقد

كفّره العلماء المحقّقون، ومن حكم عليه بالكفر فلا يستبعد صدور مثل هذه الأباطيل منه، وأمّا أبو عبيدة العالم اللغوي النحوي فلا عبرة بقوله، وكذا من تبعه واستحسن مقالته …

قلنا له: فما تقول في إمامك البخاري، وقد ذهب إلي هذا المذهب في كتابه (الصحيح) عند جمهوركم:

لقد قال البخاري بتفسير سورة الأنعام من كتابه، في الآية «يوم ينفخ في الصور»: «الصور جماعة صورة، كقوله سورة وسور» «2».

وقال القسطلاني بشرحه:

«الصور- بضم الصاد وفتح الواو- في قوله تعالي: «يوم ينفخ في الصور» جماعة صورة. أي: يوم ينفخ فيها روحها فتحيي كقوله: سورة وسور، بالسين المهملة فيهما.

__________________________________________________

(1) شرح صحيح البخاري لابن الملقن عن تفسير القرطبي 7: 20- 21 والآية في سورة الأنعام: 73.

(2) صحيح البخاري 6: 70.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 279

قال ابن كثير: والصحيح أنّ المراد بالصور القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام، للأحاديث الواردة فيه» «1».

وقال القاضي عياض:

«قوله في التفسير: الصور جمع صورة، كقولك: صورة وصور، كذا لأبي ذر. أي جمع علي صور وصور بسكون الواو وفتحها، وهو خير من رواية غيره، كقولك سورة وسور، بالسين، إذ ليس مقصود الباب ذلك. وهذا أحد تفاسير الآية» «2».

وقال ابن حجر العسقلاني:

«قوله: الصور جماعة صورة كقوله سورة وسور، بالصاد أوّلًا وبالسين ثانياً، كذا للجميع، إلّافي رواية أبي أحمد الجرجاني ففيها: كقولك صورة وصور، بالصاد في الموضعين، والاختلاف في سكون الواو وفتحها. قال أبو عبيدة في قوله تعالي: «ويوم ينفخ في الصور» يقال: إنّها جمع صورة، ينفخ فيها روحها فتحيي، بمنزلة قولهم: سورة المدينة، واحدها سورة. قال النابغة:

ألم تر أنّ اللَّه أعطاك سورة تري كلّ ملك دونها يتذبذب والثابت في الحديث أنّ الصور قرن ينفخ فيه، وهو واحد

لا إسم جمع» «3».

أقول:

لقد بان في غاية الوضوح والظهور، طهارة أذيال أعلامنا الصدور عن التلوّث بوضح المصير إلي إنكار الصور، وأنّ عزو هذا الإنكار إليهم كذب __________________________________________________

(1) إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري 7: 116.

(2) مشارق الأنوار علي صحاح الآثار 2: 65.

(3) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 8: 232.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 280

وزور. لكنّ أئمّة القوم هم الذين حرّفوا كلام اللَّه وأحايث الرسول، كالحسن البصري وأبي عبيدة النحوي اللغوي وصاحب سراج العقول، وغيرهم من أعلامهم الفحول … وأعجب من ذلك كلّه: أنّ البخاري الذي هو عندهم ابن بجدة النقد والبراعة، وحامل لواء أهل السنّة والجماعة، قد تفوّه بهذا التفسير المهجور، فاستحقّ كلّ أنواع التشنيع والتحقير …

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 281

معاجز نبيّنا صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم … ص: 281

اشارة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 283

وربّما نسب بعضهم إلي علمائنا تكذيب المعاجز النبويّة، كردّ الشمس وشقّ القمر، وتكلّم الحيوانات مع النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وشهادة الأشجار وغيرها برسالته …

وحاشا علماء الطائفة المحقّة من إنكار هذه المعجزات وأمثالها، وأين كلماتهم الصريحة في ذلك؟ وما هو المستند في هذه النّسبة إليهم؟

إنّ هذه النسبة كذب وافتراء …

والقضيّة بالعكس …

فقد وجدنا في علماء القوم من ينكر المعجزات النبويّة الصحيحة الثابتة بالأحاديث المجمع عليها.

ردّ الشمس … ص: 283

اشارة

فحديث ردّ الشمس الثابت بأخبار الفريقين، المذكور في كتاب (الشفاء) للقاضي عياض في عداد المعجزات النبويّة، والذي أخرجه الطحاوي عن أسماء بنت عميس بطريقين وقال:

«هذان الحديثان ثابتان ورواتهما ثقات» «1».

وقال القاضي عياض:

«حكي الطحاوي أنّ أحمد بن صالح كان يقول: لا ينبغي لمن سبيله __________________________________________________

(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفي 1: 549.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 284

العلم التخلّف عن حفظ حديث أسماء، لأنّه من علامات النبوّة» «1».

وحتّي الكابلي صاحب (الصواقع) ومقلّدوه، الذين أنكروا كثيراً من الامور الثابتة، أذعنوا بثبوت حديث ردّ الشمس، قال في الصواقع: «وأمّا ردّ الشمس فكانت معجزة للنبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم، لأنّه صلّي العصر فأنزل عليه الوحي وكان رأسه في حجر عليّ وهو لم يصلّ العصر، فلمّا فرغ ورأي الشمس قد غربت دعا ربّه أن يردّها، فاستجاب دعاءه وردّ الشمس وصلّي عليّ العصر، فلمّا فرغ غربت الشمس» «2».

وقال صاحب (التحفة) ما تعريبه:

«وأمّا ردّ الشمس، فقد صحّحه أكثر أهل السنّة، كالطحاوي وغيره، وهو من معجزات النبيّ بلا ريب، وقد كان ذلك لمّا فات وقت صلاة العصر علي حضرة الأمير، فدعا صلّي اللَّه عليه وسلّم حتّي يؤدّي صلاته» «3».

وقد وضع غير واحد من الحفّاظ رسالة مفردة في هذا الحديث:

منهم: السيوطي،

وقد أسمي رسالته (كشف اللبس في حديث ردّ الشمس) وقال في أوّلها:

«وبعد، فإنّ حديث ردّ الشمس معجزة لنبيّنا صلّي اللَّه عليه وسلّم، صحّحه الإمام أبو جعفر الطحاوي وغيره».

وقال في هذا الحديث أيضاً:

«ثمّ الحديث صرّح جماعة من الأئمّة والحفّاظ بأنّه صحيح» «4».

__________________________________________________

(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفي 1: 549.

(2) الصواقع الموبقة- مخطوط.

(3) التحفة الاثني عشريّة: 226 في الأدلّة العقليّة علي إمامة الأمير عليه السلام.

(4) كشف اللبس في حديث ردّ الشمس- المقدّمة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 285

ومنهم: أبوالحسن شاذان الفضلي، وقد أدرج السيوطي رسالته في (كشف اللبس).

ومنهم: أبوالقاسم عبيداللَّه بن عبداللَّه بن أحمد الحسكاني، فإنّه وضع رسالةً في هذا الحديث وأسماها: مسألة في تصحيح ردّ الشمس وترغيم النواصب الشمس، وقد اعترف بذلك ابن تيميّة في منهاجه. وقد صحّح الحسكاني فيها الحديث بطرقٍ متعدّدة وأورد أقوال العلماء الكبار، وذكر أنّه مروي عن أسماء بنت عميس وأميرالمؤمنين وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري …

من المنكرين لهذه المعجزة … ص: 285

ومع ذلك كلّه، فقد أنكر بعضهم- تقليداً للنواصب- هذا الحديث الذي يعدّ من معاجز النبوّة ومن فضائل أميرالمؤمنين عليه السلام …

ومن هؤلاء: ابن تيميّة الحراني، فقد كذّب هذا الحديث، وردّ علي الحفّاظ كلامهم في تصحيحه وتحامل علي الطحاوي وأمثاله من الأئمّة حتّي قال:

«وحديث ردّ الشمس له، قد ذكره طائفة كأبي جعفر الطحاوي والقاضي عياض وغيرهما، وعدّوا ذلك من معجزات النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم، ولكنْ المحقّقون من أهل المعرفة بالحديث يعلمون أنّ هذا الحديث كذب موضوع» «1».

فانظر كيف يكذّب الحديث ويطعن في الأئمّة المصحّحين له …

ومن هؤلاء: ابن الجوزي، إذ أورده في (الموضوعات) وقال:

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 4: 288- 289.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 286

«هذا حديث موضوع بلا شك».

ثمّ جعل- بعد كلامٍ له- يعترض

علي النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم ويقول:

«قال المصنّف: ومن تغفيل واضع هذا الحديث أنّه نظر إلي صورة فضله ولم يلمح عدم الفائدة فيها، فإنّ صلاة العصر بغيبوبة الشمس صارت قضاء، فرجوع الشمس لا يعيدها أداء» «1».

وأضاف في باطله في (تلبيس إبليس) وزاد بأنْ قال:

«وغلوّ الرافضة في حبّ علي- رضي اللَّه عنه- حملهم علي أنْ وضعوا أحاديث كثيرة في فضائله، أكثرها يشينه ويؤذيه، وقد ذكرت منها جملةً في كتاب الموضوعات، منها: إنّ الشمس غابت ففاتت عليّاً رضي اللَّه عنه العصر، فردّت له الشمس. وهذا من حيث النقل موضوع محال لم يروه ثقة، ومن حيث المعني فإنّ الوقت قد فات وعودها طلوع مجدّد، فلا يرد الوقت» «2».

فانظر كيف يبالغون في إنكار المعاجز والفضائل ويحاولون طمس الحقائق، ولا وازع لهم في هذا السبيل عن تكذيب النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم ونسبة العبث واللغو إليه، إلّاأنّه ليس بغريبٍ ممّن يجوّز علي اللَّه صدور القبائح العظام … تعالي اللَّه عن ذلك علوّاً كبيراً.

ومن هؤلاء: الأعور الواسطي، فإنّه كذّب الحديث وجعله من رواية الإماميّة إذ قال: «ومنها دعواهم ردّ الشمس لعلي، وهو مكذوب لم يأت إلّا

__________________________________________________

(1) كتاب الموضوعات 1: 355- 357.

(2) تلبيس إبليس: 114.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 287

بنقلهم وهم أخصام لا يقوم مجرّد نقلهم علي الخصم حجة» «1».

فانظر إلي هذا الناصبي الذي زاد علي سلفه- ابن تيميّة- في البغض والحقد والعناد، فإنّ ذاك يعترف بتصحيح الطحاوي وغيره من أئمّة السنيّة، وهذا يدّعي أنّه من رواية الشيعة فحسب، مع أنّ من رواته: ابن شاهين وابن مردويه وابن مندة كما في (المقاصد الحسنة) «2» وغيرها، وقد رواه الطبراني بطرق متعدّدة، والخطيب والدولابي وابن أبي شيبة كما في (كشف اللبس).

وقد ألّف

فيه غير واحدٍ من الأعلام كما عرفت، كأبي الحسن شاذان الفضلي والسيوطي والحسكاني، وقد جزم به الإمام القرطاجني كما في (تنزيه الشريعة) «3».

بل لقد كذّب الأعور سلفه المعترف برواية الطحاوي والقاضي عياض وغيرهما له، وكذّب أحمد بن صالح الذي قال: «لا ينبغي لمن سبيله العلم التخلّف عن حديث أسماء» وكذَّب غير هؤلاء من الأئمّة الأعلام من أهل السنّة …

فهذا حال هؤلاء القوم، وهذه مواقفهم من معاجز النبيّ ومناقب الوصي، عليهما وآلهما الصلاة والسلام …

إنشقاق القمر … ص: 287

اشارة

__________________________________________________

(1) رسالة الأعور في الردّ علي الرافضة- مخطوط.

(2) المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة علي الألسنة: 270/ 519.

(3) تنزيه الشريعة الغرّاء 1: 379.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 288

وكذّب بعضهم كذلك انشقاق القمر له صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، قال الكرماني في (الكواكب الدراري):

«إنشقاق القمر آيةعظيمة لا يعادلها شي ء من آيات الأنبياء عليهم السلام؛ لأنّه ظهر من ملكوت السماء، والخطب فيه أعظم والبرهان به أظهر، لأنّه خارج عن جملة طباع ما في هذا العالم المركّب من العناصر.

وقد أنكر بعضهم هذا الخبر فقالوا: لو كان له حقيقة لم يخف أمره علي عوام الناس، ولتواترت به الأخبار، لأنّه أمر محسوس مشاهد والناس فيه شركاء، وللنفوس دواع علي نقل الأمر الغريب والخبر العجيب، ولو كان لذكر في الكتب ودوّن في الصّحف، ولكان أهل التنجيم والسير والتواريخ عارفين به، إذ لا يجوز إطباقهم علي إغفاله مع جلالة شأنه وجلاء أمره … » «1».

وحتي ابن تيمية اعترف بهذه المعجزة ويعرّض بالمنكرين:

«وانشقاق القمر كان بالليل وقت نوم الناس، ومع هذا فقد رواه الصحابة من غير وجه، وأخرجوه في الصحاح والسنن والمسانيد من غير وجه، ونزل به القرآن، فكيف تردّ الشمس التي تكون بالنهار ولا يشتهر ذلك ولا

ينقله أهل العلم نقل مثله، ولا يعرف قط أنّ الشمس رجعت بعد غروبها.

وإن كان كثير من الفلاسفة والطبيعيّين وبعض أهل الكلام ينكر انشقاق القمر وما يشبه ذلك، فليس الكلام في هذا المقام … » «2».

من المنكرين لهذه المعجزة … ص: 288

ومع هذا كلّه، فقد أنكر الحليمي- وهو من كبار علماء القوم- انشقاق __________________________________________________

(1) وانظر الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري، باب انشقاق القمر في آخر المناقب. وتفسير سورة الإنشقاق من كتاب التفسير.

(2) منهاج السنّة 4: 291.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 289

القمر لرسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم.

والأعجب من ذلك اعتماد الفخر الرازي علي منع الحليمي وإنكاره، في مقابلة أهل الحق، حيث جاء في كتابه (نهاية العقول) في كلامٍ له:

«ثمّ نقول: لا نزاع في شي ء من المقدّمات إلّافي قولكم: الأمر العظيم الواقع بمشهد الخلق العظيم لابدّ وأنْ يتواتر. فإنّا نقول: ليس الأمر كذلك، فإنّ انشقاق القمر، وفتح مكّة أنّه كان بالصلح أو بالقهر، وكون بسم اللَّه الرحمن الرحيم هل هو من كلّ سورةٍ أم لا، وكون الإقامة مثني أو فرادي، مع مشاهدة الصحابة لذلك مدّة حياة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم كلّ يومٍ خمس مرّات، وكذلك أحكام الصّلاة والزكاة، مع مشاهدتهم هذه الامور من النبي عليه السلام مدّة حياته، كلّ ذلك امور عظيمة وقعت بمشهد أكثر الامّة، ثمّ إنّه لم ينتشر شي ء منها» «1».

ثمّ قال الرازي في مقام الجواب عن هذا التقرير:

«أمّا الإنشقاق، فقد منع الحليمي وقوعه، بحمل: «إنشقّ القمر» علي أنّه سينشقّ. وإنْ سلّمنا وقوعه فلعلَّ المشاهدين ما كانوا في حدّ التواتر، لأنّه آية ليليّة، وأكثر الناس كانوا تحت السقوف، فلذلك لم ينتشر … » «2».

فانظر إلي الحليمي كيف يحمل الآية المباركة علي خلاف ظاهرها! وإلي

الرازي كيف يستند إلي كلام الحليمي ليعارض به استدلال الإماميّة!

وقد قام الإجماع من المسلمين علي وقوع الإنشقاق:

قال الحافظ القاضي عياض:

__________________________________________________

(1) نهاية العقول- مخطوط.

(2) نهاية العقول- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 290

«فصل- في إنشقاق القمر وحبس الشمس. قال اللَّه تعالي: «اقتربت السّاعة وانشقّ القمر* وإنْ يروا آيةً يعرضوا ويقولوا سحرٌ مستمر» أخبر تعالي بوقوع إنشقاقه بلفظ الماضي وإعراض الكفرة عن آياته، وأجمع المفسّرون وأهل السنّة علي وقوعه».

ثمّ قال بعد ذكر الروايات:

«وأكثر طرق هذه الأحاديث صحيحة، والآية مصرّحة، ولا يلتفت إلي اعتراض مخذول بأنّه لو كان هذا لم يخف علي أهل الأرض، إذ هو شي ء ظاهر لجميعهم … » «1».

وقال:

«أمّا إنشقاق القمر، فالقرآن نصّ بوقوعه وأخبر عن وجوده، ولا يعدل عن ظاهر إلّابدليل، وجاء برفع احتماله صحيح الأخبار من طرقٍ كثيرة، فلا يوهن عزمنا خلاف أخرق يحلُّ عري الدين، ولا يلتفت إلي سخافة مبتدع يلقي الشك علي قلوب ضعفاء المؤمنين، بل نرغم بهذا أنفه وننبذ بالعراء سخفه» «2».

أقول:

هذا بعض الكلام علي إنكار القوم ما ثبت من معاجز النبي عليه وآله الصلاة والسلام …

وأمّا إنكارهم لما ثبت من معجزات وكرامات الأئمّة الأطهار عليهم السلام، فموارده كثيرة جدّاً، فما أكثر المعجزات العلويّة المرويّة في كتب __________________________________________________

(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفي 1: 543 و 547.

(2) الشفا بتعريف حقوق المصطفي 1: 495.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 291

الفريقين، يستدلّ بها أهل الحقّ في مباحث الإمامة، ويكذّبها أهل الخلاف أمثال ابن تيميّة والأعور وغيرهما.

أضف إلي ذلك: إنّ الحليمي وأبا إسحاق يكذّبان كرامات الأولياء مطلقاً، وهذا- بعمومه- يشمل كرامات الأئمّة الطاهرين عليهم السلام.

قال شارح المواقف:

«المقصد التاسع: في كرامات الأولياء وأنّها جائزة عندنا، خلافاً لمن منع جواز الخوارق، واقعة، خلافاً للُاستاذ

أبي إسحاق والحليمي منّا وغير أبي الحسين من المعتزلة.

قال الإمام الرازي في الأربعين: المعتزلة ينكرون كرامات الأولياء، ووافقهم الاستاذ أبو إسحاق منّا، وأكثر أصحابنا يثبتونها، وبه قال أبو الحسين البصري من المعتزلة» «1».

__________________________________________________

(1) شرح المواقف 8: 288.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 293

إسلام آباء النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم … ص: 293

اشارة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 295

ربّما نسب بعض المتعصّبين المفترين من أهل السنّة إلي الشيعة القول بعدم طيب ولادة آباء النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم … وهذا بهتان عظيم، اللّهمّ العن قائله ومعتقده و مثبته ألف ألف لعنة، وأذقه حرّ النار وأصله سعيراً …

ولكنّ الكثيرين من أهل السنة قائلون بعدم إسلام وإيمان آباء النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم … والعياذ باللَّه.

أباطيل الأعور الواسطي … ص: 295

بل الأعجب من ذلك ردّ بعضهم علي الإماميّة تشنيعهم علي أهل السنّة وإعابتهم القول بذلك … !!

ألا تري كيف يدافع الأعور الواسطي عن هذه المقالة الفاسدة والزعم الباطل، ويردّ علي أهل الحق قائلًا:

«ومنها: إعابتهم قول أهل السنّة بكفر أبوي النبي. وذلك حقّ لا إعابة علي أهل السنّة، لوجوه:

الأوّل: إنّ نصّ القرآن والأحاديث والتواريخ عن مجموع الكفّار من قريش، مثل أبي لهب عمّ النبي وأبي جهل، ومن أسلم منهم مثل أبي سفيان وغيرهم: أنّ محمّداً سفّه ما كان آباؤنا عليه من عبادة الأصنام، ونحن لا نرغب عن ملّة عبدالمطّلب.

الثاني: إنّ اللَّه يقول لمن عرف الإسلام به «ما كنت تدري ما الكتاب ولا

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 296

الإيمان» فمن أين جاء الإيمان لأبويه.

الثالث: إنّ الرافضة يزعمون إنّ عليّاً رضي اللَّه عنه رمي أصنام قريش عن الكعبة، وعبدالمطّلب وعبداللَّه من رؤوسهم، فأيّ شي ء أخبرهم عن عدم عبادتهما؟

قالوا: نقل من الأصلاب الطاهرة إلي الأرحام الطاهرة.

قلنا: معناه لم يكن سفاح بل عن عقود وأنكحة.

قالوا: كيف يمكن خروج نبيّ من كافر؟

قلنا: كثير من الأنبياء، كخروج إبراهيم عليه السلام من آزر.

قالوا: عمّه أو خاله؟

قلنا: يكذب ذلك أنّ اللَّه تعالي سمّاه أباً بقوله: «إذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتّخذ أصناماً» ويقول إبراهيم لآزر: يا أبتِ، مراراً كثيرة.

وأيضاً: العم ابن الجد لأب والخال ابن الجد لُام، وحينئذٍ فيكون جدّه كافراً، ولا ينتفع الرافضة بشي ء من هذه الدعوي، ودليل كفره شهادة ابنه عليه كقوله تعالي: «وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناماً فنظلُّ لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذْ تدعون أو ينفعونكم أو يضرّون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون» وكقوله تعالي: «ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين»» «1».

أقول:

إنّها خرافات ركيكة وهفوات سخيفة:

فأمّا ما ذكره في الوجه الأوّل، فلا دليل عليه في القرآن والحديث، ولو

__________________________________________________

(1) رسالة الأعور الواسطي في الرد علي الرافضة- مخطوط.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 297

فرض أنّ مجموع الكفّار قالوا كذلك، فأيّ اعتبار بقول الكفّار؟

وأمّا ما ذكره في الوجه الثاني، فليس إلّاوساوس ظلمانيّة وتلبيسات شيطانيّة، ومحصّلها الكفر والزندقة والإلحاد.

وأمّا ما ذكره في الوجه الثالث، ففي غاية الضعف ولا محصَّل له، وأيّ ارتباط لمقصوده بقضيّة كسر الأصنام التي رواها ابن أبي شيبة وأبو يعلي وأحمد والطبري والحاكم والخطيب والنسائي وأمثالهم من الأعلام «1».

وهل رئاسة عبدالمطلب وعبداللَّه لقريش تستلزم عبادة الأصنام؟

إنّه لا يقول بذلك إلّاالجهلة الأغثام والسفهاء اللئام!

كيف لا؟ وقد قال السيوطي في (طراز العمامة في الفرق بين العمامة والقمامة) في بيان المسالك التي سلكها في إثبات إسلام أبوي النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم:

«الثالث: إنّهما كانا علي دين إبراهام، ما عبدا قطّ في عمرهما الأصنام، وأحاديث هذا المسلك قويّة السند، كثيرة العدد، عظيمة المدد، لا يقوم لردّها أحد».

وأمّا ما ذكره عن إبراهيم عليه السلام، فبطلانه يتّضح بمراجعة (رسائل السيوطي) و (المنح المكيّة) لابن حجر المكي، وأمثالهما.

وبالجملة، فإنّ القائلين منهم بهذا القول الباطل والرأي الفاسد كثيرون، ولنذكر كلمات بعضهم:

__________________________________________________

(1) كنز العمال للمتقي

الهندي، عن ابن أبي شيبة وأبي يعلي وابن جرير، مسند أحمد 1: 84، خصائص علي: 225 الحديث 122، المستدرك 2: 366 و 3: 5.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 298

وابن كثير الدمشقي … ص: 298

قال ابن كثير الدمشقي في تاريخه (البداية والنهاية):

«وإخباره عليه السلام عن أبويه وجدّه عبدالمطلب بأنّهم من أهل النّار، لا ينافي الحديث الوارد عنهم- من طرق متعددة- أنّ أهل الفترة والأطفال والمجانين والصمّ يمتحنون في العرصات يوم القيامة، كما بسط سنداً ومتناً عند قوله تعالي: «وما كنّا معذّبين حتّي نبعث رسولًا» فيكون منهم من يجيب ومنهم من لا يجيب، فيكون هؤلاء من جملة من لا يجيب.

والحديث الذي ذكره السهيلي- في إسناده مجاهيل- إلي أبي الزناد عن عروة عن عائشة: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم سأل ربّه أن يحيي أبويه فأحياهما وآمنا به.

فإنّه منكر جدّاً، وإنْ كان ممكناً بالنظر إلي قدرة اللَّه تعالي، لكن الذي ثبت في الصحيح يعارضه» «1».

وكذّب أبوالخطّاب ابن دحية أيضاً حديث السهيلي، ونصَّ علي أنّه موضوع، قال القسطلاني:

«قال ابن دحية: هذا الحديث موضوع، يردّه القرآن والإجماع، إنتهي.

وقد جزم بعض العلماء بأنّ أبويه صلّي اللَّه عليه وسلّم ناجيان وليسا في النّار، متمسّكاً بهذا الحديث وغيره. وتعقّبه عالم آخر بأنّه لم ير أحداً صرّح بأنّ الإيمان بعد انقطاع العمل بالموت ينفع صاحبه، فإنْ ادّعي أحد الخصوصيّة فعليه الدليل، إنتهي. وقد سبقه بذلك أبوالخطّاب ابن دحية وعبارته: من مات كافراً لم ينفعه الإيمان بعد الرجعة، بل لو آمن عند المعاينة لم ينفعه ذلك __________________________________________________

(1) البداية والنهاية/ تاريخ ابن كثير 2: 281.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 299

فكيف بعد الإعادة» «1».

وقد أطنب ابن كثير في المسألة في (تفسيره) بتفسير قوله تعالي: «وما كان

للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا اولي قربي من بعد ما تبيّن لهم أنّهم أصحاب الجحيم» وقال:

«قال الإمام أحمد: حدّثنا الحسن بن موسي، حدّثنا زهير، حدّثنا زبيد ابن الحرث اليامي، عن محارب بن دثار، عن ابن بريدة عن أبيه قال:

كنّا مع النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، فنزل بنا ونحن معه قريب من ألف راكب، فصلّي ركعتين، ثمّ أقبل علينا بوجهه وعيناه تذرفان، فقام إليه عمر بن الخطّاب وفدّاه بالأب والام وقال: يا رسول اللَّه! مالك؟

قال: إنّي سألت ربّي عزّ وجلّ في الإستغفار لُامّي فلم يأذن لي، فدمعت عيناي رحمةً لها من النّار.

وإنّي كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها لتذكّركم زيارتها خيراً، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث، فكلوا وأمسكوا ما شئتم، ونهيتكم عن الأشربة في الأوعية، فاشربوا في أيّ وعاء شئتم ولا تشربوا مسكراً.

وروي ابن جرير من حديث علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه: أنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم لمّا قدم مكّة، أتي رسم قبر، فجلس إليه فجعل يخاطب، ثمّ قام مستعبراً، فقلنا: يا رسول اللَّه! إنّا رأينا ما صنعت.

قال: إنّي استأذنت ربّي في زيارة قبر امّي فأذن لي، واستأذنته في الإستغفار لها، فلم يأذن لي، فما رُئي باكياً أكثر من يومئذٍ.

وقال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدّثنا أبي، حدّثنا خالد بن خداش،

__________________________________________________

(1) المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّديّة 1: 90/ ذكر رضاعه.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 300

حدّثنا عبداللَّه بن وهب، عن ابن جريح عن أيوب بن هاني، عن مسروق، عن عبداللَّه بن مسعود قال: خرج رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يوماً إلي المقابر فأتبعناه، فجاء حتّي جلس إلي قبر منها، فناجاه طويلًا ثمّ بكي فبكينا لبكائه،

ثمّ قام، فقام إليه عمر بن الخطّاب فدعاه ثمّ دعانا فقال: ما أبكاكم؟ قلنا: بكينا لبكائك.

قال: إنّ القبر الذي جلست عنده قبر آمنة، وإنّي استأذنت ربّي في زيارتها فأذن لي، وإنّي استأذنت ربّي في الدعاء لها، فلم يأذن لي وأنزل علَيّ:

«ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا اولي قربي»، فأخذني ما يأخذ الولد للوالد، وكنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنّها تذكّر الآخرة.

حديث آخر في معناه: قال الطبراني: حدّثنا محمّد بن علي المروزي، حدّثنا أبوالدرداء عبدالعزيز بن منيب، حدّثنا إسحاق بن عبداللَّه بن كيسان، عن أبيه، عن عكرمة، عن ابن عبّاس: أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم لمّا أقبل من غزوة تبوك واعتمر، فلمّا هبط من ثنية عسفان، أمر أصحابه أن يستندوا إلي العقبة حتّي أرجع إليكم، فذهب فنزل علي قبر امّه، فناجا ربّه طويلًا، ثمّ إنّه بكي، فاشتدّ بكاؤه وبكي هؤلاء لبكائه وقالوا: ما بكي نبيّ اللَّه هذا البكاء إلّا وقد احدث في امّته شي ء لا يطيقه، فلمّا بكي هؤلاء قام فرجع إليهم فقال: ما يبكيكم؟ فقالوا: يا نبيّ اللَّه! بكينا لبكائك، قلنا: لعلّه احدث في امّتك شي ء لا تطيقه. قال: لا، وقد كان بعضه.

ولكن نزلت علي قبر امّي، فدعوت اللَّه أن يأذن لي في شفاعتها يوم القيامة فأبي اللَّه أن يأذن لي، فرحمتها وهي امّي فبكيت، ثمّ جاءني جبرئيل استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 301

فقال: «وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلّاعن موعدة وعدها إيّاه فلمّا تبيّن له أنّه عدوٌّ للَّه تبرّأ منه» فتبرّأ أنت من امّك كما تبرّأ إبراهيم من أبيه، فرحمتها وهي امّي.

ودعوت ربّي أن يرفع عن امّتي أربعاً، فرفع عنهم اثنين وأبي أن يرفع عنهم اثنتين،

دعوت ربّي أن يرفع عنهم الرجم من السماء والغرق من الأرض، وأن لا يلبسهم شيعاً، وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض، فرفع عنهم الرجم من السماء والغرق من الأرض، وأبي اللَّه أن يرفع عنهم القتل والهرج.

وإنّما عدل إلي قبر امّه، لأنّها كانت مدفونة تحت كدي، وكانت عسفان لهم.

وهذا حديث غريب وسياق عجيب.

وأغرب منه وأشدّ نكارة:

ما رواه الخطيب البغدادي في كتاب السابق واللّاحق، بسند مجهول، عن عائشة، في حديث فيه قصّة: أنّ اللَّه أحيا امّه فآمنت ثمّ عادت.

وكذلك ما رواه السهيلي في الرّوض، بسند فيه جماعة مجهولون: أنّ اللَّه أحيا له أباه وامّه فآمنا به. وقد قال الحافظ ابن دحية: هذا الحديث موضوع، يردّه القرآن والإجماع، قال اللَّه تعالي: «ولا الذين يموتون وهم كفّار».

وقد مال أبو عبداللَّه القرطبي إلي هذا الحديث، وردّ علي ابن دحية في هذا الإستدلال ما حاصله: إنّ هذه حياة جديدة، كما رجعت الشمس بعد غيبوبتها فصلّي عليّ العصر. قال الطحاوي: وهو حديث ثابت. يعني حديث الشمس. قال القرطبي: فليس إحياؤهما بممتنع عقلًا ولا شرعاً. قال: وقد سمعت أنّ اللَّه أحيي عمّه أباطالب فآمن به.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 302

قلت: وهذا كلّه يتوقّف علي صحّة الحديث، فإذا صحّ فلا مانع منه.

واللَّه أعلم.

وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: «ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين» الآية، فإنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم أراد أن يستغفر لُامّه فنهاه اللَّه عن ذلك، فقال: فإنّ إبراهيم خليل اللَّه قد استغفر لأبيه فأنزل اللَّه: «وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلّاعن موعدة وعدها إيّاه» الآية.

وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاس في هذه الآية: كانوا يستغفرون لهم حتّي نزلت هذه الآية، فلمّا انزلت

أمسكوا عن الإستغفار لأمواتهم، ولم ينهوا أن يستغفروا للأحياء حتّي يموتوا، ثمّ أنزل اللَّه: «وما كان استغفار إبراهيم لأبيه» الآية.

وقال قتادة في هذه الآية: ذكر لنا أنّ رجالًا من أصحاب النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم قالوا: يا نبيّ اللَّه! إنّ من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الأرحام، ويفكّ العاني ويوفي بالذمم، أفلا نستغفر لهم؟ قال: فقال النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم: بلي واللَّه، إنّي لأستغفر لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه، فأنزل اللَّه: «ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين» حتّي بلغ الجحيم، ثمّ عذّر اللَّه إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال: «وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلّا عن موعدة وعدها إيّاه فلمّا تبيّن له أنّه عدوٌّ للَّه تبرّأ منه»» «1».

والذهبي … ص: 302

والذهبي أيضاً كذّب الحديث المذكور، حيث قال في (ميزان الإعتدال):

«عبدالوهّاب بن موسي، عن عبدالرحمن بن أبي الزناد، بحديث: إنّ اللَّه __________________________________________________

(1) تفسير ابن كثير 4: 221- 224 والآية في سورة التوبة: 113.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 303

أحيا لي امّي فآمنت بي.

الحديث كذب، مخالف لِما صحَّ أنّه عليه السلام استأذن ربّه في الإستغفار لهما فلم يؤذن له» «1».

وفي (لسان الميزان) عن جماعةٍ أنّهم كذّبوا الحديث كذلك «2».

القائلون بالحقّ وأدلّتهم … ص: 303

لكنّ جماعةً من أعلامهم دافعوا عن الحق، وأبطلوا هذه الأقاويل الفاسدة.

فالحافظ السيوطي- مثلًا- ألّف رسائل عديدة في إثبات نجاة آباء رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، حتّي أنّه قال بكفر من يقول بكفر والدي النبي، ففي رسالته التي أسماها: (الدرج المنيفة في الآباء الشريفة):

«نقلت من مجموع بخطّ الشيخ كمال الدين الشمني، والد شيخنا الإمام تقي الدين رحمه اللَّه ما نصّه: سُئل القاضي أبوبكر ابن العربي عن رجلٍ قال:

إنّ آباء النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم في النار، فأجاب بأنّه ملعون؛ لأنّ اللَّه تعالي قال: «إنّ الذين يؤذون اللَّه ورسوله لعنهم اللَّه في الدنيا والآخرة وأعدّ لهم عذاباً مهيناً» قال: ولا أذي أعظم من أن يقال عن أبيه: إنّه في النّار» «3».

وقال في رسالته (الدوران الفلكي علي ابن الكركي) في بيان الامور المستهجنة التي ذكر صدورها من السخاوي:

«الثاني: إنّه تكلّم في حق والدي المصطفي بما لا يحلّ لمسلم ذكره، ولا

__________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 4: 437/ 5332 ترجمة عبدالوهّاب بن موسي.

(2) لسان الميزان 4: 512/ 5416 ترجمة عبدالوهّاب بن موسي.

(3) الدرج المنيفة في الآباء الشريفة (ضمن الرسائل العشر): 42.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 304

يسوغ أن يجزم عليه فكره، فوجب علَيّ أنْ أقوم عليه بالإنكار، وأنْ أستعمل في تنزيه

هذا المقام الشريف الأقلام والأفكار، فألّفت في ذلك ست مؤلّفات شحنتها بالفوائد وهي في الحقيقة أبكار، ومن ذا الذي يستطيع أنْ ينكر علَيّ قيامي في ذلك، أو يلقي نفسه في هذه المهالك، من أنكر ذلك أكاد أقول بكفره وأستغرق العمر في هجره».

وقال السهيلي في (الروض الأنف):

«وذكر قاسم بن ثابت في الحديث: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم زار قبر امّه بالأبواء في ألف مقنّعٍ، فبكي وأبكي: وهذا حديث صحيح.

وفي الصحيح أيضاً أنّه قال: استأذنت ربّي في زيارة قبر امّي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي.

وفي مسند البزّار من حديث بريدة: إنّه عليه السلام حين أراد أن يستغفر لُامّه، ضرب جبرئيل في صدره وقال: لا تستغفر لمن مات مشركاً، فرجع حزيناً.

وفي الحديث زيادة في غير الصحيح: إنّه سئل عن بكائه، فقال: ذكرت ضعفها وشدّة عذاب اللَّه، إن كان صحَّ هذا.

وفي حديث آخر ما يصحّحه وهو أنّ رجلًا قال له: يا رسول اللَّه! أين أبي؟ فقال: في النار، فلمّا ولّي الرجل قال عليه السلام له: إنّ أبي وأباك في النّار.

وليس لنا أنْ نقول هذا في أبويه صلّي اللَّه عليه وسلّم، لقوله صلّي اللَّه عليه وسلّم: لا تؤذوا الأحياء بسبب الأموات، واللَّه عزّ وجلّ يقول: «إنّ الذين استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 305

يؤذون اللَّه ورسوله» الآية» «1».

والواقع: إنّ السهيلي متذبذب مضطربٌ في هذا المقام، ويزيد ذلك وضوحاً قوله بعد ذلك:

«وإنّما قال النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لذلك الرجل هذه المقالة، لأنّه وجد في نفسه، وقد قيل: إنّه قال: أين أبوك أنت، فحينئذٍ قال ذلك.

وقد روي معمر بن راشد بغير هذا اللفظ، فلم يذكر أنّه قال له: إنّ أبي وأباك في النّار، ولكن

ذكر أنّه قال له: إذا مررت بقبر كافر فبشّره بالنّار.

وروي في حديثٍ غريب لعلّه أن يصحّ- وجدته بخطّ جدّي أبي عمرو- إنّ أحمد بن أبي الحسن القاضي رحمه اللَّه- بسند فيه مجهولون- ذكر أنّه نقله من كتاب انتسخ من كتاب معوذ بن داود بن معوذ الزاهد، يرفعه إلي أبي الزناد عن عروة عن عائشة: اخبرت أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم سأل ربّه أن يحيي أبويه، فأحياهما له وآمنا به ثمّ ماتا.

واللَّه قادر علي كلّ شي ء، وليس تعجز رحمته وقدرته عن شي ء، ونبيّه أهل أن يخصّه بما شاء من فضله وينعم عليه بما شاء من كرامته، صلّي اللَّه عليه وسلّم» «2».

بل رجع إلي قول أسلافه الموجب للّعن ووافق عليه، في موضعٍ آخر من كتابه، حيث قال في غزوة احد:

«ووقع في هذه الغزوة: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم جمع لسعدٍ

__________________________________________________

(1) الروض الانف 2: 185- 186 بتفاوتٍ يسير.

(2) الروض الانف 2: 187.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 306

أبويه فقال له: إرم فداك أبي وامّي. وروي الترمذي من طريق علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه قال: ما سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم يقول لأحدٍ فداك أبي وامّي إلّالسعد. وقال في روايةٍ اخري عنه: ما جمع رسول اللَّه أبويه إلّالسعد.

والرواية الاولي أصحّ واللَّه أعلم؛ لأنّه أخبر فيها أنّه لم يسمع، وقد روي الزبير بن العوام أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم جمع له أيضاً أبويه وقال له كما قال لسعد، ورواه عنه ابنه عبداللَّه بن الزبير، وأسنده في كتاب أنساب قريش الزبير ابن أبي بكر.

وفقه هذا الحديث أنّه جائز هذا الكلام لمن كان أبواه غير مؤمنين، وأمّا من كان أبواه مؤمنين

فلا؛ لأنّه كالعقوق لهما. كذلك سمعت شيخنا أبابكر يقول في هذه المسألة».

ومن الذين قالوا بالحقّ ودافعوا عنه: ابن حجر المكي، حتّي أنّه اعترض علي قول أبي حيّان الأندلسي بانحصار القول بإيمان آباء النبي بالإماميّة، فقد ذكر القسطلاني في (المواهب اللدنيّة):

«نقل الإمام أبو حيان في البحر عند تفسير قوله تعالي «وتقلّبك في السّاجدين» إنّ الرافضة هم القائلون إنّ آباء النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم كانوا مؤمنين، مستدلّين بقوله تعالي: «وتقلّبك في السّاجدين» وبقوله عليه السلام:

لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين، الحديث» «1».

قال شارحه الشبراملسي في (تيسير المطالب السنيّة):

«قوله: ونقل الإمام أبو حيان …

قال الشهاب ابن حجر في كتابه: النعمة الكبري علي العالم بمولد سيّد

__________________________________________________

(1) المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّديّة 1: 92.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 307

بني آدم: وقول بعضهم: ونقل أبو حيان … سوء تصرّف منه، لأنّه- أعني ناقل هذا الكلام عن أبي حيان- لو كان له أدني مسكة من علمٍ أو فهمٍ لتعقّب ما قاله أبو حيان أنّ الرافضة هم القائلون.. وقال له: هذا الحصر باطل منك، أيّها النحوي البعيد عن مدارك الاصول والفروع. كيف؟ وأئمّة الأشاعرة من الشافعيّة وغيرهم- علي ما مرّ التصريح به- في نجاة سائر آبائه صلّي اللَّه عليه وسلّم كبقيّة أهل الفترة، فلو كنت ذا إلمامٍ بذلك لما حصرت نقل ذلك عن الرافضة وزعمت أنّهم المستدلّون عليه بالآية والحديث. وهذا الفخر الرازي من أكابر أئمّة أهل السنّة قد استدلّ بهما ونقل ذلك عن غيره، فليتك أيّها الناقل عن أبي حيّان سكتَّ عن ذلك، ووقيت عرضك وعرضه من رشق سهام الصواب فيهما».

وهذا كلام ابن حجر المكي في (المنح المكيّة- شرح القصيدة الهمزيّة):

«وقول أبي حيان: إنّ الرافضة هم القائلون بأنّ آباء النبي

صلّي اللَّه عليه وسلّم مؤمنون غير معذَّبين، مستدلّين بقوله تعالي: «وتقلّبك في الساجدين».

فلك ردّه: بأنّ مثل أبي حيّان إنّما يرجع إليه في علم النحو وما يتعلّق بذلك، وأمّا المسائل الاصوليّة فهو عنها بمعزل، كيف والأشاعرة ومن ذكر معهم- فيما مرّ آنفاً- علي أنّهم مؤمنون، فنسبة ذلك للرافضة وحدهم- مع أنّ هؤلاء الذين هم أئمّة أهل السنّة قائلون به- قصور وأيّ قصور، تساهل وأيّ تساهل» «1».

فثبت- والحمد للَّه- أنّ القائلين بالقول الحقّ هم أهل الحقّ، وأنّ كثيراً من غيرهم أيضاً يشاركونهم في هذا القول.

__________________________________________________

(1) المنح المكيّة- شرح القصيدة الهمزيّة: 27.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 308

وقال السيوطي في (الدرج المنيفة في الآباء الشريفة):

«الدرجة الثالثة: أنّهما كانا علي التوحيد ودين إبراهيم عليه السّلام، كما كان علي ذلك طائفة من العرب، كزيد بن نفيل وقس بن ساعدة و ورقة بن نوفل وعمير ابن حبيب الجهني وعمر بن عنبسة، في جماعة آخرين، وهذه طريقة الإمام فخرالدين الرازي وزاد: إن آباء النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم كلّهم إلي آدم علي التوحيد ودين إبراهيم، لم يكن فيهم شرك.

قال: ممّا يدلّ علي أنّ آباءه صلّي اللَّه عليه وسلّم ما كانوا مشركين: قوله صلّي اللَّه عليه وسلّم: لم أزل أُنقل من أصلاب الطاهرين إلي أرحام الطاهرات، وقال تعالي: «إنّما المشركون نَجَسٌ» فوجب أن لا يكون أحد من أجداده مشركاً.

قال: ومن ذلك قوله تعالي: «الذي يراك حين تقوم وتقلّبك في الساجدين» معناه أنّه ينقل نوره من ساجد إلي ساجد.

قال: وبهذا التقرير، فالآية دالّة علي أنّ جميع آباء محمّد صلّي اللَّه عليه وسلّم كانوا مسلمين.

قال: وحينئذٍ يجب القطع بأنّ والد إبراهيم ما كان من الكافرين، إنّما كان ذاك عمّه، أقصي ما في الباب أن

يحمل قوله تعالي «وتقلّبك في الساجدين» علي وجوه اخري، وإذا وردت الروايات بالكلّ ولا منافاة بينهما، وجب حمل الآية علي الكلّ، وبذلك يثبت أنّ والد إبراهيم ما كان من عبدة الأوثان، وإنّ آزر لم يكن والده بل كان عمّه، إنتهي ملخّصاً.

وقد وافقه علي الإستدلال بالآية الإمام الماوردي صاحب الحاوي الكبير من أئمّة أصحابنا.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 309

وقد وجدت ما يعضد هذه المقالة من الأدلّة ما بين مجمل ومفصّل؛ فالمجمل: دليل مركّب من مقدّمتين: إحداهما: أنّ الأحاديث الصحيحة دلّت علي أنّ كلّ أصل من اصوله صلّي اللَّه عليه وسلّم من أبيه إلي آدم خير أهل زمانه. والثانية: إنّ الأحاديث والآثار دلّت علي أنّ اللَّه لم يخل الأرض من عهد نوح إلي بعثة النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم من ناس علي الفطرة، يعبدون اللَّه ويوحّدونه ويصلّون له وبهم يحفظ الأرض، ولولاهم لهلكت الأرض ومن عليها.

ومن أدلّة المقدّمة الاولي حديث البخاري: بعثت من خير قرن بني آدم، قرناً فقرناً، حتّي بعثت من القرن الذي كنت فيه.

وحديث البيهقي: ما افترقت الناس فرقتين إلّاجعلني اللَّه في خيرهما، فاخرجت من بين أبوي فلم يصبني شي ء من عهد الجاهليّة، وخرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم حتّي انتهيت إلي أبي وامّي؛ فأنا خيركم نفساً وخيركم أباً.

وحديث أبي نعيم وغيره: لم يزل اللَّه ينقلني من الأصلاب الطيّبة إلي الأرحام الطاهرة مصفّي مهذّباً، لا يتشعّب شعبتان إلّاكنت في خيرهما.

في أحاديث كثيرة.

ومن أدلّة المقدّمة الثانية: ما أخرجه عبدالرزاق في المصنّف، وابن المنذر في تفسيره- بسند صحيح علي شرط الشيخين- عن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه قال: لم يزل علي وجه الأرض من يعبد اللَّه عليها.

وأخرج الإمام أحمد

بن حنبل في الزهد، والخلّال في كرامات الأولياء- بسند صحيح علي شرط الشيخين- عن ابن عبّاس رضي اللَّه عنه: ماخلت استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 310

الأرض من بعد نوح من شعبة يدفع اللَّه بهم عن أهل الأرض.

في آثار اخر.

وإذا قرنت بين هاتين المقدمتين، انتج منهما قطعاً: أنّ آباء النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم لم يكن فيهم شرك؛ لأنّه قد ثبت في كلّ منهم أنّه خير قرنه، فإن كان الناس الذين هم علي الفطرة هم آباؤه فهو المدّعي، وإن كان غيرهم وهم علي الشرك، لزم أحد الأمرين: إمّا أن يكون المشرك خيراً من المسلم، وهو باطل بنصّ القرآن والإجماع، وإمّا يكون غيرهم خيراً منهم، وهو باطل، لمخالفته الأحاديث الصحيحة.

فوجب قطعاً أن لا يكون فيهم مشرك، ليكونوا خير أهل الأرض، كلّ في قرنه» «1».

وقال ابن حجر بشرح:

«لم تزل في ضمائر الكون تختار لك الامّهات والآباء»

قال ما نصّه:

«تنبيه: لك أن تأخذ من كلام الناظم، الذي علمت أنّ الأحاديث مصرّحة به لفظاً في أكثره ومعني في كلّه: أنّ آباء النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم- غير الأنبياء- وامّهاته إلي آدم وحوّاء ليس فيهم كافر؛ لأنّ الكافر لا يقال في حقّه أنّه مختار ولاكريم ولا طاهر بل نجس كما في آية «إنّما المشركون نَجَسٌ».

وقد صرّحت الأحاديث السابقة بأنّهم مختارون، وأنّ الآباء كرام، وإنّ الامّهات طاهرات.

وأيضاً: فهم إلي إسماعيل كانوا من أهل الفترة، وهم في حكم المسلمين __________________________________________________

(1) الدرج المنيفة في الآباء الشريفة (ضمن الرسائل العشر): 32- 34.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 311

بنصّ الآية الآتية، وكذا من بين كلّ رسولين.

وأيضاً: قال تعالي: «وتقلّبك في الساجدين» علي أحد التفاسير فيه: أنّ المراد ينقل نوره من ساجد إلي ساجد. وحينئذٍ،

فهذا صريح في أنّ أبوي النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم- آمنة وعبداللَّه- من أهل الجنّة، لأنّهما أقرب المختارين له صلّي اللَّه عليه وسلّم.

وهذا هو الحقّ، بل في حديث- صحّحه غير واحد من الحفّاظ ولم يلتفتوا لمن طعن فيه-: أنّ اللَّه تعالي أحياهما فآمنا به. خصوصيّة لهما وكرامة له عليه السلام.

فقول ابن دحية يردّه القرآن والإجماع، ليس في محلّه؛ لأنّ ذلك ممكن شرعاً وعقلًا، علي جهة الكرامة والخصوصيّة، فلا يردّه قرآن ولا إجماع.

وكون الإيمان لا ينفع بعد الموت. محلّه في غير الخصوصيّة والكرامة.

وقد صحّ أنّه عليه السلام ردّت عليه الشمس بعد مغيبها فعاد الوقت حتّي صلّي عليّ العصر أداء، كرامة له صلّي اللَّه عليه وسلّم، فكذا هنا، وطعن بعضهم في صحّة هذا بما لا يجدي أيضاً.

وخبر أنّه تعالي لم يأذن لنبيّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في الإستغفار لأبويه، إمّا كان قبل إحيائهما له وإيمانهما به، أو أنّ المصلحة اقتضت تأخير الإستغفار لهما عن ذلك الوقت، فلم يؤذن له فيه حينئذٍ.

فإن قلت: إذا قرّرتم أنّهما من أهل الفترة، وأنّهم لا يعذّبون، فما فائدة الإحياء؟

قلت: فائدته إتحافهما بكمال لم يحصل لأهل الفترة؛ لأنّ غاية أمرهم أنّهم الحقوا بالمسلمين في مجرّد السلامة من العقاب، وأمّا مراتب الثواب استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 312

العليّة فهم بمعزل عنها، فاتحفا بمرتبة الإيمان زيادة في شرف كمالهما لحصول تلك المراتب لهما. وفي هذا مزيد ذكرته في الفتاوي.

ولا يرد علي الناظم آزر، فإنه كافر مع أنّ اللَّه تعالي ذكر في كتابه العزيز أنّه أبو إبراهيم صلوات اللَّه وسلامه عليه، وذلك لأنّ أهل الكتابين أجمعوا علي أنّه لم يكن أباً حقيقة وإنّما كان عمّه، والعرب تسمّي العمّ أباً، بل في القرآن ذلك، قال

تعالي: «وإله آبائي إبراهيم وإسماعيل» مع أنّه كان عمّ يعقوب، بل لو لم يجمعوا علي ذلك وجب تأويله بهذا جمعاً بين الأحاديث، وأمّا من أخذ بظاهره- كالبيضاوي وغيره- فقد تساهل واستروح» «1».

هذا، والأعجب من ذلك كلّه: قدح جماعة من أئمّتهم في نسب النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، بدعوي أنّ كنانة زوجة خزيمة قد مكَّنت أباها من نفسها، فكان النضر بن كنانة، وهو من أجداده صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم …

أعاذنا اللَّه من الإفتراء والبهتان والإرتباك في العمي والخذلان، وتفصيل هذه القصّة الشنيعة في (الروض الأنف) و (المعارف) وغيرهما من كتب القوم «2».

تنبيه حول رأي الرازي … ص: 312

قد تقدَّم في كلام السيوطي وابن حجر المكي: أنّ الفخر الرازي من القائلين بإسلام آباء النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وأنّ السيوطي والقسطلاني نقلا ذلك عنه في كتابه (أسرار التنزيل)، فاقتضي ذلك مراجعة الكتاب المذكور، ومراجعة (التفسير الكبير).

__________________________________________________

(1) المنح المكيّة- شرح القصيدة الهمزيّة: 25- 26.

(2) الروض الانف 2: 356- 357، المعارف لابن قتيبة: 130.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 313

أمّا في (التفسير الكبير) فقد وجدنا الرازي- وللأسف الشديد- يحاول إثبات القول المخالف للحق، فكان من الضروري الوقوف علي كلامه في (أسرار التنزيل) لمعرفة مدي صحّة ما نسبوا إليه، حتّي عثرنا عليه فوجدناه كذلك، فإنّه ينقل القول الحقّ الصحيح ثمّ يردّ عليه بزعمه، غير أنّه في (التفسير الكبير) ينسب القول الحق والإستدلال عليه إلي الإماميّة بصراحةٍ، أمّا في (أسرار التنزيل) فيذكر في والد سيّدنا إبراهيم عليه السلام قولين- بلا نسبةٍ لأحد- أحدهما: كون آزر والده، والآخر: أنّه لم يكن والده … فأورد للاستدلال علي هذا القول ما نقله السيوطي وغيره عنه … ثمّ جعل يردّ عليه … وكأنّ السيوطي لم يلحظ

آخر كلامه، فنسب إليه القول بالحق، والحال أنّه ليس كذلك.

وإليك نصّ كلامه في (التفسير الكبير):

«قالت الشيعة: أنّ أحداً من آباء الرسول وأجداده ما كان كافراً، وأنكروا أن يقال أنّ والد إبراهيم كان كافراً، وذكروا أنّ آزر كان عمّ إبراهيم عليه السلام وما كان والداً له، واحتجّوا علي قولهم بوجوه:

الحجّة الاولي: إنّ آباء الأنبياء ما كانوا كفّاراً، ويدلّ عليه وجوه: منها قوله تعالي: «الذي يراك حين تقوم وتقلّبك في الساجدين» «1»

قيل: معناه أنّه كان ينقل روحه من ساجد إلي ساجد، وبهذا التقرير فالآية دالّة علي أنّ جميع آباء محمّد عليه السلام كانوا مسلمين، وحينئذٍ، يجب القطع بأنّ والد إبراهيم كان مسلماً.

فإن قيل: «وتقلّبك في الساجدين» يحتمل وجوهاً اخري:

__________________________________________________

(1) سورة الشعراء 26: 218- 219.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 314

أحدها: أنّه لمّا نسخ فرض قيام اللّيل، طاف الرسول عليه السلام تلك اللّيلة علي بيوت أصحابه لينظر ماذا يصنعون، لشدّة حرصه علي ما يظهر منهم من الطاعات، فوجدها كبيوت الزنابير، لكثرة ما يسمع من أصوات قراءتهم وتسبيحهم وتهليلهم، فالمراد من قوله «وتقلّبك في الساجدين» طوافه صلوات اللَّه عليه تلك اللّيلة علي الساجدين.

وثانيها: المراد أنّه عليه السلام كان يصلّي بالجماعة، فتقلّبه في الساجدين معناه: كونه فيما بينهم ومختلطاً بهم حال القيام والركوع والسجود.

وثالثها: أن يكون المراد أنّه لا يخفي حالك علي اللَّه كلّما قمت وتقلّبت مع الساجدين في الاشتغال بامور الدين.

ورابعها: المراد تقلّب بصره فيمن يصلّي خلفه، والدليل عليه قوله عليه السلام: أتمّوا الركوع والسجود فإنّي أراكم من وراء ظهري.

فهذه الوجوه الأربعة ممّا يحتملها ظاهر الآية، فسقط ما ذكرتم.

والجواب: لفظ الآية محتمل للكلّ، وليس حمل الآية علي البعض أولي من حملها علي الباقي، فوجب أن نحملها علي الكلّ،

وحينئذٍ حصل المقصود.

وممّا يدلّ أيضاً علي أنّ أحداً من آباء محمّد عليه السلام ما كان من المشركين: قوله عليه السلام: «لم أزل أُنقل من أصلاب الطاهرين إلي أرحام الطاهرات»، وقال تعالي: «إنّما المشركون نَجَسٌ» «1»

وذلك يوجب أن يقال:

أنّ أحداً من أجداده ما كان من المشركين.

إذا ثبت هذا فنقول: ثبت بما ذكرنا أنّ والد إبراهيم عليه السلام ما كان __________________________________________________

(1) سورة التوبة 9: 28.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 315

مشركاً، وثبت أنّ آزر كان مشركاً، فوجب القطع بأنّ والد إبراهيم كان إنساناً آخر غير آزر …

وأمّا أصحابنا، فقد زعموا أنّ والد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم كان كافراً، وذكروا أنّ نصّ الكتاب في هذه الآية يدلّ علي أنّ آزر كان كافراً، وكان والد إبراهيم عليه السلام، وأيضاً: قوله تعالي: «وما كان استغفار إبراهيم لأبيه» «1»

إلي قوله «فلمّا تبيّن له أنّه عدوٌّ للَّه تبرّأ منه» «2»

وذلك يدلّ علي قولنا. وأمّا قوله «وتقلّبك في الساجدين» قلنا: قد بيّنّا أنّ هذه الآية تحتمل سائر الوجوه، قوله: تحمل هذه الآية علي الكل، قلنا: هذا محال، لأنّ حمل اللفظ المشترك علي جميع معانيه لا يجوز، وأيضاً: حمل اللفظ علي حقيقته ومجازه معاً لا يجوز.

وأمّا قوله عليه السلام: لم أزل أُنقل من أصلاب الطاهرين إلي أرحام الطاهرات، فذلك محمول علي أنّه ما وقع في نسبه ما كان … » «3».

وقال في (أسرار التنزيل):

«أمّا قوله تعالي «وإذ قال إبراهيم لأبيه» «4»

ففيه مسائل:

المسألة الاولي: في آزر قولان:

الأوّل: إنّه والد إبراهيم عليه السلام، ولهم في ذلك دلائل:

الحجّة الاولي: ظاهر لفظ القرآن في هذه الآية يدلّ علي ذلك، ثمّ إنّ ظاهر هذه الآية متأكّد بآيات اخري، منها: قوله تعالي في سورة مريم: «إذ قال __________________________________________________

(1)

سورة التوبة 9: 114.

(2) سورة التوبة 9: 114.

(3) تفسير الرازي 13: 38- 40.

(4) سورة الأنعام 6: 74.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 316

لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر» «1»

وقال أيضاً: «ما كان استغفار إبراهيم لأبيه» إلي قوله: «فلمّا تبيّن له أنّه عدوّ للَّه تبرّأ منه»، فكلّ هذه الآيات تدلّ علي أنّ أبا إبراهيم كان كافراً عابداً للوثن.

الحجّة الثانية: إنّ العرب سمعوا هذه الآية، وقد كانوا أحرص الناس علي تكذيب الرسول وأعظمهم رغبة في براءة شجرة النسب عن كلّ عيب، فلو لم يكن آزر والد إبراهيم لتسارعوا إلي تكذيبه، ولوجدوا ذلك غنيمة عظيمة في الطعن فيه.

الحجّة الثالثة: إنّه تعالي ذكر قصّة إبراهيم عليه السلام مع أبيه في آيات كثيرة، ولم يذكر اسم العمّ في القرآن، فيتعذّر حمل لفظ الأب في هذه الآية علي العم.

القول الثاني: إنّ آزر لم يكن والد إبراهيم عليه السلام. واحتجّوا عليه بوجوه:

الأوّل: إنّ آباء الأنبياء ما كانوا كفّاراً، ويدلّ عليه وجوه:

منها: قوله تعالي: «الذي يراك حين تقوم وتقلّبك في الساجدين» قيل:

معناه أنّه كان ينتقل روحه من ساجد إلي ساجد، وبهذا التقرير، فالآية دالّة علي أنّ جميع آباء محمّد عليه السلام كانوا مسلمين، وحينئذٍ، يجب القطع بأنّ والد إبراهيم ما كان من الكافرين، أقصي ما في الباب أن يحمل قوله تعالي «وتقلّبك في الساجدين» علي وجوه:

منها: إنّه لمّا نسخ فرض قيام الليل طاف الرسول عليه السلام تلك الليلة علي بيوت أصحابه لينظر ماذا يصنعون، لشدّة حرصه علي ما يظهر منهم من __________________________________________________

(1) سورة مريم 19: 42.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 317

الطاعات، فوجدها كبيوت الزنابير لكثرة ما يسمع من دندنتهم بذكر اللَّه، فالمراد من قوله «وتقلّبك في الساجدين»

طوفه عليه السلام علي الساجدين في تلك الليلة.

ومنها: المراد يراك حين تقوم للصّلاة بالناس جماعة، وتقلّبه في الساجدين: كونه فيما بينهم بقيامه وركوعه وسجوده؛ لأنّه كان إماماً.

ومنها: أنّه لا يخفي علي اللَّه حالك كلّما قمت وتقلّبت مع الساجدين، في الإشتغال بأمر الدين.

ومنها: المراد تقلّب بصره فيمن يصلّي خلفه من قوله: أتمّوا الركوع والسجود فإنّي أراكم من ورائي وخلفي.

فهذه الآية وإن كانت تحتمل هذه الوجوه الأربعة، إلّاأنّ الوجه الذي ذكرناه الآن أيضاً محتمل، والروايات وردت بالكلّ، ولا منافاة بين هذه الوجوه، فوجب حمل الآية علي الكلّ، ومتي صحّ ذلك ثبت أنّ والد إبراهيم ما كان من عبدة الأوثان.

وممّا يدلّ علي أنّ آباء محمّد عليه السلام ما كانوا من المشركين: قوله عليه السلام: لم أزل أُنتقل من أصلاب الطاهرين إلي أرحام الطاهرات، وقال تعالي: «إنّما المشركون نجس»، فوجب أن لا يكون أحد من آبائه مشركاً.

الحجّة الثانية علي أنّ آزر ما كان والد إبراهيم عليه السلام: إنّ هذه الآية دالّة علي أنّ إبراهيم شافه آزر بالغلظة، ومشافهة الأب بالغلظة لا تجوز، وذلك يدلّ علي أنّ آزر ما كان والد إبراهيم. أما إنّ إبراهيم شافه آزر بالغلظة، فلوجهين:

الأوّل: إنّه قري ء «وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر» بضمّ آزر، وهذا يكون استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 318

محمولًا علي النداء، ومخاطبة الأب ونداؤه بالإسم من أعظم أنواع الجفاء.

الثاني: إنّه قال لآزر: «إنّي أراك وقومك في ضلال مبين» وهو من أعظم أنواع الإيذاء.

فثبت أنّه شافه آزر بالغلظة.

وإنّما قلنا أنّ مشافهة الأب بالغلظة لا يجوز، لوجوه:

الأوّل: قوله تعالي: «وقضي ربّك ألّا تعبدوا إلّاإيّاه وبالوالدين إحساناً» وهذا عام في حقّ الكافر والمسلم. وقال تعالي: «لا تقل لهما افٍّ ولا تنهرهما» وهذا أيضاً عام.

الثاني:

إنّه تعالي لمّا بعث موسي إلي فرعون أمره بالرفق معه، قال تعالي: «فقولا له قولًا ليّناً» والسبب في ذلك أن يصير هذا رعاية لحقّ تربية فرعون، فهاهنا الوالد أولي بالرفق.

الثالث: إنّ الدعوة مع الرفق أكثر تأثيراً في القلب، وأمّا التغليظ فإنّه ينفّر السامع عن القبول، ولهذا قال تعالي لمحمّد عليه السلام: «وجادلهم بالتي هي أحسن»، فكيف يليق بإبراهيم هذه الخشونة مع أبيه في وقت الدعوة.

الرابع: إنّه تعالي حكي عن إبراهيم عليه السلام الرفق الشديد مع هذا المسمّي بالأب، وهو قوله: «يا أبت لِمَ تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً»، ثمّ إنّ ذلك الإنسان غلظ معه في القول فقال: «لئن لم تنته لأرجمنّك»، ثمّ إنّ إبراهيم عليه السلام ما ترك الرفق معه بل قال: «سلام عليك سأستغفر لك ربّي»، فإذا كان عادة إبراهيم في الرفق والقول الحسن هذا، فكيف يليق أن يظهر الخشونة والغلظة مع أبيه؟

فثبت بهذه الحجّة أنّ آزر ما كان والد إبراهيم.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 319

الحجّة الثالثة: إنّه جاء في كتب التواريخ: أنّ اسم والد إبراهيم عليه السلام تارخ، وأمّا آزر فهو كان عمّ إبراهيم.

ثمّ إنّ القائلين بهذا القول أجابوا عن دلائل أصحاب القول الأوّل فقالوا:

القرآن وإن دلّ علي تسمية آزر بالأب، إلّاأنّ هذا لا يدلّ علي القطع بكونه والداً له، وذلك، لأنّ لفظة الأب فقد تطلق علي العمّ، قال تعالي حكاية عن أولاد يعقوب: «نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل» فسمّوا إسماعيل أباً ليعقوب، مع أنّ إسماعيل كان عمّاً ليعقوب، وقال رسولنا عليه السلام: ردّوا علَيّ أبي. يعني العبّاس. وأيضاً: يحتمل أن يكون آزر كان أب ام إبراهيم، وهذا قد يقال له الأب، قال تعالي: «ومن

ذرّيّته داود وسليمان» إلي قوله: «وعيسي»، فجعل عيسي من ذرّيّة إبراهيم مع أنّه كان جدّه من قبل الامّ، وبهذا ظهر الجواب عن الحجّة الثانية، وذلك لأنّ تسمية العم بالأب مشهور في اللغة العربيّة، فلهذا السبب في هذه الآية ما كذّبوه.

هذا تمام هذا الكلام في نصرة هذا القول.

واعلم أنّ القول الأوّل أولي، وذلك لأنّ ظاهر لفظ الأب يدلّ علي الوالد.

أمّا التمسّك بقوله تعالي: «وتقلّبك في الساجدين» فهو محمول علي سائر الوجوه، ولا نحمله علي أنّ روحه كانت تنتقل من ساجد إلي ساجد، محافظة علي ظاهر الآية التي تمسّكنا بها وهو قوله «لأبيه آزر».

وأمّا الحجّة الثانية فجوابها: إنّكم تمسّكتم بعمومات دالّة علي أنّه لا يجوز إظهار الخشونة مع الأب فنقول: إن قلنا بما ذكرتم سَلِمَتْ تلك العمومات عن هذا التخصيص، إلّاأنّه وجب حمل لفظ الأب علي المجاز، وإن أجرينا لفظ الأب علي حقيقته، لزمنا إدخال التخصيص في تلك استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 320

العمومات، لكنّا بيّنّا في اصول الفقه إنّه مهما وقع التعارض بين المجاز والتخصيص، كان التزام التخصيص أولي، فكان الترجيح معنا» «1».

أقول:

وأمّا تشكيكات الرازي- المعروف بإمام المشكّكين- في استدلال أهل الحق بالآية «وتقلّبك في الساجدين» والحديث المذكور، فركيكة جدّاً.

أمّا في الآية فغاية ما قال: إنّ حمل اللفظ المشترك علي جميع معانيه غير جائز، كحمل اللفظ الواحد علي كلا معنييه الحقيقي والمجازي، وفيه:

أوّلًا: إنّه متي ورد بتفسير الآية المباركة رواية من أهل السنّة تثبت قول أهل الحق، صحّ الاستدلال بها، لمطابقتها روايات أهل البيت عليهم السلام واعتضادها بالأدلّة السديدة الاخري، وحينئذٍ، لا يلتفت إلي الأقوال والتفاسير الاخري للآية، ولا تكون قادحةً في هذا الاستدلال.

وقد عرفت من كلام السيوطي احتجاج الماوردي صاحب كتاب (الحاوي) بالآية

علي إسلام آباء النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وكفي بذلك ردعاً للشبهات ودفعاً للتوهّمات.

وثانياً: إنّ إرادة المعاني المتعدّدة من اللفظ المشترك جائز عند الشافعي وهو إمام الفخر الرازي، بل لقد قال بوجوبه عند عدم المخصّص … وقد ذكر الرازي نفسه هذا القول عن الشافعي في كتابه الذي ألّفه في ترجيح مذهبه- أي الشافعي- علي سائر المذاهب، ودافع عنه ونصّ علي موافقة أجلّة الاصوليّين معه، وهذا نصّ عبارة الرازي:

«المسألة الرابعة: عابوا عليه قوله: اللفظ المشترك محمول علي جميع __________________________________________________

(1) أسرار التنزيل للفخر الرازي: 296- 272، الباب الثاني، الفصل الأوّل.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 321

معانيه عند عدم المخصص. قالوا: والدليل علي أنّه غير جائز: أنّ الواضع وضعه لأحد المعنيين فقط، فاستعماله فيهما يكون مخالفةً للّغة.

وأقول: إنّ كثيراً من الاصوليّين المحقّقين وافقوه عليه، كالقاضي أبي بكر الباقلاني والقاضي عبدالجبار بن أحمد، ووجه قوله فيه ظاهر، وهو أنّه لمّا تعذَّر التعطيل والترجيح لم يبق إلّاالجمع. وإنّما قلنا: إنّه تعذّر التعطيل، لأنّه تعالي إنّما ذكره للبيان والفائدة، والقول بالتعطيل إخراج له عن كونه بياناً، وإنّما قلنا: إنّه تعذّر الترجيح، لأنّه يقتضي ترجيح الممكن من غير مرجح وهو محال. ولمّا بطل القسمان لم يبق إلّاالجمع. وهذا وجه قويّ حسن في المسألة، وإنْ كنّا لا نقول به» «1».

فظهر: إنّ هذا القول قول إمامه الشافعي، وغير واحدٍ من الأئمّة موافقون له، والرازي يدافع عنه بوجهٍ قوي حسن.

وإذا كان الرازي لا يوافق عليه في (التفسير الكبير)، فهو موافق له في (أسرار التنزيل) حيث يقول:

«أمّا التمسّك بقوله تعالي: «وتقلّبك في الساجدين» فهو محمول علي سائر الوجوه، ولا نحمله علي أنّ روحه كانت تنتقل من ساجدٍ إلي ساجد» «2».

فإنّ معني الحمل علي سائر

الوجوه هو الحمل علي المعاني المتعدّدة.

وأمّا في الحديث- وهو قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: لم أزل انقل من أصلاب الطاهرين- فحاصل استدلال أهل الحق هو: إنّ اللَّه تعالي وصف المشركين بالنجاسة وهي ضدّ الطهارة، فلو كان آباؤه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم __________________________________________________

(1) رسالة الرازي في ترجيح مذهب الشافعي- المسألة الرّابعة.

(2) أسرار التنزيل: 272، الباب الثاني، الفصل الأوّل.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 322

مشركين لما وصفهم بالطهارة، وإلّا لزم اجتماع الضدّين.

ولم يتعرَّض الفخر الرازي للجواب عن هذا الاستدلال، والحديث منقول بطرقٍ متعدّدة، فحاول تأويله بما لم يرتضه هو في (أسرار التنزيل) حيث لم يذكره أصلًا، وإنّما قال:

«وأمّا الحديث، فهو خبر واحد فلا يعارض القرآن».

ولا يخفي وهن هذا الكلام … وكم من موردٍ قد رفعوا اليد فيه عن ظاهر القرآن بخبرٍ واحد!!

ثمّ إنّ عدم كون آزر والداً لسيّدنا إبراهيم عليه السلام ليس قول أهل الحق وحدهم، فقد وافقهم غير واحدٍ من أئمّة المفسّرين، كما ذكر السيوطي في (الدرج المنيفة).

هذا، ويعجبني في هذا المقام كلام شارح (مسلّم الثبوت)، فإنّه مع مرائه التام وتعصّبه الشديد الشائع بين الخاص والعام، أتي بما يجلو صدء الأفهام ويزيح ظلمة الشكوك والأوهام، حيث قال في (فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت):

«وأمّا الواقع، فالمتوارث من لدن آدم عليه السلام أبي البشر إلي نبيّنا ومولانا أفضل الرسل وأشرف الخلق محمّد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم:

أنّه لم يبعث نبيّ قطّ أشرك باللَّه طرفة عين، وعليه نصّ الإمام أبو حنيفة رحمه اللَّه في الفقه الأكبر، وفي بعض المعتبرات أنّ الأنبياء عليهم السلام معصومون عن حقيقة الكفر وعن حكمه بتبعيّة آبائهم، وعلي هذا، فلابدّ من أن يكون تولّد الأنبياء بين أبوين مسلمين أو يكون موتهما

قبل تولّدهم، لكن الشقّ الثاني قلّما يوجد في الآباء ولا يمكن في الامّهات، ومن هاهنا بطل ما نسب استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 323

بعضهم من الكفر إلي امّ سيّد العالم مفخر بني آدم، صلوات اللَّه عليه وعلي آله وأصحابه وسلامه، وذلك لأنّه حينئذٍ يلزم نسبة الكفر بالتبع، وهو خلاف الإجماع، بل الحقّ الراجح هو الأوّل.

وأمّا الأحاديث الواردة في أبوي سيّد العالم صلوات اللَّه عليه وعلي آله وأصحابه وسلامه، متعارضة مرويّة آحاداً، فلا تعويل عليها في الإعتقاديّات.

وأمّا آزر، فالصحيح أنّه لم يكن أبا إبراهيم عليه السلام بل أبوه تارخ، كذا صحّح في بعض التواريخ، وإنّما كان آزر عمّ إبراهيم عليه السلام وربّاه اللَّه تعالي في حجره، والعرب تسمّي العم الذي ولي لتربية ابن أخيه أباً له، وعلي هذا التأويل قوله تعالي: «وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر»، وهو المراد بما روي في بعض الصحاح أنّه نزل في أبي سيّد العالم صلوات اللَّه عليه: «ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا اولي قربي من بعد ما تبيّن لهم أنّهم أصحاب الجحيم»، فإنّ المراد بالأب العم، كيف لا؟ وقد وقع صريحاً في صحيح البخاري أنّه نزل في أبي طالب. هذا.

وينبغي أن يعتقد أنّ آباء سيّد العالم- صلّي اللَّه عليه وآله وأصحابه وسلّم- من لدن أبيه إلي آدم كلّهم مؤمنون، وقد بيّن السيوطي بوجه أتم» «1» إنتهي.

__________________________________________________

(1)

فواتح الرحموت- شرح مسلّم الثبوت- علي هامش المستصفي 2: 98.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 325

الصَّلاة علي غير النبي … ص: 325

اشارة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 327

قال الرازي في (التفسير الكبير):

«إنّ أصحابنا يمنعون من ذكر «صلوات اللَّه عليه» و «عليه السلام» إلّافي حق الرسول. والشّيعة يذكرونه في عليّ وأولاده. واحتجّوا عليه:

بأنّ نصّ القرآن دلّ علي أنّ هذا الذكر جائز في حقّ من يؤدّي الزكاة، فكيف يمنع ذكره في حقّ عليّ والحسن والحسين؟

ورأيت بعضهم يقول: أليس إنّ الرجل إذا قال: سلام عليكم، فقيل له:

وعليكم السلام، فدلّ هذا علي أنّ ذكر هذا اللفظ جائز في حقّ جمهور المسلمين، فكيف يمنع ذكره في حقّ أهل بيت الرسول صلّي اللَّه عليه وسلّم؟».

هل الصّلاة علي غير النبي من بدع الشيعة؟ … ص: 327

بل ذكر بعضهم أنّ هذا، أي الصّلاة علي غير الأنبياء، من بدع الشيعة، فتجب مخالفتهم، قال القاضي عياض:

«والذي ذهب إليه المحقّقون- وأميل إليه- ما قاله مالك وسفيان- رحمهما اللَّه- وروي عن ابن عبّاس، واختاره غير واحدٍ من الفقهاء والمتكلّمين: إنّه لا يصلّي علي غير الأنبياء عند ذكرهم، بل هو شي ء يختصّ به الأنبياء توقيراً لهم وتعزيزاً، كما يخصّ اللَّه عند ذكره بالتنزيه والتقديس والتعظيم، ولا يشاركه فيه غيره، وكذلك يجب تخصيص النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم وسائر الأنبياء بالصلاة والتسليم، ولا يشارك فيه سواهم، كما أمر اللَّه به استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 328

بقوله تعالي: «صلّوا عليه وسلّموا تسليماً»، ويذكر من سواهم من الأئمّة وغيرهم بالغفران والرضا كما قال تعالي: «يقولون ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان» وقال: «والذين اتّبعوهم بإحسان رضي اللَّه عنهم».

وأيضاً: فهو أمر لم يكن معروفاً في الصدر الأوّل، كما قال أبو عمران، وإنّما أحدثته الرافضة والمتشيّعة في بعض الأئمّة، فشاركوهم عند الذكر لهم بالصّلاة، وساووهم بالنبي صلّي اللَّه عليه وسلّم في ذلك.

وأيضاً، فإنّ التشبّه بأهل البدع منهيّ عنه، فتجب مخالفتهم فيما التزموه» «1».

أقول:

الأحاديث المتفق عليها في أمر النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم بالصّلاة علي أهل بيته مع الصّلاة عليه، ونهيه عن الصّلاة البتراء … كثيرة … «2»، بل مقتضي

قوله تعالي: «وَصَلِّ عليهم إنّ صلاتك سَكَنٌ لهم» هو جواز الصلاة- بمعني طلب الرحمة- لسائر المسلمين المستحقّين لذلك، والذين هم أهل للدعاء لهم …

لكنّ من نفس هذه الكلمات يظهر أنْ ليس هذا المنع منهم إلّاتعصّباً وعناداً لأهل البيت وشيعتهم … وإلّا، فأيّ معني للصّلاة علي الجارية المليحة وعلي كلّ مليح كما عن إمامهم يحيي بن معين!!

__________________________________________________

(1) الشفا بتعريف حقوق المصطفي 2: 191- 192.

(2) أخرجها البخاري ومسلم وسائر أرباب السنن والمسانيد والمفسّرون بتفسير الآية «إنّ اللَّه وملائتكه يصلّون علي النبي … » ولعلّ أجمعها (الدر المنثور 5: 215- 219) وفي (الصواعق) بذيل الآية: ويروي: لا تصلّوا عليّ الصلاة البتراء، فقالوا: وما الصلاة البتراء؟ قال تقولون: اللهمّ صلّ علي محمّد، وتمسكون، بل قولوا: اللهمّ صلّ علي محمّد وآل محمّد.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 329

ويحيي بن معين يقول في جاريةٍ: صلّي اللَّه عليك! … ص: 329

قال ابن الجوزي في (تلبيس إبليس):

«وجاء محمّد بن طاهر المقدسي فصنّف لهم- أي للصوفيّة- صفة التصوّف، فذكر فيه أشياء يستحيي العاقل من ذكرها، وسنذكر منها ما يصلح ذكره في مواضعه إن شاء اللَّه تعالي. وكان شيخنا أبوالفضل ابن ناصر الحافظ يقول: كان ابن طاهر يذهب مذهب الإباحة، قال: وقد صنّف كتاباً في جواز النظر إلي المرد، وأورد فيه حكاية عن يحيي بن معين: رأيت جاريةً بمصر مليحة صلّي اللَّه عليها، فقيل له: تصلّي عليها؟! فقال: صلّي اللَّه عليها وعلي كلّ مليح» «1».

لكنّ محمّد بن طاهر المقدسي عندهم من كبار الحفّاظ، وقد أثنوا عليه بالغ الثناء … «2»، فلماذا هذا التناقض؟

علي أنّ صلاة يحيي بن معين هذه رواها سائر الأكابر أيضاً، ففي (تهذيب الكمال):

«قال الحسين بن محمّد: سمعت يحيي بن معين، وذكر عنده حسن الجواري، قال: كنت بمصر، فرأيت جاريةً بيعت بألف دينار ما

رأيت أحسن منها صلّي اللَّه عليها. فقلت: يا أبا زكريا! مثلك يقول هذا؟ قال: نعم، صلّي اللَّه عليها وعلي كلّ مليح» «3».

__________________________________________________

(1) تلبيس إبليس: 190.

(2) انظر: سير أعلام النبلاء 19/ 361 ومصادر ترجمته في الهامش.

(3) تهذيب الكمال في أسماء الرجال: 561/ 6926.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 330

وقال بعضهم في يزيد: عليه السلام!!! … ص: 330

والعجب أنّهم يقولون ليزيد بن معاوية «عليه السلام» ويجعلون إنكار ذلك دليلًا علي الترفّض!!

قال الصفدي بترجمة إبراهيم بن أبي بكر عبدالعزيز من (الوافي بالوفيات):

«وكان يترفَّض. قيل: إنّه جاء إليه إنسان في بعض الأيّام وقال له: هل عندك كتاب فضائل يزيد عليه السلام؟ فقال: نعم، ودخل إلي داخل الدكان وخرج وفي يده جراب عتيق وجعل يضربه علي رأسه ويقول: العجب كم لك ما قلت صلّي اللَّه عليه وسلّم، ويكرّرها» «1».

الأقوال والأدلّة كما ذكر ابن حجر … ص: 330

لكنّ القوم في حكم المسألة مختلفون، فعندهم قول بالجواز مطلقاً، وهو المحكي عن أحمد وأبي حنيفة وجماعة … قال ابن حجر في (فتح الباري):

«وأمّا المؤمنون فاختلف فيه:

فقيل: لا يجوز إلّاعلي النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم خاصّة؛ حكي عن مالك كما تقدّم.

وقالت طائفة: لا يجوز مطلقاً استقلالًا ويجوز تبعاً فيما ورد به النصّ أو الحق به، لقوله تعالي: «لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً»، ولأنّه لمّا علّمهم السلام قال: السلام علينا وعلي عباده الصالحين، ولمّا علّمهم الصلاة قصّر عليه وعلي أهل بيته؛ وهذا القول اختاره القرطبي في المفهم __________________________________________________

(1) الوافي بالوفيات 5: 339/ 2407.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 331

وأبوالمعالي من الحنابلة، وقد تقدّم في تفسير سورة الأحزاب، وهو اختيار ابن تيميّة من المتأخّرين.

وقال طائفة: يجوز مطلقاً، وهو مقتضي صنيع البخاري، فإنّه صدّر بالآية وهو قوله تعالي: «وَصَلِّ عليهم»، ثمّ علّق الحديث الدالّ علي الجواز مطلقاً، وعقّبه بالحديث الدالّ علي الجواز تبعاً:

فأمّا الأوّل، وهو حديث عبداللَّه بن أبي أوفي، فتقدّم شرحه في كتاب الزكاة، ووقع مثله عن قيس بن سعد بن عبادة أنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم رفع يديه وهو يقول: اللّهمّ اجعل صلواتك ورحمتك علي آل سعد بن عبادة؛ أخرجه أبو داود

والنسائي، وسنده جيّد.

وفي حديث جابر: إنّ امرأته قالت للنبي صلّي اللَّه عليه وسلّم: صلّ علَيّ وعلي زوجي، ففعل؛ أخرجه أحمد مطوّلًا ومختصراً، وصحّحه ابن حبّان.

وهذا القول جاء عن الحسن ومجاهد، ونصّ عليه أحمد في رواية أبي داود، وبه قال إسحاق وأبو ثور وداود والطبري، واحتجّوا بقوله تعالي: «هو الذي يصلّي عليكم وملائكته».

وفي صحيح مسلم، من حديث أبي هريرة مرفوعاً: إنّ الملائكة تقول لروح المؤمن: صلّي اللَّه عليك وعلي جسدك.

وأجاب المانعون عن ذلك كلّه: بأنّ ذلك صدر من اللَّه ورسوله، ولهما أن يخصّا من شاءا بما شاءا، وليس ذلك لأحد غيرهما.

وقال البيهقي: يحمل قول ابن عبّاس بالمنع إذا كان علي وجه التعظيم، لا ما إذا كان علي وجه الدعاء بالرحمة والبركة.

وقال ابن القيّم: المختار أن يصلّي علي الأنبياء والملائكة وأزواج النبي استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 332

صلّي اللَّه عليه وسلّم وآله وذرّيّته وأهل الطاعة، علي سبيل الإجمال، ويكره- في غير الأنبياء- لشخص مفرد بحيث يصير شعاراً، ولاسيّما إذا ترك في حقّ مثله أو أفضل منه كما يفعله الرافضة، فلو اتّفق وقوع ذلك منفرداً في بعض الأحايين، من غير أن يتّخذ شعاراً، لم يكن به بأس، ولهذا لم يرد في حقّ غير من أمر النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم بقول ذلك لهم، وهم من أدّي زكاته إلّا نادراً، كما في قصّة زوجة جابر وآل سعد بن عبادة» «1».

بل لقد وضعوا في ذلك حديثاً، رواه المحبّ الطبري في (الرياض النضرة):

«عن يخامر السكسكي: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: اللّهمّ صلّ علي أبي بكر، فإنّه يحبّك ويحبّ رسولك، اللّهمّ صلّ علي عمر، فإنّه يحبّك ويحبُّ رسولك، اللّهمّ صلّ علي عثمان، فإنّه يحبّك ويحبّ رسولك، اللّهمّ صلّ

علي أبي عبيدة بن الجرّاح، فإنّه يحبّك ويحبّ رسولك، اللّهمّ صلّ علي عمرو بن العاص، فإنّه يحبّك ويحبّ رسولك.

أخرجه الخلعي» «2».

وهو حديث موضوع قطعاً، لوجوه:

منها: عدم ذكر أميرالمؤمنين عليه السلام فيه.

ومنها: ما ثبت من كون «عمرو بن العاص» مطعوناً في دينه، حتّي اعترف بذلك الدهلوي في (التحفة) وكان ملعوناً علي لسان النبي الامّي:

قال الحافظ أبو يعلي في (مسنده):

__________________________________________________

(1) فتح الباري في شرح البخاري 11: 142/ باب هل يصلّي علي غير النبي؟

(2) الرياض النضرة 1: 229- 230/ 59 الباب الثالث.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 333

«ثنا علي بن المنذر، ثنا ابن فضيل، ثنا يزيد بن أبي زياد، عن سليمان ابن عمرو بن الأحوص، عن أبي برزة قال: كنّا مع النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم، فسمع صوت غناء فقال: انظروا ما هذا؟ فصعدت فنظرت، فإذا معاوية وعمرو بن العاص يغنّيان، فجئت فأخبرت النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم فقال:

اللّهمّ أركسهما في الفتنة ركساً، اللّهمّ دعّهما إلي النّار دعّاً» «1».

وأخرجه أحمد في (مسنده) عن عبداللَّه بن محمّد عن أبي فضيل … «2».

وقال الطبراني في (المعجم الكبير):

«ثنا أحمد بن علي بن الجارود الأصبهاني، ثنا عبداللَّه بن سعيد الكندي، ثنا عيسي بن الأسود النخعي، عن ليث بن طاووس، عن ابن عبّاس قال: سمع النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم صوت رجلين يغنّيان وهما يقولان …

فسأل عنهما فقيل له: معاوية وعمرو بن العاص.

فقال: اللّهمّ أركسهما في الفتنة ركساً ودعّهما إلي النّار دعّاً» «3».

هذا، مع ماله من المطاعن الكثيرة، ككونه من المؤلّبين علي عثمان «4» وكمواقفه من أمير المؤمنين عليه السلام في صفين.

وهو أيضاً مطعون في نسبه …

فالحديث المذكور موضوع قطعاً …

وكذلك سائر الأحاديث الاخري الواردة في كتبهم في مدحه «5».

__________________________________________________

(1) مسند أبي

يعلي 13: 429- 430/ 7436، وفيه: «فلان وفلان»!!

(2) مسند أحمد بن حنبل 5: 580/ 19281، وفيه: «فلان وفلان»!!

(3) المعجم الكبير 11: 38/ 10970، وفيه التصريح باسمهما.

(4) الاستيعاب، بترجمته 3: 1187، وانظر ترجمة محمد بن أبي حذيفة، وعبد اللَّه بن أبي سرح.

(5) كنز العمّال 13: 548.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 335

الجبر والإختيار … ص: 335

اشارة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 337

هل أفعال العباد واقعة بقدرة الباري وحدها؟ … ص: 337

قد نسب هذه العقيدة إلي الأشاعرة علماء أهل السنّة وانتقدها بعضهم:

قال الشيخ كمال الدين السهالي- من كبار علماء الهند- في كتاب (العروة الوثقي) في مسألة الجبر والإختيار:

«فاعلم إنّ هاهنا مذاهب:

الأوّل: مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري من الشافعيّة: إنّ أفعال العباد واقعة بقدرته تعالي وحدها، وليس لهم تأثير، بل اللَّه سبحانه أجري عادته بأن يخلقها في العبد عندما كسبها، والمعني بكسب العبد لفعله مقارنته لقدرته وإرادته، وإنّما قدرته وإرادته منه تعالي كسائر مخلوقاته، فرجع قولهم إلي وجود القدرة الوهميّة مع الفعل، ولا مدخل للعبد في فعله إلّاكونه محلّاً له؛ فالفعل مخلوق اللَّه تعالي إبداعاً وإحداثاً مكسوب العبد فقط.

الثاني: مذهب أبي منصور الماتريدي من الحنفيّة، وهو بعينه مذهب الأشعري إلّاأنّهم قالوا: الكسب صرف القدرة إلي العزم المصمّم للفعل، فقالوا: إنّ للقدرة الكاسبة تأثيراً في العزم المذكور، ويخلق اللَّه تعالي الفعل عقيبه بالعادة.

فقال بعضهم: العزم من الأحوال وليس بموجود، فإحداثه ليس بخلق والإحداث أهون من الخلق، فحينئذٍ، لا حاجة إلي تخصيص النصوص الدالّة علي عموم الخلق منه تعالي، نحو «اللَّه خالق كلّ شي ء» و «خلقكم وما

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 338

تعملون».

وقال بعضهم: بل موجود، فيجب التخصيص بالعقل، لأنّه أدني ما يتحقّق به فائدة خلق القدرة، ويصحّ اتّجاه التكليف شرطاً.

الثالث: مذهب المعتزلة، وهو أنّها واقعة بقدرة العبد وحدها علي الاستقلال.

والرابع: ما قال جماعة أنّها بالقدرتين معاً.

والخامس: مذهب الحكماء وإمام الحرمين وأبي الحسين: أنّها واقعة علي سبيل الوجوب، بقدرة يخلقها اللَّه تعالي في العبد إذا قارنت الشرائط وارتفع الموانع، وليس ببعيد، لكنّه راجع بالأخرة إلي مذهب المعتزلة كما يظهر بالتأمّل.

وهاهنا مذهب سادس، وهو مذهب الجهميّة وهو: أنّه لا قدرة للعبد ولا

دخل له أصلًا، بل هو كالجماد، فمع أنّه سفسطة يلزم عدم اتجاه التكاليف الشرعيّة، فإنّ العقل يقطع بامتناع تعلّق العقاب بالفعل الواجب أو الممتنع من الفاعل، بل يلزم نسبة الظلم إليه، تعالي اللَّه عن ذلك علوّاً كبيراً و «إنّ اللَّه ليس بظلّامٍ للعبيد» و «لا يكلّف اللَّه نفساً إلّاوسعها».

والمذهب الرابع يوجب توارد المؤثّرين المتلازمين علي أثر واحد، إن أرادوا أنّ القدرتين مستقلّتان في التأثير، وإن أرادوا أنّ أحداهما مستقلّة بالفاعليّة والاخري من الشرائط، فيرجع إلي مذهب المعتزلة أو أحد الأوّلين.

إحتجّت المعتزلة: تارة بالنصوص الدالّة علي عموم نسبة الخلق إليه تعالي وقد مرّ، وتارة: بأنّه لولا استقلال العبد في أفاعيله، لبطل التكليف بالأمر والنهي، ولم يصحّ الثواب والعقاب والمدح والذم، بل ينتفي فائدة البعثة، لأنّ استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 339

العبد حينئذٍ إمّا لا دخل له أصلًا، فيرجع إلي مذهب الجبريّة، وإمّا له دخل ناقص باعتبار أنّه محلّ القدرة الغير المؤثّرة التي خلق اللَّه تعالي الفعل فيه مقارناً إيّاها، فمناط ذلك الفعل وموجده وخالقه ليس إلّاهو، فإنّما عاقب علي ما خلقه، فذلك أيضاً يوجب تلك النسبة الباطلة.

والحلّ عنها علي طريق الحنفيّة: إنّ العبد لمّا كان كاسباً لفعله كما عرفت وسيجي ء تحقيقه كما هو، وأجري اللَّه عادته أن يخلق الفعل عقيبه ولا يخلق عند عدم كسبه، فذلك مناط العقاب، ولا يلزم إذن فساد اتّجاه التكليف، ومن هاهنا صحّ انتساب أفعال العباد إليهم، وذلك هو المناط في اللغة والعرف، لا يوجب أن يكون الفاعل خالقاً لفعله، نعم، يلزم الأشاعرة القائلين بالقدرة الوهميّة تلك النسبة الباطلة، ولذلك قيل إنّها كفؤ للجبر».

فقد صرّح بلزوم الظلم علي مذهب الأشاعرة.

وقال أيضاً:

«ولابدّ هاهنا من تمهيد مقدّمات:

منها: إنّ حسن الأفعال وقبحها عقلي،

علي المذهب المنصور، وهو مذهب أبي منصور الماتريدي، بناء علي بطلان الترجيح بلا مرجّح، فإن جعل بعض الأفعال مناطاً للثواب والمدح، والبعض الآخر مناطاً للعقاب والذم بلا موجب مرجّح من ذاتها، مستحيل قطعاً، والصانع الحكيم لا يرجّح المرجوح بل المساوي. وبالجملة: حكمة الأمر قاضية بأنّ تخصيصات الأفعال بثمراتها لابدّ لها من مرجّح من ذواتها، وقد بيّن في موضعه، وما أحسن ما قال الشيخ الأكبر محي الدين بن علي العربي في بعض مصنّفاته: لولم يكن للأفعال خصوصيّة داعية إلي ثمراتها المخصوصة بها، ويكون الأفعال التي علي هوي استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 340

النفس والتي علي خلاف هواها سواسية في تعلّق ثمراتها بها، يلزم نسبة الظلم إليه، تعالي اللَّه عن ذلك، فإنّ الطّاعات الواجبة كلّها علي خلاف هوي النفس، ولذا قال عليه السّلام: أفضل العبادات أحمزها، بل الفعل خلاف الهوي عين الطاعة، والمعاصي كلّها علي وفاق هواها، بل وفاق الهوي نفس المعصية، وإذا كانت الطاعات متساوية النسبة في الواقع، بجعلها مناطاً للثواب والعقاب، وكذا المعاصي بجعلها مناطاً لها، فتحريم المعاصي بكفّ النفس عن الشهوات في الدنيا، وإيجاب الطاعات بقهر النفس فيها بلا ضرورة باعثة، ظلم، لأنّه حبس النفس عن الشهوات وإقحامها في القهر في الدنيا بلا فائدة، ولو عكس اللَّه الأمر لفاز العبد بالراحتين في الاولي والآخرة».

وهكذا قال صاحب (مسلّم الثبوت) وشارحه، وهما من أعاظم المحققين، فقد جاء في (فواتح الرحموت) ما نصّه:

«وعند أهل الحق، أصحاب العناية، الذين هم أهل السنّة، الباذلون أنفسهم في سبيل اللَّه بالجهاد الأكبر، له قدرة كاسبة فقط لا خالقة، لكن عند الأشعريّة من الشافعيّة ليس معني ذلك الكسب إلّاوجود قدرة متوهّمة يتخيّله الشخص قدرة مع الفعل بلا مدخليّة لها أصلًا

في شي ء، فعندهم إذا أراد اللَّه تعالي أن يخلق في العبد فعلًا، يخلق أوّلًا صفة يتوهّم أوّل الأمر إنّها قدرة علي شي ء، ثمّ يوجّه اللَّه تعالي إلي الفعل ثمّ يوجد الفعل، فنسبة الفعل إليه كنسبة الكتابة إلي القلم. قالوا: ذلك كاف في صحّة التكليف.

والحقّ: أنّه كفؤ للجبر، وهو ظاهر، فإنّه متي لم يكن في العبد قدرة حقيقة، فأيّ فرق بينه وبين الجماد» «1».

__________________________________________________

(1) فواتح الرحموت- شرح مسلّم الثبوت 1: 41.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 341

مذهب الأشعريّة عين مذهب الجهميّة … ص: 341

فهذا الكلام صريح في أنّ مذهب الأشعرية عين مذهب الجهميّة، وهو الجبر، وهذا عين السفسطة كما صرّح في (فواتح الرحموت):

«عند الجهميّة الذين هم الجبريّة حقّاً، لا قدرة للعبد أصلًا علي الكسب ولا علي الإيجاد، بل هو كالجماد الذي لا يقدر علي شي ء، وهذا سفسطة، فإنّ كلّ عاقل يعلم من وجدانه أنّ له نحواً من القدرة، والذي شجّعهم علي هذه السفسطة رواية نصوص خلق الأعمال، ولم يتعمّقوا فيها» «1».

وقال نظام الدين في (شرح مسلّم الثبوت):

«وعند أهل الحق، له أي للعبد، قدرة كاسبة، لكن عند الأشعريّة ليس معني ذلك، أي وجود القدرة الكاسبة له، إلّا وجود قدرة متوهّمة مع الفاعل بلا مدخليّة للعبد أصلًا، وحاصله: أنّ العبد ليس له قدرة ولا لا قدرة ولا دخل، بل بين الفعل والعبد ليس علاقة إلّاعلاقة المحليّة والحاليّة، كالسواد القائم بجسم غير مقتض له.

قالوا أي الأشعريّة: إنّ ذلك، أي وجود قدرة متوهّمة، كاف في التكليف.

والحقّ: إنّه كفؤ للجبر عند التحقيق، فهم وإن احترزوا عن الجبر لفظاً، لكن قلوبهم به مؤمنة، إذ ليس نسبة الفعل إلي العبد نسبة الفاعليّة ولا نسبة الشرطيّة، فلا علاقة بينهما، فالعبد كالسكين للَّه تعالي، وهذا هو الجبر حقيقة.

ثمّ اكتفاؤهم بهذه القدرة

التي اخترعوها في التكليف أيضاً غير معقول، لكن يتأتي علي أصلهم، فإنّ تكليف العاجز جائز عندهم، ثمّ إنّهم وإن قالوا بجواز

__________________________________________________

(1) فواتح الرحموت 1: 40.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 342

تكليف الإنسان بما لا يطيقه لكن منعوا وقوعه، ولم يدروا أنّ كلّ تكليف فإنّه تكليف بالمحال، فإنّه لا فرق بين إيجاب الحركة علي المرتعش وبين إيجابه علي غيره، وكذا النهي للأعمي عن البصر ونهي الكفّار عن الكفر، ولا يعرّج عليه عاقل، واعتذر عنه بما لا ينفع».

كلمات ابن تيميّة في المسألة … ص: 342

ومن جملة من حطّ علي مذهب الأشاعرة، وردّ عليه بشدّةٍ، هو: ابن تيميّة الحرّاني، إذ قال في جواب العلّامة الحلّي رحمه اللَّه:

«جمهور أهل السنّة المثبتة للقدر من جميع الطوائف يقولون: إنّ العبد فاعل حقيقة، وإنّ له قدرة حقيقة واستطاعة حقيقة، وهم لا ينكرون تأثير الأسباب الطبيعيّة، بل يقرّون بما دلّ عليه العقل، من أنّ اللَّه تعالي يخلق السحاب بالرياح وينزل الماء من السحاب، وينبت النبات بالماء، ولا يقولون أنّ قوي الطبائع الموجودة في المخلوقات لا تأثير لها، بل يقرّون أنّ لها تأثيراً لفظاً ومعني، حتّي جاء لفظ الأثر في مثل قوله تعالي: «ونكتب ما قدّموا وآثارهم»، وإن كان التأثير أعمّ منه في الآية، لكن يقولون هذا التأثير هو تأثير الأسباب في مسبّباتها، واللَّه تعالي خالق السبب والمسبّب، ومع أنّه خالق السبب فلابدّ له من سبب آخر يشاركه، ولابدّ له من معارض يمانعه، فلا يتمّ أثره إلّامع خلق اللَّه له لا به، بأن يخلق اللَّه تعالي السبب الآخر ويزيل الموانع.

ولكن هذا القول الذي حكاه هو قول بعض المثبتة للقدر، كالأشعري ومن وافقه من الفقهاء، من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، حيث لا يثبتون في المخلوقات قوي الطبائع، ويقولون إنّ اللَّه

تعالي فعل عندها لا بها، ويقولون إنّ قدرة العبد لا تأثير لها في الفعل، وأبلغ من ذلك قول الأشعري: إنّ استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 343

اللَّه فاعل فعل العبد، وإنّ عمل العبد ليس فعلًا للعبد بل كسباً له، وإنّما هو فعل اللَّه تعالي فقط، وجمهور الناس من أهل السنّة من جميع الطوائف علي خلاف ذلك، وأنّ العبد فاعل لفعله حقيقة، واللَّه أعلم» «1».

«وأمّا قوله: وإنّ اللَّه تعالي يريد المعاصي من الكافر ولا يريد منه الطاعة.

فهذا قول طائفة منهم، وهم الذين يوافقون القدريّة، فيجعلون المشيّة والإرادة والمحبّة والرضا نوعاً واحداً، ويجعلون المحبّة والرضا والغضب بمعني الإرادة، كما يقول ذلك الأشعري في المشهور عنه وأكثر أصحابه، وطائفة ممّن يوافقهم من الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد.

وأمّا جمهور أهل السنّة من جميع الطوائف وكثير من أصحاب الأشعري، فيفرّقون بين الإرادة والمحبّة والرضا، فيقولون إنّه وإن كان يريد المعاصي فهو سبحانه لا يحبّها ولا يرضاها بل يبغضها ويسخطها وينهي عنها، وهؤلاء يفرّقون بين مشيّة اللَّه تعالي وبين محبّته، وهذا قول السلف قاطبة، وقد ذكر أبوالمعالي الجويني أنّ هذا قول القدماء من أهل السنّة، وأنّ الأشعري خالفهم، فجعل الإرادة هي المحبّة فيقولون، ما شاء اللَّه كان وما لم يشأ لم يكن، فكلّما شاءه فقد خلقه» «2».

وإذا كان اللَّه- والعياذ باللَّه- يرضي بأنواع المعاصي وأقسام الظلم والضلال، فلا ريب في نسبة الظلم إليه سبحانه وتعالي …

وفي (منهاج السنّة) أيضاً:

«والقول الثاني: إنّ الظلم مقدور واللَّه تعالي منزّه عنه، وهذا قول __________________________________________________

(1) منهاج السنة 1: 382- 383.

(2) منهاج السنة 1: 383- 384.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 344

الجمهور من المثبتين للقدر ونفاته، وهو قول كثير من النظّار المثبتة للقدر، كالكراميّة

وغيرهم، وكثير من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وهو قول القاضي أبي حازم ابن القاضي أبي يعلي وغيره، وهذا كتعذيب الإنسان بذنب غيره، كما قال اللَّه تعالي «فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً»، وهؤلاء يقولون: الفرق بين تعذيب الإنسان علي فعله الإختياري وغير فعله الإختياري مستقر في فطر العقول، فإنّ الإنسان لو كان له في جسمه برص أو عيب خلق فيه، لم يستحسن ذمّه ولا عقابه علي ذلك، ولو ظلم ابنه أحد يحسن عقابه علي ذلك، ويقولون:

الإحتجاج بالقدر علي الذنوب ممّا يعلم بطلانه بضرورة العقل، فإنّ الظالم لغيره لو احتج بالقدر لاحتجّ ظالمه أيضاً بالقدر، فإن كان القدر حجّة لهذا فهو حجّة لهذا وإلّا فلا، والأوّلون أيضاً يمنعون الإحتجاج بالقدر، فإنّ الإحتجاج به باطل باتّفاق أهل الملل وذوي العقول، وإنّما يحتجّ به علي القبائح والمظالم من هو متناقض القول متّبع لهواه كما قال بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري وعند المعصية جبري … مذهب وافق هؤلاء تمذهبت به، ولو كان القدر حجّة لفاعل الفواحش والمظالم لم يحسن أن يلوم أحدٌ أحداً، ولا يعاقب أحدٌ أحداً، وكان للإنسان أن يفعل في دم غيره وماله وأهله ما يشتهيه من المظالم والقبائح، ويحتجّ بأنّ ذلك مقدّرٌ عليه» «1».

وقال ابن تيمية:

«بقي الخلاف بين القدريّة الذين يقولون أنّ الداعي يحصل في قلب العبد بلا مشيّة من اللَّه ولا قدرة، وبين الجهميّة المجبّرة الذين يقولون: إنّ __________________________________________________

(1) منهاج السنة 1: 387.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 345

الداعي قدرة العبد ولا تأثير لها في فعله بوجه من الوجوه، وإنّ العبد ليس فاعلًا لفعله، كما يقول ذلك جهم بن صفوان إمام المجبّرة ومن اتّبعه، وإن

أثبت أحدهم كسباً لا يعقل كما أثبته الأشعري ومن وافقه، وإذا كان هذا النزاع في هذا الأصل بين القدريّة النفاة لكون اللَّه يعين المؤمنين علي الطاعة، ويجعل فيهم داعياً إليها ويخصّهم بذلك دون الكافر، وبين المجبّرة الغلاة الذين يقولون إنّ العباد لا يفعلون شيئاً ولا قدرة لهم علي شي ء، أو لهم قدرة لا يفعلون بها شيئاً ولا تأثير لها في شي ء، فكلا القولين باطل».

ثمّ قال بعد كلامٍ له:

«وهذا حقيقة مذهب أهل السنّة الذين يقولون: إنّ اللَّه خالق الأشياء بالأسباب واللَّه خلق العبد وقدرة يكون بها فعله، فإنّ العبد فاعل لفعله حقيقة، فقولهم في خلق فعل العبد بإرادة وقدرة كقولهم في خلق سائر الحوادث بأسبابها، ولكن ليس هذا قول من ينكر الأسباب والقوي التي في الأجسام وينكر تأثير القدرة التي بها يكون الفعل ويقول: إنّه لا أثر لقدرة العبد أصلًا في فعله، كما يقول ذلك من يقول بقول جهم وأتباعه والأشعري ومن وافقه، وليس قول هؤلاء قول أئمة السنّة ولا جمهورهم، بل أصل هذا القول هو قول جهم بن صفوان، فإنّه كان يثبت مشيّة اللَّه تعالي وينكر أن يكون له حكمة أو رحمة، وينكر أن يكون للعبد فعل أو قدرة مؤثّرة، وحكي عنه أنّه كان يخرج إلي الجذماء ويقول: أرحم الراحمين يفعل هذا؟ إنكاراً لأن تكون له رحمة يتّصف بها، وزعماً منه أنّه ليس إلّامشيّة محضة لا اختصاص لها بحكمة، بل يرجّح أحد المتماثلين بلا مرجّح، وهذا قول طائفة من المتأخّرين، وهؤلاء يقولون أنّه لم يخلق لحكمة ولم يأمر لحكمة، وأنّه ليس في القرآن لام كي لا

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 346

في خلق اللَّه ولا في أمره، وهؤلاء الجهميّة المجبّرة هم والمعتزلة والقدريّة في

طرفين متقابلين، وقول سلف الامّة وأئمة السنّة وجمهورها ليس قول هؤلاء، وإن كان كثير من المثبتين للقدر يقول بقول جهم» «1».

وقال:

«ومن وافق جهم بن صفوان من المثبتين للقدر علي أنّ اللَّه لا يفعل شيئاً لحكمة ولا لسبب، وأنّه لا فرق بالنسبة إلي اللَّه بين المأمور والمحظور، ولا يحب بعض الأفعال ولا يبغض بعضها، فقوله فاسد، مخالف للكتاب والسنّة واتّفاق السلف، وهؤلاء قد يعجزون عن بيان امتناع كثير من النقائص عليه، لاسيّما إذا قال من قال منهم أنّ تنزيهه عن النقص لم يعلم بالعقل بل بالسمع، فإذا قيل لهم: لم قلتم إنّ الكذب ممتنع عليه؟ قالوا: لأنّه نقص والنقص عليه محال، فيقال لهم: عندكم أنّ تنزيهه عن النقص لم يعلم إلّابالإجماع، ومعلوم أنّ الإجماع منعقد علي تنزيهه عن الكذب، فإن صحّ الإحتجاج علي هذا بالإجماع، فلا حاجة إلي هذا التطويل.

وأيضاً: فالكلام إنّما هو في العبارة الدالّة علي هذا المعني، وهذا كما قاله بعضهم: إنّه لا يجوز أن يتكلّم بكلام ولا يعني به شيئاً وقال خلافاً للحشويّة، ومعلوم أنّ هذا القول لم يقله أحد من المسلمين، وإنّما النزاع في أنّه هل يجوز أن ينزّل كلاماً لا يعلم العباد معناه، لا أنّه هو في نفسه لا يعني به شيئاً، ثمّ بتقدير أن يكون في هذا نزاع، فإنّه احتجّ علي ذلك بأنّه عيب والعيب علي اللَّه ممتنع، وهذا المحتجّ يجوّز علي اللَّه فعل كلّ شي ء، لا ينزّهه عن فعل هذا.

وأمثاله من تناقض الموافقين لقول الجهميّة الجبريّة في القدر كثير، لكن ليس __________________________________________________

(1) منهاج السنة 1: 391.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 347

هذا قول أئمة السنّة ولا جمهورهم».

وذكر ابن تيمية في الجواب عن لزوم عدم الرضا بقضاء اللَّه- بناءً

علي قول أهل السنّة- ثلاثة وجوه، ثمّ قال:

«وقد أجاب بعضهم بجواب آخر وهو: إنّا لا نرضي بالقضاء لا بالمقضي، وقد أجاب بعضهم بجوابٍ آخر: إنّا نرضي بها من جهة كونها خلقاً، ونسخطها من جهة كونها كسباً، وهذا يرجع إلي الجواب الثالث، لكن في إثبات الكسب إذا لم يجعل العبد فاعلًا فيه كلام قد ذكر في غير هذا الموضع، فالذين جعلوا العبد كاسباً غير فاعل- من أتباع جهم بن صفوان وحسين النجار كأبي الحسن وغيره- كلامهم متناقض، ولهذا لم يمكنهم أن يذكروا في بيان هذاالكسب والفرق بينه وبين الفعل كلاماً معقولًا، بل تارة يقولون: هو المقدور بالقدرة الحادثة، وتارة يقولون: ما قام بمحلّ القدرة أو بمحلّ القدرة الحادثة، وإذا قيل لهم: ما القدرة الحادثة؟ قالوا: ما قامت بمحلّ الكسب ونحو ذلك من العبارات التي تستلزم الدور، ثمّ يقولون: معلوم بالإضطرار الفرق بين حركة المختار وحركة المرتعش، وهذا كلام صحيح، لكنّه حجّة عليهم لا لهم» «1».

وقال بعد كلامٍ له:

«والمقصود هنا التنبيه علي أصل القدريّة، فإنّ حقيقة قولهم أنّ أفعال الحيوان تحدث بلا فاعل، كما أن أصل قول الدهريّة الفلاسفة أنّ حركة الفلك وجميع الحوادث تحدث بلا سبب محدث، وكذلك قول من وافق القدريّة من أهل الإثبات علي أنّ الربّ تعالي لا يقوم به الأفعال وقال: إنّ الفعل هو

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 2: 59- 60.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 348

المفعول والخلق هو المخلوق كما يقول الأشعري ومن وافقه، فإنّه يلزمه في فعل الذم ما لزم القدريّة، ولهذا عامّة شناعات هذا القدري الرافضي علي هؤلاء، وهؤلاء طائفة من المثبتين لخلافة أبي بكر وعمر رضي اللَّه عنهما، وقد وافقهم في ذلك كثير من الشيعة الزيديّة والإماميّة وغيرهم، وقولهم- علي

كلّ حال- أقلّ من قول القدريّة، بل أصل خطئهم موافقتهم للقدريّة في بعض خطئهم، وأئمة السنّة لا يقولون بشي ء من هذا الخطأ.

ولذلك، جماهير أهل السنّة من أهل الحديث والفقه والتفسير والتصوّف لا يقولون بهذه الأقوال المتضمّنة الخطأ» «1».

وقال في الجواب عن لزوم عدم الفرق بين الأفعال الإختيارية والإضطرارية بناءً علي مذهبهم:

«والجواب: إنّ هذا إنّما يلزم من يقول أنّ العبد لا قدرة له علي أفعاله الإختياريّة، وليس هذا قول إمام معروف ولا طائفة معروفة من الطوائف من أهل السنّة، بل ولا من طوائف المثبتين للقدر، إلّاما يحكي عن جهم بن صفوان وغلاة المثبتة أنّهم سلبوا العبد قدرته، قال: إنّ حركته كحركة الأشجار بالرياح، إن صحّ النقل عنهم.

وأشدّ الطوائف قرباً من هؤلاء هو الأشعري ومن وافقه من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وهو مع هذا يثبت للعبد قدرة محدثة واختياراً ويقول: إنّ الفعل كسب للعبد لكنّه يقول: لا تأثير لقدرة العبد في إيجاد المقدور، فلهذا قال من قال: إنّ هذا الكسب الذي أثبته الأشعري غير معقول.

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 2: 31.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 349

وجمهور أهل الإثبات علي أنّ العبد فاعل لفعله حقيقة، وله قدرة واختيار، وقدرته مؤثّرة في مقدورها، كما تؤثّر القوي والطبائع وغير ذلك من الشروط والأسباب، فما ذكره لا يلزم جمهور أهل السنّة.

وقد قلنا غير مرّة: نحن لا ننكر أن يكون في بعض أهل السنّة من يقول الخطأ، لكن لا يتّفقون علي خطأ» «1».

وقال ابن تيميّة- بعد ذكر آياتٍ عديدة في ثبوت القدرة والإرادة للعبد:

«وقد أخبر أنّ العباد يفعلون ويصنعون ويعملون، ويؤمنون ويكفرون، ويتّقون ويفسقون، ويصدّقون ويكذبون، ونحو ذلك في مواضع، وأخبر أنّ لهم استطاعة وقوّة في غير موضع، وأئمة أهل السنّة

وجمهورهم يقولون: إنّ اللَّه خالق هذا كلّه، والخلق عندهم ليس هو المخلوق، فيفرّقون بين كون أفعال العباد مخلوقة مفعولة للرب، وبين أن يكون نفس فعله الذي هو مصدر فعل يفعل فعلًا فإنّها فعل للعباد بمعني المصدر، وليست فعلًا للربّ تعالي بهذا الاعتبار، بل هي مفعولة له، والرب تعالي لا يتّصف بمفعولاته.

ولكن هذه الشناعات لزمت من لا يفرّق بين فعل الربّ ومفعوله ويقول مع ذلك أنّ أفعال العباد فعل اللَّه، كما يقول ذلك جهم بن صفوان وموافقوه والأشعري وأتباعه ومن وافقهم من أتباع الأئمة، ولهذا ضاق بهؤلاء البحث في هذا الموضع، كما قد بسط في موضعه.

وكذلك أيضاً لزمت من لا يثبت في المخلوقات أسباباً وقويً وطبائع ويقولون: إنّ اللَّه يفعل عندها لا بها، فيلزم أن لا يكون فرق بين القادر والعاجز.

__________________________________________________

(1) منهاج السنة 2: 24.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 350

وإن أثبت قدرة ويقول: إنّها مقترنة بالكسب. قيل له: لم تثبت فرقاً معقولًا بين ما تثبته من الكسب ونفيت من الفعل، ولا بين القادر والعاجز إذا كان مجرّد الإقتران لا اختصاص له بالقدرة، فإنّ فعل العبد يقارن جهله وعلمه وإرادته وغير ذلك من صفاته، فإذا لم يكن للقدرة تأثير إلّامجرّد الإقتران، فلا فرق بين القدرة وغيرها.

وكذلك قول من قال: القدرة مؤثّرة في صفة الفعل لا في أصله، كما يقول القاضي أبوبكر ومن وافقه، فإنّه إذا ثبت تأثير بدون خلق الربّ، لزم أن يكون بعض الحوادث لم يخلقه اللَّه، وإن جعل ذلك معلّقاً بخلق الربّ فلا فرق بين الأصل والصّفة.

وأمّا أئمة السنّة وجمهورهم فيقولون ما دلّ عليه الشرع والعقل … » «1».

كلمات ابن القيّم في المسألة … ص: 350

وقد تبع ابن القيّم شيخه في الردّ والتشنيع علي مذهب الأشاعرة، فقال بتفسير قوله

تعالي: «وطائفة قد أهمّتهم أنفسهم يظنّون باللَّه غير الحقّ ظنّ الجاهليّة» ما نصّه:

«قد فسّر هذا الظنّ الذي لا يليق باللَّه عزّ وجلّ بأنّه سبحانه لا ينصر رسوله، وأنّ أمره سيضمحلّ وأنّه يسلّمه للقتل. وفسّر بعضهم أنّ ما أصابهم لم يكن بقضاء اللَّه وقدره ولا حكمة له فيه، ففسّر بإنكار الحكمة وإنكار القدر، وإنكار أن يتمّ أمر رسوله ويظهره علي الدين كلّه، وهذا هو ظنّ السوء الذي ظنّه المنافقون والمشركون به سبحانه في سورة الفتح حيث يقول: «ويعذّب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانّين باللَّه ظنّ السَّوء عليهم __________________________________________________

(1) منهاج السنة 2: 25.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 351

دائرة السَّوء وغضب اللَّه عليهم ولعنهم وأعدّ لهم جهنّم وساءت مصيراً»، وإنّما كان هذا ظنّ السوء وظنّ الجاهليّة، وهو الظنّ المنسوب إلي أهل الجهل وظنّ غير الحقّ، لأنّه ظنّ غير ما يليق بأسمائه الحسني وصفاته العليا وذاته المبرّأة من كلّ عيب وسوء، وخلاف ما يليق بحكمته وحمده وتفرّده بالربوبيّة والإلهيّة، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه، وبكلمته التي سبقت لرسله أنّه ينصرهم ولا يخذلهم، ولجنده بأنّهم هم الغالبون، فمن ظنّ به أنّه لا ينصر رسوله ولا يتمّ أمره ولا يؤيّده ولا يؤيّد حزبه ويعليهم ويظفرهم بأعدائهم ويظهرهم عليهم، وأنّه لا ينصر دينه وكتابه، وأنّه يديل الشرك علي التوحيد والباطل علي الحقّ، إدالة مستقرّة يضمحلّ معها التوحيد والحقّ اضمحلالًا لا يقوم بعده أبداً، فقد ظنّ السوء، ونسبه إلي خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته، فإنّ حمده وعزّته وحكمته وإلهيّته تأبي ذلك، وتأبي أن يذلّ حزبه وجنده، وأن يكون النصرة المستقرّة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به العادلين به، فمن ظنّ به ذلك فما عرفه ولا عرف أسمائه وصفات

وكماله.

وكذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضائه وقدره، فما عرفه ولا عرف ربوبيّته وملكه وعظمته، وكذلك من أنكر أن يكون قدّر ما قدّره من ذلك وغيره، لحكمة بالغة وغاية محمودة يستحقّ الحمد عليها، وإنّ ذلك إنّما صدر عن مشيّة مجرّدة عن الحكمة وغاية مطلوبة هي أحبّ إليه من فوتها، وإنّ تلك الأسباب المكروهة المفضية إليها لا يخرج تقديرها عن الحكمة لانضمامها إلي ما يحبّ وإن كانت مكروهة له، فما قدّرها سديً ولا شاءها عبثاً ولا خلقها باطلًا «ذلك ظنّ الذين كفروا فويل للذين كفروا من النّار»، وأكثر النّاس يظنّون باللَّه غير الحقّ ظنّ السَوء فيما يختصّ بهم وفيما يفعله بغيرهم، ولا يسلم من استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 352

ذلك إلّامن عرف اللَّه وعرف أسمائه وصفاته وعرف موجب حمده وحكمته.

فمن قنط من رحمته وأيس من روحه، فقد ظنّ به ظنّ السوء، ومن جوّز عليه أن يعذّب أوليائه مع إحسانهم وإخلاصهم ويسوّي بينهم وبين أعدائه، فقد ظنّ به ظنّ السَوء، ومن ظنّ أنّه يترك خلقه سديً معطّلين عن الأمر والنهي، ولا يرسل إليهم رسله ولا ينزل عليهم كتبه بل يتركه هملًا كالأنعام، فقد ظنّ به ظنّ السوء، ومن ظنّ أنّه لا يجمعهم بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازي المحسن فيها بإحسانه والمسي ء بإساءته، ويبيّن لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه، ويظهر للعالمين كلّهم صدقه وصدق رسله، وأنّ أعدائه كانوا هم الكاذبين، فقد ظنّ به ظنّ السوء.

ومن ظنّ أنّه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصاً لوجهه الكريم علي امتثال أمره ويبطله عليه بلا سبب من العبد، أو أنّه يعاقبه بما لا صنع له فيه ولا اختيار له ولا قدرة له ولا إرادة في حصوله، بل

يعاقبه علي فعله هو سبحانه به، أو ظنّ به أنّه يجوز عليه أن يؤيّد أعدائه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيّد بها أنبيائه ورسله ويجريها علي أيديهم يضلّون بها عباده، وأنّه يحسن منه كلّ شي ء حتّي تعذيب من أفني عمره بطاعته فيخلده في الجحيم أسفل السافلين، وينعم من استنفد عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه فيرفع إلي أعلي عليّين، وكلا الأمرين في الحسن سواء عنده، ولا عرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلّابخبر صادق وإلّا فالعقل لا يقتضي قبح أحدهما وحسن الآخر، فقد ظنّ به ظنّ السوء» «1».

وقال صاحب (فواتح الرحموت): … ص: 352

__________________________________________________

(1) زاد المعاد في هدي خير العباد 3: 228- 230.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 353

«الشمعونيّة قالوا أوّلًا إن كان النسخ لحكمة ظهرت للنّاسخ الآن ولم تكن ظاهرة من قبل فبداء، أي فالنسخ بداء وجهل بعواقب الامور، وإلّا يكن لحكمة ظهرت فعبث، أي فهو عبث من غير فائدة. قلنا: المصلحة قد تتجدّد بتجدّد الأحوال، والحاكم كان يعلم في الأزل أنّ المصلحة تتجدّد، فإنّ الكلام فيما ليس بحسن ولا قبيح لذاته، وأمّا ما هو حسن لذاته وقبيح كذلك، فلا يقبل النسخ عندنا أيضاً، فلا بداء، فإن اريد بالظهور الظهور للحاكم بعد الجهل به، فنختار أنّه لم يظهر الآن بل كان ظاهراً له من الأزل، ولا يلزم العبث، فالملازمة الثانية ممنوعة، وإن اريد به الوجود في الفعل واتصافه به فلزوم البداء ممنوع، كيف؟ وإنّه كان يعلم من الأزل أنّه تتجدّد مصلحة فيه، علي أنّ الأشاعرة التابعين للشيخ أبي الحسن الأشعري يختارون الشق الثّاني ويلتزمون عبثاً، فإنّهم لا يرون اشتمال أحكامه علي المصالح، لأنّ اللَّه تعالي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد» «1».

وقال أيضاً:

«مسألة: لا يجوز عند الحنفيّة والمعتزلة نسخ حكم

فعل لا يقبل حسنه أو قبحه السقوط، كوجوب الإيمان وحرمة الكفر وسائر العقائد الباطلة، وقد مرّ من قبل.

إنْ قلت: الكلّ عند المعتزلة غير الجبّائية كذلك، لأنّ حسن كلّ فعل وقبحه عندهم لذات الفعل، وما بالذّات لا يتخلّف.

قلت: ما لغيره قد يغلب علي ما بذاته فيتخلّف عنه ما لذاته، كما في برودة الماء، وقد مرّ في المبادي الأحكاميّة.

__________________________________________________

(1) فواتح الرحموت 2: 56.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 354

ويجوز نسخ وجوب الإيمان وحرمة الكفر عند الأشاعرة التابعين للشيخ أبي الحسن الأشعري ومنهم الشافعيّة، إذ لا حسن ولا قبح عندهم إلّاشرعاً، فالإيمان والكفر سيّان عندهم، وما أوجب الشرع فهو حسن، وما حرّم فهو حرام، ومن ثمّة جوّزوا نسخ جميع التكاليف عقلًا، إلّا الإمام حجّة الإسلام الغزالي قدّس اللَّه سرّه قال: يجب معرفة النسخ والناسخ وهو تكليف. قيل في جوابه: سلّمنا أنّه لابدّ من تلك المعرفة، ولا يجب علي المكلّف تحصيل تلك المعرفة، بل يجب علي اللَّه تعالي- عقلًا علي اصول أهل الاعتزال، أو عادة علي ما يقتضيه اصول أهل السنّة القامعين للبدعة كثّرهم اللَّه تعالي- تعريف الناسخ للعباد، تفضّلًا منه تعالي علي عباده، وإذا لم يجب علي المكلّف فلا تكليف به.

أقول: يجب علي المكلّف اعتقاد أنّ الناسخ خطاب من اللَّه تعالي، وإلّا أي وإن لم يجب، فهو يعمل بالمنسوخ، ولو عمل به لأثم قطعاً، فإنّ العمل بالمنسوخ حرام، فهذا العقد مطلوب منه وهو تكليف، فتدبّر.

واعترض عليه مطلع الأسرار الإلهيّة والدي قدّس سرّه: أمّا أوّلًا: فلأنّه لمّا فرض وجوب إعلام اللَّه تعالي انتساخ الحكم فلا يقرب إلي العمل به فلا يأثم، وإن عمل به مع هذا العلم فلا ينفع الوجوب عليه دفعاً لهذا الإثم، وأمّا ثانياً: فلأنّ الغرض

انتفاء التكاليف رأساً، لا بالإيجاب ولا بالتحريم، فلو فرض انتفاء هذه المعرفة والعمل بالمنسوخ لا يلزم الإثم، كيف؟ وصار حال هذه الأحوال حال انتفاء البعثة، فالأفعال كلّها علي الإباحة، فالعمل بالمنسوخ والناسخ سيّان فلا إثم. نعم، لو لم يكن هذه المعرفة وقع في تعب العمل بالأحكام المنسوخة من غير فائدة، فيلزم العبث، لكن لا يلزم منه وجوب هذه استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 355

المعرفة، إذ لا استحالة عند الأشعريّة في إيقاع اللَّه تعالي عبيده في العبث.

فافهم» «1».

قال الرازي: يجوز إدخال اللَّه العبّاد في النار والكفّار في الجنّة … ص: 355

هذا، وقد نصَّ الفخر الرازي علي جواز إدخال اللَّه الزهّاد والعبّاد في النار، وهذه عبارته بتفسير قوله تعالي: «إن تعذّبهم فإنّهم عبادك وإن تغفر لهم فإنّك أنت العزيز الحكيم»:

«مذهبنا أنّه يجوز من اللَّه تعالي أن يدخل الكفّار في الجنّة، وأن يدخل الزهّاد والعبّاد في النّار، لأنّ الملك ملكه، والملك يفعل في ملكه ما شاء، لا اعتراض لأحد عليه، فذكر عيسي هذا الكلام ومقصوده منه تفويض الامور كلّها إلي اللَّه وترك التعريض والإعتراض بالكليّة، ولذلك ختم الكلام بقوله: «فإنّك أنت العزيز الحكيم» «2»

يعني أنت قادر علي ما تريد، حكيم في كلّ ما تفعل، لا اعتراض لأحد عليك، فمن أنا والخوض في أحوال الربوبيّة» «3».

هل يجوز التكليف بما لا يطاق؟ … ص: 355

وأمّا عبدالعزيز البخاري فقد قال في (كشف الأسرار):

«واعلم أنّ الأئمة قد اختلفوا في جواز التكليف بالممتنع، وهو المسمّي بتكليف ما لا يطاق؛ فقال أصحابنا رحمهم اللَّه: لا يجوز ذلك عقلًا، ولهذا لم يقع شرعاً. وقالت الأشعريّة: إنّه جائز عقلًا، واختلفوا في وقوعه. والأصحّ عدم الوقوع- إلي أن قال-

__________________________________________________

(1) فواتح الرحموت 2: 67- 68.

(2) سورة المائدة 5: 118.

(3) تفسير الرازي 12: 136.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 356

وتمسّك أصحابنا بأنّ تكليف العاجز عن الفعل بالفعل يعدّ سفهاً في الشاهد، كتكليف الأعمي بالنظر، فلا يجوز نسبته إلي الحكيم جلّ جلاله.

تحقيقه أنّ حكمة التكليف هو الإبتلاء عندنا، وإنّما يتحقّق ذلك فيما يفعله العبد باختياره فيثاب عليه، أو يتركه باختياره فيعاقب عليه، فإذا كان بحال لا يمكن وجود الفعل منه، كان مجبوراً علي ترك الفعل، فيكون معذوراً في الإمتناع، فلا يتحقّق معني الإبتلاء. ويعرف باقي الكلام في علم الكلام» «1».

تصريح الرازي بعقيدة الجبر … ص: 356

ونصّ الفخر الرازي علي عقيدة الجبر، قال بصحّتها ودافع عنها، بتفسير قوله تعالي: «لهم قلوبٌ لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذانٌ لا يسمعون بها» قال:

«احتجّ أصحابنا بهذه الآية علي صحّة قولهم في خلق الأعمال فقالوا: لا شكّ أنّ أولئك الكفّار كانت لهم قلوب يفقهون بها مصالحهم المتعلّقة بالدنيا، ولاشكّ أنّه كانت لهم أعين يبصرون بها المرئيّات، وآذانٌ يسمعون بها الكلمات، فوجب أن يكون المراد من هذه الآيةتقييدها بما يرجع إلي الدين، وهو أنّهم ما كانوا يفقهون بقلوبهم ما يرجع إلي مصالح الدين، وما كانوا يبصرون ويسمعون ما يرجع إلي مصالح الدين، وإذا ثبت هذا فنقول: ثبت أنّه تعالي كلّفهم بتحصيل الدين، مع أنّ قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم ما كانت صالحة لذلك، وهو يجري مجري المنع

عن الشي ء والصدّ عنه مع الأمر به، وذلك هو المطلوب.

قالت المعتزلة: لو كانوا كذلك لقبح من اللَّه تكليفهم، لأنّ تكليف من لا

__________________________________________________

(1) كشف الأسرار 1: 191- 192.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 357

قدرة له علي الفعل قبيح غير لائق بالحكيم، فوجب حمل الآية علي أنّ المراد منه: أنّهم- لكثرة الإعراض عن الدلائل وعدم الإلتفات إليها- صاروا مشبّهين بمن لا يكون له قلب فاهم ولا عين باصرة ولا اذن سامعة.

والجواب: إنّ الإنسان إذا تأكّدت نفرته عن شي ء، صارت تلك النفرة المتأكّدة الراسخة مانعة له عن فهم الكلام الدالّ علي صحّة الشي ء، ومانعة عن إبصار محاسنه، ومانعة له عن سماع محاسنه وفضائله، وهذه حالة وجدانيّة ضروريّة يجدها كلّ عاقل من نفسه، ولهذا السبب قالوا في المثل المشهور:

حبّك الشي ء يعمي ويصمّ، وإذا ثبت هذا فنقول: إنّ أقواماً من الكفّار بلغوا في عداوة الرسول صلّي اللَّه عليه وسلّم، وفي بغضه وفي شدّة النفرة عن قبول دينه والإعتراف برسالته، هذا المبلغ وأقوي منه، والعلم الضروري حاصل بأنّ حصول الحبّ والبغض في القلب ليس باختيار الإنسان، بل هو حالة حاصلة في القلب، شاءه الإنسان أم كرهه.

إذا ثبت هذا فنقول: ظهر أنّ حصول هذه العداوة والنفرة في القلب ليس باختيار العبد، وثبت أنّه متي حصلت هذه النفرة والعداوة في القلب، فإنّ الإنسان لا يمكنه- مع تلك النفرة الراسخة الشديدة- تحصيل الفهم والعلم، وإذا ثبت هذا ثبت القول بالجبر لزوماً لا محيص عنه. ونقل عن أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه عنه خطبة في تقرير هذا المعني، وهو في غاية الحسن:

روي الشيخ أحمد البيهقي في كتاب مناقب الشافعي رحمة اللَّه عليه، عن عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه عنه أنّه خطب الناس

فقال: وأعجب ما في الإنسان قلبه، فيه موادّ من الحكمة وأضدادها، فإن سنح له الرجاء أولهه استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 358

الطمع، وإن هاج له الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتدّ به الغيظ، وإن أسعد بالرضي نسي التحفّظ، وإن ناله الخوف شغله الحزن، وإن أصابته المصيبة قتله الجزع، وإن وجد مالًا أطغاه الغني، وإن عضّته فاقة شغله البلاء، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف، فكلّ تقصير به مضرّ، وكلّ إفراط له مهلك.

وأقول: هذا الفصل في غاية الجلالة والشرف، وهو كالمطلع علي سرّ مسألة القضاء والقدر، لأنّ أعمال الجوارح مربوطة بأعمال القلوب، وكلّ حالة من أحوال القلب فإنّها مستندة إلي حالة اخري حصلت، وإذا وقف الإنسان علي هذه الحالة علم أنّه لا خلاص من الإعتراف بالجبر.

وذكر الشيخ الغزالي رحمه اللَّه في كتاب الإحياء فصلًا في تقرير مذهب الجبر … » «1».

قال ابن تيميّة: الرازي من الجبريّة … ص: 358

هذا، وقد جاء في كلام ابن تيمية التصريح بكون الرازي والآمدي من الجبريّة، حيث قال:

«ثمّ المثبتون للصّفات، منهم من يثبت الصفات المعلومة بالسّمع، كما يثبت الصفات المعلومة بالعقل، وهذا قول أهل السنّة الخاصّة أهل الحديث ومن وافقهم، وهو قول أئمّة الفقهاء وقول أئمّة الكلام من أهل الإثبات، كأبي محمّد بن كلاب، وأبي العبّاس القلانسي، وأبي الحسن الأشعري، وأبي عبداللَّه ابن مجاهد، وأبي الحسن الطبري، والقاضي أبي بكر ابن الباقلاني، ولم يختلف في ذلك قول الأشعري وقدماء أصحابه، لكن المتأخّرين من أتباعه-

__________________________________________________

(1) تفسير الرازي 15: 63- 64.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 359

كأبي المعالي وغيره- لا يثبتون إلّاالصفات العقليّة، وأمّا الجبريّة، فمنهم من ينفيها ومنهم من يتوقّف فيها كالرازي والآمدي وغيرهما … ».

حديث الطينة ومعناه … ص: 359

ولا يتوهّم دلالة حديث الطينة المروي في كتب أصحابنا علي الجبر، فيكون منافياً لما ذهبوا إليه من قواعد العدل، لأنّ رواية الحديث الموهم لما تقرّر في المذهب خلافه، لا تجوّز نسبة مؤدّاها إلي الطائفة، وهذا القرآن الكريم، والآيات الموهمة للتجسيم والتشبيه وغير ذلك كثيرة فيه، فلو صحّ نسبة الإماميّة إلي الجبر لمجرّد خبر الطينة، صحّ نسبة التجسيم وغيره من المذاهب الفاسدة إلي أهل الإسلام.

وعلي الجملة، فإنّ مجرَّد رواية مثل هذا الحديث لا يصحّح نسبة الجبر إلي الأصحاب، بخلاف الأشاعرة الذين هم أئمّة أهل السنّة ومشايخهم، القائلين بنفي اختيار العباد وقدرتهم بكلّ صراحةٍ كالإمام الرازي وأمثاله.

وإنّ حديث الطينة المتضمّن ردّ حسنات المخالفين إلي الشيعة، وردّ سيئات الشيعة إلي المخالفين فيه جهتان: أمّا عدم ترتّب الأجر والثواب للمخالف علي أعماله الصالحة، فلأنّ قبول الأعمال منوط بالإيمان، ولمّا كان مخالفاً فاقداً للإيمان فلا أجر له. وأمّا ردّ الثواب والحسنة إلي أهل الحقّ فذاك بفضل اللَّه

سبحانه وإحسانه …

وأمّا ردّ معاصي الشيعة إلي المخالفين، فلعلّه لأنّ المخالفين- لمنعهم من ظهور بركات أهل البيت عليهم السلام في الناس، ومساعدتهم لأهل الظلم والجور والبغي، للإستيلاء والسلطة- كانوا هم السبب الحقيقي لصدور

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 360

المعاصي من الشيعة، فاللَّه سبحانه يجعل في يوم القيامة السيّئات الصادرة من الشيعة في صحائف المخالفين ويعذّبهم عليها …

وليس في شي ء من ذلك مخالفة لأيّ قاعدةٍ من قواعد العدل:

قال مولانا المجلسي- بعد حديث أبي إسحاق الليثي عن الإمام الهمام أبي جعفر محمّد بن علي الباقر عليهما السلام-:

«إعلم أنّ هذا الخبر وأمثاله ممّا يصعب علي القلوب فهمه وعلي العقول إدراكه، ويمكن أن يكون كنايةً عمّا علم اللَّه تعالي وقدّره من اختلاط المؤمن والكافر في الدنيا، واستيلاء أئمّة الجور وأتباعهم علي أئمّة الحقّ وأتباعهم، وعلم أنّ المؤمنين إنّما يرتكبون الآثام لاستيلاء أهل الباطل عليهم، وعدم تولّي أئمّة الحقّ لسياستهم، فيعذرهم بذلك ويعفو عنهم، ويعذّب أئمّة الجور وأتباعهم، بتسبيبهم لجرائم من خالطهم، مع ما يستحقّون من جرائم أنفسهم، واللَّه يعلم وحججه صلوات اللَّه عليهم» «1».

وهذا وجه صحيح لحلّ هذه الرواية.

ولهذه الرواية في كتب القوم نظائر، فقد أخرج الحاكم في (المستدرك):

«حدّثني علي بن جمشاد العدل، ثنا محمّد بن بشر بن مطر، ثنا عبيداللَّه ابن عمر القواريري، ثنا حرمي بن عمارة بن أبي حفصة، ثنا شداد بن سعيد أبو طلحة الراسبي، عن غيلان بن جرير، عن أبي بردة، عن أبي موسي رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: ليجيئنّ أقوام من امّتي بمثل الجبال ذنوباً فيغفرها اللَّه لهم ويضعها علي اليهود والنصاري. هذا حديث صحيح علي شرط الشيخين ولم يخرجاه.

__________________________________________________

(1) بحارالأنوار 5: 234/ الباب 10، الطينة والميثاق.

استخراج

المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 361

وقد روي الحجاج بن نصير عن أبي طلحة بزيادات في متنه، حدّثنيه علي بن جمشاد، ثنا أبو مسلم ومحمّد بن غالب قالا: ثنا حجاج بن نصير، ثنا شدّاد بن سعيد عن غيلان بن جرير، عن أبي بردة، عن أبيه رضي اللَّه عنه عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: تحشر هذه الامّة علي ثلاثة أصناف:

صنف يدخلون الجنّة بغير حساب، وصنف يحاسبون حساباً يسيراً، وصنف يجرّون علي ظهورهم أمثال الجبال الراسيات، فيسأل اللَّه عن ذنوبهم وهو أعلم بهم فيقول: ما هؤلاء؟ فيقولون: هؤلاء عبيد من عبادك. فيقول: حطّوها عنهم واجعلوها علي اليهود والنصاري، وأدخلوهم برحمتي الجنّة» «1».

وفي (كنز العمال):

«امّتي ثلاثة أثلاث: فثلث يدخلون الجنّة بغير حساب ولا عقاب، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً ثمّ يدخلون الجنّة، وثلث يمحّصون ثمّ تأتي الملائكة فيقولون: وجدناهم يقولون لا إله إلّااللَّه وحده، ويقول اللَّه: صدقوا لا إله إلّا أنا، أدخلوهم الجنّة بقول لا إله إلّااللَّه، واحملوا خطاياهم علي أهل التكذيب، فهي التي قال اللَّه: «وليحملنّ أثقالهم وأثقالًا مع أثقالهم». ابن أبي حاتم، طب- عن عوف بن مالك.

تحشر هذه الامّة يوم القيامة علي ثلاثة أصناف: صنف يدخلون الجنّة بغير حساب، وصنف يحاسبون حساباً يسيراً ويدخلون الجنّة، وصنف يجيئون علي حمائلهم بأمثال الجبال الراسيات ذنوباً، فيقول اللَّه عزّ وجلّ لملائكته وهو أعلم بهم: من هؤلاء؟ فيقولون: ربّنا، عبيد من عبيدك، وكانوا يعبدونك ولا يشركون بك شيئاً. فيقول: حطّوها، وضعوها علي اليهود

__________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 5: 359/ 7719- 7720 كتاب التوبة والإنابة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 362

والنصاري، وأدخلوهم الجنّة برحمتي. طب، ك- عن أبي موسي» «1».

وفيه:

«ليجيئنّ أقوام من امّتي بمثل الجبال ذنوباً، فيغفر اللَّه لهم

ويضعها علي اليهود والنصاري. ك عن أبي موسي» «2».

وقد عقد السيوطي لهذه الأحاديث باباً في كتابه (البدور السافرة):

«بابٌ: أخرج الطبراني والحاكم وصحّحه عن أبي موسي قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: تحشر هذه الامّة يوم القيامة علي ثلاثة أصناف: فصنف يدخلون الجنّة بغير حساب، وصنف يحاسبون حساباً يسيراً، وصنف يجيئون علي حمائلهم كأمثال الجبال الراسيات، فيقول اللَّه تبارك وتعالي للملائكة وهو أعلم بهم: من هؤلاء؟ فيقولون: ربّنا، عبيد من عبيدك، كانوا يعبدونك ولا يشركون بك شيئاً وعلي ظهورهم الخطايا والذنوب.

فيقول: حطّوها عنهم وضعوها علي اليهود والنصاري، وأدخلوهم الجنّة برحمتي.

وأخرج ابن ماجة والطبراني عن أبي موسي قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إذا جمع اللَّه الخلائق يوم القيامة، أذن لُامّة محمّد صلّي اللَّه عليه وسلّم بالسجود، فيسجدون له طويلًا ثمّ يقال لهم: إرفعوا رؤوسكم، قد جعلنا عدّتكم فداء لكم من النار.

وأخرج ابن ماجة والبيهقي عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ هذه امّة مرحومة، عذابها بأيديها، فإذا كان يوم القيامة دفع إلي كلّ __________________________________________________

(1) كنز العمّال 12: 169/ 34522 الباب السابع- في فضائل هذه الأمّة المرحومة.

(2) كنز العمّال 12: 171/ 34529 الباب السابع- في فضائل هذه الأمّة المرحومة.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 363

رجل من المسلمين رجل من المشركين فيقال: هذا فداؤك من النّار.

وأخرج مسلم عن أبي موسي رفعه: يجي ء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال يغفرها اللَّه لهم ويضعها علي اليهود والنصاري.

وأخرج أيضاً من وجه آخر بلفظ: إذا كان يوم القيامة دفع اللَّه إلي كلّ مسلم يهودياً أو نصرانياً فيقول: هذا فداؤك من النار.

قال القرطبي: قال علماؤنا رحمهم اللَّه: هذه الأحاديث ليست علي عمومها،

وإنّما هي في اناس مذنبين، يتفضّل اللَّه تعالي عليهم برحمته، فأعطي كلّ واحد منهم فكاكاً من النّار من الكفّار» «1».

وربّما حاول بعض علمائهم تأويل الحديث:

قال القرطبي بعد العبارة السابقة:

«وأمّا معني قوله يضعها علي اليهود والنصاري: أنّه يضاعف عليهم عذاب كفرهم وذنوبهم، حتّي يكون عذابهم بقدر جرمهم وجرم مذنبي المسلمين لو اخذوا بذلك، لأنّه تعالي لا يؤاخذ أحداً بذنب أحد كما قال:

«ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ اخري ، وله أن يضاعف لمن يشاء العذاب ويخفّف عمَّن يشاء، بحكم إرادته ومشيّته.

قال: وقوله في الرواية الاخري: لا يموت رجل منكم إلّاأدخل اللَّه مكانه يهوديّاً أو نصرانيّاً، معناه: أنّ المسلم المذنب لمّا كان يستحقّ مكاناً من النّار بسبب ذنوبه وعفا اللَّه عنه وبقي مكانه خالياً منه، أضاف اللَّه تعالي ذلك المكان إلي يهودي أو نصراني، ليعذّب فيه زيادة علي تعذيب مكانه الذي يستحقّه بحسب كفره، وقد جاءت أحاديث دالّة علي أنّ لكلّ مسلم مذنب كان __________________________________________________

(1) البدور السافرة عن امور الآخرة: 212- 214.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 364

أوّلًا منزلين: منزلًا في الجنّة ومنزلًا في النّار، وكذا الكافر، وذلك معني قوله:

«أولئكَ هم الوارثون» أي يرث المؤمنون منازل الكفّار من الجنّة والكفّار منازل المؤمنين في النّار، إلّاأنّ هذه الوراثة تختلف: فمنهم من يرث بلا حساب، ومنهم من يرث بحساب ومناقشة وبعد الخروج من النّار.

وقال البيهقي: يحتمل أن يكون الفداء في قوم كانت ذنوبهم كفّرت عنهم في حياتهم، أو في من اخرج من النّار، يقال لهم ذلك بعد الخروج.

وقال غيره: يحتمل أن يكون الفداء مجازاً، من وراثة المنزل التي تقدّمت الإشارة إليها، هذا ما رجّحه النووي وغيره.

وقيل: المراد بالذنوب التي توضع علي الكفّار ذنوب كان الكفّار سبباً فيها بأن سنّوها، فلمّا

غفرت سيّئات المؤمنين، بقيت سيّئات الذي سنّ تلك السنّة السيّئة باقية علي أربابها الكفرة؛ لأن الكفّار لا يغفر لهم، فيكون الوضع كناية عن إبقاء الذنب الذي لحق الكافر بما سنّه من عمله السيّي ء الذي عمل به المؤمن. قال ابن حجر: وهذا أقوي» «1».

وقال النووي في (شرح صحيح مسلم):

«بابٌ في سعة رحمة اللَّه المؤمنين وفداء كلّ مسلم بكافر من النّار: قوله صلّي اللَّه عليه وسلّم: إذا كان يوم القيامة دفع اللَّه تعالي إلي كلّ مسلم يهوديّاً أو نصرانيّاً فيقول: هذا فكاكك من النّار. وفي رواية: لا يموت رجل مسلم إلّا أدخل اللَّه مكانه النّار يهوديّاً أو نصرانيّاً. وفي رواية: يجي ء يوم القيامة ناسٌ من المسلمين بذنوب أمثال الجبال، فيغفرها اللَّه لهم ويضعها علي اليهود والنصاري.

__________________________________________________

(1) البدور السافرة عن امور الآخرة: 214.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 365

الفكاك- بفتح الفاء وكسرها، الفتح أفصح وأشهر- وهو الخلاص والفداء، ومعني هذا الحديث ما جاء في حديث أبي هريرة: لكلّ أحد منزل في الجنّة ومنزل في النّار، والمؤمن إذا دخل الجنّة خلفه الكافر في النّار، لاستحقاقه ذلك بكفره، ومعني فكاكك من النّار كنت تتعرّض لدخول النّار وهذا فكاكك، لأنّ اللَّه قدّر لها عدداً يملؤها، فإذا دخلها الكفّار بكفرهم وذنوبهم صاروا في معني الفكاك للمسلمين.

وأمّا رواية يجي ء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب فمعناه: أنّ اللَّه تعالي يغفر الذنوب للمسلمين ويسقطها عنهم، ويضع علي اليهود والنصاري مثلها بكفرهم وذنوبهم، فيدخلهم النّار بأعمالهم لا بذنوب المسلمين، ولابدّ من هذا التأويل لقوله تعالي: «ولا تَزِرُ وازرةٌ وِزْرَ اخري .

وقوله: ويضعها مجاز، والمراد يضع عليهم مثلها بذنوبهم كما ذكرنا، لكن لمّا أسقط سبحانه وتعالي عن المسلمين سيّئاتهم وأبقي علي الكفّار سيّئاتهم، صاروا في

معني من حمل إثم الفريقين، لكونهم حملوا الإثم الباقي وهو إثمهم، ويحتمل أن يكون المراد آثاماً كان للكفّار سبب فيها بأن سنّوها، فتسقط عن المسلمين بعفو اللَّه تعالي ويوضع علي الكفّار مثلها، لكونهم سنّوها، ومن سنّ سنّة سيّئة كان عليه مثل وزر كلّ من عمل بها. واللَّه أعلم» «1».

هذا، وقد انتقد القرطبي في كتاب (التذكرة) إنكار من أنكر هذه الأحاديث فقال ما نصّه:

«أنكر بعض المتغفّلة، الذين اتّبعوا أهوائهم بغير هدي من اللَّه، إعجاباً برأيهم وتحكّماً علي كتاب اللَّه وسنّة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، بعقول __________________________________________________

(1) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجّاج 17: 85.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 366

ضعيفة وأفهام سخيفة فقالوا: لا يجوز في حكم اللَّه وعدله أن يضع سيّئات من اكتسبها علي من لم يكتسبها، ويؤخذ حسنات من عملها وتؤتي من لم يعملها، وزعموا هذا جوراً …

والجواب: أنّ اللَّه سبحانه لم يبن امور الدنيا علي عقول العباد، ولم يعد ولم يوعد علي ما تحتمله عقولهم ويدركونها بأفهامهم، بل وعد وأوعد بمشيّته وإرادته، وأمر ونهي بحكمته، ولو كان كلّما لا تدركه العقول مردوداً، كان أكثر الشرائع مستحيلًا علي موضوع عقول العباد، وذلك أنّ اللَّه أوجب الغسل بخروج المني الذي هو طاهر عند بعض الصحابة وكثير من الامّة، وأوجب غسل الأطراف من الغائط الذي لا خلاف بين الامّة وسائر من يقول بالعقل وغيرهما في نجاسته وقذارته ونتنه، وأوجب بريح يخرج من موضع الحدث ما أوجب بخروج الغائط الكثير المتفاحش، فبأيّ عقل يستقيم هذا؟ أو بأيّ رأي يجب مساواة ريح ليس لها عين قائمة بما يقوم عينه ويزيد علي الريح نتناً وقذراً؟ وقد أوجب اللَّه قطع يمين مؤمن لعشرة دراهم وعند بعض

الفقهاء بثلاثة دراهم ودون ذلك، ثمّ سوّي بين هذا القدر من المال وبين مائة ألف دينار فيكون القطع فيها سواء، وأعطي الام من ولدها الثلث، ثمّ إن كان للمتوفي إخوة جعل لها السدس من غيرأن يرث الإخوة من ذلك شيئاً؟ فبأيّ عقل يدرك هذا؟ إلّاتسليماً وانقياداً من صاحب الشرع، إلي غير ذلك.

وكذلك القصاص بالحسنات والسيّئات» «1».

وأخرج مسلم:

__________________________________________________

(1) التذكرة في أحوال الموتي وأمور الآخرة: 310- 311/ باب القصاص يوم القيامة ممّن استطال في حقوق الناس.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 367

«حدّثنا أبوبكر ابن أبي شيبة، ثنا أبو اسامة، عن طلحة بن يحيي، عن أبي بردة عن أبي موسي قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إذا كان يوم القيامة دفع اللَّه إلي كلّ مسلم يهوديّاً أو نصرانيّاً فيقول: هذا فكاكك من النّار.

وحدّثنا أبوبكر ابن أبي شيبة، ثنا عفان بن مسلم، ثنا همام، ثنا قتادة: أنّ عوناً وسعيد بن أبي بردة حدّثناه أنّهما شهدا أبابردة يحدّث عمر بن عبدالعزيز، عن أبيه عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: لا يموت رجل مسلم إلّا أدخل اللَّه مكانه النّار يهوديّاً أو نصرانيّاً. قال: فاستحلفه عمر بن عبدالعزيز باللَّه الذي لا إله إلّاهو- ثلاث مرّات- أنّ أباه حدّثه عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، قال: فحلف له. قال: فلم يحدّثني سعيد أنّه استحلفه، ولم ينكر علي عون قوله.

حدّثنا إسحاق بن إبراهيم ومحمّد بن مثنّي جميعاً، عن عبدالصّمد بن عبدالوارث، أخبرنا همام، ثنا قتادة بهذا الإسناد نحو حديث عفّان وقال: عون ابن عتبة» «1».

وأخرج في (مسند أحمد):

«حدّثنا عبداللَّه، حدّثني أبي، ثنا أبوالمغيرة- وهو النضر بن إسماعيل يعني القاضي-، ثنا يزيد، عن أبي بردة، عن أبي موسي قال: قال

رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إذا كان يوم القيامة لم يبق مؤمن إلّااتي بيهوديّ أو نصرانيّ، حتّي يدفع إليه فيقال له: هذا فداؤك من النّار. قال أبو بردة:

فاستحلفني عمر بن عبدالعزيز باللَّه الذي لا إله إلّاهو، أسمعت أباموسي يذكره __________________________________________________

(1) صحيح مسلم 4: 2119/ 2767 كتاب التوبة- باب (8) قبول توبة القائل وإن كثر قتله.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 368

عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم؟ قال: قلت: نعم، فسُرَّ بذلك» «1».

وأخرج:

«حدّثنا عبداللَّه، حدّثني أبي، ثنا عبدالصمد، ثنا همام، ثنا قتادة، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسي الأشعري قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: لا يموت مسلم إلّاأدخل اللَّه مكانه النّار يهوديّاً أو نصرانيّاً.

حدّثنا عبداللَّه، حدّثني أبي، ثنا عبدالصمد، ثنا همام، ثنا قتادة، عن سعيد بن أبي بردة وعون بن عتبة حدّثاه: أنّهما شهدا أبابردة يحدّث عمر بن عبدالعزيز بهذا الحديث، فاستحلفه باللَّه الذي لا إله إلّاهو، أنّ أباه حدّثه أنّه سمع من النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم، فلم ينكر ذلك سعيد علي عون أنّه استحلفه» «2».

وأخرج ابن ماجة:

«حدّثنا جبارة بن المغلس، حدّثنا عبدالأعلي بن أبي المساور، عن أبي بردة عن أبيه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إذا جمع اللَّه الخلائق يوم القيامة أذن لُامّة محمّد في السجود، فيسجدون له طويلًا ثمّ يقول: إرفعوا رؤوسكم قد جعلنا عدّتكم فداءكم من النّار.

حدّثنا جبارة بن المغلس، حدّثنا كثير بن سليم، عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: إنّ هذه الامّة مرحومة،

__________________________________________________

(1) مسند أحمد 5: 549/ 19103.

(2) مسند أحمد 5: 531/ 18991- 18992.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1،

ص: 369

عذابها بأيديها، فإذا كان يوم القيامة دفع إلي كلّ رجل من المسلمين رجلًا من المشركين فيقال: هذا فداؤك من النّار» «1».

وفي (جامع الاصول):

«إنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: لا يموت مسلم إلّاأدخل اللَّه مكانه النّار يهوديّاً أو نصرانيّاً. قال: فاستحلف عمر بن عبدالعزيز أبابردة باللَّه الذي لا إله إلّاهو- ثلاث مرّات- أنّ أباه حدّثه عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، قال: فحلف له» «2».

__________________________________________________

(1) سنن ابن ماجة 2: 1434/ 4291- 4292 كتاب الزهد- الباب (34) باب صفة أمّة محمّد.

(2) جامع الأصول 9: 194/ 6758 الباب الخامس من كتاب الفضائل والمناقب في فضل هذه الأمّة الإسلاميّة- النوع السادس.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 371

هل يدخل ولد الزنا الجنّة؟ … ص: 371

اشارة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 373

رأي الإماميّة في المسألة … ص: 373

ذهب بعض الإماميّة إلي أنّ ولد الزنا لا يكون مؤمناً، بمعني: أنّه يختار الكفر عن اختيار، وإنْ أظهر الإيمان في الظاهر. ولا مخالفة لهذا القول لقواعد العدل. قال في (الفصول المهمّة):

«والقول بأنّ ولد الزنا كافر وإنْ أظهر الإسلام، ليس له دليل يعتد به، وأكثر الإماميّة علي خلافه. ووجه ما مرّ ممّا يوهم ذلك: إنّ خبث أصله سبب لميله إلي أفعال المعاصي غالباً باختياره، ولا يخفي أنّ تلك الأسباب لا تنتهي إلي حدّ الجبر والإلجاء قطعاً، للأدلّة العقليّة والنقليّة علي امتناع الظلم علي اللَّه» «1».

فالأخبار الواردة في هذا المعني هي في الحقيقة إخبار عن سوء حال ولد الزنا، بمعني أنّ أكثر أولاد الزنا تصدر منهم الأفعال القبيحة والأعمال الشنيعة المانعة من الدخول في الجنّة، وهذا لا ينافي فلاح بعضهم، وقد اشتهر أنّه «ما من عامٍ إلّاقد خُصَّ» ولا كلام في جواز تخصيص العمومات وتقييد المطلقات، الواردة في الكتاب والسنّة …

فالأخبار المذكورة- بعد فهم معناها وحملها علي الغالب-، سالمة من الإشكال.

والحمل علي الغالب شائع وذائع في الأخبار، كحملهم عليه الحديث __________________________________________________

(1) الفصول المهمّة في أصول الأئمّة 3: 268/ الباب الأوّل من أبواب نوادر الكليّات.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 374

عن النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «أعمار امّتي مابين الستّين إلي السبعين»، إذ قال المناوي بشرحه:

«قال الطيبي: هذا محمول علي الغالب، بدليل شهادة الحال، فإنّ منهم من لم يبلغ ستين» «1».

فما ذكره الشيخ الحرّ العاملي في تأويل أخبار ولد الزنا في (الفصول المهمّة) من الحمل علي الغالب صحيح.

وعليه الزمخشري والرازي … ص: 374

وهو موافق لما ذكره الزمخشري والرازي في تفسيريهما، بتفسير قوله تعالي: «لا تُطِعْ كُلَّ حلّاف مهين همّاز … ».

قال في (التفسير الكبير):

«هذا يدلّ علي أنّ هذين الوصفين- وهو

كونه عتلّاً زنيماً- معائبه، لأنّه إذا كان جافياً غليظ الطبع قسا قلبه واجترأ علي كلّ معصية، ولأنّ الغالب أنّ النطفة إذا خبثت خبث الولد، ولهذا قال عليه السلام: لا يدخل الجنّة ولد الزنا ولا ولده ولا ولد ولده» «2».

وفي (الكشّاف):

«وكان الوليد دعيّاً في قريش، ليس من سنخهم، ادّعاه أبوه بعد ثماني عشرة من مولده. وقيل: بغت امّه ولم يعرف حتّي نزلت هذه الآية. جعل جفاءه ودعوته أشدّ معائبه، لأنّه إذا جفا وغلظ طبعه قسا قلبه واجترأ علي كلّ معصية، ولأنّ الغالب أنّ النطفة إذا خبثت خبث الناشي ء منها، ومن ثمّ قال __________________________________________________

(1) فيض القدير- شرح الجامع الصغير 2: 11.

(2) تفسير الرازي 30: 85.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 375

رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: لا يدخل الجنّة ولد الزنا ولا ولده ولا ولد ولده» «1».

هذا، وللقوم في تأويل هذه الأحاديث أقوال اخري:

الأقوال في تأويل خبر: ولد الزنا لا يدخل الجنّة … ص: 375

قال السيوطي في (اللآلي المصنوعة):

«قال الرافعي في تاريخ قزوين: رأيت بخط الإمام أبي الخير أحمد بن إسماعيل الطالقاني: سألني بعض الفقهاء في المدرسة النظامية ببغداد في جمادي الاولي سنة 576 عمّا ورد في الخبر أنّ ولد الزنا لا يدخل الجنّة، وهناك جمع من الفقهاء، فقال بعضهم: هذا لا يصحّ «ولا تزر وازرة وزر اخري» وذكر أنّ بعضهم قال في معناه: إنّه إذا عمل عمل أصليه وارتكب الفاحشة لا يدخل الجنّة، وزُيّف ذلك بأنّ ذلك لا يختصّ بولد الزنا بل حال ولد الرشيدة مثله.

ثمّ فتح اللَّه علَيّ جواباً شافياً لا أدري هل سبقت إليه، فقلت: معناه أنّه لا يدخل الجنّة بعمل أصليه، بخلاف ولد الرشيدة، فإنّه إذا مات طفلًا وأبواه مؤمنان الحق بهما وبلغ درجتهما بصلاحهما، علي ما قال تعالي: «والذين آمنوا واتّبعتهم

ذرّيّاتهم بإيمان ألحقنا بهم ذرّيّاتهم» وولد الزنا لا يدخل الجنّة بعمل أبويه. أمّا الزاني فنسبه منقطع، وأمّا الزانية فشؤم زناها- وإنْ صلحت- يمنع من وصول بركة صلاحها إليه» «2».

والآية الكريمة في نسخة اللآلي كما نقلت.

__________________________________________________

(1) الكشّاف 6: 183.

(2) اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة 2: 194.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 376

أقول:

لكنّ تأويل أبي الخير الطالقاني أيضاً لا يخلو من ضعف، لأنّ صريح تلك الأحاديث أنّ ولد الزنا لا يدخل الجنّة، وأنّه محروم منها، كما يدلّ عليه أيضاً تشريكه مع العصاة والمجرمين، وكما يدلّ علي ذلك عدم دخول ولد الزنا الجنّة ولا ولده ولا ولد ولده إلي ثلاثة بل إلي خمسة بل إلي سبعة، فالقول بأنّه لا يدخل الجنّة بعمل أصليه، إنْ اريد منه أنّ عملهما هو السبب في عدم دخوله الجنّة فالإشكال باقٍ علي حاله، وإنْ اريد منه أنّه غير محروم من الجنّة، بل يدخلها لكنْ لا بعمل أبويه، فهو مخالفٌ لصريح الأحاديث.

ثمّ إنّ هذا التأويل لا يفيد في حديث أبي هريرة: إنّ ولد الزنا شرّ الثلاثة.

وكذا بالنظر إلي حديث عبداللَّه بن عمرو بن العاص وكلام سعيد بن جبير من أنّه مخلوق للنّار، بل يردّه حديث ميمونة، العام الصريح في سلب الخير من ولد الزنا … وكذا فتوي أبي حنيفة بأنّ خبث الولادة عيب في المبيع.

ومنهم من تأوّل هذه الأحاديث: بأنّ المراد من ولد الزنا فيها، هو من واظب علي الزنا والتزم به، كما يقال للشجعان: بنو الحرب، ولأولاد المسلمين: بنو الإسلام …

ذكره عبدالحق الدهلوي في (شرح سفر السّعادة) عن بعض العلماء.

وهو ضعيف لوجوه، منها: أنه لا يمكن أن يحمل عليه ما ورد من تلك الأحاديث بلفظ: لا يدخل الجنّة ولد الزنا ولا ولده

ولا ولد ولده، وفي بعضها:

ولا شي ء من نسله إلي سبعة آباء …

ومنهم من تأوَّل حديث: ولد الزنا شرّ الثلاثة بقوله: «لأنّ الحدّ قد يقام استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 377

عليها فتكون العقوبة لهما، وهذا في علم اللَّه لا يدري ما يصنع به وما يفعل في ذنوبه».

أورده السيوطي في (مرقاة الصعود- حاشية سنن أبي داود) عن بعضهم.

وفيه ضعف من وجوه كثيرة:

منها: احتمال أن يتوب ولد الزنا ولا يتوب والداه، فيكون خيراً منهما.

ومنها: أنّ مجرّد عدم العلم بما يفعله اللَّه فيه لا يقتضي كونه شرّاً منهما.

ومنها: إنّه لا يجري في سائر الأحاديث الواردة في عدم دخول ولد الزنا الجنّة.

ولمّا اشكل الأمر علي بعضهم، ولم يتمكّن من فهم هذه الأحاديث، عمد إلي تكذيبها، كما في كلام القاري حيث قال: «حديث: ولد الزنا لا يدخل الجنّة، لا أصل له» «1».

لكن القول بأنّه «لا أصل له» لا يستلزم عدم تخريج أحد من المحدّثين للحديث، ولو تمّ الاستلزام المذكور لزم تكذيب جميع العلماء الذين صرّحوا بوقوع الإختلاف في الأحاديث، والحال أنّ وقوع الإختلاف في الأحاديث أمر واضح كالشمس في رابعة النهار، كما لا يخفي علي من راجع كتب الحديث، لاسيّما شروح الصحاح وأمثالها من الأسفار … وما أكثر الأحاديث التي قيل بأنْ لا أصل لها، مع وجود روايات القوم لها بأسانيدهم … كما لا يخفي علي من راجع (اللآلي المصنوعة) وأمثاله، بل قلّما تجد حديثاً ممّا أدرجه ابن الجوزي في (الموضوعات) لم يروه إمام كبيرٌ من أئمّة الحديث عندهم.

إنّ الإختلاف بينهم في الأحاديث التي يروونها ممّا يعلمه أقلّ الطلبة …

__________________________________________________

(1) الأسرار المرفوعة في الأحاديث الموضوعة: 362/ 575.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 378

حتّي أنّه ليعلم وقوع الإختلاف في

أحاديث كتابي البخاري ومسلم المعروفين بالصحيحين أيضاً … فإنّ ذلك مذكور في سائر الكتب، وحتي في الكتب الدرسيّة مثل (فواتح الرحموت في شرح مسلّم الثبوت) فإنّه قال:

«فرع- إبن الصلاح وطائفة من الملقَّبين بأهل الحديث زعموا أنَّ رواية الشيخين محمّد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج صاحبي الصحيحين يفيد العلم النظري، للإجماع علي أنّ للصحيحين مزيّةً علي غيرهما، وتلقّت الامّة بقبولهما، والإجماع قطعي.

وهذا بهت، فإن من راجع إلي وجدانه يعلم بالضرورة أنّ مجرّد روايتهما لا يوجب اليقين ألبتة، وقد روي فيهما أخبار متناقضة، فلو أفاد روايتهما علماً لزم تحقق النقيضين في الواقع.

وهذا- أي ما ذهب إليه ابن الصلاح وأتباعه- بخلاف ما قاله الجمهور من الفقهاء والمحدّثين، لأن انعقاد الإجماع علي المزيّة علي غيرهما من مرويّات ثقات آخرين ممنوع، والإجماع علي مزيّتهما في أنفسهما لا يفيد، ولأن جلالة شأنهما وتلقّي الامّة بكتابيهما- لو سلّم- لا يستلزم ذلك القطع والعلم، فإن القدر المسلّم المتلقّي بين الامة ليس إلّاأنّ رجال مرويّاتهما جامعة للشروط التي اشترطها الجمهور لقبول روايتهم، وهذا لا يفيد إلّاالظن، وأمّا أن مرويّاتهما ثابتة عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم فلا إجماع عليه أصلًا، كيف؟ ولا إجماع علي صحّة جميع ما في كتابيهما، لأن رواتهما فهم قدريّون وغيرهم من أهل البدع، وقبول رواية أهل البدع مختلف فيه، فأين الإجماع علي صحّة مرويّات القدريّة، غاية ما يلزم أنّ أحاديثهما أصحّ الصحيح، يعني إنّها مشتملة علي الشروط المعتبرة عند الجمهور علي الكمال، وهذا لا يفيد إلّا

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 379

الظن القوي. هذا هو الحق المتّبع» «1».

أسماء الأئمّة الرواة للخبر المذكور … ص: 379

ونحن نذكر أسماء الأئمّة الأعلام من أهل السنّة الرواة لأحاديث عدم دخول ولد الزنا الجنّة … ليكون دليلًا علي

ما ذكرنا، وليتّضح أنّ لهذه الأحاديث أصلًا في كتب القوم، فلا يغترَّ بكلام القاري أحد، وهؤلاء هم:

1- أحمد بن حنبل.

2- ابن أبي شيبة.

3- عبد بن حميد الكشي.

4- سفيان بن سعيد الثوري.

5- عبدالرزاق بن همام.

6- أبو عيسي الترمذي.

7- أبو عبدالرحمن النسائي.

8- أبو داود السجستاني.

9- ابن ماجة القزويني.

10- أبو عبداللَّه الحاكم النيسابوري.

11- أبو حاتم ابن حبان.

12- أبوالحسن الدارقطني.

13- أبوبكر البيهقي.

14- أبو نعيم الإصبهاني.

__________________________________________________

(1) فواتح الرحموت- شرح مسلم الثبوت 2: 123.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 380

15- أبوالطاهر الحسن بن أحمد بن فيل «1».

16- أبوالعباس أحمد بن جعفر الخرائطي «2».

17- عبدالرحمن بن أبي حاتم الرازي.

18- أبوالشيخ الإصبهاني.

19- أبو سليمان الخطابي.

20- أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري.

21- أبوالقاسم الطبراني.

22- أبو يعلي الموصلي.

23- أبوبكر الخطيب البغدادي.

24- أبوبكر ابن مردويه.

25- محب الدين ابن النجار البغدادي.

26- أبوالخير الطالقاني.

27- أبوالقاسم الرافعي.

28- زكي الدين عبدالعظيم المنذري.

29- أبو إسحاق الثعلبي.

30- جار اللَّه الزمخشري.

31- أبوالسعادات ابن الأثير صاحب جامع الاصول.

32- أبوالحسن ابن الأثير صاحب اسد الغابة.

33- محمّد بن إسحاق بن منده.

__________________________________________________

(1) توجد ترجمته في الأنساب «البالسي».

(2) توجد ترجمته في الأنساب «الخرائطي» وفي مرآة الجنان. حوادث 327.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 381

34- أبو علي ابن السكن.

35- أبوالعباس نجم الدين القمولي.

36- عبدالعزيز البخاري صاحب (كشف الأسرار- شرح اصول البزدوي)

37- مسعود بن عمر التفتازاني.

38- شمس الدين ابن خلكان.

39- ابن حجر العسقلاني.

40- جلال الدين السيوطي.

41- الملّا علي المتقي.

42- أبوالخير السخاوي.

43- شمس الدين العلقمي.

44- عبدالرؤوف المناوي.

45- ابن العرّاق.

46- الشيخ رحمة اللَّه السندي.

47- ابن روزبهان الخنجي.

48- ابن الجزري الدمشقي.

49- شهاب الدين الخفاجي.

50- الشيخ عبدالحق الدهلوي.

تنبيه ذكر السيوطي في (اللآلي المصنوعة) تكلُّم ابن الجوزي في بعض طرق الحديث، كقوله في أحدها: «عبدالكريم متروك».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 382

أقول:

إن

كان المراد «عبدالكريم بن مالك الجزري» فهو ثقة من رجال الكتب الستّة كما في (تقريب التهذيب) «1». وإنْ كان المراد «عبدالكريم بن أبي المخارق» فهو من أعيان التابعين، ومن رجال الترمذي والنسائي وابن ماجة والبخاري ومسلم في التعاليق، كما في (الكاشف) «2».

وتكلّم ابن الجوزي في رواية الدارقطني بأن «أبو إسرائيل الملائي» ضعيف.

وفيه: إنّه من رجال الترمذي وابن ماجة كما في (الكاشف) «3» و (التقريب) وقال ابن حجر: «صدوق» «4» وقد كان أبو إسرائيل مؤكداً علي ثبوت الحديث، كما في (اللآلي المصنوعة).

وتكلّم في رواية عبد بن حميد بسبب «إبراهيم بن مهاجر».

وفيه: إنّه من رجال الترمذي وابن ماجة وأبي داود والنسائي، بل ومسلم … كما في (الكاشف) و (التقريب) بل نصَّ ابن حجر علي أنّه «صدوق» «5».

وتكلّم في رواية عبدالرزاق لكون «جابان» في طريقه.

وفيه: إنّه قد وثّقه ابن حبّان، وقال ابن حجر: «مقبول» «6».

__________________________________________________

(1) تقريب التهذيب 1: 516.

(2) الكاشف للذهبي 2: 200.

(3) الكاشف 1: 76.

(4) تقريب التهذيب 1: 69.

(5) الكاشف 1: 50، تقريب التهذيب 1: 44.

(6) تقريب التهذيب 1: 122.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 383

حول كتاب سليم بن قيس الهلالي … ص: 383

اشارة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 385

قال الفيض آبادي … ص: 385

مامحصّله معرّباً:

كنّا نعتقد منذ القديم، وعلي أثر التتبع والنظر في اصول وقواعد مذهب الشيعة، أنّ أصحّ الكتب عندهم قبل القرآن هو: كتاب الكافي لأبي جعفر الكليني، وقد أرسل إليّ في هذه الأيّام بعض الأصدقاء كتاب التفسير لأهل البيت الطاهرين، لجامعه شيخ مشايخ الإماميّة علي بن إبراهيم القمي استاذ الكليني، ومجلَّد كتاب الفتن من بحار الأنوار للشيخ محمّد باقر مع ترجمته لمجتهد العصر وعلّامة الدهر، فوجدت الشيخ المذكور- أعني أفضل متكلّمي الشيعة المتأخّرين الشيخ المجلسي- ينصّ علي أنّ كتاب سليم بن قيس هو الأقدم والأفضل.

ولديَّ من كتاب سليم نسخة أوّلها:

قال: حدّثني أبوطالب محمّد بن صبيح بن رجاء بدمشق سنة 334 قال:

أخبرني أبو عمر عصمة بن أبي عصمة البخاري قال: حدّثنا أبوبكر أحمد بن المنذر بن أحمد الصنعاني بصنعاء- شيخ صالح مأمون، جار إسحاق بن إبراهيم الدميري- قال: حدّثنا أبوبكر عبدالرزاق بن همام بن النافع الصنعاني الحميري قال: حدّثنا أبو عروة معمر بن راشد البصري قال: دعاني أبان بن أبي عياش، قبل موته بنحو شهر …

ونقل المجلسي عن النعماني أنّه وصف الكتاب المذكور بأنّه أصل من الاصول التي رواها أهل العلم وحملة حديث أهل البيت عليهم السلام، وهو

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 386

أقدمها، لأنّ جميع ما اشتمل عليه هذا الكتاب هو عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وأميرالمؤمنين والمقداد وسلمان الفارسي وأبي ذر، ومن جري مجراهم ممّن شهد رسول اللَّه وأميرالمؤمنين وسمع منهما، وهو من الاصول التي ترجع الشيعة إليها وتعوّل عليها.

وجلالة قدر هذا الكتاب ظاهرة أيضاً من كتب الشيخين عند تلك الطائفة.

وقد وصف البرقي مؤلّفه بأنّه من الأولياء الكاملين من أصحاب أميرالمؤمنين.

وجعله الميرزا محمّد الإسترابادي

في منهج المقال في تحقيق أحوال الرجال- تبعاً لأسلافه- من المعدَّلين والمعتمدين.

وكيف لا يكون كذلك؟ وقد عدَّه الإمام الأعظم الحلّي في خلاصة الأقوال والشيخ محمّد تقي والد الفاضل المجلسي في رجال روضة المتقين، من خلّص أصحاب المرتضي.

بل إنّه- كما قال بعض الأجلّة- إنّما صنّف الكتاب المذكور بأمرٍ من أميرالمؤمنين.

وفي البحار من طريق عمر بن اذينة عن أبان: أنّ سليماً قد احتاط في هذا الكتاب إلي حدٍّ- والعياذ باللَّه- لم يثق بما رواه عن أميرالمؤمنين وحده، وكذا كلٌّ من أصحابه الثلاثة، يعني سلمان وأباذر والمقداد، حتّي يسمع الخبر من البقيّة، فإذا اجتمعوا علي شي ء كتبه، وهذا هو صريح كلامه حيث قال:

«أخذتها من أهل الحق والفقه والصدق والبرّ، عن عليّ بن أبي طالب وسلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري والمقداد بن الأسود، ليس منها حديث أسمعه من استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 387

أحدهم إلّاسألت عنه الآخر، حتّي اجتمعوا عليه جميعاً».

وقد جاء في آخر النسخة: أنّه قد عرض الكتاب كلّه علي سيّد الساجدين وكان في مجلسه أبوالطفيل صحابي رسول اللَّه، وعمر بن أبي سلمة ابن ام المؤمنين ام سلمة رضي اللَّه عنها، فأقرّوه كلّهم.

وفي البحار: «قال أبان: فحججت من عامي ذلك، فدخلت علي عليّ ابن الحسين وعنده أبوالطفيل عامر بن واثلة صاحب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وكان من خيار أصحاب عليّ عليه السلام، ولقيت عنده عمر بن أبي سلمة ابن ام سلمة زوجة النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، فعرضته عليه وعرضت علي علي بن الحسين ذلك أجمع ثلاثة أيام، كلّ يوم إلي اللّيل، ويغدو عليه عمر وعامر، فقرأته عليه ثلاثة أيام. فقال لي: صدق سليم رحمه اللَّه، هذا حديثنا كلّه نعرفه، وقال أبوالطفيل

وعمر بن أبي سلمة: ما فيه حديث إلّا وقد سمعته من علي ومن سلمان وأبي ذر ومن المقداد».

والإمام محمّد الباقر عليه السلام، بعد أنْ استمع إلي قصّة الكتاب ومؤلّفه، جعل يمدحه بالصدق والسداد والرشد والرشاد.

ولا يخفي علي أحد: أنّ يعقوباً الكليني الذي استفاد كثيراً من سليم وأمثاله، لم يصل إلي هذه المراتب العالية، وكتابه الذي شحنه بروايات الملحدين في الآفاق، من أمثال زرارة وشيطان الطاق، لا يصل إلي هذه المراتب القصوي.

ورواة كتاب سليم من أجلّاء أصحاب سيّد الأنبياء صلّي اللَّه عليه وسلّم وأمثالهم، الذين هم- كما وصفهم الإمام الرضا- كالنجوم في السماء، وهو كتاب مقبول عند أئمّة الهدي من أوّله إلي آخره، ويعدُّ جامعه فيمن لازم استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 388

أميرالمؤمنين وكان من كمّل أصحابه الأطياب، بالإضافة إلي الوقائع الكثيرة التي شاهدها سليم منذ زمن إمامته إلي زمان إمامة الإمام الباقر.

أمّا الكليني فقد سمع ذلك عن لسان الآخرين.

ولمزيد الإعتماد ودفع الإشتباه وتحقيق الامور، رجع سليم إلي الحسنين عليهما السلام أيضاً، كما في اعتقادات صدوق المتشيّعين وصحيفة المتقين.

وليس الخبر كالمعاينة.

وبالنظر إلي هذه الوجوه اليقينيّة، فلو حلف أحد علي صحّة كتاب سليم ما كان حانثاً.

نقد الكلام المذكور … ص: 388

أقول:

وفي هذا الكلام افتراءات وخرافات وأغلاط، نتعرّض فيما يلي لبعضها:

أوّلًا: ما ذكره من أنّا نقول بأنّ الكافي أصحّ من القرآن الكريم، من أقبح الإفتراءات وأشنع الأكاذيب وأفظع التّهم … حاشا أهل الحق من ترجيح كلامٍ أو كتابٍ علي كتاب اللَّه العظيم …

وثانياً: نسبة ترجمة كتاب بحار الأنوار إلي سلطان العلماء قدّس سرّه، لا أساس لها من الصحّة.

وثالثاً: ما عزاه إلي صاحب البحار من القول بتفضيل كتاب سليم علي كتاب الكافي، باطل كذلك، إذ لا دلالة لكلامه علي هذا بوجهٍ

من الوجوه، بل المستفاد من كلامه ترجيحه سائر الاصول المعتبرة علي كتاب سليم حيث قال:

«والحقّ أنّ بمثل هذا- أي اشتماله علي قصّة محمّد بن أبي بكر الآتي تفصيلها

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 389

- لا يمكن القدح في كتابٍ معروفٍ بين المحدّثين، إعتمد عليه الكليني والصّدوق وغيرهما من القدماء، وأكثر أخباره مطابقة لما روي بالأسانيد الصحيحة في الاصول المعتبرة … » «1»، إذ تراه يستدل لاعتبار كتاب سليم باعتماد الكليني وغيره من المحدّثين عليه، وبمطابقة أخباره لما في الاصول المعتبرة، فكان مطابقة أخباره لذلك دليلًا علي اعتباره …

وبالجملة، فإنّ دعوي أفضليّة كتاب سليم من كتاب الكليني ممنوعة جدّاً، ولا دليل عليها في كلام الشيخ المجلسي أصلًا.

وما حكاه عن النعماني فظاهره أنّ كتاب سليم أصل من أفضل الاصول ومن أقدمها، فلا دلالة فيه علي كونه أفضل الاصول كلّها …

ورابعاً: إنّ كنية «عصمة بن أبي عصمة» هي «أبو عمرو» لا «أبو عمر» فما ذكره خطأ.

وخامساً: إنّ نسبة إسحاق بن إبراهيم إلي «الدير» فهو «الديري» وقوله «الدميري» خطأ … وترجمته مذكورة في الكتب الرجالية، وليته رجع إليها، وقد وثّقه غير واحدٍ من الأعلام.

تنبيه علي خطأ لصاحب التحفة … ص: 389

هذا، وقد توهّم الدهلوي صاحب (التحفة) أنّ لسليم بن قيس كتابين لا كتاب واحد، وقد نشأ هذا التوهّم لديه عندما أراد ترجمة عبارة كتاب (الصواقع)- لكون (التحفة) منحولةً منه- التي هذا نصّها:

«الرواية السادسة: إنّه روي سليم بن قيس الهلالي في كتابه، من __________________________________________________

(1) بحارالأنوار 30: 134، الباب 19.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 390

احتجاجات الأشعث بن قيس، في خبر طويل، أنّ أميرالمؤمنين قال: لمّا قبض رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم ومال النّاس إلي أبي بكر فبايعوه، حملت فاطمة وأخذت بيد الحسن

والحسين، ولم أدع أحداً من أهل بدر وأهل السّابقة من المهاجرين والأنصار، إلّاناشدتهم اللَّه حقّي ودعوتهم إلي نصرتي، فلم يستجب لي من جميع الناس إلّاأربع رهط: الزبير وسلمان وأبوذر ومقداد.

وهو دالّ علي أنّه لم يجب عليه التقيّة، لأنّه لو وجبت لم يظهر أمره لمن بايع أبابكر، فإنّ التقيّة تنافي الإظهار.

الرواية السابعة: روي سليم بن قيس في كتابه الآخر المشهور لدي الشيعة بكتاب أبان بن أبي عياش الذي يرويه عن سليم: أنّ أبابكر بعث قنفذاً إلي علي حين بايعه الناس ولم يبايعه علي وقال له: إنطلق إلي علي وقل له:

أجب خليفة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، فانطلق فبلّغه … ».

فقال في الوجه السادس: «ذكر سليم بن قيس الهلالي في كتابه» ثمّ قال في السابع: «ذكر سليم بن قيس في كتابه الذي رواه عنه أبان»، فتوهّم الدهلوي من اختلاف التعبير تعدّد الكتاب، كما لا يخفي علي من راجع (التحفة) «1» وما هو إلّاتفنّن في العبارة، لأنّ كتاب سليم ليس إلّاما رواه أبان … لكنّ الدهلوي غفل عن ذلك.

وسادساً: إنّ الذي يجده الناظر في رجال البرقي هو كون سليم بن قيس من أولياء أميرالمؤمنين. وأمّا كلمة «الكاملين» فإضافة من الفيض آبادي.

وسابعاً: وما حكاه عن العلّامة الحلي أيضاً غير خالٍ من التحريف والتصحيف، لأنّ المذكور في (خلاصة الأقوال) بالنص هو: «وقال السيّد علي __________________________________________________

(1) التحفة الاثني عشريّة: 365- 366.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 391

بن أحمد العقيقي: كان سليم بن قيس من أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام، طلبه الحجّاج … » «1» وليس فيه «من خلّص أصحاب … »، فكانت كلمة «خلّص» إضافةً من الفيض آبادي.

وثامناً: وأمّا أن «سليماً» صنَّف هذا الكتاب بأمرٍ من الإمام أميرالمؤمنين عليه

السلام … فلا ندري من أين جاء به؟ وممّن سمعه؟ ولماذا لم يذكر اسم بعض الأجلّة الذي عزا إليه هذه الدعوي؟

وتاسعاً: وكبرت كلمة تخرج من فيّ هذا الرجل، إذ نسب إلي سليم أنّه كان إذا سمع شيئاً من أميرالمؤمنين عليه السلام وحده لم يكتبه حتّي يسمعه من سلمان أيضاً مثلًا … وكيف يمكنه إرجاع الضمير في «أحدهم» إلي كلّ من ذكر ليشمل الإمام عليه السلام أيضاً … بل ظاهر كلام سليم أنّه متي ما سمع شيئاً من أحد الثلاثة منفرداً لم يكتبه «حتّي اجتمعوا عليه جميعاً»، فلا يعمّ الكلام الإمام عليه السلام …

لا يقال: إنّ هذا أيضاً غير جائز، لأنّه طعن في الثلاثة.

لأنّا نقول: ليس الأمركذلك، وإنّما كان ذلك احتياطاً من سليم، كما صرّح هو في حديث سمعه من أبي ذر عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم إذ قال: «يا أباالحسن، وأنت يا سلمان، وأنت يا مقداد، تقولون كما قال أبوذر؟ قالوا: نعم، صدق. قلت: أربعة عدول، ولو لم يخبرني منكم غير واحدٍ ما شككت في صدقه، ولكنْ أربعتكم أشدّ لنفسي وبصيرتي» «2».

هذا، ولا مانع من عود الضمير في «أحدهم» إلي جميع الأربعة، لجواز

__________________________________________________

(1) خلاصة الأقوال/ رجال العلّامة الحلّي: 83 ترجمة سليم بن قيس الهلالي.

(2) كتاب سليم بن قيس 2: 726/ الحديث 19.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 392

أن يكون مقصد سليم هو الإحتجاج بالخبر علي المخالفين لأميرالمؤمنين عليه السلام، فكان يأخذ الخبر من غيره من الصحابة أيضاً ليتمّ الإحتجاج به عليهم، كما هو دأب المصنّفين من أهل الحق، إذ لا يكتفون بما يروونه عن الأئمّة الأطهار في مقام إلزام الخصوم … وحتّي الإمام نفسه عليه السلام قد اضطرّ إلي مناشدة الأصحاب غير مرّة،

كما هو معلوم …

وعاشراً: لقد نقل عن الإمام السجّاد عليه السلام تصديقه كتاب سليم، لكنَّ السند ضعيف، ففي (منتهي المقال): «وفي كش- بسند ضعيف- في جملة حديثٍ: وزعم أبان أنّه قرأه علي عليّ بن الحسين عليه السلام قال:

صدق سليم رحمة اللَّه عليه، هذا حديث نعرفه» «1».

وقد كان علي الفيض آبادي التنبيه علي هذا!

والحادي عشر: إنّه ليس في شي ء من الكتب الرجالية ما يدلّ علي تصديق الإمام عليه السلام وتأييده لكتاب سليم … ومن ادّعي فعليه البيان.

نعم هناك رواية فيها تصديق الإمام عليه السلام لخبرٍ رواه سليم بن قيس في سبب اختلاف الناس في الحديث، رواها الكشي في كتابه، وهذا نصّها:

«محمّد بن الحسن قال: حدّثنا الحسن بن علي بن كيسان، عن إسحاق ابن إبراهيم، عن ابن اذينة، عن أبان بن أبي عياش، عن سليم بن قيس الهلالي، قال:

قلت لأميرالمؤمنين عليه السلام: إنّي سمعت من سلمان ومقداد ومن أبي ذر أشياء في تفسير القرآن ومن الرواية عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله __________________________________________________

(1) منتهي المقال في الرجال 3: 376/ 1356 ترجمة سليم بن قيس.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 393

وسلّم، وسمعت منك تصديق ما سمعت منهم، ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الأحاديث عن نبي اللَّه عليه السلام أنتم تخالفونه- وذكر الحديث بطوله.

قال أبان: فقدّر لي بعد موت علي بن الحسين أنّي حججت، فلقيت أباجعفر محمّد بن علي، فحدّثته بهذا الحديث كلّه لم أخط منه حرفاً، فاغرورقت عيناه ثمّ قال:

صدق سليم، قد أتي أبي بعد قتل جدّي الحسين وأنا قاعد عنده، فحدّثه بهذا الحديث بعينه، فقال له أبي: صدقت، قد حدّثني أبي وعمّي الحسن- عليهما السلام- بهذا الحديث عن أميرالمؤمنين عليه السلام.

الحديث»

«1».

وبهذا ظهر تدليس الفيض آبادي.

والثاني عشر: قد طعن في الكافي، وشتم زرارة ومؤمن الطاق، ولقّبه ب «شيطان الطاق»، وقد نقل بعض أهل السنّة أنّ أوّل من لقّبه بذلك هو إمامهم الأعظم «أبو حنيفة»، لكثرة إلزامات مؤمن الطاق وإفحاماته للخصوم في مختلف المسائل والمناظرات، فلا عجب من أنْ يتّبعه علي ذلك المقلّدون له، عناداً للحقّ وعداوةً لأهل البيت عليهم السلام، لاسيّما وأنّ الإمام الصادق عليه السلام كان يقدّمه ويثني عليه … وقد صرَّح بكلّ هذا الحافظ ابن حجر، حيث ترجم لمؤمن الطاق قائلًا:

«محمّد بن علي بن النعمان بن أبي طريفة البجلي الكوفي، أبو جعفر الملقَّب بشيطان الطاق، نسب إلي سوق في طاق المحامل بالكوفة كان يجلس __________________________________________________

(1) رجال الكشي: 104- 105/ 167 بترجمة سليم بن قيس الهلالي.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 394

للصرف بها، فيقال: إنّه اختصم مع صيرفي آخر في درهم زائف فغلب، فقال:

أنت شيطان الطاق.

وقيل: إنّ هشام بن الحكم شيخ الرافضة لمّا بلغه أنّهم لقّبوه شيطان الطاق سمّاه هو: مؤمن الطاق.

ويقال: إنّ أوّل من لقّبه بشيطان الطاق أبو حنيفة، في مناظرة جرت بحضرته بينه وبين بعض الحروريّة.

ويقال: إنّ جعفراً الصّادق كان يقدّمه ويثني عليه … » «1».

والثالث عشر: إنّه زعم اعتراف الإمام الرضا عليه السلام بكون أصحاب النبي كالنجوم، مشيراً إلي حديث: أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم …

لكن المراد من «الأصحاب» في «حديث النجوم» عند أهل الحق هم «أهل البيت» خاصّةً، وهم يروون ذلك عن النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم بالأسانيد، ومن ذلك: ما رواه الشيخ الصدوق في (معاني الأخبار) قال:

«حدّثنا محمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمه اللَّه قال: حدّثنا محمّد بن الحسن الصفّار، عن الحسن بن موسي الخشّاب، عن

غياث بن كلوب، عن إسحاق بن عمّار، عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم السلام قال قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم:

ما وجدتم في كتاب اللَّه عزّ وجلّ، فالعمل لكم به لا عذر لكم في تركه، وما لم يكن في كتاب اللَّه عزّوجلّ وكانت فيه السنّة منّي، فلا عذر لكم في ترك سنّتي، وما لم يكن فيه سنّة منّي، فما قال أصحابي فقولوا به، إنّما مثل أصحابي فيكم كمثل النجوم، بأيّها اخذ اهتدي، بأيّ أقاويل أصحابي أخذتم __________________________________________________

(1) لسان الميزان 6: 378/ 7872.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 395

اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة.

فقيل: يا رسول اللَّه، من أصحابك؟ قال: أهل بيتي.

قال محمّد بن علي مؤلف هذا الكتاب: إنّ أهل البيت عليهم السلام لا يختلفون، ولكن يفتون للشيعة بمرّ الحق، وربّما أفتوهم بالتقية، فما يختلف من قولهم فهو للتقيّة، والتقيّة رحمة للشيعة» «1».

وأمّا الخبر في (عيون الأخبار) الذي توهّم حمل حديث النجوم فيه علي الصحابة، فهو ما رواه الصدوق بقوله:

«حدّثنا الحاكم أبو علي الحسين بن أحمد البيهقي قال: حدّثنا محمّد بن يحيي الصّولي قال: حدّثنا محمّد بن موسي بن نصر الرازي قال: حدّثني أبي قال: سُئل الرضا عليه السلام عن قول النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم:

أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم، وعن قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم:

دعوا لي أصحابي.

فقال: هذا صحيح، يريد من لم يغيّر بعده ولم يبدّل.

قيل: وكيف نعلم أنّهم قد غيّروا وبدّلوا؟

قال: ما يروونه من أنّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم قال: ليذادنّ رجال من أصحابي يوم القيامة عن حوضي، كما تذاد غرائب الإبل عن الماء، فأقول: يا ربّ أصحابي أصحابي. فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فيؤخذ بهم

ذات الشمال، فأقول: بُعداً لهم وسحقاً.

أفتري هذا لمن لم يغيّر و لم يبدّل؟!» «2».

__________________________________________________

(1) معاني الأخبار: 156- 157.

(2) عيون الأخبار 2: 87/ 33 الباب 32.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 396

لكنّ جواب الإمام عليه السلام: «هذا صحيح … » متوجّه إلي الحديث الثاني وهو قوله: «دعوا لي أصحابي» وأمّا الحديث الأول- وهو حديث النجوم- فقد فسّره حديث (معاني الأخبار) وبذاك المعني يكون صحيحاً أيضاً …

ولابدّ من أن يكون المراد ذلك، لأنّه يدلّ علي العصمة، ولا أحد يقول بعصمة الصحابة …

إلّاأنّ حديث أصحابي كالنجوم ساقط عند أئمّة القوم: كأحمد، والبزار، وابن حزم، والبيهقي، وابن حجر، وغيرهم، من السابقين واللاحقين، فمنهم من نصّ علي ضعفه، ومنهم من رماه بالوضع والكذب … فراجع: (البحر المحيط في تفسير القرآن) لأبي حيان الأندلسي، و (المرقاة في شرح المشكاة) للقاري، و (العلل المتناهية في الأحاديث الواهية) لابن الجوزي، و (فيض القدير- شرح الجامع الصغير) للمناوي، و (فواتح الرحموت- شرح مسلَّم الثبوت) لعبدالعلي الأنصاري … وغيرها من كتب القوم في العلوم المختلفة …

وإن شئت التفصيل فارجع إلي الرسالة المصنَّفة في خصوص حديث النجوم «1».

والرابع عشر: ما ذكره من أن سليماً قد حضر الوقائع في زمن إمامة الإمام الباقر عليه السلام، غلط فضيح، لِما سيأتي من أنّ سليماً قد توفي في أيام الإمام السّجاد عليه السلام.

والخامس عشر: ما ذكره لترجيح كتاب سليم علي الكافي، من أن الكليني قد روي الوقائع والأخبار بالواسطة، أمّا سليم، فقد كان معاصراً لها

__________________________________________________

(1) رسالة في حديث أصحابي كالنجوم إحدي، (الرسائل العشر) المطبوعة، للسيّد علي الحسيني الميلاني، وقد استفيد فيها من بحوث السيّد مير حامد حسين كثيراً.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 397

ومشاهداً لها. فيه: إنّ الكليني

وإنْ لم يشهد الوقائع والقضايا، لكنّه رواها عمّن شهدها أو سمعها من المعصوم.

هذا، مع قطع النظر عن الإسناد إلي سليم، ومن روي عنهم ثقة الإسلام الكليني.

وأمّا بالنظر إليه، فالحال مختلف كما لا يخفي علي اولي الأفهام، فإنّ أسناد بعض أحاديث الكافي فاضل علي أسناد كتاب سليم، وأسناد بعضها مفضول، فالحكم بترجيح أحد الجانبين علي الإطلاق لا يصلح للقبول.

والسادس عشر: ما ذكره من رجوع سليم إلي الحسنين عليهما السلام لمزيد التحقيق، نقلًا عن اعتقادات الصدوق وصحيفة المتقين، إنْ أراد رجوعه إليهما في جميع ما في كتابه، فهو ممنوع، لأنّ القدر الثابت أنّه رجع إليهما وذكر لهما خصوص ما سمعه من أميرالمؤمنين عليه السلام من الخبر الطويل في سبب اختلاف الناس في الحديث، فهذا هو الذي عرضه عليهما، وقد صدّقاه فيه، وأمّا سائر أخبار كتابه، فلا دليل عليه أصلًا …

لقد جاء في كتاب سليم بعد أخذه الجواب من الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام: «قال سليم بن قيس: ثمّ أتيت الحسن والحسين عليهما السلام بالمدينة فحدّثتهما بهذا الحديث عن أبيهما. قالا: صدقت، قد حدّثك أميرالمؤمنين بهذا الحديث ونحن جلوس عنده، وقد حفظنا ذلك عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم كما حدّثك، فلم تزد فيه حرفاً ولم تنقص منه حرفاً» «1».

فلا دلالة له علي عرض سائر أخباره عليهما، كما لا يتوهّم منه عدم __________________________________________________

(1) كتاب سليم بن قيس 2: 628/ الحديث العاشر.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 398

الإعتماد علي نقل الإمام عليه السلام، والعياذ باللَّه، وإنّما أراد أن يعلم أنّ ما حفظه عنه مطابق للواقع بلا زيادةٍ ونقصان أو لا …

أقول:

هذا تمام الكلام علي ما ذكره الفيض آبادي في هذا الفصل من كلامه، الذي يحاول فيه إثبات

أفضليّة كتاب سليم بن قيس عند أهل الحق من سائر كتبهم، ثمّ يبدأ بفصلٍ آخر، فيذكر المطاعن والإشكالات علي الكتاب، فيستنتج من الفصلين: أنّ الكتاب الذي الّف بأمر أميرالمؤمنين، وعرض علي الأئمّة الطاهرين، وكان أفضل الكتب عند الطائفة، يشتمل علي أباطيل وأكاذيب … وبذلك يريد القدح والطعن علي المذهب وأئمّته وأتباعه …

هذا كلّ ما يريده هذا الرجل …

وقد عرفت ما في كلماته في الفصل السابق.

وقد افتتح الفصل الثاني من كلامه بأنْ نسب إلي الشيخ المجلسي في (بحار الأنوار) القول بأنّ بعض الأعاظم من الإماميّة يقدحون في الكتاب ويطعنون علي مؤلّفه، وذكر أنَّ الحسن بن علي بن داود- وهو الإمام في نقد الرجال وشيخ الطائفة في معرفة أحاديث الأئمّة كما قال- نقل عن رجال الشيخ أنّه قال: «ينسب إليه الكتاب المشهور، وهو موضوع».

قال: والسبب في ذمّ وجرح هؤلاء الأكابر لكتاب سليم، وكما يظهر من كلام الإمام الأعظم الحلّي وأساتذته في (خلاصة الأقوال) وغيره هو: إشتمال الكتاب علي الإفتراءات العظيمة والأكاذيب الكبيرة.

أقول:

هذا كلامه قبل الورود فيما زعمه من موارد النقد والإيراد في كتاب سليم.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 399

ولكنّ ما نقله عن المجلسي في (البحار) من طعن بعض أعاظم الإماميّة في الكتاب ومؤلّفه، كذب واضح، فإنّ الشيخ المذكور لم يذكر في كتابه طعناً من أحدٍ لا تلويحاً ولا تصريحاً … لا في كتاب سليم ولا في مؤلّفه …

قضيّة محمّد بن أبي بكر مع أبيه … ص: 399

وإنّ أوّل ما تعرّض له هذا الرجل واهتمّ به في مقام الطعن في كتاب سليم هو: قضيّة أنّ محمّد بن أبي بكر قد حضر أباه عند احتضاره وكلّمه ووَعَظَه … قال: وهذا من الإفتراءات العظيمة، لأنّ محمّداً ولد في حجّة الوداع، وكان في وقت موت أبيه ابن

ثلاث سنين، فكيف يمكنه أن يعظ أباه؟

إلّاأنّ الرجل قد أضاف- من عنده- إلي القضيّة أشياء، لا عين لها في كتاب سليم ولا أثر، ونحن ننبّه علي إضافاته المكذوبة، ثمّ نتكلّم علي أصل القضيّة:

1- لقد زعم أنّ في كتاب سليم: أنَّ محمّداً ذكّر أباه الإعتقاد بالتوحيد والنبوّة وحقوق أهل البيت النبوي …

والحال أنّ الذي في كتاب سليم إنّما هو إلقاء كلمة التوحيد فقط، وهذه عبارته:

«فقلت له لمّا خلوت به: يا أبت قل لا إله إلّااللَّه. قال: لا أقولها أبداً، ولا أقدر عليها حتّي أدخل التابوت» «1».

2- لقد ذكر أنّ محمّداً تكلَّم عن إمامة أميرالمؤمنين وخصائصه، من العلم بما كان وما يكون، و تحدّثه مع الملائكة … وظاهر كلامه وجود هذا في __________________________________________________

(1) كتاب سليم بن قيس 2: 822/ الحديث السابع والثلاثون.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 400

كتاب سليم في خبر قضيّة محمّد مع أبيه، والحال أنّه لا عين لذلك فيه ولا أثر، كما لا يخفي علي من أجال فيه النظر.

فإنْ أراد الإعتذار عن ذلك بأنّه قد نقله عن غير كتاب سليم، فلا يصغي إليه، لأنَّ الكلام في كتاب سليم …

3- لقد ذكر أنّ محمّداً قد استدلَّ ببعض الآيات القرآنيّة، رفعاً لاستبعاد الناس أنّ الملائكة كانت تحدّث أميرالمؤمنين عليه السلام.

فإنْ كان غرضه وجود هذا في كتاب سليم، توجّه إليه السؤال: هل إنّ استدلاله كان في حال صغر سنّه وحين احتضار أبيه، أو في الأزمنة المتأخّرة؟

فإنْ أراد وقوع ذلك منه في الأزمنة المتأخرة، فأيّ ربط لذلك ببحثه عن حال كتاب سليم واشتماله علي الإفتراءات؟ وإنْ أراد وقوع ذلك منه في حال صغره ووقت احتضار أبيه، فهذا كذب علي سليم وكتابه.

يقول سليم في كتابه ما نصّه: «قلت: وهل

تحدّث الملائكة إلّاالأنبياء صلوات اللَّه عليهم؟ قال- أي محمّد بن أبي بكر- أما تقرأ القرآن: «وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيّ ولا محدّث» قلت: أميرالمؤمنين محدَّث؟

قال: نعم، وكانت فاطمة محدَّثة ولم تكن نبيّةً، ومريم محدَّثة ولم تكن نبيّة، وامّ موسي محدَّثة ولم تكن نبيّة، وسارة امرأة إبراهيم قد عاينت الملائكة فبشّروها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، ولم تكن نبيّةً» «1».

هذا، ومن قرأ كتاب سليم علم أنّ لقائه مع محمّد بن أبي بكر إنّما كان بعد موت أبيه بزمنٍ طويل، لأنّ لقائه كان بعد موت أبي عبيدة الجراح،

__________________________________________________

(1) كتاب سليم بن قيس 2: 823- 824/ الحديث السابع والثلاثون.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 401

المتوفي في السنة الثامنة عشرة كما في (الاستيعاب) «1»، بل كان بعد موت معاذ، وموته متأخر عن موت أبي عبيدة … فمحمّد عند هذه المكالمة- في أقل تقدير- ابن ثمان أو عشر سنين … وأيّ مانع من أنْ تصدر منه تلك الإستدلالات حينئذٍ؟

4- لقد ادّعي الإجماع علي ولادة محمّد بن أبي بكر في حجّة الوداع، وهذا منه جهلٌ أو تجاهل … قال الشيخ عبدالحق الدهلوي في كتاب (تحصيل الكمال في أسماء الرجال): «محمّد بن أبي بكر الصديق، هو أبوالقاسم محمّد ابن أبي بكر، ولد عام حجة الوداع بذي الحليفة أو بالشجرة، سنة ثمان» «2».

وذكر ابن الأثير في (جامع الاصول) بترجمته أنّه ولد بالشجرة، أي عام ثمان «3».

وقال تقي الدين المكي بترجمته من (العقد الثمين في تاريخ بلد اللَّه الأمين): «محمّد بن أبي بكر الصديق، واسمه عبداللَّه بن أبي قحافة عثمان بن عامر القرشي التيمي أبوالقاسم، ولد عام حجّة الوداع أو بالشجرة» «4».

وكذا في (تهذيب الكمال) و (الاستيعاب) وغيرهما، حيث ذكر القول

بولادته في الشجرة، أي في السنة الثامنة من الهجرة.

5- ومن العجب دعواه رواية الكليني في الكافي ولادته في حجّة

__________________________________________________

(1) الإستيعاب في معرفة الأصحاب 2: 794/ 1332 بترجمة أبي عبيدة.

(2) تحصيل الكمال في أسماء الرجال/ رجال المشكاة. ترجمة محمّد بن أبي بكر.

(3) جامع الاصول 3: 71/ 1349. كتاب الحج، الباب الثاني، الفصل الأوّل.

(4) العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين 2: 214/ 220.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 402

الوداع.

إنّ للشيخ الكليني في الكافي روايتين في الباب، وهذه ألفاظهما:

أمّا الاولي فهي: «علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حمّاد، عن حريز، عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام: إنّ أسماء بنت عميس نفست بمحمّد بن أبي بكر، فأمرها رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم حين أرادت الإحرام من ذي الحليفة أن تحتشي بالكرسف والخرق وتهلّي بالحج، فلمّا قدموا مكّة وقد نسكوا المناسك، وقد أتي لها ثمانية عشر يوماً، فأمرها رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم أن تطوف بالبيت وتصلّي، ولم ينقطع عنها الدم. ففعلت ذلك» «1».

وأمّا الثانية فهكذا: «عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة بن أيوب، عن عمر بن أبان الكلبي قال: ذكرت لأبي عبداللَّه عليه السلام المستحاضة، فذكر أسماء بنت عميس فقال: إنّ أسماء ولدت محمّد بن أبي بكر بالبيداء، وكان ولادتها البركة للنساء لمن ولدت منهنّ أو طمثت، فأمرها رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم فاستثفرت وتنطقت بمنطقة وأحرمت» «2».

فهل تجد في هذين الخبرين ذكراً لحجّة الوداع؟

6- ولم يكتف بالإسناد إلي الكافي، بل أسند ذلك إلي الكشي أيضاً، والحال أنّه لا أثر من ذلك في رجال الكشي، بل ليس بكلامه بترجمة محمّد ذكر من ولادته أصلًا، فضلًا عن

كونها في حجّة الوداع … وهذه ألفاظها في الكتاب المذكور:

«محمّد بن أبي بكر: حدّثني محمّد بن قولويه والحسين بن الحسن بن __________________________________________________

(1) الكافي 4: 449/ 1، كتاب الحج.

(2) الكافي 4: 444/ 2، كتاب الحج.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 403

بندار القميّان قالا: حدّثنا سعد بن عبداللَّه بن أبي خلف القمي قال: حدّثني الحسن بن موسي الخشّاب ومحمّد بن عيسي بن عبيد، عن علي بن أسباط، عن عبداللَّه بن سنان قال: سمعت أباعبداللَّه عليه السلام يقول:

كان مع أميرالمؤمنين عليه السلام خمسة نفر من قريش، وكانت ثلاثة عشر قبيلة مع معاوية؛ فأمّا الخمسة: محمّد بن أبي بكر رحمه اللَّه، أتته النجابة من قبل امّه أسماء بنت عميس، وكان معه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص المرقال، وكان معه جعدة بن هبيرة المخزومي، وكان أميرالمؤمنين عليه السلام خاله، وهُوَ الذي قال له عتبة بن أبي سفيان: إنّما لك هذه الشدّة في الحرب من قبل خالك، فقال له جعدة: لو كان خالك مثل خالي لنسيت أباك، ومحمّد ابن أبي حذيفة بن عتبةبن ربيعة، والخامس سلف أميرالمؤمنين ابن أبي العاص بن ربيعة، وهو صهر النبي عليه السلام أبو الربيع.

حمدويه وإبراهيم ابنا نصير قالا: حدّثنا أيّوب، عن صفوان، عن معاوية ابن عمّار وغير واحد، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: كان عمّار بن ياسر ومحمّد بن أبي بكر لا يرضيان أن يعصي اللَّه عزّ وجلّ.

محمّد بن مسعود قال: حدّثني علي بن محمّد القمي قال: حدّثني أحمد ابن محمّد بن عيسي، عن رجل، عن عمر بن عبدالعزيز، عن جميل بن دراج، عن حمزة بن محمّد الطيّار قال: ذكرنا محمّد بن أبي بكر عند أبي عبداللَّه عليه السلام فقال أبو عبداللَّه عليه السلام:

رحمه اللَّه

وصلّي عليه، قال لأميرالمؤمنين عليه السلام يوماً من الأيّام:

ابسط يدك ابايعك. فقال: أوما فعلت؟ قال: بلي. فبسط يده، فقال: أشهد أنّك إمام مفترض الطاعة وأنّ أبي في النّار. فقال أبو عبداللَّه عليه السلام: كان استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 404

النجابة من قبل امّه أسماء بنت عميس رحمة اللَّه عليها، لا من قبل أبيه.

حمدويه بن نصير، عن محمّد بن عيسي، عن محمّد بن أبي عمير، عن عمر بن اذينة، عن زرارة بن أعين، عن أبي جعفر عليه السلام: إنّ محمّد بن أبي بكر بايع عليّاً عليه السلام علي البراءة من أبيه.

حمدويه وإبراهيم قالا: حدّثنا محمّد بن عبدالحميد قال: حدّثني أبو جميلة عن ميسر بن عبدالعزيز، عن أبي جعفر عليه السلام قال: بايع محمّد ابن أبي بكر علي البراءة من الثاني.

حمدويه، حدّثني عن محمّد بن عيسي، عن يونس بن عبدالرحمن، عن موسي بن مصعب، عن شعيب عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: سمعته يقول: ما من أهل بيتٍ إلّاومنهم نجيب من أنفسهم، وأنجب النجباء من أهل بيت سوء منهم محمّد بن أبي بكر» «1».

7- وأسنده إلي النجاشي أيضاً، والحال أنْ لا ذكر لمحمّد بن أبي بكر في كتابه أصلًا، فلا ذكره في أوائل الكتاب حيث عدّ جمعاً من أصحاب أميرالمؤمنين، ولا ذكره في باب المحمّدين … فكيف بولادته في حجّة الوداع؟

8- وكذا إسناد المطلب إلي رجال الغضائري، فأمّا أصل كتابه، فليس موجوداً، وأمّا الرجاليون كالعلّامة الحلّي وابن داود والشيخ بهاء الدين اللّاهيجي والسيّد مصطفي التفرشي والميرزا الأسترابادي وأبي علي الحائري …

الذين ينقلون كلماته في تراجم الرجال … فلم ينقلوا في كتبهم عنه في محمّد شيئاً، فضلًا عن ذلك النقل الخاص المتعلِّق بتولّده … فمن أين هذا

الإسناد؟

9- والعلّامة الحلّي لم يقل في محمّد رضي اللَّه عنه في (خلاصة

__________________________________________________

(1) رجال الكشي: 63- 64/ 111- 116. ترجمة محمّد بن أبي بكر.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 405

الأقوال) إلّا: «محمّد بن أبي بكر، جليل القدر، عظيم المنزلة، من خواصّ عليّ عليه السلام» «1».

فبأيّ دليلٍ نسب إليه القول بولادة محمّد في حجّة الوداع؟

حلّ الإشكال بذكر النظائر … ص: 405

وأمّا حلّ الإشكال، فنقول: إنّ منشأ هذا الإشكال ليس إلّاالإستبعاد، ومجرّد الإستبعاد لا يكون دليلًا، بل يرتفع إذا حَصَلَ له نظير أو نظائر في التاريخ، ولا شكّ أنّ اللَّه تعالي قادر علي خلق أفرادٍ متميّزين في الفهم والذكاء … ونحن نذكر هنا بعضهم:

استقلّ بالكتابة وعمره أربع سنين … ص: 405

قال في (منهج المقال) بترجمة المولي السيّد عبدالكريم بن طاووس العلوي الحسيني: «استقلّ بالكتابة واستغني عن المعلّم في أربعين يوماً، وعمره إذ ذاك أربع سنين» «2».

وإذا كان كذلك، فأيّ استبعاد في أنْ يأمر الابن البالغ ثلاث سنين أو أكثر أباه بقول كلمة لا إله إلّااللَّه، وهي من اولي الكلمات التي ينطق بها أطفال المسلمين؟

__________________________________________________

(1) خلاصة الأقوال/ رجال العلّامة الحلّي: 138/ 3 باب محمّد.

(2) منهج المقال في علم الرجال: 196.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 406

حفظ القرآن وهو ابن أربع سنين … ص: 406

وقال الشعراني في (لواقح الأنوار): «ومنهم: أبو محمّد سفيان بن عيينة- رضي اللَّه عنه-. حفظ القرآن وهو ابن أربع سنين، وكتب الحديث وهو ابن سبع سنين» «1».

وفي (الكواكب الدراري): «وأمّا سفيان، فهو بضمّ السين علي المشهور وحكي كسرها وفتحها أيضاً، وهو أبو محمّد ابن عيينة بن أبي عمران الهلالي الكوفي، سكن مكّة ومات بها. قال: قرأت القرآن وأنا ابن أربع سنين، وكتبت الحديث وأنا ابن سبع سنين» «2».

وإذا أمكن قراءة القرآن لمن هو في سنّ أربع سنين- والحال أنّ عمر بن الخطّاب تعلّم سورة البقرة فقط في إثنتي عشرة سنة كما في (الدر المنثور) «3» - كان من السّهل قبول تلقين كلمة لا إله إلّااللَّه فقط، ممّن هو في سنّ ثلاث سنين أو أكثر.

سمع الحديث وهو ابن أربع سنين … ص: 406

وأخرج مسلم بإسناده عن عبداللَّه بن الزبير قال: «كنت أنا وعمر بن سلمة يوم الخندق مع النسوة في أطم حسان، فكان يطأطي ء لي مرّةً فأنظر وأطأطي ء له مرّةً فينظر، فكنت أعرف أبي إذا مرَّ علي فرسه في السلاح إلي بني __________________________________________________

(1) لواقح الأنوار في طبقات الأخيار- ترجمة سفيان بن عيينة.

(2) الكواكب الدراري في شرح البخاري 1: 16.

(3) الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور 1: 54.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 407

قريظة. قال: وأخبرني عبداللَّه بن عروة عن عبداللَّه بن الزبير قال: فذكرت ذلك لأبي فقال: ورأيتني يا بني؟ قلت: نعم».

فقال النووي بشرحه: «وفي هذا الحديث دليل لجواز ضبط الصبي وتمييزه وهو ابن أربع سنين. فإنّ ابن الزبير ولد عام الهجرة في المدينة، وكان الخندق سنة أربع من الهجرة علي الصحيح، فيكون في وقت ضبطه لهذه القصّة دون أربع سنين. وفي هذا ردّ علي ما قاله جمهور المحدّثين أنّه لا يصحّ سماع الصبي

حتّي يبلغ خمس سنين، والصواب صحّته متي حصل التمييز وإنْ كان ابن أربع أو دونها. وفيه منقبة لابن الزبير لجودة ضبطه لهذه القصّة مفصّلةً في هذا السن» «1».

* والألطف من ذلك ما جاء عن عبداللَّه بن محمّد بن عبدالرحمن الإصبهاني في غير واحدٍ من الكتب، مثل: (الكفاية) للخطيب، و (علوم الحديث) لابن الصلاح، و (تدريب الراوي) للسيوطي، و (عمدة القاري) للعيني … وغيرها …

قال الخطيب: «سمعت القاضي أبا محمّد عبداللَّه بن محمّد بن عبدالرحمن الإصبهاني يقول: حفظت القرآن ولي خمس سنين، وحملت إلي أبي بكر ابن المقري لأسمع منه ولي أربع سنين.

فقال بعض الحاضرين: لا تسمعوا له فيما قرأ فإنّه صغير.

فقال لي ابن المقري: إقرأ سورة الكافرون، فقرأتها ولم أغلط فيها.

فقال: إقرأ سورة التكوير، فقرأتها.

فقال لي غيره: إقرأ سورة والمرسلات، فقرأتها ولم أغلط فيها.

__________________________________________________

(1) شرح صحيح مسلم للنووي 15: 189- 190 كتاب الفضائل، فضائل طلحة والزبير.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 408

فقال ابن المقري: إسمعوا له والعهدة علَيّ.

سمعت أباصالح صاحب أبي مسعود أحمد بن الفرات يقول: العجب من إنسانٍ يقرأ والمرسلات عن ظهر قلبه ولا يغلط فيها.

وحكي أنّ أبا مسعود ورد إصبهان ولم تكن كتبه معه، فأملي كذا وكذا ألف حديث عن ظهر قلبه، فلمّا وصلت الكتب إليه قوبلت بما أملي فلم تختلف إلّافي مواضع يسيرة» «1».

وقال العيني: «حفظ القرآن أبو محمّد عبداللَّه بن محمّد الإصبهاني وله خمس سنين، فامتحنه فيه أبوبكر ابن المقري، وكتب له بالسماع وهو ابن أربع سنين» «2».

فأيّ عجبٍ من محمّد بن أبي بكر إذا أمر أباه بأنْ يقول: لا إله إلّااللَّه؟

* وماذا يقول القائل إذا سمع ما جاء في (علوم الحديث) لابن الصّلاح وغيره من الكتب من أنّه

«قد بلغنا عن إبراهيم بن سعيد الجوهري قال: رأيت صبيّاً ابن أربع سنين وقد حمل إلي المأمون، وقد قرأ القرآن ونظر في الرأي، غير أنّه إذا جاع بكي» «3»؟

وعلي هذا الأساس، ذهب العلماء من الفريقين إلي أنّه يعتبر كلّ صغير بحاله، فمتي فهم الخطاب وميّز ما يسمعه، صحّ سماعه وإنْ كان دون خمس سنين، كما جاء في كتاب (شرح البداية) للشهيد الثاني من أصحابنا، وفي (عمدة القاري) و (المنهل الروي) و (علوم الحديث) وغيرها من كتب القوم.

__________________________________________________

(1) الكفاية في علم الرواية: 64- 65/ باب ما جاء في سماع الصغير.

(2) عمدة القاري في شرح البخاري 2: 68، كتاب العلم، باب قول النّبي: اللهمّ علّمه الكتاب.

(3) علوم الحديث: 75/ النوع الرابع والعشرون، معرفة كيفيّة سماع الحديث …

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 409

كان يقوم الليل وهو ابن ثلاث سنين … ص: 409

فإن بقي شي ء من الشك والإستبعاد بعد ما تقدَّم، أوردنا ما ذكره أعلام القوم بترجمة سهل التستري، من أنّه كان يقوم الليل وهو ابن ثلاث سنين …

قال اليافعي: «وكان سبب سلوكه للطريق خاله محمّد بن سوار، فإنّه قال: كنت ابن ثلاث سنين، وكنت أقوم بالليل أنظر إلي صلاة خالي محمّد بن سوار، وكان يقوم باللّيل، وكان يقول: يا سهل، اذهب ونم فقد شغلت قلبي.

وقال لي يوماً خالي: ألا تذكر اللَّه الذي خلقك؟

فقلت: كيف أذكره؟

فقال: قل بقلبك في الليل في فراشك ثلاث مرّات من غير أن تحرّك به لسانك: اللَّه معي، اللَّه ناظري، اللَّه شاهدي.

فقلت … » «1».

وكذا في (أحكام الدلالة علي تحرير الرسالة) للشيخ زكريا الأنصاري وغيره.

وإذا كان هذا ممكناً ممّن هو ابن ثلاث سنين، فقول محمّد لأبيه: قل لا إله إلّااللَّه أمكن …

سمع الحديث وعمره أقل من ثلاث سنين … ص: 409

وإذا كان ذلك أيضاً لا يكفي لرفع الإستبعاد عن قضيّة محمّد، فقد ذكر القوم سماع الصبيّ الذي سنّه أقل من ثلاث سنين للحديث من بعض الأئمّة وقبول ما حدّث به، وقد جاء ذلك في (فتح الباقي- شرح ألفية العراقي)

__________________________________________________

(1) مرآة الجنان 2: 149.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 410

للشيخ أبي يحيي زكريا الأنصاري حيث قال:

«وكذا يقبل عندهم صبي حمل الحديث، ثمّ روي بعد البلوغ ما تحمّل في حال صباه.

ومنع قوم القبول هنا، أي مسألة الصبي، لأنّ الصبي مظنّة عدم الضبط.

وردّ عليهم بإجماع الامّة علي قبول حديث جماعةٍ من صغار الصحابة، تحمّلوه في حال صغرهم، كالسبطين الحسن والحسين ابني بنته صلّي اللَّه عليه وسلّم فاطمة، وكعبداللَّه بن الزبير والنعمان بن بشير وعبداللَّه بن عباس.

مع إحضار أهل العلم من المحدّثين وغيرهم للصّبيان مجالس التحديث، ثمّ قبولهم منهم ما حدّثوا به من ذلك بعد الحلم

أي البلوغ، كما وقع للقاضي أبي عمرو الهاشمي، فإنّه سمع سنن أبي داود من اللؤلؤي وله خمس سنين، واعتدّ الناس بسماعه وحملوه عنه، وقال يعقوب الدورقي: حدّثنا أبو عاصم قال: أتيت بابني إلي ابن جريج وسنّه أقل من ثلاث سنين، فحدّثه» «1».

توكّل في عقد الزواج وله ثلاث سنين … ص: 410

بل لقد تحمّل الطفل الذي له ثلاث سنين الوكالة في عقد الزواج! وذلك ما أخرجه أحمد في (المسند) في تزوّج رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم بامّ سلمة ام المؤمنين، ورواه عنه ابن القيّم في (زاد المعاد) قال:

«قال الإمام أحمد في المسند: حدّثنا عفّان بن حماد بن سلمة، أخبرنا ثابت قال: حدّثني ابن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن امّ سلمة: أنّها لمّا انقضت عدّتها من أبي سلمة، بعث إليها رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فقالت: مرحباً برسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، إنّي امرأة مصبية، وليس أحد

__________________________________________________

(1) فتح الباقي- شرح ألفيّة العراقي 2: 15- 18/ متي يصحّ تحمّل الحديث …

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 411

من أوليائي حاضراً. الحديث، وفيه:

فقالت لابنها عمر: قم، فزوّج رسول اللَّه، فزوّجه» «1».

وأخرجه سائر المحدّثين بطرقٍ اخري.

وروي ابن الأثير في (اسد الغابة) قال:

«أخبرنا يعيش بن صدقة بإسناده عن أحمد بن شعيب: أخبرنا محمّد بن إسماعيل بن إبراهيم، نا يزيد، عن حمّاد بن سلمة، عن ثابت البناني، حدّثني ابن عمر ابن أبي سلمة، عن أبيه عن امّ سلمة قال: لمّا انقضت عدّتها من أبي سلمة، بعث إليها أبوبكر يخطبها عليه، فلم تزوّجه، فبعث إليها رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم عمر بن الخطّاب يخطبها عليه فقالت: أخبر رسول اللَّه إنّي أمرأة غيري وإنّي امرأة مصبية، وليس أحد من أوليائي شاهداً. فأتي رسول اللَّه صلّي

اللَّه عليه وسلّم، فذكر ذلك له، فقال: إرجع إليها فقل لها:

أمّا قولك: إنّي امرأة غيري فأدعو اللَّه فيذهب غيرتك.

وأمّا قولك: إنّك امرأة مصبية، فستكفين صبيانك.

وأمّا قولك: ليس أحد من أوليائي شاهداً، فليس أحد من أوليائك- شاهد ولا غائب- يكره ذلك.

فقال لابنها عمر: قم فزوّج رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم. فزوّجه» «2».

هذا، وقد كان لعمر بن أبي سلمة في ذلك الوقت ثلاث سنين أو سنتان، إذ كان له يوم قبض رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم تسع سنين بالإتفاق، فإن كان قد وقع الزواج المذكور في شهر شوال من السنة الرابعة من الهجرة

__________________________________________________

(1) زاد المعاد في هدي خير العباد 1: 26/ فصل في أزواجه.

(2) اسد الغابة في معرفة الصحابة 6: 342. ترجمة امّ سلمة رضي اللَّه عنها.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 412

فهو ابن ثلاث، وإن كان قد وقع في السنة الثالثة فعمره أقل من سنتين.

وقد التفت ابن القيّم إلي هذه الامور عندما قال بعد رواية الحديث:

«وفي هذا نظر، فإنّ عمر هذا كان سنّه لمّا توفّي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم تسع سنين، ذكره ابن سعد، وتزوّجها رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في شوّال سنة أربع، فيكون له من العمر حينئذٍ ثلاث سنين، ومثل هذا لا يزوّج.

قال ذلك ابن سعد وغيره».

وكأنّه لذلك اضطرّ أحمد بن حنبل لأنْ ينكر صغر سنّ عمر بن أبي سلمة، قال ابن القيّم:

«ولمّا قيل ذلك للإمام أحمد قال: من يقول إنّ عمر كان صغيراً؟ قال أبوالفرج ابن الجوزي: ولعلّ أحمد قال هذا قبل أن يقف علي مقدار سنّه، فقد ذكر مقدار سنّه جماعة من المؤرخين، ابن سعد وغيره».

ومن العلماء من اضطرّ لأنْ يحرّف الحديث، فيجعل الذي

زوَّج ام سلمة من رسول اللَّه عمر بن الخطّاب لا ابنها عمر، لكنّ هذا أيضاً غير مفيد، فقد روي ابن القيّم عن الواقدي:

«إنّ رسول اللَّه خطب امّ سلمة إلي ابنها عمر بن أبي سلمة، فزوّجها من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم وهو يومئذٍ غلام صغير» «1».

أجابت ابنة ابن عربي في مسألةٍ فقهيّة وهي في سنّ الرضاعة … ص: 412

وإنْ تعجب، فعجبٌ قصّة ابنة ابن عربي الأندلسي صاحب (الفتوحات)، إذْ أجابت عن مسألةٍ فقهيّة جهلها عمر بن الخطّاب وكبار الأصحاب، وهي في __________________________________________________

(1) زاد المعاد في هدي خير العباد 1: 26- 27.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 413

سنّ الرضاعة، نحو سنةٍ أو قريب منها … !!

ذكر ذلك ابن عربي في كتابه المذكور، والشعراني في مختصره المسمّي (لواقح الأنوار القدسيّة) وأورده الحلبي في (سيرته) حيث قال بعد ذكر المتكلّمين في المهد:

«ويضمّ لهؤلاء ما ذكر الشيخ محي الدين ابن عربي رحمه اللَّه سبحانه:

قلت لابنتي زينب مرّةً- وهي في سنّ الرضاعة، قريباً عمرها من سنة-: ما تقولين في الرجل يجامع حليلته ولم ينزل؟ فقالت: يجب عليه الغسل.

فتعجّب الحاضرون من ذلك.

ثمّ إنّي فارقت تلك البنت وغبت عنها سنةً في مكة، وكنت أذنت لوالدتها في الحج، فجاءت مع الحج الشامي، فلمّا خرجت لملاقاتها رأتني من فوق الجمل وهي ترضع، فقالت بصوت فصيح قبل أن تراني امّها: هذا أبي، وضحكت، ورمت بنفسها إليّ.

قال: وقد رأيت- أي علمت- من أجاب امّه بالتسميت وهو في بطنها حين عطست، وسمع الحاضرون كلّهم صوته من جوفها. شهد عندي الثقات بذلك» «1».

تكلّم محمّد مع أبيه عند موته في المصادر السنيّة … ص: 413

وبعد، فلا يتوهمنّ أحد بانحصار خبر تكلّم محمّد بن أبي بكر مع أبيه عند موته، بكتاب سليم بن قيس، فقد وجدنا في (سرّ العالمين) وهو من __________________________________________________

(1) السيرة الحلبيّة 1: 77- 78/ باب ذكر مولده «ص».

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 414

مؤلفات أبي حامد الغزالي كما اعترف بذلك الذهبي في (ميزانه) «1» أنّه «دخل محمّد بن أبي بكر علي أبيه في مرض موته فقال له: يا بني، ائت بعمّك عمر لُاوصي له بالخلافة، فقال: يا أبت، كنت علي حقٍّ أو باطل؟ فقال: علي

حق، فقال: وصّ بها لأولادك إن كانت حقّاً، وإلّا فمكّنها لسواك. ثمّ خرج إلي علي، فجري ما جري» «2».

ووجدنا هذا في (تذكرة خواص الامّة) «3» لسبط ابن الجوزي- وهو من علماء أهل السنّة، وقد اعتمد كبار علمائهم علي كتبه، واستندوا إلي أقواله، ووصفوه بالإمامة والحفظ ونحو ذلك من الأوصاف الجليلة … وترجم له غير واحد من المشاهير، كمحمود بن سليمان الكفوي في كتابه المعروف الذي وضعه بتراجم علماء الحنفيّة وأسماه ب (كتائب أعلام الأخيار من فقهاء مذهب النعمان المختار) إذ قال فيه:

«يوسف بن قزغلي بن عبداللَّه البغدادي، سبط الحافظ أبي الفرج ابن الجوزي الحنبلي، صاحب مرآة الزمان في التاريخ، ذكره الحافظ شرف الدين في معجم شيوخه، كان والده مع موالي الوزير عرف الدين بن هجيرة، ويقال في والده قزغلي بحذف القاف وبالقاف أصح.

ولد في سنة إحدي وثمانين وخمسمائة ببغداد، ونشأ ببغداد وتفقّه وبرع __________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1: 500 ترجمة الحسن الصباح. وانظر سير أعلام النبلاء 19: 328 بترجمةالغزالي.

(2) سرّ العالمين: 11/ باب في ترتيب الخلافة والمملكة.

(3) تذكرة خواص الامّة: 62.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 415

وسمع من جدّه لُامّه، وكان حنبليّاً فتحنبل في صغره لتربية جدّه، ثمّ رحل إلي الموصل، وسمع بالموصل ثمّ رحل إلي دمشق وهو ابن نيف وعشرين سنة وسمع بها، وتفقّه علي جمال الدين الحصيري، وتحوّل حنفيّاً لمّا أنابه قزغلي ابن عبداللَّه كان علي مذهب الحنفيّة.

وكان إماماً عالماً فقيهاً واعظاً جيّداً نبيهاً، يلتقط الدرر من كلمه، ويتناثر الجوهر من حكمه، ويصلح المذنب عندما يلفظ، ويتوب الفاسق العاصي حين ما يعظ، يصدع القلب بخطابه ويجمع العظام النخرة بجنابه، لو استمع له الصخر لانفلق، والكافر الجحود لآمن وصدّق، وكان طلق الوجه، دائم البشر،

حسن المجالسة، مليح المحاورة، يحكي الحكايات الحسنة وينشد الأشعار المليحة، وكان فارساً في البحث، عديم النظير، مفرط الذكاء، إذا سلك طريقاً ينقل فيها أقوالًا ويخرج أوجهاً، وكان من وحداء الدهر بوفور فضله وجودة قريحته وغزارة علمه وحدّة ذكائه وفطنته، وله مشاركة في العلوم ومعرفة بالتواريخ.

وكان من محاسن الزمان وتواريخ الأيّام، وله القبول التام عند العلماء والامراء والخاص والعام، وله تصانيف معتبرة مشهورة … ».

ووجدناه في رواية الحافظ السمهودي بلفظ: «ودخل محمّد بن أبي بكر رضي اللَّه عنه علي أبيه في مرض موته فقال: ائت بعمّك عمر لُاوصي له بالخلافة. فقال: يا أبة، كنت علي حقّ أم علي باطل؟ قال: علي حق. قال:

فارض لولدك ما رضيت لنفسك».

وهل قدح أحد من أعلام الإماميّة في كتاب سليم؟ … ص: 415

قد عرفت أنّ ما نسبه إلي صاحب البحار من أنّ بعض أعاظم الإماميّة طعن في سليم بن قيس وكتابه، لا أساس له من الصحّة …

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 416

والعلّامة الحلّي في كتاب (خلاصة الأقوال) لا يقول بعدم اعتبار الكتاب، ونسبة ذلك إليه كذب آخر، وإنّما ذكر الإختلاف حوله، ثمّ حكم بعدالة سليم، وتوقّفه عن قبول بعض أخبار الكتاب لا يدلّ علي القول بعدم اعتبار الكتاب، لأنّ التوقّف في قدر معيّنٍ من الروايات يشعر بقبول ما عداه، والتوقّف عن القبول لذلك القدر لا يعني الردّ له.

وكلمات الرجل في اسم الشيخ حسن بن داود الحلّي واسم كتابه، مضطربة جدّاً، ممّا يدلّ علي جهله بأسماء علماء أهل الحق وأسماء كتبهم، فكيف يريد التكلّم عن أحوالهم والحال هذه؟ لكن لا اختصاص لهذا الجهل بهذا الرجل … فقد سبقه إلي ذلك صاحب (الصواقع) وصاحب (التحفة) علي عادته.

ثمّ إنّ هذا الشيخ وإنْ كان من كبار علماء الطائفة، إلّاأنّ غرض الرجل من وصفه

بالإمام المقتدي وشيخ الطائفة، الأفقه الأعرف بالأحاديث … غير خافٍ علي النبيه … وإلّا فإنّ أحداً من أصحابنا لم يصفه بهذا الألقاب.

والذي في كتاب ابن داود الحلّي نقلًا عن الشيخ الطوسي هو: «ينسب إليه الكتاب المشهور» وليس في العبارة جملة «وهو موضوع»! بل إنّ الشيخ يقول في (الفهرست) ما نصّه:

«سليم بن قيس الهلالي، يكنّي أبا صادق، له كتاب، أخبرنا به ابن أبي جيد، عن محمّد بن الحسن بن الوليد، عن محمّد بن أبي القاسم الملقّب بماجيلويه، عن محمّد بن علي الصيرفي، عن حمّاد بن عيسي وعثمان بن عيسي، عن أبان بن أبي عيّاش، عن سليم بن قيس.

ورواه حمّاد بن عيسي، عن إبراهيم بن عمر اليماني عن سليم بن استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 417

قيس» «1».

هذا، ولم ينقل أحد من الرجاليين عن الشيخ القول بوضع كتاب سليم ابن قيس أبداً، وهذه كتبهم متوفّرة لكلّ أحد.

وبعد؛

فلو فرض اشتمال كتاب سليم- الذي ليس من الكتب التي يستنبط منها أحكام الحلال والحرام في الشريعة، وإنّما موضوعه الأحاديث والأخبار المتعلّقة بحوادث صدر الإسلام والوقائع بعد وفاة النبي عليه وآله الصلاة والسلام- علي خبرٍ لا يرتضيه بعض علماء الطائفة، فإنّ ذلك لا يوجب طعناً في المذهب الحق … بخلاف أهل الخلاف، فإنّ جميع معالم مذاهبهم من الاصول والفرع متّخذة من هذه الكتب التي بأيدينا، ممّا سمّي بالصحاح وغيرها، والحال أنّه قد ثبت باعتراف أئمّتهم اشتمال الكتابين المشهورين بالصحيحين- فضلًا عن غيرهما- علي الأباطيل والأكاذيب والموضوعات، كما ستقفت- بحمد اللَّه تعالي- علي بعض التفصيل في ذلك، وباللَّه التوفيق.

هل كان سليم يري أنّ الأئمّة ثلاثة عشر؟ … ص: 417

ونسب إلي سليم في كتابه القول بكون الأئمّة ثلاثة عشر لا اثني عشر، وقد روي عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنّه قال:

من ادّعي أنّه إمام وليس بإمام، يوم القيامة «تري الذين كذبوا علي اللَّه وجوههم مسوّدة» قال الراوي: قلت:

وإنْ كان علويّاً فاطميّاً؟ قال: وإن كان علويّاً فاطميّاً.

وفي (اعتقادات) الصدوق: والظلم هو وضع الشي ء في غير موضعه،

__________________________________________________

(1) كتاب الفهرست للشيخ الطوسي: 143/ 346.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 418

فمن ادّعي الإمامة وليس بإمام فهو الظالم الملعون، ومن وضع الإمامة في غير أهلها فهو ظالم ملعون.

وفي (الفصول المهمّة) عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: ثلاثة لا يكلّمهم اللَّه يوم القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم: من ادّعي الإمامة من اللَّه وليست له، ومن جحد إماماً من اللَّه، ومن زعم أنّ لهما في الإسلام نصيباً.

ومقتضي هذه الأخبار وأمثالها: خروج المدعي للإمامة كذباً، وكذا القائل بإمامته، عن الإسلام.

وكيف يجتمع هذا مع تلك المناقب الجليلة التي تذكر لسليم وكتابه؟

أقول:

إنّه علي فرض وجود هذا المعني في كتاب سليم، فإنّ جعل ذلك من افتراءات سليم افتراء علي سليم، لأنّ من يدّعي وجوده في كتاب سليم لا يقول بثبوت نسبة الكتاب إليه.

إلّاأنّه قد تبيّن بعد النظر الدقيق والفحص التام في ألفاظ الكتاب: عدم وجود ما يدلُّ علي إمامة ثلاثة عشر إمام بعد النبي، بأنْ يكون هناك إمام آخر غير الأئمّة وأوصياء رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم الإثني عشر … بل الأمر بالعكس، فقد وقع التصريح في مواضع عديدة من الكتاب بكون الأئمّة اثني عشر، وأنّ الأحد عشر منهم من أولاد أميرالمؤمنين وسيّد الوصيّين علي ابن أبي طالب:

فمنها: نقلًا عن عبداللَّه بن جعفر أنّه قال: سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم يقول: ليس في جنّة عدنٍ منزل أفضل ولا أشرف ولا أقرب من العرش من منزلتي، ومعي فيه اثنا عشر من

أهل بيتي، أوّلهم عليّ بن أبي استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 419

طالب سيّدهم وأفضلهم وأحبّهم إلي اللَّه ورسوله، وابنتي فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة وهي زوجته في الدنيا والآخرة، وابناي الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة، وتسعة من ولد الحسين، الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، هداة مهديّون، وأنا المبلّغ عن اللَّه وهم المبلّغون عنّي، وهم حجج اللَّه تبارك وتعالي علي خلقه وشهداؤه في أرضه، من أطاعهم أطاع اللَّه ومن عصاهم عصي اللَّه، لا تبقي الأرض طرفة عين إلّاببقائهم ولا تصلح إلّا بهم، يخبرون الامّة بأمر دينهم، حلالهم وحرامهم، يدلّونهم علي رضا ربّهم وينهونهم عن سخطه» «1».

ومنها: عنه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «علي أخي ووزيري ووارثي ووصيّي وخليفتي في امّتي وولي كلّ مؤمنٍ بعدي، ثمّ ابني الحسن ثمّ ابني الحسين، ثمّ تسعة من ولد ابني الحسين، واحد بعد واحد، القرآن معهم وهم مع القرآن، لا يفارقونه ولا يفارقهم حتّي يردوا علَيّ الحوض» «2».

ومنها: عن عليّ عليه السلام في حديث: «فأملي عليّ ما أراد أن يكتب في الكتف، وأشهد علي ذلك ثلاثة رهط: سلمان وأباذر والمقداد، وسمّي من يكون من أئمّة الهدي، الذين أمر اللَّه المؤمنين بطاعتهم إلي يوم القيامة، فسمّاني أوّلهم ثمّ ابنيّ هذان، أومأ بيده إلي الحسن والحسين، ثمّ تسعة من ولد ابني هذا، يعني الحسين» «3».

ومنها: عن علي عليه السلام أنّه قال: «يا سليم، إنّ أوصيائي أحد عشر

__________________________________________________

(1) كتاب سليم بن قيس 2: 840، الحديث الثاني والأربعون.

(2) المصدر نفسه 2: 645، الحديث الحادي عشر.

(3) المصدر نفسه 2: 658، الحديث الحادي والعشرون.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 420

رجلًا من ولدي، أئمّة هداة مهديّون» «1».

وإذا كان سليم يروي هذه النصوص

في كتابه، فلا يعقل أنْ يروي ما يدلّ علي كون الأئمّة ثلاثة عشر، فيتناقض ويكذّب تلك النصوص المتكثّرة، ومن هنا، فقد قال الدهلوي في (التحفة) أنّ من حكم العقل أنّه إذا روي الإنسان حديثاً عن بعض الأكابر أن لا يروي هو ما يكذّب ذلك الحديث.

والظاهر وقوع الإشتباه ممّن نسب إلي كتاب سليم القول بكون الأئمّة ثلاثة عشر، وكأنّ منشأ الإشتباه ما رآه في الكتاب من الخبر في أنّه سيكون من ولد النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم اثنا عشر إماماً، فتوهّم أنّ الأئمّة من بعده علي والإثنا عشر، فهم ثلاثة عشر إماماً.

لكنّ أميرالمؤمنين عليه السلام داخل في الاثني عشر، وعدّه في أولاد النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم مجازاً صحيح بلا ريب، لكونه بمنزلة ابنه بلا كلام … قال الشيخ التقي المجلسي: «بل فيه- أي في كتاب سليم- إنّ الأئمّة اثنا عشر من ولد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وهو علي التغليب، مع أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام كان بمنزلة أولاد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، كما أنّه كان أخاه، وأمثال هذه العبارة موجودة في الكافي وغيره» «2».

وقال أبو علي في (منتهي المقال):

«وأمّا كون الأئمّة ثلاثة عشر، فإنّي تصفّحت الكتاب من أوّله إلي آخره، فلم أجده فيه، بل في مواضع عديدة إنّهم إثنا عشر، وأحد عشر من ولد

__________________________________________________

(1) المصدر نفسه 2: 824، الحديث السابع والثلاثون.

(2) روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه 14: 371.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 421

علي» «1».

وتلخّص:

أنّه لم يثبت عند القائلين باعتبار كتاب سليم وجود إمامة غير الأئمّة الإثني عشر فيه، كما هو في نفس الأمر كذلك …

ووقوع الإشتباه ممّن يقدح في كتاب سليم ولا يري

اعتباره … ليس بعزيز، وما أكثر الأوهام والأغلاط الواقعة من محدّثي أهل السنّة، وليس منهم أحد إلّاوقد صدر منهم الوهم والغلط، حتّي الصّحابة، كما يظهر بالرجوع إلي (عين الإصابة في استدراك عائشة علي الصحابة) وغيره من كتب تلك العصابة.

هل لكتاب سليم راوٍ غير أبان … ص: 421

لقد نسب إلي تصانيف الشيخين، ومؤلفات الحسنين، وإفادات علي بن أحمد العقيقي، وعلي بن أبي طالب القيرواني: إنّ سليماً لم يكن يظهر كتابه لأحدٍ، حتّي إذا كان آخر عمره ويأس من الحياة، قال ابن أبي عيّاش:

«فدعاني وخلا بي وقال: يا أبان! قد جاورتك فلم أر منك إلّاما احبّ، وإنّ عندي كتباً سمعتها عن الثقات وكتبتها بيدي، فيها أحاديث لا احبّ أن تظهر للنّاس، لأنّ النّاس ينكرونها ويعظّمونها وهي حقّ- إلي أن قال-:

وإنّي هممت حين مرضت أن أحرقها، فتأثّمت من ذلك وفظعت به، فإن جعلت لي عهد اللَّه وميثاقه أن لا تخبر بها أحداً ما دمت حيّاً، ولا تحدّث بشي ء منها بعد موتي، إلّامن تثق به كثقتك بنفسك، وإن حدث بك حدث أن __________________________________________________

(1) منتهي المقال 3: 379/ ترجمة سليم بن قيس.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 422

تدفعها إلي من تثق به من شيعة عليّ بن أبي طالب ممّن له دين وحسب.

فضمنت ذلك له، فدفعها إليّ، وقرأها كلّها علَيّ، فلم يلبث سليم أن هلك.

فنظرت فيها بعده، وفظعت بها، وأعظمتها واستصعبتها، لأنّ فيها هلاك جميع امّة محمّد صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، من المهاجرين والأنصار والتابعين، غير عليّ بن أبي طالب وأهل بيته عليهم السلام وشيعته.

فكان أوّل من لقيت- بعد قدومي البصرة- الحسن بن أبي الحسن البصري، وهو يومئذ متوار من الحجّاج، والحسن يومئذ من شيعة عليّ بن أبي طالب، من مفرطيهم، نادم متلهّف علي ما فاته من

نصرة عليّ والقتال معه يوم الجمل، فخلوت به في شرقي دار أبي خليفة الحجّاج بن أبي غياث، فعرضتها عليه، فبكي ثمّ قال: ما في حديثه شي ء إلّاحقّ، قد سمعته من الثقات من شيعة عليّ وغيرهم» «1».

فمن مراجعة هذه الكتب يظهر انحصار رواية كتاب سليم بأبان بن أبي عياش …

وأبان عند الإماميّة ضعيف أو كذّاب؟ … ص: 422

لكنّ أجلّاء هذه الطائفة، كابن داود وغيره من أكابر فنّ التنقيد، يصرّحون بضعفه، وجمع منهم قالوا: هومفتر كذّاب، وأنّه الذي افتري علي سليم ووضع الكتاب عليه، فاعتبروا يا اولي الأبصار.

أقول:

أمّا قول «الشيخين» بانحصار رواية كتاب سليم بأبان بن أبي عيّاش، فإنْ أراد من «الشيخين»: الكشّي والنجاشي،- كما هو مصطلح العلّامة المجلسي __________________________________________________

(1) كتاب سليم بن قيس 2: 558- 559. مقدّمة الكتاب.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 423

في أوائل البحار- فهما غير قائلين بالمقالة المذكورة، كما لا يخفي علي من طالع كتابيهما … وهذه عبارة الكشي:

«سليم بن قيس الهلالي: حدّثني محمّد بن الحسن البراثي قال: حدّثنا الحسن بن علي بن كيسان، عن إسحاق بن إبراهيم بن عمر اليماني، عن ابن اذينة، عن أبان بن أبي عياش قال: هذا نسخة كتاب سليم بن قيس العامري ثمّ الهلالي، دفعه إليّ أبان بن أبي عياش وقرأه، وزعم أبان أنّه قرأه علي عليّ بن الحسين صلوات اللَّه عليهما، قال: صدق سليم رحمة اللَّه عليه، هذا حديث نعرفه.

محمّد بن الحسن قال: حدّثنا الحسن بن علي بن كيسان، عن إسحاق ابن إبراهيم، عن ابن اذينة، عن أبان بن أبي عياش، عن سليم بن قيس الهلالي قال قلت لأميرالمؤمنين عليه السلام: إنّي سمعت من سلمان ومن مقداد ومن أبي ذر أشياء في تفسير القرآن ومن الرواية عن النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وسمعت

منك تصديق ما سمعت منهم، ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الأحاديث عن نبيّ اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم تخالفونهم، وذكر الحديث بطوله.

فقال أبان: فقدّر لي بعد موت علي بن الحسين عليهما السلام أنّي حججت ولقيت أباجعفر محمّد بن عليّ عليهما السلام، فحدّثته بهذا الحديث كلّه لم أخط منه حرفاً، فاغرورقت عيناه ثمّ قال: صدق سليم، قد أتي أبي بعد قتل جدّي الحسين عليه السلام وأنا قاعد عنده، فحدّثه بهذا الحديث بعينه فقال له أبي: صدقت، قد حدّثني أبي وعمّي الحسن بهذا الحديث عن أميرالمؤمنين عليه السلام، فقالا: صدقت، قد حدّثك بذلك ونحن شهود، ثمّ استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 424

حدّثاه أنّهما سمعا ذلك من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، ثمّ ذكر الحديث بتمامه» «1».

وعبارة النجاشي ليس فيها ذكرٌ من رواية أبان، فضلًا عن كون الرواية منحصرة فيه، بل صرّح برواية إبراهيم بن عمر اليماني، وهذا نصّ كلامه:

«سليم بن قيس الهلالي، يكنّي أبا صادق، له كتاب، أخبرني علي بن أحمد القمي قال: حدّثنا محمّد بن الحسن بن الوليد قال: حدّثنا محمّد بن أبي القاسم ماجيلويه، عن محمّد بن علي الصيرفي، عن حمّاد بن عيسي وعثمان بن عيسي، قال حمّاد بن عيسي: وحدّثنا إبراهيم بن عمر اليماني، عن سليم بن قيس بالكتاب» «2».

وإنْ أراد من «الشيخين» الطوسي والنجاشي- كما هو مصطلح التقي المجلسي في رجال روضة المتقين- فقد عرفت كلام النجاشي آنفاً، وكلام الشيخ الطوسي في (الفهرست) سابقاً، وقد ذكر تعدّد الطريق إلي الكتاب. وأمّا (كتاب الرجال) للشيخ الطوسي، فلم ينقل أحد من العلماء الإنحصار المذكور عنه، كما لا يخفي علي من تتبّع، وكيف يدّعي ذلك وقد نصَّ

في (الفهرست) علي رواية إبراهيم بن عمر اليماني الكتاب كذلك؟

فظهر الكذب والإفتراء علي هؤلاء الأئمّة الأجلّاء.

وأمّا أنّ «الحسنين» - والمقصود منهما: العلّامة الحلّي، وهو الحسن بن المطهّر، والشيخ حسن بن داود الحلّي- يقولان بالمقالة المذكورة، فهذا أيضاً كذب، لأنّ العلّامة الحلّي- وإنْ أورد قصّة تسليم الكتاب إلي أبان، نقلًا عن __________________________________________________

(1) رجال الكشي: 104- 105/ 167.

(2) رجال النجاشي: 8/ 4.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 425

السيّد علي بن أحمد العقيقي- فإنّ ابن داود لم يذكرها، لا بترجمة سليم ولا بترجمة أبان، من كتابه في الرجال.

وأمّا نسبة ذلك القول إلي القيرواني، والإحتجاج به، فموقوفة علي وثاقة القيرواني، وكونه من علماء أهل الحق، ثمّ التصريح باسم الكتاب المنقول عنه … مع أنّه ليس من علماء الشيعة المشاهير، وليست له ترجمة في كتب الرجال، ولا نقل عنه في مسألتنا هذه في كتابٍ من كتبنا … نعم، له ذكر في كتب أهل السنّة، وقد نقل عنه الحافظ السهيلي الوجه في اسم ذي القرنين في كتابه (الروض الأنف) «1».

وأمّا السيّد العقيقي، فقد قال العلّامة الحلّي في (الخلاصة):

«قال السيّد علي بن أحمد العقيقي: كان سليم بن قيس من أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام، طلبه الحجاج ليقتله، فهرب وآوي إلي أبان بن أبي عياش، فلمّا حضرته الوفاة قال لأبان: إنّك لك علَيَّ حقّاً، وقد حضرني الموت، يا ابن أخي، إنّه كان من الأمر بعد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم كيت وكيت، وأعطاه كتاباً، فلم يرو عن سليم بن قيس أحد من الناس سوي أبان» «2».

ومن العجيب: ما ذكره من قصد سليم إحراق الكتاب وهو يريد التعريض بسليم، لأنّ سليماً إنْ كان قد قصد ذلك ولم يفعله، فقد فعل ذلك أبوبكر

بن أبي قحافة!! لرواية القوم كلّهم أنّه قد أحرق ما جمعه من الحديث __________________________________________________

(1) الروض الانف 3: 178.

(2) خلاصة الأقوال: 83، ترجمة سليم بن قيس.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 426

عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم «1».

هذا كلّه فيما يتعلّق بتسليم سليم الكتاب إلي أبان بن أبي عياش.

وأمّا مسألة وثاقة أبان … فإنّ أبان بن أبي عيّاش لا توثيق له في كتب أصحابنا أصلًا …

أبان من مشايخ أبي حنيفة وأبي يوسف … ص: 426

لكنّ الرّجل من مشايخ أبي حنيفة إمامهم الأعظم، ومن رجال مسنده، حيث روي عنه فيه في مواضع عديدة، كالرواية التالية:

«أبو حنيفة: عن أبان بن أبي عياش، عن إبراهيم بن عبداللَّه بن مسعود- رضي اللَّه عنه- قال: رمقت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم في الوتر، فرأيته قنت قبل الركوع» «2».

وقد مدح بعض الأعلام منهم رجال مسند أبي حنيفة، حتّي قال الشعراني في (الميزان):

«قد منّ اللَّه تعالي عليّ بمطالعة مسانيد الإمام أبي حنيفة الثلاثة من نسخةٍ عليها خطوط الحفّاظ، آخرهم الحافظ الدمياطي، فرأيته لا يروي حديثاً إلّاعن خيار التابعين العدول الثقاة، الذين هم من خير القرون، بشهادة رسول اللَّه …

فكلّ الرواة الذين بينه وبين سول اللَّه عدول أخيار، ليس فيهم كذّاب ولا متّهم بكذب. وناهيك- يا أخي- بعدالة من ارتضاهم الإمام أبو حنيفة، رضي اللَّه عنه، لأنْ يأخذ عنهم أحكام دينه، مع شدّة تورّعه … » «3».

__________________________________________________

(1). تذكرة الحفاظ 1: 5/ ترجمة أبي بكر.

(2) جامع مسانيد أبي حنيفة 1: 317/ الباب الخامس، في الصلاة.

(3) الميزان للشعراني 1: 82- 83/ فصل، في تضعيف قول من قال: إنّ أدلّة مذهب أبي حنيفة ضعيفة غالباً.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 427

وأيضاً: فأبان من مشايخ القاضي أبي يوسف، وقد أخرج عنه

في كتابه (الخراج) فقال في موضع:

«حدّثني أبان بن أبي عياش، عن الحسن البصري، عن أنس بن مالك، عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: ليس فيما دون خمسة أوسق من البرّ والذرّة والتمر والزبيب صدقة، ولا في ما دون خمسة أواقي صدقة، ولا فيما دون خمسٍ من الإبل صدقة» «1».

وأيضاً: فقد روي المزّي في (تهذيب الكمال) قال: «وقال محمّد بن موسي الحرشي وعبدالرحمن بن المبارك العيشي، عن حماد بن زيد قلت لسلم العلوي: حدّثني، قال: يا بُنيّ عليك بأبان، فإنّي قد رأيته يكتب بالليل عند أنس بن مالك عند السراج. زاد العيشي عن حماد قال: فذكرت ذلك لأيّوب فقال: ما زال نعرفه بالخير منذ كان» «2».

لكنّك تجد الذمّ الشديد له في كتبهم بكثرة، ونظائره في أئمّتهم ورواة صحاحهم كثيرون جدّاً …

تكلّم القوم في أبان … ص: 427

وإليك ترجمة أبان عند الذهبي.

«أبان بن أبي عياش فيروز، وقيل: دينار، الزاهد، أبو إسماعيل البصري، أحد الضعفاء، وهو تابعي صغير، تحمّل عن أنس وغيره، وهو من موالي عبدالقيس.

__________________________________________________

(1) الخراج للقاضي أبي يوسف: 53/ فصل، ما ينبغي أن يعمل به في السواد.

(2) تهذيب الكمال 2: 20- 21.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 428

قال شعيب بن حرب: سمعت شعبة يقول: لأن أشرب من بول حماري حتّي أروي، أحبّ إليّ من أقول ثنا أبان بن أبي عياش.

وروي ابن إدريس وغيره عن شعبة قال: لأن يزني الرجل خير من أن يروي عن أبان.

قال أحمد: هو متروك الحديث.

كان وكيع إذا مرّ علي حديثه يقول: رجل، ولا يسمّيه استضعافاً له.

وقال يحيي بن معين: متروك. وقال مرّة: ضعيف.

وقال أبو عوانة: كنت لا أسمع بالبصرة حديثاً إلّاجئت به أبان، فحدّثني به عن الحسن حتّي جمعت عنه مصحفاً، فما استحلّ أن أروي

عنه.

وقال أبو إسحاق السعدي الجوزجاني: ساقط. وقال مرّة: متروك.

ثمّ ساق ابن عدي لأبان جملة أحاديث منكرة.

قال يزيد بن هارون: وقال شعبة: داري وحماري في المساكين صدقة إن لم يكن أبان بن أبي عياش يكذب في الحديث. قلت له: فلم سمعت منه؟

قال: ومن يصبر عن ذا الحديث؟ يعني حديثه: عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبداللَّه، عن امّه أنّها قالت: رأيت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم قنت في الوتر قبل الركوع.

ورواه خلّاد بن يحيي ثنا الثوري عن أبان.

وقال عبدان عن أبيه عن شعبة: لولا الحياء من الناس ما صلّيت علي أبان.

وقال يزيد بن زريع: إنّما تركت أبان لأنّه روي حديثاً عن أنس فقلت له: عن النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم؟ فقال: وهل يروي أنس إلّاعن النبيّ صلّي استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 429

اللَّه عليه وسلّم؟

قال الحسن بن الفرج: عن سليم بن حرب، عن حمّاد بن يزيد قال:

جاءني أبان بن أبي عياش فقال: احبّ أن تكلّم شعبة أن يكفّ عنّي. قال:

فكلّمته، فكفّ عنه أيّاماً، فأتاني في الليل فقال: إنّه لا يحلّ الكفّ عنه، إنّه يكذب علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم.

قال ابن حبّان: فمن تلك الأشياء التي سمعها من الحسن فجعلها عن أنس: أنّه روي عن أنس أنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم قال: خطبنا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم علي ناقته الجدعاء فقال: أيّها النّاس، كأنّ الحقّ فيها علي غيرنا وجب، وكأنّ الموت فيها علي غيرنا كُتِب، الحديث. رواه ابن أبي السري العسقلاني، ثنا عبدالعزيز بن عبدالصمد، ثنا أبان بهذا» «1».

أقول:

فانظر كيف يطعنون في مشايخ أئمتهم ورجال مسانيدهم!

فهذا حال كتبهم ورواياتهم …

حاصل الكلام … ص: 429

وحاصل الكلام حول كتاب سليم هو:

إنّ ما ذكر قدحاً في

هذا الكتاب ليس بقادح، لأنّه إمّا استبعاد وإمّا اشتباه.

رواية إبراهيم اليماني لكتاب سليم … ص: 429

وإنّ ما ادّعي من انحصار روايته بأبان بن أبي عياش غير صحيح، فإنّ لعلمائنا الأعلام إلي هذا الكتاب طرقاً تنتهي إلي إبراهيم بن عمر اليماني، يرويه __________________________________________________

(1) ميزان الاعتدال 1: 124- 127/ 2156، ترجمة أبان.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 430

عن سليم، وإبراهيم ثقة:

قال العلّامة في (خلاصة الأقوال) في القسم الأوّل منه المختصّ بالثقات ونحوهم:

«إبراهيم بن عمر الصنعاني، قال النجاشي رحمه اللَّه: إنّه شيخ من أصحابنا ثقة، روي عن أبي جعفر وأبي عبداللَّه، ذكر ذلك أبوالعبّاس وغيره.

وقال ابن الغضائري: إنّه ضعيف جدّاً، روي عن أبي جعفر وأبي عبداللَّه عليهما السلام، وله كتاب، يكني أبا إسحاق.

والأرجح عندي قبول روايته، وإنْ حصل بعض الشك بالطعن فيه» «1».

قال المولي التقي في (رجال روضة المتقين) بعد نقله:

«بل لا يحصل الشك، لأنّ اصوله معتمد الأصحاب، بشهادة الصدوق والمفيد، ووثّقه الثّقتان، والجارح مجهول الحال، ولو لم يكن كذلك لكان عليه أن يقدّم الجرح، كما ذكره العلّامة في كتبه الاصوليّة» «2».

وعلي فرض الانحصار، فغاية الأمر كون الكتاب مرويّاً بطريقٍ ضعيف، وضعف الطريق لا يوجب الطعن والتشنيع، فهناك الآلاف من الأحاديث الضعيفة مرويّة في كتب القوم، خاصّةً في مسائل الحلال والحرام واصول استنباط الأحكام.

علي أنّ أكثر روايات كتاب سليم معتضدة بروايات صحيحة وأحاديث معتمدة، ولذا قال الشيخ أبو علي الحائري في (منتهي المقال):

«ثمّ اعلم أنّ أكثر الأحاديث الموجودة في الكتاب المذكور موجود في __________________________________________________

(1) خلاصة الأقوال: 6/ 15 باب إبراهيم.

(2) رجال روضة المتقين 14: 36.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 431

غيره من الكتب المعتبرة، كالتوحيد، واصول الكافي، والروضة، وإكمال الدين وغيرها، بل شذّ عدم وجود شي ء من أحاديثه في غيره من الاصول

المشهورة» «1».

وقال المجلسي: «وأكثر أخباره مطابقة لما روي بالأسانيد الصحيحة في الاصول المعتبرة» «2».

__________________________________________________

(1) منتهي المقال 3: 381/ 1356 ترجمة سليم.

(2) بحارالأنوار 30: 134/ الباب 19.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 433

ملحقٌ في تحقيق حال الحسن البصري من حيث التشيّع … ص: 433

اشارة

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 435

قال الفيض آبادي: … ص: 435

ذكر أبان بن أبي عيّاش أنّه اجتمع بالحسن البصري، ووصفه بالتشيّع لأميرالمؤمنين عليه السلام، فإنْ كان كاذباً في وصفه بذلك، فهذا من افتراءاته وأكاذيبه، وإنْ كان صادقاً فكيف يجتمع مع رواية (الاحتجاج) للطبرسي:

«لمّا فرغ أميرالمؤمنين عليه السلام من قتال أهل البصرة مرّ بالحسن البصري وهو يتوضّأ.

فقال له: يا حسن، لقد أكثرت من إراقة الماء.

فقال: لقد أكثرت من إراقة الدماء.

فقال: أسبغ وضوءك.

فقال: واللَّه لقد قتلت بالأمس قوماً كانوا يصلّون الخمس ويسبغون الوضوء.

فقال أميرالمؤمنين عليه السلام: قد كان ما رأيت، فما منعك أن تعين علينا عدوّنا؟

فقال: واللَّه لأصدقنّك يا أميرالمؤمنين، لقد خرجت في أوّل يومٍ، فاغتسلت وتحنّطت وصببت علَيَّ سلاحي، وأنا لا أشكّ في أنَّ التخلّف عن ام المؤمنين عائشة هو الكفر، فلمّا انتهيت إلي موضع نادي منادٍ: يا حسن! إرجع، فإنّ القاتل والمقتول في النار، فرجعت ذعراً وجلست في بيتي، فلمّا كان اليوم الثاني لم أشك أنّ التخلّف عن ام المؤمنين هو الكفر، فتحنّطت استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 436

وصببت علَيّ سلاحي وخرجت اريد القتال، حتّي انتهيت إلي ذلك الموضع، فنادانيِ من خلفي: يا حسن! إرجع، فإنّ القاتل والمقتول في النار.

فقال أميرالمؤمنين عليه السلام: صدقت، أتدري من ذلك المنادي؟

قال: لا.

قال: ذاك أخوك إبليس، وصدقك أنّ القاتل والمقتول منهم في النار» «1».

وهذا الحديث- وإن كانت أمارات الوضع لائحة عليه، لأنّ من المحال أنْ يمنع إبليس الحسن من أن يخرج إلي قتال الأمير الذي هو كفر بزعم الشيعة- يكذّب دعوي أبان تشيّع الحسن للأمير، وإلّا لزم القول بجواز الجمع بين التشيّع والاخوّة لإبليس، إلي غير ذلك من المفاسد.

أقول:

أوّلًا: كيف يجتري ء هذا الرجل علي تكذيب أبان ووصفه بالإفتراء، وهو

يستلزم تكذيب شيخه وإمامه الأعظم أبا حنيفة كما عرفت؟

وثانياً: أيّ تناقض بين كلام أبان ورواية الإحتجاج؟ وهل ادّعي أبان كون الحسن البصري من شيعة أميرالمؤمنين عليه السلام في زمان حكومته وحروبه؟ لقد قال أبان: «والحسن يومئذٍ من شيعة علي بن أبي طالب» ولا ريب أنّ الحسن كان يتظاهر بالتشيّع في تلك الأيّام الّتي التقي بها أبان، ولم يكن الحسن كذلك وحده، بل أمثاله- الذين كانوا يتظاهرون بالتشيّع وهم في الباطن منافقون- كثيرون..

وثالثاً: إنّ إبليس قد يدعو في بعض الأحيان إلي أفعال الخير، وهذا ما ينصُّ عليه كبار علماء أهل السنّة في مختلف الموارد، فقد ذكر الشيخ __________________________________________________

(1) الإحتجاج علي أهل اللجاج 1: 402- 403.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 437

عبدالوهّاب الشعراني في كتاب (اليواقيت) عن الشيخ ابن عربي أنّ الشيطان يدخل حبّ أهل البيت في قلوب المؤمنين! وهذه عبارته:

«وأكثر ما يظهر ذلك- أي الضلال- بسبب الأصل الصحيح في الشيعة لاسيّما في الإماميّة منهم، فأدخلت عليهم الشياطين حبّ أهل البيت واستفراغ الحبّ فيهم، ورأوا أنّ ذلك من أسني القربات إلي اللَّه تعالي ورسوله، وكذلك هو لو وقفوا ولم يزيدوا عليه بغض الصحابة وسبّهم».

وفي (روضة العلماء):

«سمعت الشيخ الإمام أبا محمّد عبداللَّه بن الفضل، يحكي عن أبي حازم، عن الحاكم قال: لمّا خرج نوح صلوات اللَّه عليه من السفينة واستقرّ، وهلك قومه، جاءه إبليس لعنه اللَّه.

وقال: يا نوح! إنّ لك عندي يداً عظيماً، فاسألني ما شئت فأصدقك وأنصحك.

قال: فاهتمّ نوح صلوات اللَّه عليه من كلامه، فأوحي اللَّه تعالي إليه أن سله فإنّ عظته حجّة عليه. قال: أخبرني بما أغويت أخلاف بني آدم علي هلكتهم.

قال: علي الخبير سقطت يا نوح فاسمع.

هو الكبر والبخل والحرص والحسد، وسانبّئك بذلك:

ألم تر

أنّ اللَّه تعالي لمّا خلق آدم، أمر ملائكة السماء السابعة بالسّجود له فسجدوا، فحملني الحسد إذ فُضِّلَ علَيّ أن لا أسجد له، فاخرجت من جميع ملكوت السماوات، فزجرت، فصرت شيطاناً رجيماً، فهذا من الحسد.

ألم تر أنّ اللَّه تعالي لمّا خلق آدم وأسكنه الجنّة وفوّضها بجميع ما فيها

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 438

إليه ونهاه عن شجرة واحدة أن يأكل منها، فحمله الحرص أن يأكل منها، فاخرج من جميع ما فيها، فهذا من الحرص.

ألم تر أنّ اللَّه تعالي لمّا خلق الفردوس فنظر إليها فأعجبته فقال: أنت محرّمة علي كلّ جبّار وعلي كلّ بخيل، فهذا في الكبر والبخل.

واللَّه يا نوح! ما كتمتك وما غششتك، ولا ادّخرت عنك نصحك.

قال نوح صلوات اللَّه عليه: فأخبرني باليد الذي لك عندي، فواللَّه إنّك لبغيض إليّ، فكيف أرضي باتّخاذ الأيادي عندك؟!

قال: بلي، إنّ قومك كانوا امّة من الامم كثيرة لا يحصي عددهم إلّااللَّه تعالي وكنت منهم في عناء طويل، فدعوت ربّك فاغرقوا، وصرت فارغاً لقوم آخرين».

وفي (الدر المنثور):

«أخرج ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان عن ابن عمر قال: لقي إبليس موسي، فقال: يا موسي! أنت الذي اصطفاك اللَّه برسالته وكلّمك تكليماً إذ تبت، وأنا اريد أن أتوب، فاشفع لي إلي ربّي أن يتوب علَيّ.

قال موسي: نعم. فدعا موسي ربّه، فقيل: يا موسي! قد قضيت حاجتك. فلقي موسي إبليس وقال: قد امرت أن تسجد لقبر آدم ويتاب عليك. فاستكبر وغضب وقال: لم أسجد له حيّاً أسجد له ميّتاً؟!

ثمّ قال إبليس: يا موسي! إنّ لك علَيّ حقّاً بما شفعت لي إلي ربّي، فاذكرني عند ثلاث لا اهلكك فيهنّ: اذكرني حين تغضب، فإنّي أجري منك مجري الدم، واذكرني حين تلقي الزحف، فإنّي آتي ابن

آدم حين يلقي الزحف، فاذكّره ولده وزوجته حتّي يولّي، وإيّاك أن تجالس امرأة ليست بذات استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 439

محرم، فإنّي رسولها إليك ورسولك إليها» «1».

لكن المراد من «الخير» هنا هو «الشرّ الأقلّ» إذ لا ريب أنّ اعتزال الحرب أقلّ شرّاً وضرراً من محاربة أميرالمؤمنين عليه السلام …

وكلّ ما يذكره القوم جواباً عن الأحاديث المذكورة وأمثالها، فهو جوابنا عن السؤال حول رواية (الإحتجاج)، وأنّه كيف منع إبليس الحسن البصري من دخول الحرب ضد أميرالمؤمنين؟

ورابعاً: لكنَّ الحقيقة هي: أنّ الشيطان أراد بقاء الحسن البصري في هذا العالم، لأنّه لو دخل الحرب لقتل، فبقي كي ينفّذ إلقاءات الشيطان، بإحداث البدع والمنكرات في الدين، فيضلّه ويضلّل بسببه امماً من الناس … وهذا ممّا تجده أيضاً في أخبار القوم وكتبهم. قال أبوالفرج ابن الجوزي في (تلبيس إبليس):

«أخبرنا أبو محمّد ابن القاسم، قال: أخبرنا أحمد بن أحمد، قال: أخبرنا أبو نعيم الحافظ، قال: حدّثنا أبو محمّد، قال: حدّثنا أحمد بن محمّد ابن يعقوب، قال: حدّثنا محمّد بن يوسف الجوهري، قال: حدّثنا أبو غسان النهدي قال: سمعت الحسين بن صالح يقول: إنّ الشيطان ليفتح للعبد تسعةً وتسعين باباً من الخير يريد به باباً من الشرّ».

وخامساً: إنّه كما دعا إبليس الحسن البصري إلي اعتزال القتال وقال له:

القاتل والمقتول في النار، وصدّقه أميرالمؤمنين عليه السلام، كذلك قد علَّم إبليس أباهريرة أن يقرأ آية الكرسي إذا آوي إلي فراشه … فلمّا حكي ذلك لرسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم صدّقه … وقد أخرج البخاري في __________________________________________________

(1) الدر المنثور في التفسير بالمأثور 1: 125.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 440

(صحيحه) ذلك، وهذه رواية البخاري:

«عن أبي هريرة قال: وكّلني رسول اللَّه

صلّي اللَّه عليه وسلّم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: لأرفعنّك إلي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، فقال: دعني فإنّي محتاج وعلَيّ عيال ولي حاجة شديدة. قال: فخلّيت عنه فأصبحت.

فقال النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم: يا أباهريرة! ما فعل أسيرك البارحة؟

قال: قلت: يا رسول اللَّه! شكي حاجة شديدة وعيالًا، فرحمته فخلّيت سبيله.

قال: أما إنّه قد كذبك وسيعود.

فرصدته، فجعل يحثو من الطّعام فأخذته وقلت: لأرفعنّك إلي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم. قال: دعني فإنّي محتاج وعلَيّ عيال، لا أعود، فرحمته وخلّيت سبيله. فأصبحت.

فقال لي رسول اللَّه: يا أباهريرة! ما فعل أسيرك؟

قلت: يا رسول اللَّه! شكي حاجة شديدة وعيالًا، فرحمته فخلّيت سبيله.

قال: أما إنّه قد كذبك وسيعود.

فرصدته الثالثة، فجعل يحثو من الطعام فأخذته فقلت: لأرفعنّك إلي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم، وهذا آخر ثلاث مرّات أنّك تزعم لا تعود ثمّ تعود.

قال: دعني اعلّمك كلمات ينفعك اللَّه بها.

قلت: ما هو؟

قال: إذا آويت إلي فراشك فاقرأ آية الكرسي: «اللَّه لا إله إلّاهو الحيُ استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 441

القَيُّومُ» حتّي تختم الآية، فإنّك لن يزال عليك من اللَّه حافظ ولا يقربك شيطان حتّي تصبح، فخلّيت سبيله، فأصبحت.

فقال لي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وسلّم: ما فعل أسيرك البارحة؟

فقلت: يا رسول اللَّه! زعم أنّه يعلّمني كلمات ينفعني اللَّه بها فخلّيت سبيله.

قال: ما هي؟

قال لي: إذا آويت إلي فراشك فاقرأ آية الكرسي من أوّلها حتّي تختم الآية «اللَّه لا إله إلّاهو الحيُّ القَيُّومُ» وقال: لن يزال عليك من اللَّه حافظ، ولا يقربك شيطان حتّي تصبح، وكانوا أحرص شي ء علي الخير.

فقال النبيّ صلّي اللَّه عليه وسلّم: أمّا إنّه قد صدقك وهو كذوب،

تعلم من تخاطب مذ ثلاث ليال يا أباهريرة؟

قال: لا.

قال: ذاك شيطان» «1».

والألطف من ذلك كلّه: ما رواه القوم في مناقب خليفتهم الثاني، من تعلّمه فضل سورة البقرة من إبليس … قال الشيخ إبراهيم الوصابي اليمني الشافعي في كتاب (الإكتفاء):

«عن ابن مسعود: إنّ رجلًا من أصحاب محمّد صلّي اللَّه عليه وسلّم لقي رجلًا من الجنّ، فصارعه صاحب محمّد فقال له الجنّي: عاودني، فعاوده فصرعه ثانياً، فقال له الصحابي: إنّي لأراك ختيلًا سخيفاً ذراعك ذراع الكلب، أفكذلك أنتم معشر الجنّ أو أنت منهم كذا؟ قال: لا واللَّه إنّي منهم لضليع. ثمّ __________________________________________________

(1) صحيح البخاري 3: 132- 133/ كتاب الوكالة، باب إذا وكّل رجلًا …

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 442

قال: عاودني الثالثة، فإن صرعتني علّمتك شيئاً ينفعك، فعاوده فصرعه، فقال:

هل تقرأ آية الكرسي؟ قال: نعم. قال: فإنّك لا تقرؤها في بيت إلّاخرج منه الشيطان، ثمّ لا يدخل حتّي يصبح.

فقال رجل من القوم: من ذلك الرجل، يا أباعبدالرحمن من أصحاب محمّد صلّي اللَّه عليه وسلّم؟ هو عمر؟ قال: من يكون إلّاعمر؟

أخرجه المحبّ الطبري في الرياض.

وفي اخري له رضي اللَّه عنه قال: لقي رجل شيطاناً في سكّة من سكك المدينة، فصارعه فصرعه الرجل فقال: دعني، فإنّك إن تدعني اخبرك بشي ء يعجبك. فقال: لا أدعك حتّي تخبرني، وعَضّه في إصبعه. فقال: هل تقرأ سورة البقرة؟ قال: نعم. قال: فإنّ الشيطان لا يسمع منها شيئاً إلّاأدبر وله عجيج كعجيج الحمار.

فقيل لابن مسعود: من ذلك الرجل؟ قال: ومن عسي أن يكون إلّاعمر.

أخرجه عبداللَّه بن مسعود الأندلسي في كتابه الشفا» «1».

ومن لطائف الامور: وضعهم الأحاديث في فضائل خلفائهم والدفاع عنهم عن لسان إبليس نفسه …

ومن ذلك: ما رواه القاضي أبوبكر أحمد بن

الضحّاك في (فضائل عمر)، والوصابي في (الاكتفاء في فضائل الخلفاء) والمحبّ الطبري في (الرياض النضرة في فضائل العشرة) نقلًا عن أحمد بن الضحاك، واللفظ للأخير:

«عن الأعمش قال: خرجت في ليلةٍ مقمرةٍ اريد المسجد، فإذا أنا بشي ء

__________________________________________________

(1) الاكتفاء في مناقب الخلفاء- مخطوط. وانظر الرياض النضرة 1: 361.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 443

عارضني فاقشعرّ منه جسدي.

فقلت: من الجنّ أم من الإنس؟

فقال: بل من الجنّ.

فقلت: مؤمن أم كافر؟

فقال: بل مؤمن.

فقلت: هل فيكم من هذه الأهواء والبدع شي ء؟

قال: نعم.

ثمّ قال: وقع بيني وبين عفريت من الجنّ اختلاف في أبي بكر وعمر، فقال العفريت: إنّهما ظلما عليّاً واعتديا عليه.

فقلت له: بمن ترضي حكماً بيني وبينك؟

قال: بإبليس.

فأتيناه فقصصنا عليه القصّة فضحك.

ثمّ قال: هؤلاء من شيعتي وأنصاري وأهل مودّتي.

ثمّ قال: ألا احدّثكم بحديث؟

قلنا: بلي.

قال: اعلمكم أنّي عبدت اللَّه تعالي في السماء الدنيا ألف عام، فسمّيت فيها العابد، وعبدت اللَّه في الثالثة ألف عام فسمّيت فيها الراغب، ثمّ رفعت إلي الرابعة، فرأيت سبعين ألف صفّ من الملائكة يستغفرون لمحبّي أبي بكر وعمر، ثمّ رفعت إلي الخامسة، فرأيت فيها سبعين ألف ملك يلعنون مبغضي أبي بكر وعمر.

أخرجه القاضي أبوبكر أحمد بن الضحّاك في فضائل عمر بن استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 444

الخطّاب» «1».

وإذا كان الخصم يري أنّ الشيطان لا يدعو إلّاإلي الشر، فهو- إذن- يعترف بكون حبّ الشيخين شرّاً لا خير فيه أبداً … وهذا من الأدلّة الإلزاميّة التي لا مفرّ لهم منها …

وسادساً: فإنّ خبر (الاحتجاج) قد رواه القوم في كتبهم وإنْ مختصراً …

قال القاضي أبو جعفر محمّد بن عمر الشعبي في (الكفاية):

«روي في الأخبار: إنّ عليّاً مرّ علي الحسن البصري وهو يتوضّأ، فقال له: أسبغ الوضوء يا غلام. فقال الحسن لعلي:

قتلت الوفاً ممّن كان يسبغ الوضوء.

وإنّما أراد به المحاربة التي وقعت بينه وبين معاوية، فقتل كثير من أصحاب النبي صلّي اللَّه عليه وسلّم.

فقال له علي: أحزنك ذلك؟ فقال: نعم، فقال له علي: أحزنك اللَّه تعالي».

وهذا الخبر يدلّ علي شدّة نصب الحسن البصري وعناده لأميرالمؤمنين عليه السلام، فكان أخاً لإبليس حقّاً …

وقد حاول الشعبي- صاحب الكفاية- أن يذكر لدعاء الإمام علي الحسن محملًا كيلا يدلّ علي الذمّ له، فقال:

«ثمّ دعاء علي ليس علي وجه الغضب، وإنّما أراد به أحزنك اللَّه في أمر الدين، فاستجاب اللَّه دعاءه. فروي أنّه لم يضحك بعد ذلك أربعين سنة».

لكنّه تأويل سخيف ومضحك، كما لا يخفي …

__________________________________________________

(1) الرياض النضرة في مناقب العشرة 1: 361/ 251.

استخراج المرام من استقصاء الافحام، ج 1، ص: 445

وتلخص إن الحسن البصري لم يكن من الشيعة الإماميّة، وإنّما كان ربّما يتظاهر بذلك في بعض الأحيان، وأبان بن أبي عياش وصفه بالتشيع لِما رآه يتظاهر بذلك في ذلك الوقت، وهذا لا يعارض خبر (الاحتجاج) ولا غيره من الأخبار المذكورة في كتبنا، ككتاب (الإثنا عشريّة) للشيخ الحرّ العاملي رحمه اللَّه، الدالّة علي عدائه وناصبيّته لأميرالمؤمنين عليه السلام، حتّي أنّ الإمام عليه السلام قد وصفه في رواية بأنّه «سامريّ هذه الامّة» ولهذا الوصف مداليل كثيرة.

وتلخص: أنّ «الحسن» ليس من الشيعة أصلًا، لكن «أبان» لم يكذب في وصفه بالتشيّع.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.