القواعد الفقهية المجلد 2

اشارة

سرشناسه : مكارم شيرازي ناصر، 1305-

عنوان و نام پديدآور : القواعد الفقهيه / ناصر مكارم الشيرازي

مشخصات نشر : قم : مدرسه الامام علي بن ابي طالب ع ، 1425ق = 1383.

مشخصات ظاهري : 2ج.

شابك : 50000 ريال : دوره : 964-533-036-X ؛ 50000 ريال دوره ، چاپ دوم ؛ : ج.1 ، چاپ دوم : 9648139040 ؛ : ج.2 ، چاپ دوم : 9648139210

يادداشت : عربي.

يادداشت : چاپ قبلي مدرسه الامام علي بن ابي طالب ع ، 1374( با فروست ).

يادداشت : ج.1 تا 2 ( چاپ دوم : 1385 ).

يادداشت : كتابنامه

موضوع : فقه -- قواعد.

موضوع : اصول فقه شيعه

شناسه افزوده : مدرسه الامام علي بن ابي طالب ع .

رده بندي كنگره : BP169/5 ‮ /م 7ق 9 1383

رده بندي ديويي : 297/324

شماره كتابشناسي ملي : م 83-30013

الجزء الثاني

أمور هامّة يجب التنبيه عليها

اشارة

وقبل أن نتناول ما تبقى من القواعد الفقهيّة بالبحث ينبغي الإشارة إلى أمور:

- 1 لابدّ من تدوين علم مستقل بشأن القواعد الفقهيّة

القواعد الفقهيّة هي من أهم الأمور التي يجب على الفقيه معرفتها، ومعرفة مواردها، وشرائطها، وما يُستثنى منها، وذلك لاستناء كثير من المسائل الفقهيّة عليها، بحيث لا يمكن الجزم بالحكم الفقهي غالباً بدون ذلك.

وكيف يتسنّى للفقيه البحث عن كثير من مسائل الفقه في أبواب العبادات والمعاملات مع عدم احاطته بموارد جريان قاعدة «لا حرج»، و «الصحة»، و «ضمان اليد»، و «لا ضرر»، و «عدم ضمان الأمين»، وقاعدة «السبق» و «الالزام» .. وغيرها، وعدم قدرته على التفريق بين، مواردها وموقفها من سائر الأدلة من الأمارات والاصول.

ولكن، رغم هذه الأهميّة لم يُبحث عنها إلّانادراً وتباعاً، مع أنّها تحتاج إلى أبحاث مستقلة وشاملة ومستوفية.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 4

والسبب في ذلك أنّها لا تندرج في الحقيقة لا في مسائل اصول الفقه، ولا في مسائل الفقه نفسه، إذ ليس لها في مسائل هذين العلمين مجال إلّاتبعاً لبعض مسائلهما، أو ما يكون بحثاً استطراديّاً غير جامع، ولا مستوعب لجميع ما يُراد منها.

وما يبدو من بحث بعضها مؤخراً في بعض الكتب الأُصوليّة أو الفقهيّة بأنّه شامل ومستوفٍ مثل قاعدة «لا ضرر»، أو قاعدة «ما لا يُضمن بصحيحه لا يُضمن بفاسده»، وقواعد طفيفة أخرى لا يوجب أداء حقّها جميعاً مع ما فيها أيضاً من نقائص ظاهرة.

وكم من مسألة اشتبه حكمها على بعض الأكابر من جرّاء عدم تنقيح هذه القواعد، وسيمرّ عليك كثير منها بين طيّات هذا الكتاب.

إذن، فالواجب علينا الاهتمام بشأنها، وأداء حقّها، وتدوين علم مستقل لها، وإن أهملها المتقدّمون (رضوان اللَّه تعالى عليهم) وكم ترك الأولون للآخرين.

2 تعريف القواعد الفقهيّة

القاعدة الفقهيّة، على ما يُستفاد من استقراء كلمات الأصحاب (قدّس اللَّه أسرارهم) هي ما اشتملت على حكم فقهي عام لا يختصّ بباب معيّن من الفقه، بل

يشمل أبواب الفقه كلّها، أو كثيراً من مسائلها المبحوثة في «كتب فقهيّة متعدّدة»، أو مسائل كثيرة من «كتاب واحد».

فالأوّل: كقاعدة «حجيّة البيّنة»، أو «خبر الواحد» في الموضوعات، فإنّها تعمّ جميع أبواب الفقه لعموم موضوعها، فهي تجري في جميع أبواب العبادات والمعاملات.

فليست الحجيّة هنا ليست كالحجيّة في الأدلّة الأربعة ممّا تقع في طريق الاستنباط، بل الحجيّة بنفسها حكم فقهي، لأنّها تتعلق بموضوع كذلك، فإذا أخبرتِ البيّنة عن طهارة شي ء، أو رؤية الهلال، أو غير ذلك، فانّ معنى ذلك جواز استعمالها في الصلاة، أو وجوب الصوم، أو الافطار، إذ هي مشتملة على حكم عامّ متعلّق بإثبات الموضوعات في جميع كتب الفقه.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 5

والثاني: مثل قاعدة «أصالة اللّزوم» في المعاملات، أو قاعدة «ضمان اليد»، فإنّها تجري في أبواب المعاملات فقط.

والثالث: كقاعدة «لا تُعاد»، أو قاعدة «الطهارة»، أو قاعدة «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر»، الجارية في أبواب الصلاة، أو الطهارة، أو القضاء، لكنّها مع ذلك لا تختص ببابٍ خاصّ من هذه الكتب الثلاثة.

فحينئذٍ تختلف القاعدة الفقهيّة عن المسائل الاصوليّة بأنّ الثانية لا تشتمل على حكم شرعي فرعي تكليفي أو وضعي، بل تقع في طريق استنباط الأحكام بينما تشتمل القواعد الفقهيّة على أحكام كليّة عامّة إثباتاً، أو نفياً كما في «لا حرج» و «لا ضرر» على المشهور.

كما أنّها تختلف عن المسائل الفقهيّة في اشتمالها على أحكام جزئية كطهارة ماء البئر، ونجاسة الدم، وجواز عقد المعاطاة، وحرمة الخمر، وغيرها من الامور المشابهة.

ولأجل هذه الخصوصية لا يمكن إعطاء نتيجة القواعد الفقهيّة بأيدي المقلّدين، فإنّها تنفع الفقيه وحسب، بينما تقع المسائل الفقهيّة في معرض فائدة العموم.

وبالجملة فإنّ القواعد الفقهيّة تشتمل على أمرين:

1- إثبات حكم شرعي فرعي تكليفي، أو وضعي

عامّ، أو نفيه.

2- اطّرادها في جميع أبواب الفقه، أو أبواب متعددة من كتب فقهيّة مختلفة، أو كتاب واحد مثل القضاء، أو الصلاة أو غيرهما.

ومن هنا يظهر الوجه فيما ذكرنا من كونها ممتازة عن المسائل الأصوليّة والفقهيّة، وأنّها موضوع علم مستقل.

3 عدم تدوين كتاب خاص بهذا الموضوع

هناك كتب كثيرة قيّمة مسمّاة باسم «القواعد» مثل «القواعد» للعلّامة رحمه الله، و «قواعد الشهيد رحمه الله»، وغيرهما .. ولكن من الواضح أنّ شيئاً منها لا يبحث عن القواعد بالمعنى

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 6

الذي ذكرناه آنفاً، كما يظهر ذلك لمن راجعها في بادى ء النظر، بل هي كتب فقهيّة جيّدة كسائر الكتب المتداولة، سُمّيت باسم «القواعد»، ولكنّها لا تبحث عن هذه القواعد، بل تبحث عن مسائل الفقه الجزئية.

نعم، هناك بعض المؤلّفات لأصحابنا مثل «العوائد» للنراقي رحمه الله، و «العناوين» للمحقّق البارع السيد عبدالفتاح المراغي، وهو من تلاميذ الشيخ علي بن الشيخ جعفر كاشف الغطاء رحمه الله تبحث عن مجموعة من القواعد الفقهيّة، ولكنّها أيضاً غير متخصصة في هذا الموضوع.

ولذا فلا عجب إن قلنا بأنّ أول كتاب مؤلَّف لسرد قواعد الفقه بمعناها المصطلح هو كتابنا هذا، وقد نشر لأول مرّة في سنة 1382 هجرية قمرية، ثم نشر كتاب آخر يحمل نفس هذا الاسم من قبل بعض أعيان المعاصرين شكر اللَّه سعيه وجزاه عن الإسلام خير الجزاء، وإن كان هناك تفاوت كبير بين أبحاثه وبين الأبحاث المذكورة في كتابنا هذا، فقد بحث عن أمور كان الأولى له تركها، وترك بعض ما كان عليه من الواجب ذكره.

وعلى كلّ حال فإنّ هذا العلم ممّا ينبغي أن يكون محطّاً لأنظار العلماء، ومضماراً لأهل التحقيق، حتى يخرج عن هذه الغربة المؤسفة، ويتسع نطاقه، وتتضح جميع جوانبه ونواحيه.

4 محتوى الكتاب

كتابنا هذا يشمل ثلاثين قاعدة فقهيّة هي أهم القواعد إلى يُحتاج إليها في الأبحاث الفقهيّة، ولا أقول أنّ جميع القواعد الفقهيّة تنحصر فيها، بل أقول بأنّ هذه القواعد هي أهمّها وأوسعها وأشملها.

وقد ذكرنا تسعاً منها في «المجلد الأول»، وهي:

قاعدة «لا ضرر»، وقاعدة «الصحة»، وقاعدة

«لا حرج»، وقاعدة «التجاوز والفراغ»،

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 7

وقاعدة «اليد» (دلالة اليد على الملك)، وقاعدة «القرعة»، وقاعدة «التقيّة» وموارد حرمتها ووجوبها، وقاعدة «لا تعاد»، وقاعدة «الميسور».

و سوف نذكر واحداً وعشرين من هذه القواعد في «الجزء الثاني» (وهو هذا المجلّد)، وهي:

10- قاعدة التسلّط (الناس مسلّطون على أموالهم).

11- قاعدة حجية البينة.

12- قاعدة حجية خبر الواحد في الموضوعات.

13- قاعدة حجية قول ذي اليد.

14- قاعدة الحيازة (من حاز ملك).

15- قاعدة السّبق (من سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد فهو أحق به).

16- قاعدة الإلزام (إلزام المخالفين بما ألزموا به أنفسهم).

17- قاعدة الجبّ (الإسلام يجب ما قبله).

18- قاعدة الإتلاف (من أتلف مال الغير فهو له ضامن).

19- قاعدة ما يضمن و ما لايضمن (ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسد و بالعكس).

20- قاعدة اليد (على اليد ما أخذت حتى تؤدّي).

21- قاعدة عدم ضمان الأمين.

22- قاعدة الغرور (المغرور يرجع إلى من غرّه).

23- قاعدة الخراج (بالضمان).

24- قاعدة اللزوم (كل معاملة لازمة إلاما خرج بالدليل).

25- قاعدة البيّنة واليمين (ثبوت البينة على المدّعي و اليمين على من أنكر).

26- قاعدة التلف المبيع قبل قبضه (كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بايعه).

27- قاعدة تبعية العقود للقصود.

28- قاعدة التلف في زمن الخيار (التلف في زمن الخيار ممّن لاخيار له).

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 8

29- قاعدة الاقرار (من ملك شيئاً ملك الإقرار به).

30- قاعدة الطهارة.

وبها تتمّ ثلاثون قاعدة.

وختاماً نحمد اللَّه تعالى على توفيقه الذي لا يتمّ أمر إلّابه، ونسأله أن يجعله ذُخراً ليوم المعاد بمنّه وكرمه، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلّامن أتى اللَّه بقلب سليم.

كما أنّ من الواجب عليَّ أن أشكر عدّةً من الأفاضل الذين وازروني في هذا الأمر، وبذلوا جهدهم في مراجعة إلى المصادر الفقهيّة والأحاديث وغيرهما،

وجمع اصول هذه القواعد، فانّها متفرقة غاية التفرق في كتب الفقه والحديث وغيرهما.

وهم الفضلاء الكرام:

* السيد أبو محمد المرتضوي.

* والسيد مهدي شمس الدين.

* والسيد علي الموسوي.

* والشيخ محمد علي الحيدري.

* والشيخ رضا بلاغت

شكر اللَّه سعيهم، وجزاهم عن الإسلام خير الجزاء.

«رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ».

«رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِاخْوَانِنا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ».

«رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهي ء لَنا مِنْ أَمرِنَا رَشَداً».

(والحمد للّه)

قم- الحوزه العلمية

ناصر مكارم الشيرازي

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 9

10 قاعدة التسلّط

اشارة

من القواعد المشهورة بين الفقهاء قاعدة تسلّط الناس على أموالهم، ولا يزالون يستدلون بها في مختلف أبواب المعاملات بالمعنى الخاص، والعام، بل لعلّها هي المصدر الوحيد في بعض مسائلها.

وبيان «محتواها و «مصادرها» و «ما يتفرع عليها» و «ما يُستثنى منها» يتمّ في مقامات:

المقام الأول: في مصدر القاعدة

اشارة

يمكن الاستدلال عليها بالأدلّة الأربعة:

1- كتاب اللَّه

أمّا من كتاب اللَّه العزيز فبآيات مختلفة، وردت في موارد خاصّة، يستفاد من مجموعها أنّ كلّ إنسان له سلطة على أمواله الخاصّة، لا يجوز لأحد مزاحمته إلّامن خلال طرق معيّنة وردت في الشرع، فممّا يدلّ على هذا المعنى قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً» «1».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 12

دلّ هذا على عدم جواز أكل أموال الناس إلّامن خلال طرق خاصّة مشروعة، تنبني على رضا الطرفين، وجعل حرمته كحرمة قتل الأنفس، وكأنّ هذا القول يتوافق مع الحديث المعروف: «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» «1».

ومثله قوله تعالى: «وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً» «2».

وهو دليل على أنّ الإنسان لو لم يكن قادراً على حفظ أمواله فلابدّ أن تُحفظ من طريق من يقدر على ذلك، وأنّ الولي يجب عليه كمال الإحتياط فيه، وإلّا ارتكب إثماً عظيماً.

ومن الجدير بالذكر أنّ التعبير بأموالكم وأموالهم دليل واضح على الملكيّة الخاصّة في هذه الأموال لا ملكيّة المجتمع، كما قد يتوهمه من لا خبرة له بشي ء من الآثار الإسلامية والمتون الدينيّة.

وأيضاً قوله تعالى: «وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً» «3».

دلّت على أنّه لا يجوز التصرّف في شي ء من أموالهم الحاصلة من طريق الصداق، إلّا باذنهنّ ورضاهنّ، وأيضاً قوله تعالى: «وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» «4».

إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الواردة في أبواب الإرث، والصداق، والوصية، وسائر العقود، وما

دلّ على مطلوبيّة الإنفاق في سبيل اللَّه، حتى ما دلّ على حرمة الربا وأنّه «وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ ...» «5».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 13

وبالجملة، لا يبقى شكّ لأحد بعد ملاحظة هذه الآيات أنّ كلّ إنسان مسلّط على أمواله التي اكتسبها من طرق مشروعة، وأنّه لا يجوز مزاحمته فيها، ولا التصرّف إلّا بإذنه ورضاه، ولو جمعنا هذه الآيات مع تفسيرها كان كتاباً ضخماً.

2- السنّة

وأمّا من السنّة فهى روايات كثيرة عامّة وخاصّة:

1- الرواية المعروفة المشهورة على ألسنة الفقهاء، المرسلة عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال:

«إن الناس مسلّطون على أموالهم».

رواها العلّامة المجلسي رحمه الله في المجلّد الثاني من «البحار» عن «عوالي اللئالي» «1»، وهي وإن كانت مرسلة لكنّها مجبورة بعمل الأصحاب قديماً وحديثاً، واستنادهم إليها في مختلف أبواب الفقه، وسيأتي الإشارة إلى بعضها.

قال في «الرياض في» مسألة تضرّر الجارّ بتصرف المالك في ملكه: «إنّ حديث نفي الضرر المستفيض معارض بمثله من الحديث الدالّ على ثبوت السلطنة على الإطلاق لرّب الأموال، وهو أيضاً معمول به بين الفريقين» «2».

وهناك روايات اخر لا تشتمل على هذا العنوان، ولكنّها تحتوى معناها ومغزاها.

2- ما رواها سماعة قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: «الرجل يكون له الولد أيسعه أن يجعل ماله لقرابته؟ قال: هو ماله يصنع به ما شاء إلى أنّ يأتيه الموت» «3».

3- رواية أخرى عن سماعة عن أبي بصير عن أبي عبداللَّه عليه السلام مثل الرواية السابقة، وزاد: «إنّ لصاحب المال أن يعمل بماله ما شاء، ما دام حياً، إن شاء وهبه، وإن شاء تصدّق به، وإن شاء تركه إلى أنّ يأتيه الموت» «4».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 14

ومن الواضح أنّ ذكر الهبة والصدقة من باب المثال، لما وقع

التصريح فيها بأنّ له أن يصنع بما له ما شاء، وليست السلطة على المال غير هذا.

4- مرسلة إبراهيم بن أبي سماك عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «الميّت أولى بماله ما دامت فيه الروح» «1».

5- وبمعناه رواية أخرى عن عمّار بن موسى أنّه سمع أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: «صاحب المال أحقّ بماله ما دام فيه شي ء من الرّوح يضعه حيث شاء» «2».

6- وروى عثمان بن سعيد عن أبي المحامد عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «الإنسان أحقّ بماله ما دامت الروح في بدنه» «3».

وهناك روايات أخرى واردة في نفس هذا الباب، ومن الواضح أنّ اطلاق قوله «أولى» و «أحقّ» يشمل أنواع التصرفات الناقلة وغير الناقلة.

وتقييد روايات الوصية بالثلث كتخصيص هذه الاطلاقات بغير مرض الموت، بناءً على كون منجزات المريض من الثلث لا من الأصل، لا يضرّ بالمقصود، فانّ إطلاق السلطنة على المال كسائر الإطلاقات يقبل التقييد مهما ورد دليل عليه.

أمّا الروايات الخاصّة فهي كثيرة جدّاً لا يمكن استقصاء جميعها، بل ولا نحتاج إلى الاستقصاء بعد ما عرفت.

3- الإجماع

وأمّا الإجماع فهو ظاهر كلمات القوم، حيث أرسلوها إرسال المسلّمات، واستدلوا بقاعدة التسلّط في أبواب مختلفة نشير إلى جملة منها:

1- قال في «الخلاف» في كتاب «البيوع» في مسألة 290 في بحث إقراض الجوارى:

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 15

«دليلنا أنّ الأصل الإباحة، والحظر يحتاج إلى دليل ... وأيضاً روي عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «النّاس مسلّطون على أموالهم»، وقال: «لا يحلّ مال أمرى ء مسلم إلّابطيب نفسٍ منه» «1».

ومنه يظهر أنّ حديث عدم جواز التصرّف في مال كلّ إنسان إلّابطيب نفسه يتّحد معنا مع حديث التسلّط.

2- قال في «السرائر» في باب حريم البئر: «وان أراد الإنسان

أن يحفر بئراً في داره أو ملكه وأراد جاره أن يحفر لنفسه بئراً بقرب تلك البئر لم يمنع منه بلا خلاف في جميع ذلك وإن كان ينقص بذلك ماء البئر الأولى لأنّ الناس مسلّطون على أملاكهم» «2».

وقال في «جامع المقاصد» في أبواب الاحتكار في شرح قول العلّامة رحمه الله: «ويجبر على البيع لا التسعير» ما نصّه: «هذا أصح لأنّ الناس مسلّطون على أموالهم، إلّاأنّ يجحف في طلب الثمن أو يمتنع من تعيينه» «3».

وقال في «جامع المقاصد» أيضاً: في جواز التفريق بين الطفل وأُمه في المملوكة ما نصّه: «يجوز التفريق بعد سنتين في الذكر، وبعد سبع في الانثى (في الحرّة) على المشهور بين المتأخرين، فليجز ذلك في الأمة لأنّ حقّه لا يزيد على حقّ الحرّة، ولأنّ النّاس مسلّطون على أموالهم» «4».

وقال هو أيضاً في مسألة وطى ء الأمة من جانب المشتري، في مدّة الخيار المشترك أو المختص بالبايع: «إنّه ليس له ذلك على إشكال، ثمّ ذكر أنّ منشأ الإشكال من عموم «النّاس مسلّطون على أموالهم»، ومن «أنّه ربّما أفضى إلى الاستيلاد الموجب لسقوط خيار البائع».

وقال في «مفتاح الكرامة»، في أبواب الإحتكار بعد نقل كلام القواعد في نفي

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 16

التسعير: «إجماعاً وأخباراً متواترة كما في «السرائر»، وبلا خلاف كما في «المبسوط»، وعندنا كما في التذكرة، للأصل وعموم السلطنة»»

.وقال في «جامع المقاصد» أيضاً في شرح مسألة تأجيج النّار وإرسال الماء في ملكه: «إنّه لمّا كان النّاس مسلّطين على أموالهم كان للإنسان الإنتفاع بملكه كيف شاء» «2».

وهذا صاحب الجواهر الفقيه المتضلّع استدل بهذه القاعدة، وأرسله إرسال المسلّمات في أبواب البيع، والرهن، والصّلح، والشركة، والمزارعة، والمساقاة، والوديعة، والعارية، وكتاب السبق، والوصايا، والغصب، والأطعمة والأشربة، وإحياء الموات، إلى غير

ذلك ممّا لو نقلناه بأجمعه لطال بنا البحث، ولكن نذكر شطراً من ذلك:

1- قال في كتاب البيع في جواز الولاية من قبل الجائر إذا كان مكرها ما نصّه: «لا بأس بجواز تحمّل الضرر المالي في دفع الإكراه، ولعموم تسليط النّاس على أموالهم» «3».

2- وقال في مبحث الإحتكار: «المسألة الثانية: «الاحتكار مكروه، وقيل: حرام، والأول أشبه بأصول المذهب وقواعده التي منها الأصول، وقاعدة تسلّط النّاس على أموالهم» «4».

وكلامه شاهد على أنّ القاعدة من القواعد المسلّمة في مذهبنا.

3- وقال في حكم التفرقة بين الأطفال وامهاتهم قبل استغنائهم منهنّ بعد نقل كلام «الشرايع» «أَنّها محرّمة وقيل مكروهة وهو الأظهر» ما نصّه: «جمعاً بين ما دلّ على الجواز من الأصل وعموم تسلّط النّاس على أموالهم» «5».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 17

وقال في «الشرايع» في كتاب «الرّهن»: «لو غصبه ثم رهنه صحّ، ولم يزل الضمان ...

ولو أسقط عنه الضمان صحّ» وزاد في «الجواهر»: «ودعوى عدم صحّة إسقاط مثل ذلك يدفعها عموم تسلّط النّاس على حقوقهم وأموالهم» «1».

وإضافة الحقوق في كلامه هنا من باب إلغاء الخصوصيّة عن الأموال، وإلّا فالظاهر أنّه لم يرد هذا العنوان في النّصوص.

واستدلّ به أيضاً في أبواب «الصّلح» في مسألة صلح الشريكين عند إرادة الفسخ على أن يأخذ أحدهما رأس ماله والآخر الباقي، ربح أوتوى، جاز ... ولعلّ عموم تسلّط النّاس على أموالهم يقتضيه» «2».

واستدلّ به أيضاً في جواز الإعتماد على القرعة في القسمة في كتاب «الشركة» وقال: «إنّما الكلام في اعتبارها في القسمة كما عن ظاهر كثير أو الجميع، نعم، عن الأردبيلي رحمه الله الإكتفاء بالرضاء من الشركاء ... لعموم تسلّط النّاس على أموالهم» «3».

واعتمد عليه في أبواب «المزارعة» و «المساقاة» حيث قال: «في المسألة الرابعة في

جواز شركة غير المزارع (بالفتح) معه وعدم توقّفه على إذن المالك بعد التمسّك بعدم الخلاف بانتقال المنفعة إليه بعقد المزارعة، والناس مسلّطون على أموالهم» «4».

واستند إليه في كتاب «السبق» أيضاً «5».

واستدلّ به أيضاً في كتاب «الوصية» إذا أوصى بالثلث «6».

وقال في كتاب «الغصب» بعد قول «الشرايع»: «ولو أرسل في ملكه ماء فأغرق مال غيره أو أججّ ناراً فيه فأحرق لم يضمن، ما لم يتجاوز قدر حاجته اختياراً»، قال: «بلا خلاف أجده فيه ... للأصل بعد عدم التفريط، وعموم تسلّط النّاس على أموالهم» «7».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 18

واستدلاله هنا بقاعدة التسلّط دليل على عمومها عنده، حتى إذا أوجب الضّرر على غيره، ما لم يتجاوز عن حدّه، وعن قدر حاجته.

وقال في كتاب «الأطعمة والأشربة» في مسألة الاضطرار إلى أكل الميتة وإن كان هناك من له مال حلال ولكن لا يبذله ما لفظه: «نعم يتّجه ذلك (جواز أكل الميتة) إذا لم يبذل، لعموم النّاس مسلّطون على أموالهم، من غير فرق بين كونه قويّاً أو ضعيفاً» «1».

وهذا دليل على أنّ عموم السلطة على المال يشمل حتى فرض الإضطرار من بعض الجهات، وهو دليل على قوّة العموم فيها عندهم.

واستدلّ به في كتاب «احياء الموات» أيضاً «2».

وقال في ذلك الكتاب «إحياء الموات» أيضاً: فيما إذا تصرّف الإنسان في داره بما يوجب تضرّر الجار تضرّراً فاحشاً بعد الحكم بمنعه استناداً إلى حديث نفي الضّر والضرار المعمول به بين الخاصّة والعامّة المستفيض بينهم ما نصّه: «وقد يناقش بأنّ حديث نفي الضرر المستفيض معارض بمثله من الحديث الدال على ثبوت السلطنة على الاطلاق لربّ المال، وهو أيضاً معمول به بين الفريقين، والتعارض بينهما تعارض العموم من وجه، والترجيح للثاني بعمل الأصحاب» «3».

أقول: كلامه هنا

دليل واضح على أنّ هذا الحديث المرسل بلغ من ناحية عمل الأصحاب إلى درجةٍ من القوّة بحيث يعارض «حديث لا ضرر» المستفيض المروي من طرق الفريقين بأسانيد شتى.

وهذا شيخنا الأعظم العلّامة الأنصاري رحمه الله استدلّ به في كثير من المسائل الفقهيّة في مكاسبه وأرسله إرسال المسلّمات بحيث لا يشوبه شائبة، وإليك نماذج منها:

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 19

1- قال في بحث قبول الولاية من قبل الجائر مع وجود الضّرر المالى في تركه ممّا لا يضرّ بالحال أنّ تركه رخصة لا عزيمة: «فيجوز تحمّل الضّرر لأنّ النّاس مسلّطون على أموالهم» «1».

2- وقال في مبحث المعاطاة ردّاً لمن استدلّ بقاعدة النّاس مسلّطون على أموالهم على أنّ المعاطاة توجب الملك: «أمّا قوله النّاس مسلّطون على أموالهم فلا دلالة فيه على المدّعى لأنّ عمومه باعتبار أنواع السلطنة، فهو إنّما يجدي فيما إذا شكّ في أنّ هذا النوع من السلطنة ثابتة للمالك وماضية شرعاً في حقّه أم لا» «2».

وظاهر كلامه هذا مفروغية القاعدة بين الجميع، على نحوٍ لا يتطرّق إليه إشكال، ولو كان هناك إيراد، فإنّما هو في تطبيقها على بعض الموارد التي يُشكّ فيها.

3- وقال: «إنّ الاستدلال على أصالة اللزوم في كلّ عقد شكّ في لزومه: «ويدلّ» على اللزوم مضافاً إلى ما ذكر عموم قولهم: الناس مسلّطون على أموالهم» «3».

4- وقال في رسالته في قاعدة نفى الضرر المطبوعة في ملحقات مكاسبه، وينبغي التنبيه على أمور: الأول أنّ دليل هذه القاعدة حاكم على عموم أدلّة إثبات الأحكام الشامل لصورة التضرر بموافقتها- إلى أن قال: خلافاً لما يظهرمن بعض من عدّهما من المتعارضين حيث إنّه ذكر في مسألة تصرّف الإنسان في ملكه مع تضرر جاره أنّ عموم نفي الضرر معارض بعموم: النّاس

مسلّطون على أموالهم.

ثمّ أورد عليه بحكومة قاعدة نفى الضرر على قاعدة التسلّط، واستدلّ على الحكومة بجريان سيرة الفقهاء في مقامات مختلفة عليه منها استدلالهم على ثبوت خيار الغبن وبعض الخيارات الأخر بقاعدة نفى الضرر مع وجود عموم، الناس مسلّطون على أموالهم» «4».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 20

ويظهر من كلامه هذا تسالم القوم على هذه القاعدة في محله، وإن قدّموا قاعدة نفى الضرر عليها لحكومتها.

5- واستدلّ أيضاً بها في طيّات مكاسبه في أبواب «ضمان المثلي والقيمي» و «مسقطات خيار المجلس» و «أحكام الخيار»، وغيرها ممّا يطول المقام بذكرها جميعاً.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّه لا ينبغى التأمّل في كون القاعدة مجمعاً عليها بين فقهاء الفريقين، لإستنادهم إليها في كثير من المباحث المتخلّفة، إرسالًا له إرسال المسلّمات من غير ردّ ولا إنكار، وما أوردناه هنا من أقوالهم شطر من كلماتهم المشتملة على الحديث بعنوانه، وإلّا فما ذكروه بغير هذا العنوان ممّا يعطى معناه أكثر وأظهر.

4- دليل العقل وبناء العقلاء
اشارة

هذه القاعدة قاعدة عقلائية قبل أن تكون شرعيّة، ولم يزل بناء العقلاء عليها من قديم الزمان إلى عصرنا هذا، ولا فرق فيها بين أرباب الملل الإلهية وغيرهم، حتّى أنّ من أنكرها بلفظه لا ينكرها في عمله، وأنّ الذين ادّعوا إلغاءَها بالمرّة في كتبهم وفي مدارسهم لم يوفّقوا لتطبيق هذا الإلغاء في مقام العمل والتطبيق، وكلّهم يرون أنّ للإنسان التصرّف في ملكه بما يراه، إلّاما منعه الشرع أو نهت عنه القوانين المعتبرة عندهم، ولا يشك في هذا أحد منهم، ومن أنكره فإنّما ينكره باللسان، وأمّا قلبه فمطمئن بالإيمان.

بل يمكن أن يقال: إنّها من القواعد الفطرية قبل أن تكون عقلائيّة، فإنّ لما عند العقلاء من القوانين اصولًا وجذوراً في أعمّاق فطرتهم، ما لم ينحرفوا عنها

بأمور قسريّة.

كما أنّ أحكام الشرع أيضاً تنطبق على الفطريّات، فيطابق «التشريع» «التكوين»،

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 21

ولابدّ أن يتطابقا، لأنّ كلّ واحد منهما من صنع اللَّه، ولا يضارّ صنعه صنعه، وما ترى في خلق الرحمن من تفاوت.

وإن ئت اختبار حال مَن لم تشب فطرته بايّة شائبة، أو تقاليد اجتماعية، من الصبيان غير العارفين بما عند آبائهم وأمهاتهم من الأحكام والقوانين، فانّ كلّاً منهم إذا ظفر بشي ء، ورآه ماله، احتفظ به، وردّ كلّ من يزاحمه في ما كسبه، ويرى لنفسه التسلّط عليه بجميع أنواع التسلّط، إلّاأن يمنعه مانع من فطرته أو من الخارج.

بل قد يقال: إنّ هذه الفطرة والسليقة النفسيّة لا تنحصر بالإنسان، بل تشترك فيها أنواع الحيوانات، فهي تعتبر المالكية لأنفسها فيما كسبت، وتسيطر عليها، ولا ترى لغيرها حقّاً في المزاحمة، فهي تدافع عن وكرها، وعشّها، وطعمتها، وغيرها ممّا يتعلق بها، كما يدافع الإنسان عن أمواله، بل قد يكون عندها ما يشبه الملكيّة التعاونية عندنا، كما في النمل والنحل وغيرهما من أشباههما، فهي تدافع جميعاً عمّا يتعلّق بشركائها ضدّ الأجانب، وترى لنفسها السلطة على ما حوزتها.

فاذن، يكون حكم الشرع في هذه القاعدة من قبل إمضاء ما عند العقلاء، لا تأسيس قاعدة حديثة جديدة، ممّا ليس عندهم، كما هو كذلك في أكثرما عند الشرع في أبواب المعاملات أو في جميعها، وإذا ورد فيها شرائط خاصّة، وقيود مختلفة لهذا الإمضاء، فإنّما هو دفع لهم عن مفاسد كثيرة لا يعلمونها، ولا تهتدي إليها عقولهم، أو أنّهم لا يعلمونه ولا يعتنون به اتّباعاً لأهوائهم، وغفلة عمّا فيه صلاحهم وفسادهم.

فاذن لا يبقى شكّ في عموم هذه القاعدة لجميع الأموال، وجميع الناس، وإن كان هذا العموم مشروطاً بشرائط وقيود كثيرة واستثناءات مختلفة،

ولا ينافي ذلك وجود المالكيّة العامّة في الشرع بالنسبة إلى أموال اخر.

ولا بأس بالإشارة هنا إلى نُبذ ممّا يدلّ على مالكيّة كلّ إنسان لما كسبه من طرق مشروعة، ونفوذ تصرفاته فيه، وعدم جواز مزاحمته بغير إذنه، التي تدل بالدلالة الالتزميّة البيّنة على ثبوت قاعدة التسلّط وسريانها.

وممّا يجب ذكره ابتداءاً أنّه قلّما يوجد في لسان أدلة الشرع تعرّض صريح لأصل

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 22

هذا الموضوع- أي جواز المالكيّة الفرديّة- بل ذكر فيها أحكامها بعد الفراغ عن ثبوتها، ولولا وسوسة بعض مَن لا خبرة له بأحكام الشرع والعقل، ممن خدعتهم الأفكار المادية الإلحاديّة لكنّا في غنىً عن مثل هذه الأمور، ممّا هو من الوضوح بمكانٍ لا يرتاب فيه ذوفضل.

وأمّا الروايات الدالّة على هذا المعنى فهي أكثر من أن تُحصى، وسنشير إلى بعض ما هو أوضح وأظهر:

1- ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «إنّ حرمة مال المسلم كحرمة دمه» «1».

2- «وأنّه لا يحلّ مال أمرءٍ مسلم إلّابطيب نفسه» «2».

بلغ احترام أموال المسلمين إلى حدّ يعادل دماءهم، ومن الواضح أنّه لا يعادلّ في الشريعة الإسلامية دمَ المسلم شي ء، إلّاما يكون مهمّاً جدّاً.

3- وقال الصادق عليه السلام: «من أكل مال أخيه ظلماً، ولم يردّه إليه، أكلّ جذوة من النّار يوم القيامة» «3».

4- وفي غير واحد من الروايات أنّ الدفاع لحفظ الأموال جائز، وإن بلغ ما بلغ، وأنّه يجوز دفع المهاجم، وأنّ دمه هدر، وأنّ من قُتل دون ماله فهو شهيد.

قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من قاتل دون ماله فقتل فهو شهيد» «4».

وعنه صلى الله عليه و آله في حديث آخر: «من قتل دون ماله فهو بمنزلة الشهيد ...» «5».

وقال الباقر عليه السلام لمن

سأله بأنّ اللّص يدخل على بيتي يريد على نفسي ومالي:

«اقتله، فأُشهد اللَّهَ ومن سمع أنّ دمه في عنقي!» «6».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 23

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: «إذا دخل عليك اللّص المحارب فاقتله، فما أصابك فدمه في عنقي» «1».

5- وهناك روايات كثيرة دالّة على كون اليد دليلًا لملكيّة الإنسان على ما في يده، بل يجوز الشهادة على الملكيّة بمجرّد كون شي ء في يد إنسان.

فقد ورد عن الصادق عليه السلام فيما رواه حفص بن غياث عنه أنّه قال: قال له رجل: «إذا رأيت شيئاً في يدي رجل يجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال: نعم، قال الرجل: أشهد أنّه في يده، ولا أشهد أنّه له، فلعلّه لغيره، فقال أبو عبداللَّه عليه السلام: أفيحلّ الشراء منه؟ قال: نعم، فقال أبو عبداللَّه عليه السلام: فلعلّه لغيره، فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكاً لك، ثم تقول بعد الملك هو لي، وتحلف عليه، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك؟

ثم قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق» «2».

هذا قليل من كثير ممّا ورد في هذا الباب، وما يدلّ عليه بالإلتزام أكثر وأوفر، وقد ضمّت أبواب التجارات، والأوقاف، والهبات، والمهور، والنّفقات، والارث، والضمانات، والديات، والقضاء، والاجارات، وغيرها .. ما لا يُحصى في هذا المعنى.

أنحاء الملكيّة في الإسلام

وممّا ينبغي أن يذكر أنّه لا تنحصر الملكيّة في التشريع الإسلامي بالملكيّة الفرديّة، بل المعروف أنّها على أنحاء ثلاثة:

1- الملكيّة الفردية.

2- الملكيّة للمسلمين جميعاً.

3- ملك الحكومة الإسلاميّة.

ولكن في الواقع لها فروع أخر تنقسم هذه الأقسام إليها ربما تبلغ ستة أنحاء.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 24

فإنّ الملكيّة الشخصيّة قد تكون على نحو المشاع، وهو اشتراك جماعة في

ملك على سهام متساوية، أو مختلفة، ولهذا النوع من الملكيّة أحكام خاصّة مذكورة في أبواب البيع، والإجارة، والشركة، والمضاربة، والمزارعة، وغيرها، أضف إلى ذلك الوقف الخاص، فانّه أيضاً قسم آخر من الملكيّة المشتركة، ولكن ليس كالمشاع، وله أيضاً أحكام خاصّة مذكورة في أبواب الوقف.

وهنا نوع آخر من الملكيّة في الموقوفات العامّة كالمساجد، والقناطر الموقوفة، والخانات، وشبهها، فعلى القول بأنّها من قبيل فكّ الملك، وأنّها خارجة عن ملك كلّ أحد حتى المسلمين جميعاً، فهي خارجة عن المقسّم في هذا البحث.

ولكن ذكرنا في محلّه أنّ هذا القول وإن اشتهر في ألسنة المعاصرين ولكنها لا تساعده الأدلّة، فانّه لا شك أنّه إذا خربت بعض أبنية المسجد وبقى منها أخشاب وأبواب وأحجار لا تنفع في تعميره وتجديد بنائه، وليس هناك مسجد آخر يُستفاد منها فيه، فإنّه يجوز بيعها، وصرف ثمنها في تعميره وتجديد بنائه، ولو كان من قبيل فكّ الملك لم يصحّ هذا فانّه لا بيع إلّافي ملك.

والتفريق بين أرض المسجد وبنائها بعيد عن الصواب، لعدم الدليل عليه.

فلا مناص عن قبول كونه ملكاً إمّا لجميع المسلمين، ولكن لا كالأراضي المفتوحة عنوة، فإنّ لها أحكاماً خاصّة لا ترتبط إلّابها، أو يقال: إنّ المساجد وأشباهها ملك تشريعي للَّه، وإن كان هو مالك الملوك، وله ملك السموات والأرض، لكنّها مالكيّة تكوينيّة ناشئة عن خلقها وتدبيرها وفقرها إليه تعالى، فله جلّ شأنه ملك تشريعي، وإن كان هو مالك تشريعاً أيضاً لجميع الأملاك، لكنّها ملك طولي فوق ملك العباد.

ولهذا البحث صلة تُذكر في المقام المناسب لها إن شاء اللَّه، والمقصود من جميع ذلك تشعّب أنواع الملكيّة واختلاف أحكامها.

ولكنّ قاعدة التسلّط لا تختص بالملكيّة الشخصيّة الفرديّة، بل الظاهر أنّها تشمل كلّ ملك طلق، فاذا كان

هناك ملك مشاع فلأربابه جميعاً السلطة عليه بما لا يزاحم حقّ كلّ واحد منهم للآخر.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 25

وهذا المعنى إمّا داخل في عموم هذه القاعدة بعينها، أو لا أقل من دخوله في ملاكها ومناطها للعلم بعدم الخصوصيّة.

المقام الثاني: تنبيهات

اشارة

وهنا أمور ينبغي التنبيه عليها:

1- حدود قاعدة التسلّط

قد ثبت من جميع ما ذكرنا أنّ لكلّ إنسان سلطة على أمواله، يفعل فيها ما يشاء، ويقلبها كيف يريد، ولكنّ هذا المعنى لا ينافي تحديدها بحدود خاصّة، وقيود مختلفة، بل لا ينافي استثناءات كثيرة واردة عليها من طريق بناء العقلاء، وطبقاً لأحكام الشرع.

نعم، حدّدها الكتاب والسنّة من حيث متعلّقها تارة، ومن ناحية طرق كسبها أخرى، وكيفيّة مصرفها ثالثة، والحقوق التي تتعلّق بها رابعة، وغير ذلك.

أمّا من ناحية المتعلّق فقد حرّم الشرع كلّ ما فيه وجه من وجوه الفساد، مثل الميتة، والدم، ولحم الخنزير، ولحوم السباع، والخمر، وكلّ شي ء من وجوه النجس، وكلّ منهي عنه ممّا يُتقرّب به لغير اللَّه عزّوجلّ كالأصنام وكلّ بيع ملهوٍّ به كالآت القمار، وآلات اللهو، وكلّ ما يقوّى به الكفر والشرك مثل كتب الضلال وما أشبه ذلك ...

إلى غير ذلك ممّا ورد في رواية تحف العقول المشهورة.

فانّ شيئاً من هذه لا يدخل في ملك أحد، ولا يصحّ بيعه ولا شراؤه.

كما أنّه لا يجوز تحصيل ما يُباح ملكه من طريق معاونة الظلمة، وأخذ الرشوة، والغش، والخيانة، والسحر، والشعبدة، والقمار، وتعليم ما يحرم تعليمه، والفحشاء، واللعب بالآت اللّهو وغير ذلك ممّا يحرم فعله، فإنّ اللَّه إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه.

أمّا من ناحية طرق اكتسابها، فلا شكّ أنّها مقيّدة بقيود شتّى كأن تكون تجارة عن تراض من دون إكراه ولا إجبار، وصدور العقد عن البالغ العاقل المتمكّن شرعاً من التصرّف في أمواله، وكون البيع غير غرريّ ولا ربويّ، وغير ذلك من شروط البيع،

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 26

والشراء، والهبة، والمزارعة، وغيرها، بل وكذا بالنسبة إلى الحيازة والإحياء وأمثالهما ممّا ورد من طيّات أبواب الفقه.

وكذا عدم كون التسلّط على المال موجباً

للضّرر على المسلمين كما ستأتي الإشارة إليه عن قريب إن شاءاللَّه.

وأمّا من ناحية المصرف فهو أيضاً ليس مطلقاً، بل لابدّ أن لا يكون فيه إسراف، ولا تبذير، ولا أن يُصرف في وجوه المعاصي، وطرق الفساد، ولا الإضرار بالغير، ولا بالنّفس إجمالًا.

والحاصل أنّ كون الإنسان مسلّطاً على أمواله يتقلب فيه كيف يشاء لا ينافي تقييده بقيود مختلفة من شتى الجهات، بل نجد أنّ أحكام أبواب المعاملات على سعتها إنّما شُرّعت لبيان تلك القيود.

كما أنّ هذا العموم لا ينافي تعلّق حقوق الفقراء وغيرهم بها على حسب ما ورد في أبواب الزكاة، والخمس، وغيرهما، ولكن مع ذلك كلّه فهي قاعدة عامّة يؤخذ بها ما لم يرد دليل على التخصيص والتقييد، وهي حجّة في جميع أبواب المعاملات فيما لا يوجد هناك دليل خاصّ يخالفه.

2- هل القاعدة مختصّة بالأموال أو تشمل «الحقوق» وغيرها

قد عرفت أنّ ما ورد في الأخبار هو عنوان «الأموال» فقط، وأنّ الناس مسلّطون على أموالهم، ولكن قد يضاف إليه «وعلى حقوقهم»، ولكن لم نجد به رواية عدا ما أشار إليه في «الجواهر» في كتاب «الرهن» عند الاستدلال على جواز إسقاط الضمان في الرهن بقوله: «ودعوى عدم صحة إسقاط مثل ذلك يدفعها عموم تسلّط النّاس على حقوقهم وأموالهم» «1».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 27

وقد عرفت أنّه لم ينقل هذا العنوان في ساير أبواب الفقه، وكأنّه أخذه من بناء العقلاء، وقبولهم سلطنة كلّ ذي حقّ على حقوقه، بعد عدم ردع الشارع عنه.

أو أنّه تمسّك في ذلك بقياس الأولوية، فإنّ الإنسان إذا كان مسلّطاً على أمواله كان مسلّطاً على حقوقه بطريق أولى.

وأمّا تسلّط النّاس «على أنفسهم» فلم يرد في نصوص الباب، ولا كلمات الأصحاب، في شي ء من أبواب الفقه منه فيما تصفّحناه.

فانّ كان المراد تسلّط الإنسان على نفسه

في أبواب الإجارات، فيجوز له أن يكون أجيراً على كلّ أمر مشروع بأي أجرة أرادها، وأمثال ذلك، فلا شكّ في ثبوت هذه السلطنة له، بل يمكن أن يقال إنّه من قبيل الأموال، لأنّ أفعال الإنسان الحرّ وإن لم تكن أموالًا بالفعل، إلّاأنّها أموال بالقوّة، فتأمّل!

وإن أبيت عن ذلك، فعمدة ما يدلّ على تسلّط الإنسان على أمواله من بناء العقلاء يدلّ على تسلّطه على نفسه من هذه الناحية.

وكذلك بالنسبة إلى عقد النكاح وأشباهه، فإنّه مسلّط على نفسه من هذه الناحية في كلّ أمر مشروع، وجميع ما يدلّ على اشتراط الاختيار، وعدم الإكراه والإجبار في أبواب النكاح وشبهها تدلّ على عموم هذه السلطنة.

فتسلّط النّاس على أنفسهم من هذه الجهات ممّا لا يرتاب فيه.

وكذلك بالنسبة إلى إرادته في طريق طاعة اللَّه، وفعل ما يجوز له فعله بحسب حكم الشرع، بل قد يعبّر عن هذه السلطة بالملكيّة، كما ورد في قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام عند عصيان بني إسرائيل وخروجهم عن أمره: «قَالَ رَبِّ إِنِّي لَاأَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ» «1».

وإن كان المراد تسلّط الإنسان على نفسه بأن يقتل نفسه من دون أيّ مبرّر، أو يلقيها في التهلكة في غير ما هو أهم منه، بل ايراد نقص على أعضائه وضرر عظيم

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 28

على جسمه أو عقله فإنّ شيئاً من ذلك غير جائز، وهذا النوع من التسلّط لم يثبت لأحد على نفسه.

ولكن قد عرفت أنّه لم يثبت مثل هذا في باب الأموال أيضاً، فلا يجوز لأحد إتلاف ما له بغير مبرّر، ولا إحراقه، ولا إفساده، فلو كان هناك دليل على عموم التسلّط على الأنفس كان قابلًا للتخصيص بمثل هذه الأمور، كما

هو كذلك في باب الأموال والحقوق.

والحاصل أنّ تسلّط النّاس على أنفسهم- بهذا العنوان- لم يرد في آية ولا رواية، ولكنّ مفاده ومغزاه ثابت بحسب بناء العقلاء فيما عرفت توضيحه.

3- نسبة هذه القاعدة مع غيرها

وما نتكلم فيه هنا نسبتها مع قاعدة لا ضرر، وإلّا فقد عرفت أنّ عموم قاعدة التسلّط مخصّصة بكلّ ما ورد في أبواب المعاملات من الشرائط والقيود، وكذلك كلّ ما ورد في أبواب المحرّمات من تحريم بعض التصرفات في الأموال من الاسراف، والتبذير، وإنفاقها في طرق الحرام والفساد.

وفي نسبتها مع قاعدة لا ضرر خلاف بينهم، فيظهر من بعض المحقّقين كونهما من قبيل المتعارضين.

قال المحقّق السبزواري رحمه الله صاحب «الكفاية» في مسألة جواز تصرّف المالك في ملكه وأن تضرّر الجار، بعد الاعتراف بأنّه معروف بين الأصحاب ما هذا نصّه: «ويشكل جواز ذلك في ما إذا تضرّر الجار تضرّراً فاحشاً، كما إذا حفر في ملكه بالوعة فعدّ بها بئر الغير، أو جعل حانوته في صفّ العطّارين حانوت حداد، أو جعل داره مدبغة أو مطبخة» (انتهى).

وإن اعترض عليه في «الرّياض» بما حاصله: أنّه لا معنى للتأمّل بعد إطباق الأصحاب عليه نقلًا وتحصيلًا، والخبر المعمول عليه، بل المتواتر من «أنّ النّاس مسلّطون على أموالهم»، وأخبار الإضرار على ضعف بعضها وعدم تكافئها تلك الأدلّة

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 29

محمولة على ما إذا لم يكن غرض إلّاالإضرار، بل فيها كخبر سمرة إيماء إلى ذلك، سلّمنا، لكن التعارض بين الخبرين بالعموم من وجه، والترجيح للمشهور، للأصل والإجماع» «1».

وظاهر كلام «الرياض» وغيره معلوميّة تقديم قاعدة التسلّط على قاعدة لا ضرر، إمّا من جهة حكومتها عليها، أو من جهة كونهما متعارضين بالعموم من وجه، وتقديمها عليها بحكم الأصحاب.

والإنصاف أنّه ليس قاعدة التسلّط حاكمة على لا ضرر، بل

ولا مقدمة عليها عند التعارض، بل ولا من قبيل المتعارضين، بل الحقّ هنا قول ثالث، وهو القول بالتفصيل في المسألة.

توضيحه: أنّ الضرر الحاصل من عموم تسلّط النّاس على أموالهم على أنحاء:

1- إذا لزم من ترك تصرّف المالك في ملكه ضرر عليه يُعتدّ به.

2- إذا لم يلزم من تركه التصرّف ضرر، ولكن تفوت بعض منافعه.

3- إذا لم يلزم شي ء منهما، ولكن بدا له التصرّف عبثاً، أو لبعض المنافع الجزئيّة التي لا يُعتدّ بها.

4- إذا كان قصده من ذلك التصرّف الاضرار بالغير فقط من دون أن ينتفع به.

لا ينبغي الإشكال في عدم جواز الأخير، فإنّه القدر المتيقّن من عموم لا ضرر، بل الظاهر أنّ مورد رواية سمرة هو بعينه هذه الصورة، كما أشرنا إليه في بيان قاعدة لا ضرر.

وأمّا الصور الثلاثة الأخرى فظاهر المحكي عن المشهور الحكم بالجواز فيها مطلقاً، بل إدّعى الإجماع عليه في الصورة الأولى.

ولكنَّ صريح بعضهم كالمحقّق رحمه الله، وظاهر آخرين كالعلّامة رحمه الله في «التذكرة»، والشهيد رحمه الله في «الدروس» استثناء الصورة الأخيرة حيث قيَّد الأول منهم الجواز

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 30

بصورة دعاء الحاجة إليه، والباقي بما جرت به العادة، ومن المعلوم أنّه لم تكن هناك حاجة في الصورة الأخيرة، ولا جرت به العادة، ولعل كلمات غير هؤلاء الأعلام أيضاً منصرفة عن هذه الصورة، فيبقى الكلام في الصورتين الأولتين.

وشيخنا العلّامة الأنصاري رحمه الله حكم بتقديم جانب المالك فيهما، نظراً إلى عموم قاعدة تسلّط النّاس على أموالهم، وقاعدة نفى الحرج، بعد سقوط لا ضرر من الجانبين.

والإنصاف أنّ قاعدة التسلّط حيث إنّها متّخذة من بناء العقلاء بإمضاءٍ من الشرع في حدّ ذاتها قاصرة عن شمول كلّ تصرّف.

فأيّ عاقل يجوّز للمالك التصرّف في ماله بما يوجب

ضرراً على جاره من دون عود منفعة إليه أو دفع ضرر منه، بل عبثاً وتشهيّاً؟!

بل أيّ عاقل يرخّص للمالك أن يجعل داره مدبغة بين دور المسلمين، وحانوته للحدادة في صفّ العطّارين بما يوجب فساد أمتعتهم وبضاعتهم، وعدم قدرتهم على المكث هناك؟

ومن هنا يظهر أنّ قاعدة التسلّط بذاتها قاصرة عن شمول الصورة الرابعة من صور المسألة، حتى مع قطع النظرعن ورود أدلّة لا ضرر، فدليل لا ضرر هنا تأكيد آخر على هذا الحكم.

والوجه في جميع ذلك أنّ تسلّط المالك على ماله ليس إلّاكسائر الاعتبارات العقلائيّة، لها حدود، وشرائط معلومة، لا يمكن تعدّيها، فانتفاع المالك بماله لابدّ أن يكون في هذا المجال فقط.

إذا عرفت هذا يبقى الكلام فيما إذا تعارض ضرر المالك والجار، فيما لا يخرج تصرّف المالك في ملكه عن الحدود العقلائيّة، وكذلك إذا لزم من ترك تصرّفه فوت منفعة منه، من دون ورود ضرر عليه.

فالأول مثلما إذا رفع جداره على جانب جدار جاره بما يتضّرر منه، كما إذا أوجب انخفاض قيمة داره، مع أنّه إذا لم يرفع المالك جداره تضرّر من ناحيته، أو فات بعض منافعه.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 31

ففي الصورة الاولى التي هي من باب تعارض الضررين تتساقط قاعدة لا ضرر من الجانبين، لأنّه من باب المنّة على العباد، ولا منّة في إضرار بعض المؤمنين بنفي الضرر عن بعض آخر، وحينئذٍ يرجع إلى قاعدة التسلّط.

وأمّا في الصورة الثانية فتتعارض قاعدة لا ضرر مع قاعدة التسلّط، ولكنّ المرتكر في الأذهان ما عرفت من دعوى الشهرة أو الإجماع من الأصحاب، على تقديم قاعدة التسلّط، والظاهر أنّه ليس من الباب التعبّد ووصول روايات خاصّة إليهم لم تصل إلينا، بل من ناحية أنّ منع المالك عن التصرّف في

ماله إذا كان ينتفع به منفعة معتداً بها خلاف المنّة، فلا يدخل تحت قاعدة لا ضرر، وإذا سقطت تلك القاعدة لم يبق إلّاقاعدة تسلّط النّاس على أموالهم.

هذا كله إذا لم نقل بأنّ منع المالك عن ترك الإنتفاع بماله يكون دائماً من قبيل الضرر، فانّ كلّ مالٍ معدّ للإنتفاع، وإذا منع منه كان ضرراً، فتأمل!

4- نسبة قاعدة التسلّط مع الواجبات الماليّة

يبقى الكلام في النسبة بين هذه القاعدة وما دلّ على وجوب الزكاة، والخمس في أموال النّاس وما دلّ على أنّ للميّت حقّ في ثلث ماله إذا أوصى به، وكذا ما دلّ على حجر المفلّس بحكم الحاكم، وغير ذلك من أشباهها.

لا ينبغي الشك في ورود بعض ما ذكر على قاعدة التسلّط، فانّ ما يدلّ على تشريك اللَّه ورسوله وذوي الحقوق الآخرين في أموال الناس ينفي مكلية المالك بالنسبة إلى هذا المقدار، وإذا انتفت الملكيّة انتفت السلطنة، وقال اللَّه تعالى:

«وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ...» «1».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 32

وقال: «وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالَمحْرُومِ» «1»

بناءاً على كونه ناظراً إلى الحقوق الواجبة.

وكذا ما دلّ على أنّ اللَّه عزّوجلّ فرض للفقراء في أموال الأغنياء ما يسعهم، ولو علم أنّ ذلك لا يسعهم لزادهم ...» و «لو أنّ النّاس أدّوا حقوقهم لكانوا عايشين بخير»».

فإنّ ظاهره أنّ الزكاة ليست واجباً تكليفياً فقط، بل هو حكم وضعي، وحقّ للفقراء في أموال الأغنياء، فقوله تعالى: «خذ من أموالهم ...» وإن كان ظاهراً في أنّ المال لهم، ولكن كونهم مالكين إنّما هو بحسب الظاهر وقبل فرض الزكاة، لا أقول أنّهم شركاء على نحو الإشاعة، بل أقول أنّ لأرباب الزكاة حقّاً وضعيّاً فيها، وقد أوضحنا حال هذا الحق وآثاره في

أبواب الزكاة، وأنّه حق لا كسائر الحقوق، له أحكام خاصّة، واخترنا هذا القول من بين الأقوال الثمانية الموجودة في المسألة في كيفية تعلّق حقّ الفقراء بأموال الأغنياء.

أمّا إذا لم يكن من هذا القبيل فلا شكّ أنّ أدلة تعلّق هذه الواجبات الماليّة حاكمة على قاعدة التسلّط لأنّها ناظرة إليه، فلا يبقى شكّ في تخصيصها بها، ولو لم تكن النسبة بينهما عموماً وخصوصاً مطلقاً.

إلى هنا تمّ الكلام في «قاعدة التسلّط» ويتلوه الكلام إن شاء اللَّه في قاعدة «حجيّة البيّنة».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 33

11 قاعدة حجيّة البيّنة

اشارة

والمراد منها هنا شهادة عدلين، أو ما يقوم مقامها من شهادة المرأة، في جميع الموضوعات، ممّا يترتب عليه حكم من أحكام الشرع، فلا يدور الكلام مدار لفظ «البيّنة» فلا يمّهنا البحث في أنّ تسمية شهادة العدلين باسم البيّنة هل هي حقيقة شرعيّة ثابتة من لدن زمن النّبي صلى الله عليه و آله، أو بعد ذلك في زمن المعصومين عليهم السلام، أو في لسان الفقهاء؟

والحاصل أنّ المقصود هنا إثبات قاعدة كليّة تقوم على حجيّة شهادة عدلين في جميع أبواب الفقه، سواء في باب القضاء أو غيره من الأبواب والموضوعات.

وعدّها من القواعد الفقهيّة- لا من المسائل الأصوليّة ولا المسائل الفقهيّة- إنّما هو من هذه الجهة، فإنّه لا يبحث هنا عن ما يقع في طريق الإستنباط حتى يكون مسأله أصوليّة، بل يبحث عن ما يقع في طريق إثبات الموضوعات.

كما أنَّها ليست من المسائل الخاصّة في الفقه، لأنّها تجري في جميع الأبواب من الطهارة إلى الديات، وعلى كلّ حال نتكلم حول هذه القاعدة في مقامات:

1- المقام الأوّل: في تعريف البيّنة ومعناها لغةً وشرعاً.

2- المقام الثاني: في أدلّة حجيتها بعنوان عام من الكتاب، والسنّة، والإجماع، وبناء العقلاء.

3- المقام الثالث:

شرائطها والقيود المعتبرة فيها.

4- المقام الرابع: الموارد المستثناة من هذه القاعدة، التي يلزم فيها أربعة شهود

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 36

وما تقوم فيها شهادة المرأة مقام شهادة الرجل.

5- المقام الخامس: في اعتبار كون البيّنة في الأمور المحسوسة.

6- المقام السادس: في كون حجيّة البيّنة عامّاً لكلّ أحد وبالنسبة إلى جميع الآثار.

7- المقام السابع: في نسبة البيّنة مع غيرها.

8- المقام الثامن: في تعارض البيّنتين.

المقام الأوّل: في تعريفها ومعناها لغةً وشرعا

«البيّنة» مأخوذة من «بان، يبيّن، بياناً وتبياناً» وهي كما قال «الراغب» في «المفردات»: الدلالة الواضحة، عقلية كانت أو محسوسة، وسمي الشاهدان بيّنة لقوله صلى الله عليه و آله «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر» «1».

وقد استُعملت في هذا المعنى (الدلالة الواضحة) في عشرات من الآيات في القرآن الحكيم.

وقد استُعملت بصورة المفرد في تسعة عشر موضعاً من كتاب اللَّه، منها قوله تعالى: «قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ..» «2».

وقوله تعالى: «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَىَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ...» «3».

واستُعملت بصورة الجمع «البيّنات» في اثنين وخمسين موضعاً، منها قوله تعالى: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ...» «4».

وقوله تعالى: «وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ ...» «5».

والمراد منها في جميع هذه الآيات على كثرتها هو معناها اللغوي، أي: الأمر

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 37

البيّن الواضح، سواء كان من المعجزات الباهرات، أو من الآيات القرآنية، والكلمات الإلهية، التي نزلت على الأنبياء والرسل.

واستعمل سائر مشتقاتها أيضاً من «المبينة»، و «المبينات»، و «المبين»، و «المستبين» وغيرها في آيات كثيرة في هذا المعنى.

ومن الجدير بالذكر أنّه لم يستعمل في شي ء من آيات الكتاب على كثرتها هذه الكلمة في معناها المصطلح في الفقه، بل استعمل- كما سيأتي- شهادة العدلين

أو الرجلين أو شبه ذلك.

ومن هنا وقع الكلام بينهم في أنّ لها حقيقة شرعيّة في شهادة العدلين من لدن زمن النّبي الأكرم صلى الله عليه و آله، أو لم تثبت لها ذلك، وإنّما ثبت كونها حقيقة في هذا المعنى في زمن الصادقين عليهما السلام ومَن بعدهم من الائمة عليهم السلام، أو لم يثبت شي ء من ذلك؟

الظاهر من كلمات القوم أنّ البيّنة كانت حقيقة في هذا المعنى من لدن عصره صلى الله عليه و آله، ولذا استدلّوا بالحديث المشهور عنه صلى الله عليه و آله: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» على حجيّة قول العدلين.

قال بعض المحقّقين: «تبادر هذا المعنى منها في لسان الشرع يرجع إلى انصراف المفهوم الكلّي إلى بعض مصاديقه، ولذلك لم يحتمل أحد من الفقهاء من قوله صلى الله عليه و آله:

«البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر». «1»

أو قوله صلى الله عليه و آله: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان» «2»

أن يكون مراده صلى الله عليه و آله غير هذا المعنى.

ولكن يمكن الخدش فيه بأنّ فهم الفقهاء (رضوان اللَّه عليهم)، وتبادر هذا المعنى في أذهانهم، يمكن أن يكون مستنداً إلى ما حدث في الأزمنة المتأخرة، فلا يكون دليلًا على كونها حقيقة في هذا المعنى في عصر النّبي صلى الله عليه و آله ومن بعده.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 38

وقال في «تحقيق الدلائل» بأنّ اختصاص عنوان البيّنة في الشريعة عند الإطلاق على ما فوق الواحد، من الواضحات بأدنى رجوع إلى كلماتهم والأخبار، فبسببه بعد اشتهار قوله صلى الله عليه و آله: «البيّنة على المدّعى ...» جعلت شهادة خزيمة بن ثابت شهاديتن، وسمي به حتى اشتهر بذى الشهادتين، وبه اتفقت الأخبار الحاكية لأقضيتهم على شهادة اثنين (انتهى

موضع الحاجة) «1».

فإن كان مراده من ذلك كونه حقيقة في هذا المعنى من لدن زمانه صلى الله عليه و آله فما ذكره لا يثبت شيئاً من ذلك، وجعل شهادة خزيمة شهادتين من قبيل بيان المصداق، ولا يدلّ على انحصار المفهوم فيه.

وقال النراقي في «العوائد»: إنّ معناها المصطلح في الأخبار هو الشاهد المتعدّد، ويدلّ عليه توصيفها في رواية منصور عن الصادق عليه السلام بالجمع، حيث قال: «وأقام البيّنة العدول» «2».

ولذا قال في «التنقيح»: «والذي يمكن أن يقال إنّ لفظ البيّنة لم تثبت لها حقيقة شرعيّة ولا متشرعية، وإنّما استعملت في الكتاب والأخبار بمعناها اللغوي، وهو ما به البيان، وما به يثبت الشي ء، ومنه قوله تعالى: «بِالبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ»، «3»

وقوله تعالى: «حتّى تَأْتِيَهُم البَيّنةُ»، «4»

وقوله تعالى: «إنْ كُنتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رِبِّي»، «5»

وغيرها من الموارد، ومن الظاهر أنّها ليست في تلك الموارد إلّابمعنى الحجّة وما به البيان، وكذا في ما ورد عن النّبي صلى الله عليه و آله من قوله: «إنّما أقضي بينكم بالبينات والأيمان» «6»

أي بالأيمان والحجج، وما به يبيّن الشي ء، ولم يثبت في شي ء من هذه الموارد أنّ البيّنة بمعنى شهادة

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 39

عدلين، وعرضه صلى الله عليه و آله من قوله: «إنّما اقضي ...» على ما نطقت به جملة من الأخبار بيان أنّ النّبي الأكرم صلى الله عليه و آله وسائر الائمة عليهم السلام سوى خاتم الأوصياء المهدي (عج) لا يعتمدون في المخاصمات والمرافعات على علمهم الوجداني المستند إلى النّبوة والإمامة» «1».

أقول: ولكن مع ذلك كلّه فهناك قرائن مختلفة واردة في أخبار الباب يمكن أن يستفاد من مجموعها أنّ البيّنة كانت حقيقة في هذا المعنى في عصر الائمة عليهم السلام، وانتقلت من معناها اللغوي

العام الشامل لكلّ دليل إلى خصوص شهادة العدلين، وإليك نماذج منها:

1- ما ورد في ذيل رواية سعدة بن صدقة الآتية، من قوله: «والأشياء كلّها على هذا حتى تستبين لك غير هذا أو تقوم به البيّنة» «2».

فانّ جعل الإستبانة في مقابل قيام البيّنة دليل على أنّ البيّنة ليست مطلق الإستبانة والدليل الظاهر الواضح، بل خصوص شهادة العدلين.

2- ويدلّ عليه أيضاً رواية منصور قال: «قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: رجل في يده شاة، فجاء رجل فادّعاها فأقام البيّنة العدول أنّها ولدت عنده ... وجاء الذي في يده بالبيّنة مثلهم عدول أنَّها ولدت عنده ...».

فانّ توصيف البيّنة بالعدول مرتين في الرواية دليل على أنّ المراد منها الشهود العدول عند إطلاقها، ولذا أطلق عنوان البيّنة على هذا المعنى من غير تغيير بالعدول في نفس هذه الرواية مراراً، حيث قال الصادق عليه السلام في جوابه: «حقّها للمدعي، ولا أقبل من الذي في يده بيّنة، لأنّ اللَّه عزّوجلّ إنّما أمر أن تطلب البيّنة من المدّعي فإن كانت له بيّنة، وإلّا فيمين الذي هو في يده، هكذا أمر اللَّه عزّوجلّ» «3».

3- ما ورد في رواية محمد بن عبداللَّه بن جعفر الحميري عن صاحب الزمان (أرواحنا فداه) وفيها قوله في السؤال: «أقام به البيّنة العادلة ... وله بذلك كلّه بينّة عادلة» «4».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 40

فانّ توصيف البيّنة بالعادلة قرينة على أنّ المراد منها خصوص الشهود لا غير.

4- ما ورد في رواية أبي بصير عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن الرجل يأتي القوم فيدّعي داراً في أيديهم ويقيم البيّنة، ويقيم الذي في يده الدار البيّنة أنّه ورثها عن أبيه، ولا يدري كيف كان أمرها؟ قال: أكثرهم بيّنة

يُستحلف وتدفع إليه ...» «1».

فإنّ تقييد البيّنة بالأكثرية دليل على أنّ المراد منها خصوص الشهود فتدبّر.

5- ما ورد في رواية عبداللَّه بن سنان قال: «سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: إنّ رجلين اختصما في دابّة إلى علي عليه السلام فزعم كلّ واحد منهما أنّها نتجت عنده على مذودة، وأقام كلّ واحد منهما البيّنة سواء في العدد ...» «2».

فانّ توصيف البيّنة بقوله (سواء في العدد) دليل على أنّ المراد منها الشهود. 6- وما ورد في تفسير الإمام الحسن بن علي العسكري عن آبائه عليهم السلام عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: «كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إذا تخاصم إليه رجلان قال للمدّعي ألك حجّة؟

فإنّ أقام بيّنة يرضاها ويعرفها أنفذ الحكم على المدّعى عليه، وان لم يكن له بيّنة حلف المدعى عليه باللَّه ما لهذا قبله ذلك الذي إدّعاه، ولا شي ء منه، وإذا جاء بشهود لا يعرفهم بخير ولا شرّ قال للشهود أين قبائلكما؟ فيصفان ...» الحديث «3».

فإنّ توصيف البيّنة بكونها معروفة عنده صلى الله عليه و آله ويرضاها، دليل على أنّ المراد منها الشهود، ولذا ذكر في مقابله بعد تلك العبارة قوله: «وإذا جاء بشهود لا يعرفهم بخير ولا شرّ» فبدّل البيّنة بالشهود، فهذا دليل على أنّ المراد بهما واحد، فإذا عرف الشهود ورضيهما حكم به وإن لم يعرفهم بعث إلى قبائلهما واستخبر حالهما.

ويتحصل من جميع ذلك أنّ كونها حقيقة في هذا المعنى في زمن الائمة عليهم السلام بحيث يُفهم منها عند اطلاقها لا ينبغي إنكاره، وأمّا كونها كذلك في زمن النّبي

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 41

الأكرم صلى الله عليه و آله فهو قابل للتأمّل، وإن كان بعض ما مرّ مشعراً بكونه كذلك

حتى في عصره صلى الله عليه و آله، واللَّه العالم.

المقام الثاني: في أدلّة حجيّة البيّنة
اشارة

ويدلّ عليها أمور:

الأول: كتاب اللَّه العزيز

وفيه آيات كثيرة تدلّ على حجيّة قول العدلين من غير التصريح بعنوان البيّنة.

منها: ما ورد في سورة المائدة في أحكام الوصية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ...» «1».

ودلالتها على حجيّة قول العدلين واضحة، وإن لم يكن موردها خصوص الشهادة، بل يحتمل كونهما مع ذلك وصيين عن الميت، فاذا قبلت قولهما في الشهادة والوصاية، فقبوله في الشهادة المجرّدة عن الوصاية بطريق أولى.

وأمّا قوله تعالى: «أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ» فالمراد منه على الظاهر شاهدان آخران ثقتان من غير المسلمين إذا لم يوجد من المسلمين، ولا شكّ أنّه مختص بحال الضرورة، وإلّا فالإيمان شرط بلا إشكال.

واحتمل بعضهم أن يكون المراد من قوله: «منكم» من أقاربكم و «غيركم» أي من الأجانب «2».

وقد يقال إنّ قوله: «أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ» منسوخ، ولكنّ المشهوربين الأصحاب بقائه وعدم نسخه، وتخصيصه بشهادة أهل الذمّة مع تعذرّ شهادة المسلمين في الوصيّة.

وأمّا القيود الأخر الواردة في هذه الآية من قوله: «تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ ...»

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 42

سواء كانت واجبة أو مستحبّة فهي مختصة بموردها، وما يلحق بها، ولا ينافي ما نحن بصدده.

ومنها: قوله تعالى في حكم كفارة قتل الصيد في حال الإحرام: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ...» «1».

دلّ على وجوب كون الكفّارة مماثلًا للحيوان الذي اصطاده، وحيث إنّ المماثلة قد تخفى وتكون مورداً للشك، وجب أن تكون بحكم ذوي عدل، أي: خبرين عدلين.

وهل المرّد المماثلة في الكبر والصغر والنوع، أو المماثلة في القيمة؟ الظاهر هو

الأول، وإليه ذهب أصحابنا في ما يوجد له مماثل.

وتقييده بقوله: «منكم» بعد ذكر العدالة إمّا من باب التأكيد، لأنّ العدالة لا تنفلّ عن الإيمان والإسلام، وإمّا من جهة أنّ العدالة هنا بعنى الوثاقة التي قد تجتمع مع الإيمان وعدمه، فذكر هذا القيد لاشتراط الإيمان. نعم، يرد عليه: أنّ الآية ناظرة إلى حجيّة قول أهل الخبرة، مع أنّ كلامنا في حجيّة قول الشاهدين في المحسوسات، ولكن يمكن الجواب عنه بأنّ حجيّة قول العدلين في الحدسيات دليل على حجيّته في الحسيات بطريق أولى (فتأمل).

ومنها: قوله تعالى في أحكام الطلاق: «فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُم ...» «2».

أي: إذا بلغت النساء عدّتهن، والمراد ببلوغ العدّة، كما قيل مقاربتها أو مشارفة تمامها، بحيث يبقى للزوج مجال للرجوع، فإمّا أن يرجع إليها، ويحسن معاشرتها، فيكون من قبيل الإمساك بالمعروف، أو يتركها حتى تخرج عدّتها فيكون من المفارقة بالمعروف.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 43

وهل الاشهاد بالنسبة إلى الرجوع كما قالت الشافعيّة، أو راجع إلى الطلاق كما ذهب إليه أصحابنا، وهو المروي عن أئمتنا عليهم السلام لكون الكلام في الطلاق، فانّ هذا لا يتفاوت فيما نحن بصدده، فإنّه دليل على حجيّة قول العدلين إمّا في الطلاق أو الرجوع وهو المطلوب.

ومنها: قوله تعالى في حكم الدين: «وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ ... وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُم ...» «1».

دلت الآية على الوجوب أو الاستحباب في كتابة الديون، واشهاد رجلين مسلمين، (بقرينة قوله تعالى: من رجالكم) «وإنْ لم يكونا رجلين فرجل وأمرأتان»، وقوله: «ممن ترضون من الشهداء ...» إشارة إلى العدالة أو الوثاقة، وقوله بعد ذلك: «وأشهدوا إذا تبايعتم» ظاهر في إشهاد عدلين،

الذي سبق ذكره، فالآية دالّة على حجيّة قول العدلين في الديون، وكذا في أبواب البيوع.

وكون هذا الحكم بعنوان الوجوب أو الاستحباب لا يهمّنا بعد ما عرفت.

وقال في «كنز العرفان»: «الأمر هنا عند مالك للوجوب والأصح أنّه إمّا للندب أو الإرشاد إلى المصلحة» «2».

ولو لم يكن المقام مقام الإرشاد أمكن القول بوجوبه لظهور الأمر في الوجوب.

وتحصّل ممّا ذكرنا حجيّة شهادة العدلين في الطلاق، والوصيّة، والدين، والبيع، وأحكام الكفّارات، وهل يمكن استفادة العموم من هذه الموارد الخاصّة، أو لابدّ من الإقتصار على مواردها، وعدم التعدّي منها إلى غيرها؟

الإنصاف أنّه بحسب الفهم العرفي يصطاد منها العموم بلا إشكال، لاسيّما مع مناسبة الحكم والموضوع، وقوله تعالى في أحكام الدين «مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى» «3»

، الذي هو من قبيل التعليل وهو دليل على العموم ولا أقلّ من الإشعار.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 44

وبالجملة، لو لم يكن في المقام دليل آخر على العموم كفانا ما ورد في الكتاب العزيز، ولكن ستعرف أنّ هناك أدلّة كثيرة أخرى أيضاً.

وقد يستدلّ هنا بالآيات الواردة في حكم وجوب الشهادة مثل قوله تعالى: «وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ...» «1»

، وقوله تعالى: «وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للَّهِ ...» «2»

، وغير ذلك.

ولكنّ الانصاف أنّها بأنفسها غير دالّة على المقصود إلّاأنّ ينضم إلى الإجماع أو غيرها، بل يأتي فيها ما ذكر في الاصول في أبواب حجيّة خبر الواحد، من أنّ وجوب الإظهار على العالم، والإنذار على الفقيه، وأشباههما لا تدلّ على حجيّة قولهم تعبّداً، نعم، غاية ما يمكن أن يقال في المقام إنّها لو لم تكن حجّة لكانت لغواً، ولكن يكفي في دفع اللغوية حصول العلم منها كثيراً، كما يحصل بقول العالم والفقيه.

الثاني: السنّة

أمّا الرّوايات العامة فهي

كثيرة واردة في باب القضاء منها:

1- ما رواه يونس عمّن رواه، قال: «استخراج الحقوق بأربعة وجوه، بشهادة رجلين عدلين، فإن لم يكونا رجلين فرجل وأمرأتان، فإن لم تكن أمرأتان فرجل ويمين المدّعي، فإن لم يكن شاهد فاليمين على المدّعى عليه» «3».

ولكنها مرسلة، مضافاً إلى الإضمار وعدم التصريح باسم الإمام المرويّ عنه فيها.

2- ما رواه صفوان الجمال في حديث قال: «قال أبو عبداللَّه عليه السلام: لقد حضر الغدير اثنا عشر ألف رجل يشهدون لعلي بن أبي طالب عليه السلام، فما قدر على أخذ حقّه، وأنّ أحدكم يكون له المال، ويكون له شاهدان فيأخذ حقّه» «4».

3- ما رواه محمد بن سنان، عن الرضا عليه السلام في ما كتب إليه في جواب مسائله:

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 45

«والعلّة في شهادة أربعة في الزنا واثنتين في سائر الحقوق، لشدّة حدّ المحصن، لأنّ فيه القتل»»

.إلى غير ذلك ممّا ورد في هذا المعنى.

4- منها ما دلّ على «أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه» بنحو عام، كالخبر المعروف المروي عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قال: «البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه»، «2» وهو مروي أيضاً عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: البيّنة على من إدّعى، واليمين على من أُدّعي عليه» «3».

5- ما رواه سليمان بن خالد، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال في كتاب علي عليه السلام: «إنّ نبيّاً من الأنبياء شكى إلى ربّه فقال: يا ربّ! كيف أقضي فيما لم أر ولم أشهد؟ قال: فأوحى اللَّه إليه: احكم بينهم بكتابي، وأضفهم إلى اسمي، فحلّفهم به، وقال: هذا لمن لم تقم له بيّنة» «4».

والروايات في هذا المعنى كثيرة جدّاً

رواها في الوسائل في الباب الأول والثاني والثالث من أبواب كيفيّة الحكم من كتاب القضاء.

ولكن كلّ لك مبنيٌّ على أنّ المراد بالبينة شاهدي عدل، وقد مرّ كلامنا في هذا المعنى فراجع.

ثم إنّ هذه الروايات وإن كانت عامةّ في أبواب القضاء، متضافرة، أو متواترة، ولكن لا تشمل الموضوعات المختلفة في أبواب الفقه إذا لم تكن محلّاً للدعوى، اللّهم إلّا أنّ يتمسك بالأولوية، ويقال: إذا كان الشاهدان حجّة في أبواب الحكم والقضاء، وما فيه النزاع والدعوى، ففي ما ليس كذلك يكون حجّة بطريق أولى، وليس ببعيد.

وأمّا الروايات العامة التي تشمل الأبواب كلّها، سواءٌ أبواب القضاء وغيرها، فلم

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 46

نجد منها غير رواية «مسعدة بن صدقة» المرويّة عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «سمعته يقول: كلّ شي ء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، والمملوك لك لعلّه حرّ قد باع نفسه، أو خدع فبيع قهراً، أو أمرأة تحتك وهي اختك أو رضيعتك، والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة» «1».

وأورد عليها تارة بضعف السند للإشكال المعروف في وثاقة «مسعدة» فانّ النجاشي، والعلّامة رحمه الله في «الخلاصة»، والشيخ رحمه الله في «الفهرست»، والكشي، وغيرهم ..

ذكروه من غير توثيق، مضافاً إلى أنّه عامري تبري، ولكن اجيب عنه بأنّ عمل الأصحاب يوجب انجبارها.

هذا، ولكن وجود روايات كثيرة، وآيات متعدّدة على حجيّة شهادة العدلين يمنع عن العلم أو الظنّ بكون استناد الأصحاب في إثبات حجيتها إلى رواية مسعدة.

وأورد عليها من حيث الدلالة أيضاً:

أوّلًا: بأنّ المراد من البيّنة معناها اللغوي، وهو الدليل الواضح الظاهر، ولا أقل من الشكّ فالرواية مجملة.

ولكن

قد عرفت أنّها وإن كانت بهذا المعنى في اللغة، والاستعمالات القرآنية، ولكن نقلت إلى المعنى الشرعي، لا سيّما في زمن الصادقين عليهما السلام.

وهنا قرينة واضحة في نفس الرواية على هذا المعنى أيضاً فإنّه جعلت البيّنة في مقابل الاستبانة العلميّة، فقال: «حتى تستبين أو تقوم به البيّنة» وهذا يدلّ على أنّ المراد بالبيّنة غير ما هو معناها اللغوي، وإلّا لم يحتج إليه بعد ذكر الإستبانة.

وثانياً: أنّ البيّنة في الرواية جعلت غاية للحليّة، فغاية ما يستفاد منها أنّ الحليّة المستندة إلى أصالة الحلّ تنتهي بقيام البيّنة، وأمّا أنّ البيّنة حجّة في نفسها فلا دليل عليه.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 47

والإنصاف سقوط هذا الإشكال أساساً، فإنّ ظاهرها- لاسيّما بقرينة عطف البيّنة على الاستبانة- أنّه إذا قام البيّنة، أو الدليل العلمي على الحرمة، يؤخذ بها، لأنّها حجّة، فاذن لا يبقى مجال بلا إشكال على الرواية من حيث الدلالة.

وههنا إشكال آخر لا من هذه الناحية، بل من جهة أنّ الحليّة في الأمثلة المذكورة في الرواية ليست مستندة إلى أصالة الحلّ، بل في مسألة الثوب، والعبد مستندة إلى حجيّة اليد، وفي مسألة الرضاع مستندة إلى استصحاب عدمه، فشي ء من الامثلة غير منطبق على قاعدة الحلّ. ولكن يمكن أن يجاب عنه: أولًا: بأنّ المراد من الاستناد إلى قاعدة الحل أنّه مع قطع النظر عن اليد والإستصحاب فإنّ الحكم هو الاباحة، فتأمل، أو أنّ ذكر الأمثلة من باب التقريب إلى الذهن.

وثانياً: وجود الإشكال فيها من حيث الأمثلة وعدم العلم بمحتواها ومغزاها من هذه الناحية، لا يمنع عن الأخذ بالكبرى الواردة فيها، فتدبّر.

هذا، وقد وردت روايات خاصّة كثيرة في مختلف أبواب الفقه لا يمكن إحصاء جميعها في هذا المختصر، ولكن يمكن اصطياد العموم من مجموعها،

واستظهار الإطلاق من ناحيتها، بحيث لا يبقى شكّ للناظر فيها في حجيّة البيّنة مطلقاً وإليك نماذج من هذه الروايات نلقيها عليك من أبواب مختلفة من كلّ باب نموذجاً.

منها: ما ورد في أبواب النكاح، عن يونس قال: «سألته عن رجل تزوج أمرأة في بلد من البلدان فسألها لكِ زوج؟ فقالت: لا، فتزوجها، ثم إنّ رجلًا أتاه فقال: هي أمرأتي، فأنكرت المرأة ذلك، ما يلزم على الزوج؟ فقال: هي أمرأته إلّاأنّ يقيم البيّنة» «1».

ومن طرق العامّة ما روي عن النّبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «لا نكاح إلّابولي وشاهدي عدل» «2».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 48

وفي رواية أخرى مرويّة عن طرقنا عن أبي الحسن موسى عليه السلام قال لأبي يوسف: «إنّ اللَّه أمر في كتابه بالطلاق، وأكّد فيه بشاهدين، ولم يرض بهما إلّاعدلين، وأمر في كتابه بالتزويج، فأهمله بلا شهود، فاثبتّم شاهدين فيما أهمل، وأبطلتم الشاهدين فيما أكّد!» «1».

وفي غير واحد منها أنّه إنّما جعلت البيّنة في النكاح من أجل المواريث.

وهناك روايات أخر واردة في أبواب 22 و 23 وغيرهما من كتاب النكاح في الوسائل ممّا يدلّ على هذا المعنى.

ومنها: ما ورد في أبواب الطلاق من اشتراط صحة الطلاق بوجود شاهدين عدلين، فانّ هذا ليس تعبداً محضاً، بل الظاهر أنّ اعتبار الشهود من جهة عدم خفاء طلاق المرأة، وإمكان إثباته في المستقبل، سواءاً عند القضاء أو غيره، فلا يرجع هذا الحكم إلى حجيّة البيّنة في أبواب القضاء فقط.

فعن بكير بن أعين وغيره، عن أبي جعفر عليه السلام: «وإن طلّقها للعدّة بغير شاهدي عدل فليس طلاقه بطلاق» «2».

ومنها: ما ورد في أبواب رؤية الهلال من كتاب الصوم، مثل ما عن الحلبي عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «إنّ

علياً عليه السلام كان يقول: لا اجيز في الهلال إلّاشهادة رجلين عدلين» «3».

وما رواه حمّاد بن عثمان عنه عليه السلام أيضاً قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: لا تجوز شهادة النساء في الهلال، ولا يجوز إلّاشهادة رجلين عدلين» «4».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 49

وما رواه منصور بن حازم عنه عليه السلام أيضاً أنّه قال: «صم لرؤية الهلال، وافطر لرؤيته، وإن شهد عندك شاهدان مرضيّان بأنّهما رأياه فاقضه» «1».

ومثله روايات كثيرة أخرى أوردها في الوسائل في أبواب الصيام.

وهذا المعنى مروي من طرق أهل السنة أيضاً مثل ما رواه ابن عمر وابن عباس عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قالا: «كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لا يجيز على شهادة الإفطار إلّاشهادة رجلين» «2».

ولكن وردمن طرقهم كفاية شهادة الرجل الواحد أيضاً.

ومنها: ما ورد في أبواب الأطعمة في باب الجبن عن أبي عبداللَّه عليه السلام حيث شكّ بعض أصحابه في حلّيته لما وصل إليهم من وضع أنفحة الميتة فيها، قال عليه السلام: «كلّ شي ء لك حلال حتى يجيأك شاهدان يشهدان أنّ فيه ميتة» «3».

وقد ذكرنا في محله أنّ انفحة الميتة وإن كانت طاهرة وحلًالا عند الأصحاب، ولكن يمكن نجاسة ظاهرها بالملاقاة مع الرطوبة بالميتة.

ومنها: ما ورد في كتاب الحدود في حكم السّاحر أنّه سئل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن السّاحر، فقال: «إذا جاء رجلان عدلان فشهدا بذلك فقد حلّ دمه» «4».

ومنها: ما ورد في باب الشهادة على الشهادة عن الصادق عليه السلام: «إن شهد رجلان عدلان على شهادة رجل فقد ثبت شهادة رجل واحد» «5».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 50

ومنها: ما ورد في أبواب الوقوف، والصدقات عن أبي بصير قال: قال أبو جعفر

عليه السلام: «ألا أحدثك بوصيّة فاطمة عليها السلام- إلى أن قال- فإن مضى علي فإلى الحسن، فإن مضى الحسن فإلى الحسين، فانّ مضى الحسين فإلى الأكبر من ولدي، تشهد اللَّه على ذلك، والمقداد بن الأسود، والزبير بن العوام، وكتب علي بن أبي طالب عليه السلام» «1».

ومنها: ما ورد في أحكام الوصايا عن علي عليه السلام قال: «من أقّر لأخيه فهو شريك في المال ولا يثبت نسبه، فانّ أقرّ اثنان فكذلك، إلّاأن يكونا عدلين فيثبت نسبه، ويضرب في الميراث معهم» «2».

هذا قليل من كثير ممّا ورد في هذه الأبواب ممّا يتجاوز حدّ التواتر، وهي وإن كانت واردة في موضوعات خاصّة، إلّاأنّ الناظر فيها يستدل بها على العموم في أول نظرة، بحيث لا يبقى له شك في أنّ قبول قول الشاهدين في هذه الأبواب لا ينشأ من خصوصيات فيها، بل هو ناشي ء عن حجيّة قول العدلين على الإطلاق وفي جميع الأبواب.

الثالث: الإجماع

لا يخفى على الناظر في أبواب الفقه، من الطهارات إلى الديات، أنّ فقهاءنا (رضوان اللَّه عليهم) يعتمدون على البيّنة في كلّ باب، بحيث يعلم الناظر منها حجيّة البيّنة عندهم بصورة عامّة، نعم قد يحكى عن شرذمة قليلة عدم الإعتماد عليها في بعض الأبواب، مثل ما نسب إلى القاضي ابن براج من إنكار حجيّة البيّنة العادلة في إثبات النجاسة، وما حكى عن ظاهر السيّد مرتضى رحمه الله في «الذريعة»، والمحقق رحمه الله في

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 51

«المعارج»، وبعض آخر من أنّ الاجتهاد لا يثبت بشهادة عدلين لعدم الدليل عليه.

لكنّها شاذة لا يمكن الإعتماد عليها في قبال ما عرفت.

نعم، الإجماع وإن كان ثابتاً إلّاأنّه لا يمكن الاستدلال به كدليل مستقل هنا، لما حقق في محله من أنّه

لا يمكن استكشاف قول المعصوم منه مع وجود أدلة أخرى في المسألة، مع أنّ معيار حجيّتها هو استكشاف قول المعصوم منه، وما نحن فيه من هذا القبيل، لما عرفت من الأدلّة الظاهرة الواضحة المتكاثرة من هذا الباب.

ولا بأس بالإشارة إلى إنموذج من كلمات الأصحاب في الأبواب المختلفة ممّا يشهد بمعلوميّة حجيّة البيّنة عندهم كدليل عام، وكفاك في ذلك ما أورده شيخ الطائفة رحمه الله في مختلف أبواب الفقه فإنّه اعتمد عليها، بل إدّعى الإجماع على اعتبارها، في أبواب «الصيام»، و «الطلاق»، و «الحدود»، و «النكاح»، وغيرها.

قال في «الخلاف» في كتاب الصيام في المسألة (8):

«لا يقبل في رؤية هلال رمضان إلّاشهادة شاهدين ... دليلنا إجماع الطائفة والأخبار» «1».

وقال في المسألة (61) منه: «لا يثبت هلال شعبان (شوّال) ولا شي ء من الشّهور إلّا بشهادة نفسين عدلين، وبه قال الشافعي ... دليلنا إجماع الفرقة، وأيضاً قبول شاهدين في ذلك مجمع عليه» «2».

وقال في المسألة (5) من كتاب الطلاق: «كلّ طلاق لم يحضره شاهدان مسلمان عدلان وإن تكاملت سائر الشروط فانّه لا يقع ... دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم» «3».

ومن الواضح أنّ حضور الشاهدين دليل على قبول شهادتهما في هذا الموضوع فيما يمكن أن يقع الخلاف فيه بعد ذلك.

وقال في كتاب اللعان في المسألة (18): «إذا قذف زوجته بأنّ رجلًا أصابها في

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 52

دبرها حراماً لزمه الحدّ بذلك ... وله اسقاطه بالبيّنة» «1».

وقال في كتاب القضاء في المسألة (9) في حكم الترجمة: «الترجمة: لا تثبت إلّا بشهادة شاهدين لأنّها شهادة»، وبه قال الشافعي «2».

وقال في كتاب الشهادات في المسألة (4): «لا يثبت النكاح، والخلع، والطلاق، والرجعة، والقذف، والقتل الموجب للقود، والوكالة، والوصية إليه، والوديعة عنده والعتق، والنسب،

والكفالة، ونحو ذلك ما لم يكن مالًا ولا المقصود منه المال، ويطلّع عليه الرجال، إلّابشهادة رجلين ... دليلنا أنّ ما اعتبرناه مجمع على ثبوت هذه الأحكام به» «3».

وعموم كلامه وشموله واضح لا يخفى على أحد.

وهكذا كلمات غيره من أكابر المتقدمين والمتأخرين في هذا المعنى لا نطيل المقام بذكرها بعد وضوحها.

الرابع: بناء العقلاء

لا شكّ أنّ بناءَهم على قبول قول الثقة في إثبات الموضوعات في مقام القضاء وغيره، وإن اختلفت آراؤهم في شرائطه، وحدوده، وقيوده، وعدده، ومن الواضح أنّ الشارع لم يردع عنه بل أمضاه، ولكن مع شرط «العدالة» و «العدد» كما عرفت، وسيأتي إن شاء اللَّه أيضاً في طيّ المباحث الآتية.

المقام الثالث: شرائطها والقيود المعتبرة فيها

ولا نحتاج في هذا المقام إلى مزيد كلام بعد ما عرفت من الآيات من الذكر

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 53

الحكيم، التي ورد فيها اعتبار الرجلين والعدالة، فقد نصّ على ذلك في سورة المائدة في حكم الوصيّة، وفي سورة الطلاق في حكم الطلاق، وفي سورة البقرة في أحكام الدين، وفي سورة المائدة في حكم أهل الخبرة بمساواة الكفارة والصيد.

كلّ ذلك دليل على اعتبار الأمور الثلاثة في البيّنة: «الذكورية»، و «العدد»، و «العدالة».

وقد صرّح بذلك أيضاً في طيّات أخبار الباب التي عرفت الإشارة إلى طوائف منها، فقد ورد فيها التصريح بالتعدد، والعدالة، والذكورية.

فممّا ورد التصريح فيه بجميع ذلك مرسلة الصدوق عن الصادق عليه السّلام في باب الشهادة على الشهادة «1».

وما رواه حمّاد بن عثمان، عن الصادق عليه السلام في أبواب رؤية الهلال «2».

وما رواه الحلبي عنه أيضاً عن أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الباب «3».

وما رواه زيد بن علي، عن أبيه عن آبائه عليهم السلام عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في حكم الساحر «4».

إلى غير ذلك ممّا يظهر للمتتبع.

وممّا يدلّ على اعتبار «شاهدين عدلين» ما ورد أيضاً عن محمد بن مسلم، عن أبي عبداللَّه عليه السلام في باب الشهادة على الهلال «5».

وما رواه بكير بن أعين وغيره، عن أبي جعفر عليه السلام في باب الشهود على الطلاق «6».

وما رواه في «البحار» عن «فقه الرضا» في

باب الطلاق أيضاً، وأنّه لا يجوز إلّا بشهادة عدلين «7» إلى غير ذلك ممّا ورد في هذا المعنى.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 54

ومن الواضح ظهور عنوان شاهدين عدلين في الشرائط الثلاثة «التعدد»، و «الذكورة»، و «العدالة».

وقد ورد في بعض أخبار الباب إعتبار كونهما رجلين عدلين مرضيين، وهو يثبت المقصود مع تأكيد، وهو ما رواه مسمع بن عبدالملك، عن أبي عبداللَّه عليه السلام في باب الشهادة على الزندقة «1».

نعم، لم يرد في بعض الروايات إلّاتوصيف الشهادة بالعادلة، مثل ما رواه ضمرة بن أبي ضمرة، عن أبيه، عن جدّه، عن أمير المؤمنين عليه السلام: «إنّ أحكام المسلمين على ثلاثة: شهادة عادلة، أو يمين قاطعة، أو سنّة ماضية، من أئمة الهدى»»

.وفي بعضها ورد عنوان الرجولية، والتعدد، من غير ذكر اشتراط العدالة، مثل ما رواه محمد بن قيس، عن أبي جعفر عليه السلام- في باب الشهادة على السرقة- قال: «قضى أمير المؤمنين عليه السلام في رجل شهد عليه رجلان بأنّه سرق، فقطع يده» «3».

وما ورد فيه عنوان «البيّنة» من غير ذكر العدد، والعدالة، والذكورة، وهي روايات كثيرة مبثوثة في أبواب الفقه.

ومن الواضح أنّ مقتضى القاعدة الجمع بين جميع هذه الطوائف وإرجاع مطلقاتها إلى مقيداتها، باعتبار الشروط الثلاثة، فلا يكفي غير رجلين عدلين إلّاما خرج بالدليل، وسيأتي الإشارة إليه إن شاء اللَّه.

المقام الرابع: الموارد المستثناة من هذه القاعدة

قد عرفت أنّ الأصل في البيّنة أن تكون من خلال رجلين عدلين، فشهادة النساء، لا تقبل إلّافي موارد ورد الدليل الخاصّ فيها، وسيأتي الكلام فيها في المقام

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 55

الآتي، وكذلك لا يعتبر أكثر من الرجلين إلّافي موارد خاصّة، وقع التصريح بها في الأدلّة.

وأمّا أنّه هل يمكن الإكتفاء بقول عدل واحد مطلقاً في جميع الموضوعات، أو مع

اليمين في أبواب الشهادات، فهو بحث آخر سيأتي في محلّه إن شاء اللَّه.

والذي قام الدليل على اعتبار الزائد من الرجلين فيها هو «الزنا» مطلقاً، المحصن وغير المحصن، واللواط، والسّحاق، فإنّ المعتبر فيها أربعة رجال، حتى أنّ قتل النفوس المؤمنة مع كثرة أهميّتها وشدّة اهتمام الشارع بها لا يعتبر في إثباتها غير الشاهدين، فكأنّ الشارع المقدس أراد ستر النّاس في هذين البابين مهما أمكن، والاحتفاظ بأمرهم.

والذي يدلّ على لزوم الأربع في الزنا هو صريح الكتاب العزيز، فقد قال (عزَّ من قائل) في كتابه العزيز: «وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الُمحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ» «1»

دلّ على أنّ حكم القذف لا يثبت إلّابأربعة شهداء، والتعبير بأربعة، وكذلك «الشهداء» دليل على كونهم من الذكور.

ويدلّ عليه أيضاً قوله تعالى: «وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ ...» «2».

وقد قام الإجماع بقسميه على هذا المعنى، وشهدت له السنّة المعتبرة المستفيضة، فقد قال أمير المؤمنين عليه السلام: «لا يجلد رجل ولا أمرأة حتى يشهد عليهما أربعة شهود على الإيلاج والإخراج» «3».

وقال عليه السلام أيضاً: «لا يرجم رجل ولا أمرأة حتى يشهد عليهما أربعة شهود على الإيلاج والإخراج» «4».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 56

إلى غير ذلك ممّا جمعه في الوسائل في الباب «12» من أبواب حدّ الزنا، وغيرها.

وورد التصريح فيها بأنّه إذا كانت الشهود أقلّ من أربعة يجلدون حدّ القذف!.

وهكذا الحكم بالنسبة إلى اللّواط فانّه أيضاً مجمع عليه بين الأصحاب، وإن لم يرد فيه رواية صريحة، ولكن استدلّ الأصحاب هنا بما ورد في صحيحة مالك بن عطيه» عن أبي عبداللَّه عليه السلام من اعتبار إقرارات أربع، وعدم كفاية إقرار واحد، بل ولا

ثلاثة «1».

فانّ المترائي من أحاديث الإقرار في أبواب الزنا أنّ كلّ إقرار يقوم مقام شهادة، فإذا اعتبر الإقرار أربع مرة فلابدّ من اعتبار أربعة شهود، لاسيّما مع كون الإقرار أولى من الشهادة في هذه الأبواب كما لا يخفى، ولذا يكفي في أبواب الحقوق الإقرار مرّة واحدة، مع أنّ الشهادة فيها لا تكون إلّاباثنين، فإذا لم يثبت اللواط بأقل من أربعة إقرارات لا يثبت بأقل من أربعة شهود بطريق أولى.

والحاصل أنّ الحكم في هذا الباب ممّا لا يقبل الإنكار، ولا كلام فيه عندهم.

وهكذا الكلام في المساحقة، فانّ المعروف فيها أيضاً عدم اعتبار الأقل من أربعة شهود، بل إدّعي الإجماع عليه في «كشف اللثام»، وذكر في «الجواهر» أنّ المسألة مفروغ عنها، وإن حكي عن المحقق الاردبيلي رحمه الله في «مجمع البرهان» من كفاية الإقرار مرّتين وشهادة العدلين، ولكنّه ضعيف، لما ورد في الروايات أنّه هو الزناء الأكبر الذي أحدثته بنت ابليس كما أحدث أبوها اللواط، «2» بل وفيها ما دلّ على أنّه كاللواط في الرجال «3». وما دلّ على أنّ حدّها حدّ الزاني (في غير المحصن مائة جلدة وفي المحصن الرجم) «4».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 57

ويظهر من جميعها أنّ طريق ثبوتها كطريق ثبوت الزنا واللواط، فلا يكتفى فيه بأقل من أربعة وتمام الكلام فيه في محلّه.

وأمّا عدم قبول شهادة النساء في الموضوعات فهو ظاهر ممّا عرفت من الأدلّة والأخبار الكثيرة التي صرّح فيها باعتبار رجلين عدلين، أو شاهدين مرضيين، أو غير ذلك ممّا يفيد هذا المعنى، فالأصل في أبواب الشهادات عدم قبول شهادتهنّ في غير ما ورد فيه الدليل.

فما ذكره بعض الأعلام من أنّ عنوان البيّنة عامّ يشمل الرجال والنساء كماترى، لما عرفت من أنّ إطلاق البيّنة-

لو سلّمنا صدقها على شهادتهنّ- مقيّدة بما عرفت ممّا يدلّ على اعتبار الذكوريّة فيها، من الروايات الواردة في الأبواب المختلفة.

نعم، قد ورد في أبواب الشهادات كفاية شهادتهنّ في بعض الموضوعات، كما ورد كفاية شهادتهنّ منضمة إلى الرجال في أبواب الحدود، وتفصيل الكلام فيها موكول إلى محله من كتابي «الشهادة» و «الحدود».

المقام الخامس: في اعتبار كون البيّنة في الأمور المحسوسة

لا ينبغي الشكّ في أنّ المعتبر في حجيّة البيّنة أن يكون في المحسوسات، وأمّا غيرها ممّا لا يحيط به الحسّ فهو غير داخل في أحكام البيّنة، وإن قلنا بحجيّة الشهادة فيها أيضاً، فإنّه داخل في عنوان الرجوع إلى أهل الخبرة، وله أحكام أخر سيأتي الإشارة إليها إن شاء اللَّه.

ويدلّ على ما ذكرنا أمور:

1- الظاهر أنّه لا خلاف بين الأصحاب في هذا المعنى.

2- أخذ عنوان الشهادة في هذا الباب دليل عليه، فإنّها من الشهود، وهو ظاهر في كون المشهود فيه أمراً محسوساً.

3- الأخبار العامة والخاصّة الواردة في البيّنة التي أشرنا إليها سابقاً كلّها أو جلّها

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 58

ظاهرة في ما كان المخبر به أمراً حسيّاً، فلا يستفاد منها عموم يشمل غير المحسوسات.

4- الروايات الخاصّة الدالة على لزوم كون الشهادة عن حسّ دليل واضح على المقصود، مثل ما رواه علي بن غياث، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «لا تشهدنّ بشهادة حتى تعرفها كما تعرف كفّك» «1».

وما رواه المحقّق رحمه الله في «الشرايع» عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وقد سئل عن الشهادة، قال: «هل ترى الشّمس؟ على مثلها فاشهد أو دع» «2».

ولا أقلّ من الشكّ في شموله لما علم من غير طريق الحسّ، والأصل عدم القبول- والأمر في هذا سهل- لا سيّما مع بناء العقلاء أيضاً في شهاداتهم على ذلك فلا يكتفون

بشهادة من علم بشي ء من قرائن حدسية.

إنّما الكلام في المراد من الحسّ هنا، فإنّه لو كان المقصود كون مورد الشهادة دائماً محسوساً بأحد الحواس الخمسة (أو أكثر من الخمسة) فهذا غير صحيح قطعاً، فإنّ من يشهد بأنّ زيداً ابن عمرو، أو أخوه، أو عمه، أو خاله، فهل يمكن أن يكون هذا محسوساً له، وهل شاهد تولّده منه، أو تولدهما من أُم واحدة؟ كلّا بل رآه في بيته يتعامل معه معاملة ابنه، يربّيه، ويكفله، واشتهر بذلك كلّ الشهرة، فمن خلال هذه الأمور يقطع بأنّه ابنه، فيشهد به.

وهكذا الكلام في الشهادة على العدالة فإنّها ليست من الأمور الحسيّة، بل مستفادة من قرائن كثيرة حسيّة.

ومثلهما الشهادة على الإجتهاد، والإسلام، والإيمان، وغير ذلك، فانّ هذه كلّها أمور غير محسوسة تُعرف من آثارها، ولكنّها تعدّ في نظر العرف أموراً حسيّة.

فالحسّ المعتبر في هذا الباب له معنىً عام، يشمل ما كان محسوساً بنفسه، أو بآثاره التي يكون معها كالمحسوس.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 59

وهكذا الكلام في المسببات التوليديّة التي لا ترى إلّاأسبابها، وآثارها، فقتل النفس وهو زهاق الروح ليس أمراً حسيّاً، بل المحسوس ضرب العنق بالسيف مثلًا، أو الإلقاء من شاهق، أو الإغراق في الماء، أو الإحراق بالنّار، ثمّ بعد ذلك لا يرى الحسّ والحركة في البدن، ولا يرى آثار الحياة، فيقال كان زهاق الروح مسبباً عنه لا محالة.

ومن هذا القبيل الشهادة بالسخاء، والشجاعة، وأباء النفس، أو البخل، والدناءة، والجبن، وغير ذلك من الصفات النفسيّة، فإنّ جميعها تعرف من آثارها.

وبالجملة المحسوس هنا أعمّ ممّا يُحسّ بنفسه، أو بأسبابه، أو بآثاره التي تكون معه كالمحسوس بنفسه، نعم لا يمكن التعدّي منها إلى غيرها.

فعلى هذا إذا علمنا من قرائن مختلفة أنّ زيداً قاتل عمرو

من تلجلج لسانه عند الجواب ومن تغيّر حاله عند مشاهدة آثار هذه الجناية

ومن أجوبته المتناقضة عند السؤال عن القتل، ومن كونه شديد العداوة مع المقتول، وسماع الحوار بينهما في ساعة وقوع القتل، وغير هذه الأمور ممّا يوجب اليقين بكونه قاتلًا، فشي ء من ذلك لا يجوز الشهادة معه على القتل، ولا تكون داخلة في عنوان البيّنة، وإن كان القاضي قد يعمل بها لو حصلت عنده بناءاً على حجيّة علم القاضي، وجواز الحكم معه مطلقاً، أو فيما كان قريباً من الحسّ، مثل ما روي في قضايا أمير المؤمنين علي عليه السلام في رجل توفي على عهده، وخلّف ابناً وعبداً، فادّعى كلّ واحد منهما أنّه الابن، وأنّ الآخر عبد له! فأتيا أمير المؤمنين عليه السلام فتحا كما إليه، فأمر أن يثقب في حائط المسجد ثقبين ثم أمر كلّ واحد منهما أن يدخل رأسه في ثقب، ففعلا، ثمّ قال: يا قنبر، جرد السيف، وإشار إليه لا تفعل ما آمرك به، ثم قال: اضرب عنق العبد فنحّى العبد رأسه! فأخذه أمير المؤمنين عليه السلام وقال للآخر: أنت الابن «1».

وليس في هذا الحديث إشارة إلى اعتراف واحد منهما بعد ذلك، وإن ورد في

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 60

قضيّة أخرى مشابهة لها، ولكنّ الظاهر أنّهما قضيتان «1».

ومثله ما حكاه الشيخ المفيد رحمه الله في «الإرشاد»، وقال: روت العامّة والخاصّة أنّ أمرأتين تنازعتا على عهد عمر في طفل إدّعته كلّ واحدة منهما ولداً لها بغير بيّنة- وفي ذيلها- أنّ علياً عليه السلام قال ايتوني بمنشار! فقالت، المرأتان فما تصنع به؟ فقال: أقدّه نصفين، لكلّ واحدٍ منهما نصفه! فسكتت أحداهما، وقالت: الأخرى اللَّه اللَّه يا أبا الحسن! إن كان لابدّ من ذلك فقد سمحت

به لها، فقال عليه السلام: اللَّه أكبر هذا ابنك دونها! (الحديث) «2».

إلى غير ذلك ممّا يظفر بها المتتبّع في طيّات كتاب القضاء وغيره، فهذا كلّه ممّا يجوز للقاضي الحكم به لعلمه الحاصل من هذه المقدمات القريبة من الحسّ، ولكن لا يجوز للشاهد الإعتماد في شهادته على هذه الأمور وأشباهها.

المقام السادس: في كون حجيّة البيّنة عامّاً لكلّ أحد، وبالنسبة إلى جميع الآثار

لا ينبغي الشك في أنّ مقتضى الأدلّة السابقة حجيّة البيّنة بالنسبة إلى جميع الآثار وإلى كلّ أحد، كسائر الأمارات القائمة على الموضوعات، وأنّه لا اختصاص لحجيتها بمن قامت عنده البيّنة، بل الملاك هو العلم بقيامها، سواء كانت عنده، أو عند غيره، ولا يحتمل بعد ملاحظة الأدلّة المذكورة أن تكون البيّنة عند شخص موضوعيّة، ولا تكون حجّة لغيره، كما هو كذلك في سائر الأمارات، بل لولا وسوسة بعض الأصحاب في ذلك، وتعرّضهم للمسألة، وجعلها ذات قولين، لم نحتج إلى هذا المقدار من البحث أيضاً، وأيّ خصوصية للبيّنة من بين الأمارات؟ وأيّ أثر لقيامها عندي أو عندك؟ بل المدار على تحقّقها في الخارج عند أيّ شخص.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 61

نعم، في أبواب القضاء والأحكام الصادرة من القضاة يمكن أن يقال إنّ لقيام البيّنة عند القاضي خصوصية، ولكنّه أيضاً قابل للكلام، وعلى كلّ حال فلا دخل له بحجيّة البيّنة كأمارة من الأمارات القائمة على الموضوعات الخارجيّة، والكلام هنا فيها فقط.

ويؤيد ما ذكرنا، بل ويدلّ عليه ما ورد في جواز شهادة على الشهادة، وأنّه حجّة مطلقاً، أو إذا كان شاهد الأصل لا يمكنه الحضور، ولا ينافي ما دلّ على أنّه لا تجوز شهادة على شهادة كما لا يخفى، فراجع الباب (44) من أبواب الشهادات من الوسائل.

المقام السابع: في نسبة البيّنة مع غيرها

إذا تعارضت البيّنة مع الأصول العلمية المخالفة لها فالأمر واضح، وأمّا إذا تعارضت مع غيرها من الأمارات كاليد، وأصالة الصحة، والقرعة، بناءاً على كونها أمارة وإقرار، وغير ذلك، ممّا يستند إليه في إثبات الموضوعات الخارجيّة، ففيه تفصيل.

وحاصله أنّها تقدّم على قاعدة اليد، وأصالة الصحة، بغير كلام، وإلّا لم يصحّ الحكم بها في أبواب القضاء، فإنّ جميع موارد البيّنة أو جلّها في المسائل المالية

تكون في مقابل اليد، أو أصالة الصحّة في فعل المسلم، فقوله صلى الله عليه و آله: «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر» دليل قاطع على ما ذكرنا.

أضف إلى ذلك ورودها في خصوص مورد اليد في بعض ما مرّ من الأخبار، مثل رواية مسعدة بن صدقة، فانّ الأمثلة المذكورة فيها بعضها من موارد أصالة الصحّة وبعضها من مصاديق قاعدة اليد، مع أنّه عليه السلام حكم بأن الأشياء على هذه، حتى تستبين أو تقوم به البيّنة.

وبالجملة لا ينبغي الشكّ في تقدمها عليهما، وإلّا لم تبق لأبواب القضاء قائمة.

وأمّا إذا تعارضت مع قاعدة «الفراغ»، بأن شكّ مثلًا بعد الفراغ عن الصلاة أنّه توضأ

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 62

لها أم لا، ثمَّ قامت بيّنة على أنّه كان محدثاً حالها، بأن قام من النوم وأقبل على الصلاة، والظاهر أنّها أيضاً مقدّمة على قاعدة الفراغ أيضاً، سواء قلنا أنّها من الأصول أو من الأمارات، لقوّتها عليها، لا سيّما مع تقديمها على قاعدتي اليد والصحة اللتان لا تقلّان عن قاعدة الفراغ.

وأمّا إذا تعارضت مع «الإقرار» كما إذا قامت البيّنة على أنّ هذا المال لزيد، ولكنّه أقرّ نفسه بأنّه ليس له، فالظاهر تقديم الإقرار عليه، لأنّه أقوى حجّة عند العقلاء، والظاهر أنّ حكم الشارع بحجيتهما إنّما هو من باب إمضاء بناء العقلاء بجميع شؤونهما، حتى من هذه الجهة، إلّاما خرج بالدليل.

والحاصل أنّه لا يشكّ أحد أنّه لو قامت البيّنة على ملكيّة شي ء لإنسان، ولكنّه أقّر نفسه بعدمها، فانّ بناء العرف والعقلاء على تقديم إقراره وتخطئة البيّنة، ولم يرد في الشرع ما يدلّ على خلافه.

نعم، يظهر من بعض الروايات المعتبرة الواردة في أبواب القتل، أنّه إذا شهدت الشهود على شخص أنّه قاتل، ثمَّ أقرّ

آخر أنّه هو القاتل، وأنّ المشهود عليه بري ء من قتله، أنّ أولياء المقتول مخيّرون بين أمور.

الأول: أن يقتل الذي أقرّ على نفسه، وحينئذٍ لا سبيل لهم على الآخر، كما لا سبيل لورثة الذي أقرّ على نفسه على المشهود عليه.

الثاني: أن يقتل الذي شهدت الشهود عليه، ولا سبيل لهم على الذي أقرّ، ثم يؤدّي الذي أقرّ على نفسه إلى أولياء الذي شهد عليه نصف الديّة.

الثالث: أن يقتلوهما جميعاً، ولكن يجب على أولياء المقتول أن يدفعوا إلى أولياء المشهود عليه نصف الديّة خاصّة دون صاحبه.

الرابع: أن يأخذوا الديّة منهما نصفين «1».

وهذه الرواية وإن عمل بها جمع من الأصحاب إلّاأنّ العمل بها مع مخالفتها

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 63

للقواعد والأصول التي بأيدينا من جهات شتّى مشكل جدّاً، لا سيّما في أبواب الدماء، فالاحتياط ممّا لا ينبغي تركه، ولو قلنا به في موردها فلا يمكن التعدّي إلى غير موردها، بل الواجب العمل بالإقرار، إذا كان جامعاً لشرائطه، وترك البيّنة لما عرفت من أنّه أقوى منها.

المقام الثامن: في تعارض البيّنتين

هذه المسألة مذكورة في كتاب القضاء، وقد ذكروا فيها أبحاثاً كثيرة هناك، إلّاأنّ الذي يهمّنا هنا هو الإشارة إليها بعنوان كلّي، وإيكال جزئياتها إلى مباحث القضاء، وحاصله أنّ دليل حجيّة البيّنة كسائر الأمارات الشرعيّة لا تشمل المتعارضين، لأنّ حجيّة كليهما- والمفروض أنّهما متعارضتان- محال، لاشتمالها على الجمع بين النقيضين أو الضدين، كما أنّ شمولها لواحد معيّن منهما ترجيح بلا مرجّح، لا يمكن المصير إليه.

والقول بالأخذ بأحدهما مخيّراً أيضاً بلا دليل، لأنّ دليل الحجيّة قامت على حجيّة كلّ واحد منهما تعييناً، وأمّا حجيّة واحد منهما على التخيير فلم يدلّ عليه دليل.

كما أنّ حجيّة أحدهما لا بعينه ممّا لا ينبغي التفوّه به، لما ذكرنا في محلّه من

أنّ الواحد لا بعينه لا وجود له في الخارج، فما في الخارج معين دائماً، وإنّما يوجد هذا المفهوم في الذهن فقط، اللهم إلّاأنّ يرجع إلى القول بالتخيير، وقد عرفت حاله.

وحينئذٍ لا يبقى بحال إلّاالقول بتساقطهما بعد التعارض، والرجوع إلى أدلّة أخرى.

هذا هو مقتضى القاعدة في هذا الباب، ولكن هناك روايات كثيرة، يدلّ بعضها على وجوب القرعة بين البيّنات، وأيّها وقعت القرعة عليها فعلى صاحبها اليمين، وهو أولى بالحق «1».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 64

وفي بعضها أنّ الحق لمن حلف مع بيّنته، وأنّهما إن حلفا جميعاً جعل المال بينهما نصفين، وإن كان في يد أحدهما وأقاما جميعاً البيّنة كان للحالف الذي هو في يده «1».

وفي بعضها العمل على طبق اليد من دون يمين، وأنّه لو لم يكن في يده جعل المال بينهما نصفين «2». إلى غير ذلك.

وذكر شيخ الطائفة رحمه الله في «الخلاف» أنّه إذا تعارضت البيّنتان على وجه لا ترجيح لأحدهما على الآخر أقرع بينهما، فمن خرج اسمه حلف، وأعطي الحق، هذا هو المعوّل عليه عند أصحابنا، وقد روي أنّه يقسّم بينهما نصفين. ثم نقل عن الشافعي فيه أربعة أقوال:

الأول: وهو أصحّها أنّهما تتساقطان، وبه قال مالك.

والثاني: يقرع بينهما كما قلناه، وهل يحلف أم لا؟ قولان.

والثالث: يوقف أبداً.

والرابع: يقسّم بينهما نصفين، وبه قال ابن عباس، والثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه.

ثم قال دليلنا إجماع الفرقة على أنّ القرعة تستعمل في كلّ أمر مجهول مشتبه، وهذا داخل فيه، والأخبار في المسألة كثيرة أوردناها في كتب الأخبار ... «3».

هذا، ولحقيق الحق من بين هذه الأقوال محل آخر قد عرفته.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 65

12 قاعدة حجيّة خبر الواحد في الموضوعات

المقام الأول: في أقوال العلماء في المسألة

المشهور بين الأصحاب حجيّة خبر الواحد في الأحكام، بل قد ادّعى الإجماع عليه، وهو الحق، ويدلّ عليه

الكتاب، والسنّة، وبناء العقلاء، وسيرة الأصحاب، كما أوضحناه في محله في الاصول.

ولكنّ الكلام هنا في حجيّته في الموضوعات، فإنّها ترتبط ببحث القواعد الفقهيّة، لما قد عرفت من أنّ مفاد القاعدة الفقهيّة دائماً حكم شرعيّ كليّ، يجري في مختلف أبواب الفقه، بخلاف المسائل الأصوليّة فإنّها تقع في طريق استنباط الأحكام، فحجيّة خبر الواحد في الأحكام تقع في طريق إثبات الحكم الشرعي، فتكون مسألة أصوليّة وأمّا حجيّته في الموضوعات فهي حكم فقهي يستفاد منه حال موضوعات الأحكام، ولكن لمّا كان كليّاً دخل في أبواب القواعد الفقهيّة.

والمعروف أنّ خبر الواحد لا يكون حجّة في الموضوعات، ولكن ذهب جماعة من الأصحاب، ولا سيّما المتأخرون منهم إلى حجيّته فيها، حُكي هذا عن ظاهر التذكرة، وقوّاه في الحدائق، «1» والمحقق الهمداني رحمه الله في مصباحه وغيرهم.

هذا، ولكنّهم إنّما تعرّضوا للمسألة في موارد خاصّة، وقد لا يمكن استفادة العموم

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 68

منها، نعم، يظهر العموم من بعض متأخريّ الأصحاب، حيث ذكر هذا الحكم على الإطلاق واستدلّ عليه بدلائل يأتي الإشارة إليها إن شاء اللَّه.

ويظهر من بعض علماء العامّة أنّ القول بحجيّة خبر الواحد في الموضوعات شايع بينهم، وإن ذكروه في موارد خاصّة، قال «ابن قدامة» في «المغني» في باب أوقات الصلاة: «ومن أخبره ثقة عن علم عمل به، لأنّه خبر ديني، فقبل فيه قول الواحد كالرواية» «1».

وتعليله دليل على عموم حجيّته عنده.

وقال في أبواب القبلة: «وإن لم يعلم عدالته وفسقه (أي المخبر بالقبلة) قبل خبره، لأنّ حال المسلم يبنى على العدالة ما لم يظهر خلافها، ويقبل خبر سائر النّاس من المسلمين البالغين العقلاء، سواء كانوا رجالًا أو نساءاً، ولأنّه خبر من أخبار الدين فأشبه الرواية، ويقبل من الواحد كذلك» «2».

وقال

أيضاً في أبواب المياه: «وإن ورد ماءاً فأخبره بنجاسته صبّي، أو كافر، أو فاسق لم يلزمه قبول خبره ... وإن كان المخبر بالغاً عاقلًا مسلماً غير معلوم فسقه، وعيّن سبب النجاسة، لزم قبول خبره، سواء كان رجلا أو أمرأة، حرّاً أو عبداً، معلوم العدالة أو مستور الحال، لأنّه خبر ديني، فأشبه الخبر بدخول وقت الصلاة، وإن لم يعيّن سببها قال القاضي: لا يلزم قبول خبره، لاحتمال اعتقاده نجاسة الماء بسبب لا يعتقده المخبر» «3».

والظاهر أنّ اعتماده على قول مستور الحال من جهة أنّ الأصل عندهم على عدالة المسلم كما أشار إليه سابقاً، كما أنّ عدم قبول القاضي لقول من لا يخبر بالسبب فإنّما هو بسبب اختلاف الفتاوى عندهم، فالمتحصل منها حجيّة خبر العدل عنده على الإطلاق.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 69

فلنرجع إلى بيان مصدر القاعدة وما قيل أو يمكن أن يقال فيه ونقل الأدلة عليه:

المقام الثاني: في مصدر القاعدة

يدلّ عليها الكتاب العزيز والسنّة المستفيضة، وبناء العقلاء.

الأوّل: كتاب اللَّه

أقوى ما يدلّ عليه هو آية النبأ، قال اللَّه تعالى:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ» «1».

وقد ذكرنا في مباحث خبر الوحد من الاصول أنّه يمكن الاعتماد على دلالة الآية باعتبار مفهوم الوصف في أمثال المقام، ممّا يكون ظاهره الاحتراز بالوصف عن غيره، ولذا إذا عرضنا الآية على أهل العرف، وقلنا أنّ الفاسق لا يقبل خبره يفهمون منه أنّ خبر العدل مقبول.

وما قد يقال إنّ ذكر عنوان «الفاسق» هنا إنّما لبيان فسق الوليد، وكفى بذلك فائدة في ذكر الوصف، فاسد جدّاً، مخالف لما يفهم منه عرفاً.

أضف إلى ذلك أنّ الآية لا تقصد بيان قضيّة خاصّة، بل مفادها حكم عامّ، وقانون كلّي بالنسبة إلى المؤمنين كلّهم في جميع الموارد، ولذا يقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ ...».

كما أنّ ذكر العلّة وهي قوله تعالى: «أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ» لا يدلّ على اعتبار العلم في العمل بالأخبار، بل الجهالة هنا بمعنى السفاهة، وما لا يكون عقلائياً، وحيث إنّ الإعتماد على خبر الثقة أمر عقلائي ليس فيه سفاهة

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 70

ولا ندامة ولو تبيّن كونه خلاف الحق، فهو من قبيل العلم الذي هو جهل مركب لا ندامة في العمل به، من حيث الإعتماد على أمر غير عقلائي، بل من حيث الخطأ، وهو محتمل في جميع الأمارات الشرعيّة والعرفيّة وفي حق غير المعصومين.

ومّما ينبغي أن يذكر أنّ مورد الآية وشأن نزولها من الموضوعات لا من الأحكام، وهو الخبر بارتداد قبيلة بني المصطلق، والعجب من جماعة من الأصوليين حيث استدلّوا بها على حجيّة خبر العدل

في الأحكام، أخذاً بإطلاق الآية، ولم يستدلّوا بها على حجيّته في الموضوعات الذي هو موردها، فهل يمكن تخصيص العموم وتقييد الاطلاق باخراج المورد وشأن نزولها؟ كلّا.

وقد يستدل هنا بآيات الشهادة «1» ولزوم إظهارها، وحرمة كتمانها، مثل قوله تعالى: «وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ...» «2»

، وقوله تعالى: «وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للَّهِ ...» «3»

، وقوله تعالى: «... كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للَّهِ ...» «4»

، وقوله عزّ من قائل: «وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ...» «5»

إلى غير ذلك.

وكأنّهم استندوا في ذلك إلى دليل اللغوية، وأنّ الإظهار لو كان واجباً لوجب القبول، وإلّا كان لغواً، ولكنّ هذا غير تام، كما ذكر في أشباهه من وجوب إظهار العالم علمه وغيره، فانّ دليل اللغوية يدلّ على أنّ في الإظهار فائدة، ولكن هذه الفائدة هل هي القبول مطلقاً، أو إذا انضمّ إليه شاهد آخر، ولا إطلاق لها من هذه الجهة، فانّها ليست بصدد بيان القبول، بل بصدد بيان وجوب الإظهار، وأمّا القبول فإنّما يستفاد من ناحية أخرى، ومن الواضح أنّه يكفي في عدم كونه لغواً قبولها في الجملة ولو عند وجود شاهد آخر.

الثاني: السنّة

هنا روايات كثيرة وردت في مختلف أبواب الفقه يمكن استنباط حجيّة خبر الواحد في الموضوعات من مجموعها:

1- ما ورد في أبواب رؤية الهلال، عن محمد بن قيس، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: «إذا رأيتمّ الهلال فافطروا أوشهد عليه عدل من المسلمين» «1».

دلت على كفاية شهادة العدل الواحد في ثبوت رؤية الهلال، ولكن نصوص الرواية مختلفة، ففي بعضها «واشهدوا عليه عدولًا من المسلمين» وفي بعضها الآخر «أو يشهد عليه بيّنة عدول من المسلمين» ومن هنا يشكل الاعتماد عليها بالخصوص.

ويؤيده ما

روي عن طرق العامّة عن ابن عباس قال: جاء اعرأبي إلى النبي صلى الله عليه و آله فقال: «إنّي رأيت الهلال يعني هلال رمضان، فقال: أتشهد أن لا إله إلّااللَّه؟ قال: نعم، قال: أتشهد أنّ محمداً رسول اللَّه؟ قال: نعم، قال: يا بلال أذّن في الناس أن يصوموا غداً» «2».

2- منها ما وردت في أبواب النّكاح من رواية سماعة قال: «سألته عن رجل تزوّج جارية أو تمتّع بها، فحدّثه رجل ثقة أو غير ثقة وقال: إنّ هذه أمرأتي وليست لي بيّنة، فقال: إن كان ثقة فلا يقربها وإن كان غير ثقة فلا يقبل منه»»

.والحديث ظاهر الدلالة على المقصود.

3- ونظيرها من بعض الجهات ما عن فقه الرضا عليه السلام قال: «إن كان البائع (أي البائع للأمة) ثقة وذكر أنّه استبرأها جاز نكاحها من وقته، وإن لم يكن ثقة استبرأها المشتري بحيضة» «4».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 72

والأصل وإن كان يقتضي عدم الوطى ء فلا يحتاج إلى الإستبراء، ولكن لمّا كان ذلك غالباً في الإماء كان ظاهر حالهن كونهنّ موطوئات، فلزم الإستبراء، إلّاأن يكون البائع ثقة، بل الظاهر من الرواية أنّ الوطى ء أمر مفروغ فيها.

هذا، ولكن في سند حديث (فقه الرضا) إشكال معروف.

4- ما ورد في «أبواب الأذان» من جواز الإعتماد على أذان المؤذّن العارف الثقة، مثل ما رواه عيسى بن عبداللَّه الهاشمي، عن أبيه، عن جدّه، عن علي عليه السلام قال:

«المؤذّن مؤتمن والإمام ضامن» «1».

إلى غير ذلك ممّا دلّ على اعتبار أذان المؤذّن مطلقاً المحمول على العارف بالوقت الثقة وإن كان من المخالفين.

هذا، ولكنّ الإعتماد على أذان العارف يمكن أن يكون من باب جواز التعويل في دخول الوقت على الظنّ المطلق، وهو من أسباب الظن، فلا يدلّ على

جواز الإعتماد عليه في موارد يعتبر العلم فيها، أوما يكون بمنزلته.

واستدل «ابن قدامة» في «المغنى» في باب أوقات الصلاة بما روي عن طرقهم عن النبي صلى الله عليه و آله: «المؤذن مؤتمن»، «2» على حجيّة أذان الثقة العالم بالوقت.

5- ما ورد في أبواب الوكالة عن هشام بن سالم، عن أبي عبداللَّه عليه السلام في رجل وكّل آخر على وكالة في أمر من الأمور، وأشهد له بذلك شاهدين، فقام الوكيل فخرج لإمضاء الأمر، فقال: اشهدوا أنّي قد عزلت فلاناً عن الوكالة ... قال: «نعم، إن الوكيل إذا وكّل ثم قام عن المجلس فأمره ماضٍ أبداً والوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة» «3».

دلّ على بقاء الوكالة على حكمها، ونفوذ أمر الوكيل إلّاأنّ يثبت له العزل، ومن طرق ثبوت العزل خبر الثقة.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 73

6- ما ورد في أبواب الوصية عن اسحاق بن عمّار، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «سألته عن رجل كانت له عندي دنانير، وكان مريضاً، فقال لي: إن حدث لي حدث فأعطِ فلاناً عشرين ديناراً، وأعط أخي بقية الدنانير، فمات ولم أشهد موته، فأتاني رجل مسلم صادق، فقال لي: إنّه أمرني أن أقول لك: انظر الدنانير التي أمرتك أن تدفعها إلى أخي فتصدّق منها بعشرة دنانير، اقسمها في المسلمين، ولم يعلم أخوه أنّ عندي شيئاً، فقال: أرى أن تصدّق منها بعشرة دنانير» «1».

ولكن يمكن الإيراد على الاستدلال بها من جهة أنّ في كلام المخبر هنا بعض القرائن الخفيّة التي كانت بين الموصي والوصي، ولعلّه يوجب العلم، فيشكل الاستدلال بها على حجيّة خبر الثقة إذا خلا من أمثال هذه القرائن.

هذا، ويمكن الجواب عنه مضافاً إلى أنّ مجرّد هذه القرينة لا توجب القطع

بالصدق، فلعلّه سمع الوصيّة السابقة من الموصي أو غيره وأضاف الباقي من قبل نفسه، أنّ تعويل السائل على عنوان الرجل المسلم الصادق دليل على أنّ المرتكز في ذهنه كفاية قول المسلم الثقة في إثبات الموضوعات، فلو كان هذا باطلًا لوجب نفيه من قبل الإمام عليه السلام، فتدبّر.

7- ما روي أيضاً في أبواب نكاح الإماء عن ابن أبي عمير، عن حفص بن البختري، عن أبي عبداللَّه عليه السلام في الرجل يشتري الأمة من رجل فيقول: إنّي لم أطأها، فقال: إن وثق به فلا بأس أن يأتيها» «2».

نعم، يرد عليه أنّه من قبيل إخبار ذي اليد وحجيّة خبر ذي اليد نهي لا تدلّ على حجيّة خبر الثقة مطلقاً.

هذا، ولكن من المشكل الإعتماد على اليد في أمثال المقام ممّا غلب عليها الحرمة وعدم الجواز، لما قد عرفت من أنّ الأصل في الإماء كونها موطوئة إلّامن شذّ

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 74

منهن، وإلّا لوجب الإعتماد على قول ذي اليد إذا لم يكن متّهماً، ولا يحتاج إلى اعتبار الوثاقة كما في غيرها من موارد حجيّة قول ذي اليد، فانّ عدم الإتمام كافٍ فيها، ولا يعتبر الوثاقة بالخصوص.

فاعتبار الوثاقة هنا إنّما هو من باب حجيّة خبر الثقة في الموضوعات، ولا دخل له بقول ذي اليد.

وقد يستدل هنا بروايات أخرى لا دلالة فيها:

منها: ما ورد في أبواب النجاسات عن عبداللَّه بن سنان، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «اغتسل أبي من الجنابة فقيل له: قد أبقيت لمعة في ظهرك لم يصبها الماء، فقال له: ما عليك لو سكّت؟ ثمّ مسح تلك اللمعة بيده» «1».

وفيه أنّه قضية في واقعة، ولعلّه كان يحصل العلم من قول المخبر، وليس في الرواية عنوان عامّ يدلّ على التعويل

على خبر الثقة حتى يستدل باطلاقه على المقصود، هذا مضافاً إلى اشتمال الحديث على بعض المسائل المنكرة، أعني غفلة الإمام عن غسله، وبقائه على حاله بلا غسل وإتيان أعماله على تلك الحال لو لم يخبره المخبر، فتأمّل.

ومنها: ما ورد في أبواب «ما يكتسب به» عن معاوية بن وهب وغيره، عن أبي عبداللَّه عليه السلام في جرذمات في زيت: ما تقول في بيع ذلك؟ فقال: «بعه وبيّنه لمن اشتراه ليستصبح به» «2».

وفيه مضافاً إلى أنّه من باب حجيّة قول ذي اليد، ولذا لم يقيّد بكونه ثقة، أنّه من قبيل الأخبار المحفوفة بالقرائن، لأنّ البائع لا يخبر بنجاسة زيته مهما أمكن، فإذا أخبر يعلم أنّه كان مقطوعاً، لعدم الدّاعي على هذه الأكذوبة عادة لأحد من البايعين، لما فيه من تقليل قيمة المبيع.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 75

ومنها: ما ورد في قصّة إسماعيل ولد الصادق عليه السلام وأنّه دفع دنانير إلى رجل شارب الخمر بضاعة، ليعامل بها، فأتلف النقود فوبّخه الصادق عليه السلام فاعتذر بأنّه لم يره يشرب الخمر، فقال عليه السلام: «فإذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم» «1».

نظراً إلى أنّ الجمع المحلّى باللام هنا ليس بمعنى العام المجموعي، لندرة اتفاق جميع المؤمنين على الشهادة على شي ء، فيحمل على العام الإفرادي.

وفيه أنّه يمكن حملها على الجمع لا بعنوان الإستغراق، وحمله على ذلك هنا قريب، لا سيّما بقرينة قول إسماعيل لأبيه في مقام الإعتذار: سمعت الناس يقولون، فانّ إطلاق النّاس على الواحد قليل جدّاً، وبالجملة الاستدلال بها على حجيّة خبر الواحد الثقة مشكل.

هذا ما ظفرنا به من الأخبار في هذه المسألة في طيّات كتب الحديث، وقد عرفت الإشكال في بعضها، ولكن في الباقي لا سيّما مع تظافرها وضمّ بعضها ببعض غنىً

وكفاية، لأنّها وإن وردت في موارد خاصّة إلّاأنّه يمكن إلغاء الخصوصيّة عنها بعد ورودها في أبواب متفرقة.

أضف إلى ذلك أنّ حجيّة خبر الثقة في الموضوعات كانت مشهورةً عند العقلاء كما سيأتي إن شاء اللَّه.

وظاهر هذه الروايات إمضاؤها، فلو كانت مختصّة بموارد خاصّة وجب على الإمام التنبيه عليها، لا سيّما مع ذكر هذا العنوان في كلام الراوي في بعض تلك الروايات الذي يدلّ على أنّه كان أمراً مركوزاً في أذهان الرواة ولم يردعهم الائمّة عليهم السلام.

الثالث: بناء العقلاء

ويدلّ عليه أيضاً بناء العقلاء الذي استدلوا به على حجيّة خبر الواحد في

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 76

الأحكام، بل جعلوه أهمّ الدلائل وأقواها وعمدتها، بل أرجعوا سائر الأدلّة إليه.

وحاصله أنّهم لا يزالون يعتمدون على إخبار الثقة، في ما يرجع إلى معاشهم، وحيث لم يردع عنه الشارع في ما يرجع إلى معادهم فيكون حجّة، من دون أيّ فرق بين إخبار الثقة في الموضوعات، أو في الأحكام.

فما ورد في القرآن الكريم، أو الروايات الكثيرة التي قد عرفت جملة منها، ممّا يدلّ على حجيّة خبر الواحد في الموضوعات إمضاء لهذا البناء.

وقد عرفت عند ذكر الأخبار الدالّة على المقصود أنّ هذا المعنى كان مركوزاً في أذهان الرواة كما يدلّ عليه أسئلتهم، وهذا أيضاً شاهد على المطلوب.

الرابع: بناء الأصحاب
اشارة

ويظهر من كلمات الأصحاب وعملهم أنّهم يستندون إلى أخبار الآحاد في الموضوعات كاستنادهم به في الأحكام، ويدلّ على ذلك أمور:

1- اكتفاء كثير منهم في علم الرجال بتوثيق رجل واحد وإن اعتبر بعضهم قيام البيّنة وتوثيق رجلين، ولكنّ هذا شاذ، فلو كان خبر الواحد في الموضوعات يحتاج إلى التعدّد لم يجز الإعتماد على واحد في توثيق الرجال وهو من الموضوعات.

قال المحقق المامقاني رحمه الله في «تنقيح المقال» ما نصه: «إنّه قد صدر من الأصحاب الإفراط والتفريط في هذا الباب، فمن الأول ما عليه جماعة منهم الشهيد الثاني من قصر الحجيّة على الصحيح الأعلى، المعدلّ كلّ من رجاله بعدلين، نظراً إلى ادراج ذلك في البيّنة الشرعيّة، التي لا تختص حجيّتها بالمرافعات على الأقوى، لما نطقت بذلك الأخبار الصحيحة- إلى أن قال- ووجه كون هذا المسلك إفراطاً أنّ طريق الإطاعة موكول إلى العقل والعقلاء ونراهم يعتمدون في أمور معاشهم ومعادهم على كلّ خبر يثقون به من

أي طريق حصل لهم الوثوق والاطمئنان».

هذا، ولكن يرد عليه بأنّ الاعتماد على قول علماء الرجال وشهادة الرواة في

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 77

تشخيص الثقات من غيرهم إنّما هو في حصول ما هو الملاك في حجيّة خبر الواحد في الأحكام، أعني الوثوق بالرواية فإذا حصل هذا المعنى من أيّ طريق دخل في عنوان الأدلّة.

وبعبارة أخرى: إذا أخبر ثقة بأن محمداً بن مسلم ثقة مثلًا لا فائدة في هذا الخبر إلّا قبول إخباره، ومن المعلوم أنّه يكفي في قبول إخباره حصول الوثوق بروايته ولو من طريق اخبار ثقة بوثاقته (فتأمّل جيداً).

نعم، لو كان الملاك في حجيّة خبر الواحد على خصوص آية الحجرات، وكان موضوعها العدالة تعبّداً كان عمل العلماء بقول واحد في تشخيص العدالة والفسق دليلًا على المطلوب، ولكن أنّى لنا بإثبات ذلك، وقد ثبت في محلّه أنّ جميع أدلّة حجيّة خبر الواحد ترجع إلى بناء العقلاء الذي هو الأصل في المسألة، وبنائهم على الوثوق بالرواية من أيّ وادٍ حصل.

2- إنّهم لا يفرّقون في مسألة قبول أخبار الآحاد بين ما كان مضمونه الحكم الشرعي فقط، أو مع الموضوع الخارجيّ، فاذا أخبر محمد بن مسلم- مثلًا- بأنّه دخلنا على الصادق عليه السلام في يوم الجمعة فقال هذا يوم عيد، يعملون به، ويفتون بأنّ يوم الجمعة يوم عيد، مع أنّ الإمام لم يخبر بهذا، بل أخبر بأنّ هذا اليوم يوم عيد، ولكنّ محمد بن مسلم أضاف إليه بأنّ اليوم كان يوم الجمعة، فنقبل إخباره في الموضوع كما نقبل إخباره في الحكم الشرعي.

هذا، ولكن قد أورد عليه في «حقايق الأصول» لا في هذا المبحث، بل بمناسبة أخرى في مبحث حجيّة قول اللغوي بما نصه: «إنّ أقوى ما يستدل به على

حجيّة قول اللغوي هو ما دلّ على حجيّة خبر الثقة في الأحكام ودعوى أنّ خبر اللغوي ليس متعرضاً للحكم لأنّه من الإخبار عن الموضوع فاسدة، لأنّ المراد من الخبر في الأحكام كلّ خبر ينتهي إلى الخبر عن الحكم ولو بالالتزام» «1».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 78

ولكن هذا الإعتذار يشكل الإعتماد عليه، وليس هذا بأولى من أنّ يقال حجيّة خبر الواحد لا يختصّ بالأحكام، بل تجري في الموضوعات أيضاً.

بل قد ذكرنا في مبحث حجيّة قول اللغوي أنّها ممّا دارت عليه كلماتهم، ولا يزالون يستدلّون بأقوالهم لتحقيق مفاهيم الكلمات المرتبطة بأمور معاشهم ومعادهم، وفي إسناد الوصايا، والأوقاف، وغيرها، حتى أنّ من ينكره باللسان لا يتجافي عنه في العمل، وهذا دليل على عموم الحجيّة في الموضوعات والأحكام.

وممّا قد يستدل به على العموم قياس الأولوية، قال في «الجواهر» في ذيل كلام له في حجيّة خبر الواحد في الموضوعات ما هذا نصه: «بل ثبوت الأحكام الشرعيّة به أكبر شاهد على ذلك»، وإن ذكر في آخر كلامه: «إنّ الإنصاف بقاء المسألة في حيّز الإشكال، لإمكان التأمّل والنظر في سائر ما تقدم من المقال بمنع بعضه، وعدم ثبوت المطلوب بالآخر» «1».

وحاصل الكلام أنّ الأحكام مع كثرة أهمّيتها، وكليتها، إذا ثبتت بخبر الواحد فكيف لا يمكن إثبات الموضوع الجزئي به؟!

اللّهم إلّاأنّ يقال إنّ طرق ثبوت الأحكام محدودة، فلذا اكتفى فيه بخبر الواحد، ولكنّ طرق إثبات الموضوعات كثيرة متعدّدة، قلّ ما يحتاج فيها إلى خبر الواحد، بحيث لو نفى حجيّته فيها لم يحصل إشكال، بخلاف الأحكام فانّ نفي حجيّة خبر الواحد فيها يوجب سدّ باب إثباتها غالباً.

ولا يتوهمّ أنّ هذا رجوع إلى إنسداد باب العلم، لأنّ المقصود إمكان كون الإنسداد من قبيل الحكمة لهذا الحكم،

لا العلّة، بخلاف الموضوعات، كما ذكر في محله من الأصول.

وبالجملة لا يمكن الركون إلى هذا الدليل مجرّداً عن غيره، غاية الأمر يصلح جعله مؤيّداً لما مرَّ.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 79

وأمّا ما أشار إليه صاحب الجواهر رحمه الله فيما عرفت من كلامه فيظهر عدم تماميته من تفاصيل ما تلونا عليك في هذه المسألة، وأنّ الدليل على الحجيّة من الكتاب والسنّة ثابت لا يمكن إنكاره عند التحقيق.

أقوى ما يرد على المختار

أقوى ما يرد على ما ذكرنا من حجيّة خبر الواحد في الموضوعات أمران:

الأمر الأول: ما إشار إليه بعض أعاظم المعاصرين بقوله: «وقد يتوهمّ، كما عن غير واحد منهم، أنّ السيرة على حجيّة خبر الواحد في الموضوعات مردوعة، بما ورد في ذيل رواية «مسعدة بن صدقة» من قوله عليه السلام: «والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به البيّنة» «1».

حيث حصرما يثبت به الموضوعات في «الإستبانة» (أي: العلم) و «قيام البيّنة عليه»، ولو كان خبر الواحد كالبيّنة معتبراً شرعاً لبيّنه عليه السلام لا محالة.

ثمّ أجاب عنه: «أولًا: بأنّ الرواية ليست بصدد الحصر، لوضوح أنّ النجاسة وغيرها كما تثبت بهما كذلك تثبت بالإستصحاب وبإخبار ذي اليد.

ثانياً: أنّ الرواية غير صالحة للرادعيّة لضعفها.

ثالثاً: أنّ عدم ذكر إخبار العادلّ في قبال البيّنة والعلم إنّما هو لأجل خصوصيّةٍ في مورد الرواية، وهي أنّ الحليّة في مفروض الرواية كانت مستندة إلى قاعدة اليد في مسألة الثوب، ومن المعلوم أنّه لا اعتبار لإخبار العادلّ مع اليد.

ورابعاً: البيّنة في الرواية كما تقدم بمعنى الحجّة وما به البيان، وهو الذي دلّت الرواية على اعتباره في قبال العلم الوجداني» «2».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 80

وبعض ما ذكره وإن كان لا يخلو عن إشكال، مثل ما أفاده أخيراً، لما

مرَّ عليك من أنّ البيّنة في مصطلح الأخبار بمعنى شاهدَي عدل، وقد أثبتنا ذلك بدليل قاطع، ولكن في بعضها الآخر كفاية، مثل عدم اعتبار سند رواية «مسعدة»، وعدم كونها في مقام الحصر، وسيأتي إن شاء اللَّه في الجواب عن الإشكال الثاني ما ينفعك في المقام أيضاً.

الأمر الثاني: أنّ خبر الواحد لو كان حجّة في الموضوعات، لم يبق حاجة إلى البيّنة فيها، وكانت حجيّتها نافية لحجيّته.

وإن شئت قلت: حجيّة البيّنة لا يختص بأبواب القضاء، بل قد عرفت أنّها عامّة في جميع الموضوعات وإن لم يكن فيها خصومة تستدعي القضاء، وحينئذٍ يبقى الكلام في أنّه لِمَ اعتبر فيها العدد مع كفاية خبر الواحد فيها؟

وبعبارة ثالثة: مفهوم العدد لا سيّما في أمثال هذه المقامات ينفي جواز الركون إلى خبر الواحد في الموضوعات.

والإنصاف أنّه أهمّ إشكال يرد على حجيّته، بل الظاهر أنّ عدم إعتراف كثير من الأصحاب بحجيّة خبر الواحد فيها، أو ترديدهم في هذا الأمر، أو قبولهم للحجيّة تارةً ونفيها أخرى، إنّما نشأ من هذا الإشكال.

ولكنّه مع ذلك قابل للدفع، وأنّه يمكن الجمع بين حجتيهما بحيث لا يكون تمانع وتنافر.

توضيحه: أنّ أخبار حجيّة البيّنة- كما لا يخفى على من راجعها وتدبّر فيها- ناظرة في الغالب إلى المسائل الماليّة والحقوقيّة الأخرى، والظاهر أنّ ذكر البيّنة فيها أنّه وإن لم تكن مورداً للدعوى بالفعل، ولكن قد تؤدّي إلى المخاصمة، فلابدّ من التمسّك بحجّة تنفع في محكمة القضاء أيضاً في المستقبل.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 81

مثلًا ورد في كتاب اللَّه العزيز حجيّة شهادة العدلين في الوصية «1»، والطلاق «2»، والدّين «3»، والبيع «4»، ومن الواضح أنّ هذه كلّها أمور ماليّة أو حقوقيّة قد تكون فيها المخاصمة في المستقبل، فلابدّ من أخذ شاهدين

فيها، حتى إذا انتهى الأمر إلى المحكمة يكون ذلك دليلًا يمكن الاستناد إليه في إثبات المدّعى.

نعم، ورد في بعض ما عرفت من الآيات لزوم الإعتماد على قول العدلين في كفّارة الإحرام، وأنّه لابدّ أن يكون مماثلًا للحيوان الذي اصطاده يحكم به ذوا عدل منكم «5».

ولكن لا يبعد أن يكون الوجه فيه أنّ المماثلة ليست من الأمور الحسيّة حتى يُكتفى فيه بخبر الواحد، فأوجب فيه التعدّد حتى يكون بعيداً عن الخطأ.

وإن شئت فانظر إلى ما دلّ على حجيّة البيّنة من السنّة مثل خبر «مسعدة» الذي ورد في الثوب، والعبد، والمرأة، وكذا ما دلّ من رواية يونس على أنّ استخراج الحقوق بوجوه أربع، منها شهادة رجلين عدلين «6».

وما ورد في رواية صفوان الجمّال فيمن يكون له المال ويكون له شاهدان فيأخذ حقّه «7».

وما ورد في أبواب النّكاح، والطلاق، وأبواب الوقوف، والصدقات، إلى غير ذلك ممّا قد يكون محلّاً للتنازع والتشاجر، فانّ اعتبار العدلين في جميع ذلك إنّما هو من باب التهيؤ لإثبات المدّعى عند التنازع.

نعم، ورد اعتبار العدلين في أبواب رؤية الهلال، ولكنّ الظاهر ممّا دلّ على هذا المعنى أنّها إنّما تعتبر إذا أراد الحاكم أن يحكم بهما في حقّ جميع النّاس، فراجع

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 82

أبواب أحكام شهر رمضان، وما يثبت به الهلال.

وبالجملة لو لم ندع اليقين على هذا المعنى، فلا أقل من الإعتماد عليه عند ملاحظة مجموع ما دلّ على حجيّة خبر الواحد في الموضوعات مع ما دلّ على اعتبار البيّنة فيها (فراجع وتدبر).

ملاك حجيّة خبر الواحد

بقي هنا شي ء: وهو أنّه بناءاً على حجيّة خبر الواحد في الموضوعات هل يعتبر فيها «العدالة» أو يكفي «الوثوق» فقط؟ كما هو المختار عندنا وعند جلّ المعاصرين، أو كلّهم، في

حجيّة خبر الواحد في الأحكام.

الظاهر أنّه يتفاوت الحال بتفاوت الأدلّة في المسألة، فإنّ كان الدليل هو آية النبأ فظاهرها اعتبار العدالة لأنّها المقابلة للفسق، وإن كان الدليل هو الأخبار الخاصّة الواردة في الابواب المختلفة فمقتضاها متفاوت، ففي بعضها اعتبار العدالة مثل ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: «إذا رأيتمّ الهلال فافطروا، أو شهد عليه عدل من المسلمين» «1».

ولكن وقع التصريح بالوثاقة في كثير من رواياتها كما يظهربالدقة فيما مرّ عليك من أدلّة المسألة، والجمع بينهما ممكن بحمل العدالة على الوثاقة.

وهكذا ما ورد من التعبير بالصداقة في قوله: «فأتاني رجل مسلم صادق» فيما ورد في أبواب الوصيّة فانّه راجع إلى الوثاقة، والمتحصّل من جميعها اعتبار الوثوق، وحينئذٍ يمكن الجمع بينها وبين مفهوم آية النبأ بحمل العدالة فيهما أيضاً على الوثاقة، ويؤيده ما ورد من التعليل في الآية بقوله تعالى: «أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ» «2»

. فإنّ الإصابة بالجهالة، أو حصول الندامة إنّما هو من آثار عدم الوثوق، لا الفسق فيما لا يرتبط بالإخبار، فإذا كان إنسان متحرّزاً عن

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 83

الكذب يمكن الوثوق بقوله، وهو داخل في مفهوم الآية، ولا يكون العمل بقوله معرضاً للندامة.

وأظهر من الجميع إذا كان الدليل بناء العقلاء أنّه لا شك أنّ بنائهم على الاعتماد بخبر الثقة، من دون ملاحظة العدالة فيما لا يرتبط بالاخبار، فاذن لا يبقى شك في كفاية الوثوق، وعدم اشتراط العدالة تعبداً.

وقد صرح بما ذكرنا بعض المتأخرين والمعاصرين قال في «مصباح الفقيه»:

«الأظهر عدم اشتراط العدالة المصطلحة، وكفاية كون المخبر ثقة مأموناً محترزاً عن الكذب لاستقرار سيرة العقلاء على الاعتماد على أخبار الثقات في الحسيّات التي لا يتطرق فيها احتمال الخطأ، احتمالًا

يعتد به، لديهم ممّا يتعلق بمعاشهم ومعادهم، وليست حجيّة خبر الثقة لدى العقلاء إلّاكحجّة ظواهر الالفاظ» «1».

وقال في «التنقيح»: «لا تعتبر العدالة أيضاً في حجيّة الخبر، لأنّ العقلاء لا يخصصون اعتباره بما إذا كان المخبر متجنباً عن المعاصي، وغير تارك للواجبات، إذ المدار عندهم على كون المخبر موثوقاً به، وإن كان فاسقاً أو خارجاً عن المذهب» «2».

وقال المحقق المامقاني في كلام له عند بيان الحاجة إلى علم الرجال ما نصه: «إن الحق الحقيق بالقبول ... إن العمل بالاخبار إنّما هو من باب الوثوق والاطمئنان العقلاي، ومن البيّن الذي لامرية فيه لذي مسكة في مدخلية أحوال الرجال في حصول الوثوق وعدمه وزواله، فالأخذ بالخبرمن دون رجوع إلى أحوال رجاله تقصير في الاجتهاد، وهو غير جائز، كما لا يجوز الفتوى قبل بذل تمام الوسع» «3».

بقي هنا أمران

أحدهما: أنّه هل يعتبر الوثوق الفعلي (الشخصي) أو يكفي الوثوق النّوعي؟

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 84

المصرّح به عن غير واحد منهم في باب حجيّة خبر الواحد في الأحكام، وعن بعضهم في الموضوعات، كفاية الوثوق النّوعي، وعدم الحاجة إلى الوثوق الفعلي الشخصي.

والظاهر أنّ الدليل عليه هو بناء العقلاء واحتجاجهم بخبر الثّقات فيما إذا أخبروا بموضوع أو حكم، فإنّهم يرونه حجّة على العبيد، ومن شابههم، ولا يصغون إلى إعتذارهم بعدم حصول الوثوق الفعلي، اللّهم إلّاأن يكون هناك قرائن خاصّة توجب اتهام المخبر في خبره، وحينئذٍ لا يبعد ردّه، قبول العذر بوجودها.

ثانيهما: هل يكفي مجرّد الوثوق بالرواية، وان لم يوثق بالرّاوي، بأن كان الراوي فاسقاً كذّاباً، أو مجهول الحال، ولكن حصل من القرائن الخارجيّة وثوق بنفس الرّواية، فهل تكون حجّة؟ وهل يحتجّ به أم لا؟

الظاهر أنّه كذلك لجريان سيرة العقلاء أيضاً عليه، فإنّهم يعتمدون على أخبار

تدلّ القرائن على صحة مضمونها، بحيث يحصل الوثوق بها، وإن لم تبلغ حدّ العلم، ويحتجّون بمثل هذه الأخبار.

ومن هذا الباب ما هو المعروف من المتأخّرين والمعاصرين من حجيّة خبر الضعيف أو المجهول إذا عمل به المشهور، فينجبر ضعفه بعملهم، وليس هذا إلّامن جهة الوثوق بنفس الرّواية، وإن كان الرّاوي غيرموثوق به.

وكذلك ما قال به بعضهم من الإعتماد على الأخبار المرويّة في الكتب المعتبرة المعروفة، وإن كانت هذه القرينة محّلًا للكلام بينهم من حيث الصّغرى، وأنّها توجب الوثوق أم لا؟

ومن هذا الباب أيضاً ما ترويه وكالات الأنباء في عصرنا من الأخبار المختلفة المرتبطة بموضوعات شتّى في العالم، فكثيراً ما يعتمدون على أخبارهم في نقل بعض الأمور، وإن كانوا فاسقين وكذّابين، وليس ذلك إلّامن جهة الوثوق الحاصل بنفس الخبر بالقرائن المختلفة في مواضع خاصّة.

هذا تمام الكلام في حجيّة خبر الواحد في الموضوعات وما يتربط بها، (والحمدُ للّه).

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 85

13 قاعدة حجيّة قول ذي اليد

ما المراد بذي اليد؟

المراد من ذي اليد في هذا الباب هو من كانت له سلطنة على شي ء، إمّا من جهة الملك، أو الأمانة، أو الإجارة، أو العارية، أو غير ذلك، بل ولو كان التسلّط من ناحية التربية، كسلطة الأب والام على الطفل، بالنسبة إلى إخبارهم عن طهارته ونجاسته وغير ذلك ممّا يمسّ به، وكذلك سلطة الإمام والفقيه ومن يكون منصوباً من قبله بالنسبة إلى ما يقع تحت حكومتهم.

وبالجملة، لهذا العنوان هنا معنىً وسيع، ومنه يظهر أنّ دائرة هذه القاعدة أوسع بمراتب من قاعدة اليد، وأنّها تكون حجّة على الملكيّة فقط، ويستفاد من هذه القاعدة ما لا يستفاد من قاعدة اليد.

وهنا فرق آخر بين القاعدتين وهو أنّ اليد في قاعدة اليد بنفسها دليل على الملكيّة، ولو لم يخبر بها صاحب

اليد، وأمّا ذواليد في هذه القاعدة إنّما يعتبر إخباره بشرائطه، ومجرّد كونه ذا اليد لا يكفي في إثبات شي ء.

إذا عرفت هذا فلنرجع إلى الأقوال في المسألة:

أقوال الفقهاء في مسألة حجيّة قول ذي اليد

هذه القاعدة كغيرها من القواعد الفقهيّة، ولم يبحث عنه في كلماتهم بحثاً

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 88

مستقلًا، وإنّما تكلّموا فيها تبعاً واستطراداً في طيّ المسائل الفقهيّة بعنوان الاستدلال على كثير من المسائل، وقد ذكرنا في أول الكتاب أنّ المشكلة المهمّة في القواعد الفقهيّة هي هذا المعنى، حيث لا يُرى بحث مستقل عنها، لا في الفقه، ولا في الأصول، ولم ينعقد لها باب إلّافي موارد قليلة، فحالها أشبه شي ء بحال المشرّدين الذين لا يأوون داراً فانّ ولا يستقرون قراراً.

وعلى كلّ حال، فإنّ الناظر في أبواب الفقه يرى استدلالهم بهذه القاعدة في موارد كثيرة، بحيث يظهر له منها أنّ الحكم لا يختصّ بباب دون باب، بل هي عندهم قاعدة عامّة تشمل الأبواب كلّها إلّاما خرج بالدليل، وإليك نماذج من كلماتهم (ره):

قال الشيخ رحمه الله في «الخلاف» في كتاب «الزكاة»:

إذا قال ربّ المال: المال عندي وديعة أو لم يحل عليه الحول، قبل منه قوله، ولا يطالب باليمين، سواء كان خلافاً للظاهر أو لم يكن.

وقال الشافعي: «إذا اختلفا فالقول قول ربّ المال فيما لا يخالف الظاهر، وعليه اليمين استحباباً» «1».

وقال أيضاً في كتاب العارية: «إذا اختلف صاحب الدّابة والراكب، وقال الراكب:

أعرتنيها، وقال صاحب الدابة: اكريتكها، فإنّ القول قول الراكب مع يمينه» «2».

وقال أيضاً: «إذا اختلف الزّارع وصاحب الأرض، وقال الزارع: اعرتنيها، وقال صاحبها: اكتريتكها كان القول قول الزّارع مع يمينه» «3».

وقال أيضاً: «إذا اختلفا وقال صاحب الدّابة: غصبتها، وقال الرّاكب: بل اعرتنيها فالقول قول الراكب» «4».

وإلزام ذي اليد باليمين في موارد التنازع لا ينافي

حجيّة إخباره، كما أنّ حجيّة

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 89

اليد ودلالتها على الملكيّة لا تنافي اليمين عند التداعي، فإنّ اليمين حقّ المدّعي على المنكر في باب القضاء، وأمّا في غيره فهو حجّة مجرّداً عن اليمين.

وأمّا عدم ذكر اليمين في المسألة الأخيرة في تنازع صاحب الدابّة والراكب، فالظاهر أنّه من باب الإيكال على وضوحه وإلّا فاليمين لازم في جميع هذه الأبواب.

وقال العلّامة رحمه الله في «القواعد» في كتاب الطهارة: «ولو أخبر الفاسق بنجاسة مائه أو طهارته قبل» «1».

وقال في باب الزكاة: «ويصدّق المالك في الإخراج من غير بيّنة ولا يمين» «2».

كما أنّه قال في أبواب القضاء: «وإذا كان في يده صغيرة فادّعى رقّيتها حكم له بذلك»»

.وجميع ذلك دليل على قبول قول ذي اليد بالنسبة إلى ما في يده، وإن وردت في موارد خاصّة.

وقال في «التذكرة» في كتاب الزكاة: «إذا بعث الإمام السّاعي لم يتسلّط على أرباب المال، بل يطلب منهم الحق إن كان عليهم، فإن قال المالك أخرجت الزكاة، أو لم يحل على مالي الحول، أو أبدلته صدّقه» «4».

وعدم حلول الحول وكذا عدم تعلّق الزكاة وإن كان موافقاً للأصل إلّاأنّ أداء الزكاة لا يوافق الأصل، فالمرجع فيه قبول قول ذي اليد.

وقال صاحب الجواهر في كتاب الطهارة: «وكالبيّنة في القبول عندنا إخبار صاحب اليد المالك بنجاسة ما في يده، وإن كان فاسقاً، كما في المنتهى، والقواعد، والموجز، وكشف الإلتباس، وظاهر كشف، اللثام، بل عن الذخيرة أنّه المشهور بين المتأخّرين، كما في الحدائق أنّ ظاهر الأصحاب الإتفاق عليه ... ثمّ استدل على ذلك بالسّيرة

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 90

المستمرة القاطعة، واستقراء موارد قبول إخبار ذي اليد بما هو أعظم من ذلك من الحلّ والحرمة» «1».

وقال في «الشرايع» في كتاب الوكالة:

«إذا إدّعى الوكيل التصرّف وأنكر الموكل، مثل أن يقول بعت أو قبضت، قيل: القول قول الوكيل، لأنّه أقرّ بما له أن يفعله، ولو قيل القول قول الموكّل أمكن ولكنّ الأول أشبه.

وأضاف في «الجواهر»: «بأصول المذهب وقواعده» «2».

ويمكن أن يكون المراد من أصول المذهب وقواعده قاعدة من ملك شيئاً ملك الإقرار به، كما صرّح به في بعض كلماته، وقاعدة حجيّة قول ذي اليد.

وقال في كتاب القضاء: «الصغير المجهول النسب إذا كان في يد واحد إدّعى رقّيته قضى بذلك ظاهراً، وكذا لو كان في يد اثنين، بلا خلاف أجده فيه، وإن كان الأصل فيه الحريّة، إلّاأنّ رقّيته أمر ممكن، وقد ادّعاه ذواليد، ولا منازع له، فيحكم به، بل في التحرير والمسالك لا يلتفت إلى إنكاره بعد البلوغ، لسبق الحكم برقّيته» «3».

إلى غير ذلك ممّا هو كثير في كلماتهم في مختلف أبواب الفقه.

وصرح المحقّق اليزدي رحمه الله بحجيّة قول ذي اليد في الطّهارة، والنجاسة، سواء كان يملك، أو إجارة، أو إعارة، أو أمانة، بل أو غصب، وحجيّة قول الزوجة أو الخادمة إذا أخبرتا بنجاسة ما في أيديهنّ من ثياب الزوج أو أواني البيت، وغير ذلك كما يظهر لمن راجعها.

كما صرّح المحقّق الهمداني رحمه الله في طهارته بحجيّة إخبار صاحب اليد في النجاسة على المشهور، كما إدّعاه بعض، بل يظهر من غير واحد علي ما حكي عنهم عدم الخلاف فيه، وعمدة المستند في اعتبار قول ذي اليد هو السيرة القطعية، واستقرار طريقة العقلاء على استكشافها للأشياء، وتمييز موضوعاتها بالرجوع إلى من كان متولّياً عليه متصرّفاً فيه «4».

أدلّة القاعدة

اشارة

عمدة ما يدلّ على حجيّة قول ذي اليد أمران:

1- الأخبار الخاصّة الواردة في مختلف أبواب الفقه، بحيث يمكن أن يصطاد منها العموم.

2-

و بناء العقلاء على ذلك في جميع أمورهم إلّاما خرج بالدليل، وقد أمضاه الشرع.

ولنرجع إلى بيان كلّ منهما.

1- الأخبار

وهي كثيرة «منها» روايات عديدة وردت في أبواب الطهارة والنّجاسة مثل ما يلي:

1- ما رواه احمد بن محمد بن أبي نصر (البزنطي) قال: «سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبّة فراء لا يدري أذكية هي أم غير ذكيّة؟ أيصلّى فيها؟ فقال: نعم ليس عليكم المسألة» (الحديث) «1».

وظاهره أنّه إذا سأل وأخبره صاحب اليد بأنّها غير ذكيّة، يجب قبول قوله ولا يصلّي فيه، اللّهم إلّاأن يقال إنّ ذا اليد إذا أخبر بعدم التذكيّة يحصل الاطمئنان بقوله لأنّه بصدد إصلاح أمره، وتحسين متاعه، فهو لا يخبر بوجود العيب فيه إلّاإذا كان قطعياً.

نعم، بناءاً على وجود جمع ممّن يرى طهارة الميتة بالدباغة في السوق في تلك الأيام يمكن دفع هذا الإشكال.

وأمّا إخباره بالتذكيّة فليس قبوله من باب قبول قول ذي اليد، بل من باب حجيّة سوق المسلمين المصرّح بها في صدر الرواية، أعني أنّ إخباره وعدم إخباره بالتذكيّة سيّان إذا اشتراه من سوق المسلمين.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 92

2- ما رواه عبد الرّحمن بن حجّاج قال: «قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: إنّي أدخل سوق المسلمين، أعني هذا الخلق الذين يدّعون الإسلام، فاشتري منهم الفراء للتّجارة، فأقول لصاحبها: أليس هي ذكيّة؟ فيقول: بلى، فهل يصلح لي أن أبيعها على أنّها ذكيّة؟ فقال: لا، ولكن لا بأس أن تبيعها وتقول: قد شرط لي الذي اشتريتها منه أنّها ذكيّة، قلت: وما أفسد ذلك؟ قال: استحلال أهل العراق للميتة، وزعموا أنّ دباغ جلد الميتة ذكاته» (الحديث) «1».

وهذا الحديث أظهر من سابقه، وأسلم من بعض الإشكالات التي مرّت، لأنّ الإعتماد فيه على إخبار ذي اليد لا

على سوق المسلمين مضافاً إلى عدم كون المورد ممّا يحصل اليقين فيه بالإخبار.

3- ما رواه عبداللَّه بن بكير قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن رجل أعار رجلًا ثوباً فصلّى فيه وهو لا يصلّي فيه، قال: لا يعلمه، قال: قلت: فانّ اعلمه؟ قال: يعيد» «2».

وذيل الحديث وإن كان معارضاً بما دلّ على عدم وجوب الإعادة لو أخبره، وهو رواية العيص بن قاسم عن أبي عبداللَّه عليه السلام «3» ولكنّ هذا لا ينافي العمل بصدره، حيث دلّ على قبول إخبار صاحب اليد، بناءاً على قبول التفكيك في الإخبار من حيث العمل، أو يحمل الأمر بالإعادة على الإستحباب.

ومنها: ما ورد في أبواب الصيد والذبائح:

مثل ما رواه محمد بن مسلم وغيره أنّهم سألوا أبا جعفر عليه السلام عن شراء اللّحوم من الأسواق ولا يدري ما صنع القصّابون، فقال: «كُلْ إذا كان ذلك في سوق المسلمين ولا تسأل عنه» «4».

فإنّ النهي عن السؤال دليل على أنّه إذا سأل وأخبر ذو اليد فقوله حجّة، وإلّا كان

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 93

السؤال وعدمه سيّان، وهو خلاف ظاهر الرواية.

ومنها: ما ورد في أبواب الأطعمة والأشربة:

1- ما رواه بكر بن حبيب قال: «سُئل أبو عبداللَّه عليه السلام عن الجبن وأنّه توضع فيه الأنفحة من الميتة، قال: لا تصلح، ثم أرسل بدرهم، فقال: اشتر من رجل مسلم ولا تسأله عن شي ء» «1»، ودلالته على المطلوب بعين ما مرّ في سابقه.

2- ما رواه حمّاد بن عيسى قال: سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: كان أبي يبعث بالدراهم إلى السوق، فيشترى بها جبناً ويسمّي ويأكلّ ولا يسأل عنه» «2».

ومنها: ما ورد في أبواب الزكاة من تصديق قول ربّ المال في عدم تعلّق الزكاة بماله، أو أدائه

بعد تعلّقه:

مثل ما رواه غياث بن ابراهيم، عن جعفر، عن أبيه عليه السلام قال: «كان عليّ عليه السلام إذا بعث مصدّقه قال له: إذا أتيت على ربّ المال فقل: تصدّق رحمك اللَّه ممّا أعطاك اللَّه، فإنّ ولىّ عنك فلا تراجعه» «3» فانّ التولّي هنا بمنزلة جوابه بنفي تعلّق الزكاة بماله أو أدائه بعد تعلّقه.

وما رواه بريد بن معاوية قال: «سمعت أبا عبداللَّه عليه السلام يقول: بعث أمير المؤمنين عليه السلام مصدّقاً من الكوفة إلى باديتها فقال له: ...- إلى أن قال- فإن قال لك قائل: لا، فلا تراجعه ...» «4» والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة.

ورواه السيد السند الرضي رحمه الله في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام بعبارات أخرى «5».

ومنها: ما روي في أبواب ما يكتسب به من كتاب التجارة في باب بيع الدّهن المتنجس.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 94

مثل ما عن معاوية بن وهب وغيره، عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «في جُرذٍ مات في زيت ما تقول في بيع ذلك؟ فقال: بعه وبيّنه لمن اشتراه ليستصبح به» «1».

وما عن إسماعيل بن عبدالخالق، عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «- إلى أن قال- أمّا الزيت فلا تبعه إلّالمن تبيّن له، فيبتاع للسّراج» «2». فإنّهما ظاهرتان في أن تبيّين البائع وإخباره حجّة للمشتري، نعم، يرد عليهما ما أشرنا إليه سابقاً من أنّ إخبار ذي اليد إذا كان فيما فيه ضرره فهو يوجب القطع أو الاطمئنان غالباً.

ومنها: ما ورد في أبواب نكاح العبيد والإماء وقبول قول البائع في أنّها غير موطوءة.

مثل ما رواه زرارة قال: «اشتريت جارية بالبصرة من امرأة فخبرتني أنّه لم يطأها أحد، فوقعت عليها ولم أستبرئها فسألت عن ذلك أبا جعفر عليه السلام قال: هو

ذا، قد فعلت ذلك وما اريد أن أعود» «3».

وظهور ذيله في الكراهة لعلّه من جهة غلبة كون الإماء موطوءة ذاك اليوم.

ولا ينافي ذلك ما ورد في هذا الباب من تقييد قبول خبر البائع بكونه صادقاً، أو مأموناً، لإمكان استناده إلى ما عرفت من الغلبة وظهور الحال في الإماء، فراجع الباب «6» من أبواب نكاح العبيد والإماء ترى فيه ما يدلّ على أنّ هذا القيد إنّما هو لرفع الكرهة فتأمّل.

ومنها: ما ورد أيضاً في أبواب التجارة، في باب جواز الشراء على تصديق البائع في الكيل من دون إعادته:

مثل ما رواه محمد بن حمران قال: «قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: اشترينا طعاماً فزعم صاحبه أنّه كاله، فصدّقناه، وأخذناه بكيله، فقال: لا بأس، فقلت: أيجوز أن أبيعه كما

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 95

اشتريته بكيل؟ قال: لا، أمّا أنت فلا تبعه حتى تكيله» «1»، حيث دلّ على جواز الإعتماد على إخبار صاحب اليد بأنّه قد كاله، وأمّا عدم جواز بيعه بعد ذلك بغير كيل فلعلّه من جهة أنّ ظاهر حال البائع أنّه قد كاله بنفسه أو محمول على الإستحباب.

وما رواه سماعة قال: «سألته عن شراء الطعام وما يكال ويوزن، هل يصلح شراؤه بغير كيل ولا وزن؟ فقال: «أمّا أن تأتي رجلًا في طعام قد كيل ووزن تشتري منه مرابحة فلا بأس إن اشتريته منه ولم تكله ولم تزنه، إذا كان المشتري الأول قد أخذه بكيل أو وزن وقلت له عند البيع: إنّي اربحك كذا وكذا، وقد رضيت بكيلك ووزنك فلا بأس» «2».

والكيل والوزن هنا وإن كان مفروض الوجود في الرّواية، ولكنّ العلم على مقداره لا يكون إلّامن ناحية إخبار ذي اليد والإعتماد عليه.

وما رواه عبدالرحمن بن أبي عبداللَّه أنّه «سأل

أبا عبداللَّه عليه السلام عن الرّجل يشتري الطعام، اشتريه منه بكيله وأصدّقه؟ فقال: «لا بأس، ولكن لا تبعه حتى تكيله» «3».

إلى غير ذلك ممّا يدلّ على هذا المعنى.

ومنها: ما ورد في أبواب الزكاة أيضاً في كفاية الإعتماد على قول المالك في أبواب المضاربة بأنّهم أدّوا زكاته:

مثل ما رواه سماعة قال: «سألته عن الرّجل يكون معه المال مضاربة هل عليه في ذلك المال زكاة إذا كان يتّجر به؟ فقال: ينبغي له أن يقول لأصحاب امال زكاة، فان قالوا: إنّا نزكّيه، فليس عليه غير ذلك، وإن هم أمروه بأن يزكّيه فليفعل» «4».

نعم، يمكن الإيراد عليه بأنّ إخبار ذي اليد هنا محفوف بفعل المسلم وتصرفاته ولو بالواسطة، ومقتضى حمل فعل المسلم على الصّحة كون هذه التصرّفات مباحة أخبر أو لم يخبر.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 96

فهذه ستة عشر رواية، والأخبار في ذلك كثيرة جدّاً، وهي وإن وردت في موارد خاصّة إلّاأنّه يمكن استفادة العموم منها بعد إلغاء الخصوصيّة عنها قطعاً.

2- بناء العقلاء
اشارة

وهذه القاعدة مثل جلّ القواعد الفقهيّة أو كلّها عقلائيّة قبل أن تكون شرعيّة، وفي الحقيقة أنّ الشارع أمضاها لا أنّه أسّسها.

ويظهر ذلك بالرجوع إلى أهل العرف والعقلاء، فانّهم يعتمدون على إخبار ذي اليد، سواء كان مالكاً، أو وكيلا، أو أجيراً، أو ولياً، أو غير ذلك من أنحاء التسلّط على مال، أو إنسان صغير، أو شبه ذلك، ويحتجون بذلك في المخاصمات ما لم يكن ذو اليد متهماً في قوله، ولا يشترطون في ذلك العدالة، أو الوثاقة المعتبرة في حجيّة خبر الواحد على نحو العموم، وهذا أمر ظاهر لمن راجعهم، واختبر أحوالهم.

وحيث إنّ الشارع لم يمنع منه بل أمضاه- كما عرفته- في موارد كثيرة، فيمكن الاعتماد عليه كقاعدة شرعيّة، ويظهر ذلك

أيضاً من كلمات الفقهاء التي مرّ عليك ذكرها عند نقل الأقوال في هذه المسألة.

بقى هنا أمور:

الأوّل: حجيّة قول ذي اليد هل هي من الأمارات أو من الاصول؟

قد عرفت آنفاً أنّ هذه القاعدة من القواعد العقلائيّة، والشارع أمضاها، ومن الواضح أنّ اعتماد العقلاء عليها ليس من باب التعبّد المحض، لا نقول إنّ التعبّد في أمور العقلاء غير معقول- كما ذكره بعض محقّقي المتأخّرين- بل نقول إنّ التعبّد في ما بينهم وإن كان معقولًا مثل تعبّدهم بالقرعة، فانّه لا كاشفية له عن الواقع عندهم، بل قد لا يكون في موردها واقعاً مجهولًا تكشف عنه القرعة، كما في موارد قسمة

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 97

الأموال بين الشركاء، ولكن ما نحن فيه ليس من التعبّد، بل الظاهر أنّهم يعتمدون على قول ذي اليد بما أنّه كاشف عن الواقع وأمارة عليه، لأنّه أعلم وأعرف بما في يده من غيره.

والحاصل أنّ جميع الخصوصيات الموجودة في الأمارات موجودة هنا، فإنّ ذا اليد غالباً أبصر بما في يده من غيره، فيكون إخباره عنه كاشفاً عن الواقع المجهول.

الثاني: هل يعتبر فيه العدالة أو الوثاقة؟

لا يخفى على الناظر في أخبار الباب أنّ إطلاقها ينفي اعتبار العدالة والوثاقة، وظاهرها قبول قول ذي اليد سواء كان عادلًا، أو ثقة، أو لا، وهكذا فتاوى الأصحاب مطلقة من هذه الجهة، حتى أنّ بعضهم تردد في اعتبار الإسلام فيه، واحتمل قبول قوله وإن كان كافراً، بل أفتى بعضهم باعتباره مطلقاً.

قال المحقّق اليزدي رحمه الله في «العروة»: «لا فرق في اعتبار قول ذي اليد بالنجاسة بين أن يكون فاسقاً، أو عادلًا، بل مسلماً، أو كافراً» «1»، وأقرّه على ذلك كثير من المحشين، وإن تأمل فيه بعضهم.

ويؤيّد ما ذكرنا بل يدلّ عليه عدم اعتبار شي ء من هذه القيود في بناء العقلاء عليه، الذي قد عرفت أنّه الأصل في هذه المسألة.

نعم، يستثنى من ذلك ما إذا كان ذو اليد متهمّاً في مقالته، أو يكون هناك

قرائن ظنيّة تدلّ على كذبه، وإن لم تبلغ حدّ الحجيّة، أو يكون ظاهر حاله مكذّباً لقوله، فإنّ بناء العقلاء على حجيّة أمثالها بعيد جدّاً، وأخبار الباب أيضاً منصرفة عنه، مثل ما إذا كان المخبر ممّن لا يبالي في إخباره، أو كان الخبر بالطّهارة مثلًا في موارد استصحاب النّجاسة يجلب له نفعاً كثيراً، وقد علمنا كذبه في مثل هذا الخبر في غير مورد، فانّ الاعتماد على إخباره مشكل جدّاً، بل ممنوع.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 98

ويدلّ عليه ما ورد في أبواب أحكام العصير عن معاوية بن عمّار قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن الرجل من أهل المعرفة بالحق يأتيني بالبختج، ويقول قد طبخ على الثلث، وأنا أعرف أنّه يشربه على النّصف، أفأشربه بقوله وهو يشربه على النّصف؟

فقال: لا تشربه، قلت: فرجل من غير أهل المعرفة ممّن لا نعرفه يشربه على الثلث، ولا يستحلّه على النصف، يخبرنا أنّ عندنا بختجاً على الثلث قد ذهب ثلثاه وبقى ثلثه يشرب منه؟ قال: نعم» «1».

وحاصل الحديث أنّ البختج- وهو العصير المطبوخ- إذا أتى به من يشربه بغير الثلثين بل بالنصف، ولكن أخبر بأنّه ذهب ثلثاه لا يقبل قوله، وإن كان مؤمناً عارفاً بالإمامة، لأنّ فعله يكذّب قوله، وأمّا إذا أتى به من يشربه على الثلث وأخبر بذلك يُقبل قوله، وإن كان من غير أهل الإيمان، لعدم تكذيب قوله فعله، فيستفاد منه عدم الاهتمام أولًا، وعدم اعتبار الإيمان ثانياً.

وتخصيص بعضهم هذا الحديث بمورده، وعدم التعدّي عنه إلى كلّ متّهم في إخباره، أو حمله على خصوص من يكون سبب اتهامه تكذيب فعله قوله بعيد جدّاً، بعد ما عرفت في أدلّة المسألة، بل الظاهر أنّ مورد الحديث فرع من فروع اتهام المخبر ومصداق

من مصاديقه الكثيرة.

ومن هنا يظهر أنّ ما ورد في غير واحد من الأخبار من اعتبار الإسلام والمعرفة أو الإيمان والورع في من يخبر عن العصير المطبوخ على الثلث- كما في قوله فيما رواه علي بن جعفر، عن أخيه قال: «سألته عن الرجل يصلّي إلى القبلة لا يوثق به أتى بشراب يزعم أنّه على الثلث، فيحل شربه؟ قال: لا يصدّق إلّاأن يكون مسلماً عارفاً» «2»، إنّما هو ناظر إلى موارد التهمة، فإنّ أمر العصير كان عندهم مشوّشاً جدّاً، اختلفت آراء الفقهاء فيه، كما اختلفت أعمال الناس فيه، ففي مثل هذه الموارد لا يمكن الركون إلّاإلى المؤمن الورع، لأنّ غيره مظنّة الإتهام.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 99

ويدلّ على ما ذكرنا أيضاً ما رواه إسماعيل بن عيسى قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن جلود الفراء يشتريها الرجل من أسواق المسلمين، أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع غير عارف؟ قال: عليكم أن تسألوا عنه إذا رأيتمّ المشركين يبيعون ذلك وإذا رأيتمّ يصلّون فيه فلا تسألوا عنه» «1».

فإنّ ظاهره كفاية إخبار المشركين عن ذكاة الجلود، والاعتماد على إخبارهم (ما لم يكونوا متّهمين).

الثالث: تعارض الأمارة وإخبار ذي اليد

إذا تعارض إخبار ذي اليد مع البيّنة، فهل تتساقطان، أو تقدّم البيّنة على قول ذي اليد؟

الظاهر تقديمها عليه، لا لقصور أدلّة حجيّة قول ذي اليد كما قيل «2»، بل من جهة كون البيّنة أقوى منه، ولذا تقدّم البيّنة على نفس اليد في أبواب القضاء والدعاوى، بل لو لم تقدم البيّنة على اليد لم يبق لمدّعي الملكيّة في مقابل الغاصب دليل غالباً، فتقديمها على إخبار صاحب اليد بطريق أولى، وعليه جرت سيرة العقلاء فيما بينهم من حجيّة قول ذي اليد.

لكن هذا إذا كانت البيّنة مستندة إلى العلم فلو كانت

مستندة إلى الأصل فلا تكون أقوى، فيقدّم قول ذي اليد عليها إذا كان قوله مستنداً إلى علمه، فتدبّر.

وإذا تعارض قول ذي اليد مع ذي اليد الآخر كما في الشريكين المسلّطين على شي ء واحد، يخبر هذا بأنّه نجس والآخر بأنّه طاهر، أو تعارض قول صاحب اليد الموجودة مع قول صاحب اليد الذي كان سابقاً، كما إذا أخبر من بيده الدّهن اليوم بأنّه طاهر، وأخبر من كان بيده أمس أنّه نجس.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 100

أمّا الأوّل فلا شك في تساقطهما بعد التّعارض وعدم الترجيح.

وأمّا إذا تعارض إخبار ذي اليد القديمة مع ذي اليد الجديدة الحاليّة فهل يقدّم قول الأول أو الثاني؟ الظاهر تقديم قول الثاني لأنّه ذو اليد فعلًا، نعم، لو أخبر بأنّ العين كانت نجسة في الأمس مثلًا حينما كانت تحت يده، وكان صاحب اليد فعلًا مخبراً بطهارته بناء على عدم علمه بالنّجاسة من باب أصالة الطهارة، فتقديم قول السابق غير بعيد، كما أنّه لو أخبر صاحب اليد الجديدة بأنّه طهّره فلا شك في تقديم قوله على صاحب اليد القديمة لعدم المنافاة بينهما.

وهذه المسألة من بعض الجهات تشبه ما ذكروه في كتاب القضاء في تداعي شخصين على عين واحدة، أحدهما صاحب اليد فعلًا، وقامت البيّنة بكون الآخر صاحب اليد أمس، وإن كانت تخالفه من بعض الجهات «1».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 101

14 قاعدة الحيازة

سببيّة الحيازة للملك

المعروف بين العلماء أنّ من حاز شيئاً ملكه، حتى جلعوها قاعدة مستقلة برأسها، واستدلّوا بها على الملكيّة في موارد مختلفة، تحت عنوان «من حاز ملك»، وستعرف إن شاءاللَّه أنّه لم يرد بهذا العنوان نصّ خاص، بل اصطادوها من نصوص مختلفة، واردة في أبواب الفقه، ولكن لم نر من تعرّض لهذه القاعدة بشكل مستقل، بل وقعت

الإشارة منهم إليها في طيّات المسائل المختلفة.

قال المحقق رحمه الله في «كتاب الشركة» من «الشرايع»: «والأشبه في الحيازة اختصاص كلّ واحد بما حازه» «1».

وقال في آخر «كتاب الشركة»: «التاسعة: إذا استأجر للإحتطاب أو الاحتشاش أو الإصطياد مدّة معينة صحّت الإجارة، ويملك المستأجر ما يحصل من ذلك في تلك المدّة» «2».

ولكن عدّ الإلتقاط، والاحتطاب، والاحتشاش في كتاب «الوكالة»، ممّا لا تصحّ النيابة فيه.

ولا يخفى التهافت بين كلاميه في كتابي «الوكالة» و «الإجارة».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 104

وقال في «المسالك» في «كتاب الشركة»: «والأشبه في الحيازة اختصاص كلّ واحد بما حازه من الحيازة» «1».

وسيأتي الكلام إن شاءاللَّه مستقصى في معنى الحيازة، وهل أنّها مجرّد السلطة على شي ء من دون الحاجة إلى النيّة، أو أنّها أمر قصدي مضافاً إلى السلطة لا تصحّ إلّا للمباشر، أو هي سلطة مع النيّة، ولكنّها تقبل الوكالة والنّيابة، وتصحّ من المباشر وغير المباشر، أو أنّها تابعة لملك المنافع فمن ملك منفعة إنسان بالإجارة أو غيرها تملّك ما حازه، قصد أم لم يقصد.

ولكن يتمّ هذا البحث بعد بيان مصادر القاعدة، وتحقيق مؤدّاها فنقول ومن اللَّه نستمد التوفيق:

مصدر القاعدة

الأول: بناء العقلاء

وهذه القاعدة كغيرها من القواعد الفقهيّة متّخذة من بناء العقلاء، ومضاها الشارع مع قيود، أو بغير قيد، فلنرجع أولًا إلى بناء العقلاء في ذلك ونقول:

إن اللَّه خلق الإنسان وأودع فيه ودايع قيّمة ليعبده ويتقرّب إليه، وبما أنّه مركّب من الجسم والرّوح خلق له في الأرض ما يتقوّى به جسمه، فقال تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ»»

فرخّص له الإنتفاع بمواهبها، والتمتّع من نعمها، وإذا رجعنا إلى ابتداء خلق الإنسان في الأرض نرى أنّه لم يكن

مالكاً لشي ء، ثم اختصّ بأشياء، ولم يكن ذلك إلّا من طريق الحيازة.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 105

فكلّ من يسيطر على شي ء ويحوزه، من منابع الأرض ومواهبها، يرى لنفسه اختصاصاً به ويرى لذلك الشي ء اختصاصاً به ومن هنا نشأ عنوان الملكيّة.

وقد كان كثير من الأشياء الموجودة على الأرض لا يمكن الإنتفاع بها قبل إصلاحها والعمل فيها، فكان يعمل فيها بما يصلحها، ويعدّها لحوائجه، فكان العمل سبباً آخر للملكيّة.

ومن هنا يعلم أنّ جميع الأملاك الموجودة للإنسان ترجع إلى أحد هذين السببين: «الحيازة» و «العمل»، فلولا الحيازة أو العمل لم يكن هناك ملك، وهذا أوضح دليل على أنّ الحيازة من أسباب الملك، لأنّ جميعها بالمآل يرجع إليه.

ثم بعث اللَّه الرسل وأنزل الكتب السماويّة لهداية الإنسان إلى غاية خلقه، وإيصاله إلى كمال مطلوبه، وإصلاح أمور معاشه ومعاده، وهم قد قرّروا للُامم كثيراً من أمورهم العقلائيّة، ومنها الحيازة، فلم ينكر أحد منهم سببيّة الحيازة للملك، وكذا سببيّة العمل له.

نعم، ذكروا لها شروطاً وقيوداً اجتناباً من مفاسدها، وتكميلًا لمصالحها.

إلى أنّ جاء نبيّنا محمد صلى الله عليه و آله وأنزل عليه القرآن، فهو أيضاً أقرّ امّته على ذلك، ولم يمنع منه، بل أثار في نفوسهم الشوق إلى إحياء الأرض، وحيازة منابعها، ومواهبها، وصرفها في المعروف، وما يكون فيه رضا الرّب.

وهذه السيرة العقلائيّة من أقوى السير، ومن أقدمها، فهي أحرى بالحجيّة من غيرها.

كما أنّ إمضاء الشرع لها أظهر من الجميع، فقد كانت حيازة المباحات طول الليل والنّهار، وفي جميع أيام السنة، بمشهد الشارع وبمسمعه، ولم ينكر على أحد في ذلك، بل أكّده، وجرى عمله وعمل أصحابه عليه، فإذن لا يبقى أيّ شك في كون الحيازة- على إجمالها- سبباً للملك.

الثاني: السنّة
اشارة

الحقّ كما صرّح به بعضهم

أنّ تعبير ب «من حاز ملك» لم يوجد في شي ء من روايات العامّة ولا الخاصّة، وإن كان يظهر من بعض كلمات الفقيه الماهر صاحب الجواهر رحمه الله أنّ هذه العبارة من أقوال المعصومين، «1» ولكن يمكن حملها- بقرينة ما عرفت- على كون هذه القاعدة الكليّة مصطادة من رواياتهم الخاصّة، فتأمّل.

وإذ عرفت هذا فاعلم أنّ هناك روايات كثيرة واردة في أبواب الحيازة و إحياء الموات، ممّا يدلّ عموماً أو خصوصاً على هذا الحكم الكلّي.

1- منها ما عن أبي جعفر وأبي عبداللَّه عليهما السلام قالا: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: من أحيى أرضاً مواتاً فهى له» «2».

إلى غير ذلك ممّا ورد في «باب إحياء الأراضي الموات»، وقد جمعها صاحب الوسائل في الباب الأوّل من كتاب احياء الموات.

والتعبير فيها وإن كان بالإحياء، إلّاأنّه من باب أنّ الحيازة في الأراضي لا تكون إلّا بالإحياء، أو أنّ الشارع أضاف الإحياء إلى الحيازة فيها، وعلى كلّ حال فهي تدلّ على أنّ الحيازة مطلقاً بناءاً على أنّها لا تكون في الأراضي إلّابالإحياء، أو مقيدةً بالإحياء بناءاً على كون الإحياء اخصّ منه، وسبباً للملكيّة.

وما قد يقال من أنّ الإحياء في الأراضي لا يوجب الملك، بل يوجب حقّ الأولويّة نظراً إلى ما ورد في بعض روايات الباب من التعبير بقوله: «فهم أحقّ بها» ممّا لا يصغى إليه، لأنّ الجمع بينهما يقتضي حمل الحق على الملك هنا، وتمام الكلام في هذا المعنى في محلّه.

2- منها ما ورد في «أبواب اللقطة» مثل ما عن عبداللَّه بن سنان، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «من أصاب مالًا أو بعيراً في فلات من الأرض قد كلّت وقامت وسيّبها صاحبها ممّا لم يتبعه، فأخذها غيره فأقام

عليها، وأنفق نفقته، حتى أحياها من

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 107

الكلال، ومن الموت، فهي له، ولا سبيل له عليها، وإنّما هي مثل الشي ء المباح» «1».

وقوله عليه السلام في ذيل الحديث: «إنّما هي مثل الشي ء المباح» دليل على عدم اختصاص الحكم بالدابّة المرسلة في الفلوات التي أعرض عنها صاحبها فأخذها غيره وأنفق عليها حتى أحياها من الموت، بل يشمل هذا الحكم كلّ مباح قد حازه إنسان، وممّا يدلّ على أنّ الحيازة توجب الملكيّة مطلقاً.

3- مثله رواية أخرى عن مسمع، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يقول: في الدابّة إذا سرّحها أهلها، أو عجزوا عن علفها أو نفقتها، فهي للذي أحياها» «2».

ولكن لم يرد في ذيلها الكبرى الكليّة التي ورد في ما قبلها.

بل يظهر ممّا ورد في ذيل هذه الرواية وهو قوله «إن كان تركها في كلاء وماء وأمن فهي له يأخذها متى شاء، وإن كان تركها في غير كلاء ولا ماء فهي لمن أحياها» أنّه يكفي في مقام الإثبات عند التنازع والتعارض ترك الدابّة في غير ماء ولا كلاء، فهو دليل الإعراض في الظاهر، فتصير من قبيل المباحات الأصلية، فهي لمن أحياها، وعلى كلّ حال لا ينبغي الريب في إلغاء الخصوصية من مورد الرواية.

4- ومثله ما رواه السكوني، عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قضى في رجل ترك دابّته من جهد، فقال: إن تركها في كلاء وماء وأمن فهي له يأخذها حيث أصابها، وإن تركها في خوف وعلى غير ماء ولا كلاء فهي لمن أصابها» «3».

5- ومنها ما ورد في أبواب اللقطة أيضاً في باب حكم صيد الطير المستوي الجناح وغيره، مثل ما عن السكوني، عن

جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه، عن علي عليهم السلام أنّه سأله عن رجل أبصر طيراً فتبعه حتى وقع على شجرة، فجاء رجل آخر فأخذه قال: «للعين ما رأت ولليد ما أخذت»! «4».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 108

والمعنى- واللَّه العالم- أنّ مجرّد الإبصار لا يكون مصداقاً للحيازة، فحظّ العين هو الرؤية فقط، والحيازة إنّما هي بالأخذ، فمن أخذها فهي له، لأنّ الحيازة حاصلة به لأنّا ذلك كان يسبب أخذه لها.

وهذا حديث عامّ دالّ على ملكيّة المباحات بأخذها، والسلطة عليها وحيازتها.

6- ومثله في خصوص الطير ما عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي قال:

«سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن الرجل يصيد الطير الذي يسوى دراهم كثير، وهو مستوي الجناحين، وهو يعرف صاحبه أيحلّ له إمساكه؟ فقال: إذا عرف صاحبه ردّه عليه، وإن لم يكن يعرفه وملك جناحه فهو له، وإن جاءك طالب لا تتهمه ردّه إليه» «1».

دلَّ على أنّ الطير الذي يصيده الإنسان حيّاً على أقسام:

تارة لا يستوي جناحاه، والظاهر أنّه بمعنى قطع شي ء من جناحيه، بالمقراض حتى لا يقدر على الفرار، وهو أمارة الملكيّة لغيره، فلا يجوز أخذه بعنوان الملكيّة، ويجب على آخذه ردّه إلى صاحبه مهما وجده. وأخرى يستوى جناحاه، وليس عليه أمارة الملك، فيأخذه، ولكن إن عرف صاحبه فعليه أيضاً ردّه إليه.

وثالثة يستوي جناحاه، ولكن يجي ء طالب يطلبه ممّن لا يكون متّهماً في قوله، فاللّازم ردّه إليه.

ورابعة لا يعرف له صاحباً، وهو مالك لجناحيه، وليس عليه أمارة الملك، فيأخذه وهو له.

وعلى كلّ حال هذه الرواية تدل دلالة صريحة على أنّ الطير لو كان في الواقع من المباحات الأصليّة يملكه آخذه.

7- وفي معناه روايات أخر عمل بها الأصحاب، وأفتوا بها، مثل ما

عن زرارة، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إذا ملك الطائر جناحه فهو لمن أخذه» «2».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 109

8- وما عن إسماعيل بن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قلت له: الطائر يقع على الدار فيؤخذ، أحلال هو أم حرام لمن أخذه؟ قال: يا إسماعيل! عاف أم غير عاف؟

قلت: وما العافي؟ قال: المستوي جناحاه، المالك جناحيه، يذهب حيث شاء، قال: هو لمن أخذه حلال» «1».

9- وفي معناه رواية السكوني، عن أبي عبداللَّه عليه السلام «2».

10- ورواية أخرى لزرارة عنه عليه السلام «3».

11- وما رواه البزنطي، عن إسحاق بن عمّار عنه عليه السلام أيضاً «4».

وقال صاحب الجواهر رحمه الله في المسألة الثامنة من مسائل أحكام الصيد: لم أجد خلافاً بين الأصحاب في أنّ الطير إذا صيد مقصوصاً لم يملكه الصائد، «5» ومفهومه حصول الملك بالحيازة إذا لم يكن على الطائر أثر يدلّ على كونه ملكاً لآخر كما صرّح بذلك فيما بعده.

وهناك طائفة أخرى من الروايات وردت في أبواب اللقطة فيمن وجد جوهرة في جوف سمكة أوحيوان آخر وأنّها لمن وجدها.

12- مثل ما عن محمد بن الفضيل، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر عليه السلام في حديث:

«أنّ رجلًا عابداً من بني إسرائيل كان محارفاً فأخذ غزلًا فاشترى به سمكة، فوجد في بطنها لؤلؤة، فباعها بعشرين ألف درهم، فجاء سائل فدّق الباب، فقال له الرجل:

ادخل؟ فقال له: خذ أحد الكيسين، فأخذ أحدهما وانطلق، فلم يكن بأسرع من أنّ دقّ السائل الباب، فقال له الرجل: ادخل، فدخل فوضع الكيس في مكانه، ثم قال: كلّ هنيئاً مريئاً، أنا ملك من ملائكة ربّك، إنّما أراد ربّك أن يبلوك فوجدك شاكراً، ثم ذهب» «6».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 110

13 و 14 و

15- وفي معناه ما رواه حفص بن غياث، عن أبي عبداللَّه عليه السلام والزهري، عن علي بن الحسين عليه السلام، وما روي مرسلًا في تفسير الإمام الحسن العسكري «1»

16- وما عن عبداللَّه بن جعفر الحميري قال سألته عليه السلام في كتاب عن رجل اشترى جزوراً أو بقرة، أو شاة، أو غيرها للأضاحي أو غيرها، فلمّا ذبحها وجد في جوفها صرّة فيها دراهم، أو دنانير، أو جواهر، أو غير ذلك من المنافع، لمن يكون ذلك؟ وكيف يعمل به؟ فوقّع عليه السلام: عرّفها البائع، فانّ لم يعرفها فالشي ء لك، رزقك اللَّه أيّاه» «2».

وقد أفتى به الأصحاب بل ادّعى الإجماع عليه في الجملة، ولكن إنّما يكون داخلًا فيما نحن فيه بالنسبة إلى الجوهرة إذا لم تجِر عليها يد إنسان، وبقيت على إباحتها الأصليّة، أو شك في ذلك، وأمّا بالنسبة إلى الدراهم والدنانير، وكذا الجوهرة التي جرت عليها يد إنسان، فهي داخلة في أحكام اللقطة لا حيازة المباحات، وتمام الكلام في ذلك في كتاب اللقطة، ولكنّها كافية لإثبات ما نحن بصدده.

والمتحصّل من جميع ذلك عدم الشك في كون الحيازة من أسباب الملك إذا تعلّقت بالمباحات الأصلّية، أو ما في حكم المباح، كالملك الذي أعرض عنه صاحبه وجعله كالمباح الأصلي، وفتاوى الأصحاب في أبواب الصيد والذباحة، وكذا أبواب اللقطة في موارد مختلفة شاهدة على كون الحكم مجمعاً عليه بينهم.

بقي هنا أمور:

الأول: بماذا تتحقق الحيازة

قد عرفت أنّ الحيازة أمر عقلائي قبل أن تكون شرعياً، وقد أمضاها الشارع المقدّس، فلابدّ من أخذ معيارها من بناء العرف والعقلاء، وهذا يختلف باختلاف الموارد، ففي مثل الأرض الزراعيّة تعتبر حيازتها إحياها للزراعة، بالتقاط أحجارها،

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 111

وإجراء مائها، وحفر المسنّاة، وغير ذلك ممّا هو لازم في

الزراعة، وأمّا بالنسبة إلى أرض الدار فحيازه بناء حيطانها، وهل يعتبر فيها بناء السقف ونصب الأبواب؟ فيه كلام معروف عندهم في كتاب إحياء الموات، ليس هنا موضع ذكره، وأمّا إن كان للحظيرة فالمعروف بل ادّعي عدم الخلاف فيه أنّه يقتصر على الحائط من دون السقف، وليس تعليق الباب شرطاً له، بل ادّعي الإجماع عليه.

ولكن الظاهر أنّه ليس شي ء ممّا مرّ من الأمور التوقيفيّة تطلب من خلال الإجماع وأمثاله، بل الظاهر أنّهم اعتمدوا في هذه الأمور على صدق الحيازة والإستيلاء عليها عرفاً.

وأمّا بالنسبة إلى الحيوان فحيازته أخذه أو صيده، بحيث لا يقدر على الفرار، ولو لم يأخذه بعد، فلو أنّ صياداً رمى طائراً، أو حيواناً من حيوانات البرّ فجرحه بحيث لم يقدر على الفرار كان في حيازته، ولا يجوز لمن وجده أخذه، بل عليه تسليمه للصياد لو أخذه، وقد عرفت ما ورد في بعض الرّوايات من أنّ «للعين ما رأت ولليد ما أخذت».

وأمّا بالنسبة إلى السمك ونحوه من صيد البحر، فيكفي وقوعه في الشبكة، لصدق الحيازة عليه عرفاً، وإن لم يرد هذا العنوان في روايات الباب، ولكن قد عرفت أنّه مصطاد من مجموعها، فما دام السمك في الشبكة لا يجوز أخذه، نعم لو فرّ منها عاد إلى المباحات الأصليّة، ويجوز لكل أحد صيده.

وبالنسبة إلى اللؤلؤة يكفي أخذها بعد الغوص، أو ربطها بشي ء في قعر البحر لإخراجها منه، أو جعلها في محفظة متّصلة بحبل معدّ لإخراجها وإن لم تخرج بعد.

وفي الماء أخذه من النهر أو البحر، أو إخراجه منه بالمكائن إلى المخازن، أو الأنّهار، فانّ ذلك كاف عند أهل العرف والعقلاء في الحيازة، وفي الطّاقة الكهربائية المأخوذة من الماء يكفي نصب المكائن عند الأنّهار الّتي تنزل من

فوق، ولا يجوز لغيره مزاحمته فيه بعد سيطرته على المحل والموقف.

وبالجملة، الحيازة في كلّ مورد بحسبه، وربّ شي ء يكون مصداقاً لها في مورد ولا يكون مصداقاً لها في مورد آخر، ولها تفاصيل مذكورة في كتاب إحياء الموات، وكتاب

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 112

اللقطة، والصيد، وهي وإن لم تكن بهذا العنوان لكن يستفاد منها ما يتعلّق بالمقام، والغرض هنا الإشارة إلى القواعد الكليّة، وأمّا خصوصياتها فتُطلب من مظانها.

قال في الجواهر: «إنّ الإصطياد يتحقق بأمرين: أحدهما: إزهاقه بالآلة ... والثاني: إثباته كما إذا صيّده الرامي غير ممتنع، بأن يجرحه جراحة مزهقة، أو يرميه بما يثخنه، أو يزمنه، أو يكسر جناحه، بحيث يعجز عن الطيران والعدو جمياً، أو بأن يقع في شبكته المنصوبة له ولو بأن طرده طارد حتى أوقعه فيها، أو يرسل عليه كلباً أو غيره ممّا له يد عليه، فيثبته بعقر أو غيره، أو بأن يلجأه إلى مضيق لا يقدر على الإفلات منه، كما لو أدخله إلى بيت ونحوه، وغير ذلك ممّا يحصل به الاستيلاء، على وجه يصدق عليه أنّه في حوزته، وقبضته، وتحت يده، فمتى كان كذلك ملكه، وإن لم يقبضه القبض الحسّي، وحينئذٍ فلو أخذه غيره لم يملكه ... ووجب دفعه إلى الأول الذي هو مالكه بالسبب الذي عرفت» «1».

ونظير ذلك من بعض الجهات ما ذكره الشهيد الثاني رحمه الله في «المسالك» في كتاب الصيد «2».

الثاني: هل يعتبر في الحيازة القصد أو لا؟

لا ينبغي الشك في اعتبار القصد فيها في الجملة، ومجرّد الأخذ بدونه غير كاف، ومّما يدلّ على ذلك بوضوح- مع أنّه موافق لبناء العقلاء في ذلك- ما مرّ من روايات وجدان اللؤلؤة في جوف السمكة وأنّها لمن وجدها وإن جرت عليها يد الصياد قبل ذلك، ولكن لما لم

يعلم بها، ولم يقصد حيازتها لم تدخل في ملكه.

وهكذا الكلام يجري أيضاً في وجدان الكنوز، فإنّها وإن لم تكن من المباحات

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 113

الأصليّة إلّاأنّها تشبهها من بعض الجهات، فإنّ من الواضح أنّه لا يملكها كلّ من جرت يده عليها بلا علم منه، وأنّ المالك للكنز هو من وجده في داره، وقصد تملّكه وإن جرت على الدار أيدي ملّاك قبله.

ولذلك أيضاً قد ادّعي عدم الخلاف في عدم حصول الملك بتوحل الصيد في الأرض المتعلّقة بإنسان، ولا بتعشيشه في داره، ولا بوثوب السّمكة إلى سفينته، ولا بنحو ذلك ممّا لم يقصد به الإصطياد، لعدم صدق الأخذ، وعدم القصد إلى الحيازة، فيبقى على إباحته الأصليّة.

وليس ذلك من جهة عدم كون الوحل والسّفينة من آلات الصيد المعتادة، لعدم اعتبار الآلة المعتادة في ذلك، بل لعدم القصد إليه، فلو أخذه غيره، وقصد الحيازة ملكه.

هذا، ولكن قد يقال أنّ لصاحب الملك حقّ الإختصاص بالنسبة إلى أمثال ذلك، وكذا الثلج وماء المطر النازلان في أرضه وداره، فلو أراد تملّكها قدّم على غيره، وليس ذلك ببعيد، وإن كان لا يخلو عن إشكال.

نعم، يكفي القصد عند نصب الآلة وإن لم يقصد عند وقوع الصيد فيها، كما هو متعارف في نصب الشبكات لصيد السمك في البحر، والرجوع إليها بعد يوم أو أيّام وأخذ ما فيها حياً.

ويدلّ على ذلك مضافاً إلى أنّه موافق لبناء العقلاء الممضى من ناحية الشرع غير واحد من الروايات الواردة في أبواب الذبائح.

مثل ما رواه محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام في رجل نصب شبكة في الماء ثم رجع إلى بيته وتركها منصوبة، فأتاها بعد ذلك وقد وقع فيها سمك فيموتن، فقال: «ما عملت يده فلا بأس

بأكل ما وقع فيها» «1».

وما ورد في ذيله تعليل عام يشمل جميع المقامات، وهي وإن كانت بصدد بيان

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 114

حليّة السمكة وكفاية هذا المقدار في الصيد الحلال إلّاأنّها تدل على المطلوب بالملازمة فتأمل.

وهكذا ما رواه الحلبي قال: «سألته عن الحظيرة من القصب تجعل في الماء للحيطان، فيدخل فيها الحيطان فيموت بعضها فيها، فقال: لا بأس به أنّ تلك الحظيرة إنّما جعلت ليصاد بها» «1».

وفي معناه روايات أخر تدل على أنّ مجرّد نصب الشبكة كاف في تملك الصيد «2».

ودلالها على حلية السمك الميت في الشبكة لا يضرّ بالمقصود لإمكان الفتوى بها بعد صحة إسناد بعض هذه الروايات وتوفرها واستفاضتها، فالحرام ما مات خارج الشبكة.

ثم اعلم إن أخذ كلّ شي ء بحسبه ولا يعتبر الأخذ باليد، كما هو ظاهر فلو أغلق عليه باباً ولا مخرج له، أو جعله في مضيق لا يمكنه الفرار منه ملكه، والقول باعتبار القبض باليد أو الآلة ضعيف جدّاً، والعمدة في ذلك ما عرفت من أنّ الحكم مأخوذ من بناء العقلاء وقد أمضاه الشرع ولا يعتبر عندهم الأخذ باليد بلا إشكال ولكن يعتبر النية عندهم خصوصاً أو عموماً.

الثالث: هل يجوز التوكيل والاستيجار في الحيازة أم لا؟

قال المحقق رحمه الله في «الشرايع» في آخر أبواب الشركة يجوز الاستيجار للحيازة، ولكن صرّح في كتاب الوكالة بملكيّة المحيز وإن نواها للغير، وقال في «التذكرة»: إنّه مبني على جواز التوكيل في هذه الأمور وإنّ المسألتين متلازمتان، وتبعه في «جامع المقاصد»، وأمّا الفقهاء المعاصرون فكلّ منهم إختار مذهباً.

والمسألة مبنيّة على مختارهم في حقيقة الحيازة والمتصّور هنا- كما عرفت الإشارة إليه- أمور:

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 115

1- الحيازة من الأمور الخارجيّة لا القصديّة، فلا أثر للقصد فيها، فكلّ من حاز شيئاً ملكه، وعلى هذا لا

يجوز فيها النيابة، ولا الإجارة.

2- هي من الأمور القصديّة لمباشرها فقط، فالمالك هو الذي يقصد المباشرة، وعليه تجوز فيها النيابة والإجارة.

3- الحيازة من الأمور القصديّة، ولكن لا تختصّ بالمباشر، بل تجوز تسبيباً أيضاً، فإذا قصد المسبب بأخذ الأجير الحيازة كفاه.

4- هي من توابع ملك الفعل، فمن ملك فعلًا ملك ما يحاز به، ولازمه أنّه إذا ملك منافع الأجير بالإجارة ملك ما يحوزه، حتى أنّ قصد الخلاف منه غير مفيد، ولازم كلّ من هذه الوجوه معلوم.

فلنرجع إلى مصدر المسألة فنقول، ومنه سبحانه نستمد التوفيق، قد عرفت أنّ قاعدة «من حاز ملك» بهذا العنوان لم يثبت كونها رواية، ولكنّها مستفادة من مجموع ما ورد في أبواب الصيد، والإحياء، واشراء السمكة التي في جوفها اللؤلؤة، وغيرها، بل وقبل ذلك كلّه هي من الأمور العقلائيّة التي أمضاها الشارع المقدس.

فإن رجعنا إلى مبنى العقلاء، فهم يرون الحيازة بالمباشرة والتسبيب جائزة، ولازمه قبول الوجه الرابع، فهم لا يزالون يستخرجون المعادن واللؤلؤ من قعر البحار، ويصطادون الأسماك بغير مباشرة، وكيف يمكن استخراج كميّة كبيرة من ذلك بدون التسبيب؟ فما ورد في حديث أبي سيار أنّه ولي الغوص ببحرين فأصاب أربعمائة ألف درهم «1» فأتى بخمسه للإمام عليه السلام كيف يمكن أن يكون عن طريق المباشرة مع أنّ الغالب خلافه، ولم يسأل الإمام عليه السلام عنه، إلى غير ذلك.

والرّوايات السّابقة وإن كان بعضها مقصوراً على صورة المباشرة، ولكنّ الظاهر أنّ بعضها الآخر عامّ يشمل المباشرة والتسبيب، فإذن لا إشكال في جوازها بالإجارة.

نعم، إذا نوى الأجير نفسه في الواقع ملكه، وضمن أجرة مثل ما فوّت على المستأجر من الأعمال، وإذا لم ينو شيئاً ولكن نوى المستأجر الحيازة تسبباً كفى،

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 116

لما عرفت،

فالحقّ أنّ الحيازة تجوز بالإجارة أو الوكالة ويملكها المستأجر والموكل إلّا إذا قصد الأجير والوكيل خلافه، سواء قصد لنفسه أو لثالث (واللَّه أعلم بالصواب).

الرابع: هل للحيازة حدّ؟

يظهر من بعض الأعلام الإحتياط في كونها محدوداً بما لا يوجب الضيق والضرّر، حيث قال في بحث حيازة المعادن الظاهرة ما لفظه: «ليس له على الأحوط أن يحوز مقداراً يوجب الضيق والمضارّة على النّاس».

والانصاف أنّه كذلك، بل هو الأقوى، لعدم عموم في الأدلّة الدالّة على حصول الملك بالحيازة، بعد كونها منصرفة إلى ما هو المتداول بين النّاس، بل إذا كان هناك أناس كثيرون محتاجين إلى شي ء، وكان الموجود منه قليلًا في صقع كالحطب والحشيش المحتاج إليهما لإيقاد النّار، فإذا وهب واحد وأخذ جميعها ممّا لا يحتاج إليه فعلًا، وادّخرها لنفسه للسنين المستقبلة، أو لا يحتاج إليها في المستقبل أيضاً وادّخرها لأمور أخر، مع حاجة النّاس إليها عدّ ظالماً معتدياً، وغاصباً لحقوق غيره، ومنع من هذا العمل أشدّ المنع، وقد خلق اللَّه ما في الأرض لحاجة العباد كلّهم، وهكذا بالنسبة إلى المياه، والصيد، والمعادن، والأرضون، الموات، وغيرها.

لا أقول إنّ كلّ إنسان يأخذ حاجته فقط، فانّ ذلك مخالف لإطلاق الفتاوى، والنصوص، والسيرة المستمرة في جميع الأعصار، بل أقول يأخذ ما هو المتعارف أخذه لحاجته، وللتوسعة، أو الإكتساب، أمّا ما زاد على ذلك ممّا لا يتداول من العقلاء فلا يجوز حيازته.

هذا كلّه مع قطع النظر عن الحكومة الشرعيّة الثابتة للإمام عليه السلام، أو من يقوم مقامه، وأمّا بالنظر إليها فقد يجوز له تعيين مقدار ما يحوزه كلّ إنسان أو زمانه أو مكانها، أو غير ذلك ممّا يراه مصلحة للمسلمين، وقواماً لأمورهم، وحافظاً لنظامهم، بحيث يختلّ بدونه نظم أمورهم، ولكن ليس له الإستبداد في ذلك

بغير مراعاة المصالح، وحفظ النّظام.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 117

15 قاعدة السّبق

اشارة

ومن القواعد المشهورة على ألسنة الفقهاء قاعدة السّبق، استدلوا بها في أبواب مختلفة: في أبواب حيازة المباحات، وأحكام المساجد، وآداب التجارة، وفي كتاب إحياء الموات، وما يلحق بها من التحجير، وغير ذلك.

وهذه القاعدة كأغلب القواعد الفقهيّة من القواعد المعروفة بين العقلاء التي يدور عليها نظام معاشهم، وقد أمضاها الشارع المقدّس بما قرر لها من الشرائط.

وحاصل القاعدة أنّ من سبق إلى شي ء من المباحات الأصليّة- لا يقصد التملك حتى يكون ملكاً له- أو سبق إلى شي ء من المنافع المشتركة، كالطّرق، والمساجد، والوقوف العامّة، والمساكن كذلك، أو غيرها من أشباهها، فهو أحقّ بها من غيره إجمالًا، ولا يجوز مزاحمته في ذلك إلّاإذا أعرض عنها، أو حصلت فترة تزيل حقّه بما سنشير إليه إن شاء اللَّه.

دلائل إثباتها

ويدلّ عليها مضافاً إلى الإجماع المدّعى في كلمات الأصحاب، الرّوايات العامّة، والخاصّة، واستقرار سيرة العقلاء وأهل الشرع على العمل بها.

الأول: السنّة

منها روايات عامّة، ومنها خاصّة، فمن الأولى:

1- ما عن طلحة بن زيد، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: سوق المسلمين كمسجدهم، فمن سبق إلى مكان فهو أحقّ به إلى الليل، وكان لا يأخذ على بيوت السّوق كراءاً» «1».

وإطلاق قوله: «فمن سبق إلى مكان فهو أحقّ به إلى الليل» يجعلها من الأحاديث العامّة الدالّة على المطلوب في أبواب الأمكنة مطلقاً، اللّهم إلّاأنّ يقال بأنّ كون صدرها في بيان حكم المسجد يجعلها خاصّة به.

وعلى كلّ حال، الحديث ناظر إلى ما كان متعارفاً في تلك الأعصار من عدم اختصاص أمكنة السوق ودكاكينها بالأشخاص، وعدم دخولها في ملك، بل كانت الأسواق كالمساجد وسائر الأمكنة العامة ملكاً لجميع المسلمين، ومباحةً لهم، وكان المتعارف عرض المتاع من البايعين كلّ يوم إلى الليل، ثمّ كانوا يجمعون أمتعتهم وينشرونها غداً، فكان كلّ واحد من البيّاعين أحقّ بمكانه إلى تلك الليلة.

2- ما عن محمد بن إسماعيل، عن بعض أصحابه، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: قلت له: «نكون بمكّة، أو بالمدينة، أو الحيرة، أو المواضع التي يرجى فيها الفضل، فربّما خرج الرجل يتوضأ فيجي ء آخر فيصير مكانه، فقال عليه السلام: من سبق إلى موضع فهو أحق به يومه وليلته» «2».

والكلام فيه هو الكلام في سابقه من حيث احتمال العموم والخصوص فيها، وإن كان العموم أقوى.

3- ومن طرق الجمهور ما رواه أسمر بن مضرس، قال: «أتيت النّبي صلى الله عليه و آله فبايعته فقال: من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو له» «3».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 121

وهذه الرواية

أوسع نطاقاً من الجميع، وهي التي إستند إليها الأصحاب في مختلف الأبواب، فهل هو كاف لجبر سندها، أو لم تبلغ هذا المبلغ؟ لا يخلو عن إشكال.

هذا، ولكن لا يبعد إلغاء الخصوصيّة ممّا سبق من روايات الأصحاب، وما ورد في منابع حديثنا.

وهناك روايات أخرى واردة في موارد خاصّة لا يبعد اصطياد العموم منها، وإلغاء الخصوصية عنها مثل ما يلي:

4- ما رواه ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «سوق المسلمين كمسجدهم، يعني إذا سبق إلى السّوق كان له، مثل المسجد» «1».

وقوله (يعني إلخ) الظاهر أنّه من كلام الراوي، فلا يمكن الإستناد إليه كرواية.

5- ومن طرق العامّة في هذا المعنى ما عن أصبغ بن نباتة، قال: «إنّ علياً عليه السلام خرج إلى السوق فإذاً دكاكين قد بنيت بالسوق، فأمر بها فخرّبت فسويت، قال: ومرّ بدور بني البكاء، فقال: هذه من سوق المسلمين، قال: فأمرهم أن يتحوّلوا وهدمها، قال:

وقال علي عليه السلام: من سبق إلى مكان في السّوق فهو أحقّ به، قال: فلقد رأيتنا (رأينا) يبايع الرجل اليوم هاهنا، وغداً من ناحية أخرى» «2».

وذيل الرواية يؤكّد ما ذكرنا في أمر السوق في تلك الأعصار.

6- وما رواه أبو صالح عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه و آله: «إذا قام الرّجل من مجلسه، ثمّ عاد إليه، فهو أحقّ به، فقام رجل من مجلسه فجلست فيه ثم عاد، فأقامني أبو صالح عنه» «3».

7- وما رواه نافع عن ابن عمر: «أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: لا يقيم الرّجل الرّجل من ملجسه ثم يجلس فيه» «4».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 122

وليس ذلك إلّالسبقه إلى ذاك المكان.

ويؤيّد ما ذكرنا ما ورد في أبواب إحياء الموات،

والتحجير، وغير ذلك ممّا يكون من قبيل السّبق إلى ما لم يسبق إليه أحد، فإنّها وإن لم تدلّ على المطلوب فإنّ الكلام في قاعدة السّبق إنّما هو من جهة إيجاد الحق بمجرّد السّبق، من دون حاجة إلى التحجير والإحياء، وإخراج المعدن وحفر البئر، وغير ذلك من أشباهه، إلّاأنّها مؤكّدة له.

الثاني: هو السيرة المستمرة

اشارة

من أهل الشرع، بل من العقلاء أجمع، فإنّه لا يشكّ أحد في بنائهم على كون السابق إلى شي ء من المباحات أحقّ من غيره، سواء كان من المباحات الأصليّة، أومن المنافع العامّة، كالإنتفاع بالمساجد، والبراري، والمفاوز، والجبال، والمياه، إذا لم يقصد ملكيّتها، بل أراد الإنتفاع بها، فلا يشكّ أحد في كون السابق أحقّ، وإذا زاحمه غيره يعدّ ظلماً وتعدياً قبيحاً.

بل المعلوم استقرار سيرتهم على هذا الأمر حتى قبل ورود الشرع.

وممّا يؤيّد كونها قاعدة عقلائية قبل أن تكون شرعيّة أنّها مشهورة معروفة بين من لا يعتقد بشي ء من المذاهب، ولم يقبل أي قانون ديني إلهي، فهو أيضاً يرى السبق إلى شي ء من المباحات أو المنافع العامّة، من الطرق، والقناطر، والخانات، وغيرها، موجباً لاستحقاق صاحبه، وعدم جواز مزاحمته، ولكن لها حدود وقيود عندهم ستأتي الإشارة إليها إن شاء اللَّه.

ومن هنا يظهر أنّ «إجماع الفقهاء على ذلك قديماً وحديثاً» لا يكشف عن تعبّد خاصّ في المسألة وصل إليهم ولم يصل إلينا، بل هو إمّا مستند إلى ما عرفت من روايات الباب العامّة والخاصّة، أو إلى بناء العقلاء الذي أمضاه الشرع، فإنّه لم يزل بمسمعه ومنظره، بل قد عرفت أنّ هذا البناء منهم كان قبل ورود الشرع أيضاً.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 123

بقي هنا أمور:

الأوّل: الفرق بين قاعدة «السّبق»، و «الحيازة» و «الإحياء»

قد يختلط الأمر بين قاعدة السّبق، وقاعدتي الحيازة والإحياء عند بعض، مع أنّ مواردها مختلفة، لا ربط لواحد منها بالآخر، فنقول:

أمّا قاعدة الحيازة فهي تختصّ بالمباحات، وتوجب ملكها بمجرّد الحيازة مع قصده، ولا يحتاج إلى الإحياء والتحجير وغيرها، وإن كانت قد تطلق الحيازة على الأعم ممّا يشمل قاعدة الإحياء أيضاً كما عرفت سابقاً.

وأمّا الإحياء فهو أيضاً يوجب الملك، لكن لا بمجرّد القصد، بل بعد الإحياء وتختصّ

بالأرض وما أشبهها.

وأمّا قاعدة السّبق فهي لا توجب الملك، بل مفادها هو الأولويّة، وموردها أعمّ من المباحات الأصليّة أو المنافع العامّة كالمدارس، والخانات، والمساجد، والشوارع، وغيرها.

فتحصّل من جميع ذلك أنّ قاعدتي الحيازة والإحياء لا تغنيان عن قاعدة السّبق شيئاً، لأنّ مفاد كلّ منهما متباين، وبين مواردها ومصاديقها العموم والخصوص من وجه، أو المطلق.

ففي مثل المساجد، والشوارع، والقناطر، لا تجري قاعدتا الحيازة والإحياء، ولكن تجري قاعدة السّبق فقط، وفي مثل المباحات الأصليّة كالأراضي الخارجة عن حدود البلاد يتصور فيها الإحياء والسّبق، فمن أحياها ملك، وأمّا من سبق إليها كما إذا نصب فسطاطاً وخياماً لتوقّف ساعة أو أيّام من غير قصد الحيازة والإحياء فلا يجوز مزاحمته لقاعدة السّبق فقط، وفي غير الأراضي كالسمك، والطير، والوحش، والحطب، وغيرها من المباحات الأصليّة، فإنّ قصد الملكيّة بالحيازة كان مصداقاً لهذه القاعدة، وإن نوى مجرّد الإنتفاع منها من غير قصد تملّكها دخل في قاعدة السّبق فقط، فتدبّر تعرف.

الثاني: من شرائط السّبق قصد الانتفاع

قد عرفت ممّا ذكرنا أنّ «السّبق» يوجب الأولويّة لمن سبق بشرط قصد الإنتفاع، فلو لم ينو الإنتفاع بما سبق إليه لا دليل على أولويته وكونه أحقّ به من غيره، ولو شكّ في ذلك، يؤخذ بظاهر الحال ولو ادّعي نيّة الانتفاع يقبل قوله لأنّه ممّا لا يعلم إلّا من قبله.

الثالث: حدود الأولويّة

قد عرفت أنّ هذه القاعدة مأخوذة من سيرة أهل الشرع، والسنّة، وبناء العقلاء، والأولويّة الحاصلة منها تختلف باختلاف الموارد حسب اختلاف بنائهم، ففي مثل المساجد تكون أولوية السابق بمقدار تأتي الإشارة إليه إن شاء اللَّه تفصيلًا، وفي مثل المدارس بمقدار آخر، ويختلف السّبق إلى الخانات معهما، وإلى الشوارع، والأراضي الموات بمقدار يختصّ به، وستأتي تفاصيلها إن شاء اللَّه، كلّ ذلك لتفاوت التعارف في ذلك، واختلاف قضاء الحاجة في هذه المقامات اختلافاً كبيراً، فلا يمكن تعيين ضابطة كليّة لجميع ما ذكر، بل لكلّ منها ضابطة خاصّة به.

والدليل على ذلك كلّه ما عرفت من بناء أهل العرف وإمضاء الشرع له مع إشارات نافعة إليها في روايات الباب.

الرابع: هل الأولويّة هنا حكم وضعي أو تكليفي؟

الكلام هنا في أنّ السّبق هل يوجب مجرّد الأولويّة تكليفاً، بحيث لو زاحمه غيره عصى، ولكن يصحّ تصرفه في المسبوق إليه شرعاً، أو أنّه يوجب حقاً ويكون من قبيل الأحكام الوضعيّة؟

وممّا يتفرع على ذلك ما ذكره الفقهاء في باب المسجد بأنّه لو سبق إنسان إلى

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 125

موضع منه، ثمّ دفعه آخر قهراً وعدواناً، فلا شك في عصيانه وحرمة عمله، إنّما الكلام في أنّه بعد الدفع هل تصحّ صلاته في مكانه، أو يكون كالمكان المغصوب يحرم الصلاة فيه على المشهور، وتكون باطلة؟! فيه كلام بينهم.

ظاهر «التذكرة» هو الأوّل، حيث قال: لو دفعه عن مكانه أثم، وحلّ له مكثه فيه، وصار أحقّ من غيره به، ولكنّ المحكي عن المشهور هو الثاني وأنّه يكون كالمغصوب.

وذكر في «الجواهر» في باب بطلان الصلاة في المكان المغصوب: أمّا حق السّبق في المشتركات كالمسجد ونحوه ففي بطلان الصلاة بغصبه وعدمه وجهان، بل قولان أقواهما الثاني وفاقاً للعلّامة الطباطبائي في منظومته، لأصالة عدم تعلّق السّبق

للسابق على وجه يمنع الغير بعد فرض دفعه عنه، سواء كان هو الدافع أو غيره، وان أثم بالدفع المزبور، لأولويته، إذن هي أعمّ من ذلك قطعاً، وربّما يؤيده عدم جواز نقله بعقد من عقود المعاوضة، مضافاً إلى ما دلّ على الإشتراك الذي لم يثبت ارتفاعه بالسّبق المزبور، إذ أنّ عدم جواز المزاحمة أعمّ من ذلك فتأمّل (انتهى) «1».

ولكنّ التحقيق هو ما ذكره المشهور، وذلك لإرتكاز أهل العرف الذي هو الأصل في هذه المسألة بعد عدم ردع الشرع عنه، فإنّهم يرون للسّابق حقاً في المكان قطعاً، بحيث يجوز له الدفاع عن حقّه والعود إليه بعد دفعه منه، ولا يرون له أيّ إثم في هذا، بل يعدّ الدافع غاصباً، بل لا ينبغي الشك فيه.

وأمّا ما افاده في «الجواهر» من الأدلّة الثلاثة فهي ممنوعة جدّاً.

أمّا الأصل فهو ممنوع بعد ما عرفت، وأمّا عدم جواز نقله بعقد من العقود فهو أوّل الكلام، وعلى تقدير القول به فعدم النقل لا يدلّ على عدم وجود حق، فرُبّ حق لا يجوز نقله وإن كان يجوز إسقاطه، وأمّا الدليل الثالث الراجع إلى الاستصحاب فهو أيضاً ممنوع بعد وجود الدليل.

ويؤيد ما ذكرنا أيضاً مرسلة محمد بن إسماعيل، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قلت له: «نكون بمكة، أو بالمدينة، أو الحيرة، أو المواضع التي يرجى فيها الفضل، وربّما خرج الرجل

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 126

يتوضأ فيجي ء آخر فيصير مكانه، قال من سبق إلى موضع فهو أحقّ به يومه وليلته» «1».

والتعبير بكونه أحقّ له دلالة واضحة على ما ذكرنا، بل قد يتعدى لدفع ضعف السنة بنقل أحمد بن محمد الذي هو ابن عيسى الثقة المشهور الذي لا يروي عن الضعفاء، وغير ذلك من القرائن، فتأمّل.

والإيراد على

الحديث بأنّ التحديد باليوم والليلة غير ثابت لا يمنع عن الاستدلال به، بعد كون التفكيك في مفاد الأحاديث دراجاً بينهم، فتأمّل.

الخامس: تعارض شخصين في السّبق إلى شي ء

إذا تعارض اثنان، فوردا على شي ء من المنافع المشتركة في زمان واحد، وتوافيا إليه على حدّ سواء، فانّ أمكن اجتماعهما فيه، كدكّة في سوق عامّ يحتملهما، فحق السّبق ثابت لهما، وإن لم يحتملهما، كمكان واحد لمصلّ واحد ورد اثنان عليه، فهل يبطل حقّهما ويجوز لثالث الوورد عليه، أو تجرى فيه القرعة؟

الظاهر أنّه لا مجال لإبطال حقّهما لشمول العمومات لكل واحد منهما مع قطع النظرعن مزاحمه، وحيث إنّ ملاك السّبق في كليهما موجود، فيكون من قبيل تزاحم الحقّين لا تعارض الدليلين، وحيث إنّ المفروض عدم إمكان الجمع بينهما، لابدّ من القرعة لأنّها لكلّ أمر مشتبه، ولإخفاء في شمول أدلّتها للمقام.

وقد ذكرنا في مباحث القرعة من هذا الكتاب أنّ موارد القرعة مختلفة، فقد يكون فيها واقع مجهول لا طريق لكشفه إلّاالقرعة، كما في الغنم الموطوءة، وقد لا يكون فيها واقع مجهول، بل وقع التزاحم بين مقتضيين، ولا طريق إلى التخلّص إلّا بالقرعة، كما في موارد إفراز الأموال المشاعة، وتقسيمها، وكلاهما داخلان تحت أدلّة القرعة، والمقام من هذا القبيل.

السادس: موارد جريان القاعدة
اشارة

وإذا عرفت ما ذكرنا فلنرجع إلى جزئيّات موارد السبق وأحكامه الخاصّة، فنقول ومن اللَّه التوفيق: إنّ السّبق قد يكون إلى المسجد، أو إلى الطريق أو إلى السّوق، أو المدارس، أو القناطر، أو المعادن، أو أماكن النزهة، أو الميادين لتوقّف السيّارات وغيرها، أو غير ذلك.

أمّا المساجد

فلا شك أنّ من سبق إلى مكان من المسجد فهو أحقّ به، مادام باقياً فيه.

ويدلّ عليه الروايات العامّة والخاصّة، مضافاً إلى الإجماع، والسيرة، وعدم الخلاف فيه، ولا فرق في ذلك بين أن يكون السّبق للصلاة، أو لقراءة القرآن، والدعاء وغيرها من الأذكار، أو لتحصيل العلم، وغير ذلك ممّا هو مطلوب في المسجد، بل ومن المباح المتعارف، كالجلوس لرفع التعب، ومثل ذلك.

إنّما الكلام في أمور

الأول: لو قام عن محلّه مفارقاً، فهل يبطل حقّه مطلقاً، أو يبطل إذا لم ينو العود، أو إذا وضع رحله ناوياً خاصّة؟ فيه كلام بينهم، فاختار الأخير المحقّق رحمه الله في «الشرايع» والعلّامة والشهيدان، والمحقّق الكركي (قدّس سرّهم)، بل عن «جامع المقاصد» أنّه المشهور، وعن «المبسوط» نفي الخلاف فيه، بل إدّعى فيه أنّ في المسألة نص عن الأئمة عليهم السلام.

هذا، ولكن لا دليل عليه يعتّد به ممّا وصل إلينا إلّاسيرة العقلاء وأهل الشرع، وغير ذلك من الأدلّة يعود إليه.

والانصاف أنّ سيرة أهل الشرع وبناء العقلاء مع بقاء الرحل ثابت إلّاإذا خرج عن المتعارف، كمن ألقى رحله في المسجد طول الأسبوع أو الشهر أو السنة، فإنّ الإعتبار ببقاء رحله في كونه أحقّ مشكل جدّاً، فيجوز أخذ الرحل حينئذٍ، والجلوس

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 128

مكانه، نعم، هو أحقّ من غيره بالنسبة إلى أوقات قصيرة جرت العادة والسيرة عليها.

أمّا لو قام لتجديد طهارة، أو إزالة نجاسة، وما أشبه ذلك، ولم يكن هناك رحل، فيشكل بقاء حقّه، إلّاإذا أوصى إلى إنسان ليحتفظ بمكانه في غيبته، فمجرّد النيّة غير كافية، كما أنّ مجرّد وضع الرحل بلا نيّة غير كاف.

هذا، وقد عرفت التصريح في غير واحد من روايات الباب ببقاء حقّه إلى الليل، ففي رواية محمد بن إسماعيل، عن بعض

أصحابه، عن أبي عبداللَّه عليه السلام الواردة في حكم مكّة والمدينة والمواضع التي يرجى فيها الفضل، أنّ من سبق إلى موضع فهو أحقّ به يومه وليلته.

وفي رواية طلحة بن زيد، عن أبي عبداللَّه، عن أمير المؤمنين عليهما السلام قال: «سوق المسلمين كمسجدهم فمن سبق إلى مكان فهو أحقّ به إلى الليل»، وقد مرّ في ذكر الأدلّة.

ولكنّ الأول ضعيف بالإرسال ورواية أحمد بن محمد الذي هو ابن عيسى كرواية محمد بن إسماعيل الذي هو ابن بزيع غير كافية في جبران ضعفه، وإن كان مؤيداً، وكذا رواية «طلحة بن زيد» لا تخلو عن إشكال في سندها، لعدم توثيق أكثر الأصحاب من علماء الرجال له، نعم، ذكر في الفهرست أنّ كتابه معتمد، والاكتفاء بهذا في توثيق الرجل أو روايته لا يخلو عن إشكال.

هذا، ويمكن حمله على موارد يكون المتعارف فيها البقاء في المسجد أو السوق إلى الليل كحال الزوّار في مكّه أو المدينة في سابق الأيّام، وأمّا في الأزمنة أو الأمكنة التي ليس المتعارف فيها البقاء في المسجد إلى الليل، فالعمل بعموم الروايتين في غيرها مشكل جدّاً، ولذا أعرض الأصحاب عن العمل بهما في هذا التحديد، وإن كان الظاهر أنّهم لا ينكرون بقاء الحقّ إلى هذه المدّة في أماكن يتعارف فيها ذلك.

وبالجملة ليس لنا أوثق واتمّ من الأخذ بالسيرة المذكورة فإنّها المعيار الوحيد في المسألة.

الثاني: إذا زاحم السّبق حق المصلين فهل تقدّم الصلاة على غيرها، ولاسيّما

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 129

الجماعة؟ أو هل تقدّم الجماعة على الفرادى؟ أو تقدّم الصلاة على غيرها إذا لم يكن راجحاً كالجلوس لا للعبادة وتحصيل علم شرعي، أو لأمر مرجوح كالنوم؟

لم يدلّ دليل خاصّ على شي ء من هذه الأمور، وإن كان قد يتمسّك بظاهر

ما دلّ على إقامة صفوف الجماعة وسدّ فرجها على تقديمها على غيرها من الفرادى، وما أشبهها، ولكنّ الإنصاف أنّ روايات إقامة الصفوف وسدّ الفرج غير ناظرة إلى هذا المعنى، ولا تكون في مقام البيان من هذه الجهة، واللازم الرجوع إلى ما جرت عليه سيرة أهل الشرع، واستقرّ عليه بناء العقلاء، والظاهر أنّ الصلاة، لا سيّما الجماعة، فهي مقدمة على غيرها إذا وقع التزاحم بين الأمرين، لأنّ المسجد أولًا وبالذات للصلاة فلا يزاحمها شي ء.

نعم، إذا وقع التزاحم بين الصلاة من الأمور الأخرى، فيشكل تقديم بعضها على بعض، كما إذا وقع التزاحم بين تحصيل العلم وقراءة القرآن واشباهها، فيشكل دفع الجالس عن مكانه وقيام غيره مقامه.

أمّا إذا زاحم العبادة شي ء مباح، كما إذا لم يجد مكاناً لقراءة القرآن وتحصيل العلم الواجب، وكان المسجد مشغولًا بالجالسين لمجرد رفع التعب أو للأكل والشرب أو بالنائمين، فلا يبعد جواز دفعهم لما ذكر من الأمور، فهم أحق به من غيرهم، والدليل عليه ما عرفت.

الطرق والشوارع العامّة
اشارة

وهي تشبه المساجد في كثير من الجهات، وإن كانت تختلف معها من بعض الجهات.

وحيث لم يرد دليل خاصّ في هذه المسألة، فمقتضى العمل بالعمومات، وسيرة العقلاء، وأهل الشرع منهم يقتضي هنا أموراً:

1- ما هو الاصل فى انتفاع بالطرق؟

الأصل في الطرق هو الإنتفاع بها على وجه الإستطراق، فكل ما زاحم هذا المقصد

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 130

فهو منفيّ بما ذكر، ويحرم بحكم الشّرع، وعلى آحاد المسلمين النهي عن هذا المنكر، وللحكومة الإسلامية الأخذ بالعنف في هذا المقام إذا لم ينفع غيره فإذا كان البيع والشراء والجلوس وإيقاف السّيارات، ووضع الاحجار وغيرها من أدوات البناء، مانعاً عن المرور بالكليّة، أو موجباً للضرر والزحمة لضيق الطريق، منع منه قطعاً، والدليل عليه جميع ما عرفت آنفاً.

2- هل يجوز الانتفاع بالطرق غير الاستطراق؟

يجوز الانتفاع بالطرق العامّة والشوارع بغير الإستطراق، كالجلوس لرفع التّعب ووضع الأحمال، أو الجلوس لمجرّد النزهة إذا لم يكن مانعاً عن الإستطراق فإنّه من المنافع المشتركة، والأصل فيها الجواز ما لم يمنع منه مانع، وقد جرت السيرة على ما ذكرنا، نعم، إذا كان مانعاً عن الغرض الأصلي فهو حرام، ويجوز دفع المانع عنه.

3- هل يجوز الجلوس فيها لعمل الحرفة، والبيع والشراء؟

فيه خلاف، فقد منعه بعضهم مطلقاً، لأنّه انتفاع بالبقعة في غيرما اعدت له، فكان كالإنتفاع بالمسجد ونحوه من الموقوفات الخاصّة في غير ما عُيّن له من الجهة.

وذكر ثاني الشهيدين رحمهما الله في «المسالك» بعد ما ذكرنا: أنّ الأشهر التفصيل، وهو المنع من ذلك في الطريق المسلوك الذي لا يؤمن تأذّي المارّة به غالباً، وجوازه في الرحبات المتسعة في خلاله بحيث يؤمن تأذّي المارّة، نظراً إلى اطرّاد العادة بذلك في الأعصار، وذلك هو المسوغ لغيره من وجوه الانتفاع. (انتهى)

ولقد أجاد فيما أفاد، ولكن لا يختص ما ذكره بالرحبات، بل بما جرت عليه السّيرة كما نراها في بعض الطرق غير المتسعة التي يستفاد منها لبيع بعض الأشياء ممّا لا يشغل مكاناً واسعاً. وبالجملة المعيار الوحيد هو عدم الإضرار بالمارّة، وعدم الإيذاء بهم وأن لا يؤدّي إلى المنع من استطراقهم.

ومع الأسف فإنّ كثيراً من المسلمين لا يبالون بهذه الأمور، ويرتكبون من هذه الجهة ما قد يوجب اشتغال ذمتهم بخسارات مالية مضافة إلى الأحكام التكليفيّة،

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 131

ومن الواجب على المؤمنين نهيهم، وعلى الحكومة الإسلامية منعهم، وزجرهم.

وممّا ذكرنا يظهر حال نشر البساط، أو أخذ العربات، أو التسقيف للبيع في الشوارع، والطرق، وأنّها محرّمة قطعاً إذا منعت الإستطراق أو صارت سبباً للزحمة، أو ضيقاً في الطريق، أو ضرراً على المستطرق.

نعم، إذا لم يكن فيه شي ء من

ذلك فهو جائز، ولكن الغالب من قبيل الأول.

4- هل يبقي هذه الحقوق مادام الفرد جالساً ويبطل إذا ذهب؟

في الموارد التي يجوز فيها البيع والشراء أو الجلوس وغيرها يراد سؤال وهو أنّ هل يبقى هذا الحقّ مادام الفرد جالساً في المكان، ويبطل إذا ذهب ولو كان ناوياً للرجوع؟ أو فيه تفصيل بين بقاء رحله وعدمه؟ أو له حقّ إلى الليل؟ أو إلى أن يبيع متاعه ويراجع من يشتريه ولا يفوته؟

الظاهر أنّه يختلف ذلك باختلاف الأوضاع المختلفة والمتعارضة في الأعصار والأمصار، فقد يكون في بعض الأمكنة، أو بعض الأعصار البقاء إلى الليل بحسب العادة، وقد يكون أقلّ وأكثر من ذلك، فيؤخذ بمقتضاه في جميع ذلك، نعم الغالب أنّه يجوز له العود مادام رحله باقياً، وإذا قام بنيّة العود من دون وضع رحل فيها يبطل حقّه.

والإنصاف أنّ السّبق في الطريق أيضاً ممّا يوجب الحقّ لا الأولويّة المجرّدة، فلو دفعه إنسان عمّا سبق إليه، فإنّه لا يزول حقّه، ويجوز عوده ودفع المانع والمزاحم، وقد مرّ دليله آنفاً في أحكام المسجد.

5- هل يجوز جعل الرواشن في الطريق أم لا؟
اشارة

قد عرفت أنّ الأصل في الطريق هو الإستطراق، وأمّا المنافع الأخر فهي تابعة له، وتجوز بحسب ما جرت به العادة والسّيرة التي هي منصرف عمومات السّبق في المقام، والانصاف أنّ العادة هنا أيضاً تختلف بحسب الأزمنة والأمكنة، ففي سابق الزمان كان المتعارف هو الاستفادة من الطرق بجميع أنحائها، حتى ببناء الساباط

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 132

والرواشن، فلو كان طرفا الطريق العام ملكاً لشخص، كان يبني على الطريق ما يريد، ممّا لا يزاحم المارة، بل قد كان في هذا الأمر مصلحة للعابرين، وأمّا الآن فهو أمر منكر في كثير من البلدان، ولا يُعدّ مقبولًا من قبل العرف، وليس معاتداً عندهم، ويعدّ من المزاحمة، وحينئذٍ لا شكّ في عدم جوازه، لا لتبدّل الحكم، بل لتغيّر الموضوع.

وأمّا الرواشن فإذا لم

تتعدّ إلى فضاء الطرق كثيراً فهو أمر رائج حتى في زماننا هذا، وأمّا إذا تعدّت كثيراً بحيث بلغت إلى الجدار المقابل أو نحو ذلك، فهذا أيضاً غير متعارف في هذه الأزمنة ويعدّ من الأمور المزاحمة غالباً، وبالجملة فإنّ المدار هو على ما عرفت، ولا يجوز التعدّي عنه.

أمّا حكم السوق

فالتحقيق أنّ السّوق على قسمين: سوق عام، الذي هو وقف على جميع المسلمين، لأنواع التّجارات والحرف، أو لنوع خاصّ منها، وكذا ما بني من بيت المال، أو الزكاة، فيكون كالوقف أيضاً وسوق خاص الذي هو ملك لفرد أو أفراد معلومين.

أمّا الأوّل فهو من المشتركات، ومن سبق إليه كان أحقّ به، ولكن لابدّ من رعاية شرائط الوقف، أو ما أشبهه، ولا يجوز التعدّي عن طورها، ولو لم يكن هناك شرائط خاصّة فاللّازم الأخذ بما هو المتعارف في العرف والعادة.

والظاهر أنّ السوق في سابق الأيّام كان من القسم الأول، ولم يكن هناك دكاكين وحجرات، بل كان المتداول نشر البساط صباحاً، وجمعه مساءاً، فما ورد في روايات السوق من أنّ من سبق إليه كان أحقّ به إلى الليل، ناظر إلى هذا المعنى»

، كما أنّ ما ورد من أنّ أمير المؤمنين عليه السلام هدم دوراً بنيت في مكان الأسواق «2» ناظر أيضاً إليه، فلا

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 133

تشمل الأسواق التي هي ملك خاص لفرد أو أفراد، لأنّ العادة تغيّرت في عصرنا، وقلّما ما يوجد سوق يكون بتلك المكانة، ولذا تباع دكاكين السوق وتشترى، وتستأجر، وتوهب، وتورّث، ولا مانع من شي ء من ذلك، ولا ينافي ما مرّ من الروايات الناظرة إلى غيرها كما عرفت.

وما حكاه العلّامة رحمه الله في «التذكرة» عن الجويني من العامّة فيمن جلس للبيع أو الشراء في الطريق في المواضع

المتسعة كالرحاب، يجرى في الأسواق العامّة، فقد حكى عنه: أنّه إن مضى زمان ينقطع فيه الذين ألفوا المعاملة معه، ويستفتحون المعاملة مع غيره، بطل حقّه، وإن كان دونه لم يبطل، لأنّ الغرض من تعيين الموضع أن يعرف فيعامل- انتهى موضع الحاجة-.

وما ذكره هو مبنى استقرار العرف والعادة الذي هو موضوع حكم الشرع هنا، فليس مبنيّاً على الإستحسان ونحوه كما توهمه في «الجواهر».

وهناك أسواق اسبوعيّة، أو شهريّة، أو سنويّة، تقام في أماكن معلومة، وأسواق خاصّة تقام في الموسم في مكة والمدينة، وفي جميع ذلك إذا كانت من الأسواق العامّة، فحقّ السّبق فيها ثابت، وفي مقدار بقاء هذا الحقّ من حيث الزمان يُتّبع عرف الزمان والمكان.

والحاصل أنّه لا يمكن الحكم على جميع أنواع السّوق بحكم واحد، ولا تجري في جميعها أحكام السّبق، بل المدار على التفصيل الذي ذكرناه، والمعيار في الجميع هو الأخذ بعمومات السّبق مع قيود قد عرفتها.

أمّا المدارس والخانات والرّبط

فهي أيضاً على قسمين: وقف عام، ووقف خاص (أو ما يشبه الوقف ممّا بنيت من الزكاة من سهم سبيل اللَّه أو من سائر وجوه بيت المال)، وقلّما يوجد فيها ملك خاص لفرد أو أفراد معلومين.

وحينئذٍ فإنّ اللازم قبل كلّ شي ء ملاحظة شرائط الواقف، فإن كان هناك شرط فيتبع، وإلّا فلا شك في أنّ الحقّ لمن سبق إذا كان تحت عنوان الموقوف عليهم.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 134

أمّا مقدار المكث فيها فهو تابع للحاجة والعادة، أو اشتراط الواقف، وهو مقدّم على الجميع.

فلو شرط الواقف عدم المكث لطالب العلم في المدرسة أكثر من سنة، فلابدّ من رعايته، وإن لم تتم حاجته، وأمّا إن لم يشترط، فما دام يحتاج إليه يستحق البقاء إلّا إذا خرج عن حدّ المعروف والمعتاد، وإذا انقضت حاجته

فلابدّ من اخراجه من المدرسة، ولا يجوز له المكث فيها أو إغلاق باب حجرتها، أو غير ذلك ممّا يزاحم المستحقّين لها، وكذا من سكن الخان أو الرّباط يجوز له البقاء فيه بمقدار ما يتخذه المسافر مكاناً، فلا يجوز له جعله مسكناً دائمياً أو رباطاً كذلك.

وإذا خرج من المدرسة أو غادر الخان والرباط سقط حقّه ولو نوى العود إليها، إلّا أن يكون هناك اشتراط من ناحية الواقف، أو بقي رحله فيها ولكن لابدّ له من الرجوع إليها في زمان جرت العادة عليه، فلو مضى ذاك الزمان سقط حقّه، ويجوز جمع رحله وإخلاء المكان عنه.

وهناك كلام ل «جامع المقاصد» وحاصله: «أنّه لو أدّى طول المكث في هذه الموقوفات إلى إلتباس الحال بحيث أمكن دعوى الملكيّة لمن سكنها يحتمل جواز ازعاجه لأنّه مضرّ بالوقف» وما ذكره حسن لو وجد له موضوع.

وقد تعرّض بعض الأصحاب هنا لُامور تتشابه مع مصاديق قاعدة السّبق، ولكنّ هذه الامور ليست منها في الواقع، كأحكام الإمام الرّاتب في المسجد، أو السّابق في الكلام عند القاضي، أو السّبق في الخفّ والحافر والنصل، أو السّبق إلى معاملة أو سوم، أو السّبق إلى التقاط شي ء من اللقطة، ومجهول المالك، وغير ذلك.

وحيث إنّ لها أحكام خاصّة مبنيّة على مبانٍ أخر غير قاعدة السّبق ومذكورة في محالّها فالأحسن إيكال أمرها إلى مظانها في الفقه.

إلى هنا تمّ الكلام في قاعدة السّبق والحمد للّه أولًا وآخراً وظاهراً وباطناً.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 135

16 قاعدة الإلزام

اشارة

اشتهر التمسّك بكلماتهم بهذه القاعدة في الأبواب المختلفة، مثل النكاح، والطلاق، وأبواب الميراث، وغيرها، ولكن لم تنقّح حقّ التنقيح كسائر القواعد الفقهيّة.

والكلام فيها يقع في مقامات:

1- مصدر القاعدة.

2- مفادها وحدودها.

3- موارد الإستدلال بها في الفقه.

المقام الأوّل: مصدر قاعدة الإلزام

قد يستدل عليها بإجماع الأصحاب المنقول في كلمات بعضهم، المؤيدّ بشهرة الاستدلال بها في موارد مختلفة، لكنّه على فرض ثبوته لا ينفع في مثل هذه المسألة ممّا يكون لها أدلّة أخرى يحتمل استناد المجمعين إليها، فلا تكشف آراءهم وفتاواهم عن وصول شي ء إليهم من ناحية المعصومين عليهم السلام ممّا لم يصل إلينا.

وعلى كلّ حال فإنّ العمدة هنا الروايات المتضافرة الواردة في أبواب النكاح، والطلاق، والإرث وشبهها، فهي المصدر الوحيد للقاعدة، فلابدّ من سردها، وتحقيق أسنادها، ثم البحث عن مفادها.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 138

وهي على قسمين: «روايات عامّة» و «روايات خاصّة» وردت في موارد معينة لا عموم فيها.

نذكر من كلّ واحد ما عثرنا عليه:

1- ما رواه غير واحد عن علي بن أبي حمزة أنّه سأل أبا الحسن عليه السلام عن المطلّقة على غير السنّة، أيتزوجها الرجل؟ فقال: «إلزموهم من ذلك ما ألزموه أنفسهم، وتزوجوهن، فلا بأس بذلك» «1».

والمقصود منها أنّ المخالفين كانوا يطلّقون في مجلس واحد ثلاث طلقات، أو غير ذلك ممّا هو باطل عندنا، ثم كان بعض أصحابنا يبتلي بنكاح مثل هؤلاء النسوة اللاتي كانت الواحدة منهنّ خلية وفق مذهبها، ومزوّجة وفق مذهبنا، فكانوا يسألون الائمة عليهم السلام عن ذلك، وكانوا يجيبونهم بصحّة طلاقهن، وجواز نكاحهن، أخذاً بمقتضى مذهبنّ، وإلزاماً لهنّ بما ألزمن به أنفسهنّ.

هذا، ولكن قد يستشكل في عموم الرواية بأنّ قوله «من ذلك» يوجب تقييدها بخصوص موارد الطلاق، اللّهم إلّاأن يقال إنّ الاستناد إلى الإلزام دليل على أنّ

المعيار هو هذه القاعدة من غير خصوصيّة للمقام، فإلغاء الخصوصية من هذه الجهة عن مورد الرواية قريب جدّاً.

ولكنّ سند الرواية ضعيف بعلي بن أبي حمزة البطائني، وسيأتي أنّ ذلك لا يوجب إشكالًا في البحث، فإنّ الروايات متكاثرة ومتضافرة.

2- ما رواه في ذاك الباب بعينه جعفر بن سماعة (وفي نسخة التهذيب الحسن بن سماعة: «أنّه سأل عن أمرأة طلّقت على غير السنّة ألي أن أتزوجها؟ فقال: نعم، فقلت له: ألست تعلم أنّ علي بن حنظلة روى: إيّاكم والمطلّقات ثلاثاً على غير السنّة فإنّهنّ ذوات أزواج؟! فقال: يا بني، رواية علي بن أبي حمزة أوسع على النّاس، روي عن أبي الحسن عليه السلام أنّه قال: ألزموهم من ذلك ما ألزموه أنفسهم، وتزوجوهنّ فلا بأس بذلك» «2».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 139

والظاهر أنّ السائل هو «الحسن بن محمد» والمسؤول عنه هو «جعفر بن سماعة»، وليس في الرواية نقل لكلام المعصوم، نعم، إستدلّ هو في ذيل كلامه إلى ما مرّ من رواية علي بن أبي حمزة، فلا يكون حديثاً آخر غير ما مرّ سابقاً.

3- ما رواه جعفر بن محمد بن عبداللَّه العلوي، عن أبيه قال: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن تزويج المطلّقات ثلاثاً؟ فقال لي: إنّ طلاقكم الثلاث لا يحلّ لغيركم، وطلاقهم يحلّ لكم لأنّكم لا ترون الثلاث شيئاً وهم يوجبونها» «1».

وظاهرها أنّ للقاعدة معنى وسيعاً يشمل الحكم المخالف والموافق، فلو أنّ المخالف عمل بمذهب أهل الحقّ مع اعتقاده ببطلانه لم يجز له، ولابدّ من نهيه عن ذلك، ولكن عمل الأصحاب بذلك غير معلوم، وعلى كلّ حال فإنّ التعليل فيها دليل على عدم اختصاصها بباب النكاح.

4- ما رواه عبداللَّه بن طاوس قال: «قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام:

إنّ لي ابن أخ زوّجته ابنتي، وهو يشرب الشراب، ويكثر ذكر الطلاق، فقال: إن كان من إخوانك فلا شي ء عليه، وإن كان من هؤلاء فأبنها منه، فإنّه عنى الفراق، قال: قلت: أليس قد روي عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنّه قال: إيّاكم والمطلّقات ثلاثاً في مجلس؟ فإنّهنّ ذوات الأزواج؟

فقال: ذاك من إخوانكم لا من هؤلاء، إنّه من دان بدين قوم لزمته أحكامهم» «2».

وعموم الحديث نظراً إلى ذيله ظاهر.

5- ما رواه علي بن محمد قال: «سألته عليه السلام هل نأخذ في أحكام المخالفين ما يأخذون منّا في أحكامهم؟ فكتب عليه السلام: يجوز لكم ذلك إن شاءاللَّه، إذا كان مذهبكم فيه التقيّة منهم والمداراة لهم» «3».

ولكن من الواضح أنّ الإستدلال به للقاعدة في غير مورد التقيّة غير جائز، بل قد يكون معارضاً لما يدلّ على العموم، كما ستأتي الإشارة إليه إن شاءاللَّه.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 140

6- ما رواه عبداللَّه بن محرز، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «قلت له: رجل ترك إبنته واخته لأبيه وامه، قال: المال كلّه لابنته، وليس للُاخت من الأب والام شي ء، فقلت:

إنّا قد احتجنا إلى هذا والرجل الميت من هؤلاء الناس، واخته مؤمنة عارفة، قال:

فخذ لها النصف، خذوا منهم ما يأخذون منكم في سنّتهم وقضائهم وأحكامهم، قال:

فذكرت ذلك لزرارة، فقال: إنّ على ما جاء به «ابن محرز» لنوراً، خذهم بحقّك في أحكامهم وسنّتهم كما يأخذون منكم فيه» «1».

هذا، والحديث وإن كان عامّاً في ناحية الحقوق الماليّة، ولكن لا دلالة له على غير هذه الموارد، مثل أبواب التزويج والنكاح وما أشبهها.

وهناك روايات أخرى لم يصرّح فيها بهذه القاعدة، ولكن يمكن تطبيقها عليها، منها ما يلي:

7- ما رواه عبدالرّحمن البصري، عن أبي عبداللَّه عليه السلام

قال: «قلت له: إمرأة طلقت على غير السنّة؟ فقال: تتزوج هذه المرأة لا تترك بغير الزوج» «2».

فإنّه لا يمكن حملها على المعتقد بالبطلان، فهي محمولة على من يطلّق على غير السنّة معتقداً صحتها، فيلزم الزوج بما التزم به من دينه، وتكون المرأة خليّة، فتأمّل.

8- ومثله ما رواه عبداللَّه بن سنان قال: «سألته عن رجل طلّق أمرأته لغير عدّة، ثم أمسك عنها حتى انقضت عدّتها، هل يصلح لي أن أتزوّجها؟ قال: نعم، لا تترك المرأة بغير زوج» «3».

والرّواية محمولة على ما إذا كان الطلاق على غير السنّة، ولعل قوله لغير عدّة خطأ، والصحيح لغير السنّة، كما في رواية عبدالرّحمن البصري، ويمكن حملها على نفي العدّة الرجعيّة، نظراً إلى كونه طلاقاً بائناً عندهم.

9- ومثله ما رواه عبدالرّحمن بن أبي عبداللَّه قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن أمرأة

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 141

طلّقت على غير السنّة، ما تقول في تزويجها؟ قال: تزوج ولا تترك» «1».

والكلام فيه هو الكلام في ما سبقه.

10- ما رواه محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «سألته عن الأحكام؟ قال:

تجوز على كلّ ذوي دين ما يستحلّون» «2».

11- ما رواه محمد بن إسماعيل بن بزيع قال: «سألت الرضا عليه السلام عن ميت ترك امه واخوة وأخوات، فقسّم هؤلاء ميراثه فأعطوا الام السدس، وأعطوا الاخوة والأخوات ما بقي، فمات الأخوات فأصابني من ميراثه، فأحببت أن أسألك: هل يجوز لي أن آخذ ما أصابني من ميراثها على هذه القسمة أم لا؟ فقال: بلى، فقلت: إنّ ام الميّت فيما بلغني قد دخلت في هذا الأمر، أعني الدين، فسكت قليلًا ثم قال: خذه» «3».

فإنّ أخذ الاخوة والاخوات الميراث مع أنّهم من الطبقة الثانية مع وجود الام وهي

من الطبقة الأولى لا يصحّ على مذهب الحقّ، وإنّما يصحّ على مذهبهم، وكون الام إماميةً غير كاف، فإنّ المدار على الميت وميراثه، اللّهم إلّاأن يقال: إنّ هذا ضرر على الام مع أنّه غيرمعتقد به، ولكن الاخوة والاخوات أخذوا المال على مذهبهم، فوصل إلى الرأو ي من ناحيتهم لا من ناحية الام.

المقام الثاني: مفاد قاعدة الإلزام

لا شكّ أنّه قد تختلف الأحكام الفرعيّة بين المذاهب، والقاعدة ناظرة إلى هذا الاختلاف، فقد يكون شخص بمقتضى مذهبه ملزماً بأداء مال أو شي ء آخر، ولكن لا يلزم به على مذهبنا، فيأتي الكلام هنا في جواز أخذه منه أم لا؟ والمستفاد من مجموع الأحاديث المتقدّمة أنّه يجوز إلزام المخالفين بمذهبهم وأحكامهم.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 142

هذا، ولكن هناك صور مختلفة:

الاولى: اختلاف مذهبنا مع المخالفين.

الثانية: اختلافنا مع غير المسلمين.

الثالثة: اختلاف مذاهب المخالفين بعضهم مع البعض الآخر، كالحنفي بالنسبة إلى المالكي، إذا وقع ذلك محلّ ابتلائنا.

الرابعة: اختلاف مذهب الكفّار بعضهم ببعض كاليهودي والنصراني.

الخامسة: اختلاف المقلّدين في مذهب الحقّ بعضهم مع البعض الآخر، وكذلك اختلاف فقهائهم.

والقدر المسلّم المعلوم من القاعدة هو الصورة الأولى فقط، ولكن في الروايات السابقة اطلاقات يمكن استفادة العموم منها، مثل ما مرّ في رواية محمد بن مسلم من قوله عليه السلام: «يجوز على كلّ ذوي دين ما يستحلّون». وقوله عليه السلام في رواية عبداللَّه بن طاووس: «إنّه من دان بدين قوم لزمته أحكامهم»، وبعض التعليلات الدالّة أو المشعرة بالعموم، مثل قوله عليه السلام في رواية جعفر بن محمد بن عبداللَّه العلوي: «لأنّكم لا ترون الثلاث شيئاً وهم يوجبونها»، وكذلك قوله عليه السلام: في رواية عبدالرّحمن البصري: «تتزوج هذه المرأة لا تترك بغير الزوج» فإنّ جميع هذه التعابير دالّة على العموم.

فالقول بشمول القاعدة لغير المسلمين أيضاً

ليس ببعيد، ولكنّ الضمير في قوله «ألزموهم» وما أشبههه، الوارد في ما سبق من الأحاديث راجع إلى المخالفين قطعاً كما لا يخفى على من له أنس بروايات الإماميّة، مضافاً إلى ورود التصريح به في غير واحد من روايات الباب، التي مرّ ذكرها آنفاً.

وأمّا شمولها لأرباب الأديان المختلفة غير الإسلامية، فيمكن القول به أيضاً لما مرّ من عموم رواية «محمد بن مسلم» و «ابن طاووس» وما سبق من التعليلات أو ما يقوم مقام التعليل.

ومنه يظهر الحال فيمن يقتدي بمذاهب المخالفين، إذا اختلف بعضهم مع البعض الآخر، ولكنّه لا يخلو من إشكال لاحتمال إنصراف اطلاقات الأدلّة عن هذه الصورة.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 143

وأمّا اختلاف الآراء في مذهب الحقّ بين المجتهدين ومقلديهم فلا ينبغي الإشكال في عدم شمول القاعدة له، لأنّ قوله عليه السلام: «من دان بدين قوم لزمته أحكامهم» أو غير ذلك ممّا مرّ من التعبيرات غير شامل له، ولذا ذكر المحقّق في «الشرايع» أنّ المسلم لا يرث بالسبب الفاسد، فلو تزوّج محرمة لم يتوارثا، سواء كان تحريمها متفقاً عليه كالام من الرّضاع أو مختلفاً فيه كأُم المزني بها، وذكر في «الجواهر» في شرح هذا الكلام أنّه لو ترافع مقلّدو مجتهد مثلًا يرى الصحة، عند مجتهد يرى البطلان، حكم عليهم بمقتضى مذهبه، وليس له إلزامهم بما وقع منهم من التقليد قبل المرافعة «1».

المقام الثالث: في موارد شمول القاعدة

قد عرفت ممّا مرّ أنّ جلّ أحاديث الباب وردت في «الإرث» و «النكاح» و «الطلاق».

ولكن، هل يختص الحكم بهذه الأبواب الثلاث، أو يشمل الوصية، والوقف، والهبة، وإحياء، الموات، والحيازة، وما أشبه ذلك، من الأحكام والحقوق؟

والجواب: أننا لا نرى مانعاً من شمولها لها بعد عموم الأدلّة، وشمول الإطلاقات، وعدم الدليل على تخصيصها.

فلو أنّ أحداً من

المخالفين أوصى بوصيّة صحيحة عنده، باطلة عندنا، تشمل هذه الوصيّة أصنافاً منّا، فأي مانع من الأخذ بمقتضى وصيّته، والإنتفاع بها، بعد عموم قوله «ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم»، وقوله عليه السلام: «يجوز على كلّ ذوي دين ما يستحلّه» وقوله عليه السلام: «من دان بدين قوم لزمته أحكامهم»، وقد مرّ ذكرها جميعاً في طيّ روايات الباب.

وكذلك إذا وهب ما لا هبة صحيحة عنده، باطلة عندنا، فيجوز التصرّف فيه بعنوان الهبة.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 144

وهكذا في أبواب المضاربة، والإجارة، والمزارعة، والمساقاة يجوز أخذهم بمقتضى ما يلتزمون به من أحكامهم، كما يأخذون منّا بمقتضاها عند قدرتهم.

وكذلك الأمر في أبواب الحيازة، وإحياء الموات، فلو أنّ أحداً منهم عمل ما يوافق قواعد الحيازة والإحياء عندنا، ولكنّه لا يراها صحيحة بحسب أحكامهم فيترك ما حازه من هذه الجهة، لا من باب الإعراض الذي يوجب الخروج من الملك مهما كان، فلم لا يجوز الأخذ بمقتضى مذهبهم فيما يكون عليهم، كما يأخذون منّا فيما يكون لهم؟

ولكنّ الأصحاب لم يتعرضوا لهذه الفروع في كلماتهم، ولعلّه لعدم الإبتلاء به كثيراً في غير أبواب النكاح، والطلاق، والإرث، ولكنّ عدم التعرض لها لا يكون دليلًا على عدم قبولهم لها مع عموم الأدلّة، واطلاق الفتاوى أحياناً.

ثم إنّ ظاهر قاعدة الإلزام بمقتضى مفهوم هذه الكلمة الواردة في الرّوايات، وبمقتضى ذكر «على» في قوله: «يجوز على كلّ ذوي دين». أنّ موردها كلّ ما يكون من الأحكام أو الحقوق بضرر الإنسان، فهو ملزم بأدائه بمقتضى مذهبه، وأمّا إذا كان مذهبة سبباً لنفع، جاز منعه منه لمن لا يرى هذا الحقّ له، وكذا إذا كان حكماً فاسداً سبباً للتوسعة له.

هذا، ولكنّ الاستدلال بهذه القاعدة في أبواب الطلاق بالنسبة إلى المرأة المؤمنة التي

كانت عند مخالف فطلقها على مذهبه، وأنّه يجوز للمرأة التزويج، وأنّه لا تترك بلا زوج، ظاهر في عموم مفاد القاعدة، فإنّ نكاح المرأة ليس مخالفاً لمنافع زوجها دائماً، بل قد يكون موافقاً لمنافعه، اللّهم إلّاأنّ يقال إنّ المرأة ترى نفسها في قيد زوجيّة زوجها، وأنّها متعلقة به، فهذا حقّ على كلّ حال، فيجوز لها إلزام زوجها بمذهبه، والإقدام على النكاح الموجب لتفويت حقّ الزوج، ومثل هذا أيضاً يعود إلى إلزامه بمذهبه فيما يكون بضرره من الأحكام والحقوق.

إلى هنا ينتهي الكلام في قاعدة الإلزام، وما لها من الآثار والأحكام.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 145

17 قاعدة الجب

اشارة

من القواعد المعروفة بين الأصحاب قاعدة الجبّ، وموردها ما إذا أسلم إنسان فكان عليه ذنوب أو حقوق من قبل، فالإسلام يجب عمّا قبله إجمالًا، ولا يكون هذا الإنسان مؤأخذاً بها، ولكنّ الكلام في شرايط القاعدة وفروعها، وسعة دائرتها وشمولها لجميع الأحكام، أو اختصاصها بدائرة خاصّة.

ونتكلم حولها: أولًا: في مصدر القاعدة، وثانياً: في مفادها، وثالثاً: في شرايطها وخصوصياتها وما يتفرع عليها من الفروع، فنقول ومن اللَّه التوفيق.

1 مصدر قاعدة الجب

اشارة

يمكن الاستدلال عليها ببعض آيات الكتاب العزيز، وما ورد في السنّة، وما علم من سيرة النبي صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام من بعده.

الأول: الكتاب العزيز

قوله تعالى: «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ» «1».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 148

فإنّها ظاهرة في أنّ الانتهاء من الكفر يوجب غفران ما سلف، وعموميّة «ما» الموصولة دليل على غفران جميع ما سلف في حال الكفر.

واستدلّ به في «كنز العرفان» في كتاب الصلاة عند البحث عن وجوب القضاء على المرتد، في كونها تنفي وجوب القضاء عن الكافر الأصلي، للعموم المستفاد من قوله «ما قد سلف» ولكنّه استشكل في شمولها للمرتد، لعدم دخوله تحت عنوان «الذين كفروا» الظاهر في الكافر الأصلي، ثم نقل استدلال بعض بعموم «الإسلام يجبّ ما قبله»، وأورد عليه ما أورد بما هو خارج عن مهمتنا «1».

وقال في «الجواهر» في كتاب الصوم: (والكافر) الأصلي (وإن وجب عليه) الصوم لأنّه مكلّف بالفروع (لكن لا يجب) عليه (القضاء) إجماعاً بقسميه (إلّا ما أدرك فجره مسلماً)، لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله، بناءاً على منافاة القضاء، وإن كان بفرض جديد لجبّ السابق باعتبار كون المراد منه قطع ما تقدم، وتنزيله منزلة ما لم يقع، كالمراد من قوله تعالى: «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ»» «2».

واستدل أيضاً في كتاب الزكاة في باب سقوط الزكاة بالإسلام وإن كان النّصاب موجوداً، أنّ الإسلام يجبّ ما قبله، ثمّ قال: «المنجبر سنداً ودلالة بعمل الأصحاب، الموافق لقوله تعالى: «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ»» «3».

وبالجملة، دلالة الآية ظاهرة على المقصود، إنّما الكلام في مقدار عمومها، وظاهرها شمولها جميع حقوق

اللَّه التي تحتاج إلى غفرانه، أعمّ من المعاصي والواجبات التي تحتاج إلى القضاء، أو شبه ذلك.

اللّهم إلّاأن يقال: الآية ناظرة إلى المعاصي، والمخالفة العمليّة والاعتقاديّة للفروع والاصول، وأمّا ما يتعلق بالقضاء، والتدارك، وغيرها فهي منصرفة عنها، ولعلّه لذلك لم يستدل كثيرمنهم بالآية لقاعدة الجبّ، ولكن لا ينبغي الشك في شمولها

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 149

للحدود الإلهيّة الجارية على من ارتكب الزنا، وشرب الخمر، وغيرهما من أشباههما، فانّها مشمولة للغفران.

وممّن استدلّ بالآية على قاعدة الجبّ، بعض مفسّري المتأخرين من العامّة، حيث ذكر في تفسير الآية رواية «مسلم» من حديث «عمروبن العاص» قال: «فلما جعل اللَّه الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه و آله فقلت: «ابسط يدك ابايعك، فبسط يمينه فقبضت يدي، قال: ما لك؟ قلت: أردت أن اشترط، قال: تشترط بماذا؟ قلت: أن يغفر لي، قال: أمّا علمت يا عمرو أنّ الإسلام يهدم ما قبله، وأنّ الهجرة تهدم ما قبلها، وأنّ الحجّ يهدم ما قبله؟!» «1».

وفي تفسير «العيّاشي» عن أبي جعفر الباقر عليه السلام أنّه استدل بهذه الآية في جواب علي بن دراج الأسدي حيث قال: «إنّي كنت عاملًا لبني امية فأصبت مالًا كثيراً، فظننت أنّ ذلك لا يحلّ لي، قال عليه السلام: فسألت عن ذلك غيري؟ قال: قلت: قد سألت، فقيل لي: إنّ أهلك وما لك وكلّ شي حرام، قال: ليس كما قالوا لك، قلت: جعلت فداك فلي توبة؟ قال: نعم، توبتك في كتاب اللَّه «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ»» «2»

ولكنّ فيها كلام لعلّه سيمرّ عليك.

الثاني: السنّة

1- منها الرواية المعروفة التي نقلها العامّة والخاصّة بعبارات مختلفة في كتب الحديث، والفقه، والتفسير، واللغة.

فممّن نقله القمي في تفسير قوله تعالى: «وَقَالُوا

لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً» الآية، أنّ ام سلمة شفعت لأخيها عند النبي صلى الله عليه و آله في قبول إسلامه

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 150

وقالت له: ألم تقل أنّ الإسلام يجب عمّا قبله؟ قال صلى الله عليه و آله: نعم، ثمّ قبل إسلامه» «1».

ورواها الطريحي في «مجمع البحرين» هكذا: «الإسلام يجبّ ما قبله، والتوبة تجبّ ما قبلها، من الكفر، والمعاصي، والذنوب» «2».

واستدلّ فقهاؤنا في كتب الفقه من كتاب الزكاة، والصلاة، والحجّ، وغيرها، وهو معروف بينهم، وقد استدلّوا بالرواية وادّعوا إنجبار ضعف سندها من جهة الإرسال بالشهرة.

وممن نقله من العامّة المحدث المعروف مسلم بن الحجّاج في باب كون الإسلام يهدم ما قبله، وكذا الهجرة، والحج، عن عمرو بن العاص أنّه قال بعد كلام طويل: لما جعل اللَّه الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه و آله وقلت: أبسط يمينك لُابايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، قال: مالك يا عمرو؟ قال: قلت: أردت أن اشترط، قال:

تشترط بماذا؟ قلت: أن يغفر لي، قال: أمّا علمت أنّ الإسلام يهدم ما قبله، وأنّ الهجرة تهدم ما قبلها، وأنّ الحج يهدم ما كان قبله» «3».

وفي «السيرة الحلبية»: أنّ «عثمان» شفع في أخيه «ابن أبي سرح» قال صلى الله عليه و آله: «أما بايعته وآمنته، قال: بلى، ولكن يذكر ما جرى منه معك من القبيح، ويستحي قال صلى الله عليه و آله:

الإسلام يجبّ ما قبله» «4».

وفي تاريخ «الخميس» و «السيرة الحلبية» و «الإصابة» لابن حجر في إسلام «هبّار» قال: «يا هبّار! الإسلام يجبّ ما كان قبله»، ونحوه في «الجامع الصغير» للسيوطي في حرف الألف.

وقد رواه جمع آخرون في كتبهم ممّا يطول البحث بذكرها اجمع.

وروى العلّامة المجلسي

رحمه الله في «بحار الأنوار» عند ذكر قضايا أمير المؤمنين عليه السلام عن

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 151

أبي عثمان النهدي جاء رجل إلى عمر فقال: «إنّي طلّقت أمرأتي في الشرك تطليقة، وفي الإسلام تطليقتين، فما ترى؟ فسكت عمر، فقال له الرجل: ما تقول؟ قال: كما أنت حتى يجي ء علي بن أبي طالب، فجاء علي عليه السلام فقال: قصّ عليه قصّتك، فقصّ عليه القصة، فقال علي عليه السلام: هدم الإسلام ما كان قبله، هي عندك على واحدة» «1».

وروي من طرق العامّة أيضاً في حكاية إسلام «مغيرة بن شعبة» أنّه وفد مع جماعة من «بني مالك» على «مقوقيس» ملك مصر، فلما رجعوا قتلهما المغيرة في الطريق، وفرّ إلى المدينة مسلماً، وعرض خمس أموالهم على النبي صلى الله عليه و آله فلم يقبله، وقال: لا خير في غدر، فخاف المغيرة على نفسه، وصار يحتمل ما قرب وما بعد، فقال صلى الله عليه و آله:

«الإسلام يجب ما قبله».

ونقله ابن سعد أيضاً في طبقاته.

والعمدة أنّها حديث مشهور في كتب الفريقين واعتمد عليها فقهاؤهم في المباحث المختلفة، وكفى بذلك في جبر ضعف سندها، ولذا قال المحقّق الهمداني رحمه الله في «مصباح الفقيه» في كتاب الزكاة بعد ذكر الحديث ونقل تضعيفه من قبل صاحب «المدارك»، ما نصّه: «المناقشة في سند هذه الرواية المتسالم على العمل بها بين الأصحاب فممّا لا ينبغي الإلتفات إليها وكذا في دلالتها» «2».

2 مفاد الحديث

الفعل الصادر من الكافر حال كفره، أو الترك كذلك لا يخلو من وجوه:

1- ما كان معصية للّه، كنفس الكفر، والظلم، والفساد في الأرض، وقطع الرحم.

2- ما كان له قضاء، كالعبادات المتروكة مثل: الصلاة، والصيام.

3- ما ليس له قضاء بل وجوبه دائم، ولكنّه زالت شرائطه فيما

إذا صار الشخص فقيراً بعد الاستطاعة ثم أسلم.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 152

4- ما تعلّق به حقّ شرعي، ثمّ انعدم موضوعه، ثم أسلم، كالأموال الزكوية التي لم يؤدّ حقّها.

5- ما تعلّق به حقّ شرعي وموضوعه باقٍ كالنصاب الموجود من الزكاة بعد حلول الحول، ولكن أسلم بعد زمان تعلّق الوجوب.

6- ماله حدّ شرعي، كشرب الخمور، والزنا، وحدّ المحارب.

7- ماله قصاص في الشرع، وليس له فيما بين العرف والعقلاء قصاص.

8- ماله قصاص في كلّ دين وطريقة، كقتل النفوس البريئة.

9- ماله أثر وضعي في الشرع، كالتطليقات الثلاثة.

10- ماله أثر وضعي باقٍ موضوعه، كالجنابة، والرّضاع.

11- الأموال المحرّمة شرعاً التي اكتسبها حال الكفر من طرق فاسدة في الشرع.

12- عقوده وإيقاعاته المتداولة.

13- ما أوجبه على نفسه بالنذر وغيره ممّا هو صحيح في اعتقاده، وفي الشر.

14- ديونه التي على عهدته، ومهر زوجته، وبدل اتلاقه.

لا شكّ في أنّ قاعدة الجبّ لا تشمل جميع ذلك، فلا ترتفع عقوده السابقة، كذا ولا ترتفع ديونه بالإسلام، ولا مهر زوجته، ولا غير ذلك من اشباهه، بل يجب عليه الوفاء بجميعها.

وكأنّه توهمّ بعضهم منه العموم لجميع هذه الأصناف فتوهم ورود تخصيصات كثيرة على القاعدة أو أنّه من قبيل تخصيص الأكثر، فزعم وهن عموم الحديث، وعموم القاعدة، كما توهمّ مثل ذلك في قاعدتي «لا ضرر» و «القرعة»، فاعتقدوا شمول «لا ضرر» للخمس، والزكاة، وجميع الواجبات الماليّة، والحج، والنذر، والديات، والضمانات، وقالوا إنّ الأخذ بعمومها مشكل لورود تخصيص الأكثر عليه بهذه الأمور الضررية وأشباهها.

وكذلك بالنسبة إلى «القرعة»، فزعموا شمولها لجميع ما يشكّ فيه ممّا يكون مجرى للأصول الأربعة أو الأمارات أيضاً.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 153

وقد ذكرنا في محلّه أنّ هذه كلّها توهمّات وتصورات غير صحيحة، ناشئة عن عدم الوصول إلى مغزى

القاعدتين، ومن هنا ظهر الإشكال، وأمّا لو وضعناهما مواضعهما، فإنّه لا يرد عليهما تخصيص أبداً، أو يكون التخصيص قليلًا جدّاً، فراجع قاعدتي «القرعة» و «لا ضرر» في هذا الكتاب.

وأمّا بالنسبة لحديث «الجبّ»، فالدقّة في فحواه ومحتواه تدلّ على عدم ورود تخصيص عليه أيضاً، ولو ورد عليه تخصيص لم يكن إلّاقليلًا.

فنقول: الظاهر اللائح من الحديث لا سيّما بحكم كونه في مقام الإمتنان على جميع من يدخل في الإسلام، وكونه في مقام إعطاء الأمن لمن يخاف لأجل أعماله السابقة بعد دخوله في الإسلام، أنّ الأعمال والتروك التي ارتكبها حال كفره لو كان لها في الإسلام مجازاة، أو كفّارة، أو عذاب إلهي، أو شبه ذلك فبعد ما أسلم يرتفع عنه جميع ذلك، والإسلام يجبّ عمّا قبله من هذه الأمور.

وهذا حكم إلهي سياسي حضاري، يوجب شوقاً للنفوس إلى قبول الإسلام، وعدم التنفّر عنه، وكذا إذا ارتكب ذنباً في مقابل النبي صلى الله عليه و آله والمؤمنين.

توضيحه: أنّ كثيراً من الكفّار كانوا ينتبهون من نومتهم، وتميل نفوسهم إلى الإسلام بعد ما ارتكبوا جرائم كثيرة، ولكن قد يمنعهم خوف المجازاة من قبول الإسلام، وكان هذا سبب تردّدهم في قبول هذا الدين، ولكنّ الشارع الإسلامي المقدّس وسّع عليهم بالحكمة الإلهية، وقال: الإسلام يهدم ما قبله، أو يجبّ ما قبله «1».

أضف إلى ذلك أنّه لو كان كلّ إنسان إذا أسلم أخذ منه زكاة أمواله طول عمره، وألزم بقضاء صلاته وصيامه كذلك، وأخذ بالحدود الشرعيّة، وأنواع التعزيرات، فإنّه يؤدّي إلى نفور الطباع عن قبول هذا الدين، ولم يكن الإسلام ديناً سمحاً سهلًا.

هذا هو معنى الحديث، وحينئذٍ لا يبقى مجال لتوهم شمولها لعقوده، وايقاعاته،

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 154

أو يدونه، أو بدل إتلافاته، أو القصاص الذي

ثبت عليه بحكم العقلاء، أو غير ذلك من أشباهه، فإنّ هذه أمور لا ترتبط بالإسلام والكفر، حتى يجبّ الإسلام عنها، وليس في الجبّ عنها امتنان، ولو كان منّة على واحد كان خلاف المنّة على آخرين، ومع ذلك لا يبقى مجال لتوّهم ورود تخصيصات كثيرة عليها.

هذا خلاصة الكلام في معنى الحديث، فلنرجع إلى تفاصيله فنقول: أمّا بالنسبة إلى «العقاب الاخروي والدنيوي» فهو ممّا لا شكّ في شمول الجبّ له، بل هذا هو القدر المتيقن من الحديث والآية، فاذا أسلم الكافر رفع عنه العقاب من ناحية أعماله في حال كفره، وكذا الحدود والتعزيرات كلّها، بل الظاهر أنّ الآية 38 من سورة الأنفال:

«قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ»، مختصّة به، وكذلك قياسه على التوبة، والحجّ، والهجرة، في بعض الروايات، أيضاً من هذا الباب، ولكن سيأتي أنّ للقاعدة معنى أوسع من التوبة وأشباهها الموجبة للغفران فقط، فعلى هذا ترتفع آثار الفسق عن الكافر بعد إيمانه، ولا يضرب حدّاً ولا تعزيراً.

وأمّا بالنسبة إلى العبادات التي لها «قضاء» كالصلاة والصوم، فهذه وإن لم تكن عقوبة بل تداركاً لما فات، ولكنّ الإنصاف أنّ عموم حديث الجبّ يشملها أيضاً، ولذا صرّح غير واحد من الأصحاب بارتفاع القضاء عنه بعد الإسلام استناداً إلى حديث الجبّ.

قال في «الجواهر» بعد كلام المحقّق رحمه الله في «الشرايع»: «أنّه لا يجب على الكافر القضاء إلّاما أدرك فجره مسلماً» ما نصّه: «لأنّ الإسلام يجبّ ما قبله، بناءاً على منافاة القضاء وإن كان بفرض جديد لجبّ السابق، باعتبار كون المراد منه قطع ما تقدم وتنزيله منزلة ما لم يقع» «1».

وذكر في موضع آخر منه: «ويسقط القضاء بالكفر الأصلي بلا خلاف أجده فيه، بل في المنتهى وغيره

الإجماع، بل في المفاتيح نسبته إلى ضروري الدين للنبوي

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 155

«الإسلام يجبّ ما قبله»، وبذلك يخص عموم من فاتته» «1».

وفي «العناوين»: الظاهر أنّ الإسلام يجبّها (أي حقوق اللَّه المختصّة به) مطلقاً للخبر، ولظاهر الإجماع فلا يجب عليه قضاء العبادات البدنيّة.

وممّا يدلّ عليه دلالة ظاهرة السيرة المستمرة من لدن زمن النّبي صلى الله عليه و آله إلى زماننا هذا، فإنّه لا يلزم من أسلم بقضاء عباداته بالنسبة إلى السنين السابقة، ولو كان لبان وظهر أشدّ الظهور.

وأمّا بالنسبة إلى الحقوق الماليّة الإلهيّة كالخمس، والزكاة، فالظاهر أنّها أيضاً كذلك لعمومها، وعدم المانع عنها، كما صرّح به الأصحاب في فتاواهم، واستندوا إلى الحديث في بعض كلماتهم، ولذا قال في «الجواهر»: «ومنه يستفاد ما صرّح به جماعة من سقوطها بالإسلام، وإن كان النصاب موجوداً، لأنّ «الإسلام يجبّ ما قبله» المنجبر سنداً ودلالة بعمل الأصحاب ... بل يمكن القطع به بملاحظة معلوميّة عدم أمر النبي صلى الله عليه و آله لأحد ممّن تجدد إسلامه من أهل البادية وغيرهم بزكاة إبلهم في السنين الماضية، بل ربّما كان ذلك منفّراً لهم عن الإسلام، كما أنّه لو كان شي ء منه لصاع وشاع، كيف والشايع عند الخواص فضلًا عن العوام خلافه،- ثم قال- فمن الغريب ما في المدارك من التوقّف في هذا الحكم لضعف الخبر المزبور سنداً ومتناً، وللصحاح المتضمنة لحكم المخالف إذا استبصر» «2».

ويظهر من كلامه، وممّا ذكرناه آنفاً، أنّ السيرة المستمرة بين المسملين من لدن زمن النبي صلى الله عليه و آله على عدم أخذ الزكوات والأخماس عمّن دخل في الإسلام من أقوى الأدلّة على ذلك.

وأمّا ما ذكره في «المدارك» فلا يخفى ضعفه ممّا ذكرنا، فإنّ الحديث لا ضعف له

من ناحية المتن، ولا يرد عليه تخصيصات كثيرة، كما بيّناه آنفاً، وأمّا سنده فهو

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 156

مجبور بعمل الفريقين وشهرته بينهم، وقياس الكافر على المستبصر قياس مع الفارق.

ومن هنا يظهر أنّه لا فرق بين السنين الماضية وبين سنته إذا أسلم بعد زمن تعلّق الزكاة لعين ما مرّ من الأدلّة.

وقال بعض الفضلاء في محاضراته: قد استدل على سقوط الجانب الوضعي عن الزكاة عن الكافر بإسلامه بما روي عن النبي صلى الله عليه و آله «الإسلام يجبّ ما قبله» فكما أنّ الكافر الذي أسلم لا يكلّف بقضاء الصلاة، والصيام الفائتين منه حال كفره، كذلك لا يكلّف باعطاء الزكاة عن السنين الماضية حال كفره.

هذا ما عليه المشهور، بل لم ينقل عن أحد غير صاحبي «المدارك» و «الذخيرة» التوقّف فيه، حيث طعنا في الإستدلال بالحديث بضعفه، والحقّ أنّه كذلك، لأنّه لا سند لهذا الحديث عندنا كما أنّه يمكن المناقشة في الدلالة بأنّ الجبّ هو القطع، على ما ذكره «الطريحي» في «مجمع البحرين» ومعنى الحديث على ما ذكره: «أنّ التوبة تجبّ ما قبلها من الكفر، والمعاصي، والذنوب، والإسلام يجبّ ما قبله».

والمستفاد من ذلك أنّه كما تلغى التوبة كلّ تبعة كانت على العاصي والمذنب، فكذلك يلغي الإسلام كلّ تبعة على الكافر أيام كفره، فلا يعاقب على ذلك، وهذا لا ربط له بالتكليف، ثمّ إنّ الحديث لو تم سنده فانّه يتضمن الامتنان نظير الامتنان في حديث الرفع أو نفي العسر والحرج أو نفي الضرر، وهو إنّما يتمّ إذا لم يعارض بالامتنان في مورد آخر وفي المقام يكون الامتنان على الكافر باسقاط الزكاة عنه معارضاً لحق الاصناف الثمانية في الزكاة!.

هذا مضافاً إلى إشكال عقلي وهو أنّ البعث سبب إلى العمل المبعوث إليه،

فاذا كان العمل المبعوث إليه مقيداً بالإسلام وكان الإسلام مسقطاً للتكليف يلزم من علية الشي ء لعدم نفسه وهو مستحيل! هذا والانصاف أنّ شيئاً ممّا ذكره لا يمكن المساعدة عليه ويرد عليه:

أولًا: أنّ سند الحديث منجبر بعمل الأصحاب، بل علماء الإسلام من الأصحاب وغيرهم.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 157

ثانياً: أنّ عطفه على التوبة لا يوجب تضييق مفهومها بعد اطلاقها.

ثالثاً: أنّ الامتنان على من تجدد إسلامه أقوى بمراتب من الامتنان على مستحقي الزكاة، بل لا دليل على انحصارها بموارد الامتنان.

ورابعاً: أعجب من الكلّ الاستدلال بعدم جواز علّية الشي ء لعدمه، فانّ مقتضى الحديث أنّ الإسلام يكون علّة لإثبات التكاليف عليه في المستقبل فقط لا بالنسبة إلى الماضي.

وأمّا بالنسبة إلى الواجبات البدنية التي إنعدم شرائطها فعلًا كالحج بعد زوال الاستطاعة، والظاهر أنّها أيضاً مشمولة لحديث الجبّ، ويوافقه السيرة المستمرة، فمن كان مستطيعاً في الأزمنة البعيدة ثم أسلم بعد سنين حال كونه غير مستطيع لا يلزم بالحج.

هذا كله ممّا لا ينبغي الإشكال في دخولها تحت القاعدة.

وكذا لا ينبغي الإشكال في خروج بعض ما ثبت فيه القصاص الشرعى، أو الديات الثابتة في الشرع ممّا لم تكن ثابتة عند العقلاء والأديان السابقة، فالظاهر أنّها أيضاً مرفوعة بحكم القاعدةعرفت عند تفصيلها.

وأمّا قصاص النفس وشبهه ممّا اشترك فيه الإسلام والكفر وجميع الأديان الإلهية وغيرها، فالانصاف أنّها خارجة عن القاعدة ولا وجه لرفها بالإسلام، فانّها ليست أحكاماً إسلامية فقط حتى ترتفع عمن لم يؤمن بها، وإن هو إلّاكالديون الماليّة الثابتة في جميع الشرايع، بل وعند من لا يؤمن بأي دين، فلو قتل إنسان إنساناً آخر ثم أسلم، فالقصاص ثابت وكذا الدية عند اجتماع شرائطها.

نعم، المعروف من سيرة النبي صلى الله عليه و آله أنّه لم يعتن

بدماء الجاهلية، ولم يؤاخذ أحداً بها، وقد اشتهر عنه صلى الله عليه و آله هذا الحديث: «ألا وإنّ كلّ شي ء من أمر الجاهليّة موضوع تحت قدميّ هاتين، ودماء الجاهليّة موضوعة» «1».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 158

ولكنّ الظاهر أنّ إلغاء دماء الجاهلية كان بدليل خاص، وناشئاً من علّة أخرى وهو أنّه صلى الله عليه و آله لو أراد الأخذ بدماء الجاهلية والقصاص عنها لظهر فساد كبير، ولم يستقرّ حجر على حجر لابتلاء كثيرمنهم بدماء الجاهلية، فكان مأموراً من عند اللَّه بترك التعرّض لها.

وكذا الكلام بالنسبة إلى الدماء التي أراقوها في الغزوات الإسلامية عند محاربة الإسلام مع الكفر، فلو أنّ كافراً حضر في «بدر» و «أحد»، وقتل من المسلمين ما قتل، ثم أسلم فلم يكن يقتصّ منه، ولم نسمع أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله اقتصّ من أحد منهم، بل المعروف من قصّة وحشي وأنّه عفا عنه بعد إسلامه، أنّ الظاهر أنّ قاعدة الجبّ تشمل جميع هذه الأمور.

أمّا لو لم يكن القتل جاهليّاً ولا دينياً، بل كان في قضيّة خاصّة بين كافر وغيره، ثم أسلم فحينئذٍ يشكل إسقاط القصاص أو الدية منه بالإسلام إذا كان هذا ثابتاً في مذهبه السابق.

وأظهر من هذا الأحكام المتعلّقة بالعقود، والايقاعات، والعقود، والنذور، والديون المالية، والاتلافات، بل وجميع الضمانات، فلا ترتفع بالإسلام قطعاً، فلو أنّ كافراً غصب مال أحد ثمّ أسلم، أو عقد على امرأة ثم أسلما، أو ابتاع شيئاً من غيره ثمّ أسلم، أو استدان ديناً كذلك، فلا إشكال في بقاء هذه الأمور على حالها، والإسلام لا يجبّه ولا يقطعه ما سبق بالنسبة إلى هذه الأمور.

قال بعض المحقّقين: «إنّ الحقوق الماليّة القابلة للتأمل أو المنع عن كونها مشمولة للنصّ إنّما هي

الحقوق الثابتة عليه لا بشرع الإسلام، كردّ الأمانات، والديون المستقرّة في ذمّته، وإلّا فقد أشرنا إلى أنّ الخمس، والزكاة، والكفارات، ونظائرها من الحقوق الماليّة الناشئة من التكاليف المقرّرة في دين الإسلام من أظهر موارد الحديث» «1».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 159

بل لا نجد وجهاً بيّناً لتأمّله رحمه الله في ثبوت الحقوق الماليّة والديون، وأنّها ثابتة لا ترتفع.

أمّا بالنسبة إلى مثل حدث الجنابة، والحدث الأصغر، وشبههما، فأحكامها باقية بعد الإسلام، ويجب على الكافر بعد إسلامه الطّهارة عنها لصلواته، ولكن هل كان ذلك معمولًا به في صدر الإسلام في زمن النّبي صلى الله عليه و آله، وأنّه كان يدعو من يدخل في الإسلام إلى الطّهارة من الجنابة التي كانت لديه وكذا الحدث الأصغر.

الظاهر نعم بالنسبة إلى الحدث الأصغر، فإنّ الداخل حديثاً للإسلام كان يتوضأ كما يتوضأ المسلمون لصلاتهم، وأمّا الإغتسال عن الجنابة السابقة ولو كان قبل سنين، فقد يقال إنّه أيضاً لازم، وليس ببعيد، وإن كان لا يخلو عن إشكال.

قال في «مفتاح الكرامة» في كتاب الصلاة عند الكلام في سقوط قضائها عن الكافر: «واستثنى المحقّق الثاني في حاشيتة حكم الحدث كالجنابة، وحقوق الآدميين، قال: والمعلوم أنّ الذي يسقط ما خرج وقته، وكذلك الشهيد الثاني، وفي «الذخيرة» أنّ ذلك محلّ وفاق، وكذا «مجمع البرهان» قال: إنّ حقوق الآدميين مستثنى بالإجماع»»

.بل يظهر من بعضهم في بحث مطهريّة الإسلام لبدن الكافر ورطوباته المتّصلة به من بصاقه، وعرقه، ونخامته، والوسخ الكائن على بدنه، من الاستدلال بحديث الجبّ له، وأورد عليه في «المستمسك» بأنّه: «يختصّ بالآثار المستندة إلى السبب السابق على الإسلام، وبقاء النجاسة ونحوها ليس مستنداً إلى ذلك» «2».

ولكن هل كان ذلك معهوداً في صدر الإسلام والأزمنة المتأخّرة عنه؟ وهل أمروا الكفّار

بتطهير أبدانهم، وثيابهم، والإغتسال من الجنابة، مع أنّ الكافر إذا دخل الإسلام يبقى على حالته السابقة بالنسبة إلى هذه الأمور إلّاأن يؤمر بخلافه؟ لا يخلو عن إشكال.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 160

وقال الشهيد الثاني رحمه الله في «المسالك» في باب غسل الجنابة: «أنّه يمكن أن يقال على هذا يحكم عند الإسلام بسقوط وجوب الغسل عنه إن كان في غير عبادة مشروطة به، لأنّ الوجوب من باب خطاب وضع الشرع، ثمّ إذا دخل وقتها أو كان حاصلًا وقت الإسلام، حكم عليه بوجوب الغسل عنه إن كان في غير عبادة مشروطة به، لأنّ الوجوب من باب خطاب وضع الشرع، ثم إذا دخل وقتها أو كان حاصلًا وقت الإسلام حكم عليه بوجوب الغسل إعمالًا للسبب المتقدّم كما لو أجنب الصبي بالجماع فإنّه يجب عليه الغسل بعد البلوغ في وقت العبادة» «1».

ويظهر من «الخلاف» أيضاً وجوب الغسل عليه بعد إسلامه، قال في المسألة «70» من كتاب الطهارة ما لفظه: «الكافر إذا تطهّر أو إغتسل على جنابة ثمّ أسلم لم يعتد بهما، وبه قال الشافعي وقال أبو حنيفة: أنّه يعتدّ بهما، دليلنا ما بيّناه من أنّ هاتين الطهارتين تحتاجان إلى نيّة القربة والكافر لا يصحّ منه نيّة القربة في حال كفره، لأنّه غير عارف باللّه تعالى فوجب أن لا يجزيه» «2».

وكلامه وإن كان ناظراً إلى غير المقام، ولكن يستفاد منه المقصود بطريق أولى.

وقال الفقيه الماهر رحمه الله في «الجواهر» في كتاب الطهارة: «فإذا أسلم وجب عليه الغسل عندنا بلا خلاف أجده، ويصحّ منه لموافقه للشرائط جميعها، إذن الظاهر أنّ المراد بكونه يجب ما قبله إنّما هو بالنسبة إلى الخطابات التكليفيّة البحتة، لا فيما كان الخطاب فيه وضعيّاً كما فيما نحن فيه،

فإنّ كونه جنباً يحصل بأسبابه، فيلحقه الوصف وإن أسلم» «3».

وقال المحقّق الهمداني رحمه الله في «مصباحه»: «لا ينبغي الارتباب في وجوب الغسل عليه بعد أن أسلم، وإن لم نقل بكونه مكلّفاً به حال كفره، إذ غايته أن يكون كالنائم، والمغمى عليه، وغيرهما، ممّن لا يكون مكلّفاً حين حدوث سبب الجنابة، ولكنّه

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 161

يندرج في موضوع الخطاب بعد استماع شرائط التكليف فيعمّه قوله تعالى «وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ...» «1»

، وقوله عليه السلام: «إذا دخل الوقت وجب الصلاة والطّهور» ولا ينافي ذلك ما ورد من أنّ الإسلام يجبّ ما قبله، لأنّ وجوب الغسل لصلاته بعد أن أسلم من الأمور اللاحقة فلا يجبّه الإسلام، وحدوث سببه قبله لا يجدي لأنّ الإسلام يجعل الأفعال والتروك الصادرة منه في زمان كفره في معصية اللَّه تعالى كأن لم تكن، لا أنّ الأشياء الصادرة منه حال كفره يرتفع آثارها الوضعيّة خصوصاً إذا لم يكن صدورها على وجه غير محرم، كما لو بال أو احتلم فإنّه كما لا ترتفع نجاسة ثوبه وبدنه المتلوث بهما بسبب الإسلام كذلك لا ترتفع الحالة المانعة من الصلاة الحادثة بسببهما، وكيف كان فلا مجال لتوهم ارتفاع الحدث بالإسلام كما لا يتوهم ذلك بالنسبة إلى التوبة التي روى فيها أيضاً أنّها تجبّ ما قبلها» «2».

ولكنّ العمدة ما عرفت من سيرة النّبي صلى الله عليه و آله وأنّه هل كان يأمر من دخل الإسلام بالإغتسال عن الجنابة «3» مع أنّ كلّهم أو جلّهم كانوا مبتلين بأسبابها، ولم نر ما يدلّ على ذلك، إلّاروايات رواها البيهقي في سننه تدلّ على أمر النّبي صلى الله عليه و آله لمن أسلم أو أراد الإسلام بالإغتسال في بعض الروايات، وبالإغتسال

بالماء والسّدر كما في روايات أخرى، من غير تصريح فيها بعنوان غسل الجنابة، فإنّ قلنا بكفاية ذلك عن جميع ما كان عليه من الأغسال، حتى غسل الحيض والنفاس بالنسبة إلى النساء اللاتي دخلن في الإسلام، وتمّ إسناد هذه الأحاديث وكان الأمر واضحاً، وإلّا بقي الإشكال، وعلى كلّ حال لا شكّ أنّه لا ينبغي ترك الإحتياط بالإغتسال لعدم ظهور شمول قاعدة الجبّ له، وعدم الاطمينان بوجود السيرة على خلافه.

أمّا الأحكام الوضعيّة كالرضاع، والمحرمات السببيّة كدمومة الزوجة التي حصلت بينها وبين غيرها قبل إسلامها، فلا ينبغي الشكّ في إجراء أحكامها عليها لأنّه يصدق

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 162

عليه بعد الإسلام الأخ الرّضاعي، أو صهر البنت، أو أم الزوجة أو غير ذلك من هذه العناوين، فلا مساس للقاعدة بهذه الأمور التي تكون موضوعاتها باقية وليست من العقوبات وشبهها، لما عرفت في معنى الحديث.

أما مثل «التطليقات الثلاثة» التي تحقق جميعها أو بعضها قبل الإسلام ثم أسلم، فالظاهر أنّه كذلك، لأنّ الفراق أثر وضعي اعتباري للتطليقات، ولا دخل للإسلام والكفر فيه، وليس من العقوبات وشبهها حتى يجبّ الإسلام عنه، اللّهم إلّاأن يقال إنّ مثل هذا الحكم لم يثبت من قبل، بل هو حكم إسلامي في هذا الدين، فالإسلام يرفعه، وعليه يحمل ما رواه في «البحار» عن أبي عثمان النهدي قال: «جاء رجل إلى عمر فقال: إنّي طلّقت أمرأتي في الشرك تطليقة وفي الإسلام تطليقتين، فما ترى؟

فسكت عمر، فقال له الرجل: ما تقول؟ قال: كما أنت حتى يجي ء عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فجاء عليّ عليه السلام فقال: قصّ عليه قصّتك، فقصّ عليه القصّة، فقال علي عليه السلام: هدم الإسلام ما كان قبله، هي عندك على واحدة» «1».

وقد عرفت روايته

من طرق أهل السنّة أيضاً.

ولازمه سقوط ما وقع من الطلاق في حال الكفر، فيقتصر على ما وقع في حال الإسلام، فيعتبر من تطليقاته الثلاثة تطليقتان، وتتوقف الحرمة على تطليقة واحدة أخرى، والظاهر أنّ هذا هو معنى قوله «هي عندك على واحدة».

ولكنّ سند الرواية ضعيف، والعمل على وفقها لا سيّما مع عموم الدليل، وهو قوله عليه السلام: «هدم الإسلام ما كان قبله» يوجب العمل بهذا في سائر الأسباب والشرائط الشرعيّة، ولا نظن أنّ أحداً يلتزم به، فالأولى أن يقال إنّ العمومات تقتضي القول باعتبار طلاقه قبل الإسلام، وحصول التطليقات الثلاثة في مفروض المسألة فتحرم عليه المرأة، وأمّا الحديث فلا جابر له، فاللازم إيكال أمرها إلى أهلها.

ويؤيد ما ذكرنا ما ورد في عدّة النصرانيّة إذا أسلمت، فقد روى زرارة في رواية

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 163

صحيحة عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن نصرانية: «- إلى أن قال- إذا أسلمت بعد ما طلقها، فإنّ عدّتها عدّة المسلمة» (الحديث) «1».

فإنّها صريحة في صحة طلاقها من زوجها، ويبقى عليها العدّة، وحيث إنّها أسلمت يجب عليها الإعتاد بعدّة المسلمة.

هذا تمام الكلام في مفهوم الروايات ومحتواها، وسعة دائرتها، ومقدار شمولها، وبيان ما هو خارج عنها أو داخل فيها، وتحصّل من جميع ذلك أنّ القاعدة لا ترد عليها تخصيصات كثيرة، ولو ثبت تخصيص في بعض الموارد، فاللازم الأخذ به، ويبقى الباقي مندرجاً تحتها.

3 بناء العقلاء هنا

وممّا يدلّ على قاعدة الجبّ أو يؤكدها تأكيداً تاماً ما أسلفناه عند الكلام في السنّة وأنّها بشكل آخر دارجة بين العقلاء وأهل العرف، ولعلّ الشارع أمضاها، وهو أنّ القوانين عندهم لا تعطف على ما سبق، ومراده ممن ذلك أنّ القوانين المجعولة عندهم لا تشمل المصاديق التي كانت سابقة على

جعلها، لا سيّما إذا كان من العقوبات، والداخل في دين جديد في الواقع يكون كمن سبق قانوناً، فلا يشمله ذلك.

وحكمة هذا الأصل بينهم أنّ شمول القوانين لما سبق من المصاديق كثيراً ما يوجب الهرج والمرج واختلال النظام، ومفاسد أخرى لا تخفى على أحد.

وهذا لو لم يعدّ دليلًا على القاعدة، ولكن يمكن أن يكون سبباً لانصراف العمومات والاطلاقات الواردة في العقوبات وشبهها ممّا صدر في حال الكفر.

أضف إلى ذلك لزوم العسر والحرج الشديد من عدم جبّ الإسلام عمّا قبله، وهذا وان لم يكن دليلًا عاماً شاملًا لجميع مصاديقه، ولكن يشمل كثيراً منها، وكيف لا

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 164

يجبّ الإسلام عمّا قبله وقد قال اللَّه تعالى: «هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ...» «1».

وقوله صلى الله عليه و آله: «بعثت إلى الشريعة السمحة السهلة» «2»، وأيّ حرج أعظم من أن يؤخذ بعد إسلامه بما فعله في حال الكفر؟ وأيّ سهولة وسماحة في دين يؤاخذ من دخل فيه بما صدر منه قبل ذلك ولو بسنين كثيرة؟

نعم هذا الدليل كما قلنا لا يجري في جميع موارد قاعدة الجبّ، ولكن الكثير من مصاديقها داخل فيه، فهو مؤيّد لما سبق أيضاً.

18 قاعدة الإتلاف

اشارة

والكلام في هذه القاعدة يقع في مقامات:

1- معنى القاعدة إجمالًا.

2- مصادرها.

3- مفادها تفصيلًا.

4- ما يتفرع عليها من الفروع.

1 معنى القاعدة

معنى القاعدة على إجمالها ظاهر لا غبار عليه، وهو أنّ من أتلف مالًا أو أتلف المنافع المترتبة على مال بسبب من الأسباب، عالماً أو جاهلًا، ممّا يتعلق بالغير، فهو مكلّف بأداء مثله أو قيمته، وذلك إذا لم يكن بإذن صاحبه، بل غصباً عليه أو بغير رضى منه، وهذه قاعدة سارية في كثيرمن أبواب الفقه، ويستند إليها الفقهاء من العامّة والخاصّة، بل هي قاعدة عقلائية قبل أن تكون شرعيّة كما سنتكلم فيه إن شاء اللَّه.

والمقصود هنا بيان القاعدة على نحو كلّي كما يقتضيه كيفية البحث في القواعد الفقهيّة، وأمّا جزئياتها وخصوصياتها، وما قد يرد عليها من الاستثناء فهي من وظائف الكتب الفقهيّة، لا ما يبحث عن قواعدها.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 168

وهذه القاعدة- كما سيأتي إن شاءاللَّه- من شؤون سلطنة المالك على ماله، فإنّ تلك السلطنة تقتضي جواز أخذ المتلف بما يكون عوضاً للمال، أو المنفعة.

2 مصدر قاعدة الإتلاف

اشارة

المعروف في كلمات من تعرّض للقاعدة هو هذا العنوان: «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» ولكنّ هذه العبارة لم توجد في رواية ممّا ورد في كتب الفريقين، كما اعترف به غير واحد، ومن المحتمل قويّاً أنّها قاعدة مصطادة من الروايات الكثيرة الواردة في موارد خاصّة، بحيث يعلم بالغاء الخصوصية عنها، ومن بناء العقلاء، وغيره كما سيأتي إن شاء اللَّه.

وعلى كلّ حال فما يمكن أن يستدل به للقاعدة أمور:

الأول: من كتاب اللَّه

ويمكن الاستدلال لها بالآيات التالية:

1- قوله تعالى: «فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ...» «1».

فإنّ إطلاقها يشمل الإعتداء في الأنفس، والأموال، ومن الواضح أنّ ما يعطى به قصاصاً أو تقاصاً وشبهه ليس من الإعتداء ولكن أطلق عليه هذا العنوان في الآية تغليباً، كما أنّ من الواضح أنّه ليس معنى الإعتداء بالمثل أن يكسر إناءاً في مقابل كسر إناء، بل أن يؤخذ قيمة إناء في مقابل كسر إناء، فهذا هو الإعتداء بالمثل في هذه الموارد عرفاً، وكذلك من أحرق بيت إنسان ليس له الإعتداء بمثل إحراق بيته، بل يأخذ قيمته وما يعاد له.

وأمّا أنّ الآية هل تدلّ على ضمان المثل، أو الأعمّ منها؟ فهو بحث آخر لسنا

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 169

بصدده فعلًا، إنّما الكلام في دلالتها على المقصود إجمالًا.

2- قوله تعالى: «وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ» «1».

بناءاً على أنّ المعاقبة تشمل الأموال والأنفس فإنَّها في اللغة بمعنى المجازاة، والأخذ بالذنب، والإقتصاص، ولكنّ شمولها للأموال لا يخلو عن إشكال.

قال الراغب في «المفردات»: «والعقوبة والمعاقبة والعقاب يختصّ بالعذاب كما أنّ العقب والعقبى يختصّان بالثواب»، ويستفاد من كلامه أنّ إطلاق العقوبة والعقبى على الثواب والعقاب من جهة كونهما في عقب

المعصية والطاعة.

3- قوله تعالى: «وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَايُحِبُّ الظَّالِمِينَ» «2».

بناء على إطلاق السيئة وعمومها لإتلاف الأموال والمنافع، وحينئذٍ جزاء سيئة سيئة مثلها، لكن لا بمعنى إتلاف مال أو منفعة في مقابله، بل بمعنى أخذه، فإنّ القصاص بماله بالمعنى الخاصّ مخصوص بالأنفس لعلّة لا تخفى، وأمّا في الأموال، فإنّ إتلافها حرام لا يكون التقاصّ إلّابأخذ مال مثله أو بقدر قيمته.

هذا ما يمكن الإستدلال به من آيات الذكر الحكيم، ولكنّ العمدة في هذا المقام ليست هذه الآيات لإجمالها بل الروايات التالية.

الثاني: السنّة

يمكن الاستدلال لها بروايات كثيرة وردت في أبواب مختلفة، وهي وإن كانت مختصّة بمواردها، ولكنّ ملاحظة المجموع توجب القطع بعدم اختصاصها بباب دون باب، وهي طوائف:

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 170

الطائفة الأولى: ما ورد في أبواب الضمان.

منها: ما رواه العلاء بن فضيل، عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «أنّه سئل عن رجل يسير على طريق من طرق المسلمين على دابّته فتصيب برجلها، قال: ليس عليه ما أصابت برجلها، وعليه ما أصابت بيدها، وإذا وقف فعليه ما أصابت بيدها ورجلها، وإن كان يسوقها فعليه ما أصابت بيدها ورجلها أيضاً» «1».

وهذه الرواية وأشباهها أقوى شاهد على أنّ أصل إيجاب الإتلاف للضمان كان أمراً مفروغاً عنه عندهم، وإنّما كان السؤال والجواب يدوران حول بيان مصداق الإتلاف، ولذا بيّن الامام عليه السلام أنّ السائر على الطريق لابدّ أن يراعي يدى دابّته حتى لا تصيب بيديها، فلو أتلفت بيديها شيئاً فعلى راكبها، لأنّه المتلف بالتسبيب، وأمّا لو أصابت برجليها فالعهدة على من لم يلاحظ ذلك، ولكن إذا كانت الدابّة متوقفة، أو إذا كان صاحبها خلفها يسوقها فعليه ما أصابت بيدها ورجلها، لصدق التسبيب عليه في

ذلك، فلو لم يكن أصل الضمان بالإتلاف أمراً مفروغاً عنه لم يقع السؤال عن خصوصيات أسبابه ومصاديقه.

وفي هذه الرواية أيضاً دلالة على عدم الفرق بين العمد والخطأ وبين المباشرة والتسبيب.

ومنها: ما رواه الحلبي عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنّه سئل عن الرجل يمرّ على طريق من طرق المسلمين فتصيب دابّته إنساناً برجلها، فقال: «ليس عليه ما أصابت برجلها، ولكن عليه ما أصابت بيدها، لأنّ رجليها خلفه إن ركب، فإنّ كان قاد بها فإنّه يملك باذن اللَّه يدها يضعها حيث يشاء» «2».

وفي هذه الرواية من التعليل ما يبيّن المقصود، وأيضاً ذيلها الوارد في مورد القيادة التي يكون صاحب الدابة فيها مقدّماً عليه شاهد على المقصود، وفي معناهما روايات أخر وردت في نفس هذا الباب، وإن كان بعضها يدلّ على الضمان بما أصاب باليد والرجل من الدابّة، ولكنّها لو كانت معارضة من هذه الناحية- وليست متعارضة

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 171

كما ذكرناه في محله- لم يضرّ بما نحن بصدده من الضمان بالإتلاف، لأنّ تعارضها في تشخيص المصداق.

منها: ما ورد في باب أنّ صاحب البهيمة لا يضمن ما أفسدت نهاراً ويضمن ما أفسدت ليلًا.

مثل ما رواه السّكوني عن جعفر، عن أبيه، عن علي عليه السلام قال: «كان علي عليه السلام لا يضمن ما أفسدت البهائم نهاراً، ويقول: على صاحب الزرع حفظ زرعه، وكان ما يضمن ما أفسدت البهائم ليلًا» «1».

وفي معنى هذه الرواية روايات أخر كلّها بهذا المضمون، وهي أيضاً شاهدة على ما ذكرنا شهادة قوية، حيث إنّ أصل الضمان بالإتلاف جعل أمراً مفروغاً عنه، ووقع الكلام في مصاديق الإتلاف، ففي الأماكن التي يكون المتعارف فيها حفظ الزرع على صاحبه طول اليوم لا يكون صاحب الدابّة ضامناً عند إرسالها

نهاراً، وأمّا في الليل فعليه أن يوثق دابّته، فلو أرسلها كان ضامناً لما تتلفه، ومن الواضح لو كان هناك أماكن يكون المتعارف فيها حفظ الدابّة فيها ليلًا ونهاراً، فلو أرسلها صاحبها كان ضامناً لما تتلفه.

الطائفة الثانية: ما ورد في أبواب الحدود المشتمل على تعليل، فيمكن استفادة العموم منه.

مثل ما رواه سدير عن أبي جعفر عليه السلام في الرجل يأتي البهيمة قال: «يجلد دون الحدّ، ويغرّم قيمة البهيمة لصاحبها لأنّه أفسدها عليه» (الحديث) «2».

وقوله عليه السلام: «لأنّه أفسدها عليه» في معنى: من أفسد أو أتلف مال الغير فعليه غرامته، فالرواية وإن وردت في مورد خاصّ، ولكن يمكن استفادة العموم منها بحسب تعليله.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 172

وفي معناه رواية أخرى وردت في نفس الباب ولكنّها خالية عن التعليل.

الطائفة الثالثة: ما وردت في أبواب الديات وهي كثيرة:

منها: ما رواه الحلبي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «سألته عن الشي ء يوضع على الطريق فتمرّ الدابّة فنتفر بصاحبها فتعقره، فقال: كلّ شي ء يضرّ بطريق المسلمين فصاحبه ضامن يصيبه» «1».

وصدرها وإن كان ناظراً إلى حكم دية الإنسان، وهو خارج عمّا نحن فيه، ولكنّ عموم التعليل يشمل الخسارة الواردة على الحيوان أو غيره ممّا هو داخل في المقصود.

ومنها: ما رواه داود بن سرحان، عن أبي عبداللَّه عليه السلام «في رجل حمل متاعاً على رأسه فأصاب إنساناً فمات أو أنكسر منه، فقال: هو ضامن» «2».

وما رواه السكوني، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: من أخرج ميزاباً، أو كنيفاً، أو أوتد وتداً، أو أوثق دابّة، أو حفر شيئاً في طريق المسلمين فأصاب شيئاً، فعطب فهو له ضامن» «3».

فإنّ قوله أصاب شيئاً يشمل الإنسان والحيوان وغير هما، ولعلّ

الأظهر في مثل هذا التعبير غير الإنسان.

الطائفة الرابعة: ما ورد في ضمان الأجير بالنسبة إلى ما يفسده وهي كثيرة جدّاً:

منها: ما رواه الحلبي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «سئل عن القصّار يفسد، فقال: كلّ أجير يعطى الأجرة على أنّ يصلح فيفسد فهو ضامن» «4».

وفي معناه روايات أخر عن الحلبي وإسماعيل بن أبي الصباح والسكوني وغيرهم (راجع الباب 29 و 30 من أبواب أحكام الإجارة من المجلّد الثالث عشر من الوسائل).

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 173

والتقييد الوارد في غير واحد منها بقوله: يعطى الأجرة على أنّ يصلح، لا يخلّ بالمقصود، وهو في مقابل من لا يعطى الأجرة، ويكون أخذه للمتاع بعنوان الوديعة أو مثلها، وعلى كلّ حال فهي وإن لم تكن عامّة، ولكن بالانضمام إلى غيرها تكون كافية في إثبات المقصود.

الطائفة الخامسة: ما ورد في باب شاهد الزور ممّا يدلّ على ضمانه لما أتلفه وأفسده:

منها: ما رواه جميل، عن أبي عبداللَّه عليه السلام في شاهد الزور قال: «إن كان الشي ء قائماً بعينه ردّ على صاحبه وإن لم يكن قائماً ضمن بقدر ما أتلف من مال الرجل» «1».

والتعبير الوارد في ذيله بقوله بقدر ما أتلف لا يخلو عن إشعار بالعموم.

ومثله رواية أخرى عنه وعن محمد بن مسلم وردت في ذاك الباب بعينه.

الطائفة السادسة: ما ورد في أبواب العتق في باب عتق أحد الشركاء نصيبه:

منها: ما رواه سليمان بن خالد، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «سألته عن المملوك يكون بين شركاء فيعتق أحدهم نصيبه، قال: إنّ ذلك فساد على أصحابه فلا يستطيعون بيعه ولا موأجرته، قال: يقوّم قيمة فيجعل على الذي أعتقه عقوبة وإنّما جعل ذلك لما أفسده» «2».

ومنها: ما رواه سماعة قال: «سألته عن المملوك بين

شركاء فيعتق أحدهم نصيبه، فقال: هذا فساد على أصحابه يقوّم قيمة ويضمن الثمن الذي أعتقه، لأنّه أفسده على أصحابه» «3».

وما ورد في ذيلهما من التعليل بالإفساد ممّا يمكن استفادة العموم منه.

الطائفة السابعة: ما ورد في أبواب الرهن:

منها: ما رواه اسحاق بن عمّار قال: «سألت أبا إبراهيم عن الرجل يرهن الرهن

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 174

بمائة درهم وهو يساوي ثلاث مائة درهم فيهلك أعلى الرجل أن يردّ على صاحبه مائتي درهم؟ قال: نعم لأنّه أخذ رهناً فيه فضل وضيّعه» «1».

والتعليل الوارد في ذيله ممّا يدلّ على العموم وأنّ كلّ من ضيّع شيئاً فعليه ضمانه، فلا يقدح في الاستدلال به ظهور مورده في التلف لا في الإتلاف، لأنّ التعليل صريح في العموم.

وفي معناه روايات أخر وردت في ذاك الباب بعينه.

الطائفة الثامنة: ما ورد في أحكام الوصيّة، وأنّه إذا وضعها في غيرموضعها فهو ضامن لها:

منها: ما رواه محمد بن وارد قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن رجل أوصى إلى رجل وأمره أن يعتق عنه نسمة بستة مائة درهم من ثلثه، فانطلق الوصي فأعطى ستمائة درهم رجلًا يحجّ بها عنه، فقال له أبو عبداللَّه عليه السلام: أرى أن يغرم الوصي ستمائة درهم من ماله، ويجعلها فيما أوصى الميت في نسمه» «2».

وفي معناها روايات أخر واردة في ذاك الباب بعينه كلّها تدلّ على أنّ الوصي ضامن لما أتلف و وضعه في غير موضعه، وعليه أن يغرم من ماله، وعليه أن يأتي بالوصية على وجهها.

الطائفة التاسعة: ما ورد في أبواب العارية وأنّها إذا هلكت وكان صاحبها مأموناً لا غرم عليه، والذي يدلّ بالمفهوم على أنّه لو لم يكن مأموناً واحتمل في حقّه التفريط أو الإتلاف تعمداً فعليه الضمان.

منها: ما رواه

محمد بن قيس، عن أبي جعفر عليه السلام- في قضايا أمير المؤمنين عليه السلام- قال: «قضى أمير المؤمنين عليه السلام في رجل أعار جارية فهلكت من عنده ولم يبغها غائلة، فقضى أن لا يغرمها المعار، ولا يغرم الرجل إذا استأجر الدابّة ما لم يكرهها أو يبغها غائلة» «3».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 175

فإنّ في قوله: ما لم يكرهها أو يبغها غائلة دلالة ظاهرة على أنّه لو أتلفها كان عليه الضمان.

ومنها: ما رواه عبداللَّه بن سنان قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام قال: «سألته عن العارية، فقال: لا غرم على مستعير عارية إذا هلكت إذا كان مأموناً» «1».

وفي معناه روايات أخر واردة في ذاك الباب بعينه.

الطائفة العاشرة: ما ورد في أبواب الزكاة وأنّ من بعث بزكاته إلى أخيه ليقسمها ففسدت أو تغيّرت فهو ضامن لها إذا وجدت لها أهلًا.

منها: ما رواه زرارة قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن رجل بعث إليه أخ له زكاته، ليقسّمها فضاعت، فقال: ليس على الرسول ولا على المؤدّي ضمان، قلت: فإنّه لم يجد لها أهلًا ففسدت وتغيّرت أيضمنها؟ قال: لا، ولكن إذا عرف لها أهلًا فعطبت أو فسدت فهو لها ضامن حتى يخرجها» «2».

فإنّ إبقاء الشي ء الذي يقبل الفساد مع وجود المصرف له من مصاديق الإتلاف والافساد فيدخل في قاعدة من أتلف.

فهذه طوائف عشر كلّها تدلّ على المطلوب، مضافاً إلى غير ذلك ممّا يجده المتتبع في مختلف أبواب الفقه وكتبه ممّا يدلّ بوضوح على أنّ «ضمان من أتلف مال غيره» كان من المسائل الواضحة عند جميع الناس، ولذا لم يقع السؤال عن أصل المسألة، بل عن مصاديقها المشكوكة، وقد عرفت أنّ غير واحد منها يدلّ على العموم بمقتضى التعليلات الواردة فيها،

وما لا يدلّ على العموم يمكن إلغاء الخصوصيّة عنه، بعد ما عرفت من وروده في أبواب كثيرة غاية الكثرة، حيث لا يحتمل أحد اختصاص الأحكام الواردة فيها بمواردها، ولعمري إنّ المسألة من الوضوح بمكان لا يرتاب فيها أحد.

3- بناء العقلاء

هذه القاعدة كما ذكرنا قاعدة عقلائية مضافاً إلى كونها شرعيّة كما في كثير من القواعد الفقهيّة، بل جلّها أو كلّها، ولا يزال العقلاء وأهل العرف يستندون إليها في أمورهم، ويرون من أتلف مال الغير بدون حقّ ضامناً لما أتلفه من أيّ جنس ومن أي نوع من المنافع ولا ينكر ذلك أحد على أحد، بل يعدّون كبرى القاعدة من المسلّمات التي لا كلام لهم فيها ويلتمسون صغراها ومصاديقها، فلو تمّت الصغرى عندهم، وثبت موضوع الإتلاف بالنسبة إلى عين أو منفعة، كان الضمان مفروغاً عنه عندهم.

ولا فرق في ذلك بين أرباب المذاهب وغيرهم، وكثيراً ما يوسعون دائرتها أكثر ممّا ورد في الشرع، فيحكمون بضمان منافع الحرّ عند اتلافها، ويقولون بوجوب التدارك المالي عند هتك الأعراض وشبهها، وبالجملة كون القاعدة عندهم من المسلّمات ممّا لا ينبغي الشكّ فيه، وحيث لم يردع عنها الشارع، بل أمضاها في كثيرمن كلماته فهي ثابتة في الشرع أيضاً، ولعمري إنّ هذا من أقوى الأدلّة على المسألة، نعم، لها استثنائات عندهم كما هو كذلك في الشرع، ولكن هذا قادح في عمومها فيما لم يثبت الاستثناء بدليل.

وإن شئت اختبر حالهم في اصطدام السيّارات، فإنّهم يرون السبب الأصلي ضامناً، ولكن لا يزالون يبحثون ويفتشون عنه، حتى أنّه قد يخفى أمره ويسئل أهل الخبرة في ذلك، وأمّا إذا ثبت أنّ السبب في الإتلاف من هو، فلا يشك أحد منهم في وجوب اداء الخسارة عليه، ويتعجبون غاية العجب ممّن يقرّ

بأنّه السبب في الخسارة والإتلاف ولكن لا يعترف بوجوب جبرانها وتداركها.

4- الإجماع

ويدلّ على حجيّة القاعدة إجماع العلماء وأهل الشرع أيضاً، والإجماع وإن لم يكن حجّة في مثل هذه الموارد، ممّا يكون فيه أدلّة أخرى يمكن استناد المجمعين إليها،

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 177

ولكنّه يؤيّد المقصود ويسدّد الأدلّة الأخرى.

قال شيخ الطائفة رحمه الله في «المبسوط»: «الماشية إذا أفسدت زرعاً لقوم، فإنّ كانت يد صاحبها عليها فعليه ضمان ما أتلف لأنّ جنايتها كجنايته، وفعلها كفعله» «1».

وقال أيضاً رحمه الله: «إذا كان لرجل كلب عقور فلم يحفظه فأتلف شيئاً كان عليه ضمانه لأنّه مفرّط في حفظه»»

.ومن الجدير بالذكر أنّه أرسل الحكم بالنسبة إلى ضمان المتلف إرسال المسلّمات، ولم يتعرض له، إنّما تعرّض لبعض مصاديقه التي قد تخفى على الناظر، فاكتفى بمساواة جناية الماشية أو الكلب العقور لجناية صاحبها في إثبات الضمان، فلو لم يكن ضمان المتلف من الواضحات لم يقنع بذلك، حتى أنّه لم يستدل بالإجماع لإثبات الكبرى هنا، لكونها أوضح من أن يحتاج إليه.

وقال العلّامة رحمه الله في «التذكرة»: «المباشر للإتلاف ضامن بلا خلاف» «3».

وقال في «الجواهر»: «الطبيب يضمن ما يتلف بعلاجه إن كان قاصراً ... بلا خلاف أجده في شي ء من ذلك ... وفي «الرياض»: «هذا الحكم ممّا لم نجد خلافاً فيه، في صورة كان الطبيب قاصراً» «4».

وقال أيضاً في شرح قول المحقق: «وهنا أسباب أخرى يجب معها الضمان ...

الأول مباشرة الإتلاف» ما نصّه: بلا خلاف فيه بين المسلمين فضلًا عن المؤمنين، بل الإجماع بقسميه عليه إن لم يكن ضرورياً» «5».

والإنصاف أنّ هذا الحكم ضروري عند المسلمين كما أشار إليه.

وقال أيضاً في مسألة: «لو أرسل في ملكه ماءاً فأغرق مال غيره أو أججّ ناراً فيه

القواعد الفقهية،

ج 2، ص: 178

فأحرق لم يضمن ما لم يتجاوز قدر حاجته اختياراً»: بلا خلاف أجده فيه، ثم قال: إلّا أنّ الانصاف عدم خلّو ذلك عن النظر ضرورة المفروغية من قاعدة من أتلف التي لهجت بها ألسنة الفقهاء في كلّ مقام» «1».

وقال العلّامة الأنصاري رحمه الله في «مكاسبه»: «إذا أتلف المبيع فإنّ كان مثلياً وجب مثله بلا خلاف» «2».

وقال السّيد الرشتي رحمه الله في كتابه المعروف «الغصب» عند ذكر أسباب الضمان غير اليد: وهي كثيرة إلّاأنّ مرجعها إلى شي ء واحد وهو الإتلاف فنقول إنّه ينقسم إلى قسمين: أحدهما ما كان على وجه المباشرة، وثانيهما: ما كان على وجه التسبيب، أمّا الأول فلا إشكال ولا كلام في موضوعه ولا في حكمه، لأنّ مباشرة الإتلاف أمر متضح، كما أنّ إيجابه الضمان من الواضحات المجمع عليها» «3».

إلى غير ذلك ممّا طفحت به آثارهم وكلماتهم في مصفناتهم في الفقه وغيره، ما لو حاولنا نقله لكان كتاباً ضخماً، وفيما ذكرنا غنى وكفاية، فلنرجع إلى بيان ما بقي في المسألة في القاعدة من الخصوصيّات بذكر تنبيهات:

تنبيهات
التنبيه الأول: الإتلاف إمّا بالمباشرة أو بالتسبيب

ذكر الفقهاء رضوان اللَّه عليهم في كلماتهم تقسيم الإتلاف إلى قسمين: الإتلاف بالمباشرة وبالتسبيب، وقد يقال في تعريف الأول: إنّ ضابط المباشرة صدق نسبة الإتلاف إليه، وفي تعريف الثاني: إنّ ضابط السبب ما لولاه لما حصل التلف، لكن علّة التلف غيره، كحفر البئر، ونصب السكين، وإلقاء الحجر (يعني في الطريق)، فإنّ التلف عنده بسبب العثار «4».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 179

وقد يقال: المراد بالمباشر أعمّ من أنّ يصدرمنه الفعل بلا آلة كخنقه بيده، أو ضربه بها، أو برجله، فقتل به، أو بآلة كرميه بسهم ونحوه، أو ذبحه، أو كان القتل منسوباً إليه بلا تأوّل عرفاً، كإلقائه في النار

أو إغراقه في البحر، أو إلقائه من شاهق، إلى غير ذلك من الوسائط التي معها تصدق نسبة القتل إليه.

وقال العلّامة رحمه الله في كتاب الديات من «القواعد» عند تعريف السبب: إنّ السبب هو كلّما يحصل التلف عنده بعلة غيره، إلّاأنّه لولاه لما حصل من العلة تأثير كالحفر مع التّردي.

وقال ولده رحمهما الله في «الإيضاح»: لو حبس الشاة أو حبس المالك عن حراسة ماشيته فاتفق تلفها، أو غصب دابّة فتبعها ولدها، يصدق في الأول من أنّه مات بسببه لصحة إسناده إليه عرفاً، ولأنّ السبب هو فعل ما يحصل الهلاك عنده لعلّة سواه، وهذا تفسير بعض الفقهاء، وزاد آخرون ولولاه لما أثرت العلة، وهذا التفسير أولى.

والإنصاف أنّ كثيراً من هذه التعاريف غير نقيّة عن الإشكال، فإنّ إسناد التلف في جميع ذلك ثابت عرفاً، فمن ألقى حجراً في طريق مظلم فمرّ به إنسان فعثر وهلك أو وقعت به خسارة أخرى يسند فانّه القتل والجرح إليه، وكذلك من حفر بئراً في الطريق وأخفاه، فعبر عليه عابر، فوقع فيه وهلك فانّه يسند القتل إلى الحافر، فليس الفرق بين المباشرة والتسبيب بالإسناد في الأول، وعدمه في الاخير، بل الإسناد فيهما ثابت من دون فرق.

قال في «مفتاح الكرامة» في كتاب الديات ما حاصله: أنّ الموجب للقتل أمور:

«العلّة» وهي ما يسند إليه الموت، و «السبب» وهو ماله أثر في الموت، ولكن لا بالمباشرة، بل يولده ولو بوسائط وقد يتخلف الموت عنه، ولا يتخلف عن العلّة كما في شهادة الزور، وتقديم الطعام المسموم إلى غيره، والإكراه على شرب السمّ، و «الشرط» ما يقف عليه تأثير المؤثر، ولا مدخل له في الفعل كحفر البئر في الطريق إذ الوقوع فيه مستند إلى التخطّي.

ثم قال: كان السبب

هنا أعمّ من فعل السبب بالمعنى المذكور هناك وفعل الشرط.

انتهى ملخصاً «1».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 180

أقول: وقد اضطربت كلماتهم في هذا المقام في تعريف السبب وغيره في الوقت الذي لم يتعرض كثيرمنهم لمعنى السبب هنا، بل اكتفى بذكر الأمثلة الواردة في الروايات كحفر البئر والاضرار بطريق المسلمين.

لكنّ المهم أنّه لم يرد في نصوص الباب شي ء من هذه العناوين الثلاث (المباشرة، والتسبيب، وايجاد الشرط)، بل المدار على صدق عنوان الإتلاف عمداً أو خطأ، والظاهر أنّ النصوص الخاصّة الواردة في المقام لا تتعدّى عمّا يصدق عليه هذا العنوان عرفاً.

ولكن يظهر من كلمات غيرواحد منهم أنّ الحكم في مثل البئر وغيره على خلاف القاعدة يقتصر على ما ورد في النص، أو يفهم منه بإلغاء الخصوصيّة.

قال في «الجواهر»: «يترتب الضمان على ما ثبت من الشرع به الضمان من هذه المسماة بالشرائط عندهم، أو الأسباب، وليس في النصوص استقصاء لها، ولكن ذكر جملة منها ومنه يظهر وجه إلحاق ما ماثلها» «1».

والحقّ كما عرفت أنّ السبب أو الشّرط أو أي شي ء سميّته داخل في إطلاقات الإتلاف وليس فيه شي ء مخالف للقواعد، حتى أنّه لو لم تكن عندنا النصوص الخاصّة لقلنا بضمان حافر البئر، وناصب السكين، وغير ذلك من أشباهه بالنسبة إلى النفوس والأموال، وأحاديث الباب مؤكّدة لما ذكرنا (راجع الابواب 8- 9- 11- 32 من أبواب موجبات الضمان من المجلد 19 من الوسائل).

وإن شئت أن تفرّق بينهما (بين المباشرة والتسبيب) فقل «المباشرة» ما يكون من قبيل العلّة و «التسبيب» ما يكون من قبيل الشرائط والمعدّات، فالسبب هنا غير السبب بمعناه المعروف في الفلسفة أو الأصول، بل هو هنا أشبه شي ء بالمعدّات والشرائط المصطلحة هناك ولكن على كلّ حال قد عرفت أنّ

الأحكام الفقهيّة لا تدور مدارها، والمعيار في كلّ حال على الإسناد عرفاً، سواء كان من قبيل السبب أو المباشرة أو غيرهما.

التنبيه الثاني: في تعدّد الأسباب

إذا اجتمع سببان للإتلاف على شي ء واحد فقد يكون كلّ واحد علّة مستقلّة في الإتلاف، كما إذا حفر رجل بئراً ونصب آخر فيه سكّيناً، فعثر إنسان فسقط فيه، إذا كان السقوط بنفسه علّة للتلف، وكان السكين أيضاً علة مستقلة له.

وأخرى لا يكون كلّ واحد بنفسه علّة مستقلّة، كما إذا كان البئر قصيراً أو السكّين غير حديد، ولم يكن كلّ منهما مستقلًا سبباً للتلف، بل هما معاً مؤثران في ذلك.

أما في الأخير فلا شكّ في إشتراك الأسباب في الضمان، وأمّا في الأول ففيه أقوال، فعن جماعة كون الضمان على السابق، وقد يقال: إنّه أشهر (كما في مفتاح الكرامة)، وقد يقال: بالإشتراك في الضمان مطلقاً، تقارنا أو تقدّم أحدهما على الآخر، وهناك احتمال ثالث وهو أنّ السبب الأقوى هو منشأ الضمان، ففي مثال حفر البئر ونصب السكّين الضمان على ناصب السكّين إذا كان قاطعاً موجباً للهلاك (ذكره في مفتاح الكرامة احتمالا ولم يذكر قائله ولكن مال هو إليه).

والمسألة غير منصوصة في روايات الباب، والظاهر أنّ الضمان عليهما إذا كان الاستناد إليهما كما هو كذلك إذا كان كلّ واحد عدواناً، من دون فرق بين المتقدّم والمتأخّر، أو المتقارنين، والعمدة فيه ما عرفت من صحة الإستناد إليهما جميعاً، نعم، إذا كان أحدهما عامداً والآخر غير عامد لا يبد كون الضمان على العامد، والعلّة فيه ما عرفت فتدبّر.

التنبيه الثالث: لا فرق بين العلم والجهل في الإتلاف

المعروف أنّ الإتلاف موجب للضمان سواء صدر عن علم وعمد، أو عن جهل وغفلة، حتى في حال النوم، لإطلاق بعض الأدلّة السابقة وإن كان بعضها مختصّاً بحال الاختيار، وما ذكره بعض أعاظم العصر من عدم ضمان النائم إذا انقلب واتلف

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 182

نفساً أو طفلًا منها لا في ماله ولا

على عاقلته «1» قول تفرّد به في مقابل القائلين بالضمان على النحو الأول أو الثاني، فكأنّه ناشي ء عن عدم شمول أدلّة القتل العمد والخطأ له، ولما قصر الدليلان حكم بالبراءة.

وهذا الكلام لو سلّمناه في باب النفوس لا يجري في باب الأموال، فإنّ بعض أدلّة ضمان المال عند الإتلاف عامّ شامل لجميع أقسامه بدون فرق، هذا مع أنّ ما أفاده غير تام في مورد النفوس أيضاً، فإنّ النفوس والأطراف لا يمكن ذهابها بغير شي ء إذا حصل بسبب إنسان.

هذا هو الذي يستفاد من مجموع أدلّة أبواب الديات، ولذا ورد النّص من باب الظئر أنّها ضامنة على كلّ حال لو أتلفت طفلا وهي نائمة، ولكن إن كانت إنّما ظايرت طلب العزّ والفخر فالدية من مالها خاصّة، وإن كانت إنّما ظايرت من الفقر فانّ الدية على عاقلتها «2».

وليت شعري أي فرق بين النائم والغافل، فكما أنّ الغافل إذا قتل إنساناً أو أفسد مالًا وجب تداركه، فكذلك النائم.

والعمدة أنّ استثناء التلف في جميع هذه الموارد إلى سببه ثابت عرفاً بلا ريب، ومع الاستناد الضمان ثابت، غاية الأمر أنّ الحكم في أبواب الديات يختلف بين العمد وغيره، ولكن في أبواب ضمان المال والمنافع والحقوق لا فرق بينهما أصلًا.

التنبيه الرابع: الفرق بين الغصب والإتلاف

ما هي النسبة بين الغصب والإتلاف؟

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 183

قد يقال- كما عن بعض- أنّها عموم من وجه، ولكن الإنصاف أنّ الغصب والإتلاف مفهومان مختلفان لا يصدق واحد منهما على الآخر، بأي غ معنى عرف فيه الغصب، سواء ما عن أهل اللغة في تفسيره، مثل ما عن الصحاح أنّه أخذ الشي ء ظلماً، وما عن النهاية أنّه أخذ مال الغير ظلماً وعدواناً، وما عن بعض الشافعية زيادة جهاراً، لتخرج السرقة ونحوهما، وفي الشرايع والقواعد وغيرهما

أنّه الإستقلال باثبات اليد على مال الغير عدواناً (ذكروه في كتاب الغصب).

وقريب منه ما عن بعض آخر أنّه الاستيلاء على مال الغير بغير حق.

ومن المعلوم أنّ جميع ذلك مباين للإتلاف، فإنّ أخذ الشي ء عدواناً، أو جهاراً، أو الاستقلال باثبات اليد على مال الغير، أو شبه ذلك، قد يكون من مقدمات الإتلاف وقد لا يكون، وكيف كان فهو ليس بإتلاف، فرّب شي ء يستولي الإنسان عليه عدواناً ولا يتلفه، وبالعكس ربّ شي ء يتلفه الإنسان ولا يستولي عليه، كما في من ألقى حجراً من خارج الدار فكسر بعض ما فيها.

نعم، الغصب ملازم في الغالب لإتلاف المنافع، فإنّ من استولى على شي ء استولى على منافعه، أو تلفت المنافع تحت يده بغير استيفاء، فغصبه ملازم لاتلاف بعض المنافع، ولكن مع ذلك قد ينفكّ منه، كما إذا أخذ بزمام الدابّة أو استولى على السيّارة، وكان سائقها، ولكن مالكها قد استوفي منافعه في تلك الحالة بالركوب عليها.

وبالجملة، لا تلازم بين «الغصب» و «الإتلاف»، بل لكلّ منها مفهوم مستقل.

ولكنّ العمدة أنّه ليس عنوان الغصب مأخوذاً في لسان أدلّة الأحكام، إلّانادراً مثل «الغاصب يؤخذ بأشقّ الأحوال»، مع ما فيه أيضاً من الكلام، كما أنّ الإتلاف أيضاً كذلك، لما عرفت من أنّ قاعدة «من أتلف مال الغير فهو له ضامن» مصطادة ممّا ورد في موارد مختلفة لا بهذا اللفظ، بل بما يكون من مصاديقه أو يوافقه معنى، فلا يهمّنا البحث لا عن لفظة «الغصب»، ولا عن لفظة «الإتلاف» بعد عدم الإعتماد عليهما في لسان أدلّة الشرع.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 185

19 قاعدة ما يضمن وما لا يضمن

اشارة

والكلام في بيان هذه القاعدة يقع في مقامات:

المقام الأول: في من تعرّض لها

من القواعد المعروفة في لسان المتأخرين قاعدة «ما يضمن» إثباتاً ونفياً، وهي أنّه كلّ عقد يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، وكلّ عقد لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده.

وهذه القاعدة بهذه العبارة وإن لم توجد في كلمات قدماء الأصحاب، ولا وقعت في مقعد إجماع منهم، ولا في شي ء من النصوص، إلّاأنّ القول بمفادها محكى عن الشيخ رحمه الله في «المبسوط»، وشاع الاستدلال بها بين المتأخرين والمعاصرين، في مختلف أبواب الفقه.

فهذا هو المحقق البارع صاحب الجواهر رحمه الله استدل بها في كتاب «التجارة» و «الإجارة» و «العارية» و «الوكالة» و «الشركة» و «الرهن» وغيرها.

قال في كتاب «التجارة» عند قول المحقق رحمه الله: «لو قبض المشتري ما ابتاعه بالعقد الفاسد لم يملكه وكان مضموناً عليه» ما نصه: «ومن ذلك كلّه ظهر لك الوجه فيما ذكروه هنا في الاستدلال على الحكم المزبور من قاعدة كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، التي قد يظهر من بعضهم الإجماع عليها ...

نعم قد يتوقف فيما صرّحوا به من مفهومها على وجه القاعدة أيضاً، وهو ما لا

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 188

يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده، كالمال في الهبة والعارية، ونحوهما إذ لا وجه له سواء أنّهما قد أقدما على المجانية فلا ضمان لكنّه كما ترى» «1».

وقال في كتاب «العارية»: «وكذا لو تلف العين في يد المستعير ولم تكن مضمونة عليه (أي لا يرجع إليه) ... اللّهم إلّاأن يقال إنّ قاعدة ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده تقتضي ذلك، ولعلها المدرك للمصنف وغيره في الحكم بعدم الضمان» «2».

وقال في كتاب «الإجارة» في شرح قول المصنف: «لو شرط سقوط الأجرة إن لم يوصله فيه لم يجز وكان له

أجرة المثل» ما نصّه: «لقاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» «3».

وقال في ذاك الكتاب بعينه في شرح قول المصنف: «كلّ موضع يبطل فيه عقد الإجارة يجب فيه أجرة المثل مع استيفاء المنفعة ...» ما نصه: «بلا خلاف أجده فيه في شي ء من ذلك، بل يظهر من إرسالهم ذلك إرسال المسلّمات أنّه من القطعيات، مضافاً إلى مثل ذلك بالنسبة إلى قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده الشاملة للمقام» «4».

وقال في كتاب «الشركة»: «بقى الكلام فيما ذكره المصنف وغيره، من قسمة الربح على المالين، بناء على البطلان- إلى أن قال- وأمّا الأجرة لكلّ منهما عوض عمله في المال، بنقل ونحوه، فالوجه فيه احترام عمل المسلم، وإقدام المتبرع منهما بزعم صحة العقد، فمع فرض بطلانها لم يكن منه تبرع، لكن قد يقال بمنع الأجرة مع ذلك لأصالة البراءة، نعم هو كذلك بالنسبة إلى من شرطت الزيادة له باعتبار صيرورته كالقراض الفاسد، فإنّ العامل يستحق الأجرة فيه لأنّ ما يضمّن بصحيحه يضمن بفاسده، فكذا هنا» «5».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 189

وقال في كتاب «السبق» في شرح قول المصنف: «إذا فسد عقد السبق لم يجب بالعمل أجرة المثل» ما نصّه: «لكن في القواعد وجامع المقاصد ومحكي التذكرة أنّ له أجرة المثل ... لقاعدة ما يضمن بصحيحه» «1».

إلى غير ذلك ممّا هو كثير في أبواب الفقه ولا يختصّ بباب دون باب.

والمقصود من ذلك كلّه أنّهم اعتمدوا على القاعدة، وأرسلوه إرسال المسلّمات، بل يظهر ممّا عرفت من كلام بعضهم أنّه مجمع عليه عندهم، وإن كان الإجماع في أمثال هذه المسائل ممّا لا يمكن الإعتماد عليه، بعد وجود مصادر أخرى في المسألة.

المقام الثاني: في مفاد القاعدة

وقد تصدّى بعض أساطين الفن كالعلّامة الأنصاري رحمه الله لتحقيق معنى القاعدة

ومفادها، وبيان ما هو المراد من العقد في قولنا: «كلّ عقد يضمن بصحيحه، وهل يشمل العقود الجائزة واللازمة كليهما أو ما فيه شائبة الإيقاع أيضاً، مثل الجعالة والخلع، وهل أنّ المراد بالعقد أنواعه أو أصنافه أو أشخاصه؟ وهل أنّ المرد بالضمان ضمان المثل أو المسمّى أو القدر الجامع بينهما؟ وأنّ المراد بالباء في قولنا يضمن بصحيحه ويضمن بفاسده هل هو معنى السببية أو الظرفية؟ إلى غير ذلك.

ولكن من المعلوم كما ذكره جمع من أعاظم المعاصرين أو ممن قارب عصرنا أنّه لم ترد هذه القاعدة بهذه العبارة في شي ء من النصوص، ولا في معاقد الاجماعات، حتى يتكلم في جزئيات مفاد ألفاظها، بل اللازم في مثل ذلك الرجوع إلى مصادرها الأصليّة، ثم البحث عن مقدار دلالتها وما يستفاد منها.

وبالجملة لا نحتاج إلى البحث عمّا تحتوي عليه هذه العبارة، كما أتعب العلّامة

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 190

الأنصاري رحمه الله نفسه الزكية في ذلك، فلو دلّ الدليل على ما يخالف هذه العبارة نأخذ به، ولو دلّت العبارة على شي ء لا ترشد إليه الأدلّة فلا يسعنا القول به، فلا وجه للمعاملة مع هذه العبارة كآية، أو حديث، أو معقد إجماع، فبعد عدم ذكر شي ء عنها في النصوص فاللازم الرجوع إلى ما ذكروه من الأدلّة هنا.

ولكن الذي يراد من هذه القاعدة إجمالًا في عباراتهم حتى نتكلم في خصوصياتها بعد ذكر الأدلّة، أنّ العقود التي يبذل فيها المال بازاء مال ولا تكون مجانية عند صحتها فإنّها لا تكون مجانية في صورة الفساد، ولا يسع المشتري، أو المستأجر، أو غيرهما أن يرى نفسه بريئاً من الضمان استناداً إلى فساد العقد، فإنّ العقد الفاسد في هذه الموارد أيضاً موجب للضمان كصحيحه.

وهكذا في عكس القاعدة أي

إذا كان عقد بنائه على المجانية، فلا يمكن القول بالضمان في فرض فساده، استناداً إلى قاعدة اليد.

هذه خلاصة مضمون القاعدتين وتفاصيلها تأتي بعد ذكر أدلتها.

المقام الثالث: فيما يدلّ على صحة القاعدة

لابدّ لنا هنا أولًا من التفكيك بين القاعدة أصلًا وعكساً والتكلّم في كلّ واحد منهما مستقلًا، فنقول ومن اللَّه التوفيق والهداية: استدلوا لأصل القاعدة بأمور كثيرة متفرقة في كلماتهم وحاصلها ما يلي:

1- «الإجماع» المدعى في كلمات غير واحد منهم.

2- «سيرة العقلاء» وبناء طريقتهم على الضمان في العقود الفاسدة، إذا كان صحيحها موجباً للضمان، كالبيع، والإجارة الفاسدتين، وكذا عقد النكاح، والمضاربة، بل الجعالة أيضاً، فمن أنكر الضمان في هذه المقامات ينكرون عليه، وحيث إنّ الظاهر أنّ هذه السيرة تستمر إلى زمن الشارع، بل وما قبله، ولم يردع عنه، فهي حجة معتبرة.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 191

3- «قاعدة على اليد» فإنّ المقبوض بالعقد الفاسد إذا تلف في يد القابض فهو ضامن له بمقتضى هذه القاعدة، المستفادة من النصوص الكثيرة العامّة والخاصّة الواردة في أبواب مختلفة، والقول بعدم شمولها للمنافع فلا يشمل الإجارة الفاسدة فهو ممنوع، لأنّ المنافع- مثل منافع الدار وغيرها- تجرى عليها اليد بتبع جريانها على العين، فمن استولى على الدار استولى على منافعها، فلو تلفت المنافع وهي في يده تكون قاعدة على اليد حجّة عليه، ولذا يكون قبض المنافع في باب الإجارة بقبض العين، نعم، قاعدة على اليد لا تشمل أعمال المسلم، فإنّها ليست عيناً ولا منفعةً على المشهور، فلو كان الدليل على القاعدة، قاعدة اليد لم يمكن الاستناد إليها في أبواب المضاربة الفاسدة والمزارعة والمساقاة وشبهها.

4- «قاعدة لا ضرر» فإنّ عدم ضمان المشتري بالعقد الفاسد لتلف العين يُعدّ ضرراً عظيماً فيندرج تحت قاعدة لا ضرر، إلّاأنّه يأتي فيه الإشكال المعروف

بأنّ قاعدة لا ضرر لا تثبت حكماً، بل تنفي الأحكام الضررية، وحيث إنّ المراد هنا الاستدلال بها لإثبات حكم الضمان فإنّه يشكل الأخذ بها، ولكن قد ذكرنا في محلّه نفي الجد عن كون قاعدة لا ضرر مثبتة للأحكام التي لولاها يلزم منها الضرر، وتفصيل القول في هذا الأمر موكول إلى محله.

5- «قاعدة الإقدام» التي استند إليها جمع كثير منهم الشيخ عليه السلام في «المبسوط» فيما حكي عنه وتبعه غيره في هذا الاستدلال.

6- «قاعدة احترام مال المسلم» والمنافع المتعلقة به وأعماله، بل وغير المسلم ممن تكون أمواله محترمة.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ العمدة من هذه الأدلّة على المختار هو الأخير.

توضيحه: أنّ الأصل في الأموال والمنافع والأعمال المتعلقة بانسان بنحو مشروع أن لا تخرج من يده بغير إذنه، وأن لا يتصرف فيها بغير رضاه، وهذا ممّا استقر عليه بناء جميع العقلاء من أرباب الملل وغيرها، وممن تديّن بدين أو لم يتديّن، وما ورد في الشرع من أنّ حرمة مال المسلم كحرمة دمه، أو أنّه لا يحل لأحد أن يتصرف في

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 192

مال غيره بغير إذنه، أو غير ذلك من الروايات، ممّا يحتوي على هذا المضمون، فهي كلّها إمضاء لبناء العقلاء وإستقرار ديدنهم على إحترام الأموال والمنافع والأعمال، وليست أحكاماً تأسيسية كما هو كذلك جلّ أبواب المعاملات.

والظاهر أنّ هذا المعنى، أعني احترام الأموال مستفاد من حقيقة الملك وتسلّط الإنسان على أمواله، بل وعلى منافعه، فإنّ السلطة التي تسمى ملكاً للعين، أو المنافع، أو تسلّطه على أعماله تقتضي ذلك، فإنّها تفيد عدم جواز مزاحمة غيره له بغير إذنه، وأنّه إذا زاحمه وأتلفها فلابدّ له من تدارك الخسارات.

فتلخص من جميع ما ذكرنا أنّ القاعدة نشأت من عمق

معنى الملكيّة وحقيقة السلطة الموجودة فيها، فاذا كانت السلطة المسماة بالملكية مشروعة، ممضاة عند العقلاء والشرع فلا يحلّ لأحد إزالتها إلّابرضا مالكها، ولو أزالها لزم عليه جبرانها وتداركها.

وأمّا سائر الأدلّة التي أقاموها على القاعدة فهي إمّا منظور فيها، أو ترجع بالمآل إلى ما ذكرنا.

فأمّا الإجماع، فعدم جواز الإعتماد عليه في أمثال المقام الظاهر.

وأمّا «قاعدة لا ضرر»، فهي تعود إلى ما عرفت، فإنّ الضرر ينشأ من أخذ مال المالك وقطع سلطته بغير إذن منه.

وكذا «على اليد» فإنّ الضمان الحاصل عن تلف مال إنسان في يد آخر إنّما هو من ناحية احترام ما له ومقتضى ملكيته.

وأمّا «الإقدام» فلا دليل على أنّه بمجرّده يوجب الضمان، ما لم يكن مزاحماً لسلطنة الإنسان على ماله، فإنّ الإقدام يرجع إلى الدخول في أمر بقصد شي ء، ومن المعلوم أنّ مجرّد قصد شي ء لا يوجب الإلتزام به، ما لم يندرج تحت عقد أو إيقاع معتبر، فلو أقدم إنسان على أخذ بعض المباحات الأصليّة بقصد أن يكون مكلفاً بأداء مثله أو قيمته إلى شخص آخر، فمن الواضح أنّه لا يوجب عليه شيئاً، كما أنّه لو كانت المسألة على عكس ذلك بأن وضع يده على مال غيره لا بقصد الضمان، بل بأن يكون

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 193

له مجاناً، فإنّ هذا القصد لا يؤثر شيئاً بعد أن كان المال مال شخص آخر، وكان وضع يده عليه بغير إذنه.

وبالجملة، فإنّ الإقدام بنفسه لا يوجب الضمان لا وجوداً ولا عدماً، بل لابدّ أن ينضم إليه إزالة سلطة إنسان عن ماله بغير رضاه، وإذا انضم إليه هذا المعنى لم يحتج إلى الإقدام على الضمان.

هذا كلّه بالنسبة إلى أصل القاعدة وأمّا «عكسها» وهو أنّ «كلّ عقد لا يضمن بصحيحه

لا يضمن بفاسده» فغاية ما يمكن أن يستدل عليها به أمور:

أولها: «الإجماع» وقد عرفت الكلام فيه، هذا لو تم دعوى الإجماع هنا، وفيها تأمّل.

ثانيها: «الأولوية» التي استدل بها الشيخ رحمه الله في «المبسوط» كما حكي عنه بالنسبة إلى الرهن، وحاصلها أنّ العقد الصحيح مثل الإجارة، والعارية، والهبة إذا لم تقتضِ الضمان، مع أنّ الشارع أمضاها، فالفاسد الذى بمنزلة العدم لا يؤثر في الضمان، لأنّ الضمان إمّا من ناحية الإقدام عليه، والمفروض عدمه، وإمّا من ناحية حكم الشارع بالضمان، بواسطة المعاملة الفاسدة، والمفروض أنّها لا تؤثر شيئاً، ولو كان العقد صحيحاً أمكن أن يقال أنّ الضمان من مقتضيات الصحيح، ولكن في الفاسد الذي هو بمنزلة اللغو فلا معنى للقول به.

ولكن يرد عليه أنّ الأمر بالعكس، فإنّه يمكن أن يقال إنّ الصحيح لا يوجب الضمان لأنّ الشارع أمضاه، وأمضى ما يتضمن عليه من التسليط الاماتي، وبه يخرج عن قاعدة إحترام مال المسلم وضمان اليد، وأمّا إذا لم يمضها الشارع فتبقى قاعدة الإحترام وضمان اليد بحالها، ولا مخرج عن الضمان، فلا يمكن الإعتماد على الأولوية في إثبات عكس المسألة.

وثالثها: «قاعدة الأمانة» وحاصلها أنّ من استأمنه المالك على ملكه غير ضامن، وهذه قاعدة مستفادة من بناء العقلاء، والنصوص الكثيرة الواردة في أبواب الضمانات والإجارات، وغيرها.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 194

وهذه القاعدة كما تقتضي عدم الضمان في صورة صحّة العقد، كذلك تقتضي عدمه في صورة الفساد.

اللّهم إلّاإنّ يقال استيمان المالك كان على فرض صحّة العقد، وأمّا على فرض فساده فلا استيمان، وبعبارة أخرى: إنّما سلط المالك غيره على ماله، وجعله أمانة في يده، مثل اجارة الدار، واشباهه، بناءاً على صحة العقد وكون ذلك من حقوق المستأجر، إمّا لأجل الجهل بفساد العقد،

أو مع العلم به وعدم الإعتناء بحكم الشرع والبناء على حكم العقلاء فقط، ومن المعلوم أنّ هذا الاستيمان المبني على هذا البناء لا يقتضي كون المال أمانة في يد القابض.

وبعبارة ثالثة أنّنا لم نجد دليلًا عامّاً على ما ذكره الشيخ رحمه الله وهو أنّ «من استأمنه المالك على ملكه غير ضامن»، بل الذي يستفاد من أبواب الإجارات، والأمانات أنّه إذا كانت هناك أمانة صحيحة من قبل المالك في يد القابض فهو ليس بضامن، وأمّا إذا حكم بفساد هذه الأمانة، أو كانت من توابع عقد فاسد كالإجارة فكيف يمكن القول بعدم الضمان بمجرّد تسليط المالك المبني على صحة العقد؟ وكيف يتمّ الخروج عن قاعدة احترام مال المسلم وضمان اليد بمجرّد هذا؟

فالإنصاف أنّ هذا أيضاً لا يتمّ دليلًا على عكس القاعدة.

نعم، يمكن أن يقال إنّ ملاك الضمان في التلف هو اليد العاديّة، وليس هذا المقام من مصاديقها، فإنّ المالك هو الذي سلّط غيره على ماله، سواء علم بفساد العقد في الشرع أم لم يعلم، إذا كان غير مكترث بحكم الشرع وكان عمله على وفق حكم العقلاء، أو كان غير معتنٍ بحكم العقلاء أيضاً، وكان عمله على وفق ما يعتقده صحيحاً في نفسه وإن كان فاسداً عند الكل.

ففي كلّ ذلك لم يتسلط غير المالك على الملك عدواناً، بل تلقّاه من مالكه، ومن المعلوم أنّ هذه اليد لا تعدّ يداً عاديّة، فلا توجب الضمان.

نعم، إذا كان المالك يعتقد الصحّة شرعاً، بحيث لو علم بفساده لما سلّط الغير على ماله، وعلم الغير ذلك أيضاً مع علمه بفساد المعاملة، فحينئذٍ لا يجوز له أخذ المال،

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 195

وتحسب يده عاديّة، وتدخل تحت أدلّة الضمان.

فتحصّل من جميع ذلك أنّ ضمان اليد

منتفٍ في جميع الصور ما عدا الصورة الأخيرة، ولعلّ كلام الأصحاب أيضاً غير ناظر إليها، ولكنّ هذا كلّه إنّما يتمّ بالنسبة إلى التلف، وهل يمكن إجراء هذا الحكم بالنسبة إلى الإتلاف أو يختصّ بالتلف؟ لا يبعد العموم، فإنّه إذا فرض رضى المالك بالإتلاف في مثل الهبة الفاسدة، لعدم اعتنائه بحكم الشرع واكتفائه بحكم العقلاء، أو ما يراه صحيحاً بنفسه، فهل يكون هذا المقدار من الرضا كافياً في عدم الضمان بالإتلاف، ولو كان مبنيّاً على صحة العقد؟ لا يبعد ذلك.

نعم، الاستثناء الذي مرّ في حكم الإتلاف جارٍ هنا، وهو ما إذا رضي المالك لعلمه بصحة المعاملة، بحيث لو علم بالفساد لما رضي به، وكان الموهوب له مثلًا عالماً بهذا المعنى، فإنّ عدم ضمانه في هذه الصورة مشكل جدّاً.

تنبيهات
الأول: في مقدار شمول قاعدة ما يضمن

هل تشمل القاعدة أصلًا وعكساً جميع العقود أو تتعدى ذلك إلى ما يشبه الايقاعات، بل والايقاعات أيضاً، أو أنّ القاعدة تختصّ ببعض ذلك دون البعض الآخر؟

قد يُقال بأنّه لو كان مفاد القاعدة هو عبارة: «كلّ عقد يضمن بصحيحه ...» فإنّها تكون مشاملة للعقود فحسب، وأمّا لو كان مفاد القاعدة هو عبارة: «ما يضمن بصحيحه ...» فإنّها تتعدى ذلك إلى غير العقود أيضاً.

ولكنّك قد عرفت أنّ هذه العبارة لم ترد في نصّ، ولا في معقد إجماع، وأنّه لا تدور الأحكام مدارها، فشمول هذه العبارة أو قصورها لا يدلّ على عموم الحكم وعدمه، بل المدار على الدليل الذي استندنا إليه في إثبات القاعدة أصلًا وعكساً.

ولما كان العمدة في إثبات «أصل القاعدة» هو «قاعدة احترام مال المسلم،

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 196

والمنافع المتعلقة بأمواله، بل وأعماله» فالحكم يدور مدار هذا العنوان، فكلّ من استولى على أموال الغير ومنافعه بأيّ عنوان كان، كان

ضامناً له إذا تلف في يده، أو أتلفه، إلّاأن يكون المالك هو الذي سلّطه على ماله بغير عوض، سواء علم بفساد العقد، أو لم يعلم، ولكن كان غير مبال بأحكام الشرع من جهة الصحة والفساد، نعم إذا سلّطه جاهلًا بفساده حتى أنّه لو علم به لما سلّطه، وكان الأخذ عالماً بذلك، فتسليطه عليه لا يكون رافعاً للضمان.

وبناءاً على ما ذكر لا تختصّ القاعدة بباب دون باب، وتجري في جميع الموارد حتى في الإيقاعات، كمن أعتق عبده بعتق فاسد في الشرع وخلّى سبيله، وكان غير مبال بالصحة والفساد في الشرع، فإذا عمل العبد أعمالًا واستوفى منافعاً من منافع نفسه، فالظاهر أنّه غير ضامن، لأنّه إنّما أتلف المنافع برضا مولاه، وإن كان بانياً على صحة العتق، لأنّ المفروض أنّه غير مبال لحكم الشرع، ورضاه لا يدور مداره.

الثاني: المراد بالضمان هنا

ما المراد بالضمان هنا؟ فهل المراد معناه المعروف، أي كون تدارك شي ء إذا تلف على عهدة إنسان؟

فإنّ كان هذا هو المراد بالضمان فليس في الصحيح ضمان بهذا المعنى، لأنّ البيع الصحيح مثلًا يتضمن مبادلة مال بمال، ولا ينتقل إلى الذمّة إلّاإذا كان البيع كلياً أو من قبيل النسيئة، وأمّا في البيع الشخصي الحاضر فينتقل الثمن إلى ملك البائع كما ينتقل المثمن إلى ملك المشتري، ولا مجال فيه للإنتقال إلى الذمّة.

نعم، بالنسبة إلى الفاسد لا شكّ أنّ الضمان فيه بمعناه المعروف، أي إذا تلف يكون تداركه في ذمته أمّا بمثله أو بقيمه.

فليس للضمان في الصحيح وجه لو كان المراد منه معناه المعروف، نعم، لو كان المراد منه تحقق الخسارة في مال الشخص سواء انتقل إلى ذمته أو لم ينتقل، كان

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 197

هذا معقولًا في الصحيح والفاسد كليهما، ولعلّ

مراد شيخنا العلّامة الأنصاري رحمه الله من قوله: «والمرد بالضمان في الجملتين هو كون درك المضمون عليه، بمعنى كون خسارته ودركه في ماله الأصلي» هو ما ذكرنا.

ولكنّ التعبير بالدرك والتدارك لا يوافق ما أشرنا إليه، فإنّ البيع إذا كان صحيحاً إنتقل المثمن إلى ملك المشتري، ولو تلف تلف من ماله، ولا معنى للتدارك هنا، بل قد ينافي ما ذكرنا بعض كلماته بعد التفسير السابق، لأنّه قال: «ثم تداركه من ماله تارة يكون بأداء عوضه الجعلي الذي تراضى هو والمالك على كونه عوضاً، وأمضاه الشارع، كما في المضمون بسبب العقد الصحيح، وأخرى باداء عوضه الواقعي، وهو المثل أو القيمة وإن لم يتراضيا عليه ...».

فإنّ من الواضح أنّ أداء المسمى في البيع الصحيح لا يتوقف على تلف المثمن، بل هو مقتضى المبادلة، سواء تلف واحد منهما بعد ذلك أو لم يتلف.

وأمّا ما هو المعروف من أنّ الضمان في الفاسد يكون بالمثل أو القيمة دائماً، فهو أيضاً قابل للنقض والإبرم، فإذا كان المسمى أقلّ من قيمة المثل فكيف يمكن القول بكون المشتري مثلًا ضامناً للمثل، مع أنّ البائع سلّطه على ماله، ورخّص له إتلافه في مقابل شي ء أقلّ منه، لا سيّما إذا كان عالماً بالفساد شرعاً، فكما أنّ الأخذ غير ضامن في مثل الهبة بدليل تسليط المالك له عليه مجاناً، فكذلك هنا سلّطه على ماله بعوض أقلّ من عوضه الواقعي، فكأنّه رخّص له في الإتلاف بهذا المقدار مجاناً، ولعلّه إليه يرجع ما حكى عن بعضٍ من وجوب أداء أقلّ الأمرين، من العوض الواقعي والجعلي في بعض المقامات، مثل تلف الموهوب بشرط التعويض قبل دفع العوض.

الثالث: هل العموم باعتبار أنواع العقود أو أصنافها أو أشخاصها؟

اختلفوا في أنّ عموم قاعدة ما يضمن أصلًا وعكساً هل هو باعتبار أنواع

العقود أو أصنافها، أو أشخاصها، فلو كان عقد كالبيع بحسب نوعه موجباً للضمان (لوجود

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 198

العوض فيه) لصحيحه لضمن لفاسده، ولو كان شخص البيع لا يوجب ضماناً كالبيع بلا ثمن.

وكذلك العارية فإنّها بنوعها لا توجب الضمان، ولكن، صنف منها وهي العارية المضمونة أي المشروطة بالضمان، أو عارية الذهب والفضة موجبة للضمان على المشهور، فهل يكفي وجود الضمان أو عدمه في نوع البيع ونوع العارية، أو أنّ الأمر يدور مدار الصنف أو أشخاص المعاملات؟

قال شيخنا العلّامة الأنصاري رحمه الله: «إنّ العموم في العقود ليس باعتبار خصوص الأنواع ليكون أفراده مثل البيع، والصلح، والإجارة لجواز كون نوع لا يقتضي بنوعه الضمان، وإنّما المقتضى له بعض أصنافه، فالفرد الفاسد من ذلك الصنف يضمن به دون الفرد الفاسد من غير ذلك الصنف، مثلًا الصلح بنفسه لا يوجب الضمان، لأنّه قد لا يفيد إلّافائدة الهبة غير المعوضة، أو الإبراء، فالموجب للضمان هو المشتمل على المعاوضة، فالفرد الفاسد من هذا القسم موجب للضمان أيضاً» (انتهى محلّ الحاجة).

ولكنّه رحمه الله لم يذكر دليلًا على هذا المدّعى، ولذا خالفه بعض من تأخّر عنه، وقال بأنّ المعيار أشخاص العقود، وهذا هو الأقوى.

بيانه: إنّا أبناء الدليل، نحذو حذوه ونقتفي إثره، وقد عرفت أنّ العمدة في أصل القاعدة هو احترام الأموال والمنافع وعدم جواز السلطة عليها بغير إذن صاحبها.

وحينئذٍ لا محيص لنا إلّامن ملاحظة شخص العقد، فلو باع رجل داره بلا ثمن، وعلم أنّ البيع بلا ثمن فاسد شرعاً، ولكنّه أعطى الدار للمشتري بانياً على صحة هذه المعاملة بحكم العرف وغير مبالٍ بحكم الشرع، فالمشتري غير ضامن لا لأصل الدار، ولا لمنافعها، لأنّ صاحبها هو الذي سلّطه على ماله بلا ثمن، نعم لو كان

الإقباض بتوهم صحة البيع شرعاً، ولم يرتضِ بتسليط الغير على ماله لولا الصحّة، وكان جاهلًا بالحال كان الأخذ ضامناً.

وكذلك إذا اقبض غيره العارية، وشرط فيها العوض بتوهم الصحة، فإنّ الأخذ يضمنها وإن كانت العارية بذاتها لا توجب الضمان، ولم تكن العارية معوضة.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 199

وبالجملة، فإنّ المدار في أصل القاعدة على «إحترام مال المسلم»، وفي عكسها على «التسليط المجاني»، وهما يدوران مدار اشخاص العقود وأفرادها، لا أنواعها وأصنافها.

الرابع: هل هنا فرق بين علم الدافع والقابض وجهلهما أم لا؟

قد يقال بعدم الفرق، وذلك لإطلاق النص والفتوى.

والمراد بالنصّ هو «عموم من أتلف» وبالفتوى إطلاق كلمات القوم في الأبواب المختلفة من العقود أو عند ذكر القاعدة مطلقة.

هذا، ولكنّك بعد ما عرفت من الدليل الذي بنينا عليه في هذا الباب تعلم الفرق الواضح بين صورتي العلم والجهل، فإنّه إذا كان الدافع عالماً بأنّ الهبة الفلانية مثلًا غير صحيحة شرعاً، ومع ذلك لم يعتنِ بحكم الشرع، وأقبض الموهوب له بانياً على صحتها عند نفسه، فمن الواضح أنّه لا ضمان للقابض هنا، لأنّ المالك هو الذي دفع المال إليه عالماً عامداً، وسلّطه عليه مجاناً، وكذلك الأمر إذا باعه بغير ثمن عالماً بفساده، وسلّط المشتري عليه.

كما أنّ الأمر في عكسه كذلك، فلو أعطاه المشتري عارية معوضة بتوهم صحة العارية المعوضة، وكان المشتري عالماً بالفساد، فإنّه لا يصحّ له أخذها، ولو أخذها كان ضامناً، لقاعدة احترام مال المسلم، وعدم جواز أخذه وإتلافه بغير إذن صاحبه، والإذن هنا مبنيّ على مبنى فاسد وهو توهم الصحّة، بخلاف ما لو كان عالماً بالفساد غير مكترث بحكم الشرع، بل بانياً على الصحة من قبل نفسه، وبالجملة، فإنّ المسألة واضحة بعد ما عرفت من مبانيها.

الخامس: هل يعتبر القبض في الضمان؟

هل اللازم في الضمان القبض أو يكتفى بمجرّد الصيغة؟ فلو أنّ عقداً أوجب الضمان بصحيحه بلا حاجة إلى القبض والإقباض كما هو كذلك في أكثر العقود الصحيحة، فإنّه ينتقل الثمن إلى ملك البائع، كما ينتقل المثمن إلى ملك المشتري بمجرّد العقد، وإن كان درك المبيع على البائع قبل الإقباض، وكذلك الثمن بالنسبة إلى المشتري فهل الضمان في فاسده كذلك؟

لا ينبغي الشكّ في أنّ الضمان في الفاسد يتوقف على القبض لأنّ الأدلّة السابقة كلّها تدور مدار القبض والإقباض، ولا سيّما ما

اخترناه من قاعدة احترام مال المسلم، وكذا الكلام في عكس القاعدة، فإنّ التسليط المجاني لا يحصل إلّابالقبض.

السادس: في شمول القاعدة للمنافع والأعمال

قد يقال إنّ هذه القاعدة مبنيّة على قاعدة اليد، وهي وإن كانت صحيحة بحسب الدلالة، ومنجبرة سنداً بعمل الأصحاب، لكنّها لا تشمل المنافع، ولا الأعمال، فالمأخوذ بالإجارة الفاسدة خارج عن عنوان القاعدة، سواء في إجارة الأعيان، أو إجارة الأنفس.

ولكن بعد ما عرفت من أنّ عمدة الدليل عليها هو قاعدة احترام مال المسلم تعلم بأنّه لا فرق فيها بين الأعيان والمنافع والأعمال.

أمّا بالنسبة إلى المنافع فلأنّ المنافع المتعلقة بالأعيان مملوكة لمالكها ومحترمة كاحترامها، لا يجوز أخذها ولا إتلافها إلّابرضا مالكها، ومقتضى هذا الإحترام ثبوت الضمان على من أتلفها بغير إذنه، وبدون رضاه، مضافاً إلى صدق الأخذ في المنافع يتبع العين، فمن أخذ العين فقد أخذ منافعها.

وأمّا في الأعمال- أعمال الحرّ- التي لا تكون مملوكة، ولا يصدق عليها المال قبل وجودها، فالقاعدة أيضاً تشملها، فإنّ أعمال الحرّ أيضاً محترمة، ولذا لو أمر شخص

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 201

رجلًا بعمل، ولم يكن هناك قرينة على التبرّع، فلا شكّ أنّه ضامن لأجرته، كما هو المتعارف بالنسبة إلى كثير من أرباب الحرف، يؤمرون بأمور ولا يتكلم عن مقدار الأجرة، فإذا تمّت الأعمال أخذوا أجرة مثل أعمالهم، ولا يتصور أن يكون فقيه قائلًا بعدم لزوم أجرة المثل على الأمر في أمثال المقام.

نعم، لو كان هناك قرائن على التبرّع، كمن يطلب معاوناً على أخذ شي ء سقط من يده أو شبه ذلك ممّا هو مبنّي على المجانيّة، فلا شكّ أنّه حينئذٍ ليس ضامناً لأجرة المثل.

ولو لم يكن هناك قرينة لا على التبرّع، ولا على الإجارة، كان أيضاً ضامناً، لأنّ الأصل في الأعمال هو احترام حال صاحبها،

فالتبرّع يحتاج إلى دليل.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 203

20 قاعدة اليد

اشارة

إعلم أنَّ هناك قاعدتان «قاعدة ضمان اليد» و «قاعدة حجيّة اليد».

والمراد من القاعدة الثانية أنّ اليد دليل على الملك إلّاأنّ يثبت خلافه، وقد مرّ الكلام فيها مستوفى ء في المجلّد الثاني من هذا الكتاب، وهي القاعدة الخامسة من القواعد التي تكلّمنا فيها.

وأمّا «قاعدة ضمان اليد» التي نبحث عنها الآن، فهي عبارة عن كون اليد الغاصبة سبباً لضمان صاحبها وإن وقع التلف لمتلف سماوي أو ورد على المال نقص أو عيب، وهكذا اليد الأمينة إذا خرجت عن الأمانة بالتعدّي أو بالتفريط، فهي أيضاً ضامنة.

والكلام فيها تارة عن ما يدلّ على ثبوتها وأخرى عن محتواها، وثالثة عمّا يتفرّع عليها.

المقام الأول: في مصدر القاعدة
اشارة

ويدلّ عليها أمور:

1- السنّة

الرواية العامّة المعروفة المستدلّ بها في كلمات علماء الفريقين، وجميع الكتب الفقهيّة، التي يبحث فيها عن مسائل الضمان، وهي قوله صلى الله عليه و آله: «على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 206

ولكن لا توجد هذه الرواية في منابع الحديث والكتب الفقهية لأصحابنا إلّا مرسلة.

وممن رواها كذلك المحدث النوري رحمه الله في «المستدرك» في كتاب الغصب عن أبي الفتوح الرازي في تفسيره عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه» «1».

وروي عن «غوالي اللئالي» مثلها «2».

ولكن الجمهور رووها مسندة في غير واحد من كتبهم عن «سمرة».

فقد روى ابن ماجة، في سننه في كتاب الصدقات في باب العارية، عن إبراهيم بن المستمر، محمد بن عبداللَّه، يحيى بن حكيم، ابن أبي عدي جميعاً، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه» «3».

ورواه احمد في مسنده بسنده عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب، عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه» «4».

ورواه أيضاً في موضع آخر من كتابه عن الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه و آله ثم ذكر مثله، فقال: ثم نسي الحسن قال: «لا يضمن» «5».

ورواه البيهقي أيضاً في «السنن الكبرى» بسنده عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه»، ثمّ إنّ الحسن نسي حديثه فقال: «هو أمينك لا ضمان عليه» «6».

ورواه غيره أيضاً من محدثيهم.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 207

وهل المراد من نسيان الحسن الحديث هو

نسيانه واقعاً، أو رغبته عنه لضعفه؟

لهم كلام ذكره ابن تركماني في «الجوهر النقي» الذي طبع بهامش السنن الكبرى «1».

وكان الحسن توهّم شمول الحديث لموارد الأمانة من العارية وغيرها (وقد رواه غير واحد منهم في باب العارية)، ولكنّه توهم فاسد كاسد، كما سيأتي إن شاءاللَّه تعالى.

وإذا بحثنا في سند هذه الرواية نجدّ ضعف إسنادهم عندنا غالباً، وعلى نحو الخصوص هذا الحديث، لرواية سمرة بن جندب، الذي هو من أفسق الناس، وروايته مشهورة في مخالفة النبي صلى الله عليه و آله، ومذكورة في بحث لا ضرر، وموقفه من معاوية واختلاق الأحاديث، وحضوره مع قتلة الحسين عليه السلام في كربلاء وشبه ذلك معروف.

ولكنّ شهرتها تغني عن البحث في سندها، والاستدلال بها في كتب الفريقين وإرسال الفقهاء لها إرسال المسلّمات وموافقتها للسيرة العقلائيّة وغير ذلك مؤيدة لها.

فقد استدلّ «شيخ الطائفة» رحمه الله بها في كتاب الغصب في المسألة 22 من «الخلاف» في (من غصب ساجة فبنى عليها)، ثمّ ذكر حديث سمرة، ثم قال: وهذه يد قد أخذت ساجة فعليها أن تؤدّيها والاستدلال بها في الكتب الفقهيّة والاستدلالية كثير ومشهور؟

وفي معناها ما روي عن طرقهم أيضاً مسنداً عن عبداللَّه بن سائب بن يزيد، عن أبيه عن جدّه عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «لا يأخذ أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جادّاً، فإذا أخذ أحدكم عصا أخيه فليردّها إليه» «2».

دلّ على أنّ أخذ مال الغير سواء كان عن لعب أوجّد يوجب ردّه إلى صاحبه.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 208

2- الروايات الخاصّة

ويدلّ عليه أيضاً الروايات الخاصّة الواردة في أبواب العارية، والإجارة، والمضاربة، والرهن، وغير ذلك، ممّا يدلّ على أنّ المستعير أو المستاجر أو العامل أو المرتهن إذا حصل منه التعدّي أو التفريط

فهو ضامن لتلف العين، وليس ذلك إلّالأنّ يده تنقلب إلى يد غير أمينة، فلا يشمله حكم براءة الأمين عن الضمان، فينطبق على ما نحن فيه وهو كون الضمان على صاحب اليد إلّاأنّ يؤدّيه إلى مالكه.

وهذه الروايات كثيرة جدّاً وحيث نبسط القول فيها عند الكلام في القاعدة الآتية، ونذكر أنّ هناك طوائف كثيرة من الروايات، ونذكر نموذجاً من كلّ طائفة وهي قاعدة عدم ضمان الأمين، فنصرف النظر عن ذكرها الآن، ونوكلّ أمرها إلى تلك القاعدة.

وهذه الروايات وإن وردت في موارد خاصّة إلّاأنّه يمكن استفادة العموم منها بلا إشكال بعد إلغاء الخصوصيّة منها قطعاً.

أضف إلى ذلك أنّ فيها تعليلات أو ما يشبه التعليل الذي يستفاد منه أنّ حكم الضمان وعدم الضمان يدور مدار الأمانة والغصب، فإذا كانت الأيدي غير أمينة كانت ضامنة حتى تؤدّيه.

والحاصل أنّ جميع ما سيأتي إن شاءاللَّه في القاعدة التالية من عدم ضمان الأمين يدلّ بمهفومه على أنّ غير الأمين ضامن.

فإذن لا يختصّ الدليل على قاعدة «على اليد» بخصوص الرواية النبويّة المرسلة المشهورة، بل الدليل عليها كثير، وما أكثره، ولكنَّ هذه الأدلّة متفرقة في مختلف أبواب الفقه، ولو جمعت كانت كتاباً مستقلًا.

3- احترام مال المسلم

ممّا يدلّ قوياً على قاعدة اليد قاعدة «احترام مال المسلم» بما عرفت لها من المعنى في مبحث قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده»، فإنّ الأصل فيها وفي قاعدة

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 209

اليد وغيرهما من اشباههما هو أنّ مقتضى السلطنة على المال عدم جواز تصرف غيره فيه من دون إذنه، فلو تصرّف فيه، وتسلّط عليه فتلف كان ضامناً، وإلّا انتهكت الحرمة للمال.

وبالجملة حرمة مال المسلم بل وغير المسلم الملحق به، كحرمة دمه، ولا يكون هذا مجرّد حرمة تكليفية كما ذكره بعض الأكابر، بل

حرمة وضعيّة أيضاً، وكيف يكون المال محترماً ولا يجب تداركه عند التلف في غير يد مالكه بغير إذنه؟ وبالجملة فإنّ التدارك للفائت من شؤون احتمال المال، وبدونه لا يعدّ محترماً قطعاً، وتمام الكلام في هذا الأمر ذكرناه في مبحث قاعدة ما يضمن فراجع.

4- بناء العقلاء

يدلّ عليها أيضاً بناء العقلاء فإنّهم لا يزالون يحكمون بضمان من استولى على شي ء بغير حقّ ثم تلف عنده ولو لم يكن عن تعدّ أو تفريط، فاذا غصب غاصب حيواناً فهلك، أو دارهم، أو دنانير فسرقت، أو البسة فخرقت، أو غنماً فأكلها الذئب، فإنّ الحكم بالضمان في جميع ذلك مفروغ عنه عندهم، وحيث إنّ الشارع لم يردع عنه، بل أمضاه عملًا وقولًا، فهو ثابت في الشرع أيضاً.

نعم، هنا بعض انواع التلف ممّا يكون بعلّة عامّة، يخفى الضمان فيها عند العقلاء، مثل ما إذا غصب غاصب داراً فوقعت الزلزلة في كلّ البلد فانهدمت جميع دوره أو كثير منها وانهدمت هذه الدار المغصوبة في ضمنها، لا سيّما إذا كانت الدار قبل ذلك في يد المتصرف فيه بإذن منه كالجارية والعارية، ثمّ مضى الوقت وقصّر في ردّها إلى صاحبها فوقعت الزلزلة، أو أصابها مطر شديد، وجرت السيول فانهدمت بها، أو ما أشبه ذلك ممّا لا يختصّ بهذه الدار ولا تفاوت فيه بين أن تكون بيد المالك أو غيره.

وأوضح منه ما إذا لم يكن التصرّف حراماً عليه بسبب الجهل، كمن أخذ مال غيره جاهلًا فتلف في يده بسبب عامّ من غير تعدّ ولا تفريط، فإنّ الحكم بالضمان في

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 210

جميع ذلك عند العقلاء غير ثابت، وإن كانت بعض هذه المصاديق أوضح من بعض.

ولم نجد إلى الآن تصريحاً بهذا في كلماتهم، وهل اطلاق فتاواهم

واطلاقات أدلّة الضمان تشمل مثل هذا أو لا تشتمله؟ وإنّما هي منصرفة عنه، لا سيّما إذا لم يكن التصرّف فيه محرّماً عليه لجهله أو نسانه أو غير ذلك؟ لا يخلو عن تأمّل.

ولعلّه قد يتوهم دلالة ما رواه السكوني، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «كان أمير المؤمنين عليه السلام يضمن الصبّاغ، والقصّار، والصائغ احتياطاً على أمتعة الناس، وكان لا يضمن من الغرق، والحرق، والشي ء الغالب» «1» على المطلوب.

ولكنّه أجنبي عمّا نحن فيه، فإنّ هذا الاجراء امناء، ولكن إذا شكّ في مقام الإثبات ولم يعلم صدق دعواهم في التلف بغير تفريط لابدّ من قيام قرينة عليه، فإنّ كانوا ثقات فهو قرينة على ذلك، وكذا إذا أقاموا بيّنة عادلة، وإن وقع غرق، أو حرق، أو شي ء غالب وأخذت العين المستأجرة في خلال أموالهم وأموال غيرهم فهو أيضاً قرينة على المطلوب، وسيأتي الكلام فيه مستوفي إن شاءاللَّه في القاعدة التالية، وهي قاعدة عدم ضمان الأمين، فلا يمكن الاستدلال بها على ما هو كلّ الكلام فتأمّل.

المقام الثاني: مفاد القاعدة

وقبل كلّ شي ء لابدّ من تحليل الرواية المرسلة المشهورة: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» لما عرفت من إنجبار ضعف سندها بعمل المشهور من الفريقين، فنقول ومنه سبحانه التوفيق:

الحرف الموصول في قوله «ما أخذت» عامّ يشمل كلّ شي ء، كما أنّ اليد عامّة تشمل اليد الأمينة والخائنة، ولكن سيأتي استثناء اليد الأمينة منها إذا لم يحصل منها تعدّ أو تفريط.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 211

ومن الواضح أنّ اليد هنا كناية عن السلطة على شي ء لا الجارحة المعروفة، فإنّها لما كانت سبباً للسلطة على الأشياء غالباً صارت كناية عن هذا المعنى، فلو حصلت السلطة بغير اليد فلا شك أنّ ذلك داخل في القاعدة.

كما أنّ «الأخذ» ليس

المراد به الأخذ الخارجي باليد أو غيرها، بل التسلّط على شي ء ولو لم يكن بأخذه.

ومن هنا يعلم أنّ كلمة «على اليد» خبر مقدم و «ما أخذت» مبتدأ مؤخّر، وأنّ الجار والمجرور متعلقان بفعل مقدّر وهو «يستقر» أو ما يشبهه وهو ظرف مستقر.

وأمّا لفظة «على» فهي للإستعلاء كما هو الأصل فيها، فكأنّ الأشياء المأخوذة تستقرّ على يد آخذها، ويكون ثقلها عليها ما لم تؤدّها إلى صاحبها، فهذا الثقل باقٍ عليه إلّاأنّ يردها، ومعنى كون ثقلها عليها هو ضمانها، فهو كناية لطيفة عن الضمان.

كما قد يقال: «إنّ هذا على عنقي، أو على عاتقي، فكأنّه حمل حمله على عنقه، أو على عاتقه، وثقله عليه، حتى يخرج من ضمانه، حتى أنّه إذا تلف لا يرتفع ثقله عنه بل يبقى في عالم الاعتبار حتى يؤدّي مثله أو قيمته، فإنّه أيضاً نوع أداء للعين عند تلفه، لقيام المثل أو القيمة مقامه.

وقد يقال: إنّه «في ذمّتي، أو على ذمتي» فتارة تفرض الذمة كوعاء وتستقرّ العين فيه، وربما تتصور كمحمول يحمل العين عليه، وعلى كلّ تقدير، فكلّ هذه التعابير كنايات عن الضمان.

بقي هنا أمور

الأمر الأول: لا فرق في مسألة الضمان هنا بين العلم والجهل، فلو لم يكن مأذوناً من قبل المالك، وتلف في يده كان ضامناً، وذلك لإطلاق قوله صلى الله عليه و آله: «على اليد ما أخذت ...» لعدم وجود قيد فيه من هذه الجهة، هذا «أولًا».

وثانياً: اطلاق سائر الأدلّة والروايات الواردة في المسألة أيضاً دليل على المقصود.

و ثالثاً: قاعدة احترام المال أيضاً تقتضي ذلك من دون أيّ فرق.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 212

و رابعاً: لا فرق في السيرة العقلائيّة بين الصورتين.

أضف الى ذلك كلّه ما ورد في بعض الروايات الخاصّة التي يلوح

منها عدم الفرق بين الجاهل والعالم، مثل ما رواه علي بن مزيد (علي بن فرقد) صاحب السابري قال:

«أوصى إليّ رجل بتركته فأمرني أن أحجّ بها عنه، فنظرت في ذلك فإذا هي شي ء يسير لا يكفي للحج، فسالت أبا حنيفة وفقهاء أهل الكوفة، فقالوا: تصدّق بها عنه- إلى أنّ قال- فلقيت جعفر بن محمد عليهما السلام في الحجر فقلت له: رجل مات وأوصى إليّ بتركته أن أحجّ بها عنه، فنظرت في ذلك فلم يكف للحج، فسألت من عندنا من الفقهاء، فقالوا: تصدّق بها، فقال: ما صنعت؟ قلت: تصدّقت بها، قال: ضمنت! إلّاأنّ لا يكون يبلغ ما يحجّ به من مكّة، فإن كان لا يبلغ ما يحج به من مكة فليس عليك ضمان، وإن كان يبلغ ما يحجّ به من مكة فأنت ضامن» «1».

وفي معناه روايات أخرى وردت في نفس ذاك الباب.

وهي وإن كانت واردة في مورد الإتلاف، إلّاأنّ الظاهر عدم الفرق بينه وبين التلف من هذه الجهة، فلو كان تصرفه فيه بغير إذن مالكه جهلًا منه بذلك سواء كان عن تقصير أو قصور، فتلف عنده، فهو له ضامن، (فتأمّل).

الأمر الثاني: لا شكّ في الضمان إذا كان التلف مستنداً إلى كونه في يده واستيلائه عليه، بحيث لو كان عند مالكه لما أصابه هذه المصيبة والتلف السماوي، فهو وإن لم يكن متلفاً له، ولكنّ يده كانت عليه من معداته، وكذا إذا لم يعلم كون التلف مستنداً إلى هذا أو إلى سبب عام لا تفاوت فيه بين استيلاء المالك عليه واستيلاء الغاصب.

أمّا لو كان السبب من الأسباب العامّة الظاهرة على كلّ أحد كوقوع زلزلة أو إصابة صاعقة، أو غرق أو حرق عام، لا يتفاوت فيه الحال بين أبناء البلد،

فذهب بأموال المالك وأموال الغاصب كليهما ومن جملتهما هذا المال الموجود في يد الغاصب

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 213

بحيث لا يكون لاستيلاء الغاصب أيّة مدخليّة في التلف، ولا سيّما إذا لم يصدق عليه عنوان الغاصب، وإن كان غير مأذون كالجاهل، فظاهر إطلاقات كلماتهم وفتاواهم هنا شمول قاعدة (على اليد) له أيضاً، لأنّا لم نجد من فرق بينهما وإن لم نجد من صرّح بالإطلاق أيضاً.

وقد مرّ الكلام فيه وأنّه لم نجد لهم كلاماً فيه.

نعم، يظهر التفصيل من بعض الكلمات لا بالنسبة إلى نفس العين ولا منافعه المستوفاة، بل بالنسبة إلى المنافع غير المستوفاة، فإنّه قال:

«نعم، هذه القاعدة (قاعدة التفويت) لا تجري بالنسبة إلى جميع أقسام المنافع غير المستوفاة، وتكون مخصوصة بما إذا كان عدم الإستيفاء مستنداً إلى تفريطه، لا إلى آفة سماوية، فلو غصب بستاناً مثلًا أو دابّة كذلك، وكان عدم استيفاء الغاصب لمنفعة ذلك البستان، أو تلك الدابّة لوصول آفة سماوية إليهما، لا لحبس الغاصب لما على مالكهما، فلا تجري هذه القاعدة، ولا يمكن القول بالضمان لأجل قاعدة التفويت» إنتهى «1».

وكلامه وإن كان في قاعدة التفويت (أي تفويت منافع الملك)، ولكنّ الظاهر أنّه لو تمّ كلامه فيها فلابدّ من القول به في العين أيضاً، وفي قاعدة (على اليد) لعدم الفرق بينهما في هذه الجهة والدليل فيها هو الدليل في المنافع.

والظاهر أنّ بناء العقلاء الذي هو الأصل في هذه القواعد على ذلك أيضاً، أعني:

الفرق بين الصورتين، فإذن يمكن التفصيل في المسالة بين الآفات العامّة وغيرها.

ولكنّ الجرأة على هذا الحكم مع إطلاق الروايات والفتاوى، وعدم تعرّض حدّ من الأصحاب فيما رأينا للتفصيل مشكل جدّاً، وإن كان الحكم بالإطلاق أيضاً لا يخلو عن إشكال، والمسألة تحتاج إلى مزيد

تأمّل، وتحقيق، واللَّه الهادي إلى سواء الطريق.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 214

الأمر الثالث: لا فرق بين ضمان العين والمنافع سواء كان مستوفاة أو غير مستوفاة.

أمّا المنافع المستوفاة فالمعروف بينهم ضمانها ولا ينبغي الشك فيها، فلو غصب داراً وسكنها فعليه أجرة مثل منافعه التي استوفاها أو غصب دابّة فركبها.

ويدلّ على ذلك جميع ما يدلّ على ضمان نفس العين، بل المنافع داخلة في قوله «على اليد ما أخذت» فانّ (أخذ) صادق بالنسبة إلى المنافع أيضاً ولو بتبع أخذ العين، كما أنّ التسليم للمنافع في باب الإجارة إنّما هو بتسليم العين المستاجرة، وتوهم أنّ قوله «حتى تؤديه» لا يشملها باطل لأنّ أداء المنافع إنّما هو بأداء العين.

وكذلك قاعدة احترام مال المسلم شاملة لها لأنّ المنافع المستوفاة أيضاً من الأموال، وهكذا لا فرق في السيرة العقلائيّة بين العين والمنفعة.

أضف إلى ذلك كلّه وقوع التصريح به في بعض نصوص الباب، كما في صحيحة أبي ولّاد الحناط عن الصادق عليه السلام فإنّه ذكر في جواب أبي ولّاد الحنّاط الذي اكترى بغلًا ثم جاوز به عن الشرط، فذهب به من الكوفة إلى النيل، ومن النيل إلى بغداد، ومن بغداد إلى الكوفة، فقال: «أرى له عليك مثل كراء بغل ذاهباً من الكوفة إلى النيل، ومثل كراء بغل راكباً من النيل إلى بغداد، ومثل كراء بغل من بغداد إلى الكوفة، توفّيه إيّاه ...» «1».

ومثله ما ورد عنه عليه السلام بطرق عديدة في نفس ذاك الباب «2».

فهذا كلّه دليل على ضمان المنافع المستوفاة بلا ريب.

وأمّا المنافع غير المستوفاة فالمحكي عن المشهور أيضاً الضمان فيها، وهو الموافق لقاعدة احترام مال المسلم، فمن غصب داراً من غيره ولم يسكنها فقد أتلف منافعها على مالكه، وحرمة هذه المنافع تقتضي

تداركها بأجرة مثلها، وكذلك من غصب مركباً أو لباساً أو غيرذلك.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 215

ويدلّ عليه أيضاً سيرة العقلاء، فإنّهم لا يشكّون في وجوب أجرة المثل على الغاصب للدار، وإن لم يسكنها، وكذا غيره من أشباهه، وحيث لم يمنع منها الشارع فهو إجازة لهذا البناء المستمر.

بل يمكن القول بدلالة قوله صلى الله عليه و آله: «على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه» عليه، فإنّ المنافع ولو كانت بالقوة يكون أخذها بتبع أخذ العين، وإذا مضى وقتها ولم يستوفها يصدق أنّه أتلفها فتأمّل.

وبالجملة لا ينبغي الشك في ضمان المنافع بكلا قسميها.

إنّما الكلام في أنّه إذا كان للعين منافع مختلفة تتفاوت بحسب القيمة، مثل السيارة أو المراكب الأخرى، تارة تحمل عليها الأثقال والأحمال، وأخرى يركبها الإنسان، وقد يكون كراؤها في الثاني أكثر من الأول أو بالعكس، فإذا كان هناك سيارة قابلة لكلتا المنفعتين، فغصبها غاصب ولم يستوفِ منافعها، فهل هو ضامن لأكثر الأمرين؟ أو لأقلهما؟ أو يكون المالك بالخيار؟

الظاهر هو الأول لأنّ جميع ما عرفت من الأدلّة الدالّة على ضمان المنافع غير المستوفاة تدلّ على أكثر الأمرين، لصدق توفيت الأكثر عليه، ولكون الأكثر مأخوذاً بتبع العين، ولقاعدد احترام مال المسلم، ومن أمواله منافعه، والمفروض أنّ العين هنا قابلة للمنفعة التي هي أكثر.

الأمر الرابع: لو تلف المال وكان مثلياً وجب مثله، كما أنّه لو كان قيمياً وجب قيمته.

وهذا الحكم هو المشهور بين فقهائنا حتى إدّعي الإجماع عليه.

والعمدة فيه أنّ الواجب على الغاصب أداء العين، فاذا لم يكن أداء العين فالواجب عليه الأقرب فالأقرب، ومن الواضح أنّ المثل في المثلي أقرب إلى العين من كلّ شي ء، لاشتماله على ماليّة العين مع كثير من أوصافه، فمهما أمكن التدارك بالمثل كان واجباً،

وهذا هو المستفاد من قوله «على اليد ما أخذت حتى تؤديه».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 216

وكذلك هذا هو مقتضى قاعدة احترام مال المسلم- إلى غير ذلك من الأدلّة التي مرّت عليك.

نعم، إذا لم يوجد له مثل أو كان متعسّراً، لم يجب عليه إلّاأداء ماليته، لأنّه الأقرب إليه من كلّ شي ء، والظاهر أنّ هذا هو الذي جرت عليه سيرة العقلاء الممضاة من قبل الشارع المقدّس.

هذا، ولكنّ المهم تعيين ضابطة الفرق بين المثلي والقيمي، ولهم هنا تعاريف كثيرة لا يهمنا بيانها جميعاً والبحث عمّا يرد عليها.

والحق أن يقال: أنّه لم يرد هذان العنوانان في لسان دليل شرعي، عدا ما يتوهم من دلالة قوله تعالى: «فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ...» «1».

ولكن الظاهر أنّ الآية أجنبية عن المقام، بل هي ناظرة إلى مسألة القتال في الأشهر الحرم، وإلى قصاص النفس، ولذا عبّر فيها بالتعدّي في الجانبين، ومن الواضح أنّ مسألة الضمان بالتلف ليست من هذا القبيل، ويظهر ما ذكرنا لمن راجعها ولاحظ ما قبلها وما بعدها من الآيات.

وكذا لم يرد في معقد إجماع، وإن إدّعاه شيخنا العلّامة الأنصاري رحمه الله في مكاسبه، ولو سلمنا الإجماع على ذلك فالظاهر أنّه ليس إجماعاً تعبّدياً، بل هو مأخوذ من بناء العقلاء في أبواب الضمانات كما مرّ وسيأتي الإشارة إليه أيضاً.

نعم، ورد التعبير بالمثل في صحيحة أبي ولّاد المشهورة، حيث قال الصادق عليه السلام:

«أرى له عليك مثل كراء بغل ذاهباً من الكوفة إلى النيل، ومثل كراء بغل راكباً من النيل إلى بغداد، ومثل كراء بغل من بغداد إلى الكوفة توفّيه إيّاه»»

.ولكنّ من الواضح أنّها أيضاً أجنبية عن المقام، بل هي ناظرة إلى أجرة المثل كما هو واضح.

القواعد الفقهية، ج 2،

ص: 217

وحينئذٍ لا يبقى مجال للبحث عن تعريف المثلي تارة بأنّه: «ما تماثلت اجزاؤه وتقاربت صفاته» (كما عن التحرير)، أو أنّه «ما تتساوى أجزاؤه في الحقيقة النوعيّه»، كما عن «غاية المراد»، أو أنّه «المتساوي الأجزاء والمنفعة المتقارب الصفات»، كما عن «الدروس»، أو «ما يجوز بيعه سلماً»، كما عن بعض العامة، أو «ما قدّر بالكيل والوزن» (كما عن بعض آخر منهم) إلى غير ذلك، ثم البحث عن ما يرد عليها نقضاً وعكساً، وكذا الكلام بالنسبة إلى القيمي الذي هو مقابله، وذلك لما عرفت من أنّه فرع ورود هذا العنوان في لسان دليل شرعي أو معقد إجماع معتبر.

ومن الجدير بالذكر أنّ شيخنا العلّامة الأنصاري رحمه الله لما لم يجد لشي ء من هذه التعاريف ملاكاً واضحاً التجأ إلى الأخذ بالقدر المتيقن بعد ما اعتقد بورود العنوانين في معقد إجماع معتبر فقال:

«كلّما ثبت كونه مثلياً بالإجماع كان مضموناً بالمثل، وكلّما كان قيمياً كذلك كان مضموناً بالقيمة»، ثم تكلّم في موارد الشكّ مثل الذهب، والفضة المسكوكين، والحديد، وما أشبهه من الفلزات، والعنب، والرطب، وغيرها، وإنّ مقتضى الأصل، كونه قيمياً أو مثلياً أو تخيير الضامن أو تخيير المالك.

ولكنّ الإنصاف أنّه ليس لنا هنا معيار أوضح من الرجوع إلى بناء العقلاء في أمثال المقام، ويظهر من الرجوع إليهم أنّه كلّما يوجد له مثل متقارب الصفات بسهولة ولا يكون من الشواذ التي لا تصل الأيدي إليه نادراً فحينئذٍ يحكمون بوجوب تحصيل المثل على الضامن، إلّاأنّ لا يكون المطلوب فيها إلّاالماليّة كالنقود الرائجة، ولم ينكر الشرع هذا البناء.

والحاصل أنّ الأعيان على ثلاثة اقسام: قسم لا يطلب منها إلّاالماليّة، كالأوراق التي تستعمل بعنوان النقد الرائج في زماننا، فلو تلف شي ء منها عند الضامن أو أتلفه

فليس عليه إلّاأداء ما يعادله بحسب الماليّة، فيجوز إعطاء عشرة في مقابل واحد إذا كان مجموعها يعادله، كعشرة دنانير في مقابل ورقة تعادلّ عشرة، وقسم منها يطلب منها الماليّة والصفات أيضاً وهو على قسمين: ما يوجد له مثل غالباً يشتمل على أكثر

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 218

صفاته، وبناؤهم فيه على أداء المثل، وقسم منها قلّما يوجد له مثل يشتمل على اغلب صفاته، ففيه يكون الضامن مكلّفا بأداء القيمة فقط.

ومن هنا يظهر بسهولة أنّهما يختلفان باختلاف الأمكنة والأزمنة فرّب شي ء يكون مثليّاً في مكان وقيمياً في مكان آخر، أو مثلياً في زمان وقيمياً في زمان آخر.

والظاهر أنّه ليس المدار على الأشخاص، بل المدار على نوع المكلّفين ونوع الأجناس، فلو وجد للقيمي مثل أحياناً أشكل إلزام الضامن بأدائه، كما أنّه لو أختار الضامن المثل حينئذٍ يشكل إلزام المالك بقبوله، فإنّ هذه الأحكام لا تدور مدار الأفراد.

ولكن مع ذلك كلّه لا ينبغي الشك أنّه قد تقع الشبهة في تشخيص مصاديقهما، ويكون لها مصاديق مشكوكة، كما هو الحال في جميع المفاهيم العرفيّة والشرعيّة، فانّ هناك مصاديق معلومة الدخول، ومصاديق معلومة الخروج، ومصاديق مشكوكة في كلّ عنوان.

ولا يبعد تخيير المالك في جميع ذلك، لأنّ الأصل اشتغال الذمّة ولا تحصل البراءة إلّابه، ولكن هنا أقوال واحتمالات أخر تعرّضوا لها في الكتب الفقهيّة، والاولى إيكال البحث عنها إلى محلها.

وكذلك بالنسبة إلى صورة تعذّر المثل في المثلي، أو إذا لم يوجد المثل إلّابأكثر من ثمن المثل، أو غير ذلك من أحكام «بدل الحيلولة» وغيرها لأنّها محررة في كتاب البيع من الفقه.

وهكذا الكلام بالنسبة إلى القيمة في القيمي وأنّ المدار فيه على قيمة يوم الضمان أو يوم التلف، أو يوم الأداء، أو أعلى القيم، أو

يوم إعواز المثل، فيما إذا كان المثل موجوداً من قبل ثم أعوز أو غير ذلك.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 219

21 قاعدة عدم ضمان الأمين

اشارة

هذه القاعدة ممّا استند إليه الفقهاء في أبواب مختلفة، وهي من أشهر القواعد الفقهيّة وأوسعها دليلًا، وأكثرها تفريعاً، وحاصلها أنّ من أخذ مال غيره بعنوان الأمانة سواء كان في عقد إجارة، أو عارية، أو مضاربة، أو مزارعة، أو مساقاة، أو وديعة، أو وكالة، أو رهن، أو ولاية على الصغار، أو جعالة، أو وصاية، أو غير ذلك من أشباهه، فهو غير ضامن له إذا تلف من غيرتعدّ ولا تفريط في حفظها، ولم يخالف فيها على إجمالها أحد ممن نعلم، وإن وقع البحث والكلام في خصوصياتها.

ولكن قبل الشروع في ذكر أدلّتها على كثرتها لابدّ من التنبيه على أمرين:

1- أنّ الكلام في هذه القاعدة قد يكون من جهة مقام الثبوت بأن يعلم أنّ الأمانة الفلانيّة لم يقع فيها تعدّ ولا تفريط، وهلكت بغير ذلك، ثم نتكلم في عدم ضمانه.

وأخرى يقع الكلام في مقام الإثبات، وهو ما إذا علم بالتلف ولكن شكّ في استناده إلى التعدّي والتفريط، فهل يحكم بضمان من تلف في يده أم لا؟

وقد وقع الخلط في كلمات بعض الأعلام بين المقامين، وحصل منه اشتباه في أحكام المسألة.

وليعلم أنّ الروايات الواردة في هذه القاعدة أيضاً مختلفة، بعضها ناظرة إلى المقام الأول، وهو مقام الثبوت، وبعضها ناظرة إلى المقام الثاني، وهو مقام الإثبات، ولابدّ من إعطاء كلّ حقّه، كي لا تختلط الأحكام في فروع القاعدة، وما يستنتج منها.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 222

2- تطلق الأمانة في هذه الأبواب على معنيين:

الأول: ما يكون في مقابل الغصب، فالأمين هو الذي ليس بغاصب، وعلى هذا المعنى المستأجر، والوكيل، والعامل في المضاربة، والمستعير، ونظرائهم

من الأمناء، وإن لم يكونوا ثقاة لأنّ المفروض أنّهم أخذوا المال من مالكه برضاه فهم ليسوا بغاصبين.

الثاني: ما يكون في مقابل الخيانة، وبعبارة أخرى يكون فيها معنى الوثاقة، فالأمين هو الذي يثق الإنسان بقوله وإخباره، فلو شهد مثلًا أنّ المال تلف بغيرتفريط منه يعتمد على كلامه.

وروايات الباب بعضها ناظرة إلى المعنى الأول، وبعضها إلى المعنى الثاني، ولابدّ في كلّ مقام من التمسك بالقرائن الحالية أو المقاليّة.

وقد يشتبه الحال ولا يعلم أنّ الأمانة في الرواية بالمعنى الأول أو الثاني؟

فمن الأول ما عن غياث بن إبراهيم، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إنّ أميرالمؤمنين عليه السلام أتى بصاحب حمام وضعت عنده الثياب، فضاعت فلم يضمّنه، وقال: إنّما هو أمين» «1».

ومن الثاني ما رواه الحلبي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «كان أمير المؤمنين عليه السلام يضمّن القصار والصائغ احتياطاً للناس، وكان أبي يتطول عليه إذا كان مأموناً» «2».

فإنّ القصّار والصائغ مأمونان بالمعنى الأول، فقوله: «إذا كان مأموناً»، فهو للمعنى الثاني، وكم لهما من نظير في أبواب الضمانات.

ومن الجدير بالذكر أنّ الأمانة بالمعنى الأول تناسب مقام الثبوت، وبالمعنى الثاني تناسب البحث عن مقام الإثبات، وكن من هذا الموضوع على بصيرة، فإنّه ينفعنا في جميع أبحاث المسألة.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 223

وإذ قد عرفت ذلك فلنرجع إلى البحث عن مصادر القاعدة «أولًا»، وعن محتواها وما يتفرع عليها «ثانياً».

1 في أدلّة القاعدة
اشارة

يمكن الاستدلال عليها بعد الإجماع اللائح من كلمات القوم، وعدم ظهور المخالف فيها، بالكتاب، والسنة، وبناء العقلاء.

الاول: الكتاب العزيز

أمّا من كتاب اللَّه فقد استدل بقوله تعالى: «ما عَلَى الُمحسِنِينَ مِنْ سَبِيلِ» «1»

، وكون الأمين محسناً واضح.

كما أنّ الضمان سبيل فينفى عنه بمقتضى الآية.

والآية وإن وردت في مورد الجهاد، واستثناء المرضى، والضعفاء، وأشباههم

عن حكمه إذا نصحوا للّه ورسوله، ولكنّ التعليل فيها عام يشمل المورد وغيره.

هذا، والاستدلال بها لا يخلو عن إشكال، فانّ صدق المحسن بالنسبة إلى الودعى، ومن يتبرع بحفظ متاع، كآخذ اللقطة ليجد صاحبها، وشبه ذلك ظاهر، ولكنّ صدقه بالنسبة إلى الأجير، والمستعير، والعامل في المضاربة، ونظائرهم ممّن يأخذ المال من مالكه لمنفعة نفسه مشكل جدّاً، فإذن لا تندرج تحت الآية إلّاموارد يسيرة من القاعدة، ويخرج منها أكثرها.

الثاني: السنّة الشريفة

فهي طوائف كثيرة من الأخبار:

الطائفة الأولى: ما يدلّ على هذه القاعدة عموماً وهي روايات:

منها: ما رواه في دعائم الإسلام عن علي عليه السلام: «ليس على المؤتمن ضمان» «2».

إن كان المراد بالمؤتمن هنا الودعى، كان خاصاً بباب الوديعة، ولكن إن كان

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 224

بمعناه العام يشمل كلّ أمين، وكذا لو قلنا بأنّ تعليق الحكم على الوصف دليل على العليّة، كان بمنزلة العموم.

ومنها: ما روي عن طرق الجمهور عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي»، ثمّ إنّ الحسن نسى حديثه فقال «هو أمينك لا ضمان عليه» «1».

وكان ظاهره أنّه إذا تلف المال من غير تفريط وعلم، فلا ضمان عليه.

الطائفة الثانية: ما علّل فيه عدم الضمان بكون صاحبه أميناً، الذي هو من قبيل القياس منصوص العلة، فيستفاد منها عدم الضمان في سائر موارد الأمانة أيضاً، وهي روايات كثيرة:

1- منها ما عن غياث بن إبراهيم، عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «إنّ أمير المؤمنين عليه السلام أتى بصاحب حمّام وضعت عنده الثياب فضاعت، فلم يضمّنه وقال: إنّما هو أمين» «2».

فقوله: «إنّما هو أمين» بيان للصغرى، ودليل على أنّ عدم ضمان الأمين كان أمراً مفروغاً عنه، لا يحتاج إلى البيان.

نعم، في غير واحد من

الروايات تعليل عدم ضمان صاحب الحمّام بأنّه إنّما يأخذ الأجر على الحمّام، ولا يأخذ أجراً على الثياب «3»، ولكن لا منافاة بين التعليلين كما سيأتي إن شاءاللَّه، فإنّ كلّ واحد منهما جزء من العلة الواقعيّة.

2- ما رواه الحلبي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «ليس على مستعير عارية ضمان، وصاحب العارية والوديعة مؤتمن» «4».

فانّ قوله عليه السلام: «صاحب العارية والوديعة مؤتمن» في مقام التعليل.

3- ما رواه في دعائم الإسلام، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: «صاحب الوديعة والبضاعة مؤتمنان» «5».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 225

4- ما عن الحلبي قال سألت أبا عبداللَّه عليه السلام: «عن رجل استأجر ظئراً فدفع إليها ولده، فغابت بولد سنين، ثم جاءت بالولد وزعمت أنّها لا تعرفه، وزعم أهلها أنّهم لا يعرفونه، قال عليه السلام: ليس لهم ذلك فيقبلوه إنّما شي ء، الظئر مأمونة» «1».

فإنّ إطلاق الحكم بأنّ الظئر مأمونة دليل على أنّ المراد منه الأمانة في مقابل الغصب، وعدم ذكر الكبرى فيها دليل على كونها قطعيّة.

5- وما رواه أبان بن عثمان، عمّن حدثه عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال:

«وسألته الذي يستضيع المال فيهلك أو يسرق، أعلى صاحبه ضمان؟ فقال: ليس عليه غرم بعد أن يكون الرجل أميناً» «2».

فإنّ قوله: «بعد أن يكون الرجل أميناً» في مقام التعليل، فيستفاد منه العموم، أمّا لو كان من قبيل الشرط والتقييد، فإنّه داخل في الأحاديث الناطقة عن الحكم في مقام الإثبات، ولكنّه خلاف الظاهر.

6- وما رواه حمّاد، عن الحلبي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «في رجل أستأجر أجيراً، فاقعده على متاعه، فسرقه، قال: هو مؤتمن» «3».

والظاهر أنّ قوله: «فسرقه» أي فسرق سارق فلم يضمّنه لكونه مؤتمناً.

7- ومن طريق الجمهور ما رواه «الدارمي» في

كتاب الوصايا عن النبي صلى الله عليه و آله: «الوصيّ أمين فيما أوصى إليه به» «4».

إلى غير ذلك ممّا يطلّع عليه المتتبع.

الطائفة الثالثة: «ما دلّ على عدم ضمان الأمين في موارد خاصّة»، بحيث يمكن اصطياد العموم من ملاحظة مجموعها بحيث لا يبقى شكّ في أنّه حكم عام في جميع الأبواب.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 226

1- منها ما ورد في باب الوديعة، مثل ما أرسله في المقنع سئل الصادق عليه السلام عن المودع إذا كان غير ثقة هل يقبل قوله؟ قال: «نعم ولا يمين علية» «1».

وهو وإن كان ناظراً إلى مقام الإثبات، إلّاأنّ عدم اعتبار الوثاقة فيه، يدلّ على عدم الضمان في مقام الثبوت على كلّ حال.

2- منها ما ورد في أبواب العارية، مثل ما رواه الحلبي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إذا هلكت العارية عند المستعير لم يضمنه، إلّاأن يكون اشترط عليه» «2»

ومنها: ما رواه العامّة والخاصّة في القضيّة المعروفة عن سلحة، عن أبي عبدالله، عن أبيه عليهما السلام قال: «جاء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلى صفوان بن اميّة فسأله سلاحاً، ثمانين درعاً، فقال له صفوان: «عارية مضمونة أو غصباً؟ فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: بل عارية مضمونة» «3».

دلّ على أنّ العارية بطبيعتها لا توجب الضمان إلّاأنّ يشترط.

وفي رواية أخرى قال في ذيلها: «فجرت السنّة في العارية إذا شرط فيها أن تكون مؤداة» «4».

3- منها ما ورد في كتاب الرهن، مثل ما رواه أبان بن عثمان، عمن أخبره، عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنّه قال: «في الرهن إذا ضاع من عند المرتهن من غير أن يستهلكه، رجع في حقه على الراهن فاخذه، فإنّ استهلكه ترادا الفضل بينهما» «5».

دلّ

على أنّه إذا تلف الرهن عند المرتهن من دون تقصير فليس بضامن، وإذا أتلفه كان ضامناً، ولذا لا يأخذ ممّا أعطاه إلّاالفضل.

وما رواه سليمان بن خالد في الرهن أيضاً، عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «إذا رهنت عبداً أو

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 227

دابّة فمات فلا شي ء عليك، وإن هلكت الدابّة أو أبق الغلام فأنت له ضامن» «1».

والفرق بين الصورتين أنّ في الأولى تلف بغير تفريط، وفي الثانية تفريط منه، والذي يشهد له قرينة المقابلة.

إلى غير ذلك ممّا ورد في أبواب الرهن، وهو كثير.

4- ومنها ما ورد في أبواب المضاربة، مثل ما رواه محمد بن قيس، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: من إتجرّ مالًا، واشترط نصف الربح ليس عليه ضمان» «2».

إلى غير ذلك ممّا ورد في «أبواب المضاربة».

5- ومنها ما ورد في أبواب الإجارة، مثل ما رواه محمد بن قيس، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قال أمير المؤمنين (في حديث): ولا يغرم الرجل إذا استأجر الدابّة، ما لم يكرهها أو يبغها غائلة» «3».

دلّ على عدم الضمان ما لم يتعد أو يفرّط- هذا في إجارة العين وأمّا إجارة النفس:

مثل ما رواه علي بن محمد القاساني قال: «كتبت إليه يعني أباالحسن عليه السلام: رجل أمر رجلًا يشتري له متاعاً أو غير ذلك، فاشتراه فسرق منه، أو قطع عليه الطريق من مال من ذهب المتاع؟ من مال الأمر أو من مال المأمور؟ فكتب عليه السلام: من مال الأمر» «4».

وهو صريح في عدم ضمان الأجير عند عدم التعدّي، فإنّه القدر المتيقن منه.

إلى غير ذلك ممّا ورد في هذا الباب.

نعم هناك روايات تدلّ على تضمين الصائغ، والقصّار، والحائك، وغيرهم، ومن يكون أجيراً مشتركاً على الإطلاق،

وروايات دالّة على خلافها، سيأتي الكلام فيها إن

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 228

شاءاللَّه: وأنّها من قبيل الاستثناء من حكم عدم ضمان الأجير أولها محامل أخر.

6- ومنها ورد في أبواب الوصيّة، مثل ما رواه محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: «رجل بعث بزكاة ماله لتقسّم، فضاعت، هل عليه ضمانها حتى تقسّم؟

فقال: إذا وجد لها موضعاً فلم يدفعها فهو لها ضامن، إلى أنّ قال- وكذلك الوصي الذي يوصى إليه يكون ضامناً لما دفع إليه إذا وجد ربّه الذي أمر بدفعه إليه، فإنّ لم يجد فليس عليه ضمان» «1».

وهو يدلّ على المقصود من جهتين: من جهة عدم كون الأمين في حفظ الزكاة ضامناً، وكذا من جهة الوصي.

وهناك روايات أخرى مرويّة من طرق الجمهور تدلّ على المقصود.

منها: ما رواه عمروبن شعيب، عن أبيه، عن جدّه قال: «قال رسول اللَّه عليه السلام: من أودع وديعة فلا ضمان عليه» «2».

و روى البيهقي عن شعيب مثله عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلّاأنّه قال: «من استودع وديعة فلا ضمان عليه» «3».

ومنها: ما رواه مصعب بن ثابت قال: سمعت عطا يحدّث أنّ رجلًا رهن فرساً فنفق في يده، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: للمرتهن «ذهب حقه» «4».

والظاهر أنّ الضمير عائد إلى الراهن وذهاب حقه بمعنى عدم ضمان المرتهن للعين المرهونة، وهذا ممّا ورد في أبواب الرهن.

ومنها: ما رواه سعيد بن المسيب أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «لا يغلق الرهن من صاحبه، له غنمه وعليه غرمه» «5».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 229

هذا أيضاً ممّا ورد في أبواب الرهن.

وقد مرّ آنفاً أنّ هناك روايات تدلّ على الضمان في بعض أبواب الإجارة، والوديعة، رويت في

كتب الفريقين، وسيأتي الكلام فيها إن شاءاللَّه وأنّها لا تعارض القاعدة المسلّمة، وهي عدم ضمان الأمين.

الطائفة الرابعة: ما يدلّ على أنّ الضمان مشروط باشتراطه، الذي يدلّ بمفهومه على أنّه لولا الاشتراط لما كان هناك ضمان، أو أنّ الضمان ثابت إذا خالف الشرط الذي اشترط عليه صاحبه في ماله.

منها: ما ورد في أبواب المضاربة، مثل ما رواه محمد بن عيسى في نوادره عن أبيه قال: «قال أبو عبداللَّه عليه السلام: كان للعباس مال المضاربة، فكان يشترط أن لا يركب بحراً، ولا ينزل وادياً، فان فعلتم فأنتم له ضامنون، فابلغ ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فأجاز شرطه عليهم» «1».

إلى غير ذلك ممّا ورد في هذا الباب.

ومنها: ما ورد في أبواب الإجارة مثل ما رواه الحلبي قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن رجل (و في نسخة- ما تقول في رجل) تكارى دابّة إلى مكان معلوم، فنفقت الدابّة؟

قال: إن كان جاز الشرط فهو ضامن» «2».

ومنها: ما رواه الحلبي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنّه قال: في الرجل يعطى المال، فيقول له: «إيتِ أرض كذا وكذا ولا تجاوزها، واشترِ منها، قال فإن جاوزها وهلك المال فهو ضامن» إلى غير ذلك ممّا ورد في هذا الباب «3».

الطائفة الخامسة: ما يدلّ على أنّ الضمان متوقف على التعدّي والتفريط الذي يدلّ بمفهومه على عدم الضمان عند عدمه.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 230

منها: ما ورد في أبواب المضاربة من أنّ العامل إذا خالف الشرط كان ضامناً، ومن الواضح أنّ مخالفة الشرط من مصاديق التعدّي، مثل ما رواه محمد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام قال: «سألته عن الرجل يعطى المال مضاربة، وينهى أن يخرج به، فخرج، قال: يضمن المال، والربح بينهما»

«1».

وفي معناه روايات كثيرة أخرى وردت في نفس الباب»

.ومنها: ما ورد في أبواب الإجارة، وأنّه لو خاف المستأجر الشرط كان ضامناً.

مثل الرواية المعتبرة المعروفة لأبي ولّاد الخيّاط التي لا يزال يستدلّ بها القوم في أبواب الضمانات، والرواية طويلة حاصلها أنّه اكترى بغلًا لطلب غريم له، ولما لم يجده خالف شرط الإجارة، وذهب به إلى أمكنة أخرى سَئل أبا عبداللَّه عليه السلام عن حكمه بعد ما أتى صاحب البغل عند أبي حنيفة، وقال في جملة كلام له: «قلت له (أي للصادق عليه السلام): أرأيت لو عطب البغل، ونفق، أليس كان يلزمني؟ قال: نعم، قيمة بغل يوم خالفته» «3».

والروايات في هذا الباب أيضاً كثيرة، رواها في الوسائل في نفس ذاك الباب. «4»

ومنها: ما ورد في أبواب الإجارة أيضاً من أنّ المستاجر إذا فرّط في حفظ الدابّة فعيبت أو هلكت فعليه ضمانها، مثل ما رواه علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: «سألته عن رجل استاجر دابّة فوقعت في بئر، فانكسرت، ما عليه؟

قال: هو ضامن، إن كان لم يستوثق منها» الحديث «5».

وفي معناهما روايات أخرى في نفس الباب «6».

إلى غير ذلك ممّا ورد في هذا المعنى.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 231

الطائفة السادسة: ما دلّ على أنّ عدم الضمان مشروط بالأمانة والوثاقة.

وهذه الطائفة وإن وردت في مقام الإثبات ولكنّها دليل على أنّه لو لم يتعدّ ولم يفرط في مقام الثبوت فليس بضامن، والروايات في هذا المعنى كثيرة وإليك نموذجاً.

منها: ما رواه عبداللَّه بن سنان قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن العارية، فقال: لا غرم على مستعير عارية إذا هلكت إذا كان مأموناً» «1».

ومنها: ما رواه أبان عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر

عليه السلام قال: «سألته عن العارية يستعيرها الإنسان، فيهلك أو يسرق، فقال: إن كان أميناً فلا غرم عليه» «2» بناءاً على أن يكون قوله «بعد أن يكون الرجل أميناً» بمنزلة الشرط، لا في مقام التعليل.

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة في مختلف أبواب المعاملات.

الطائفة السابعة: ما دلّ على أنّ صاحب اليد إن أقام بيّنة على عدم التعدّي والتفريط لم يكن ضامناً، وإلّا فهو ضامن، وهذه الطائفة وإن وردت في مقام الإثبات أيضاً لكنّها دليل على أنّه إذا لم يتعدّ ولم يفرط الأمين واقعاً فليس بضامن وهي أيضا كثيرة إليك بعضها:

منها: ما رواه الحلبي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «في حمّال يحمل معه الزّيت فيقول: «قد ذهب، أو أهرق، أو قطع عليه الطريق، فإن جاء ببيّنة عادلة أنّه قطع عليه، أو ذهب، فليس عليه شي ء وإلّا ضمن» «3».

والأحاديث في هذا الباب كثيرة أيضاً، وقد رواها في الوسائل في ذاك الباب أو أبواب أخر.

وقد تحصّل من جميع ما ذكرنا على أنّ هناك عشرات أو مئات من الروايات تبلغ حدّ التواتر تدلّ بعمومها أو خصوصها على أنّ الأمين غير ضامن إجمالًا، وإن كان

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 232

فيها شرائط أو خصوصيات أخر سياتي الكلام فيها إن شاء اللَّه في التنبيهات.

وبالجملة فإنّ هذه المسألة من ناحية الأدلّة النقليّة من الوضوح بمكان لا يرتاب فيها من كان له أدنى إحاطة بكتب الأخبار، وروايات النبي صلى الله عليه و آله وآله الأطهار عليهم السلام.

الروايات المعارضة

ولكن مع ذلك هناك روايات يبدومنها في ابتداء النظر أنّها معارضة لما مرّ، ويظهر منها ضمان الأمين، فلابدّ من التعرض لها، وبيان طريق الجمع فيها.

وهي أيضاً طوائف

1- ما ورد بطرق المختلفة أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يضمن الصبّاغ، والقصّار، والصائغ احتياطاً على أمتعة الناس، وكان لا يضمن من الغرق، والحرق، والشي ء الغالب «1».

ولكن لا يبعد أن يكون هذا من قبيل الأحكام السلطانيّة التي يكون أمرها بيد حاكم الشرع، فقد يرى المصلحة في حفظ نظام المجتمع، على أن يضمن أرباب الحرف بالنسبة إلى أموال الناس، بعد ما رأى منهم قلّة المبالاة في حفظ امتعة الناس، ووقعت الفوضى من هذه الناحية.

ولذا ورد في روايات أخرى أنّ الرضا عليه السلام وكذا أبا جعفر الباقر عليه السلام لم يضمناهم، (إمّا تطوّلًا عليهم، وإمّا لملاحظة احتياطهم في أموال الناس في عصرهما).

2- ما دلّ على أنّ كلّ أجير يعطى الأجرة على إصلاح شي ء فيفسده، فهو ضامن له، مثل ما رواه الحلبي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «سئل عن القصّار يفسد، فقال: كلّ

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 233

أجير يعطى الأجرة على أن يصلح فيفسد فهو ضامن» «1».

وما رواه إسماعيل بن أبي الصباح، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «سألته عن الثوب أدفعه إلى القصّار فيخرقه، قال: اغرمه، فانّك إنّما دفعته إليه ليصلحه ولم تدفع إليه ليفسده» «2».

ومثله بهذه العبارة أو ما يقرب منها عن الحلبي فيمن يعطي الثوب للصبّاغ «3».

وكذا مرسلة الصدوق في «المقنع»، قال: «كان أمير المؤمنين عليه السلام يضمّن القصّار، والصائغ وكلّ من أخذ شيئاً ليصلحه فأفسده» «4».

ويمكن الجواب عن هذه الطائفة من طرق عديدة:

الأول: أنّه من شؤون قاعدة «من له الغنم فعليه الغرم»، فانّ هذه القاعدة بعمومها وإن

لم تثبت عندنا، ولكنّها ممضاة في بعض الموارد، ويمكن أن يكون المورد منها، فحينئذٍ تكون هذه القاعدة حاكمة على قاعدة عدم ضمان الأمين أو مخصصة لها.

الثاني: يمكن أن يكون من باب ولاية الحاكم وتضمينه لأرباب الحرف احتياطاً على أموال الناس، فيما إذا رأى منهم قلّة المبالاة فيها، كما مرّ في سابقه.

الثالث: هذه الروايات ناظرة إلى باب الإتلاف، وهو أجنبي عمّا نحن فيه، فإنّ الكلام في عدم ضمان الأمين إنّما هو في التلف فقط، ومن الواضح أنّ كلّ من أتلف مال الغير فهو له ضامن، ولا معنى للتعدّي وعدمه فيه، ولا للعلم والجهل، ولكنّ قوله:

«كلّ أجير يعطى الإجارة» ينافي هذا المعنى، فإنّ هذا القيد في مقام الإحتراز، ومفهومه عدم الضمان بالإتلاف لو لم يعطِ الأجرة.

ولكن يمكن حلّ هذه العويصة بأنّه إذا دخل الإنسان في عمل تبرعاً بإذن صاحبه، ولم يتعدّ ولم يفرّط، فلا يبعد عدم كونه ضامناً لما يتلفه إذا كان الإتلاف من اللوازم

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 234

القهرية لعمله، ولو في بعض الموارد، ولكنّ هذا المعنى لا يجري في حقّ من يأخذ الأجر على إصلاح شي ء فيفسده، ولو لم يكن عن تعدّ ولا تفريط، فتأمّل.

الرابع: مع قطع النظر عن جميع ذلك تكون النسبة بين هذه الروايات وعموم عدم ضمان الأمين نسبة الخصوص والعموم المطلق، فيخص بها في خصوص هذا المورد، وتبقى القاعدة سليمة عن المعارض في غير هذا الباب.

وبالجملة، فإنّ روايات تضمين أرباب الحرف الذين يأخذون الأجر على أعمالهم فيفسدون أموال الناس أحياناً، مع أنّها معارضة بما ورد من عدم ضمانهم بالخصوص كما يظهر على من راجع أبواب الإجارة «1»، ولكنّها أخصّ ممّا نحن بصدده، ولها محامل أخر غير التخصيص كما عرفت، فلا تنافي روايات

التضمين هذه قاعدة عدم ضمان الأمين.

3- ما دلّ على الأجير المشارك، والظاهر أنّه هو الذي يكون له حرفة يراجعه الناس فيها، فهو بعلمه مشارك لهم، ولا يختصّ بواحد منهم، مثل ما رواه مسمع بن عبدالملك، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: الأجير المشارك هو ضامن إلّا من سبع، أو من غرق، أو حرق، أو لصّ مكابر» «2».

وهي وإن كانت أعم من سابقها لعدم تقييدها بالإتلاف، بل تشمل بعمومها للتلف والإتلاف معاً، ولكنّ الجواب عنها هو الجواب عن الطائفة السابقة، من إمكان حملها على قاعدة «من له الغنم»، أو على «ولاية الحاكم»، وإن أبيت عن جميع ذلك فهي تخصيص في قاعدة عدم ضمان الأمين، ولا مضادّ لها بعمومها.

4- الروايات الكثيرة الدالّة على ضمان عارية الدرهم، والذهب، والفضة، مثل ما رواه عبداللَّه بن سنان قال: «قال أبو عبداللَّه عليه السلام: لا تضمن العارية، إلّاأن يكون قد

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 235

اشترط فيها ضمان، إلّاالدنانير، فإنّها مضمونة، وإن لم يشترط فيها ضماناً» «1».

وفي معناها روايات أخرى في نفس ذاك الباب صرّح في بعضها بعنوان الدراهم أو الدنانير، وبعضها الآخر بعنوان الذهب والفضة.

ولكنّ الأمر فيها أيضاً سهل، لأنّ تخصيص قاعدة «عدم ضمان الأمين» في بعض مواردها أدلّة خاصّة لا تنافي عمومها في غير تلك الموارد، فقد تكون مصلحة في التخصيص في مثل الذهب والفضة ممّا يحتاج إلى التحفظ الشديد، بحيث لو لم يكن المستعير ضامناً لا يتحفظ عليه كلّ التحفظ، فالشارع رأى المصلحة في تضمينه في خصوص هذا المورد، ولا يمكن التعدّي إلى غيره.

هذا كلّه إذا لم نقل بأنّ إطلاق الذهب والفضة في هذه الروايات محمول على الدرهم والدينار، وعاريتهما كناية عن الإقتراض، لعدم كون

العارية في الدرهم والدينار معمولًا بها بين الناس، وحينئذٍ يخرج هذا العنوان عن محل الكلام بالتخصص لا بالتخصيص، وتمام الكلام فيه في محله.

5- ما ورد في باب المضاربة بمال اليتيم، وأنّ العامل ضامن على كلّ حال، مع أنّه أمين مثل ما رواه بكر بن حبيب قال:» قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: رجل دفع إليه مال اليتيم مضاربة، فقال: فإنّ كان ربح فلليتيم، وإن كان تراجع الكمة ولعلّها: ضيّعة فالذي أعطى ضامن» «2».

ومثله ما ورد في أبواب الوصية عن إسماعيل بن سعد الاشعري، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: «سألته عن مال اليتيم هل للوصي أن يعيّنه أو يتّجر فيه؟، قال: إن فعل فهو ضامن» «3».

إلى غير ذلك ممّا ورد في هذه الأبواب، ولا سيّما في أبواب الزكاة، وأنّه من اتّجر بمال اليتيم فالربح لليتيم، وإن وضع فعلى الذي يتّجر به «4».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 236

ولكن يمكن الجواب عن جميع ذلك بأنّ الضمان في هذه الموارد من جهة التصرّف فيما لا يجوز له التصرّف فيه، وهو موجب للضمان، وأمّا كون الربح لليتيم، فإنّه كالفضولي الذي أجازه مالكه، أو من بيده ولاية الأمر، فالشارع أذن التجارة الرابحة في مال اليتيم غبطةً له، فالربح يكون في ماله، وأمّا التجارة الخاسرة وضمانها فتكون على تاجرها إذا كانت بغير إذن من الشارع.

6- ما دلّ على ضمان الوصي للزكاة أو لمال الغرماء الذي في يده، فإنّه ضامن مع أنّه أمين، مثل ما رواه سليمان بن عبداللَّه الهاشمي عن أبيه قال: «سألت أباجعفر عليه السلام عن رجل أوصى إلى رجل فأعطاه ألف درهم زكاة ماله، فذهبت من الوصي، قال: هو ضامن، ولا يرجع على الورثة» «1».

وما رواه أبان، عن رجل قال:

«سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن رجل أوصى إلى رجل أنّ عليه ديناً فقال: يقضي الرجل ما عليه من دينه، ويقسّم ما بقى بين الورثة، قلت:

فسرق ما أوصى به من الدين، ممن يؤخذ الدين؟ أمن الورثة، أو من الوصي؟ قال لا يؤخذ من الورثة، ولكن الوصي ضامن لها» «2».

إلى غير ذلك ممّا في معناه.

ويمكن الجواب عن الجميع بحملها على ما إذا وجد مستحق الزكاة، أو صاحب الدين، وتوانى في دفعها إليه، كما يشهد له صحيحة محمد بن مسلم قال: «قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: رجل بعث بزكاة ماله لتقسم فضاعت، هل عليه ضمانها حتى تقسم؟ فقال:

إذا وجد لها موضعاً فلم يدفعها فهو لها ضامن- إلى أنّ قال- وكذلك الوصي الذي يوصى إليه يكون ضامناً لما دفع إليه إذا وجد ربّه الذي أمر بدفعه إليه، فإنّ لم يجد فليس عليه ضمان» «3».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 237

وبالجملة لا تنثلم قاعدة «عدم ضمان الأمين» بشي ء من هذه، غاية الأمر يكون تخصيصاً لها في بعض مصاديقها، وقد عرفت أنّ لها محامل أخر غير التخصيص، فتدبّر جيّداً.

7- ما وردت في أبواب اللقطة، وأنّه إذا تلفت فالواجد ضامن لها، مثل ما رواه عبداللَّه بن جعفر في «قرب الاسناد» بسنده عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: «وسألته عن الرجل يصيب اللقطة دراهم، أو ثوباً، أو دابّة كيف يصنع؟

قال: يعرفها سنة، فانّ لم يعرف صاحبها حفظها في عرض ماله، حتى يجي ء طالبها، فيعطيها إيّاه، وإن مات أوصى بها فانّ أصابها شي ء فهو ضامن» «1».

ولكن يمكن حملها على صورة التعدّي أو التفريط في حفظها:، أو على من نوى أخذ الجعل لوجدآنها بقرينة ما رواه عن حسين بن زيد،

عن جعفر عن أبيه عليهما السلام قال:

«كان أميرالمؤمنين عليه السلام يقول في الضالة يجدها الرجل فينوي أن يأخذ لها جعلا فتنفق «2»، قال عليه السلام: هو ضامن، فانّ لم ينوِ أن يأخذ لها جعلًا ونفقت، فلا ضمان عليه» «3».

والرواية وإن كانت غير نقيّة الإسناد، ولكنّها تصلح لأن تكون قرينة وتأييداً للجمع، ولو اغمضنا عن جميع ذلك فهو تخصيص في مورد خاص، ولا ينافي أصل قاعدة نفي الضمان على الأمين.

الثالث: بناء العقلاء

وممّا يدلّ على هذه القاعدة بعمومها بناء العقلاء من أرباب الملل وغيرهم، حتى من لا ينتمي إلى دين، فإنّهم لا يزالون يحكمون بعدم ضمان من جعلوه أميناً إذا

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 238

علموا عدم تعدّيه وتفريطه، فهل ترى أحداً منهم يحكم بضمان الأجير إذا حفظ العين المستأجرة كأحد أمواله، ولكنّها تلفت بمتلف سماوي لا دخل له فيه.

وكذا المستعير إذا حفظ العين المستعارة فتلفت لقضاء أجلها، أو بوقوع غرق، أو صاعقة عليها ممّا لا دخل للمستعير فيه، لا سيّما إذا لم يتفاوت الأمر فيه بين ما إذا كان في يد المستعير أو المالك، إلّاإذا كان هناك شرط أو قرينة تقوم مقام الشرط.

وأوضح من ذلك الودعي فاذا حفظ الوديعة كأحد أمواله من دون أي تفريط، ولكن سرقها سارق من بيته في جملة أمواله، فلا شكّ أنّه لا يعد ضامناً عند العقلاء وأهل العرف.

نعم، إذاوقع الإشتباه في مقام الإثبات، ولم يعلم أنّه خان في الأمانة، أو لم يخن، تعدّى في العين المستعارة، أو لم يتعدّ، فرّط في العين المستأجرة، أو لم يفرّط، فهل يقبل قوله في مقام الإثبات أو يحتاج إلى دليل، ولا أقلّ من كونه مأموناً ثقة؟ فهذا أمر آخر أجنبي عمّا نحن بصدده، وسنتكلم فيه إن شاءاللَّه في

أول تنبيهات المسألة.

ولو شكّ في بعض مصاديق القاعدة، فلا أقلّ من أنّه لا كلام فيها عندهم على نحو الإجمال، ولا سيّما في الأعذار العامّة، كخرابه بوقوع الزلزلة، أو الغرق، أو الحرق، أو الآفات السماويّة أو الأرضية وحيث إنّ هذا البناء منهم كان مستمراً حتى قبل ورود الشرع، وكان بمرئى من الشارع المقدس وبمسمع منه ولم يردع عنه، فيعلم أنّه رضى به.

والظاهر أنّ الروايات الكثيرة السابقة الدالّة على عدم ضمان الأمين هي امضاء لهذا البناء أيضاً، ولكن لا يبعد أن تكون هذه القاعدة اوسع نطاقاً في الشرع ممّا عند العقلاء، فانّ عمومها في الشرع واضح، في الذي هو ليس كذلك عند العقلاء، فقد يقع الخلاف بينهم في بعض مصاديقها، وكلّ يتبع ما لديه من العرف والعادة أو القوانين المجعولة عندهم، فالشارع المقدّس في الإسلام شيّد بنيان هذه القاعدة، وبناها على مستوى عال، ودائرة واسعة، لا يعتريها شك ولا يشوبها ريب.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 239

كما أنَّ الظاهر أنّ إجماع الفقهاء (رضوان اللَّه عليهم) أيضاً يرجع إلى ما عرفت من الروايات العامّة، والخاصّة، وبناء العقلاء،

2- تنبيهات
الأول: في معنى الأمانة في المقام

قد مرّ في صدر البحث أنّ الأمانة تستعمل هنا في معنيين: الأمانة في مقابل الغصب، والأمانة بمعنى الوثاقة.

كما عرفت أنّ الكلام في القاعدة أولًا: وبالذات في المعنى الأول، ولكن قد وقع الخلط في كثير من كلماتهم من المعنيين، نظراً إلى وقوع هذا التعبير بعينه في روايات القاعده تارةً في المعنى الأول، وأخرى في المعنى الثاني، وقد ذكرنا أنّ المعنى الأول راجع إلى «مقام الثبوت».

والثاني: إلى «مقام الإثبات»، وحيث إنّ البحث تم مستوفي في المقام الأول، فنتكلم الآن في المقام الثاني.

وحاصله: أنّه لا شكّ أنّ الأمانة بمنى عدم الغصب كافية في نفي الضمان، فلو

كان التسلّط على مال أو منفعة بإذن من المالك، أو باجازة من الشارع، ولم يحصل من الإنسان تعدّ وتفريط في حفظه لم يكن ضامناً، سواء كان ثقة مأموناً أو فاسقاً كذّاباً.

ولكن إذا حصل الشّك في أنّه خان في الأمانة أو لم يخن، وتعدّى فيها أو لم يتعدّ، وفرّط أو لم يفرّط، فهل يقبل قوله مطلقاً؟ أو إذا كان له بيّنة؟ أو يكفي إخباره إذا كان ثقة، وهذا أمر آخر يرجع إلى الشكّ في المصداق، وأنّه داخل في عموم القاعدة أو خارج عنها، وبعبارة أخرى هذا من قبيل الشبهة المصداقية للمخصص.

واللازم أن يتكلم فيه أولًا: بحسب القواعد، وثانياً: نبحث عن النصوص الواردة في هذا المعنى في الأبواب المختلفة، فنقول ومن اللَّه التوفيق والهداية.

إنّه قد يتوهم الرجوع إلى أصالة البراءة عن الضمان هنا بعد عدم جواز التمسّك بعموم العام بالشبهات المصداقية للمخصص.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 240

كما أنّه قد يتوهم أنّ مقتضى الاستصحاب، وأصالة عدم التعدي والتفريط تقتضي عدم الضمان، لكن يشكل الأول بأنّ المقام ليس مقام البراءة، بل الأصل في الأموال كما عرفت، كونها محترمة إلّابإذن مالكها أو الشارع الذي هو مالك الملوك، وحيث لا نعلم أنّ التلف كان بتعدّ وتفريط أو لم يكن، فعلى الأخذ إثبات كونه مأذوناً غير متعد ولا مفرط.

ولذا لا نجد أحداً من العقلاء يكتفي بقول الأجير: إنّ متاعك الذي كان عندي ضاع، أو سرق، من غير إقامة دليل عليه، ولو امكن ذلك كان لكلّ أجير، ومضارب، ومستعير، ووكيل دعوى حصول التلف، ولزم منه الهرج، والمرج، والفوضى بين الناس، ولم يستقرّ حجر على حجر، وانفتح باب الخيانة أمام الناس ولم يعتمد أحد على أحد.

والحاصل أنّ إحترام الأموال يوجب الضمان في موارد الشك إلّاأنّ

يأتي الأخذ بدليل، أو كان ثقة مأموناً، فلذا لا يجوز الرجوع إلى أصالة البراءة.

ومن هنا تعرف الكلام في الاستصحاب وأنّه على فرض اجرائه محكوم بقاعدة احترام الأموال، مضافاً إلى أنّ الاستصحاب قد يدلّ على الضمان كما إذا استصحب عدم الحفظ لها وعدم العناية بالاحتفاظ بها فتامل، والحاصل أنّه ليس المقام ممّا يرجع فيه إلى الأصول العمليّة بعد وجود الدليل الخاص.

وأمّا الروايات فهناك طوائف تدلّ على الضمان عند الشّك.

الطائفة الأولى: ما دلّ على ضمانهم إلّاأنّ يقيموا البيّنة:

1- ما رواه أبو بصير، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «سألته عن قصّار دفعت إليه ثوباً، فزعم أنّه سرق من بين متاعه، قال: فعليه أن يقيم البيّنة أنّه سرق من بين متاعه، وليس عليه شي ء، فإنّ سرق متاعه كلّه فليس عليه شي ء» «1».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 241

2- وما رواه الحلبي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام: في حمال يحمل معه الزيت، فيقول: قد ذهب أو أهرق أو قطع عليه الطريق، فإنّ جاء ببيّنة عادلة أنّه قطع عليه، أو ذهب، فليس عليه شي ء، وإلّا ضمن» «1».

3- وما رواه علي بن جعفر في كتابه، عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: «سألته عن رجل استأجر دابّة فوقعت في بئر فانكسرت، ما عليه؟ قال: هو ضامن إن كان لم يستوثق منها فانّ أقام البيّنة أنّه ربطها فاستوثق منها، فليس عليه شي ء» «2».

4- وما رواه الحلبي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «سئل عن رجل حمّال استكرى منه إبلًا وبعث معه بزيت إلى إرض وزعم أنّ بعض زقاق الزيت انخرق فاهراق ما فيه، فقال: أنّه إن شاء أخذ الزيت، وقال إنّه انخرق، ولكنّه لا يصدق إلّاببيّنة عادلة» «3».

ومن بين هذه الروايات روايات صحاح

معتمد عليها، بحسب السند، ويستفاد من مجموعها أنّ دعوى الحمّال ومثله التلف لا تقبل بدون البيّنة، والأصل كونه ضامناً.

الطائفة الثانية: ما دلّ على عدم ضمانهم إذا كانوا ثقاة، وهي روايات كثيرة نكتفي بذكر شطر منها:

1- مثل ما رواه أبو بصير، عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «في الحمّال يكسر الذي يحمل أو يهريقه؟ قال: إن كان مأموناً فليس عليه شي ء، وإن كان غير مأمون فهو له ضامن» «4».

ومن الواضح أنّه ليس المراد منه صورة العلم بإتلافه، لعدم دخل الأمانة والوثاقة في مسألة الإتلاف، وإنّما المراد منها بقرينة ذيلها صورة الشك في صحّة دعواه.

2- ما رواه خالد بن الحجاج قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن الملّاح أحمّله الطعام ثم أقبضه منه، فينقصه، قال: إن كان مأموناً فلا تضمنه» «5».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 242

3- ما رواه حذيفة بن منصور قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن الرجل يحمل المتاع بالأجر، فيضيع المتاع، فتطيب نفسه أن يغرمه لأهله، أيأخذونه؟ قال: فقال لي: أمين هو؟ قلت نعم، قال: فلا يأخذ منه شيئاً»»

.4- ما رواه الحلبي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «أيّما رجل تكارى دابّة، فأخذته الذئبة، فشقت كرشها، فنفقت، فهو ضامن، إلّاأن يكون مسلماً عدلًا» «2».

وكيفية الاستدلال بها كالرواية الاولى، فانّ المفروض الشكّ في صدق دعوى الأجير وإلّا لو علم بصدقه في دعواه لم يكن وجه لضمانه.

5- ما ورد في أبواب العارية عن عبداللَّه بن سنان قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن العارية، فقال: لا غرم على مستعير عارية إذا هلكت إذا كان مأموناً» «3».

وما ورد في أبواب الوديعة أرسله الكليني في الكافي قال في حديث آخر إذا كان مسلماً عدلا فليس عليه ضمان «4»

إلى غير ذلك ممّا

ورد في أبواب مختلفة.

الطائفة الثالثة: ما دلّ على جواز استخدامه إذا كان متّهماً، وان لم يكن متّهماً فليس عليه شي ء: ما رواه بكر بن حبيب قال: «قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: أعطيت جبّة إلى القصّار، فذهبت بزعمه، قال: إن أتهمته فاسحلفه، وان لم تتهمه فليس عليه شي ء» «5». ما رواه جعفر بن عثمان قال: «حمل أبي متاعاً إلى الشام مع جمّال، فذكر أنّ حملًا منه ضاع، فذكرت ذلك لأبي عبداللَّه عليه السلام فقال: أتتهمه؟ قلت: لا، قال: فلا تضمنه». «6»

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 243

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه وقع الكلام بين فقهائنا في أبواب الإجارة في أنّ الأجير مثل الصانع، أو الملّاح، أو المكاري إذا ادّعى هلاك المتاع من غير تعدّ ولا تفريط، وأنكر المالك، هل يقبل قوله بغير البيّنة أم لا؟ حكى عن المشهور كما عن المسالك ضمانه بغير البيّنة، بل إدّعي الإجماع عليه، ولكن اختار جماعة قبول قولهم مع اليمين، لأنّهم امناء، بل ادّعى المحقق في الشرايع أنّه اشهر الروايتين، وحكى هذا القول عن الشيخ في غير واحد من كتبه، و «المراسم»، و «الكافي» و «السرائر» و «التذكرة» و «القواعد» و «إيضاحها»، و «أيضاًح النافع» و «جامع المقاصد» و «الرياض» وغيرها.

واستدلّ عليه بما قد عرفت من رواية بكر بن حبيب في الطائفة الثالثة، وبما رواه معاوية بن عمّار في الصحيح، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «سألته عن الصبّاغ والقصّار، فقال: ليس يضمنان» «1».

وما رواه أبوبصير المرادي، عن الصادق عليه السلام أيضاً قال: «لا يضمن الصائغ ولا القصّار، ولا الحائك، الّا أن يكونوا متّهمين فيخوّف بالبيّنة، ويستحلف، ولعله يستخرج منه شيئاً» «2».

ولكن من المعلوم أنّ الدقّة في الطوائف الثلاثة من الروايات التي مرّت

عليك تدلّ دلالة واضحة على القول الأول وأنّ أرباب الحرف وغيرهم ضامنون لما يعطون إذا شكّ في صدق دعواهم في التلف، والحرق، أو الغرق، وأنّ الذي ينفي ضمانهم أحد أمرين: إقامة البيّنة على صدق دعواهم، وكونهم امناء، والمراد بالأمين هنا ليس الأمين في مقابل الغاصب، بل الأمين بمعنى الثقة، ومن لا يكون متهماً في قوله كما صرّحت به الروايات السابقة.

وبالجملة، لا يبقى أي شك لمن راجعها وفسرّ بعضها ببعض، وقيّد اطلاق بعضها ببعض آخر أنّ المراد من الجميع شي ء واحد، وهو نفي الضمان إذا لم يكن هناك

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 244

قرائن التهمة، بل لو لم يكن هناك بيّنة ولا وثوق، ولكن قامت أمارات من الخارج على عدم اتهامهم، مثل ما إذا سرق جميع أمواله، أو وقع حريق وذهبت أمواله أجمع، ومن بينها أموال الناس، وحينئذٍ لا يضمن كما وقع التصريح به بعنوان الشي ء الغالب (كالغرق والحرق) في رواية أميرالمؤمنين عليه السلام «1»، ومثله ما ورد في حديث أبي بصير أنّه إن سرق متاعه كلّه فليس عليه شي ء «2».

وقد عرفت أنّ مدار العمل بين العقلاء أيضاً على ذلك، فلا تقبل دعوى التلف من المستعير والأجير، والودعى، وغيرهم، ولو قبل ذلك لم يستقرّ حجر على حجر، نعم، إذا كانوا غير متّهمين أو كان هناك قرائن خارجيّة على عدم الإتهام يقبل قولهم.

والحاصل أنّ المسألة أوضح من أنّ تحتاج إلى بحث كثير، ولعلّ وقوع الخلط بين الأمانة بالمعين في كلماتهم صارت منشأ لكثير من الأقوال المخالفة (والله العالم).

وممّا ذكرنا يعلم أنّه لا يمكن الإعتماد على ما رواه في «المقنع» من عدم الضمان، ولو كان غير ثقة، مع ضعف الحديث بالإرسال «3».

نعم، يظهر من بعض روايات الباب أنّه يستحب

التطوّل عليهم بعدم أخذ المال منهم عند الشكّ في صدق كلامهم إذا لم يكونوا أمناء، «4» ولا بأس بالعمل به.

الثاني: هل يجوز اشتراط ضمان الأمين؟

قد عرفت أنّ الأمين غير ضامن بطبيعة الحال، ولكنّ الكلام في أنّه هل يجوز تضمينه بمقتضى الشرط؟ بأنّ يشترط المؤجر ضمان العين المستأجرة، ولو لم يتعدّ ولم يفرّط، وكذلك بالنسبة إلى العامل في المضاربة، إلى غير ذلك من أشباهه.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 245

لا شكّ في جواز ذلك في بعض مواردها لورود التصريح بالجواز في نصوصها كما في العارية، فانّ النص ناطق بجواز الإشتراط فيها، وأفتى الأصحاب به أيضاً، بل حكى الإجماع عليه (راجع الباب الأول من أحكام العارية من المجلد 13 من الوسائل الرواية الأولى والرابعة والخامسة).

لكن وقع النزاع في موارد أخر، مثل الإجارة، فإنّ جماعة من القدماء والمتأخرين أفتوا بعدم جوار شرط الضمان فيها، ولكنّ الأقوى جوازه.

والعمدة فيها وفيما لم يرد فيه نصّ على الجواز والمنع اطلاقات أدلّة الشروط، نعم، قد يتوهم أنّ هذا الشرط مخالف لمقتضى العقد فإنّ طبيعته عدم الضمان كما عرفت، أو لمقتضى حكم الشرع فإنّه حكم بعدم الضمان: ولكنّه توهمّ فاسد، لأنّ العقد لا يقتضي الضمان عند الإطلاق، وأمّا عند الاشتراط فلم يدلّ دليل على منعه، وبعبارة أخرى: الضمان مخالف لاطلاق العقد، لا العقد مطلقاً ولو مع الشرط.

كما أنّه قد يتوهمّ أنّه غير جائز لأنّه من قبيل شرط النتيجة، ولكن يمكن الجواب عنه بإمكان جعله من قبيل شرط الفعل، مضافاً إلى أنّ الأقوى صحّة شرط النتيجة فيما لا يتوقف على الإنشاء بصيغة خاصَّة كما حرّر في محلّه.

ومن أقوى الأدلّة على صحته، ورود جواز اشتراط الضمان في باب العارية وغيرها، ما يشترك مع ما هو من محل الكلام بحسب الملاك ما

رواه يعقوب بن شعيب قال:

«سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن الرجل يبيع للقوم بالأجر، وعليه ضمان مالهم، قال: إنّما كره ذلك من أجل أنّي أخشى أن يغرموه أكثر ممّا يصيب عليهم، فإذا طابت نفسه فلا بأس» «1».

نعم، هناك موارد خاصّة لا يجوز هذا الشرط فيها، أمّا لمنافاته لمقتضى العقد، أو للنصوص الخاصّة.

أمّا الأول: مثل المضاربة فإنّ إشتراط الضمان فيها يوجب انقلابها قرضاً، كما صرّح

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 246

به الأصحاب، فإنّ رأس المال إذا أعطي لغير المالك ليتّجر به على أن يكون الربح بينهما فهي مضاربة، وإن أعطي على أن يكون جميع الخسارة عليه فهو قرض، فالرّبح له أيضاً بتمامه، وإن أعطي على أن يكون تمام الربح للمالك وهي المسماة باسم البضاعة عندهم.

والعمدة في ذلك مضافاً إلى ما ذكر صحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر أنّ علياً عليه السلام قال: «أنّ من ضمن تاجراً فليس له إلّارأس ماله، وليس له من الربح شي ء» «1».

وما قد يقال من أنّه مخالف للقواعد، لأنّ ما قصده لم يقع، وما وقع لم يقصد، فانّه لم يقصد عنوان القرض، ولكن يجاب عنه بأنّ القرض ليس إلّاإعطاء مال، وتضمين الخسارة، وبعبارة أخرى التمليك مع الضمان، وهو هنا حاصل.

وكذلك الحال في الوديعة، فقد ذكر الشيخ رحمه الله في «الخلاف»: إذا شرط في الوديعة أن تكون مضمونة كان الشرط باطلًا، ولا تكون مضمونة بالشرط، وبه قال جميع الفقهاء إلّاعبيداللَّه بن الحسن العنبري قد انقرض، وروى عمروبن شعيب عن أبيه عن جده أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال: ليس على المستودع ضمان- ولم يفصّل» «2».

ويظهر من ذيل كلامه رحمه الله أنّ إسناده هذا القول إلى الأصحاب لعلّه كان من باب إطلاق

كلامه لعدم الضمان، لا التصريح بفساد الشرط، ومن هنا يشكل دعوى الإجماع في المسألة، ولقائل أن يقول إنّ عدم الضمان في الوديعة هو مقتضى إطلاق العقد، ولا ينافي الضمان بالاشتراط، كيف وقد روى زرارة في الصحيح قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن وديعة الذهب والفضة، قال: فقال كلّ ما كان من وديعة ولم تكن مضمونة لا تلزم» «3».

ومن هنا يعرف الإشكال فيما يمكن أن يقال إنّ حقيقة الوديعة هي إستنابة في الحفظ، ومن المعلوم أنّ عمل النائب هو عمل المنوب عنه، فكما لا يجوز للإنسان أن يضمن نفسه، فلا يجوز تضمين الودعي أيضاً.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 247

ولكنّه توهم فاسد، لأنّ تشبيه الودعي بالمالك ليس من جميع الجهات، بل إنّما هو من بعض الجهات، فلذا لو تعدّى المالك في حفظ مال نفسه لم يكن معنى لضمانه، مع أنّ الودعي إذا تعدّى أو فرّط كان ضامناً بلا إشكال.

ومنه يظهر الحال في الوكالة، فقد يقال ببطلان اشتراط الضمان فيها أيضاً، إمّا لمخالفته لمقتضى العقد، فانّ الوكيل نائب عن المالك، وكما لا معنى لتضمين المالك نفسه، فكذا لا معنى لتضمين وكيله.

وقد عرفت الجواب عنه، وأنَّ كونه بمنزلة المالك إنّما هو من بعض الجهات لا من جميع جهاته، ولذا لو تعدّى أوفرّط كان ضامناً بلا كلام.

فقد تلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ العقود التي مقتضاها الأمانة، تنقسم إلى ثلاثة أقسام من حيث صحّة اشتراط الضمان فيها وعدمه، قسم منها يصحّ الإشتراط فيها وهو أكثر العقود، وقسم لا يصحّ كالمضاربة، وقسم يكون محلّاً للكلام كالوديعة، والوكالة، وإن لم نجد دليلًا قاطعاً على الفساد فيهما أيضاً.

الثالث: ما المراد من التعدّى والتفريط؟

قد عرفت أنّ الأمين ليس بضامن إلّاإذا تعدّى أو فرّط، فحينئذٍ يأتي الكلام في معنى

التعدّي والتفريط، وفسّره في «المسالك» بأنّ التعدّي فعل ما لا يجوز فعله، وأمّا التفريط فأمر عدمي، وهو ترك ما يجب فعله من الحفظ.

وقد مثّل للأول المحقق في «الشرائع» بأمور مثل أن يلبس الثوب الذي عنده بعنوان الوديعة، أو يركب الدابّة أو يخرجها من حرزها لينتفع بها.

ومثل للثاني بما إذا جعلها في ما ليس بحرز، أو ترك سقي الدابّة أو علفها، أو نشر الثوب الذي يفتقر إلى النشر، أو يودعها من غير ضرورة، ولا إذن صاحبه، أو يسافر بها كذلك مع خوف الطريق، بل ومع أمنه، ولكن مع ذلك لم يفسرهما بما يكون جامعاً في هذا الباب، وإنّما اكتفى غالباً بذكر الأمثلة.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 248

هذا، والضمان معهما قطعيّ مجمع عليه، ولكن من الجدير بالذكر أنّهما بهذين العنوانين لم يردا في نصوص هذه الأبواب، وإنّما ورد فيها عناوين أخر من الإستهلاك والضياع، أو خالف الشرط وضاع، أو دفعه إلى غيره، وما ورد في صحيحة أبي ولّاد المعروفة من عنوان المخالفة، وعنوان التجاوز عن الشرط الوارد في غير واحد من روايات أبواب الإجارة، أو التجاوز عن الموضع الذي تكارى إليه، إلى غير ذلك ممّا يمكن استفادة العنوانين واصطيادهما منها.

أضف إلى ذلك ما قد عرفت من أنّ هذه القاعدة من القواعد العقلائيّة قبل أن تكون شرعيّة، ومن الواضح أنّها مخصصة عند العقلاء بالتعدّي والتفرّيط، وقد أمضاها الشرع بما عندهم، غير أنّه زاد عليه أشياء أو نقص، وليس هذا منها.

ومن هنا تعرف أنّه لا يهمّنا البحث عن هذين العنوانين بخصوصها، ومقدار شمول لفظهما وأنّ الأول يختصّ بالأمور الوجودية، وفعل ما لا ينبغي فعله، والثاني بالأمور العدميّة، وهي ترك ما ينبغي فعله وإيجاده.

نعم، كلّها توجب خروج الأمين عن الأمانة وتجعله

غاصباً غير مأذون في التصرّف، فهو موجب للضمان بمقتضى قاعدة إحترام مال المسلم، فكلّ تصرّف خارج عن إجازة المالك فهو داخل في عنوان التعدّي، وموجب للضمان ودليله صيرورة الأمين خائناً والمأذون غاصباً.

وكذلك كلّما يجب على الأمين فعله من الحفظ من جهة الحرز، والنشر، والسقي، والعلف وغير ذلك إذا قصّر فيها، فإنّه وإن لم يصدق عليه عنوان الغاصب، ولكنّه مستثنى عن حكم عدم الضمان قطعاً فهو ضامن.

وبعبارة أخرى أنّ التعدّي: يوجب خروجه عن الإذن، وصيرورته غاصباً، ولكنّ التفريط لا يوجب خروجه عن ذلك العنوان، ولكن يوجب خروجه عن حكم البراءة، فإنّ عدم الضمان مشروط بشرط وهو قيامه بوظائف الحفظ، فإذا لم يقم بها كان ضامناً، لا لصدق الغاصب عليه، أو الخيانة، بل لعدم وجود شرط البراءة فيه فتدبّر جيّداً.

الرابع: في حكم ما لو لم تتلف العين ولكن تعيّبت

إذا لم يهلك المتاع ولكن نقص منه شي ء أو وصف، أو تعيّب بعيب، فالظاهر أنّ حكمه حكم التلف في عدم الضمان إذا لم يكن خائناً، وفي ضمانه إذا كان كذلك أو لم يقم بوظائف الأمانة.

ويدلّ عليه قياس الأولوية في بعض شقوق المسألة، أعني عدم الضمان إذا كان أميناً، فإنّ التلف إذا لم يكن مضموناً لم يكن النقص والعيب مضمونين بطريق أولى.

أضف إلى ذلك جريان السيرة العقلائيّة عليه، وعدم ردع الشارع عنه، مضافاً إلى كون الحكم إجماعياً على الظاهر.

وأوضح من جميع ذلك ورود التصريح به في بعض روايات الضمان كصحيحة أبي ولّاد «1» المصرّحة بأنّه لو أصاب البغل كسر، أو دبر، أو غمز، فعلى المستأجر قيمة ما بين الصحّة والعيب.

وما دلّ على ضمان القصّار، والصبّاغ، والصائغ، فإنّه مطلق يشمل التلف والعيب كليهما «2».

وما ورد في ضمان الملّاح نقص الطعام إذا لم يكن مأموناً «3».

بناءاً على أنّ النقص مفهوم

عام فتأمّل.

وكذلك ما دلّ على أنّ من استعار عبداً مملوكاً لقوم فعيب فهو ضامن «4».

إلى غير ذلك من أشباهه.

إلى هنا تمّ الكلام في قاعدة عدم ضمان الأمين وما يتفرّع عليها من الفروع الكلّية.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 251

22 قاعدة الغرور

اشارة

من القواظعد الفقهيّة المعروفة قاعدة الغرور، التي إستند إليها الفقهاء في مختلف أبواب الفقه، والمستفاد من أدلّتها كما سيأتي إن شاء اللَّه، أنّها وردت في الموارد التي اغترّ فيها إنسان بقول أو فعل من قبل إنسان آخر، فخسر وتضرر به، فحينئذٍ يرجع إلى من غرّه، ويأخذ خسارته أو ما ضمنه لغيره منه.

وقد اشتهر بينهم في عنوان هذه القاعدة «أنّ المغرور يرجع إلى من غرّه» ولكنّ هذه العبارة، كما ذكره غير واحد، لم ترد في آية ولا نصّ حديث، وإن كان يظهر من بعض كلمات الفقيه الماهر صاحب (الجواهر) رحمه الله في باب الغصب أنّها قول المعصوم، حيث قال في بحث: «من أطعم طعاماً مغصوباً لغيره مع عدم علمه»: «إنّ الأصّح أنّ المباشر ضامن، ولكن يرجع إلى الغاصب، وينجبر غروره برجوعه على الغارّ، بل لعل قوله عليه السلام [المغرور يرجع إلى من غرّه ظاهر في ذلك» «1».

لكن صرّح بعضهم في هامش «الجواهر» بأنّا لم نعثر على هذا النصّ من أحد المعصومين عليهم السلام وإن حكى عن المحقق الثاني (رحمه الله) في حاشية الإرشاد أنّه نسب ذلك إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله والظاهر أنّه قاعدة فقهيّة مستفادة من عدّة روايات ورد بعضها في التدليس «2».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 254

وعلى كلّ حال لابدّ من الكلام: أولًا في مصدر القاعدة، ثم فيما يتفرّع عليها من الأحكام، فنقول ومنه جلّ شأنه التوفيق والهداية:

1 مصدر القاعدة من السنّة

العمدة فيها الروايات الخاصّة الواردة في مختلف الأبواب أولًا: وبناء العقلاء الممضى من ناحية الشرع، ثانياً: وقد عرفت أنّ هذه العبارة «المغرور يرجع إلى من غرّه» (أو على من غرّه) لم ترد في شي ء من منابع الحديث، سواء العامّة والخاصّة، كما صرّح به

كثير، منهم وإن كان فيما عرفت من عبارة «الجواهر» إسناده إلى المعصوم، وكذلك ما مرّت الإشارة إليه من كلام المحقق الثاني في حاشية الإرشاد.

ولكنّ الظاهر أنّ هذا المقدار لا يكفي في عدّه حديثاً مرسلًا، حتى يقال بانجباره بعمل الأصحاب.

وكيف يحتمل عثور صاحب (الجواهر) أو المحقق الثاني على حديث لم نعثر نحن ولا غيرنا عليه مع قرب العهد، نعم، لو كان ذلك في كلام بعض الأقدمين من أصحاب الفقه والحديث أمكن هذا الإحتمال في حقّهم.

وعلى هذا لا يهمّنا البحث عن مفاد هذه العبارة بعد عدم ثبوت كونه حديثا مسنداً، بل ولا مرسلا، فاللازم الرجوع إلى الروايات الخاصّة، فنقول ومن اللَّه سبحانه نستمد التوفيق والهداية: هناك روايات كثيرة دالّة على هذا المعنى من خلال ثبوته في أبواب مختلفة:

منها: ما ورد في «كتاب النكاح» في «أبواب العيوب والتدليس» وهي عدّة روايات:

1- ما رواه أبوعبيدة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «في رجل تزوج أمرأة من وليّها، فوجد بها عيباً بعد ما دخل بها، قال، فقال: إذا دلّست العفلاء، والبرصاء، والمجنونة، والمفضاة، ومن كان بها زمانة ظاهرة، فإنّها تردّ على أهلها من غير طلاق، ويأخذ الزوج المهر من وليّها الذي كان دلّسها» «1».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 255

وقوله «الذى كان دلّسها» وصف مشعر بالعلّية، ولعلّه يستفاد منه العموم.

2- ما رواه «رفاعة بن موسى» قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن البرصاء، فقال: قضى أميرالمؤمنين عليه السلام في أمرأة زوّجها وليها وهي برصاء، أنّ لها المهر بما استحل من فرجها، وأنّ المهر على الذي زوّجها وإنّما صار عليه المهر لأنّه دلّسها» «1».

ودلالة هذا الحديث أظهر من دلالة سابقه، لأنّ قوله: «لأنّه دلّسها» من قبيل منصوص العلّة، فيتعدى منه إلى غيره، ولكنّ

سنده لا يخلو من ضعف، لوجود سهل بن زياد فيه، ولكن رواه ابن إدريس في آخر «السرائر» من كتاب نوادر البزنطى عن الحلبي وهذا طريق يمكن الاعتماد عليه.

3- وما رواه في دعائم الإسلام عن علي عليه السلام أنّه قال: «تردّ المرأة من القرن، والجذام، والجنون، والبرص، وإن كان دخل بها فعليه المهر، وإن شاء أمسك وإن شاء فارق، ويرجع بالمهر على من غرّه بها، وإن كانت هي التي غرّته رجع به عليها، وترك لها أدنى شي ء ممّا يستحلّ به الفرج» «2».

وقوله «يرجع بالمهر على من غرّه» أيضاً من قبيل التعليق على الوصف الذى يشعر أو يدلّ في أمثال هذه المقامات بالعلّية والعموم.

4- ما رواه الحلبي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام في حديث قال: «إنّما يردّ النكاح من البرص، والجذام، والجنون، والعفل، قلت: أرأيت إن كان قد دخل بها كيف يصنع بمهرها؟ قال: المهر لها بما استحل من فرجها ويغرم وليّها الذي أنكحها مثل ما ساق إليها» «3».

5- وفي معناه ما رواه محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام قال: في كتاب علي عليه السلام:

«من زوّج أمرأة فيها عيب دلّسه ولم يبيّن ذلك زوّجها فإنّه يكون لها الصداق بما استحل من فرجها ويكون الذي ساق الرجل إليها على الذي زوّجها ولم يبيّن» «4».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 256

وقوله: «يكون الذي ساق الرجل إليها على الذي زوّجها ولم يبيّن» أيضاً من قبيل التعليق على الوصف، فانّ عدم التبيين من مصاديق الغرور، فيستفاد منه إجمالًا أنّ المغرور يرجع إلى من غرّه.

إلى غير ذلك ممّا ورد في هذا المعنى في أبواب التدليس.

6- وممّا ورد في هذا المعنى من طرق الجمهور ما رووه عن علي عليه السلام: «في أخوين تزوّجا

اختين فأهديت كلّ واحدة منهما إلى أخي زوّجها فأصابها، فقضى علي عليه السلام على كلّ واحد منهما بصداق، وجعله يرجع به على الذي غرّه» «1».

والتعليق على الوصف هنا أوضح.

7- وما رواه الشافعي في القديم عن علي عليه السلام أيضاً: «في المغرور يرجع بالمهر على من غرّه» «2».

ودلالته كسابقه.

وقد يستدلّ هنا بما رواه إسماعيل بن جابر في هذا الباب قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن رجل نظر إلى أمرأة، فاعجبته، فسأل عنها، فقيل: هي ابنة فلان فأتى أباها، فقال: زوّجني ابنتك، فزوّجه غيرها، فولدت منه، فعلم بها بعد أنّها غير ابنته، وأنّها أمة، قال: تردّ الوليدة على مواليها، والولد للرجل، وعلى الذي زوّجه قيمة ثمن الولد يؤتيه موالي الوليدة كما غرّ الرجل وخدعة» «3».

وقوله «كما غرّ الرجل وخدعه» وإن كان في مقام التعليل ولكن الإشكال أنّه ليس في هذه الرواية من ضمان المغرور عين ولا أثر، بل ظاهرها رجوع الموالي إلى الغارِّ بلا واسطة، وهو غير ما نحن بصدده، وغيرما هو المعروف من فقهنا، فلابدّ من توجيهه، وعلى كلّ حال لا يمكن الاستدلال بها في المقام.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 257

ومنها: ما ورد في أبواب نكاح الأمة مثل ما يلي:

8- ما رواه جميل بن دراج، عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «في الرجل يشتري الجارية من السوق فيولدها، ثم يجي ء مستحقّ الجارية، قال: يأخذ الجارية المستحق، ويدفع إليه المبتاع قيمة الولد، ويرجع على من باعه بثمن الجارية، وقيمة الولد التي أخذت منه» «1».

وهي وإن لم تشتمل على تعليل أو وصف مشعر بالعلّية، لكنّها من مصاديق القاعدة.

9- ما رواه وليد بن صبيح عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «في رجل تزوج أمرأة حرّة، فوجدها أمة قد دلّست نفسها له،

قال: إن كان الذي زوّجها إيّاه من غير مواليها فالنكاح فاسد، قلت: فكيف يصنع بالمهر الذي أخذت منه، قال: إن وجد ممّا أعطاها شيئاً فليأخذه وإن لم يجد شيئاً فلا شي ء له، وإن كان زوّجها أيّاه وليّ لها ارتجع إلى وليّها بما أخذت منه» «2».

ومنها: ما ورد في أبواب الشهادات في «شهادة الزور» مثل ما يلي:

10- ما رواه محمد بن مسلم عن أبي عبداللَّه عليه السلام في شاهد الزور، ما توبته؟ قال:

«يؤدّي من المال الذي شهد عليه بقدر ما ذهب من ماله، إن كان النصف أو الثلث، إن كان شهد هذا وآخر معة»»

.11- وما رواه الجميل، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام في شاهد الزور، قال: «إن كان الشي ء قائماً بعينه ردّ على صاحبه، وإن لم يكن قائماً ضمن بقدر ما أتلف من مال الرجل» «4».

12- وما رواه أيضاً جميل، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام في شهادة الزور: «إن كان قائماً وإلّإ؛ ضمن بقدر ما أتلف من مال الرجل» «5».

13- وما رواه ابن محبوب، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام في أربعة شهدوا على رجل محصن بالزنا، ثم رجع أحدهم بعد ما قتل الرجل، قال: «إن قال الرابع (الراجع) أو همت، ضرب الحدّ، وأغرم الدية، وإن قال: تعمّدت قُتل» «6».

إلى غير ذلك ممّا ورد في أبواب شاهد الزور في مورد الزنا والسرقة.

ولكن يرد على الجميع أنّه غير داخل في موضوع الغرور، بل هي كلّها من قبيل الإتلاف، فانّ القاضي أو من أجرى حكمه وإن كان مباشراً للقطع أو القتل أو أخذ المال، ولكن من الواضح أنّ السبب وهو شاهد الزور هنا أقوى، فإسناد الفعل يكون إليه، فيدخل في باب الإتلاف، حتى

فيما إذا كان الشاهد مشتبهاً في أمره، غير عالم بكذبه فيما يقول، فإنّه أيضاً هو السبب في تلف الأموال والنفوس، وهذا العنوان صادق عليه.

نعم، لو كان القاضي أو من أجرى حكمه ضامناً أولًا، ثمّ يرجع إلى شاهد الزور، كانت المسألة من مصاديق قاعدة الغرور، ولكنّ الظاهر أنّه لم يقل أحد بضمانهما، وظاهر روايات الباب أيضاً الرجوع بلا واسطة إلى شاهد الزور، وحينئذٍ تخرج جميع هذه الروايات عن محلّ الكلام وتدخل في قاعدة السبب، والمباشر، ومسائل الإتلاف.

ومنها: ما ورد في باب شاهد الزور أيضاً بالنسبة إلى «الطلاق والنكاح» مثل ما يلي:

14- ما رواه أبو بصير، عن أبي عبداللَّه عليه السلام في أمرأة شهد عندها شاهدان بأنّ زوجها مات، فتزوجت، ثمّ جاء زوجها الأول، قال: «لها المهر بما استحل من فرجها الأخير، ويضرب الشاهدان الحدّ، ويضمنان المهر بما غرّا لها الرجل ثم تعتدّ، وترجع إلى زوجها الأول» «7».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 259

15- وما رواه إبراهيم بن عبدالحميد في شاهدين شهدا على أمرأة بأنّ زوجها طلّقها، فتزوّجت، ثم جاء زوجها فأنكر الطلاق، قال: يضربان الحدّ، ويضمنان الصداق للزوّج، ثم تعتدّ، ثم ترجع إلى زوجها الأول» «1».

والإستدلال بهما وما في معناهما متوقف على وجوب المهر للمرأة على الرجل ثم يرجع الرجل، فيأخذه عن شاهدي الزور بما غرّاه على ما هو ظاهر الحديث الثاني، بل الأول أيضاً.

وما ورد في رواية أبي بصير من ضرب الحدّ للشاهدين فهو محمول على التعزير لعدم وجوب الحدّ على شاهد الزور، وإطلاق الحدّ على التعزير غير نادر.

2 الإستدلال لها ببناء العقلاء
اشارة

هذه القاعدة أيضاً ممّا جرت عليه سيرة العقلاء في جميع الأعصار والأمصار، فهم يرون الغارّ ضامناً للخسارة الواردة على المغرور في أمواله وغيرها، فمن وهب ملك غيره لشخص

ثالث وهو جاهل بالحال، أو أهدى إليه هدية من مال غيره، أو أضافه بضيافة وأنفق عليه من أموال غيره، أو دلّس عليه تدليساً ذهب ماله بسببه، أو غير ذلك، فالمباشر وإن كان ضامناً إلّاأنّه لا يشكّ أحد في رجوعه إلى الغارّ.

وحيث إنّ الشارع لم يمنع عن هذه السيرة العقلائيّة، فهو دليل على رضاه بذلك وإمضاؤه له، بل الروايات الخاصّة التي مرّت عليك يمكن أن تكون إمضاءاً لهذه السيرة العقلائيّة.

ولكن في بعض الموارد لعلهم لا يرون المباشر ضامناً، بل يراجعون السبب، ويرونه ضامناً بالأصالة ومن دون أي واسطة، ولكنّ الظاهر أنّه ليس كقاعدة عامّة في جميع أبواب الغرور.

ويدلّ على هذه القاعدة مضافاً إلى ما ذكر من إجماع العلماء عليها، وإرسالها إرسال

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 260

المسلّمات، وإستنادهم إليها في مختلف الأبواب كما سيأتي الإشارة إلى بعضها.

ولكنّ الانصاف أنّ الإجماع في هذه المقامات- كما مرّ مراراً- لا يعدّ دليلًا مستقلًا، لإمكان استناد المجمعين إلى ما عرفت، من الروايات الخاصّة التي يستفاد منها العموم، بل النصّ على العلّة في بعضها، ولجريان بناء العقلاء وسيرتهم على ذلك.

قال العلّامة رحمه الله في «القواعد»: «ومهما أتلف الأخذ من الغاصب، فقرار الضمان عليه إلّا مع الغرور، كما لو أضافه به».

وقال في «مفتاح الكرامة» في شرح هذه العبارة: «فالضمان على الغاصب بلا خلاف منّا فيما أجد، فيما إذا قال: كُلْه فهذا ملكي وطعامي، أو قدّمه إليه ضيافة حتى أكله، ولم يقل إنّه مالي وطعامي، أو لم يذكر شيئاً، وفي «التذكرة» أنّه الذي يقتضيه مذهبنا.

ثم قال: قلت: لمكان الإعتماد على اليد الدالّة على الملك، والأمارة الدالة على الإباحة ...

وظاهر جماعة وصريح آخرين أنّ المالك يتخيّر في تضمين كلّ واحد من الآكل والغاصب، ويستقرّ الضمان

على الغاصب، ونقل في «الشرايع» قولًا بأنّه يضمن الغاصب من أول الأمر من غير أن يشاركه الآكل، لضعف المباشرة بالغرور فاختصّ السبب لقوته ...

ثم قال: لم نجد القول الثاني لأحد من أصحابنا بعد التتبع، وإنّما هو قول الشافعي في القديم وبعض كتب الجديد، قال: إنّه ليس للمالك الرجوع على الآكل لأنّه غرّه حيث قدّم إليه الطعام وأوهمه أن لا تبعة فيه عليه، والمشهور عند الشافعي الأول» «1».

وظاهر هذه العبارة اتفاق الكلّ على كون الغاصب والآكل كليهما ضامنين، ولكن يستقرّ الضمان على الغاصب لغروره صاحبه، وأنّ القول بالرجوع إلى الغاصب فقط دون المغرور ليس قولًا لأصحابنا، بل المشهور بين أهل الخلاف أيضاً لعله القول بالرجوع إلى أي واحد منهما شاء.

وسيأتي الكلام إن شاءاللَّه في تنبيهات المسألة.

الأمر الأول: في معنى الغرور

قد عرفت أنّ ما هو المعروف بين الفقهاء وأهل العلم «أنّ المغرور يرجع إلى من غرّه» وإن لم يرد في متن حديث، ولكن قد عرفت أنّ عنوان الغرور ورد بشكل آخر في بعض أحاديث الخاصّة والعامّة، فقد روى الجمهور عن علي عليه السلام: «أنّ المغرور يرجع بالمهر على من غرّه» «1» الذي يختصّ بباب الغرور في المهر فقط، كما ورد عنوان «التدليس في رواية أبي عبيدة عن أبي جعفر عليه السلام في أبواب العيوب والتدليس «2»، وما رواه رفاعة بن موسى، عن أبي عبداللَّه عليه السلام في هذا المعنى «3» وما رواه في «دعائم الإسلام» عن علي عليه السلام في المغرور في أبواب المهور وأنّه يرجع على من غرّه «4» فاللازم كشف معنى «الغرور» و «التدليس» أولًا، ثمّ الأخذ بما في غير هذه الأحاديث من العناوين الأخر.

فنقول ومن اللَّه التوفيق والهداية: أمّا «الغرور» فقد قال الراغب في «المفردات»:

يقال: غررت فلاناً،

أصبت غرّته ونلت منه ما أريد، والغرّة غفلة في اليقظة، وأصل ذلك من الغرّ، وهو الأصل الظاهر من الشي ء، ومنه غرّة الفرس، والغَرور (بفتح الغين) كلّ ما يغرّ الإنسان من مال وجاه وشهوة وشيطان، والغرر الخطر.

وقال في «الصحاح»: «الغُرّة» (بالضم) بياض في جبهة الفرس فوق الدرهم، والغِرّة (بالكسر) الغفلة والغُرور (بالضم) ما اغترّ به من متاع الدنيا وغرّه يغرّه غروراً خدعه.

وقال ابن الاثير في «النهاية»: الغرّة الغفلة، وفي الحديث أنّه نهى عن بيع الغرر، ما كان له ظاهر يغرّ المشتري وباطن مجهول.

وقال الطريحي في «مجمع البحرين»: قوله تعالى: «ما غرّك بربّك الكَريم»، أي: أي شي ء غرّك بخالقك، وخدعك، وسوّل لك الباطل حتى عصيته وخالفته ... والغَرور بالفتح

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 262

الشيطان، سمي الشيطان غروراً لأنّه يحمل الإنسان على محابه، ووراء ذلك ما يسؤوه.

ثم نقل عن ابن السكيت معنى الغرور أيضاً وهو ما رأيت له ظاهراً تحبّه، وفيه باطن مكروه ومجهول.

ويظهر من جميع ذلك، ومن غيرها من كلماتهم، ومن موارد استعمال هذه اللفظة أنّها بمعنى الخدعة بما له ظاهر يخالف باطنه، فالمغرور هو المخدوع، والذي حمله على شي ء له ظاهر وليس باطنه كذلك هو الغارّ.

وأمّا «التدليس» فهو كما قال في «الصحاح»: التدليس في البيع كتمان عيب السلعة على المشتري.

وقال في «مجمع البحرين»: كذلك (التدليس كتمان عيب السلعة على المشتري)، والدلسة (على وزن اللقمة): الخديعة.

وقال ابن منظور في «لسان العرب» الدلس بالتحريك: الظلمة، وفلان لا يدالس ولا يوالس، أي: لا يخادع ولا يغدر، والمدالسة: المخادعة، وفلان لا يدالسك ولا يخادعك، ولا يخفي عليك الشي ء، فكأنه يأتيك به في الظلام، ثم ذكر أنّ التدليس في البيع كتمان عيب السلعة عن المشتري.

ويظهر من جميع ذلك وموارد استعمال هذه

الكلمة أنّها والخدعة والغرور قريبة المعنى، وإذا عرفت ذلك فهل يعتبر في عنوان الغرور علم الغارّ وجهل المغرور أو يكفي جهل المغرور وإن كان الغارّ أيضاً جاهلًا ولكن تضرر بقوله، الظاهر الأول، ولا أقلّ من الشكّ في شمول الثاني.

قال في «العناوين»: «كلّ غرامة وردت على الجاهل بالواقع منشؤوها شخص آخر، بحيث كان تدليسه سبباً لذلك، فهو ضامن لها، وان لم يكن الغارّ أثبت يده على ذلك المال ونحوه، ولم يصدق عليه عنوان كونه متلفاً، ومن هنا علم أنّ المغرور يعتبر فيه الجهل بالواقع حتى يكون مغروراً، وأمّا الغارّ لو كان عالماً بالواقع، وقصد التدليس والتغرير، وحصل غرور المغرور بواسطته، بحيث كان ذلك علّة في اعتقاده وإقدامه، فلا

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 263

بحث في كونه غارّاً، وأمّا لو كان عالماً عامداً، ولكن لم يؤثر ذلك في علم المغرور اعتقاده بأن كان معتقداً ذلك المعنى سواء غرّه ذلك أم لا، كمن دفع مال غيره إلى ثالث بعنوان أنّه مال الدافع وكان الأخذ معتقداً ذلك من خارج، بحيث لم يؤثّر فيه تدليس الغارّ ففي كون ذلك غارّاً وجهان» (انتهى محل الحاجة) «1».

وظاهره المفروغية عن اعتبار علم الغارّ.

ثم إعلم أنّ هنا صور لابدّ من بيان أحكامها:

1- أن يكون الغارّ عالماً والمغرور جاهلًا، وكان فعل الغارّ تسبيباً لفعل المغرور، ومثاله من قدّم طعاماً إلى غيره فأكله، وكان المقدِّم عالماً بكونه غصباً والمقدَّم إليه جاهلًا.

2- ما إذا كان الغارّ عالماً والمغرور جاهلًا، ولم يكن هناك عنوان التسبيب، كمن أقدم على ترغيب رجل بنكاح أمرأة وعرّفها له، حتى أقدم هو بنفسه على نكاحها، ولم تكن المرأة كما ذكره بأن كانت معيوبة أو مجنونة، أو عرّفه أمرأة وانكحه غيرها، ففي جميع ذلك يتضرر الزوج

بمهر المرأة، ولكن لا يصدق على الغار عنوان السبب، بما له من المعنى المعروف في أبواب الضمانات والديات، بل هو داخل تحت عنوان الغرور والتدليس فقط.

3- ما إذا كان الغارّ عالماً والمغرور جاهلًا، ولكن لم يكن لفعل الغارّ أثر، والمغرور كان يعلم بذلك من قبل، كمن اعتقد أنّ المال الفلاني لزيد ولم يكن الأمر كما اعتقده، ثم قدّمه زيد له، فتقديم زيد ليس سبباً لغروره، بل كان مغروراً ومخدوعاً من قبل، فهل يجرى أحكام الغرر هنا.

4- ما إذا كان الغارّ والمغرور كلاهما جاهلين.

أمّا إذا كان كلاهما عالمين، أو الأول جاهلًا والثاني عالماً فلا دخل لهما بالمسألة، بل هما خارجان عن عنوان الغرور وإن ذكرهما بعض عند ذكر الأقسام هنا، عرفت هذا فاعلم:

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 264

أمّا الصورة الاولى فلا شكّ في دخولها في القاعدة، بل وفي قاعدة التسبيب، فالغارّ فيها ضامن لما تضرر المغرور به، لصدق عنوان الغرور عليه أولًا، وإسناد الإتلاف إليه ثانياً.

ولكن هل المالك يرجع إلى الغارّ بلا واسطة، أو يرجع إلى المغرور ثم المغرور يرجع إلى من غرّه؟ فلو قلنا بالأول فالمسألة في الواقع خارجة عن باب الغرور، لعدم وجود الضمان بالنسبة إلى غير الغار، وسيأتي الكلام فيها إن شاء اللَّه.

وأمّا الصورة الثانية فهي القدر المتيقن من قاعدة الغرور، بل هي المصداق المصرّح به في روايات الباب لا سيّما التدليس في النكاح، فكلّما كان الغارّ سبباً لتضرر المغرور، وكان الأول عالماً والثاني جاهلًا، فللمغرور أن يرجع إلى من غرّه ويأخذ ما تضرّر به منه.

وأمّا الصورة الثالثة ففيها وجهان: من جهة أنّ فعله لم يكن سبباً لغروره، بل كان مغروراً من قبل، ومن أنّه من قبيل توارد العلتين المستقلتين على معلول واحد يمكن

استناد المعلول إلى كلّ منهما، والثاني لو لم يكن أقوى، لا أقلّ من أنّه أحوط.

وأمّا الصورة الرابعة فالظاهر عدم صدق عنوان الغرور بما عرفت له من المعنى اللغوي والعرفي. وبما يظهر من موارد استعماله فيه، ولكن لا يبعد شموله له ملاكاً وإن لم يشمله عنواناً.

هذا كلّه إذا لم يكن مصداقاً للتسبيب، كمن قدّم طعاماً جاهلًا بغصبيته إلى غيره فأكله لصدق عنوان الإتلاف عليه هنا وإن لم يصدق عليه عنوان الغرور.

الأمر الثاني: معنى التسبيب

قد صرّح بعض الأصحاب في بحث موجبات الضمان على نحو التسبيب بأنّ الضابط في السبب ما لولاه لما حصل التلف، لكن علة التلف غيره، وقد ذكر هذا المعنى المحقق في «الشرايع» في كتاب الديات، ولكنّه قال في كتاب الغصب:

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 265

التسبيب هو كلّ فعل يحصل التلف بسببه.

وهذان التعريفان وان لم يخلو من بعض الإشكالات- ولسنا هنا بصددها- ولكن يستفاد منهما أنّ التسبيب من أسباب الضمان.

بل قد صرّحوا تلو ذلك بأنّه إذا اجتمع السبب والمباشر قدّم المباشر إلّاأن يكون السبب أقوى.

فالأول كمن حفر بئراً في ملك غيره عدواناً فدفع غيره فيها إنساناً، فضمان ما يجنيه على الدافع وللثاني إذا أكره إنسان غيره على إتلاف مال، فالمكرَه (بالفتح) لا يضمن وإن باشر الإتلاف، والضمان على من أكرهه لأنّ المباشر ضعيف مع الإكراه، فكان ذوا السبب هنا أقوى.

ولو ناقشنا في مثال الإكراه ولكن لا مناقشة في أصل المسألة، وهو ما إذا كان السبب أقوى من المباشر، فإنّ ظاهرهم ضمان السبب دون ضمان المباشر، لا أنّ المباشر ضامن ولكنّه يرجع إلى السبب.

وحينئذٍ يأتي الكلام في المسألة المعروفة في باب الغصب في غاصب قدّم طعاماً مغصوباً إلى غيره فأكله جاهلًا، فإنّ المشهور بينهم أنّ المالك يغرم أيّهما شاء،

لكن إن اغرم الغاصب لم يرجع على الآكل الذي هو مغرور له، وإن أغرم الآكل رجع الآكل على الغاصب لغروره الذي صارت به مباشرته ضعيفة بالنسبة للسبب، فيكون قرار الضمان عليه.

هكذا ذكره صاحب «الجواهر» في شرح قول المحقق في كتاب الغصب «1».

ثم أضاف: «وقيل- وإن كنّا لم نتحقق قائله منّا- بل يضمن الغاصب من رأس، ولا ضمان على الآكل أصلًا لأنّ فعل المباشر ضعيف عن التضمين بمظانة الإغترار، فكان السبب أقوى».

ثم ردّ عليه في ذيل كلامه بقوله عليه السلام: «إنّ ضعف المباشر لا يبلغ حداً ينتفي به

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 266

الرجوع عليه مع كونه متصرّفاً في مال الغير ومتلفاً له على وجه يندرج في قاعدة من أتلف مال غيره فهو له ضامن، ولكن ينجبر غروره برجوعه على الغارّ، بل لعل قوله عليه السلام:

«المغرور يرجع على من غره» ظاهر في ذلك «1».

ولازم هذا الكلام أنّ ضمان المباشر هنا لكونه متلفاً، والغاصب لكونه غارّاً، فاذا انتفى كونه غارّاً بأن يكون جاهلين فلابدّ من كون المباشر ضامناً فقط، مع أنّ الذوق الفقهي لا يقتضي ضمانه دون السبب.

وبعبارة أخرى ملاك الضمان إمّا التسبيب وإمّا الغرور، فلو كان الملاك التسبيب صحّ في صورة العلم والجهل، ولكنّ لازمه عدم الرجوع إلى المباشر مطلقاً، لأنّ الفعل مستند إلى السبب، وإن كان الملاك هو الغرور فلا يشمل صورة جهل الدافع.

وعلى كلّ حال لا يبعد كون السبب هنا أقوى، وكون الضمان متوجهاً إليه فقط دون المباشر، فحينئذ تختصّ قاعدة الغرور بماإذا لم يكن تسبيب، كما في مسألة المهر التي مرّت عليك سابقاً، فتأمّل جيداً، فإنّا لم نجد لهم كلاماً صريحاً منقحاً في هذا الباب، وما يوضّح حال السبب والغرور والنسبة بينهما في المقام،

والمسألة بعد محتاجة إلى مزيد تأملّ، وإن كان ما ذكرنا من توجه الضمان إلى السبب هنا فقط هو الأرجح في النظر.

الأمر الثالث: في عمومية القاعدة

الظاهر أنّ هذه القاعدة بما عرفت لها من الأدلّة لا تنحصر مواردها بباب من أبواب الفقه دون باب، بل تجري في مختلف الأبواب: في أبواب المتاجر لاسيّما البيع الفضولي، وكذا أبواب الهبات والعارية ونحوها، وأبواب النكاح والمهور وغيرها، ولذا استدل بها الأصحاب في كثير من هذه الأبواب من دون حصرها بها.

وإليك شطراً ممّا استندوا إليه من هذه الأبواب على هذه القاعدة ممّا يدلّ على عدم اختصاصها بمورد خاص:

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 267

1- استدلّ بها كثير منهم في «أبواب الغصب»، بل هي العمدة في هذه القاعدة بعد أبواب المهور: فقد قال في «القواعد»:

«ومهما أتلف الأخذ من الغاصب فقرار الضمان عليه إلّامع الغرور، كما لو أضافه به، ولو كان الغرور للمالك فالضمان على الغارّ، وكذا لو أودعه المالك أو آجره إيّاه، ولو وهبه الغاصب من آخر فرجع المالك عليه احتمل رجوعه على الغاصب لغروره وعدمه لأنّ الهبة لا تستعقب الضمان».

وذكر في «مفتاح الكرامة» في شرح ما استدل به في ذيل كلامه «على عدم الضمان» بما نصّه: «أي لأنّ الهبة لا تقتضي ضمان الواهب العين للمتهب، لأنّه أخذها على أنّها إذا تلفت يكون تلفها منه وهو أصحّ القولين عند الشافعية» «1».

ثم أجاب عنه بقوله: «وفيه أنّه وإن كان أخذها على أنّ تلفها منه، لكنّه لم يأخذها على أنّها عليه، فكان الغرور باقياً فيعمل بمقتضاه» «2».

وفيه أيضاً- مضافاً إلى ما ذكره- أنّ عدم إقتضاء ضمان الواهب العين إنّما هو فيما إذا كانت الهبة صحيحة والمفروض أنّها باطلة، وليت شعري، ما الفرق بين تقديم الغاصب طعاماً إلى غيره فأكله،

أو هبته له طعاماً فذهب إلى بيته فأكله؟ والإنصاف أنّه لا يرى أدنى تفاوت بين الصورتين ومن قال بالفرق فعليه الدليل، وأدلّة الغرور عامّة، والعجب ممن فرّق بينهما.

وذكر الشهيد الثاني رحمه الله في «المسالك» هذا المعنى في كتاب الغصب بصورة واضحة قال: «أمّا على تقدير الإتلاف (اتلاف المغصوب) فالقرار على المتلف مطلقاً، لأنّ الإتلاف اقوى من إثبات اليد العادية عليه، إلّاإذا كان مغروراً، كما إذا قدّمه ضيافة فأكله فإنّ ضمانه على الغاصب، لأنّه غرّه حيث قدّم الطعام إليه، وأوهمه لا تبعة فيه» «3».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 268

وقال المحقق الثاني رحمه الله في «جامع المقاصد» مثل هذا المعنى، وأضاف إليه الهبة حيث قال: «ومهما أتلف الأخذ من الغاصب فقرار الضمان عليه إلّامع الغرور كما لو أضافه به، ولو كان الغرور للمالك (يعنى قدّم طعاماً مغصوباً إلى مالكه فأكله لا بعنوان أنّه ملكه) فالضمان على الغارّ، وكذا لو أودعه المالك أو آجره إيّاه، ولو وهبه الغاصب من آخر فرجع المالك عليه، احتمل رجوعه على الغاصب لغروره وعدمه» «1».

لكن يرد على ما ذكره أخيراً من احتمال عدم الرجوع الإيرادان المتقدمان.

2- استدلا لهم بها في «أبواب الضمان»:

قال في «الجواهر» في شرح قول المحقق رحمه الله «الثاني (من أسباب الضمان):

التسبيب، وهو كلّ فعل يحصل التلف بسببه، كحفر البئر في غير الملك، وطرح المعاثر في المسالك»، بلا خلاف أجده في أصل الضمان به، ثم استدلّ على ما ذكره بنصوص كثيرة، ثم قال: ومنها ما دلّ على رجوع المغرور» «2».

3- واستدل بها أيضاً في «أبواب التدليس في النكاح»:

قال المحقق رحمه الله في «الشرايع»: «ولو دلست نفسها كان عوض البضع لمولاها، ورجع الزوج به عليها إذا أعتقت» واستدلّ له في «الجواهر» عقيب ذلك

بقوله: لقاعدة الغرور «3».

وذكر المحقق رحمه الله في موضع آخر ما نصّه: «نعم، لو فسخ بعده (أي بعد الدخول) كان لها المهر، ويرجع به على المدلّس (أي يرجع الزوج عليه) أباً كان أو غيره» واستدلّ له في «الجواهر» أيضاً بقوله: لقاعدة الغرور «4».

4- واستدل به أيضاً في «أبواب المتاجر» فيما إذا باع الغاصب شيئاً وكان المشتري جاهلًا، فانّ للمالك الرجوع إليه بالنسبة إلى العين، وكذا بالنسبة إلى منافعه، أمّا العين فلو تلف أو أتلفها فلابدّ عليه من أداء قيمتها، وأمّا المنافع المستوفاة فإنّه يغرم قيمتها، ولكن له الرجوع إلى الغاصب.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 269

قال في «الشرايع»: «ولو أو لدها المشتري كان حرّاً، وغرم قيمة الولد، ويرجع بها على البائع، وقيل في هذه، له مطالبة أيّهما شاء، لكن لو طالب المشتري (أضاف إليه في الجواهر: المغرور) رجع بها على البائع (أضاف إليها في الجواهر: الغاصب الغارّ). «1»

ثم قال: أمّا ما حصل للمشتري في مقابله نفع كسكنى الدار، وثمرة الشجرة، والصوف، واللبن، فقد قيل يضمنه الغاصب لا غير لأنّه سبب الإتلاف، ومباشرة المشتري مع الغرور ضعيفة، فيكون السبب أقوى، كما لو غصب طعاماً وأطعمه المالك». «2»

وهذا الكلام منه يؤيد ما قوّيناه سابقاً من كون الضمان في هذه الموارد على السبب، وإن قاعدة الغرور ناظرة إلى غير هذا المقام.

وقال شيخنا العلّامة الأنصاري رحمه الله في مكاسبه:

وأمّا الثاني وما غرمه (أي ما غرمه المشتري للمالك فيما إذا شترى شيئاً مغصوباً جاهلًا) في مقابل النفع الوأصل إليه من المنافع والنماء، ففي الرجوع بها خلاف، أقواها الرجوع وفاقاً للمحكي عن «المبسوط»، والمحقق، والعلّامة رحمهما الله في التجارة، والشهيدين رحمهما الله، والمحقق الثاني رحمه الله، وغيرهم، وعن «التنقيح» أنّ عليه الفتوى، لقاعدة

الغرور المتفق عليها ظاهراً فيمن قدّم مال الغير إلى غيره الجاهل فأكله، ويؤيده قاعدة نفي الضرر «3».

وما استدلّ به رحمه الله على محل كلامه بقاعدة لا ضرر دليل عام يشمل جميع موارد قاعدة الغرور، إلّاأنّ فيه اشكالًا يبتني على ما هو المعروف في قاعدة لا ضرر من أنّها لا تثبت حكماً، بل تنفي الأحكام الضررية، ولكن على القول بعمومها وشمولها لنفي الأحكام وإثباتها في موارد الضرر، كما هو المختار، فهو استدلال جيّد يجري في جميع موارد قاعدة الغرور.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 270

ولو قيل أنّ ضرر المغرور معارض بضرر الغارّ، أجيب عنه بأنّ الغارّ أقدم على ضرر نفسه فلا تشمله قاعدة نفي الضرر.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 271

23 قاعدة الخراج

اشارة

هذه القاعدة (قاعدة الخراج بالضمان) من القواعد المعروفة عند العامّة، ولم يعتمد عليها من الخاصّة، إلّاقليل منهم في موارد معيّنة، ولكن على كلّ حال لابدّ من تحقيق مصدرها عندهم، وعندنا لو كان، ثم الكلام عن محتوها، وما يتفرّع عليها من الفروع.

والمراد منها- على سبيل الإجمال قبل أن نبحث عن تفاصيلها- أنّه إذا ضمن الإنسان شيئاً بحكم الشرع، بحيث لو تلف، تلف من ماله، ثم انتفع منه بمنافع، ثم أراد ردّ المال إلى صاحبه فيردّ الأصل دون منافعه، لأنّه كان ضامناً للمال، فالمنافع والخراج له في مقابل ضمانه، فكما أنّ الغرم عليه، فإنّ الغنم له.

مثال ذلك ما لو اشترى شيئاً وانتفع من ثمرته أو منافعه الأخرى، ثم وجد بها عيباً، فأراد فسخ البيع وردّ العين، فهل يردّ المنافع الحاصلة منها أيضاً أو لا؟ قد يستند إلى هذه القاعدة لكونها له، فإنّه لو تلف قبل ذلك كان من ملكه على كلام فيه.

والذي يظهر من بعض كلمات فقهاء الجمهور أنّها لا تختصّ

بباب البيوع عندهم، بل تجرى في غيره أيضاً، كالفتوى المعروفة عن أبي حنيفة التي وردت في رواية أبي ولّاد فيمن إكترى حيواناً ثم جاوز به عن الشرط، وبعد ما أراد ردّه إلى صاحبه، طلب منه الكراء بالنسبة إلى ما انتفع منه زائداً على الشرط، فاختلفا ورضيا بأبي حنيفة وأفتى بأنّه لا يرى عليه شيئاً، لأنّ ضمانه في هذه المدّة كان على المستأجر، فخراجه ومنافعه له! «1».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 274

إستناداً إلى ما رووه من طرقهم من أنّ النبي صلى الله عليه و آله قضى في بعض قضاياه بأنّ «الخراج بالضمان».

لكن الذي يبدو من كلمات بعض الأصحاب في الاستدلال بهذه القاعدة أنّهم يقتصرون فيها بأبواب البيع وما أشبهها، وإليك شطراً من كلماتهم:

1- قال شيخ الطائفة رحمه الله في «الخلاف»: «إذا حصل من المبيع فائدة من نتاج أو ثمرة قبل القبض، ثم ظهر به عيب كان ذلك قبل العقد كان ذلك للمشتري، وبه قال الشافعي، وقال المالك: الولد يريده مع الام ولا يرد الثمرة مع الأصول، وقال أبو حنيفة: يسقط ردّ الأصل بالعيب.

ثم قال: دليلنا إجماع الفرقة، وروت عائشة أنّ النبي صلى الله عليه و آله قضى أنّ الخراج بالضمان، ولم يفرّق بين الكسب، والولد، والثمرة، فهو على عمومه «1».

أقول: أمّا قول أبي حنيفة بسقوط ردّ الأصل بالعيب، فهو لا ينافي ما حكى عنه من قوله بعموم الخراج بالضمان كما لا يخفى.

وقال في المسألة 176: «إذا اشترى جارية حاملًا فولدت في ملك المشتري عبداً مملوكاً، ثم وجد بالام عيباً فإنّه يردّ الام دون الولد، وللشافعي فيه قولان أحدهما مثل ما قلناه، والثاني: له أنّ يردّهما معاً لأنّه لا يجوز أن يفرّق بين الام وولدها فيما دون سبع

سنين، والأول أصحّ عندهم، دليلنا عموم قوله «الخراج بالضمان» «2».

وقال في «المبسوط»: «فصل في أنّ الخراج بالضمان، ثم ذكر تحت هذا العنوان ما يلي: إذا كان لرجل مال فيه عيب فأراد بيعه وجب عليه أن يبيّن للمشتري عيبه ولا يكتمه أو يتبرأ إليه من العيوب، والأول أحوط فانّ لم يبينه واشتراه إنسان فوجد به عيباً كان المشتري بالخيار، إن شاء رضى به، إن شاء ردّ بالعيب، واسترجع الثمن فإنّ اختار فسخ البيع وردّ المبيع نظر فانّ لم يكن حصل من جهة المبيع نماء ردّه،

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 275

واسترجع ثمنه، وإن كان حصل نماء وفائدة فلا يخلو من أن يكون كسباً من جهته أو نتاجاً وثمرة، فانّ كان كسباً مثل أن يكتسب بعلمه، أو تجارته، أو يوهب له شي ء، أو يصطاد شيئاً، أو يحتطب، أو يحتشّ، فانّه يردّ بالمبيع، ولا يرد الكسب بلا خلاف، لقوله صلى الله عليه و آله: «الخراج بالضمان»، فالخراج اسم للغلّة والفائدة التي تحصل من جهة المبيع، ويقال للعبد الذي ضرب عليه مقدار من الكسب في كلّ يوم أو في كلّ شهر «عبد مخارج» وقوله: «الخراج بالضمان» معناه أنّ الخراج لمن يكون المال يتلف من ملكه. (إنتهى موضع الحاجة من كلامه) «1».

و وافق شيخ الطائفة رحمه الله في هذا المعنى «ابن حمزة» في (الوسيلة) فقال فيما حكي عنه في فصل عقده للبيع الفاسد ما هذا نصه: «فإذا باع أحد بيعاً فاسداً وانتفع به المبتاع ولم يعلمها بفاسده، ثمّ عرفاواستردّ البائع المبيع، لم يكن له استرداد ثمن ما انتفع به أو استرداد الولد إن حملت الأم عنده وولدت، لأنّه لو تلف لكان من ماله و «الخراج بالضمان» (إنتهى محل الحاجة).

وقد تعرّض للقاعدة غير

واحد من المعاصرين، وأوردوا الإستدلال بها، ولكنّ أكثر الأصحاب أهملوا، ذكرها، ولم يعتمدوا عليها في كتبهم.

ولعلّ بعض من استند إلى هذه القاعدة رآها موافقة لأدلّة أخرى، كما في أبواب العيب على ما سيأتي الإشارة إليه إن شاء اللَّه، ولكن لما أرادوا المشي على مذهب المخالفين استندوا إلى ما هو المقبول عندهم من رواية «الخراج بالضمان»، وهذا المعنى يجري فيما نقلناه عن شيخ الطائفة رحمه الله في أبواب العيوب، وإن كان لا يجري فيما حكي عن ابن حمزة في «الوسيلة» فإنّه استند إليها في البيع الفاسد.

وعلى كلّ حال ليست هذه القاعدة ممّا اشتهرت بين أصحابنا، وسيأتي أنّها ليست ممّا اشتهر بين العقلاء وأهل العرف أيضاً، إلّافي موارد خاصّة بملاكات أخرى ستأتي الإشارة إليها.

مصادر القاعدة

عمدة ما استدلّ به لقاعدة «الخراج بالضمان» هي ما ورد من طرق «العامّة» وهي عدّة روايات رووها عن عائشة كما يلى:

1- ما رواه عروة بن زبير، عن عائشة: «أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قضى أنّ خراج العبد بضمانه» «1».

2- وهناك رواية أخرى عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عايشة: «أنّ رجلًا اشترى عبداً فاستغله، ثم وجد به عيباً فردّه فقال: يا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، إنّه قد استغل غلامي، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: الخراج بالضمان» «2».

والظاهر أنّهما حكاية عن واقعة واحدة حكيت ملخصة تارة ومفصّلة أخرى، والمراد من استغلال العبد انتفاعه بخدمته.

3- ما رواه أيضاً عروة، عن عائشة: «أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال الخراج بالضمان» «3».

وهذا الحديث عام لا يختص بالعبد، ولا بخيار العيب، ورواه بعينه في محل آخر من كتابه «4». ورواه النسائي بعنيه عن عروة، عن عائشة

في سننه»

.4- ما رواه مخلد بن خفاف قال: «اتبعت غلاماً فاستغللته، ثم ظهرت منه عليّ عيب، فخاصمت فيه إلى عمر بن عبدالعزيز، فقضى لي بردّه، وقضى عليّ بردّ غلته، فأتيت «عروة» فأخبرته، فقال: أروح إليه العشية فأخبره أن عائشة أخبرتني أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قضى في مثل هذا أنّ الخراج بالضمان، فعجلت إلى عمر فأخبرته ما أخبرني عروة، عن عائشة، عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقال عمر: فما أيسر عليّ من قضاء قضيته، اللَّه يعلم أنّي لم أرد فيه إلّاالحق، فبلغتني فيه سنّة عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فأردّ

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 277

قضاء عمر، وانفد سنّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فراح إليه عروة فقضى لي أن آخذ الخراج من الذي قضى به عليّ له» «1».

ورواه البيهقي في سننه بطرق أخرى كلّها تنتهي إلى عائشة وفي طريقها عروة ثم رواه عن شريح غير مستند إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بهذه العبارة: «ولك الغلة بالضمان» «2».

والظاهر أنّها بأجمعها حكاية لقضية واحدة، ويستفاد من ضم بعضها إلى بعض أنّها وردت في خصوص أبواب البيع، ولكنّ بعض الرواة نقلوها تارة بدون ذكر المورد، فيتوهم منه العموم، وأخرى بذكر المورد.

ومن هنا يعلم أنّ الاستناد إليها في غير أبواب العيوب مشكل جدّاً.

لا يقال كون المورد خاصّاً لا ينافي كون القاعدة عامّة على ما يلوح من قوله:

«الخراج بالضمان».

لأنّا نقول هذا إذا كان الألف واللام في قوله «الخراج» و «الضمان» للجنس، وأمّا إن كانتا للعهد، يعني خراج الغلام المعيوب في مقابل ضمانه، فلا يمكن التعدّي منه إلى غير أبواب العيوب، واختصاص المورد بالعبد غير ضائر بعد أن

كان إلغاء الخصوصية منه وشموله لجميع موارد بيع المعيوب.

هذا كلّه مع قطع النظر عن إسنادها وإلّا فهي ضعيفة على مختار الأصحاب، فلا يصحّ الإستناد إليها لإثبات هذه القاعدة كما هو ظاهر.

وأمّا من طرق الأصحاب فلم يرد هذا المعنى إلّافي رواية مرسلة رواها ابن أبي جمهور في «غوالي اللئالي» قال: وروى عنه صلى الله عليه و آله: «أنّه قضى بأنّ الخراج بالضمان» «3».

وهي أيضاً كما ترى، ولكن ورد بهذا المعنى روايات في موارد خاصّة غير مشتملة على هذا العنوان، ولكنّها يوافقه بحسب المعنى وإليك ما عثرنا عليه:

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 278

1- ما رواه اسحاق بن عمّار قال: حدثني من سمع أبا عبداللَّه عليه السلام وسأله رجل وأنا عنده، فقال: «رجل مسلم احتاج إلى بيع داره، فجاء إلى أخيه، فقال: أبيعك داري هذه وتكون لك أحب إليّ من أن تكون لغيرك على أن تشترط لي إن أنا جئتك بثمنها إلى سنة أن تردّ عليَّ فقال: لا بأس بهذا، إن جاء بثمنها إلى سنة ردّها عليه، قلت: فإنّها كانت فيها غلة كثيرة فاخذ الغلّة، لمن تكون الغلّة؟ فقال: الغلّة للمشتري، ألا ترى أنّه لو احترقت لكانت من ماله» «1».

2- ما رواه معاوية بن ميسرة قال: «سمعت أبا الجارود يسأل أبا عبد اللَّه عليه السلام عن رجل باع داراً له من رجل، وكان بينه وبين الرجل الذي اشترى منه الدار حاضر، فشرط أنّك إن أتيتني بمالي ما بين ثلاث سنين فالدار دارك، فأتى بماله، قال: له شرطه، قال أبو الجارود: فإنّ ذلك الرجل قد أصاب في ذلك المال في ثلاث سنين قال: هو ماله، وقال أبو عبداللَّه عليه السلام: أرايت لو أنّ الدار احترقت من مال من كانت؟

تكون الدار

دار المشتري» «2».

3- ما رواه في «دعائم الإسلام» عن أبي عبد اللَّه عليه السلام: «أنّه سئل عن رجل باع داره على شرط أنّه إن جاء بثمنها إلى سنة أن يردّ عليه، قال: لا بأس بهذا، وهو على شرطه، قيل: فغلّتها لمن تكون؟ قال: للمشتري، لأنّها لو احترقت لكانت من ماله» «3».

ويستفاد من جميع ذكرنا أنّه لا دليل على اعتبار هذه القاعدة بعنوان عام، حتى يجوز الاستدلال بها في الأبواب المختلفة من الفقه، لضعف ما روي من طرق المخالفين سنداً، بل قصور دلالتها واختصاصها بمورد خيار العيب، وما ورد مطلقاً في هذا الباب أيضاً ناظر إلى هذا المورد كما لا يخفى على من تأمّله.

ولو أستفيد من إطلاقه العموم فالظاهر أنّ العموم في خصوص موارد تشابه مورد

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 279

خيار العيب، بأن يكون ضمن شيئاً بعقد صحيح ضماناً اختيارياً، وانتفع بالمعقود عليه منفعة مستوفاة، فحينئذٍ يكون خراجه في مقابل ضمانه.

وأمّا الروايات الخاصّة التي عرفتها آنفاً فهي ناظرة إلى مسألة بيع الشرط أو الرهن وسيأتي الكلام إن شاء اللَّه فيها وأنّه موافق لقواعد أخر، ولا دخل لها بقاعدة «الخراج بالضمان».

وأمّا بناء العقلاء فقد عرفت عدم استقراره على هذه القاعدة، بل بناؤهم مستقر على خلافها في أبواب الغصب، فمن غصب داراً، أو حيواناً، أو شيئاً آخر، وانتفع بها يكون ضامناً لهذه المنافع أجمع عندهم بلا ريب.

إذا عرفت ذلك فلنعد إلى تفسير القاعدة.

معنى «الخراج» ومعنى «الضمان»

قد وقع الكلام بينهم في المراد من هذين اللفظين الواردين في متن القاعدة (على القول بثبوتها)، وذكر فيه احتمالات أو أقوال، أهمّها ما يلي:

1- أنّ المراد من «الخراج» ما هو المعروف في باب الخراج والأراضي الخراجية، والمراد من «الضمان» هو ضمان هذه الأراضي بسبب الإجارة والتقبّل!

وقد

جعله بعضهم أقرب الاحتمالات في الحديث، وعليه لا مساس له بما نحن بصدده «1».

2- ويقرب منه ما قيل إنّه يحتمل أن يكون المراد من الخراج هو الخراج المضروب على الأراضي أو الرؤوس، ومن الضمان ضمان والي المسلمين تدبير أمورهم، وسدّ حاجاتهم، وجميع ما على الوالي في صلاح دولة الإسلام وحال المسلمين، فالمراد أنّ الخراج المعهود من الأراضي وغيرها بإزاء ما على الوالي من الوظائف على إدارة الأمور «2».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 280

فالخراج في كلا الاحتمالين بمعنى واحد، ولكنّ الضمان في الأول بمعنى إجارة الارض وتقبلها، وفي الثاني بمعنى ولاية أمور المسلمين وتعهد أمورهم.

هذا، ولكن قلّما يستعمل الضمان في هذا المعنى، كما سيأتي إن شاءاللَّه.

3- أنّ المراد من الخراج مطلق المنافع، والمراد بالضمان مطلق العهدة، سواء كان أمرأ اختيارياً مترتبا على العقود الصحيحة أو الفاسدة، أو كان أمراً غير اختياري مترتباً على الغصب.

وهذا ينطبق على ما روي عن أبي حنيفة من عدم تضمين الغاصب بالمنافع المستوفاة نظراً إلى ضمانه، وما عن «ابن حمزة» من قدماء فقهاء اصحابنا، وإن كان في النسبة إليه كلام.

4- أن يكون المراد من الخراج خصوص المنافع المستوفاة، والمراد بالضمان ما يكون في خصوص العقود الصحيحة، فحينئذٍ تكون المنافع المستوفاة في العقود الصحيحة في مقابل ضمان العين بالضمان الاختياري الناشي ء عن عقد صحيح.

5- المراد من الخراج خصوص المنافع المستوفاة كما في سابقه، ولكنّ المراد بالضمان هو الضمان الاختياري، الأعم ممّا يحصل من العقود الصحيحة أو الفاسدة، من دون شمول مثل الغصب الذي حكمه الضمان قهراً.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ اللازم الرجوع إلى معنى اللفظتين في اللغة والعرف أولًا، ثم ملاحظة مورد الأحاديث ثانياً.

والانصاف أنّ شيئاً من هذه المعاني لا يناسب مورد الرواية ومصدرها،

ما عدا القول الرابع.

توضيح ذلك: أنّ الرواية كما عرفت لم ترد من طرق أهل البيت عليهم السلام وإنّما وردت في طرق الجمهور ومصادرهم المعروفة، واشتهرت بينهم اشتهاراً تاماً، ولكنَّها تنتهي جميعاً إلى عروة بن الزبير وهو يرويها عن عائشة تارة مصدّرة بمسألة استغلال العبد المعيب الذي اشتراه بظنّ السلامة ثمّ وجد به عيباً، وقد ذكرت مع هذا المتن في

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 281

كثير من كتبهم، وقد أشرنا إليها سابقاً، وأخرى من دون ذكر موردها من بيع المعيب.

والظاهر لكلّ ناظر فيها قضية واحدة، ومن البعيد أن يكون الراوي سمعها تارة مع صدرها، وأخرى مطلقة، لأنّها وردت عقيب سؤال واحد، سلّمنا، ولكن احتمال ذلك كافٍ في عدم إمكان الإستدلال بكل واحد كرواية مستقلة، إلّاأن يكون ظاهر كلام الرأو ي صدورها مستقلة عن النبي صلى الله عليه و آله، ومع ما عرفت من كيفة نقل الرواية، فلا ظهور فيها من هذه الناحية، وبالجملة لم يثبت لنا تعدّد الرواية ولا ظهور لها فيه حسب متفاهم العرف.

وعندئذٍ يكون موردها قرينة على تفسير لفظتي «الضمان» و «الخراج»، فالخراج هو المنافع المستوفاة كاستغلال العبد، والإنتفاع بغلّته، والمراد بالضمان هو الضمان بالعقد الصحيح، لا العقد الفاسد، ولا الضمان القهري كالغصب.

وأعجب من ذلك كلّه احتمال كون الخراج بمعناه المعروف في باب الأراضي الخراجية، فإنّه وإن كان كذلك في تلك الأبواب، ولكن ليس كذلك في محل الكلام قطعاً.

وأعجب منه جعل الضمان بمعنى ضمان الحكومة لرعاية الرعيّة، والذب عنهم، وتدبير أمورهم! فإنّ اطلاق الضمان على هذا المعنى بعيد جدّاً، وقلّما تستعمل هذه اللفظة في هذا المعنى في كلمات العرب.

بل المراد أنّ الضمان هنا هو ضمان العين الحاصل في العقود الصحيحة المعاوضية، فإنّها إذا تلفت تلفت من

ملك من انتقل إليه بذاك العقد في مقابل الثمن الذي أدّاه إلى المالك.

فكأنّه صلى الله عليه و آله يقول، أرأيت لو تلفت العين المعيبة تلفت من ملك المشتري؟ فكذلك إذا كان له منافع مستوفاة فهي له، بل هذا نتيجة انتقال العين إليه كما لا يخفى.

نعم، لازم ذلك كون فسخ البيع فيما إذا كان معيباً من حينه، لا من أصله، كما أنّ لازمه عدم سقوط خيار العيب بمثل هذه التصرفات.

و ورود مسألة الردّ في كلام السائل كما في الرواية الثانية لا ينافي ما ذكرناه بعد

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 282

إمضاء النبي صلى الله عليه و آله له على فرض صدور هذه الرواية.

نعم، لا يبعد التعدّي من مورد الروايات إلى مطلق الخيار، فإذا جاز الردّ بالخيار فانتفع منه منافع، وقلنا بعدم منع الانتفاع من الردّ بالخيار، فمقتضى الرواية عدم ضمان هذه المنافع؟ وكون خراجه بضمانه، بناءاً على كون الضمان على المشتري والمنتقل إليه المال في أمثال المقام فتأمّل.

هذا بحسب مورد الرواية، وأمّا بحسب معناهما في اللغة، فقد قال الجوهري في الصحاح: الخرج والخراج الأتاوة «1» والخرج أيضاً ضد الدخل، وقال في معنى الضمان: ضمن الشي ء بالكسر كفل به، فهو ضامن وضمين، وضمنه الشي ء تضميناً وتضمنه عنه مثل غرمه.

وقال الراغب في «المفردات»: والخراج يختص في الغالب بالضريبة على الأرض، وقيل: العبد يؤدّي خرجه أي غلّته ... وقيل: الخراج بالضمان أي ما يخرج من ماله البائع فهو ما سقط بإزائه عنه من ضمان المبيع.

وقال الطريحي في «مجمع البحرين»: «الخراج» بفتح المعجمة ما يحصل من غلّة الأرض، وقيل يقع اسم الخراج على الضريبة، والفى ء، والجزية والغلّة.

وقال: ضمنت المال إلتزمته، ويتعدّى بالتضعيف، فيقال: ضمّنته المال، أي التزمته إيّاه، وما عن بعض الأعلام:

«الضمان» مأخوذ من الفم، غلط من جهة الاشتقاق لأنّ نونه أصلية، والفم لا نون فيه ... إلى غير ذلك ممّا ورد في كتب أهل اللغة.

والمناسب من بين هذه المعاني بحسب مورد الرواية هو ما عرفت لا غير، أعني كون الضمان هو ضمان الحاصل من العقود الصحيحة بالثمن المعلوم، والخراج هو المنافع المستوفاة.

وعندئذٍ ينطبق مفاد الرواية المعروفة على ما ورد في طرقنا بغير لفظ الضمان

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 283

والخراج، مثل ما مرّ من روايات عديدة وردت في مورد بيع الشرط، وأنّه إذا باع رجل داره، مثلًا وشرط على المشتري أنّه لو جاء بثمنه إلى سنة فالدار له، وله فسخ البيع، وأنّه لو كان للدار غلّة كثيرة كانت للمشتري في مقابل أنّه لو تلفت العين في أثناء هذه المدّة في يده كان من ملكه.

وإن شئت قلت: ما ورد من طرق العامّة تحت عنوان الخراج بالضمان ينطبق على ما ورد من طرقنا في أبواب بيع الشرط، ولا يستفاد من شي ء منهما قاعدة كلية.

نعم، هي أوسع نطاقاً ممّا ورد في رواياتنا، لأنّه يشمل جميع المنافع المستوفاة في موارد يجوز ردّ العين، ولو بعد الإنتفاع، من دون اختصاص بباب العيب أو خيار الشرط أو غيره، ولكنّ ما ورد من طريق الأصحاب خاصّ بمورد خيار الشرط، اللهم إلّا أنّ يؤخذ بعموم التعليل الوارد في كلام الإمام عليه السلام بأنّه كلّما كان تلف المبيع من المشتري فالمنافع المستوفاة له أيضاً، فيتطابقان ولا يكون فيها شي ء جديد ما عدا ما هو مقتضى البيع الصحيح، فإنّ لازم صحة البيع كون المنافع للمشتري كما أنّ تلف العين عليه.

ثم إنّه هل تختص القاعدة بضمان المثمن ومنافعه، أو تعمّ ضمان الثمن ومنافعه أيضاً؟ فبناءاً على صدور

هذه الجملة مستقلة عنه صلى الله عليه و آله لا شك في كونها عامّة لجميع موارد الضمان والخراج، ولكن لما عرفت أنّها على فرض صحة الإسناد واردة ذيل بيع المعيب وضمانه ومنافعه المستوفاة، فانّه يشكل الأخذ بعمومها، نعم، إلغاء الخصوصية عن المثمن وشمولها بالنسبة إلى الثمن غير بعيد.

ومن هنا يظهر أنّ ما أورد عليها من النقض بمسألة العارية المضمونة فإنّ ضمانها على المستعير من دون أن تكون منافعها ملكاً له، بل هي من قبيل إباحة المنافع دون التمليك غير وارد، بعد ما عرفت، وكذلك غيرها من أشباهها، وحيث إنّ أصل القاعدة غير ثابت فلا يهمّنا البحث عن هذه الفروع.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 285

24 قاعدة اللزوم

اشارة

من القواعد المعروفة المستدلّ بها في أبواب المعاملات بالمعنى الأعم من البيع، والإجارة، والنكاح، وغيرها، قاعدة اللزوم في العقود إذا شكّ في لزوم عقد وجوازه.

وليعلم أنّ البحث تارة يكون في الشبهات الحكمية كما إذا شككنا في أنّ عقد المعاطاة جائز أو لازم، أو أنّ الهبة في بعض مصاديقها جائزة أو لازمة.

وأخرى يكون من قبيل الشبهات الموضوعية بأن نعلم أنّ البيع بالصيغة لازم وبيع المعاطاة يكون جائزاً مثلًا، ثم شككنا في أنّ العقد الواقع في الخارج كان من قبيل البيع بالصيغة أو المعاطاة.

ثم إنّ الشك قد يكون في ابتداء العقد بأنّ شكّ في أنّ عقد المعاطاة من أول أمره لازم أو جائز، وأخرى يكون بعد عروض الجواز له، كما إذا قلنا بأنّ خيار العين إنّما يكون بعد ظهوره، وقبله يكون البيع لازماً، وكذلك بالنسبة إلى خيار الرؤية، وخيار الشرط، إذا جعل الخيار في زمان منفصل عن العقد وقلنا بجواز ذلك، وحينئذٍ ينقلب العقد اللازم جائزاً، ثم لو شككنا بعد ذلك في صيرورته لازماً

أو بقائه على الجواز، سواء من ناحية الشبهة الحكمية أو الموضوعية، فهل الأصل هنا أيضاً اللزوم أو الجواز؟

ولابدّ من البحث عن القاعدة أولًا بعنوان كلّي، ثمّ نتكلم في فروعها وخصوصياتها، فنقول، ومن اللَّه سبحانه التوفيق والهداية: إنّ المعروف بين من تعرض لهذه القاعدة ثبوت اللزوم في جميع العقود إلّاما خرج بالدليل، ولكن لم يتعرض لها بعنوان كلّي

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 288

كثير من الأصحاب، وأن تعرّضوا لها بعنوان جزئي في بعض العقود كعقد الإجارة والمساقاة وغيرهما.

وإليك بعض كلماتهم في المقامين:

أمّا المقام الأول

قال العلّامة الأنصاري رحمه الله في مكاسبه: «لا إشكال في أصالة اللزوم في كلّ عقد شكّ في لزومه شرعاً، وكذا لو شك في أنّ الواقع في الخارج هو العقد اللازم أو الجائز، كالصلح من دون عوض، والهبة» «1».

وقال الشهيد رحمه الله في «القواعد»: «الأصل في البيع اللزوم، وكذا في سائر العقود، ويخرج عن الأصل في مواضع لعلل خارجة» «2».

وقال الشهيد الثاني رحمه الله في «المسالك»: «في شرح قول المحقق «والإجارة عقد لازم» ما نصّه: «لزوم عقد الإجارة موضع وفاق، وعموم الأمر بالوفاء بالعقود يتناوله ...، وأمّا الأسباب المقتضية في الفسخ فستأتي مفصلة إن شاءاللَّه» «3».

وذكر الشيخ الطوسي رحمه الله في «الخلاف» في باب الإجارة: «إنّها من العقود اللازمة، متى حصل لم يكن لاحدهما فسخ الإجارة، دليلنا أنّ العقد قد ثبت ... وأيضاً قوله تعالى: أوفوا بالعقود، فأمر بالوفاء بالعقود والإجارة عقد، فوجب الوفاء به» «4».

وقال في «مفتاح الكرامة» في كتاب «المزارعة» بعد قول الماتن «وهو عقد لازم من الطرفين» ما نصّه: «إجماعاً كما في جامع المقاصد والمسالك ومجمع البرهان ... وكأنّه إجماع، لأنّ الأصل في العقود اللزوم، إلّاما أخرجه الدليل، للأمر بالوفاء بالعقود في قوله

تعالى «أوفُوا بِالعُقُودِ» «5».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 289

وبالجملة، لا يخفى على الناظر في كلمات الأصحاب في العقود المختلفة أنّ الأصل عندهم في كلّ عقد اللزوم، إلّاما خرج بالدليل، ومن الواضح أنّ الإجماع في أمثال هذه المسائل وإن كان مؤيّداً للمطلوب، ومرجحاً له، لكنّه ليس شيئاً يركن إليه، ودليلًا مستقلًا بنفسه بعد إمكان استناد المجمعين إلى الأدلّة الأخرى التي ستمرّ عليك إن شاءاللَّه.

مصادر قاعدة اللزوم
الأول: الكتاب العزيز

إستدلّ لها من كتاب اللَّه بما مرّ ذكره من قوله تعالى: «يا أيُّها الّذِينَ آمَنُوا أوفُوا بِالعُقُودِ» «1».

وتقريب الاستدلال بها ظاهر، لأنّ جميع المعاملات بالمعنى الأعم داخلة في عنوان العقود، وهو جمع محلّى باللام يفيد العموم، مضافاً إلى كونها في مقام الإطلاق مع عدم ورود قيد عليه، والعقد بأيّ معنى فسر شامل لها، والأمر بالوفاء دليل على وجوب العمل على طبق العقد، ولازمه عدم تأثير الفسخ، فإنّ الأمر وإن كان دليلًا على الوجوب التكليفي إلّاأنّه يدلّ على الحكم الوضعي في أبواب المعاملات وأجزاء العبادات وشرائطها إذا تعلّق الأمر أو النهي بعنوان المعاملة، أو أجزاء العبادة، لا بعنوان آخر ينطبق عليه، كما حقق في محلّه، وإن شئت قلت: الأمر بالوفاء بالعقد دليل على تأثيره، فالوفاء من آثاره، لا أنّه واجب مستقل تكليفي، وحينئذٍ يدلّ على الحكم الوضعي دلالة واضحة.

وما قد يتوهم أنّ لازمه تخصيص الأكثر لخروج العقود الجائزة كلّها والعقود اللازمة بأنواع الخيارات، مدفوع، بأنّ كون المعاملات الجائزة من العقود حقيقة لا يخلو عن

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 290

تأمّل، لأنّها تدور غالباً مدار الإذن الحاصل من المالك وشبهه، وهذا أمر وراء العقد، وإن شئت قلت: «العقد» عبارة عن إلتزام في مقابل التزام، وليس في غالب العقود الجائزة إلّاإلتزام من طرف واحد، وبعبارة أوضح هي

إجازة ورضى من طرف واحد، كما ذكر في محلّه.

وأمّا الخيارات فليست مستوعبة لأكثر العقود بحسب أزمانها بل استثناءات جزئية من هذه الجهة، وإلّا فأكثرها في أكثر الأزمنة لازمة باقية، وحينئذٍ لا يلزم التخصيص المستهجن أبداً.

وقوله تعالى: «لاتَأكُلُوا أمَوالَكُم بَينَكُم بِالباطلِ إلّاأنْ تَكُونَ تِجارةً عَنْ تَراضٍ مَنكُم» «1».

دلّ على حرمة أكل المال بالباطل، ومن الواضح أنّه إذا انتقلت عين إلى مالك آخر، فصار المال ماله لا يجوز اخراجه عن يده بغير رضاه، فلو فسخ البيع أو شبهه بدون إذنه، وأخذ المال، فقد أكله بالباطل.

هذا، وقد يورد عليه بأنّ الآية ناظرة إلى الأسباب لا شرائط العوضين، وبعبارة أخرى: ناظرة إلى ما كان من قبيل رضى المتعاملين في مقابل القهر، والغصب، والرشوة، وغيرها من طرق السيطرة على مال الغير بالباطل.

ويؤيّده قوله تعالى في آية أخرى: «وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) «2».

فإنّ الإدلاء بها إلى الحكّام لأكل أموال الناس إنّما هو من باب الأسباب، ويؤيده أيضاً «الباء» في قوله «بالباطل»، فالإستدلال بالآية لغير ذلك غير جائز.

وفيه أولًا: أنّ كون هذه الأمور من الباطل ممّا لا ريب فيه، ولكن لا دليل لنا على حصر الآية في خصوص الأسباب، وآية البقرة لا تنفي ما سواها، وكون الباء للسببية

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 291

أيضاً غير مانع، فمن أكل مال الغير في مقابل الخمر وآلات القمار مثلًا فقد أكله بسبب باطل، وكذلك في مقابل الحشرات والأشياء التي لا مالية لها عند العقلاء وأهل الشرع.

سلّمنا، ذلك، ولكنّ ما نحن فيه أي الفسخ من جانب المشتري أو البائع من دون موافقة الطرف الآخر من الأسباب الباطلة، وعلى كلّ حال شمول الآية لما نحن بصدده

ممّا لا ينبغي الريب فيه.

ومن الآيات قوله تعالى: «أحلَّ اللَّهُ البَيعَ» «1».

وجه الإستدلال به على أصالة اللزوم ما ذكره الشيخ الأعظم رحمه الله: أنّ حليّة البيع التي لا يراد منها إلّاحلّية جميع التصرفات المترتبة عليه، التي منها ما يقع بعد فسخ أحد المتبايعين بغير رضى الآخر مستلزمة لعدم تأثير ذلك الفسخ، وكونه لغواً غير مؤثر (انتهى).

وحاصله أنّ إطلاق الحلية الدالة على تأثير البيع يشمل ما بعد زمان الفسخ من الجانب الآخر، ولازمه عدم تأثير الفسخ أصلًا.

وفيه أنّه إنّما ورد في جواب الكفّار والمخالفين لتحريم الربا، وقولهم «إنّما البيع مثل الربا»، فقد قال اللَّه تعالى في جوابهم: ليس البيع مثل الربا، الربا حرام والبيع حلال، فلا يجوز قياس أحدهما على الآخر، ومن البعيد أن يكون مثل هذا الكلام ناظراً إلى حكم الفسخ، وفي مقام البيان من هذه الجهة، بل المقصود منه بيان حرمة الربا من أصله، وبيان حلّية البيع كذلك، من دون النظر إلى جميع خصوصياته.

هذا، مضافاً إلى امكان القول بأنّ التمسّك باطلاقه بعد الفسخ من قبيل التمسّك بعموم العام في الشبهات المصداقية، فإنّ بقاء البيع وآثاره مشكوك بعد الفسخ، على ما هو المفروض، والتمسّك بالإستصحاب هنا رجوع إليه لا إلى عموم قوله: أحلّ اللَّه البيع.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 292

كما أنّ القول بأنّ حليّة البيع توجب الملكيّة، ومن آثارها عدم جواز سلطة الغير عليه بدون رضا صاحبه أيضاً رجوع إلى الأدلّة الآتية مثل قوله: «الناس مسلّطون على أموالهم»، و «لا يحلّ مال أمرء إلّامن طيب نفسه».

ولنعم، ما قال المحقق اليزدي رحمه الله في حواشيه على المكاسب حيث قال: «الإنصاف أنّ هذه الآية لا دلالة لها إلّاعلى مجرّد حليّة البيع بمعنى التمليك والتملك، ولا تعرّض فيها لحليّة

التصرفات بعد البيع، حتى تشمل بإطلاقها ما كان بعد الفسخ» «1».

وقد عرفت أنّ هذا أحد الإيرادات الواردة على الاستدلال بالآية الشريفة.

الثاني: السنّة الشريفة
اشارة

2- يدلّ على أصالة اللزوم من السنّة عدّة روايات:

1- المؤمنون عند شروطهم

وهذه الرواية رواها جمع من العامّة والخاصّة في كتبهم واستدلّوا بها في موارد مختلفة، ومنها استدلال غير واحد منهم بها على لزوم العقود.

فقد رواها في «دعائم الإسلام» عن النبي صلى الله عليه و آله بهذه العبارة، أنّه قال: «المسلمون عند شروطهم، إلّاكلّ شرط خالف كتاب اللَّه» «2» وتارة عن علي عليه السلام بهذه العبارة قال: «المسلمون عند شروطهم إلّاشرطاً في معصية» «3».

ورواها في الوسائل عن عبد اللَّه بن سنان، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «المسلمون عند شروطهم إلّاكلّ شرط خالف كتاب اللَّه عزّوجلّ فلا يجوز» «4».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 293

وما رواه أيضاً عبداللَّه بن سنان، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: سمعته يقول: «من اشترط شرطاً مخالفاً لكتاب الله فلا يجوز له، ولا يجوز على الذي اشترط عليه، والمسلمون عند شروطهم ممّا وافق كتاب اللَّه عزّ وجلّ» «1».

ورواها أيضاً عن إسحق بن عمّار، عن جعفر عن أبيه عليه السلام، أنّ علي بن أبي طالب عليه السلام كان يقول: «من شرط لامرأته شرطاً فليفِ لها به، فإنّ المسلمين عند شروطهم إلّا شرطاً حرّم حلالًا أو أحلّ حراماً» «2».

ومن طرق الجمهور ما رواه البخاري في صحيحه بعنوان «المسلمون عند شروطهم» عن النبي صلى الله عليه و آله «3».

ورواه الترمذي أيضاً في صحيحه في أبواب الأحكام بهذه العبارة: «والمسلمون على شروطهم إلّاشرطاً حرّم حلالًا» «4».

وقد رواه الأصحاب في أبواب المكاتبة أيضاً.

مثل ما عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام في مكاتب شرط عليه إن عجز أن يرد في الرق قال: «المسلمون عند شروطهم» «5».

وفي معناه ما عن الحلبي، عن أبي عبداللَّه عليه السلام «6» في ذاك

الباب بعينه.

وما رواه سليمان بن خالد عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «سألته عن رجل كان له أب مملوك، وكانت لأبيه أمرأة مكاتبة قد أدّت بعض ما عليها، فقال لها العبد: هل لك أن أعينك في مكاتبتك حتى تؤدّي ما عليك، بشرط أن لا يكون لك الخيار على أبي إذا أنت ملكت نفسك؟ قالت: نعم فأتاها في مكاتبتها على أن لا يكون لها الخيار بعد ذلك، قال: لا يكون لها الخيار المسلمون عند شروطهم» «7».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 294

فعلى ذلك، الرواية مشهورة بين الفريقين، ورويت من طرقنا بطرق كثيرة بعضها صحيحة، وإن كان بعضها غير صحيح فإذن لا مجال للإشكال من جهة السنّة.

وأمّا من ناحية الدلالة فهو مبني على شمول الشرط لكلّ عقد، ومن الواضح أنّ وقوف المؤمن أو المسلم عند شرطه بمعنى عدم مفارقته عنه، وهو كناية عن الإلتزام والوفاء به.

ولكن أورد عليه «تارة» من ناحية الصغرى بأنّ الشرط يطلق على إلتزام كان مرتبطاً بغيره فلا يشمل الالتزام الابتدائي، ولا أقلّ من الشكّ في ذلك، وفي القاموس:

الشرط إلزام الشي ء والتزامه في البيع ونحوه.

وأخرى من ناحية الكبرى، بأنّها لا تدلّ على أزيد من الرجحان لتعليقه على الإيمان وإن هو إلّانظير قوله «المؤمن إذا وعد وفي».

ولكن كلّ ذلك ممنوع، أمّا الأولى: فلأنّا لو سلّمنا اختصاص الشرط بالإلتزام الذي هو في ضمن التزام آخر ومرتبط به، فلا أقلّ من الأخذ بالفحوى، فإذا وجب العمل بالشرط الذي هو تابع لعقد، فيجب العمل بنفس العقد بطريق أولى، فإنّه الأصل، وهذا هو الفرع.

وأمّا الثانية: فلأنّ ظاهر الرواية الوجوب، وقد علّق في غير واحد من طرقه من العامّة والخاصّة على الإسلام، لا على الإيمان، وممّا يدلّ على الوجوب دلالة واضحة أنّه

استدلّ في الروايات بهذه الفقرة على وجب بما في مواردها من الشروط.

وبالجملة، فإنّ الإشكال في هذه الرواية ضعيف جدّاً.

2- قوله صلى الله عليه و آله: «لا يحلّ مال أمرء مسلم إلّامن طيب نفسه»

رواها سماعة عن أبي عبداللَّه عليه السلام في حديث أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «من كانت عنده أمانته فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها، فإنّه لا يحلّ دم أمرء مسلم، ولا ماله إلّابطيبة نفس منه» «1».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 295

ورواها في (الكافي) بطريق آخر عن أبي عبداللَّه عليه السلام أيضاً.

ورواها أيضاً في «تحف العقول» عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال في خطبة الوداع: «أيّها الناس، إنّما المؤمنون اخوة، ولا يحلّ لمؤمن مال أخيه إلّاعن طيب نفس منه» «1».

ورواها الصدوق في «إكمال الدين» في ما ورد على الشيخ أبي جعفر محمد بن عثمان العمري رحمه الله في جواب مسائل محمد بن جعفر الأسدي إلى صاحب الدار- إلى أن قال- فلا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه»

.ومن طرق الجمهور ما رواه أبو هرّة الرقاشي عن عمّه أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «لا يحلّ مال أمرء مسلم إلّابطيب نفس منه» «3».

ورواه أحمد بن حنبل في مسنده «4».

وفي معناها روايات أخر مروية من طرق الأصحاب والمخالفين تدلّ على إحترام أموال المسلمين كدمائهم.

وبالجملة، الأحاديث متضافرة مشهورة بين الأصحاب، وهذا كافٍ في إثبات صحّتها من حيث السنّة.

وأمّا تقريب دلالتها فلأنّ المال إذا انتقل إلى شخص بأي سبب كان من العقود وغيرها كان المال ماله، فلا يجوز أخذه منه بدون رضاه، بمجرّد الفسخ وغيره، فهذا دليل على عدم تأثير الفسخ.

وتوهم كون التمسّك بعمومها بعد إجراء صيغة الفسخ من قبيل التمسّك بعموم العام في الشبهات المصداقية فاسد جدّاً، لأنّ عمومها

دليل على عدم تأثير الفسخ، فلا يكون شبهة في المصداق.

وبعبارة أخرى، فانّ شمول الرواية لكلّ ملك مانع عن تأثير الفسخ، فما كان ملكاً

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 296

في الرتبة المتقدمة لا يمكن إخراجه عن يد مالكه بغير رضى منه في الرتبة المتأخرة.

فهذه الرواية دليل على اللزوم في جميع العقود والإيقاعات المستلزم لخروج الملك عن يد صاحبه وصيرروته ملكاً لآخر.

3- قوله صلى الله عليه و آله: «الناس مسلّطون على أموالهم»

وهذه الرواية أيضاً مشهورة في ألسنة الفقهاء، وهي وإن كانت مرسلة لكنّها مجبورة بعمل الأصحاب قديماً وحديثاً لإستنادهم إليها في مختف أبواب الفقه.

وهناك روايات أخرى لا تشتمل على هذا العنوان، ولكن تحتوي معناه ومغزاه وقد أشرنا إليها مشروحة في قاعدة التسلّط من هذه القواعد (فراجع القاعدة الأولى من هذا المجلد)، فهي أيضاً معتبرة من حيث السند.

وأمّا من ناحية الدلالة فمقتضى السلطة على المال هو عدم جواز إخراجه من يد مالكه بغير رضاه، فمجرّد الفسخ من المالك السابق لو أثر في اخراجه عن ملكه كان منافياً لحقيقة السلطنة على المال.

وتوهم كونه من الشبهة المصداقية للملك بعد إجراء صيغة الفسخ، توهم فاسد قد عرفت جوابه آنفاً، وحاصله أنّ الملكيّة والسلطة الحاصلة قبل إجراء الفسخ تمنع عن تأثيره، فهي مسقطة له عن التأثير قطعاً.

4- قوله صلى الله عليه و آله: «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا»

وقد رواه عدّة من أصحابنا منهم محمد بن مسلم وزرارة، عن الصادق عليه السلام عنه صلى الله عليه و آله «1».

وأخرى عن الصادق صلى الله عليه و آله نفسه، مثل ما رواه فضيل والحلبي عنه عليه السلام «2».

وثالثة عن أبي الحسن الرضا عليه السلام مثل ما رواه على ابن اسباط عنه عليه السلام «3».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 297

ورابعة عن علي عليه السلام مثل ما رواه غياث بن ابراهيم، عن جعفر بن محمد عليه السلام، عن أبيه، عن علي عليه السلام «1».

وهي وإن وردت بعبارات شتى إلّاأنّ مفاد الجميع واحد، وهو أنّ البائع والمشتري بالخيار ما دأمّا في مجلس البيع، فإذا حصل الإفتراق وجب البيع من جميع جهاته، فلا يؤثر الفسخ إلّاأنّ يدلّ عليه دليل خاصّ، فيؤخذ بمفاده في مورده.

وهذه الروايات كثيرة مستفيضة، وفيها صحيح الإسناد، وقد ذكر شيخنا العلّامة الأنصاري رحمه الله في بعض

كلماته أنّها مستفيضة، وفي بعضها الآخر أنّها متواترة «2». والتواتر المصطلح وإن لم يكن موجوداً هنا إلّاأنّ الاستفاضة ممّا لا ريب فيه.

وقد رواها العامّة أيضا في كتبهم بطرق متعددة في صحاحهم المعتبرة عندهم، وقد عقد له ابن ماجة في سننه باباً روى فيه عدّة روايات، ولا يبعد دعوى التواتر بعد ذلك «3».

وما قد يتوهم أنّها ناظرة إلى خيار المجلس فقط نفياً وإثباتاً، ولا دلالة فيها على لزوم البيع بعد الإفتراق من ناحية سائر أسباب الخيار، كما حكي عن المحقق الخراساني رحمه الله في حواشيه على المكاسب، فهو ممّا لا يمكن المساعدة عليه، بل اطلاق قوله: فإذا افترقا وجب البيع، يدلّ على اللزوم بعد الافتراق من جميع الجهات، فأدلّة خيار العيب والعين والحيوان والشرط وغير ذلك مخصصة له، ولا مانع من ورود هذه التخصيصات عليه بعد كون ما يبقى تحته أكثر وأوفر.

هذا، ولكنّ الإشكال العمدة في الاستدلال بهذه الرواية أنّها أخصّ من المدعى فإنّها مختصّة بأبواب البيع مع أنّ المقصود إثبات اللزوم في جميع المعاملات بالمعنى الأعم بيعاً كان أو غيره.

الثالث: الاستدلال بالإستصحاب

وممّا استدلّ به على أصالة اللزوم في المعاملات بالمعنى الأعم الاستصحاب فإنّه إذا شك بعد إجراء الفسخ في تأثيره في انفساخ المعاملة يستصحب بقاء آثارها، من الملكيّة للعين، أو المنافع، أو غيرهما من الآثار كعقد الزوجية وشبهها.

ولكن يورد عليه أمور:

الأول: عدم حجيّة الإستصحاب في الشبهات الحكمية على ما هو المختار، نعم، هذا الإشكال مندفع عند من يلتزم بحجية الإستصحاب مطلقاً، في الشبهات الحكمية والموضوعية.

أضف إلى ذلك أنّ الشكّ في لزوم المعاملة وإن كان ينشأ غالباً من الشكّ في حكم الشارع، ولكن قد يكون منشأ الشكّ الأمور الخارجية، فيكون من قبيل الشبهات المصداقية، كما إذا شك

أنّ الموهوب له ذو رحم أو غيره، أو أنّ الهبة كانت معوضة أو غير معوضة، فحينئذٍ يشكّ في لزوم المعاملة لا من ناحية حكم الشرع، بل من ناحية الموضوع الخارجي، فيتمسك فيه باستصحاب بقاء آثاره بعد إجراء الفسخ فتأمّل.

الثاني: قد يعارض هذا الإستصحاب باستصحاب بقاء علقة المالك على ملكه، ومن المعلوم أنّ استصحاب بقاء هذه العلقة حاكم على استصحاب بقاء الآثار عند الشكّ فإنّ الثاني مسبّب عن الأول.

ولكن يمكن الجواب عنه بأنّ معنى جواز العقد بالذات أو الخيارات العارضة عليه ليس بقاءعلقة المالك على ملكه، بل الجواز أو الخيار حكم مستقل شرعي، أو حقّ حادث بعد العقد، وحينئذٍ لا معنى لاستصحاب بقاء علقة المالك على ملكه.

وإن شئت قلت: ليس الملك اللازم والجائز نوعان أو صنفان من الملكيّة، بل الملكيّة أمر واحد، وإنّما التفاوت في أحكامها، فالملك الجائز هو الذي يجوز الفسخ فيه، والملك اللازم هو الذي لا يؤثّر فيه الفسخ، هذا مضافاً إلى ما قد يقال من أنّ التسبب هنا ليس شرعياً، فالحكومة باطلة، فتأمّل.

الثالث: وقد يعارض هذا الإستصحاب في خصوص البيع باستصحاب بقاء الجواز

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 299

الحاصل من خيار المجلس، فيقال: نعلم بأنّ الملك كان جائزاً قابلًا للفسخ عند كونهما في المجلس، وبعد افتراقهما يشكّ في بقاء هذه الحالة، فيستصحب بقاء الجواز.

وفيه أولًا: أنّ خيار المجلس يرتفع بصريح روايات الباب بعد إفتراقهما، وثانياً: عند الإفتراق ينقلب الموضوع إلى موضوع آخر، والإستصحاب مع عدم بقاء الموضوع باطل قطعاً.

وإن اريد الإستصحاب بنحو استصحاب الكلّي من القسم الثالث بأن يقال إنّ خيار المجلس قد ارتفع قطعاً، ولكن يحتمل حدوث حكم آخر بالجواز عند ارتفاعه أو مقارناً له، ولكنّ المحقق في محلّه عدم حجيّة استصحاب الكلّي من

القسم الثالث.

هذا كله مضافاً إلى أنّ خيار المجلس ينحصر بالبيع، ولا يجري في سائر العقود مع أنّ أصالة اللزوم عام في جميعها، بل وقد يكون البيع خالياً عن خيار المجلس، لاشتراط سقوطه من أول الأمر، أو غير ذلك. فهذا لا دليل فيه لو فرض صحته لكان أخصّ من المدّعى.

الرابع: بناء العقلاء على اللزوم

وممّا يمكن الاستدلال به على أصالة اللزوم في المعاملات هو بناء العقلاء الذي أمضاه الشارع بسكوته وتقريره، لا بل بامضائه بما عرفت من الآيات والروايات.

فإنّ بناءهم قد استقرّ على الحكم ببقاء آثار كلّ عقد إلّاأنّ يثبت حقّ الفسخ لأحد الطرفين، فلا يجوز عندهم فسخ البيع، ولا النكاح، ولا الإجارة، ولا غيرها، ما لم يثبت حقّ لأحد الطرفين على الفسخ، وبعبارة أخرى بقاء آثار المعاملات عندهم لا يحتاج إلى الدليل، بل هو مقتضى طبيعتها، والذي يحتاج إلى الدليل هو نفي آثارها وإلغائها، وما لم يكن هناك دليل، بقيت الآثار على حالها.

25 قاعدة البيّنة واليمين

اشارة

ومن القواعد المشهورة بين جميع علماء الإسلام قديماً وحديثاً قاعدة «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر» التي استدلّوا بها في أبواب القضاء كلّها بل هي الأصل الوحيد قبل كلّ شي ء في القضاء الشرعي الإسلامي، وهي التي استقرّ عليها عمل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في حياته، والأئمّة المعصومين عليهم السلام بعد وفاته صلى الله عليه و آله، وقضاة الشرع في أرجاء العالم الإسلامي طوال القرون والأعصار في كلّ مكان.

وهذه العبارة (البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر) وإن ترد بعينها في لسان الأدلّة إلّاقليلًا ولكنّ معناها ورد في روايات كثيرة نبوية، وغيرها، والعمدة بهذه العبارة «البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه».

واللازم التكلم هنا في مقامات:

1- في مصدر هذه القاعدة.

2- في معنى المدّعي والمنكر وملاكهما.

3- في ما يتفرع عليها ويستثنى منها أحياناً.

1- في مصدر هذه القاعدة
اشارة

هذه القاعدة وإن كان هناك إجماع علهيا الخاصّة والعامّة، بل هي كالضروريات في الفقه الإسلامي، ولكنّ العمدة في مصدرها هي الروايات العامّة التي تدلّ بعمومها على هذه القاعدة، والأحاديث الخاصّة الواردة في أبواب معينة، والتي يمكن اصطياد العموم من ملاحظة مجموعها.

أمّا الأول فهي عدّة روايات وردت من طرقنا وطرق المخالفين.

وممّا وردت من طرقنا هي عدة روايات

1- ما رواه جميل وهشام، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «البيّنة على من ادّعى واليمين على من ادّعي عليه» «1».

2- ما رواه بريد بن معاوية، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: سألته عن القسامة فقال:

«الحقوق كلّها البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه إلّافي الدم خاصّة» «2».

وسيأتي الكلام إن شاء اللَّه في استثناء حكم الدماء عن هذه القاعدة وشرائطها.

3- ما أرسله الصدوق قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه، والصلح جائز بين المسلمين إلّاصلحاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالًا» «3».

4- ما رواه أبوبصير، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إنّ اللَّه حكم في دمائكم بغيرما حكم فيه في أموالكم، حكم في أموالكم أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه، وحكم في دمائكم أنّ البيّنة على من ادّعى عليه واليمين على من ادّعى لئلا يبطل دم أمرى ء مسلم» «4».

5- ما رواه منصور، عن أبي عبد اللَّه عليه السلام في حديث تعارض البينتين في شاة في يد رجل، قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «حقها للمدّعي ولا أقبل من الذي في يده بيّنة، لأنّ اللَّه عزّ وجلّ إنّما أمر أن تطلب البيّنة من المدّعي فإنّ كانت له بيّنة، وإلّا فيمين الذي هو في يده، هكذا أمر اللَّه عزّ

وجلّ» «5».

6- وما رواه محمد بن سنان عن الرضا عليه السلام فيما كتب إليه من جواب مسائله في العلل: «والعلّة في أنّ البيّنة في جميع الحقوق على المدّعي، واليمين على المدّعى عليه ما خلا الدم، لأنّ المدّعى عليه جاحد، ولا يمكنه إقامة البيّنة على الجحود لأنّه مجهول» (الحديث) «6».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 305

7- ويشهد له ما دلّ على أنّ النبي صلى الله عليه و آله كان يطلب البيّنة من المدّعي في أول الأمر، فانّ لم يكن له بيّنة طلب اليمين من المدّعى عليه، مثل ما رواه علي بن عدي عن أبيه قال: «اختصم أمرى ء القيس، ورجل من حضرموت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في أرض فقال: ألك بيّنة؟ قال: لا، قال: فيمينه، قال: إذن واللَّه يذهب بأرضي قال: إن ذهب بأرضك بيمينه كان ممّن لا ينظر اللَّه إليه يوم القيمة، ولا يزكّيه، وله عذاب أليم، قال: ففزع الرجل وردّها إليه» «1».

8- ما رواه عثمان بن عيسى، وحمّاد بن عثمان، جميعاً عن أبي عبداللَّه عليه السلام في حديث فدك أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال لأبي بكر: «أتحكم فينا بخلاف حكم اللَّه في المسلمين؟ قال: لا، قال: فإنّ كان في يد المسلمين شي ء يملكونه ادّعيت أنا فيه، من تسأل البيّنة؟! قال إيّاك كنت أسأل البيّنة، على ما تدّعيه على المسلمين، قال: فإذا كان في يدي شي ء فادّعى فيه المسلمون تسألني البيّنة على ما في يدي وقد ملكته في حياة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وبعده؟ ولم تسأل المؤمنين البيّنة على ما ادّعوا علي كما سألتني البيّنة على ما ادّعيت عليهم؟- إلى أن قال- وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه و

آله: البيّنة على من ادّعى، واليمين على من أنكر» «2».

9- ما رواه في «دعائم الإسلام» عن أبي عبداللَّه عليه السلام، عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «البيّنة في الأموال على المدّعي، واليمين على المدّعى عليه» قال أمير المؤمنين عليه السلام: «والبيّنة في الدماء على من أنكر براءة ممّا ادّعى عليه، واليمين على من ادّعى» «3».

وهي وإن كانت مختصة بالأموال ولكن الظاهر أنّ المراد منها مطلق الحقوق ما عدا الدم الذي له حكم خاص في مسألة القضاء، وستأتي الإشارة إليه إن شاء اللَّه عن قريب.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 306

10- وما رواه في «عوالي اللآلي» عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر» «1».

إلى غير ذلك ممّا يعثر عليه المتتبع.

وأمّا من طرق العامّة فهي أيضاً عدّة روايات

1- ما رواه أحمد في مسنده عن ابن عباس أنّ رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه و آله فسأل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «المدّعي البيّنة، فلم يكن له بيّنة فاستحلف المطلوب» (الحديث) «2».

2- ما رواه ابن ماجة في سننه عن الأشعث بن قيس قال: «كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدمته إلى النبي صلى الله عليه و آله، فقال لي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: هل لك بيّنة؟ قلت: لا، قال: لليهودي: إحلف» (الحديث) «3».

3- ما رواه البخاري في صحيحه عن الأشعث بن قيس قال: «لفيّ واللَّه أنزلت قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لَاخَلَاقَ لَهُمْ» «4»

كانت بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فقال رسول

اللَّه صلى الله عليه و آله: شاهدك أو يمينه- الحديث-» «5».

دلّ على أنّ المعتبر في القضاء الشاهد، ولو لم يكن فيمين المدّعى عليه.

4- ما رواه البخاري مرسلًا في باب «اليمين على المدّعى عليه في الأموال والحدود» قال: قال النبي صلى الله عليه و آله: «شاهداك أو يمينه» «6».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 307

5- ما رواه في التاج عن الترمذي، عن عبد اللَّه بن عمر، عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه» «1».

6- ما رواه البيهقي عن ابن عباس قال: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «لو يعطى الناس بدعواهم لادّعى رجال دماء رجال وأموالهم، ولكنّ البيّنة على الطالب، واليمين على المطلوب» «2».

7- ما رواه البيهقي عن ابن عباس قال: أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «لو يعطى الناس بدعواهم لادّعى رجال أموال قوم ودماءهم ولكنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر» «3».

وفي معناه رواية أخرى عنه في نفس الباب.

8- وما رواه أحمد أيضاً عن وائل بن حجر قال: «كنت عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فاتاه رجلان يختصمان في أرض فقال أحدهما: إنّ هذا انتزى على أرضي يا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في الجاهلية، وهو أمرؤ القيس ابن عابس الكندي، وخصمه بيعة بن عبدان، فقال له:

بيّنتك؟ قال: ليس لي بيّنة، قال: يمينه» «4».

إلى غير ذلك ممّا لا يخفى على المتتبع.

أضف إلى ذلك كلّه الروايات الخاصّة الكثيرة الواردة في موارد معينة يمكن اصطياد العموم من مجموعها:

مثل ما ورد في أبواب الرهن، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام: «- إلى أنّ قال- البيّنة على الذي

عنده الرهن أنّه بكذا وكذا، فانّ لم تكن له بيّنة، فعلى الذي له الرهن اليمين» «5».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 308

وفي معناه روايات كثيرة أخرى مرويّة في ذاك الباب بعينه أو ما يليه من الباب (17) و (20).

ويؤيّد جميع ذلك ما روي بالطرق المتعددة عن أبي عبداللَّه عن كتاب علي عليهم السلام:

«أنّ نبيّاً من الأنبياء شكى إلى ربّه فقال: يا ربّ كيف أقضي فيما لم أر ولم أشهد؟

قال: فأوحى اللَّه إليه: احكم بينهم بكتابي، وأضفهم إلى اسمي فحلّفهم به، وقال: هذا لمن لم تقم له بيّنة» «1».

وفي معناه غيره، بل الظاهر أنّ قوله: «هذا لمن لم تقم له بيّنة» من كلام أمير المؤمنين علي أو الصادق عليهما السلام فيكون دليلًا على المطلوب.

والإنصاف أنّ هذه الروايات المرويّة بأسانيد مختلفة في أصول الشيعة والسنّة ربما تكون متواترة ويثبت بها المطلوب بدون أي شك.

2- من المدّعي ومن المنكر؟

قد عرفت أنّ هذه القاعدة حاكمة على جميع أبواب المنازعات، لا تختصّ بباب دون باب، ولكنّ الكلام بعد هذا في المراد من «المدّعي» و «المنكر» (كما في قليل من النصوص) أو «المدّعي» و «المدّعى عليه» (كما في أكثرها) وهو المهم في هذا الباب، ويتفرّع عليه فروع كثيرة.

واختلف الأصحاب في تفسيرهما، وقد ذكروا في تعريف المدّعي، الذي يستفاد منه مقابله، أموراً:

1- ما هو المحكي عن المشهور أنّ المدّعي هو الذي يترك لو ترك الخصومة- ذكره المحقق رحمه الله في «الشرائع» والعلّامة رحمه الله في «القواعد» وغيرهما.

2- «المدّعي» هو الذي يدّعي خلاف الظاهر، فمن ادّعى أنّ المال الذي في يد الآخر ماله لابدّ عليه من إقامة البيّنة، لأنّ قوله مخالف لظاهر اليد، وكذلك من يدّعي

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 309

إرادة المجاز من لفظ عقد أو وصيّة أو

غيرهما، ويطلب بذلك شيئاً، فعليه إقامة البيّنة.

ذكر هذا التعريف في القواعد، وظاهر كلامه أنّه موافق للتعريف الأول في المعنى والنتيجة.

3- المدّعي من يكون قوله مخالفاً للأصل، كمن يدّعي اشتغال ذمّة شخص بشي ء، مع أنّ الأصل براءته- ذكر ذلك أيضاً في «القواعد» و «الشرائع».

4- المدّعي هو الذي يدّعي أمراً خفيّاً، وهذا أخصّ من كثير من التعاريف السابقة- ذكر هذا التعريف أيضاً في «الشرائع»- أو أمراً خفيّاً يخالف الظاهر- كما هو المحكي عن الجمهور.

5- وعن «الدروس: المدّعي هو الذي يخلّى وسكوته، أو يخالف الأصل، أو الظاهر.

والظاهر كما ذكره جمع من المحققين أنّه ليس لهذا اللفظ حقيقة شرعيّة، بل ليس فيه مظنّة ذلك، فاللازم أن يحمل على معناه اللغوي والعرفي، وايكال أمره إلى العرف، ولعل التعاريف السابقة أيضاً ناظرة إلى تنقيح معناه العرفي، ولذا قد يرى في بعض كلماتهم الجمع بين تعريفين أو تعاريف متعددة، كما في «الشرائع» و «القواعد» مع أنّ بينها فرقاً ربما يتفاوت سعة وضيقاً.

نعم ظاهر كلام المحقق في تعريفه أنّ المدّعي هو الذي يترك لو ترك الخصومة، وقيل: هو الذي يدّعي خلاف الأصل أو أمراً خفيّاً، اختلاف الأقوال في المسألة، وقد يقال أنّ المنشأ في اختلاف القولين اختلاف قول الشافعي كما حكى عن الروضة للرافعي: «في معرفة المدّعي والمدّعى عليه قولان مستنبطان من اختلاف قول الشافعي في مسألة إسلام الزوجين، أظهرهما عند الجمهور أنّ المدّعي من يدعي أمراً خفياً يخالف الظاهر، والثاني من لو سكت خلّي وسكوته ولم يطالب بشي ء ... إلى أنّ قال:

ولا يختلف موجبهما غالباً، وقد يختلف كما إذا أسلم زوجان قبل الدخول، فقال الزوج: أسلمنا معاً، فالنكاح باقٍ، وقالت: بل على التعاقب ولا نكاح، فإنّ قلنا أنّ

القواعد الفقهية، ج 2، ص:

310

المدّعي من لو سكت ترك فالمرأة مدّعية، فيحلف ويستمر النكاح (أي يحلف الرجل) وإن قلنا بالأظهر فالزوج مدّع، لأنّ ما يلزمه خلاف الظاهر) (أي تقارن الإسلامين) وهي مدّعى عليها فتحلف (المرأة) ويرتفع النكاح- انتهى-» «1».

ولكن مع ذلك نرى الجمع بين التعاريف الثلاث في بعض كلمات العلّامة رحمه الله حيث قال: «المدّعي هو الذي يترك لو ترك الخصومة، أو الذي يدّعي خلاف الظاهر، أو خلاف الأصل» «2».

وظاهر هذه العبارة عدم الإختلاف بين مفاد هذه التعاريف.

والإنصاف رجوع الجميع إلى معنى واحد في الغالب كما ذكره السبزواري في الكفاية»

والمحقق القمي رحمه الله في «جامع الشتات» «4»، إنّما الكلام في موارد تظهر النتيجة بين هذه الأقوال كما ذكروه في مسألة إسلام الزوجين قبل الدخول، ودعوى الزوج التقارن في الإسلام يبقي الزوجية، والزوجة التعاقب لينفسخ، فالتقارن موافق للأصل، والتعاقب مخالف له، لأنّ أصالة تأخر الحادث تقتضي ذلك، لكنّ التعاقب هو الظاهر لندرة وقوع التقارن، فيختلف مورد التعريفين.

والإنصاف أنّه لا يهمّنا وجود القولين في المسألة كما يظهر من بعضهم، أو ثلاثة أقوال كما يظهر من بعض آخر أو رجوع الأقوال إلى واحد كما عرفت من بعضهم بعد عدم ورود دليل تعبدي في المسألة، ولزوم حمل الروايات المتضافرة أو المتواترة الواردة في لزوم البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه، على ما يستفاد من معنى هاتين اللفظتين عرفاً.

والحاصل أنّ المدّعى هو الذي يدّعى شيئاً من الآخر ويطلب منه، ويلزمه إقامة حجّة على مدّعاه، بحيث إذا لم تقم حجّة لا يقبل قوله، فهذا هو الذي يستفاد من

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 311

محتوى هذا اللفظ في العرف واللغة، ولعل التفاوت بين التعاريف كان أول الأمر من قبيل اختلاف التعبير، ثم حسبوا لزوم الجمود على هذه

التعابير، ومن هنا نشأ القولان أو الثلاثة أقوال أو أكثر، ولكنّ الأمر بحمد اللَّه ظاهر غبار عليه.

وعلى كلّ حال، المنكر أو المدعى عليه هو مقابل هذا، وهو الذي لا يطلب منه حجّة، ولا يؤخذ منه شي ء بدون إقامة البيّنة، نعم اليمين حق المدّعى عليه إذا لم تكن بيّنة.

تنبيهات
1- ما استثني عن هذه القاعدة

هناك موارد مستثناة من «قاعدة البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه» لا تطلب فيها البيّنة من المدّعي، بل قد تطلب من المنكر، ويكفي اليمين من المدّعي، وعمدتها مسألة الدماء، فإنّ المشهور بين الأصحاب، بل حكى الإجماع عليه، أنّه إذا كان هناك لوث في الدم (أي قرائن توجب الظن بارتكاب القتل من ناحية شخص أو أشخاص وفي هذا المقام يطلب من المدّعى عليه إقامة البيّنة على عدم القتل، فإنّ لم يقمها فعلى المدّعي الإتيان بقسامة خمسين رجلًا لإثبات مقصوده، وإن لم يفعل ذلك طولب المدّعى عليه القسامة كذلك، فإنّ أتى بها سقطت الدعوى عنه، وإلّا لزمه الدم.

وهذه المسألة على إجمالها مقبولة عند الأصحاب، وإن كان في بعض خصوصياتها إختلاف وكلام، والعمدة في ذلك الروايات المتضافرة الدالّة على أنّ الحكم في الدماء على خلاف الحكم في الأموال احتياطاً على دماء الناس.

1- مثل ما رواه بريد بن معاوية، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «سألته عن القسامة، فقال: الحقوق كلّها البيّنة على المدّعي ولا يمين على المدّعى عليه، إلّافي الدم خاصّة، فإنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بينما هو بخيبر إذ فقدت الأنصار رجلًا منهم وجدوه قتيلًا، فقالت الأنصار: إنّ فلان اليهودي قتل صاحبنا .. إلى أن قال- قال صلى الله عليه و آله: إنّما حقن دماء

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 312

المسلمين بالقسامة لكي إذا رأى الفاجر الفاسق

فرصة حجزه مخافة القسامة أن يقتل به، فكفّ عن قتله وإلّا حلف المدّعى عليه القسامة خمسين رجلًا ما قتلنا، ولا علمنا قاتلًا» (الحديث) «1».

2- ما رواه أبوبصير، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إنّ اللَّه حكم في دمائكم بغير ما حكم به في أموالكم، حكم في أموالكم أنّ البيّنة على المدّعي، واليمين على المدّعى عليه، وحكم في دمائكم «إنّ البيّنة على المدّعى عليه واليمين على من ادّعى» لئلا يبطل دم أمرى ء مسلم» «2».

3- ما رواه زرارة عن، أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إنّما جعلت القسامة احتياطاً للناس، لكيما إذ أراد الفاسق أن يقتل رجلًا أو يغتال رجلًا حيث لا يراه أحد، خاف ذلك فامتنع من القتل» «3».

إلى غير ذلك ممّا ورد في هذا الباب، وهو مستفيض، فيه روايات معتبرة معمول بها بين الأصحاب كما عرفت.

والظاهر أنّ هذا الحكم ليس معمولًا به بين العقلاء من أهل العرف، فلا يحكمون للمدّعي بمجرّد القسامة وشبهها، وإنّما المدار عندهم على البيّنات والشهود، والطرق القطعيّة أو الظنّية المعتبرة عندهم، والسرّ في ذلك أنّ الشارع المقدس له عناية خاصّة بحفظ دماء المسلمين، وليس عنده أمر أهم- بعد الإسلام- من حفظ النفوس والدماء- وقد مرّ عليك أنّه لو لزمت البيّنة حتى في الدماء، ولم تقبل قسامة تبطل دماء كثيرة، ولا يبقى مجال للقصاص عمّن قتل غيلة، فيكثر القتل اغتيالًا، لأنّه ليس هناك مشاهد وبيّنة تدلّ على جناية القاتل، فيسفك الفسّاق دماء الأبرياء، كما تُرى مصاديقه في العصر الحاضر.

ومن هنا حكم الشارع المقدس بأنّ المتهم بالقتل إذا كان هناك لوث أي أمارات

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 313

على اتّهامه مثل ما إذا كان القتيل على باب داره وكان بينهما خصومة، وشهد صبي مثلًا على

ارتكابه ذلك، أو ما اشبهه من أمارات التهمة، فعليه اقامة البيّنة على براءته، وإن لم يكن له بيّنة تقبل القسامة خمسون رجلًا يقسمون على وقوع القتل منه، ومن المعلوم أنّ قيام القسامة على القتل أيضاً مشكل، ولكنّ بابه مفتوح، وكفى بذلك تحذيراً للفاسق الفاجر عن قتل الأبرياء غيلة.

هذا، وللحكم بما ذكرنا شرائط كثيرة مذكورة في أبواب القصاص من الفقه فيما يثبت به القتل، وعلى كلّ حال هذا تعبدي يقتصر على القدر المتيقن من مورده ولا يتجاوز منه على غيره.

نعم هنا إشكال جدير بالذكر وهو أنّه إن كانت القسامة خمسين رجلًا يقسمون على أمر معلوم عندهم، فهذا يعود إلى الشهادة، وفي الشهادة يكفي اثنان من دون حاجة إلى أكثر منهما، فهل يفرض الكلام فيما إذا كانوا جميعاً من الفسّاق؟ وهذا أمر بعيد جدّاً لا سيّما مع ملاحظة روايات الباب، وأنّه ليس من هذا فيها عين ولا أثر، وقع ما يترآى من كون العدالة أمراً سهلًا في أحكام الشرع تثبت بحسن الظاهر.

والذي اخترناه لحل هذه المشكلة في «مباحث اللوث والقسامة» أنّ الحلف فيها وإن كان اللازم أن يكون عن علم، ولا يكفي مجرّد الظن، إلّاأنّ منشأ القطع فيه يمكن أن يكون مبادى ء حدسية وهي التي لا تكفي في الشهادة، فلذا أوجب الشارع فيها خمسين نفراً.

والدقّة في أخبار القسامة أيضاً يؤيّد هذا النظر، وأنّها في مورد لم يكن هناك شهود برأى العين وكان القتل غيلة، وشبهها، فعلى هذا تنحلّ العويصة، ولا تضاد أحكام القسامة أحكام الشهادة.

هذا مجمل الكلام في المسألة وتمامه في محله.

2- شرائط سماع الدعوى من المدّعي

قد ذكروا لسماع الدعوى من المدّعي شرائط كثيرة، أوصلها بعضهم إلى عشرة أو أكثر:

منها: كونه واجداً لشرائط التكليف مثل البلوغ والعقل.

ومنها: اعتبار الرشد فيه على

إشكال. ومنها: أن يكون ما يدّعيه على خصمه لنفسه، أو لموكله، أولمن له الولاية عليه بأحد أنواع الولاية أو يكون حاكماً في الحسبيات. ومنها: أن يكون ما يدّعيه أمراً ممكناً عقلًا وعادة، وجائزاً شرعاً. ومنها: أن يكون مورد الدعوى غير مجهول ولا مبهم، بل معلوماً بالنوع، والوصف، والقدر.

ومنها: أن تكون الدعوى صريحة في استحقاق المدّعي شيئاً. ومنها: أن يكون في مقابله خصم ينكر ما يدّعيه. ومنها: أن يكون دعواه عن بتّ وجزم.

ومنها: أنّه لابدّ من تعيين المدّعى عليه بشخصه ... إلى غيرذلك ممّا ذكروه.

ولكنّ الإنصاف أنّ جلّ هذه الأمور ليست من قبيل الشرائط الزائدة على ماهية الدعوى وصيرورة المدّعي مدعياً، بل أمور مستفادة من هذا المفهوم، وتحليل مغزاه بعينه، فمثل صراحة الدعوى (أو ظهوره) وكذلك كونه عن بتّ وجزم، لا عن احتمال وظن، معتبر في مفهوم الدعوى، فانّها بدونه لا تعدّ دعوى، وكذلك إذا كان ما يدّعيه أمراً غير ممكن عقلًا، فلا يعدّ عند العقلاء دعوى، وكذا إذا لم يكن في مقابله خصم.

وهكذا إذا لم تكن الدعوى لنفسه أو لمن إليه أمره، بل كانت غير مرتبطة به فإنّ هذا أيضاً لا يعدّ دعوى عند العقلاء، وهكذا غيره من أشباهه، فإذا ادّعى رجل حق رجل مظلوم وأقام الدعوى له يقال له: هذا أمر لا يعنيك حتى تدّعي، وإعانة المظلوم وإن كان حقاً ولكن في مسألة إقامة الدعوى لابدّ أن يكون من ناحية صاحبه، أو وكيله، أو الولي الفقيه، أو القاضي المنصوب عموماً، أو خصوصاً من قبله، نعم، إذا لم يكن هناك الحاكم الشرعي فيتصدّى لذلك عدول المؤمنين.

هذا، ولكنّ بعضها يمكن اعتباره شرطاً كالبلوغ، فيقال إنّ غير البالغ لا تجوز له إقامة الدعوى، بل المتصدّي له وليّه،

وكذا لارشد في الأمور المالية إذا كان مورد

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 315

الدعوى أمراً مالياً على القول باعتباره بعض الشرائط الأخر ممّا يكون أمره ظاهراً ودليله واضحاً لا يحتاج إلى مزيد تفصيل.

3- هل تشترط الخلطة أم لا؟

قد عرفت أنّ مدلول الأدلّة لزوم البيّنة على المدّعي أيّ شخص كان، واليمين على من ادّعي عليه كذلك، ولم يرد في شي ء من الأدلّة اعتبار وجود الخلطة بينهما حتى تحتاج في إقامة الدعوى إلى استفسار حالهما وأنّه هل يكون بينهما خلطة أم لا؟

وخالف في ذلك بعض فقهاء المالكية، وهو شاذ ضعيف، يردّه إجماع أهل العلم وتضافر الروايات على عدم هذا القيد بحكم الإطلاق فيها.

ولنعم ما قال الشهيد رحمه الله في «القواعد والفوائد» حيث قال: «كلّ من ادّعي على غيره سمعت دعواه، وطولب باليمين مع عدم البيّنة، سواء علم بينهما خلطة أم لا؟ لعموم قوله عليه السلام: «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر». وقوله عليه السلام: «شاهداك أو يمينه»، ولإمكان ثبت الحقوق بدون الخلطة، فاشتراطها يردّ إلى ضياعها، لأنّها واقعة وتعمّ بها البلوى، فلو كانت الخلطة شرطاً لعلمت ونُقلت» (انتهى) «1».

واحتج مشترط الخلطة «2» بأدلّة ضعيفة جدّاً.

منها: إيراد الحديث المعروف هكذا، «البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر إذا كان بينهما خلطة»!

وفيه: أنّ هذا حديث شاذ، مخالف لما رواه المحدّثون من الخاصّة والعامّة في كتبهم، وقد عرفت إيراد الحديث بطرق متواترة أو كالمتواترة ليس في شي ء منها هذا القيد، ولو كان لبان، وظهر ظهوراً تاماً لكثرة الإبتلاء به.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 316

واستدلوا أيضاً بأنّه لولا هذا الشرط لأجترأ السفهاء على ذوي المرّوات، فادّعوا عليهم بدعاوي فاضحات فانّ أجابوا افتضحوا، وإن صالحوا على مالٍ ذهب مالهم.

وهذا أضعف من سابقه، فإنّه معارض بأنّه لو اشترط الخلطة

لضاعت حقوق كثيرة لأنّه كثيراً ما تكون الحقوق في غير ذوي الخلطة.

هذا، مضافاً إلى ما نرى في الخارج من العمل بالروايات المعروفة مع عدم وجود ما ذكره من المحذور، ولو فرض وقوع ذلك نادراً لا يكون مانعاً عن الأخذ بالقواعد الكلّية، فكم من قاعدة كلّية يرد عليها مثل هذه النقوض في موارد جزئيّة.

وبالجملة هذا الشرط ضعيف في الغاية، ولذا لجأ بعضهم باستثناء اعتبار الخلطة في مواضع مثل الصانع، والمتهم بالسرقة، والوديعة، والعارية، وغير ذلك.

4- هل المدار في المدّعي والمنكر مصبّ الدعوى أو نتيجتها وغايتها؟

وقلّما وقع البحث عنه في كلماتهم مع أنّه من الأمور المبتلى بها في القضاء، وله أمثلة كثيرة:

منها: ما إذا تنازعا في أنّ العقد الواقع منهما كان بيعاً أو هبة، فالمالك للمثمن يدّعي كونه هبة، وغرضه إمكان الرجوع فيه، لأنّ الهبة جائزة، والأخذ يدّعي كونه بيعاً حتى يكون لازماً.

فانّ كان الملاك هو مصبّ الدعوى فلا شكّ أنّه من قبيل التداعي، لأنّ كلّ واحد منهما يدّعي أمراً مخالفاً للأصل، فكلّ منهما مدّع لأمر ومنكر لما يدّعيه الآخر، فرجع الأمر إلى التحالف وشبهه، من أحكام التداعي، وأمّا إن كان بالنظر إلى النتيجة والغرض، فالمدّعي للزوم العقد قوله موافق للأصل، لأنّ الأصل في العقود اللزوم، فيكون في الواقع منكراً، وأمّا المدّعي لكونه هبة فهو مدّع لأنّ قوله مخالف للأصل.

هذا إذا لم يكن نزاع في العوض، وأمّا لو كان المدّعي للهبة ناظراً إلى نفي الثمن عن ذمّته فقوله موافق لأصالة براءة ذمّته، فيكون منكراً وأمّا مدّعي البيع فهو يدّعي

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 317

شيئاً في ذمّة الطرف فهو مدّع، إلى غيرذلك من الأمثلة.

والحق أن يقال إنّ المدار على مصب الدعوى ما عرفت من أنّ المعيار صدق عنوان المدّعي والمنكر، أو المدّعي والمدّعى عليه، ومن المعلوم أنّه

في المثال كلّ واحد منهما مدّع، لا يعتنى إلى مآل هذه الدعوى ونتيجتها، أو غرض طرفي الدعوى، فليس على القاضي إلّاملاحظة الصدق العرفي بما عرفت من معنى المدّعي والمنكر بحسب ظاهر اللفظ وظاهر الحال وما يفهمه العرف من لفظهما، وأمّا الأغراض فهي أمور خارجة لا دخل لهما بهذا الأمر (واللَّه العالم بحقائق الأمور).

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 319

26 قاعدة تلف المبيع قبل قبضه

اشارة

من القواعد المشهورة في أبواب المعاملات قاعدة كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه ومعناها كما سياتي إن شاء اللَّه إنفساخ البيع عند تلف المبيع قبل اقباض البائع للمشتري ووجوب ردّ الثمن إليه، والكلام فيها في مقامات.

1- مستند القاعدة

اشارة

ويدلّ عليها أمور:

الأول: الإجماع

إتفاق أصحابنا عليها كما ادّعاه العلّامة رحمه الله في «التذكرة» حيث قال:

«لا خلاف عندنا في الضمان على البائع قبل القبض مطلقاً، فلو تلف حينئذٍ انفسخ العقد وسقط الثمن، وبه قال الشافعي، وأحمد في الرواية، وهو محكي عن الشعبي وربيعة، لأنّه قبض مستحقّ بالعقد، فإذا تعذّر انفسخ البيع، كما لو تفرّقا قبل القبض في الصرف، وقال أبو حنيفة: كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من ضمان البائع إلّاالعقار، وقال مالك: إذا هلك المبيع قبل القبض لا يبطل البيع، ويكون من ضمان المشتري، إلّا أنّ يطالبه به فلا يسلمه، فيجب عليه قيمته للمشتري، وبه قال أحمد وإسحق لقوله عليه السلام: «الخراج بالضمان» ونماؤه للمشتري فضمانه عليه» «1».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 322

وقال شيخ الطائفة رحمه الله في «الخلاف» في المسألة 243 من كتاب البيوع: «إذا تلف المبيع قبل القبض للسلعة بطل العقد، وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وقال مالك: لا يبطل، دليلنا: أنّه إذا باع فإنّه يستحقّ الثمن إذا قبض المبيع، فإذا تلف تعذّر عليه التسليم فلا يستحق العوض» «1».

ولا تهافت بين الكلامين، فيما نقل عن أبي حنيفة من استثناء العقار في أحدهما دون الآخر، لأنّ هذه من فروع المسألة.

وإدّعاه جماعة آخرون حتى ادّعى في «الرياض» تواتر نقل الإجماع على المسألة حيث قال: «فانّ تلف المبيع بعد ثبوته بإنقضاء الثلاثة كان من مال البائع إجماعاً تواتر نقله جدّاً» «2».

وقال في «مفتاح الكرامة»: «وإذا تلف المبيع قبل قبضه فهو من مال بائعه إجماعاً، كما عن السرائر، وكشف الرموز، وجامع المقاصد، والروضة، ويتناوله إجماع الغنية» «3».

وحكى الإجماع أو دعوى عدم الخلاف في موضع آخر عن جماعة آخرين.

وبالجملة، فإنّ المسألة غير خلافية عندنا، وإن خالف فيها بعض فقهاء

العامّة كا عرفت، وإن كان مجرّد الإجماع في أمثال هذه المسائل التي توجد فيها دلائل أخر غير كاف في إثبات المطلوب، ولكنّ مثل هذه الإجماعات يؤكّد المقصود تأكيداً تاماً.

نعم، قد يظهرمن بعض ما حكى عن المحقق الأردبيلي رحمه الله نوع ترديد في المسألة لولا الإجماع، حيث قال بعد كلام له في المسألة ممّاشاة للجماعة ما نصّه: «فتأمّل فإنّ الأمر مشكل لكون الملك للمشتري مثلًا قبل القبض في زمن الخيار على ما مرّ، وبعده، والبائع غير مقصرّ، والقاعدة تقتضي كونه من ماله» «4».

ولكنّ مثل هذا لا يعدّ خالفاً في المسألة كما هو ظاهر.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 323

لثاني: السنّة

العمدة في دليل المسألة هي عدّة روايات مرويّة عن النبي صلى الله عليه و آله وأئمّة أهل البيت عليهم السلام:

1- منها: الرواية المعروفة عنه صلى الله عليه و آله: «كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه».

وهذه الرواية وإن كانت مرسلة، وليست موجودة في أكثر كتبنا وكتب غيرنا، ولكنّها مشهورة معروفة.

نعم أخرجها في «المستدرك» عن «غوالي اللئالي» «1» ومن هنا قال في «مفتاح الكرامة» وضعف السند منجبر بعمل الكلّ، فقد طفحت عباراتهم بذلك في المقام وفي خيار التأخير «2».

وقال الفقيه الماهر صاحب (الجواهر) رحمه الله في المقام: للنبوي المنجبر بعمل الأصحاب كافة «كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه» «3».

ومن هنا يظهر ما في كلام صاحب الحدائق رحمه الله في بعض حواشيه على كتاب «الحدائق» في المسألة، حيث قال بعد نقل الرواية عن العلّامة رحمه الله في «التذكرة» ما نصّه:

«وهذا الخبر لم نقف عليه فيما وصل إلينا من كتب الأخبار، ووجه الايهام فيه قوله «من مال بائعه»، فإنّه دالّ على خروج ذلك عن ملكه بالبيع، فليس معنى

قوله «من ماله» إلّاباعتبار ضمانه مثله أو قيمته «4».

وسيأتي الكلام فيما أشار إليه من وجه الإيهام في الحديث.

2- منها: ما رواه عقبة بن خالد، عن أبي عبداللَّه عليه السلام: «في رجل اشترى متاعاً من رجل وأو جبه غير أنّه ترك المتاع عنده ولم يقبضه، قال: آتيك غداً إن شاءاللَّه، فسرق المتاع من مال من يكون؟ قال: من صاحب المتاع الذي هو في بيته حتى يقبض

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 324

المتاع، ويخرجه من بيته، فإذا أخرجه من بيته فالمبتاع ضامن لحقه حتى يردّ ماله إليه» «1».

والرواية وإن كانت ضعيفة لجهالة «عقبة بن خالد»، وكذا الراوي عنه «محمد بن عبداللَّه بن هلال»، ولكنّ الذي يسهّل الخطب عمل المشهور بها، بل قد عرفت أنّ مضمونها ممّا قد ادّعى تواتر الإجماع عليه، ولذا قال في «الرياض» مشيراً إليها وإلى الرواية السابقة: «وقصورهما سنداً منجبر بعمل الكلّ جدّاً، فهما بعد الإجماع مخرجان للحكم هنا عن مقتضى القاعدة المتقدمة القائلة بحصول الملكيّة بمجرّد العقد المستلزم لكون التلف من المشتري» «2».

وقال في «مفتاح الكرامة» مشيراً إليهما وضعف السند فيهما منجبر بعمل الكلّ، فقد طفحت عباراتهم بذلك في المقام ومبحث خيار التأخير «3».

3- و منها: ما رواه علي بن يقطين أنّه سأل أباالحسن عليه السلام عن الرجل يبيع البيع، ولا يقبضه صاحبه، ولا يقبض الثمن، قال: «فإنّ الأجل بينهما ثلاثة أيّام، فإنّ قبض بيعه، وإلّا فلا بيع بينهما» «4».

واستدلّ به السبزواري في «الكفاية» في كتاب البيع حيث قال: «ولو تلف المبيع كان من مال البائع بعد الثلاثة بلا خلاف أعرفه، وقبل الثلاثة على الأشهر الأقرب لظاهر «صحيحة علي بن يقطين»، مؤيّداً برواية عقبة بن خالد، وذهب المفيد والمرتضى وسلّار ومن تبعهم إلى أنّ

تلفه من المشتري نظراً إلى ثبوت الناقل من غير خيار» «5».

هذا، والرواية وإن كانت قويّة السند، ولكنّ الظاهر أنّه لا دلالة لها على ما نحن

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 325

بصدده، فإنّه لا نرى فيها ما يدلّ على حكم التلف في ثلاثة أيّام، بل السؤال والجواب عن حكم البيع عند عدم القبض والإقباض، من دون تعرّض لحكم التلف، فإذن لا يبقى من الروايات إلّاالأوليان اللتان أشرنا إليهما آنفا.

بقى هنا شي ء:

وهو أنّ ظاهر الخبرين الذين هما الأصل في المسألة: النبوي، ورواية عقبة بن خالد، أنّ التلف يتحقق في مال البائع، مع أنّ الملك ملك المشتري بحسب البيع الصحيح السابق، فمعنى هذا الكلام أنّه ينفسخ العقد آناً ما قبل التلف، وينتقل المبيع إلى ملك البائع، والثمن إلى ملك المشتري، فيكون تلف المبيع من مال بائعه، وإمّا أنّ الفسخ هل هو من حينه، أو من الأصل الذي تظهر ثمرته في النماءات المتخللة، فهو أمر آخر، سيأتي الكلام فيه، ولا دخل له بما نحن بصدده فعلًا، وإن كان يظهر من كلمات بعضهم أنّه وقع الخلط بينهما عنده.

قال في «مفتاح الكرامة»: «ومعنى كونه من مال بائعه أنّه ينفسخ العقد بتلفه من حينه، ويرجع الثمن إلى ملك المشتري، كما قد تشعر به رواية عقبة، وبه صرّح في المبسوط وما تأخر عنه ممّا تعرض له فيه، فلو كان قد تجدّد له نماء بعد العقد وقبل التلف فهو للمشتري- إلى أنّ قال- وحينئذٍ فيقدّر دخوله في ملك البائع قبل التلف آناً ما، ويكون التلف كاشفاً عنه» «1».

وقال في «التذكرة»: «إذا انفسخ العقد كان المبيع تالفاً على ملك البائع، فلو كان عبداً كان مؤونة تجهيزه عليه، وبه قال الشافعي، وهل يقدّر أنّه ينتقل الملك إليه

قبيل التلف، أو يبطل العقد من أصله؟ فيه احتمالان، وأصحّ وجهي الشافعية الأول» «2».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 326

وقد عرفت أنّ كون الفسخ من أصله أو من حينه لا ربط له بما نحن بصدده، والمقصود هنا أنّه يقع الفسخ على كلّ حال قبل التلف آناً ما، إمّا من أصله أو من حينه، فينتقل المال إلى البائع فيكون التلف في ملكه، وهل يترتب عليه سائر آثار الملك مثل ما ذكره العلّامة رحمه الله في عبارته السابقة عن «التذكرة» من كون مؤونة تجهيز العبد التالف على مالكه، أو يكون ثمرة إنتقال المال إلى البائع كون تلفه من ماله لا غير، فيه وجهان، والقدر المتيقن الثاني، وظاهر إطلاق الحديث الأول، فتأمّل.

إلى غير ذلك ممّا ورد في كلماتهم في هذا المجال، ونختم هذا البحث بما ذكره الشهيد الثاني رحمه الله في «المسالك» حيث قال: «المراد أنّه ينفسخ العقد بتلفه من حينه، ويرجع الثمن إلى ملك المشتري، فلو كان قد تجدّد له نماء بعد العقد وقبل التلف فهو للمشتري، وليس للمشتري مطالبة البائع بالمثل أو بالقيمة، وإن كان الحكم بكونه من مال البائع يوهم ذلك، وإنّما عبروا بذلك تبعاً للنصّ، والمراد منه ما ذكرناه، وحينئذٍ يقدّر دخوله في ملك البائع قبل التلف آناً ما، فيكون التلف كاشفاً عنه» «1».

وكلامه جيد بالنسبة إلى ما هو المقصود، أعني معنى كون التلف من مال البائع، ولكن يرد عليه أولًا: إنّ مسألة كون الفسخ من حينه أو من أصله لا دخل لها بما نحن فيه والخلط بين المسألتين غير جايز، و ثانياً: قوله أنّ النصّ يوهم جواز مطالبة البائع بالمثل أو القيمة غير صحيح، بل ظاهر هذا التعبير هو إنفساخ البيع، فتدبّر.

الثالث: بناء العقلاء في القاعدة

قد يدّعى أنّ

هذه القاعدة مقبولة عند العقلاء، وأنّ بناءهم على انفساخ العقد لو وقع التلف قبل القبض، وأنّه يرجع الثمن إلى المشتري، وأنّ الوجه فيه أنّ قوام المعاملة عندهم بالقبض والإقباض، وإن كان إنشاء العقد والمبادلة بين المالين قبل

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 327

ذلك كثيراً، فإذا سقط المثمن عن قابليّة القبض والإقباض وكونه بدلًا عن الثمن تنفسخ المعاملة قهراً، فيذهب من كيس صاحبه قبل المعاوضة.

هذا، ولكنّ كون بنائهم عليه غير ثابت، والاستدلال الذي ذكر غير كاف في إثبات المقصود، وإن شئت اختبر المسألة فيما إذا أدّى المشتري الثمن ولم يقبض المتاع بتأخير من البائع، (مع كون البيع شخصياً) لبعض الموانع، ثمّ ارتفعت قيمة المتاع بعد ذلك، فتلف عنده من دون أن تكون العين أمانة عنده، فكون البائع ضامناً للثمن فقط دون المتاع الذي ارتفعت قيمته أول الكلام.

وبالجملة، لو ثبت بناؤهم على ذلك في بعض الموارد فهو غير ثابت في الجميع، بل يمكن أن يكون بناؤهم في بعض الموارد من باب عدم تفاوت قيمة المتاع عن الثمن الذي أعطاه.

فالعمدة في المسألة ما عرفت من روايات الباب المؤيّدة بإجماع الأصحاب.

2- تنبيهات القاعدة

الأول: في حكم النماءات الحاصلة بعد العقد وقبل التلف

قال في «الجواهر»: «كيف كان فالنماء بعد العقد قبل التلف للمشتري، كما في المسالك وغيرها، بل قيل إنّه يظهر منه دعوى الوفاق عليه، لأنّه نماء ملكه، فالقاعدة واستصحاب الحالة السابقة يقضيان بأنّ الفسخ من حينه، فاحتمال كون الفسخ من الأصل كما عن التذكرة ضعيف، لكن في الرياض أنّه ينافي الفسخ من حينه ظاهره النصّ وفتوى الجماعة، فيحتاج إلى تقدير دخوله في ملك البائع آناً ما، ويكون التلف كاشفاً».

ثم قال: «قلت: قد لا يحتاج إلى هذا التقدير ويكون المراد من النصّ والفتوى أنّ حكم هذا التالف حكم ما لو كان

مالًا للبائع أي لا يستحق بالعقد ثمناً على المشتري» «1».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 328

وقال في «مفتاح الكرامة»: «ومعنى كونه من مال بائعه أنّه ينفسخ العقد بتلفه من حينه ويرجع الثمن إلى ملك المشتري، كما قد تشعر به رواية عقبة، وبه صرّح في «المبسوط»، وما تأخر عنه، ممّا تعرض له فيه، فلو كان قد تجدد له نماء بعد العقد وقبل التلف فهو للمشتري، كما هو مقتضى القاعدة واستصحاب الحالة السابقة، وظاهرهم أنّه لا خلاف فيه، وإن كان ظاهر النصّ والفتوى قد ينافيه، لكنّهم تأولوهما بما تسمعه» «1».

والمسألة مبنيّة على ما عرفت من كون الفسخ من حين التلف أو من أصله، فلو كان من حين التلف فلا شكّ في أنّ النماءات ملك للمشتري، لأنّ المفروض بقاء المتاع على ملكه إلى حين التلف وإلّا كان للمالك.

ويقرب منه ما ذكره في «الرياض»: «هل النماء بعد العقد قبل التلف بالآفة للمشتري أو البائع وجهان مبنيان على أنّ التلف هل هو أمارة الفسخ للعقد من حينه أو من أصله؟ ظاهر المسالك وغيره الأول مشعراً بدعوى الوفاق عليه، وهو مقتضى القاعدة واستصحاب الحالة السابقة، لكن ينافيه ظاهر النصّ، والعبارة كعبارات الجماعة، فيحتاج إلى تقدير دخوله في ملك البائع آناًما ويكون التلف كاشفاً عنه» «2».

وقال السبزواري في «الكفاية»: «إذا حصل للمبيع النماء كالنتاج وثمرة النخل كان ذلك للمشتري، قالوا فانّ تلف الأصل سقط الثمن عن المشتري، وله النماء، وهذا مبنيّ على أنّ التلف إنّما يبطل البيع من حينه» «3».

وحيث قد عرفت أنّه لا طريق لنا إلى الحكم في المسألة إلّامن طريق روايات الباب، فاللازم ملاحظة مفادها، نعم لو وصل الأمر إلى الشكّ فالقاعدة تقتضي كونها للمشتري لأنّ الملك كان ملكه، بمقتضى العقد فالنماءات

له، فما لم يقم دليل على خلافه فاللازم إلحاق المنافع به.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 329

فنقول: أمّا قوله صلى الله عليه و آله: «كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه» فلا دلالة فيه على شي ء من الأمرين، وكونه من مال البائع لا دلالة على أنّ الفسخ من أصله، بل لعلّه بمعنى أنّه بحكم مال البائع، أو أنّه يقع الفسخ قبل التلف آناً ما، فيعود الملك إلى البائع ويكون التلف من ملكه، فلا دلالة لها على شي ء.

وكذلك قول الصادق عليه السلام في رواية عقبة بن خالد بعد السؤال من أنّ المتاع إذا سرق من مال من يكون؟ قال: «من صاحب المتاع الذي هو في بيته حتى يقبض المتاع».

وبالجملة لا يظهر من روايات المسألة بالنسبة إلى النماءات شي ء، وقد عرفت أنّ القاعدة تقتضي كونها للمشتري.

نعم، لو دلّت رواية «علي بن يقطين» على القاعدة كان قوله «وإلّا فلا بيع بينهما» ظاهراً في الفسخ من أصله، ولكن قد عرفت عدم دلالتها على المطلوب.

الثاني: إذا حصل التلف بفعل البائع أو المشتري

ظاهر كلام غير واحد منهم في عنوان المسألة من تقييده بتلف سماوي أنّ هذا الحكم لا يجري إذا حصل الإتلاف من البائع أو المشتري أو أجنبي، وهو كذلك لقصور النصّ عن شمول مسألة الإتلاف، لأنّ العنوان فيه هو التلف، فاللازم الرجوع إلى مقتضى القاعدة، ومن الواضح أنّ مقتضاها كون المتلف ضامناً للمثل أو القيمة، إذا كان المتلف البائع أو الأجنبي، لأنّ المبيع دخل في ملك المشتري بمجرّد إنشاء البيع، ولا يكون القبض والإقباض شرطاً هنا.

وأمّا لو كان الإتلاف من المشتري فالظاهر أنّه بحكم قبض المتاع، لأنّه هو الذي أخرجه من قابلية القبض والإقباض، وقد إدّعى عدم الخلاف في ذلك لأنّه قد ضمن ماله بإتلافه.

الثالث: إلحاق تلف الثمن قبل قبضه بتلف المبيع

وقع الكلام بينهم في اختصاص هذه القاعدة بالمبيع أو شمولها للثمن أيضاً.

ظاهر كلام غير واحد منهم العموم، بل قد يدّعى عدم الخلاف فيه، بل قد يشعر بعض كلماتهم بالإجماع.

قال في «مفتاح الكرامة»: «ثم إنّ ظاهر العبارات في البابين، ومقتضى الأصل، وظاهر النبوي أن تلف ثمن المعيّن قبل قبضه يكون من مال البائع، لأنّه صار ماله بالعقد على عينه، لكنّ ظاهر مجمع البرهان أنّه كالمبيع، وأنّه لا خلاف فيه، قلت: قد صرّحوا بذلك في باب الشفعة، بل ظاهرهم هناك الإتفاق على ذلك من دون تأمّل ولا إشكال، وقال في مجمع البرهان أنّ في خبر عقبة إيماء إلى التعميم في البائع والمشتري ويمكن إرادة المشتري من البائع في النبوي فإنّه لغة يطلق عليهما ولا يضرّ عدم صحّة السند لعدم الخلاف في العمل والقبول على الظاهر» إنتهي «1».

وقال في «الرياض»: «إنّ مقتضى الأصل، واختصاص ظاهر الفتاوى والنصّ بالبيع، كون الحكم في تلف الثمن تلفه من مال البائع لأنّه صار بالعقد ماله، فيجب أن يكون

التلف منه، إلّاأنّ ظاهر بعض الأصحاب إلحاقه بالأول، مشعراً بدعوى الوفاق عليه، وعلى إرادته من المبيع، وإرادة المشتري من البائع، إلتفاتاً إلى صدقهما عليهما لغة» «2».

هذا، ولكن لا ينبغي الإشكال في أنّ مقتضى إنتقال الثمن بمجرّد العقد إلى ملك البائع أنّه إذا تلف تلف من ملكه، ومن يدّعي كونه من ملك المشتري لابدّ له من إقامة الدليل على انفساخ العقد آناً ما، من حينه أو من أصله، وبدون إقامة الدليل لا يمكن المصير إليه.

وغاية ما يستدلّ به للعموم، فيما عرفت من كلماتهم وغيرها أمور:

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 331

1- شمول النبوي «كلّ بيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه» للبائع والمشتري والثمن والمثمن بناءاً على صدق هذا العنوان على كليهما كما إشار إليه غير واحد منهم.

ولكن الإنصاف أنّه مخالف للظاهر جدّاً، لا يمكن المصير إليه من دون قرينة.

2- شمول رواية «عقبة بن خالد» له فإنّ قوله عليه السلام في ذيل الرواية: «فإذا أخرجه من بيته (أي أقبض البائع المتاع) فالمبتاع ضامن لحقّه حتى يرد ماله إليه» أنّ المشتري ضامن للثمن بعد قبض المثمن.

وأورد عليه بأمور: أحدها: أنّ رواية «عقبة» إنّما تدل بعد القبض.

وثانيها: أنّه يمكن حملها على كون الثمن كلياً كما هو الغالب، والضمان أعمّ من الإنفساخ الحاصل بتلف المبيع.

ثالثها: أنّه لا جابر لهذه الرواية الضعيفة بالنسبة إلى ذلك (وإن تمّت دلالتها بالنسبة إلى المبيع لانجبارها كما عرفت) «إنتهى» «1».

هذا، ولكنّ العمدة من إشكالاته هو الإشكال الأول لأنّ كون الثمن كلياً خلاف ظاهر الحديث جدّاً، لأنّه لا معنى حينئذٍ لضمان المشتري لحق البائع حتى يردّ ماله إليه، فإنّ هذا كالصريح في كون الثمن شخصياً، بل لا يتصور التلف في الثمن الكلّي، وكذا التفكيك في العمل

بين الفقرتين مشكل، بل قد يظهرمنهم العمل بهما كما عرفت.

ولكن هنا «إشكال آخر» يرد على الاستدلال بالرواية، وهو أنّ كون المشتري ضامناً لحقّ البائع حتى يردّ ماله إليه لا يدلّ على كون تلف الثمن من ماله، ليكون ملازماً للفسخ من حينه أو من الأصل، بل لعلّ الضمان هنا إنّما هو بالمثل أو القيمة، والوجه فيه عدم العذر للمشتري بعد قبض المتاع في تأخير أداء الثمن.

فالاستدلال بهذه الرواية ضعيف أيضاً.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 332

3- «إلغاء الخصوصية» عن حكم المثمن وتنقيح المناط فيه بأن يقال: إنّ العلّة لإنفساخ البيع إنّما هو عدم إستحكامه قبل القبض، وهذا أمر مشترك بين الثمن والمثمن، والإنصاف أنّ هذا أيضاً تخرّص على الغيب، وقول بلا دليل.

نعم، قد يقال: إنّ المسألة عقلائيّة، ولا فرق عندهم بين الثمن والمثمن في ذلك، ولكن قد عرفت عدم ثبوت هذه الدعوى، فإذن لا يسعنا إلحاق الثمن بالمثمن، فيبقى الحكم على الأصل، وهو كون تلفه من مال البائع إذا لم يكن من ناحية المشتري تقصير، وإلّا فهو ضامن له بمثله أو قيمته (واللَّه العالم).

الرابع: هل القاعدة تختصّ بباب البيع أو تشمل سائر المعاوضات أيضاً؟

لم نر في كلماتهم ذكراً له إلّانادراً وأدلّة المسألة أيضاً خاصّة بالبيع من دون فرق بين النبوي المشهور وما رواه عقبة بن خالد، والإجماع.

نعم، ذكر شيخنا الأعظم رحمه الله في مكاسبه: «أنّهم ذكروا في الإجارة والصداق وعوض الخلع ضمانها لو تلف قبل القبض، لكنّ ثبوت الحكم عموماً مسكوت في كلماتهم، إلّا أنّه يظهر من بعض مواضع التذكرة عموم الحكم لجميع المعاوضات».

وعلى كلّ حال لا دليل على التعميم وما قد يقال إنّ مصدر المسألة هو بناء العقلاء وهو عامّ فقد عرفت ما فيه.

نعم، بالنسبة إلى العقود القائمة بالمنافع (مثل الإجارة) إذا تلفت العين المستأجرة فلا

شكّ في بطلان الإجارة، وكذا إذا كانت العين باقية، ولكن تلف المنافع قبل قبضها لمانع حصل من القبض، كوقوع العين في معركة القتال، أو في وسط السيل، أو غير ذلك، فلا يبعد الحكم بالإنفساخ، لبناء العقلاء عليه في خصوص هذه الموارد، ولكن مع ذلك لا يمكن استفادة الحكم منها كلياً، فتأمّل.

27 قاعدة تبعية العقود للقصود

اشارة

من القواعد المعروفة المتداولة بين أصحابنا (رضوان اللَّه عليهم) قاعدة تبعيّة العقود للقصود.

وهذه القاعدة على إجمالها مجمع عليها بين الأصحاب، بل بين علماء الإسلام جميعاً، بل وغيرهم من العقلاء في كلّ عرف وزمان، فهم بأجمعهم قائلون بتبعيّة العقود، بل الإيقاعات أيضاً، لما يقصده العاقدون، فلا إشكال في شي ء من ذلك، وإنّما الكلام في بعض خصوصيات المسألة وما يتصور أنّه كالإستثناء بالنسبة إليها، فهو العمدة والمقصود في هذا الباب.

والكلام هنا يقع في مقامات:

المقام الأول: في محتوى القاعدة

ذكر «في العناوين»: «أنّ هذه القاعدة محتملة لأمرين ليس بينهما منع جمع:

أحدهما: أنّ العقد تابع للقصد، بمعنى أنّه لا يتحقق إلّابالقصد، كما ذكره الفقهاء في شرائط العقود، مع الشرائط الآخر، بمعنى أنّه لا عبرة بعقد الغافل، والنائم، والناسي، والغالط، والهازل، والسكران، فيكون معنى التبعيّة عدم تحققه بدونه إذ لا وجود للتابع بدون متبوعه.

ثانيهما: أنّ العقد تابع للقصد بمعنى أنّ العقد يحتاج إلى موجب وقابل، وعوض

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 336

ومعوض، وبعد حصول هذه الأركان لكل عقد أثر خاص» (إنتهى).

ولكنّ الظاهر أنّ المراد من هذه القاعدة معنى ثالث، وحاصله أنّه بعد الفراغ عن لزوم القصد في العقود بما ذكر في محله من الدليل، أنّ ما يتحقق في الخارج من حيث نوع العقد وكمّه، وكيفه، وشرائطه، وغير ذلك من خصوصياته، تابع للقصد، فلو قصد النكاح وقع نكاحاً، ولو قصد العارية وقعت عارية، ولو قصد هبة كانت هبة، كما أنّه لو قصد على أمرأة معيّنة بصداق معين وأجل وشروط وغير ذلك، فكلّ هذه الأمور تابعة لقصد الموجب والقابل، فهذا هو المراد بتبعيّة العقود للقصود، وأمّا مسألة اعتبار القصد في مقابل الهازل، والغالط وغيرهما فهو أمر آخر.

وبعبارة أخرى، أنّ حاجة العقد في تحققه إلى القصد أمر، وتبعيته

في أصوله وفروعه للقصد أمر آخر، كما يعرف بمراجعة كلام الأصحاب عند الاستدلال بهذه القاعدة، وقد تنبه له صاحب العناوين وغيره أيضاً في سائر كلماتهم في المقام.

ومن هنا يعلم أنّه لا يتفاوت فيه بين البيع، والنكاح، والعقود اللازمة، والجائزة، بل الإيقاعات أيضاً كذلك، فلو طلّق أمرأة خاصّة أو أوقف شيئاً (بناء على كون الوقف من الإيقاعات) كان تابعاً لقصد الموقع من جهة خصوصياتها.

بل الظاهر أنّ هذه القاعدة لها مفهوم ومنطوق، فكلّ ما قصده يقع، وكلّ ما لم يقصده فهو غير واقع، ومن هنا اشتهر بينهم في موارد الحكم بابطال عقد لم يتحقق مضمونه، بل تحقق غيره بدعوى الخصم، «أنّ ما قصد لم يقع، وما وقع لم يقصد»، فهذه القضية صحيحة من الجانبين، فمقتضى القاعدة أنّ ما يقصده المتعاقدان يقع في الخارج كما أنّ مقتضى القاعدة أنّه لا يقع ما لم يقصداه، فلو ادّعى مدّع خلافهما كان محجوباً بالقاعدة.

المقام الثاني: مصدر قاعدة تبعيّة العقود للقصود

قد يتمسك لها بالإجماع، وبأنّ الأصل في العقود الفساد، إلّاما خرج بالدليل،

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 337

ويظهر الاستناد إلى هذين من المحقق النراقي قدس سره في «عوائده»، وصاحب العناوين في «عناوينه»، وبعض من تأخر عنهما، وإن استدلّوا أيضاً ببعض ما سنتكلم فيه إن شاء اللَّه.

ولكنّ الإنصاف أنّ شيئاً منهما غير تام، لأنّ دعوى الإجماع في هذه المسائل التي فيها مصادر معتبرة أخرى يمكن إستناد المجمعين إليها غير مفيد كما عرفت مراراً.

بل إنّ هذه القاعدة لا زالت معروفة حتى قبل الإسلام، ولمّا جاء الإسلام أمضاها، فهي ليست قضيّة تعبّدية متّخذة من النّبي صلى الله عليه و آله والأئمّة المعصومين عليهم السلام.

بل لا حاجة إلى الأصل هنا، لأنّه في مورد الشك، ومن المعلوم أنّه لا شك في تبعيّة العقد للقصد،

فإذا كان في المسألة دليل عمليً قطعي فلا معنى للرجوع إلى الأصول.

كما أنّ الإستدلال عليها بأنّ «الأعمال بالنيّات» و «لا عمل إلّابالنيّة» كما عن بعضهم فاسد أيضاً.

قال في «العناوين»: «ويمكن أن يتمسك في هذه المقام بمثل قول: «لا عمل إلّا بالنيّة» و «إنّما الأعمال بالنيّات»، فإنّ ظاهر الروايتين أنّ ماهية العمل من دون نيّة غير متحققة، فإمّا أن يحمل على معناه الحقيقي الظاهر، وتكون الأعمال التي تتحقق بغير قصد خارجة عن العموم، وإمّا أن يحمل على نفي الصحة، لأنّه أقرب المجازات، فيكون المراد عدم الصحة إلّابالنيّة، ولا ريب أنّ عموم الأعمال يشمل العقود والإيقاعات أيضاً، فيدلّ على أنّها لا تصحّ بدون القصد» (إنتهى موضع الحاجة).

ويرد عليه أنّ الأعمال في هذه الأحاديث عامّ لا يختصّ بالأمور القصدية، بل يشمل العبادات بالمعنى الأخص والأعم، وكما تشمل الصلاة والزكاة، كذلك الجهاد وسائر الواجبات والمستحبات، بل سيأتي أنّ بعض هذه الأحاديث ورد في مورد الجهاد وإن كان مفهومه عاماً.

وحينئذٍ فالظاهر أنّ المراد منها هو تبعيّة ثواب العمل بنيّة القربة والإخلاص، فلو أخلص نيّته كان عمله لابتغاء وجه ربّه كان له أجره، ولو عمل لا لابتغاء وجه اللَّه كان

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 338

العمل تابعاً لنيّته ولا يترتب عليه أي أجر إلهي.

ويشهد لذلك ما رووه عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في حديث قال: «إنّما الأعمال بالنيّات، ولكلّ أمرى ء ما نوى، فمن غزى ابتغاء ما عند اللَّه فقد وقع أجره على اللَّه عزّ وجلّ، ومن غزى يريد عرض الدنيا أو نوى عقالًا لم يكن له إلّاما نوى» «1».

وروى في «المجالس» صدر هذا الحديث هكذا: «أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أغزى علياً عليه السلام في سرية

فقال علي عليه السلام: لعلّنا نصيب خادماً أو دابّة أو شيئاً يتبلّغ به فبلغ النبي صلى الله عليه و آله قوله فقال: إنّما الأعمال بالنيّات»»

...

ويشهد له أيضاً ما رواه أبو عثمان العبدي، عن جعفر، عن أبيه، عن علي عليه السلام: قال:

«قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: لا قول إلّابعمل ونيّة، ولا قول وعمل إلّابنيّة» «3».

وكذا ما رواه أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «لا يقبل قول إلّابالعمل، ولا يقبل قول وعمل إلّابنيّة، ولا يقبل قول وعمل ونيّة إلّاباصابة السنّة» «4».

فإنّ التعبير بعدم القبول ظاهر فيما ذكرنا من عدم الأجر.

وبالجملة، أحاديث النية التي مرّت الإشارة إليها إنّما هي ناظرة إلى القبول الإلهي، وترتّب الثواب، ومسألة الإخلاص، ولا دخل لها بتبعيّة المعاملات للقصود.

وتلخص أنّ شيئاً من ذلك لا دخل له بهذه القاعدة، بل العمدة فيها بعد بناء العقلاء بأجمعهم.

أمر آخر هو: أنّ العقود والإيقاعات أمور قصديّة، بل القصد قوامها، وداخل في هويتها، وبعبارة أوضح: أنّ حقيقة العقود والإيقاعات، عبارة عن أمور اعتبارية إنشائيّة، ومن الواضح أنّ الإنشاء والإعتبار قائم بقصد المعتبِر، وهو كالإيجاد في عالم التكوين، فكما أنّ الخالق تعالى شأنه يوجد الأشياء بإرادته، وإذا أراد شيئا فإنّما يقول

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 339

له كن فيكون، فكذلك المعتبِر في عالم الاعتبار، فهو بحول اللَّه وقوته يعتبر الأمور الاعتبارية وينشؤها، فلولا القصد لم يكن منها عين ولا أثر.

أضف إلى ذلك أنّ العقد، هو «الإلزام» و «الالتزام» وماهيّة الالتزام هو قبول شي ء وجعله في عهدته، وهل يمكن قبول شي ء بلا قصد؟

فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّا لا نحتاج في هذه المسألة إلى التمسّك بالأصل، لأنّ الأصل إنّما يحتاج إليه في موارد الشكّ وليس هنا

شكّ، لأنّه لا يتصور وجود العقد بدون القصد، وكذلك كيفيته وأركانه وشرائطه تتبع القصود، لأنّ شيئاً يكون قوامه بالقصد فإنّ، جميع خصوصياته أيضاً تنشأ منه لا محالة، فتمسّك بعض الأعيان بأصالة الفساد هنا لم يظهر له وجه.

كما قد ظهر أيضاً أنّه لا يمكن التمسّك في هذه المسألة بالإجماع، لأنّه ليست قضيّة متّخذة من الأئمة الطاهرين عليهم السلام بل هي مبنيّة على بناء العقلاء، بل هي مقتضى حكم العقل الممضى من قبل الشارع المقدس.

كما أنّ الاستدلال عليها بأنّ الأعمال بالنيّات أيضا أجنبي عن موضوع البحث لما أشرنا إليه آنفا.

وبالجملة، فهذه المسألة أوضح من أنّ تحتاج إلى مزيد بحث بعد وضوح قيام العقود في وجودها وهويتها وذاتها بالقصد.

تنبيهات

الأول: الحاجة إلى القصد إنّما هي في موضوع العقد لا في حكمه

قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ العقود تتبع القصود في تحقق موضوعها، لا في أصل العقد فقط، بل في جميع أركانها، وشرائطها، وخصوصياتها، فالبيع يتبع القصد في أصله، وفي المتعاقدين، والثمن والمثمن، وما يتبعها من الشروط، وكما أنّ وقوع عقد بعنوان البيع أو الهبة يتبع القصد، فكذلك وقوعه لزيد أو لعمرو، وعلى هذه العين أو

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 340

تلك العين، ومع هذا الشرط أو غيرها، من الشرائط كلّها تتبع القصود لعين ما مرّ من الدليل.

ولكن إذا تحقق الموضوع تترتب أحكامه عليه سواء قصدها، أم لم يقصدها مثل حكم الشارع بخيار المجلس، والعيب، والحيوان، وغيرها، وكذلك حكمه بلزوم الأرش في بعض الموارد، وكون ضمان المثمن على البائع قبل إقباضه وغير ذلك من الأحكام لا ترتب على قصد المتبايعين لها، بل لو كانوا جاهلين بهذه الأحكام أو عالمين بخلافها تترتب عليها بلا ريب.

وكذلك إذا لم يعلم الزوج أحكام النفقة، والزوجة مثلًا بعدم جواز خروجها عن بيتها من دون إذن زوجها، وكذا أحكام

الإرث وغيرها لزمهما هذه الأحكام من دون حاجة إلى قصدها.

والسرّ في جميع ذلك أنّ الحاجة إلى القصد إنّما هو في قوام العقد وتحققه، وأمّا الأحكام فهي أمور أخرى ترتبط بالشارع وإرادته، ولا دخل لقصد العاقد فيها أبداً، والأمر واضح.

الثاني: العقود إنّما تتبع القصود حدوثا لا بقاءا

قد عرفت أنّ العمدة في قاعدة تبعيّة العقود للقصود إنّما هو من ناحية تقوّمها بالاعتبار والانشاء والقصد، ومن الواضح أنّ قوامها بها إنّما هو في حدوثها، فإذا تحقق الإنشاء والاعتبار، وأصبح العقد جدّياً بخصوصياته في عالم الاعتبار، فكان له وجود اعتباري في هذا الوعاء، كوجود الأشياء الخارجية بعد تحققها.

ولكن بينهما فرق ظاهر، فإنّ الأشياء في عالم التكوين كما تحتاج إلى خالقها وباريها حدوثاً، تحتاج إليه بقاءاً، على ما هو التحقيق في محلّه من حاجة الممكن إلى الواجب في جميع مراحل وجوده، وفي جميع، مراتب عمره، لأنّها بذاتها وجودات ربطية ومتعلقة بذاته تعالى، فلو انقطع فيض الوجود فيها آناً ما انعدمت بأجمعها،

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 341

ولكنّ الأمور الاعتبارية إذا حدثت من ناحية المتعاقدين، فهي غير محتاجة إليهما في بقائها، بل لو قصدا الخلاف بقاءاً لم يؤثّر شيئاً إلّافي موارد لهما حق الفسخ والخيار.

وإن شئت قلت: إنّ حدوثها بيد المتعاقدين وبقائها إنّما هو باعتبار العقلاء، فإنّهم يعتبرون بقاءها وإن قصدا المتعاقدان خلافه، وهذا أيضاً ممّا لا يحتاج إلى مزيد بحث.

الثالث: تبعيّة العقود للقصود إنّما هي في مقام الثبوت لا الإثبات

مقتضى ما عرفت من الدليل في هذا الباب أنّ التبعيّة إنّما هي تبعيّة ثبوتية، لأنّ تقوّم العقد بالقصد والاعتبار إنّما هو بحسب نفس الأمر والواقع، وأمّا لو ادّعى البائع أو المشتري أو غيرهما أنّه قصد كذا وكذا، لا يقبل منهما إلّاما وافق ظاهر اللفظ، فلو كان ظاهر اللفظ أو صريحه، أو مقتضى إطلاقه بمقدمات الحكمة، أو ما ينصرف إليه شيئاً، وادّعى أحدهما غيره، لا يقبل منه، لأنّ طريق الوصول إلى القصود في مقام الإثبات إنّما هو ظواهر الألفاظ المعتبرة عند أهل العرف والعقلاء، التي أمضاها الشرع، فمن إدّعى خلافها فعليه الإثبات وإقامة الدليل، ولو لم يأتِ بشي ء

يؤخذ بظاهر لفظه، ويكون حجّة عليه شرعاً، فالطريق الوحيد للوصول إلى المقاصد عند وقوع الخلاف فيها إنّما هو هذه الظواهر لا غير.

نعم، إذا كان المعنى ممّا لا يعلم إلّامن قبل القاصد له، فلا محيص عن قبول قوله، كما إذا كان وكيلًا عن شخصين في بيع أو شراء أو نكاح أو إجارة أو غيرها، ثم أنشأ العقد على شي ء فادّعى أنّه قصد هذا الموكلّ أو ذاك، فلا شك في قبول قوله، لأنّه من قبيل ما لا يعلم إلّامن قبله، فلا يعتنى بدعوى أحد الوكلين بأنّه كان مقصوداً بالمعاملة أو كان غيره مقصوداً، بل المدار على قول الوكيل.

الرابع: النقوض التي أوردت على هذه القاعدة

وقد يورد على القاعدة نقوض كثيرة لابدّ من التأمّل فيها وأنّها استثنائات من القاعدة- فإنّ باب الاستثناء والتخصيص واسع، ولا يمتنع في الشرع أو العقل إلزام إنسان بشي ء لم يقصده لمصالح خاصّة- أو أنّها بظاهرها استثنائات، ولكنّها في الواقع من قبيل التخصص والخروج موضوعاً، أو أصل النقض باطل والقاعدة باقية على عمومها؟

وهي أمور:

1- بيع الغاصب لنفسه: فإنّ المشهور كما حكى عنهم صحته ووقوع المعاملة للمالك بعد إجازته، مع أنّه قصد البيع لنفسه، فما قصده لم يقع وما وقع لم يقصد.

قال في «العناوين» قد ذكر بعض الفقهاء منهم المحقق، أنّه لو دفع المشتري عين مال لغيره ثمناً عن مبيع وقصد الشراء لنفسه، أو دفع البائع عين مبيع لغيره وقصد البيع، وتملّك الثمن لنفسه ... فانّه تصير المعاوضة على مالكي العوضين، دون ذلك الغير المقصود.

ثم قال: وعللّه المحقق الثاني بأنّ قاعدة المعاوضة إنتقال كلّ من العوضين إلى مالك عوض الآخر، لا إلى غيره، وإلّا فخرج عن كونه معاوضة.

ثمّ أجاب هو نفسه عن هذا الإشكال بوجوه خمسة جلّها أو كلّها ممّا لا

يروي الغليل «1».

والعمدة في الجواب أن يقال: لا شكّ أنّ حقيقة المعاوضة دخول كلّ من العوضين في ملك مالك آخر، والغاصب إنّما يقصد ملك العوض لنفسه بعد دعوى كونه مالكاً للمعوض، فبالملكيّة الإدعائية الحاصلة من سلطته على العين غصباً يرى نفسه مالكاً، ثم يقصد المبيع لنفسه، ففي الحقيقة أنّه يقصد وقوع البيع لمالك العين، ولكن حيث يرى نفسه مصداقاً للمالك، يقصد البيع لنفسه، فهو من بعض الجهات يشبه الخطأ في التطبيق.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 343

ومن هنا يظهر أنّه ليس هذا نقضاً على القاعدة ولا إستثنائاً منها.

ولمسألة بيع الغاصب الفضولي جهات أخر من البحث ليس هنا موضع ذكرها.

2- وقد نقضت أيضاً بعقد المكره بعد لحوق الرضا: فإنّ المشهور بين المتأخرين أنّه لو رضى المكره بما فعله صحّ العقد، بل عن «الرياض» تبعاً للحدائق أنّ عليه إتفاقهم، مع أنّ المكره غير قاصد لمضمون العقد، والرضا اللاحق ليس عقداً جديداً، فما وقع لم يقصده.

وبعبارة أخرى: المكره كالهازل قاصد لللفظ دون المعنى، فكيف يصح عقده بلحوق الرضا، مع أنّه لا يصح عقد الهازل، وإن رضي بعد ذلك وأجاز.

والعمدة في الجواب عنه كما ذكره غير واحد من المحققين: أنّ عقد المكره لا يخلو عن القصد، بل هو قاصد للفظ والمعنى كليهما، وإن كان عقده خالياً عن الرضا، وبالجملة يعتبر في صحة العقد أمران: الإنشاء الجدّي، والرضا بمفاده، وهما ما ذكره تعالى في قوله: «تجارة عن تراض»، والركن الأول موجود في عقدالمكره، وإنّما المفقود هو الثاني، فاذا تحقق تمّ الأمران، وحيث لا يعتبر التقارن بين الإنشاء والرضا يكفي لحوق الرضا لعقد المكره، ولكنّ عقد الهازل ليس كذلك، بل المفقود فيه كلا الركنين، وبالرضا اللاحق يتمّ أحدهما ولكنّ إنشاء العقد لم يحصل

بعد.

3- وقد أو رد عليها أيضاً بالمعاطاة على القول بالإباحة: أيضاً لأنّ المتعاطيين قصدا الملك، فما قصداه لم يقع، وما وقع لم يقصداه.

قال شيخنا الأعظم رحمه الله: «ذكر بعض الأساطين في شرحه على القواعد في مقام الاستبعاد أنّ القول بالإباحة المجرّدة مع قصد المتعاطيين التمليك والبيع مستلزم لتأسيس قواعد جديدة، منها أنّ العقود وما قام مقامها لا تتبع القصود» (إنتهى) «1».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 344

وأجاب الشيخ رحمه الله بما حاصله: «أنّ حكاية تبعيّة العقود وما قام مقامها للقصود، ففيها أنّ المعاطاة ليست عند القائل بالإباحة من العقود، ولا من القائم مقامها شرعاً، فإنّ تبعيّة العقد للقصد وعدم إنفكاكه عنه إنّما هو لأجل دليل صحّة ذلك العقد، بمعنى ترتّب الأثر المقصود عليه، فلا يعقل حينئذٍ الحكم بالصحة مع عدم ترتّب الأثر المقصود عليه، أمّا المعاملات الفعلية التي لم يدلّ على صحتها دليل، فلا يحكم بترتّب الأثر المقصود عليها، نعم، إذا دلّ الدليل على ترتب الأثر عليه حكم به، وإن لم يكن مقصوداً» «1».

وحاصل ما ذكره أنّ المعاطاة على هذا القول ليست عقداً والإباحة ليست إباحة مالكية، بل إباحة شرعيّة بدليل خاص.

هذا ولكنّ ما ذكره لا يخلو عن بعد، وكيف يمكن القول بأنّ المالكين لم يقصدا إباحة، ولكنّ الشارع ألزمهما بها رغماً لأنفسهما؟!

ولم لا يقال على هذا القول: بأنّ المالك يقصد في المعاطاة أمرين: التمليك والإباحة، فإذا لم يتحقق التمليك لمنع شرعي تتحقق الإباحة، والإباحة وإن كانت متفرّعة على الملك، ولكنّ السيرة اقتضت باستقلالها هنا، ولو خلت عن التمليك، فإنّ الغرض في المعاطاة في النتيجة تسلّط كلّ واحد من المالكين على ملك الآخر والانتفاع به.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في تصحيح هذا القول، ولكنّ الأمر سهل

بعد فساد هذا القول من أصله (أعني القول بكون المعاطاة موجبة للإباحة)، بل الحقّ في المعاطاة الملكيّة، بل اللزوم أيضاً!.

4- وأورد عليها أيضاً بالنقض بقاعدة ضمان تلف المبيع قبل قبضه: فإنّه على بائعه بمعنى أنّ المعاملة قبل تلف المبيع آناً ما تنفسخ من حينه أو من الأصل ويعود كلّ

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 345

من الثمن والمثمن إلى ملك صاحبه، فيكون تلف المبيع من ملك البائع، وهذا أمر لم يقصداه.

وفيه إشكال واضح وهو أنّك قد عرفت أنّ القصد إنّما يعتبر في اركان المعاملة، وشرائطها، وما فيها من القيود، وأمّا الأحكام فلا تأثير للقصد وعدمه فيها، وكون تلف المبيع قبل قبضه من مال بائعه وكذا مسألة الفسخ آناً ما قبل التلف كلّها أحكام شرعيّة لا دخل للقصد فيها أبداً، وقد عرفت أنّه لو لم يعلمها ببعض أحكام المعاملة مثل خيار المجلس، والحيوان، وغيرهما، بل وإن علم بخلافها فإنّه تترتب عليها من دون إشكال، ولا يكون أمثال هذه نقضاً على القاعدة، بل هي أجنبيّة عنها.

5- وأورد عليها أيضاً بصحّة العقد مع فساد الشرط: بناءاً على أنّ فساد الشرط لا يوجب فساد العقد كما عليه أكثر القدماء فيما حكي عنهم، فإنّ المتعاقدين قصدا المعاملة مع الشرط، فوقوعها بدون الشرط أمر لم يقصداه، فما وقع لم يقصد، وما قصد لم يقع.

وقد يجاب عنه، بأنّ هذا من قبيل الأحكام، وقد عرفت أنّ الحكم لا يتبع قصد المتعاملين.

وفيه، أنّ الشرط من خصوصيات المعاملة، بل قد يكون له قسط من الثمن في المعنى، وإن لم يقابل به في الظاهر، وقد يرضى إنسان بالعقد مع شرط خاصّ، ولا يرضى بدونه أبداً، فهذا داخل في موضوع المعاملة، فكيف يصحّ الحكم بتبعية العقود للقصود مع الإنفكاك

بين الشرط والمشروط؟ وبالجملة، وقع الخلط في هذا الجواب بين الموضوع والحكم.

والحقّ في الجواب أن يقال: إنّ قضية الشروط ليست كقضية الثمن والمثمن، أو الزوج والزوجة في النكاح، بل هي أمور تعتبر في المعاملة بعنوان تعدّد المطلوب، فتخلّفها لا يوجب فساداً في العقد، وإنّما هو تخلّف في بعض المطلوب منه فيوجب الخيار فقط.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 346

وان شئت قلت: للعقد أركان وتوابع، فإذا تخلّفت أركانها فسدت، وأمّا عند تخلّف التوابع لا تفسد، بل يكون فيها الخيار، نظير تخلّف الوصف أو وجود عيب في المتاع، فإنّه لا يوجب فساداً في العقد قطعاً، مع أنّ وصف الصحّة ربّما يكون قيداً في قصد المتبايعين بلا إشكال، فلماذا لا يوجب تخلّفه فساده، والوجه ظاهر، وهو أنّ أصل المعاملة مطلوب، ووصف الصحة مطلوب آخر، وهذا بخلاف ما إذا باع الفرس فبان حماراً، أو باع الحديد فبان نحاساً، فإنّه تخلّف في أركان المعاملة.

وبالجملة، الفرق بين المقدّمات والتوابع، وكون الأول من قبيل الركن، والثاني من قبيل تعدّد المطلوب أصل مهم ينبني عليه حلّ كثير من المشكلات في أبواب المعاملات فلا تغفل.

إن قلت: قد يكون تمام مقصود المتبايعين ذاك الوصف أو الشرط، وحيث لا يرضى واحد منهما بدونه، بل لا يكون عندهما فرق بين الركن والتابع، بل التابع قد يكون ركناً عندهم.

قلنا: ليس المدار في المعاملات على الدواعي الشخصيّة، بل الملاك على الدواعي النوعية، فبحسب النوع، الشرط تابع، وأصل المتاع مقوّم، وهذا هو معيار تعدّد المطلوب عند العقلاء، ولذا لا يفرّقون في مباحث خيار العيب بين من يكون وصف الصحّة مقوّماً عنده شخصياً، ومن لا يكون كذلك.

والحاصل أنّ قواعد الشرط، وبناء العقلاء لا تدور مدار الدواعي الخاصّة، لا في مقامنا هذا، ولا في

غيره، وإنّما تدور مدارها نوعياً.

ومن هنا يظهر أنّ ما أفاده المحقق النراقي رحمه الله في «عوائده» ما لفظه:

«لا يخفى أنّ ما ذكروه أنّ العقود تابعة للقصود فإنّما هو على سبيل الأصل والقاعدة على ما عرفت، ويمكن أن يتخلّف في بعض المواضع لدليل خارجي، كأن يحكم الشارع بصحّة عقد مع فساد شرطه، فيقال إنّ ذلك خارج عن القاعدة بالدليل» «1».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 347

منظور فيه، لما عرفت من أنّ هذا ليس تخصيصاً في القاعدة، ولا يكون خارجاً عنها بدليل.

ومنه يظهر الحال في تخلّف وصف الصحّة ومسألة خيار العيب، فلا نحتاج إلى مزيد بحث فيه.

هذا كلّه بناء على كون الشرط الفاسد غير مفسد، وأمّا بناءاً على الإفساد فلا كلام.

6- وقد يورد عليها أيضاً بما إذا باع ما يملك على ما لا يملك: (مبنيّاً على المعلوم) أو باع ما يملك على ما لا يملك (مبنياً على المجهول) فإنّ المتعاقدين قصدا المعاملة في مجموع المبيع والثمن، وأمّا المبادلة بين بعض الثمن والمثمن فشي ء لم يقصداه، فلو صحّت بالنسبة إلى ما يملك، وبطل فيما لا يملك، عدّ جزء من الثمن، «فما قصداه لم يقع، وما وقع لم يقصداه»، ولذا قال العلّامة الأنصاري رحمه الله بخروجه عن تلك القاعدة بالنّص والإجماع «1».

والإنصاف أنّه يمكن تطبيقه أيضاً على القواعد، بحيث لا يكون استثناءاً في قاعدة التبعيّة بما عرفته من البيان في الشرط الفاسد، من أنّ العقد فيه «أركان» و «توابع» وتخلّف الأركان يوجب الفساد قطعاً، وأمّا تخلّف التوابع لا يوجبه، بل قد يوجب الخيار، وما نحن فيه من هذا القبيل.

فإنّ نوع المتاع وإن كان ركناً في المعاملة كالفرس، والحمار، والحديد، والنحاس، ولكنّ مقداره وكميّته ليس ركناً في الغالب عند العقلاء، بل من

قبيل تعدّد المطلوب، فمن اشترى عشرين منّاً من الحنطة بعشرين درهماً، ثم ظهر نصفه ممّا لا يملكه، فالمعاملة تتجزأ في هذه الأجزاء وتصحّ في العشرة في مقابل العشرة، لما عرفت من أنّ المقدار من قبيل تعدّد المطلوب، ولكنّ وقوع هذا التخلّف يوجب خيار تبعضّ الصفقة، وقد عرفت أنّ المدار في هذه المقامات على الدواعي النوعيّة لا الشخصيّة.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 348

نعم، إذا كان الربط بين ما يملك وما لا يملك بحيث لا تتعلق بواحد منهما الدواعي النوعية كما في النعلين ومصراعي الباب، فلا يبعد الحكم بالفساد حينئذٍ، فتدبّر.

7- وممّا أورد على عمومية القاعدة أيضاً مسألة المتعة إذا لم يذكر فيها الأجل: فإنّها تنقلب دائماً عند المشهور، كما ذكره في «المسالك»، حتى عند قصدهما الأجل، قال ما لفظه: «ولو قصدا المتعة وأخلّا بذكر الأجل، فالمشهور بين الأصحاب أنّه ينعقد دائماً»، ثم استدلّ عليه بأنّ لفظ الإيجاب صالح لهما، وإنّما يتمحض للمتعة بذكر الأجل، وللدوام بعدمه، فإذا انتفى الأول ثبت الثاني ولأنّ الأصل في العقد الصحّة، والفساد على خلاف الأصل. ولموثقة عبد اللَّه بن بكير عن الصادق عليه السلام قال: «إنّ سمّي الأجل فهو متعة، وإن لم يسمِّ الأجل فهو نكاح ثابت».

ثمّ أورد على الجميع بقوله: «وفيه نظر، لأنّ المقصود إنّما هو المتعة، إذ هو الغرض، والأجل شرط فيها وفوات الشرط يستلزم فوات المشروط، وصلاحيّة العبارة غير كافية، مع كون المقصود خلاف ما يصلح له اللفظ، والمعتبر إتفاق اللفظ والقصد على معنى واحد، وهو غير حاصل هنا- إلى أنّ قال: والخبر مع قطع النظر عن سنده ليس فيه دلالة على أنّ من قصد المتعة ولم يذكر الأجل يكون دائماً، بل إنّما دلّ على أنّ الدوام لا يذكر

فيه الأجل، وهو كذلك، لكنّه غير المدّعى.

ثم استنتج من جميع ذلك أنّ القول بالبطلان أقوى «1».

وقال السبزواري رحمه الله في «الكفاية» في كتاب النكاح: «لو لم يذكر الأجل وقصد المتعة قيل: ينعقد دائماً، وقيل: يبطل مطلقاً، وقيل: إن كان الإيجاب بلفظ التزويج والنكاح انقلب دائماً، وإن كان بلفظ التمتّع بطل العقد، وقيل إنّ الإخلال بالأجل إن وقع على وجه النسيان والجهل بطل، وإن وقع عمداً انقلب دائماً، والقول الأول مذهب الأكثر-

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 349

ثمّ استدلّ له بمثل ما ذكره الشهيد الثاني رحمه الله، وأورد عليه بما يشبهه- ثم قال- والمسألة محلّ إشكال» «1».

هذا ولكنّ ذهاب المشهور إلى هذا الحكم غير ثابت، بل يمكن أن يكون من قبيل ما ذكره الشيخ رحمه الله في «الخلاف» حيث قال: «نكاح المتعة عندنا مباح جائز، وصورته أن يعقد عليها مدّة معلومة بمهر معلوم، فإنّ لم يذكر المدّة كان النكاح دائماً» «2».

والظاهر أنّ مراده من هذه العبارة ما إذا لم ينوِ الأجل بل نوى معنى اللفظ على إطلاقه، ولا أقلّ من الإجمال.

ويشهد له ما استدلّ لمذهب المشهور- كما في الرياض- بصلاحية العقد لكلّ منهما، وإنّما يتمحض للمتعة بذكر الأجل وللدوام بعدمه، فمع إنتفاء الأول يثبت الثاني، لأنّ الأصل في العقود الصحة «3».

فإنّ من المعلوم أنّ مجرّد صلاحيّة اللفظ عند قصد خلاف معناه غير كاف في صحّة العقد، بل الصلاحيّة إنّما تنفع مع القصد.

وعلى كلّ حال لا دليل على أصل هذه المسألة، لا من القواعد العامّة والعمومات، ولا من الروايات الخاصّة، فحينئذٍ لا يكون نقضاً على عموم هذه القاعدة، أي قاعدة تبعيّة العقود للقصود.

وقد تلخص من جميع ما ذكرنا أنّ شيئاً ممّا أورد على هذه القاعدة بعنوان النقض لا يكون

نقضاً عليها، بل هو بين ما لم يثبت، وما يكون ثابتاً وليس نقضاً.

ومن هنا يظهر النظر فيما ذكره العلّامة الأنصاري رحمه الله في بعض كلماتهم في مبحث المعاطاة وأنّه لو قلنا بأنّ نتيجتها الإباحة يلزم إنثلام قاعدة تبعيّة العقود، وما قام مقامها، للقصود، بقوله: «إن تخلّف العقد عن مقصود المتبايعين كثير- ثم ذكر تأثير العقد الفاسد في الضمان (ضمان المثل أو القيمة) ثمّ قال:- وكذا الشرط الفاسد لم

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 350

يقصد المعاملة إلّامقرونة به غير مفسد عند أكثر القدماء، وبيع ما يملك وما لا يملك صحيح عند الكلّ، وبيع الغاصب لنفسه يقع للمالك مع إجازته على قول كثير، وترك ذكر الأجل في العقد المقصود به الإنقطاع يجعله دائماً على قول نسبه في المسالك وكشف اللثام إلى المشهور» «1».

وقد عرفت أنّ شيئاً ممّا أفاده رحمه الله لا يكون نقضاً على القاعدة.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 351

28 قاعدة التلف في زمن الخيار

اشارة

وممّا اشتهر بين الأصحاب حتى إدّعى عليه الإجماع أنّ التلف في زمان الخيار ممّن لا خيار له.

قال في «مفتاح الكرامة»: «أنّه حكم العلّامة في القواعد، وفي التذكرة، والمحقق الثاني، والفاضل الميسى أنّه يكون التلف من المشتري إن كان الخيار للبائع، أولهما، أو لأجنبي، وأنّه إن كان للمشتري خاصّة فمن البائع، وهو فيما عدا الأجنبي وما عدا ما إذا كان الخيار لهما على ما ستعرف الحال فيه موافق لما في «السرائر»، و «جامع الشرائع»، و «الإرشاد»، وشرحه، و «مجمع البرهان»، من أنّ التلف إن كان في مدّة الخيار فهو ممّن لا خيار له.

ثم قال: وهو معنى ما في «الشرائع»، و «التحرير»، و «التذكرة»، و «المسالك»، و «المفاتيح» من أنّه إن كان الخيار للبائع فالتلف من المشتري، وإن كان للمشتري فالتلف

من البائع.

ثم قال: ولا أجد في شي ء من ذلك خلاف» «1».

ويظهر من هذا الكلام أنّ أصل المسألة ممّا لا خلاف فيه بينهم، وإن وقع الكلام في جزئياته وخصوصياته.

ثم إنّه لا ينبغي الشكّ في أنّ مقتضى الأصل كون تلف كلّ مال من مال مالكه،

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 354

فإذا تمّ البيع وانتقل المبيع إلى ملك المشتري والثمن إلى ملك البائع فتلف كلّ واحد منهما من مال مالكه الفعلي، ما لم يقع تعدّ أو تفريط أو إتلاف من ناحية الآخر، ولا أثر لوجود الخيار وعدمه في هذا الأصل.

ويظهر من ذلك أنّ الحكم بكون التلف ممن لا خيار له مخالف للقاعدة، خرج منها بدليل، وليس وجود الخيار مانعاً عن تأثير البيع وإنتقال كلّ من العوضين إلى الآخر، بل الخيار مجوّز لفسخ البيع فقط.

نعم، لابدّ أن يكون الحكم في خيار الحيوان على القاعدة، فإنّ حكمة هذا الخيار بل علته إنّما هو جهالة حال الحيوان من حيث استقرار حياته وعدمها، وصحته عن المرض وعدمها، فإنّه قد يكون حيوان في معرض التلف، وصاحبه يعلم ذلك، وليست هذه الحالة ظاهرة في الحيوان، فقد يبيعه حتى يكون التلف في ملك المشتري، ويأخذ ثمنه، ففي مثل ذلك حكم الشرع بوجود الخيار، بل وصرّح بأنّه لو تلف في زمن الخيار فهو من البائع.

والظاهر أنّ الحكم عند العقلاء أيضاً كذلك، وإن كان تعيين الخيار في ثلاثة أيّام غير معروف عندهم، وكذلك إذا كان البائع في شكّ من هذا المبيع وشرط الخيار لنفسه، وأنّه لو تلف المبيع في مدة كذا كان من ماله، فهو مأخوذ بمقتضى هذا الشرط.

والحاصل أنّ القاعدة في غير الحيوان وخيار الشرط (المراد إشتراط كون التلف على من لا يخار له في مدّة معينة) مخالف

للأصل لابدّ في إثباتها من دليل تعبّدي.

إذا عرفت ذلك، فلنرجع إلى بيان مصدرها فنقول ومن اللَّه سبحانه التوفيق والهداية:

مصدر هذه القاعدة

والعمدة في المقام «هي روايات كثيرة» وردت في أبواب خيار الحيوان وغيرها:

1- منها ما رواه عبد الرحمن ابن أبي عبد اللَّه قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن رجل

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 355

اشترى أمة بشرط من رجل يوماً أو يومين، فماتت عنده، وقد قطع الثمن، على من يكون الضمان؟ فقال: ليس على الذي اشترى ضمان حتى يمضي شرطه» «1».

ولعلّ المراد بقطع الثمن هو قطعه عن المشتري وإعطائه للبائع، ويحتمل بعيداً أن يكون القطع هنا بمعنى المنع.

وعلى كلّ حال، الظاهر من إشتراط الخيار هنا- بقرينة كونه أمة- اشتراط خيار الفسخ واشتراط كون التلف على البائع أيضاً ولو بعنوان الداعي لخيار الشرط، فالحكم فيها على وفق القاعدة كما لا يخفى.

2- ما رواه عبد اللَّه بن سنان قال: «سألت أبا عبداللَّه عليه السلام عن الرجل يشتري الدابّة، أو العبد، ويشترط إلى يوم أو يومين، فيموت العبد والدابّة، أو يحدث فيه حدث، على من ضمان ذلك؟ فقال: على البائع حتى ينقضي الشرط ثلاثة ايام ويصير المبيع للمشتري» «2».

وروى مثل هذا الحديث الحسن بن محبوب عن ابن سنان إلّاأنّه قال: ويصير المبيع للمشتري، شرط البائع أو لم يشترطه.

3- ما رواه عبداللَّه زيد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جعفر بن محمد عليه السلام قال:

«قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في رجل اشترى عبداً بشرط ثلاثة أيام فمات العبد في الشرط، قال: يستحلف باللّه ما رضيه، ثمّ هو بري ء من الضمان» «3».

والظاهر أنّ المراد استحلافه بأنّه لم يسقط خيار الحيوان، وما رضي استقرار البيع ولزومه.

4- ما رواه حسن

بن علي بن رباط عمّن رواه عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إن حدث بالحيوان قبل ثلاثة أيّام فهو من مال البائع» «4».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 356

والعمدة في الاستدلال على هذه القاعدة ما عرفت من الروايات الأربع أو الخمس.

وقد يستدل لها أيضاً بما ورد في حكم التلف في خيار الشرط.

مثل ما رواه إسحاق بن عمّار قال: حدّثني من سمع أبا عبداللَّه عليه السلام وسأله رجل وأنا عنده فقال: «رجل مسلم احتاج إلى بيع داره فجاء إلى أخيه فقال: أبيعك داري هذه وتكون لك أحبّ إليّ من أن تكون لغيرك، على أن تشترط لي إن أنا جئتك بثمنها إلى سنة أن تردّ عليّ، فقال: لا بأس بهذا، إن جاء بثمنها إلى سنة ردّها عليه، قلت: فإنّها كانت فيها غلّة كثيرة فأخذ الغلّة، لمن تكون الغلّة؟ فقال: الغلّة للمشتري، ألا ترى أنّه لو احترقت لكانت من ماله» «1».

وما رواه معاوية بن ميسرة قال: «سمعت أبا الجارود يسأل أبا عبد اللَّه عليه السلام عن رجل باع داراً له من رجل، وكان بينه وبين الرجل الذي اشترى منه الدار حاصر، فشرط أنّك إن أتيتني بمالي ما بين ثلاث سنين فالدار دارك، فأتاه بماله، قال: له شرطه، قال أبو الجارود: فإنّ ذلك الرجل قد أصاب في ذلك المال في ثلاث سنين، قال: هو ماله، وقال أبو عبداللَّه عليه السلام: أرأيت لو أنّ الدار احترقت من مال من كانت؟ تكون الدار دار المشتري» «2».

والعجب من استدلال جماعة من أعاظم الأصحاب بهاتين الروايتين كما يظهر من «مفتاح الكرامة» و «جامع الشتات» للمحقق القمي و «غيرهما»، مع أنّ الظاهر أنّه لا مساس لهما بما نحن بصدده، لعدم ورود هذا التعبير «أنّ التلف ممّن

لا خيار له» أو ما يشبهه في متن الروايتين، بل الحكم فيهما في ضمان المشتري للدار إنّما هو من باب القاعدة، فإنّ الملك ملكه، فكما أنّ الغلّة له، فالتلف أيضاً عليه، سواء كان للبائع خيار أم لا، ولحن الحديثين دليل على ما ذكرناه، فإنّه استدلّ على ملكيّة المشتري للغلّة، بكون تلف العين أيضاً من ملكه، ومآلهما إلى شي ء واحد، وهو كون المتاع ملكاً

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 357

للمشتري بعد البيع، من غير تأثير لوجود خيار البائع بعده.

ولو استدلّ بهما على قاعدة الخراج بالضمان كان أولى من الإستدلال بهما لما نحن بصدده وإن عرفت عدم دلالتها عليها أيضاً.

وبالجملة، ليس فيهما ما يستشم منه كون ضمان المشتري باعتبار وجود الخيار للبائع، ومن الواضح أنّ مجرّد وجود هذه الخصوصيّة في المورد لا يمكن أن يكون دليلًا على المطلوب، وقد مرّ بعض الكلام في ذلك في قاعدة الخراج بالضمان.

الاستدلال عليها بحكم العقل وإقتضاء الأصل

وقد يستدلّ على القاعدة بحكم العقل، وموافقتها للأصل بما حاصله: أنّ من له الخيار يقدر على الفسخ في كلّ زمان، ومع الفسخ تنتقل العين إلى ملك مالكه الأول، فيكون التلف من مكله قهراً، فبهذا الاعتبار لابدّ أن يحسب تلف العين على المالك الأول وهو من لا خيار له، فيكون التلف من ملكه.

ولكنّه ضعيف جدّاً لا ينبغي التفوّه به، لأنّه مبنيّ على حكم فرضي، وهو أنّه لو فرض إقدام صاحب الخيار على الفسخ لكان التلف من ملك المالك الأول، ولكن من المعلوم أنّه فرض غير واقع، فإنّه لم يفسخ، ولم يرد العين إلى مالكه الأول، بل هو موجود بعد في ملك صاحب الخيار، فكيف يكون التلف من غيره؟!

وبالجملة: هذا الحكم مخالف للقواعد والأصول كما عرفت سابقاً لا ينبغي القول به إلّا بدليل

تعبّدي.

وقد عرفت أنّ الاستدلال بالروايات الخاصّة التي هي المصدر الوحيد في المسألة مشكل جدّاً، إلّافي مورد خيار الحيوان، والشرط الناظر إلى حكم التلف، وهما أيضاً موافقان للأصل للبيان الذي مرّ آنفاً، فلا يجوز تسرية الحكم إلى غيرهما.

وقد يتوهم أنّ كون هذه القاعدة على خلاف مقتضى الأصول إنّما هو على القول غير المشهور في باب الخيار، من أنّ العين لا ينتقل إلى الطرف إلّابعد مضي زمان

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 358

خيارها، وقبل مضي زمانه تكون العين باقية على ملك مالكها، ومقتضى ذلك كون تلفها منه.

هذا، ولكنّه أيضاً ضعيف حتى على مبنى غير المشهور، فإنّ عدم إنتقال العين على هذا المبنى غير مختص بما فيه الخيار، بل يشمله وما يقابله، وإلّا يلزم منه الجمع بين العوض والمعوّض، فمن ليس له الخيار لا يملك شيئاً من العوضين، فإنّ الثمن انتقل من ملكه مثلًا، والمثمن لم ينتقل إلى ملكه، وأمّا من له الخيار فهو مالك لهما جميعاً، وهذا ممّا لا يظن الالتزام به وإن حكي عن الشيخ رحمه الله في بعض كلماته إلّا أنّه غير ثابت، ولابدّ من تأويله على فرض ثبوته.

وبالجملة: لو قلنا بأنّ الملك لا ينتقل في زمن الخيار، فلازمه كون تلف كلّ من الثمن والمثمن من مال مالكه الأصلي، سواء كان الخيار لهما أو لأحدهما، وسواء كان ذوالخيار هو البائع أو المشتري.

تنبيهات

الأول: في عموميّة هذه القاعدة وعدمها

اختلفت آراؤهم في هذه المسألة، وفيها وجوه أو أقوال:

1- اختصاص هذا الحكم بخيار الحيوان والشرط إذا كان مورد الشرط بيع الحيوان.

2- اختصاصه بخيار الحيوان، والشرط مطلقاً، سواء كان مورده حيواناً أو داراً أو غيرهما.

3- جريان القاعدة فيهما وفي خيار المجلس بملاك أنّ جميعها مشتمل على الزمان.

4- جريانها في الخيارات الزمانية وغيرها من دون أيّ تفاوت،

إلّاإذا حدث الخيار بعد العقد.

يظهر الأول من بعض الأعاظم في كتاب البيع، والثاني من صاحب الجواهر.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 359

والثالث فيما يظهر من كلمات شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله.

والرابع هو مختار السيد المحقّق اليزدي رحمه الله في حاشيته على المكاسب.

هذا، والمختار هو القول الأول لما عرفت سابقاً من أنّ القاعدة على خلاف مقتضى الأصول، ولم يدلّ عليها إلّاأخبار خاصّة واردة في خيار الحيوان، وخيار الشرط إذا كان المبيع حيواناً، وأمّا ما ورد في خيار الشرط ممّا ليس موردها حيواناً فقد عرفت أنّه أجنبي عمّا نحن بصدده.

بل قد عرفت أنّ جريان هذه القاعدة في مورد الحيوان (سواء كان خيار الحيوان أو الشرط) من قبيل شرط ضمني، فإنّ جعل الخيار في هذين الموردين إنّما هو لاستكشاف حال الحيوان، فقد يكون مشرفاً على الموت ويبيعه المالك مع حفظ ظاهره، فلو كان تلفه من ملك المشتري كان ضرراً عظيماً.

وإن شئت قلت: إذا تلف في الثلاثة يستكشف أنّ الحيوان لم يكن مستقر الحياة غالباً وأنّه لم يكن مالًا يبذل بإزائه المال، فيبطل البيع، ويعود الثمن إلى ملك المشتري.

واستدلّ المحقق اليزدي رحمه الله على مختاره من التعميم بقوله: «ويصير البيع للمشتري» الوارد في صحيحة ابن سنان التي مرّ ذكرها آنفاً.

هذا، ولكنّ الإنصاف أنّه لا يكون فوق حدّ الإشعار، وليس داخلًا تحت عنوان الياس المنصوص العلّة كما يظهر لمن تأمّلها.

الثاني: هل الحكم مختصّ بالمبيع أو يشمل الثمن أيضا

قد يقال إنّ الحكم عام للثمن والمثمن، فيكون تلف الثمن في مدّة خيار البائع المختصّ به من مال المشتري، ولكن قال في «مفتاح الكرامة»:

«أمّا إذا تلف الثمن بعد قبضه والخيار للبائع، فهذا محل إشكال، لأنّ الأصل بمعنى القاعدة يقتضى بأنّ التلف من البائع لا من المشتري، ولم يتعرّض أحد لحال

القواعد الفقهية،

ج 2، ص: 360

هذا الأصل، والمقدس الأردبيلي إنّما تعرّض لحال الثمن قبل القبض، والأخبار إنّما وردت في المبيع، وخبر «عقبة» وإن كان يشمّ منه التعميم، إلّاأنّه صريح فيما قبل القبض، إلّاأنّ نقول إطلاق أنّ التلف ممّن لا خيار له ونحوه يتناوله» «1».

وقال السيد المحقق اليزدي رحمه الله في حاشيته للمكاسب: «الحق عدم شمول الحكم لتلف الثمن لعدم الدليل، وكون الحكم على خلاف القاعدة» «2».

واختار العلّامة الأنصاري رحمه الله العموم نظراً إلى المناط، مضافاً إلى ضمان المشتري له الثابت قبل القبض «3».

هذا، جملة من كلمات من تعرّض للمسألة وغاية ما يستفاد منهم أو من غيرهم أنّ الدليل على التعميم أمور:

الأول: إستصحاب بقاء الضمان، أي ضمان الثمن قبل القبض من ناحية المشتري.

ويرد عليه مضافاً إلى عدم حجيّة الإستصحاب في الشبهات الحكمية عندنا، أنّ الموضوع قد تغيّر قطعاً، وملاك الضمان قبل القبض قد انتفى، مضافاً إلى أنّ الإستصحاب لا يقاوم القاعدة المسلّمة من كون تلف كلّ ملك من مال مالكه إذا لم يكن هناك دليل على ضمان غيره.

الثاني: شمول عنوان القاعدة الذي هو معقد الإجماع له، فإنّ قولهم «التلف في زمن الخيار ممّن لا خيار له» عامّ شامل للثمن والمثمن.

وفيه مضافاً إلى عدم ثبوت الإجماع على هذا العنوان، أنّه لو ثبت لم يكن حجة بعد وجود أدلة أخرى في المسألة.

الثالث: ما يستفاد من العلة للحكم من صحيحة «ابن سنان» فإنّ قوله: «الضمان على البائع حتى ينقضي الشرط ويصير المبيع للمشتري» بمنزلة قوله أنّه ما لم تنقضِ مدّة الخيار لا يرتفع الضمان.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 361

وفيه إشكال ظاهر: فإنّ إشعاره بالمقصود قابل للمناقشة، فكيف بالدلالة، بعد ورود الحديث في خيار الحيوان لخصوص المشتري.

ولقد أجاز صاحب الجواهر رحمه الله حيث إنّه

بعد ما ذكر كلام بعض الأعلام في عموميّة القاعدة للثمن والمثمن، وما استدلّ به، «أنّه من غرائب الكلام، ضرورة كون النصّ والفتوى في خصوص المبيع دون الثمن، فمن العجيب دعوى أنّ النص والفتوى على كون الثمن من المشتري إذا كان الخيار للبائع خاصّة» «1».

هذا كلّه إذا قلنا بعموميّة القاعدة للخيارات في جانب المشتري، وقد عرفت أنّ الحكم فيه أيضاً محل إشكال، وأنّ هذه القاعدة من أصلها ممّا لا دليل عليها، ما عدا الصور التي يستفاد من دليل الخيار كون مشروعيته، لأجل وضوح حال الحيوان من السلامة وبقاء الحياة وعدمه.

الثالث: في المراد من الضمان في القاعدة

هل المراد من الضمان هو الضمان المعاملي، بمعنى أنّه لو تلفت العين في زمن الخيار بعد قبضه ينفسخ البيع، وينتقل كلّ من الثمن والمثمن إلى ملك مالكه آناً ما قبل الفسخ، ثمّ ينفسخ، ثمّ يكون التلف من ملك مالكه، الذي لاخيار له، مثلًا إذا كان الخيار خيار الحيوان فتلف في الثلاثة ينتقل الحيوان إلى البائع آناًما قبل التلف، ثمّ يتلف من ملكه، وإن كان الحيوان في يد المشتري وحينئذٍ فعلى البائع ردّ الثمن إلى المشتري من غير أن يأخذ منه شيئاً.

أو أنّ الضمان هو الضمان الواقعي يعني أنّ البيع لا ينفسخ بمجرّد التلف، بل يبقى بحاله ولكن على البائع في المثال الأعلى أن يؤدّي إلى المشتري قيمة الحيوان الذي تلف في زمن الخيار.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 362

لا شكّ أنّ ظاهر الضمان هو الضمان الواقعي، ولكن هنا قرائن تصرفه عن ظاهره، ويكون بمعنى الضمان المعاملي، وهو الضمان بالمسمّى.

منها: ظاهر الروايات الواردة في هذه القاعدة، مثل ما ورد في ذيل صحيحة عبد اللَّه بن سنان، في جواب السؤال عن دابة تلفت في زمان الشرط على من ضمان ذلك؟

فقال: «على البائع حتى ينقضي الشرط ثلاثة أيام، ويصير المبيع للمشتري» «1».

فإنّ قوله: حتى ينقضي الشرط ظاهر في إدامة الخيار الذي ثابت قبل القبض، ويؤكّده قوله: ويصير المبيع للمشتري، فإنّ ظاهره عدم استقرار المبيع ما لم ينقض ثلاثة أيّام، ولازمه الإنفساخ بالتلف، فيعود المشتري إلى ثمنه.

وبعبارة أخرى: ليس في كلام الإمام عليه السلام أثر من ضمان المبيع ببدله، بل ظاهر كلامه كون المبيع متزلزلًا في زمن الخيار، والاستناد إلى ذلك لازمه إنفساخ هذا البيع المتزلزل بتلف المبيع.

ومنها: ما هو أوضح من ذلك وهو قوله في مرسلة «ابن رباط» عن أبي عبداللَّه عليه السلام:

«إن حدث بالحيوان قبل ثلاثة أيّام فهو من مال البائع» «2».

فإنّ التعبير بكونه من مال البائع لا يستقيم إلّابانفساخه آناً ما قبل التلف، حتى يعود كلّ منهما إلى ملك مالكه، فيكون تلف المبيع من ملك البائع.

ومنها: وحدة التعبير في هذه القاعدة، وقاعدة «تلف المبيع قبل قبضه فهو من مال بائعه» بعد كون المراد من الضمان في تلك القاعدة هو الضمان بالمسمّى قطعاً، فيكون المراد منه في محل الكلام هذا المعنى أيضاً، فتأمّل.

وأوضح من ذلك كلّه ما عرفت في بيان مفاد هذه القاعدة ومصدرها، بعد اختصاصها بالحيوان وشبهه، من أنّه قد يكون حياة الحيوان متزلزلة وحينئذٍ لا مالية له واقعاً، وإن كان في نظرمن لا يعلم ذلك بل يظن استقرار حياته مالًا، وأنّ الشارع

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 363

المقدّس جعل هذا الخيار ليتبيّن الحال، فلو تلف كانت المعاملة واقعة على شي ء لا ماليّة له في الواقع، فلابدّ من رجوع الثمن إلى المشتري فراجع وتأمّل ما تلوناه عليك سابقاً تجده وافياً باثبات المطلوب.

ومن هنا تعرف النظر في كلام العلّامة رحمه الله في «التذكرة» حيث قال:

«مسألة: لو تلف المبيع بآفة سماوية في زمن الخيار فإنّ كان قبل القبض انفسخ البيع قطعاً، وإن كان بعده لم يبطل خيار المشتري ولا البائع، وتجب القيمة على ما تقدّم، وقال الشافعي:

إنّ تلف بعد القبض، وقلنا الملك للبائع انفسخ البيع، لأنّا نحكم بالإنفساخ عند بقاء يده، فعند بقاء ملكه أولى، فيستردّ الثمن، ويغرم للبائع القيمة، وإن قلنا الملك للمشتري أو موقوف فوجهان، أو قولان: أحدهما أنّه ينفسخ أيضاً لوصول الهلاك قبل استقرار العبد، وأصحهما أنّه لا ينفسخ لدخوله في ضمان المشتري بالقبض» «1».

والعمدة أنّ الذي يظهر من الأصحاب أنّ هذا الضمان كبقاء الضمان الموجود قبل القبض فيكون من جنسه.

قال العلّامة الأنصاري رحمه الله في مكاسبه: «إنّ ظاهر كلام الأصحاب وصريح جماعة منهم كالمحقق والشهيدين الثانيين رحمهما الله، أنّ المراد بضمان من لا خيار له لمّا انتقل إلى غيره هو بقاء الضمان الثابت قبل قبضه، وإنفساخ العقد آناً ما قبل التلف، وهو الظاهر أيضاً من قول الشهيد رحمه الله في «الدروس» وبالقبض ينتقل الضمان إلى القابض ما لم يكن له خيار، حيث إنّ مفهومه أنّه مع خيار القابض لا ينتقل الضمان إليه بل يبقى على حاله الثابت قبل القبض» (إنتهى).

فهذا الضمان ضمان معاملي لا غير.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 365

29 قاعدة الإقرار

اشارة

هنا قاعدتان ترتبطان بمسألة الإقرار قاعدة «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» وقاعدة «من ملك شيئاً ملك الإقرار به» فذكرهما معاً لما بينهما من الصلة، وإن كان كلّ منهما يشير إلى معنى مستقل.

قاعدة اقرار العقلاء على انفسهم

أمّا مفاد هذه القاعدة ظاهر، وهو أنّه إذا اعترف الإنسان بشي ء يضادّ منافعه، وينافي مصالحه، يؤخذ باقراره سواء كان الإقرار بمال، أو دين، أو حق،. أو نسب، أو جناية عمد، أو

خطأ، أو غير ذلك، ممّا يلزمه بحق، أو مجازاة، فهو مأخوذ بجميع ذلك بمقتضى إقراره.

وهذه القاعدة من القواعد المسلّمة وقد وقع الإجماع عليها من قبل علماء الإسلام.

قال العلّامة النراقي رحمه الله في «عوائده»: «اجمعت الخاصّة والعامّة على نفوذ إقرار كلّ عاقل على نفسه، بل هو ضروري جميع الأديان والملل».

ويدلّ عليه مضافاً إلى ذلك، وإلى استقرار سيرة العقلاء في كلّ زمان ومكان على قبول إقراركلّ أحد على نفسه، الروايات العامّة والخاصّة الواردة فيها.

فمن الروايات العامّة ما رواه جماعة من علمائنا في كتبهم الإستدلالية عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» «1».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 368

ولكن لم نر أحداً من العامّة والخاصّة رواها في كتب الحديث، ما عدا ابن أبي جمهور في «درر اللئالي» عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» «1».

حتى أنّ صاحب الوسائل لم ينقله من أيّ منبع روائي، بل اكتفى فيه برواية جماعة من العلماء في كتب الاستدلال.

ومنها: ما رواه الجراح المدائني، عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنّه قال: «لا أقبل شهادة الفاسق إلّاعلى نفسه» «2».

ومنها: مرسلة محمد بن الحسن العطّار، عن بعض أصحابه، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال:

«المؤمن أصدق على نفسه من سبعين مؤمناً عليه» «3».

ولكنّ دلالته كسنده لا يخلو عن إشكال، لأنّه يمكن أن يكون من قبيل كذّب سمعك وبصرك عن أخيك، فإنّ شهد عندك خمسون قسامة، قال لك قولًا فصدّقه وكذبهم، الوارد في رواية محمد بن فضيل عن أبي الحسن موسى عليه السلام «4».

هذا ما عثرنا عليه من روايات العامّة الشاملة لجميع الأبواب، وأمّا الروايات الخاصّة الواردة في أبواب الوصايا، والديون، والحدود، والديات، وغير ذلك، وهي

كثيرة غاية الكثرة كما لا يخفى على من راجعها، ويصطاد من جميعها عموم الحكم وعدم اختصاصه بباب دون باب، وحيث إنّ المسألة من الوضح بمكان لا يحتاج إلى نقلها أغمضنا عن ذكرها على نحو مبسوط.

والعمدة أنّ هذه القاعدة قاعدة عقلائية في جميع الأعصار والأمصار من أرباب الأديان وغيرهم، وقد أمضاها الشارع المقدس.

والوجه فيه عند العقلاء أنّ كلّ إنسان أعرف بنفسه من غيره، ولا يتصرف بما

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 369

ينافي منافعه، إلّاإذا كان واضحاً عنده غاية الوضوح، وعالماً به علماً بيّنا، نعم، يمكن أن يكون إقراره في بعض الموارد الشاذّة خطأ أو كذباً بعنوان التوطئة للوصول إلى أمر غير مشهور، أمّا هذا كله نادر جدّاً لا يعتنى به.

نعم، لا يبعد إستثناء موارد إتهام المقرّ وعدم قبول إقراره عند العقلاء والشرع، كما إذا وقع قتل وكان المعروف بين الناس أنّ القاتل فلان، ولكن أراد جمع من أصدقائه حمايته من بعض الجهات فأقرّوا جميعاً عند الحاكم باشتراكهم في القتل، وكان هناك قرائن تدلّ على هذه التوطئة، فقبول إقرار هؤلاء المتهمين في إقرارهم لا يخلو عن إشكال، وإن كان ثبوت الحكم على الشخص المظنون يحتاج إلى بيّنة عادلة على كلّ حال، وحينئذٍ تكون موارد النقض على القاعدة قليلة جدّاً.

وبالجملة، فإنّ وضوح هذه القاعدة بمكان تغنينا عن البحث في بيان مصدرها أزيد من هذا، كما أنّ البحث في مفاد القاعدة، وعن معنى الإقرار، وعن مضى كونه على نفس، أو كونه جائزاً ليس مهمّاً بعد وضوح معناها عرفاً ولغة، كوضوح ما يرتبط بها.

والذي يهمّنا أن نبحث عن أمور:

الأول: وهو العمدة: أنّ الإقرار إنّما يقبل إذا كان على النفس لا له فإن كان ذلك أمراً بيّناً فلا كلام، مثل أن يقرّ إنسان

بدين عليه لغيره، أو يقرّ بالجناية أو القتل أو شبه ذلك، فهذا إقرار على النفس بلا كلام.

بل وكذلك إذا أقرّ بأمر مشترك بينه وبين غيره ممّا يمكن التفكيك فيه، مثل أن يعترف بأنّه وشريكه وهبا دارهما المشتركة لزيد، فإنّه لا إشكال في قبول إقراره بالنسبة إلى سهمه من الدار، وأمّا بالنسبة إلى سهم شريكه فلا يقبل، ولا مانع من التفكيك بين المسألتين كما هو ظاهر، ولكن هنا بعض الموارد فيها شي ء من الخفاء ستأتي الإشارة إليها إن شاءاللَّه.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 370

الثاني: إذا أقرّ بما يدور بين اثنين، ويقوم بهما من الأمور الوحدانية ذات الإضافة إلى طرفين، كإقراره بأنّ فلاناً ولد له، أو أنّ فلانة زوجته، فإنّ الزوجيّة، أو الابوّة، والبنوّة، أمر قائم بشخصين، فهل يقبل قوله فيما يكون عليه، مع أنّ الطرف الآخر لا يعترف بهذا؟ وكيف يمكن أن يكون هذا زوجاً مع أنّ الطرف المقابل ليست زوجة ولو بحسب الظاهر أو يكون هو أباً ولا يكون في مقابله ابناً أي لا يحكم ظاهراً ببنوته.

الثالث: إذا كان هناك أمر واحد ذا جهتين: جهة الضرر وجهة النفع، كأن يقول: هذا عبدي، فهل يجب عليه نفقته مع عدم استحقاقه لخدمته، وكيف يمكن التفكيك بين الأمرين؟

الرابع: إذا كان المقرّ به عقداً فيه جهة النفع والضرر، كما إذا قال لزيد: عليَّ ألف درهم قيمة فرس اشتريته منه، فهل يقبل إقراره بالنسبة إلى أصل اشتغال ذمته بألف درهم ولا يقبل مالكيته للفرس، فكيف يمكن التفرقة بين الأمرين؟

المعروف المحكي عن الفقهاء الأخذ بالإقرار مهما أمكن والتجزئة في مفاده، فيؤخذ بما يكون عليه ويطرح ما يكون له، مع أنّه في الواقع الخارجي لا تكون هذه التفرقة ممكنة.

وقد تصدّى المحقق النراقي رحمه

الله في «عوائده» للجواب عن هذا الإشكال بمقدمات كثيرة طويلة والإنصاف أنّ حلّ أمثال هذه الشبهات بعد حلّ مشكلة الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي في أصولنا الحديث بسيط جدّاً، نعم في الأزمنة السابقة التي لم تنقح أصول الفقه فيها بمثل ما نقّح في أعصارنا ببركة جهد علمائنا الراسخين (رضوان اللَّه تعالى عليهم) كان حلّ هذه المشكلات صعباً ولكنّه الآن سهل جدّاً.

وحاصل الكلام فيها أنّ ملازمة حكمين شرعيين في الواقع لا يكون دليلًا على التلازم بينهما في الحكم الظاهري، بل يجوز التفرقة بينهما في هذا المجال وأي

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 371

مانع من حكم الشرع في الظاهر بوجوب نفقة من أقرّ بعبوديته له عليه مع عدم جواز استخدامه، وكذا بالنسبة إلى من اعترف بزوجيتها، اللّهم إلّاأن يكون داخلًا تحت عنوان النشوز، وهذا أمر آخر، وبالجملة، فإنّ الملازمة في الحكم الواقعي لا تكون دليلًا على الملازمة في الحكم الظاهري وكم له في الفقه من نظير، مثل ما إذا غسل الثوب النجس بماء كرّ يشك في أنّه مضاف أو مطلق وليس له حالة سابقة، فاللازم الحكم ببقاء نجاسة الثوب وطهارة الماء، مع أنّه في الواقع غير ممكن، لأنّ الماء إن كان مضافاً فقد تنجس وإن كان مطلقاً فقد طهر الثوب، فكيف يمكن الجمع بين الحكم بنجاسة الثوب وطهارة الماء، إلى غير ذلك من اشباهه.

وقد فرغنا عن ذا البحث في محلّه من الأصول.

الخامس: هل الإقرار أمارة لإثبات المقرّ به أو مخصوص بما إذا كان في مقابل من يدّعىّ ما قرّ به؟ الظاهر أنّه أمارة مطلقاً، لإطلاق الأدلّة، ولما عرفت في الوجه في حجيّته عند العقلاء.

السادس: يشترط في نفوذ إقرار العاقل على نفسه أن لا يكون معارضاً باقرار مخالف له،

فإذا قال لزيد: عليَّ كذا، ولكنّ زيداً أنكر الطلب منه، فإنّه لا يقبل، والوجه فيه ظاهر، فإنّه يتساقط الإقراران عن الإعتبار، ولا يكون شي ء منهما حجّة.

قاعدة من ملك

قاعدة «من ملك شيئاً ملك الإقرار به»، هي العمدة في المقام، وقلّما يبحث عنها في كلماتهم، فلو كان مسلطاً على عقد أو إيقاع، أو غير ذلك من الأفعال، وكان ذلك جائزاً له، ممضى في حقّه لو فعله، فإذا أقرّ بأنّه فعله يقبل إقراره منه، من دون أيّ فرق، بين أن يكون له أو عليه، أو لم يكن لا له ولا عليه، كما إذا أقرّ الوكيل ببيع أو شراء لموكّله مع شرط كذا وثمن كذا.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 372

وفي الحقيقة نسبة بين مفاد القاعدتين هي التباين، والنسبة بين مواردهما هي العموم من وجه، ومادة الإجتماع هو ما إذا كان مالكاً لأمر يكون نتيجته عليه، كملك الإنسان للوصيّة بماله، أو الوقف أو الهبة، فإذا أقرّ بأنّه وهب ماله لفلان، فهذا يدخل في القاعدتين: قاعدة إقرار العقلاء على أنفسهم، وقاعدة من ملك، أمّا الأول فواضح، وأمّا الثاني فلأنّه مالك ومسلّط على هبة أمواله فيقبل إقراره إذا أقرّ.

وأمّا مادة الإفتراق من ناحية قاعدة إقرار العقلاء، فكما إذا أقرّ بقتل شخص، أو ضربه، عمداً أو خطأ، وهو داخل في القاعدة الأولى، لا في الثانية فإنّه ليس هنا مالكاً ومسلطاً على هذا الفعل.

ومادة الإفتراق من ناحية الثانية ما إذا أقرّ الوكيل عن شخص بتجارة له أو عليه فإنّه لا يدخل في قاعدة إقرار العقلاء على أنفسهم، ولكنّه داخل في قاعدة من ملك.

ومن هنا يعلم من أنّ ما توهمه غير واحد من جواز الاستدلال على الثانية بأدلّة الأولى، بل ربّما توهموهما قاعدة واحدة بعضها من بعض

ليس في محله، بل مثل ذلك شاهد على عدم الدقّة اللازمة في محتوى قاعدة من ملك.

إذا عرفت هذا فنعود إلى بيان محتوى هذه القاعدة وأدلتها، فنقول ومن اللَّه التوفيق والهداية:

محتوى قاعدة من ملك

أمّا محتواها على التفصيل، لا يظهر إلّابعد المراجعة إلى كلمات الأصحاب في أبواب الفقه، وما استدلوا له بهذه القاعدة أو يستشم منهم ذلك.

هذا، وقد عرفت أنّهم قلّما وقع البحث عن هذه القاعدة في كلماتهم، نعم، يظهر منهم الاستدلال بها في موارد كثيرة في طيات الفقه، بل ربّما أرسلوها إرسال المسلّمات، ولا بأس بالإشارة إلى بعضها كي يعلم المراد منها ومحتواها:

1- منها ما ذكروه في باب الإقرار من نفوذ إقرار غير المهجور في كلّ ما يقدر على إنشائه، كما قال العلّامة رحمه الله في «القواعد».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 373

المطلق (أي غير المهجور) ينفذ إقراره بكل ما يقدر على إنشائه، وقال في «مفتاح الكرامة» في شرح هذه العبارة ما نصّه: «هذا معنى قولهم كلّ من ملك شيئاً ملك الإقرار به، وهي قاعدة مسلّمة لا كلام فيها، وقد طفحت بها عباراتهم»»

.وصرّح العلّامة رحمه الله في «القواعد» بعد قليل بنفس القاعدة وقال: «كلّ من ملك شيئاً ملك الإقرار به» وأرسله إرسال المسلّمات «2».

2- ما ذكروه في باب العبد المأذون في التجارة (في كتاب الإقرار) قال في «الشرائع»: «لو كان- أي العبد- مأذوناً في التجارة فأقرّ بما يتعلق بها قبل، لأنّه يملك التصرّف، فيملك الإقرار».

وقال في «الجواهر»، في شرح هذه العبارة، بعد قوله على المشهور: «نقلًا إن لم يكن تحصيلًا» لما عرفت من أنّه من ملك شيئاً ملك الإقرار به، لكن في التذكرة استشكله «3».

وقال السبزواري في «الكفاية»: إنّه لو كان مأذوناً في التجارة فأقرّ بما يتعلق بها، فالمشهور أنّه

ينفذ فيما في يده، واستشكله العلّامة رحمه الله في «التذكرة»، والأقرب النفوذ فيما هو من لوازم التجارة طرفاً إذ دلّ الإذن في التجارة على الإذن فيما يعلق به تضمناً أو التزاماً قال بعض الأصحاب، لو قلنا إنّه مطلقاً أو على بعض الوجوه نفذ إقراره بما حكم له به وهو حسن» «4».

وقال الشهيد الثاني قدس سره في نفس هذه المسألة: «إنّه إنّما قبل إقرار المأذون في التجارة لأنّ تصرفه نافذ فيما أذن له فيه منها، فينفذ إقراره بما يتعلقّ بها، لأنّ «من ملك شيئاً ملك الإقرار به»، ولأنّه لولاه لزم الإضرار وإنصراف الناس عن ملاينة العبيد، فيختلّ نظام التجارة، وفي «التذكرة» استشكل هذا القول، وعذره واضح، لعموم الحجر على المملوك «5».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 374

3- منها ما ذكروه في باب الإقرار بالوصية أنّه لوأقرّ بماله أن يفعله كالوصيّة صح.

قال في «الجواهر» في كتاب القرار (على ما صرّح به غير واحد «لقاعدة من ملك شيئاً ملك الإقرار به» التي طفحت بها عباراتهم بل صريح بعضهم أنّه لا خلاف فيها عندهم).

ثم أضاف إليه: «وإن كان لنا فيها إشكال فيما زاد على مقتضى قوله صلى الله عليه و آله: إقرار العقلاء على أنفسهم جائز، ونحوه، ممّا سمعته في محله، ومنه ما نحن فيه، ضرورة عدم التلازم بين جواز وصيّه بذلك وجواز إقراره به، ولعله لذا قال الكركي في حاشيته لا يصحّ» «1».

أقول: قد وقع الخلط في كلامه رحمه الله بين القاعدتين، وقد عرفت أنّهما قاعدتان مختلفان وناظرتان إلى معنيين مختلفين لا ينبغي خلط أحدهما بالآخر، وهذا الخلط في كلامه وكلام غيره من مهرة الفن عجيب.

4- ما ذكروه في باب الجهاد كما عن العلّامة رحمه الله في «التذكرة» من أنّ

المسلم يسمع دعواه في أنّه أمّن الحربي في زمان يملك أمانه مدّعياً عليه الإجماع، ونحوه المحقق في الشرايع، تبعاً للمبسوط، من دون دعوى الإجماع «2».

قال المحقق رحمه الله في «الشرائع» إنّه لو أقرّ المسلم أنّه أذمّه (أي أمن وأعطي الذمام) فإنّ كان في وقت يصحّ منه إنشاء الأمان قبل.

وقال في «الجواهر» في شرح هذه العبارة: «إجماعاً كما في المنتهى لقاعدة من ملك شيئاً ملك الإقرار به، والّا فلا بأن كان إقراره بعد الأسر لم يصح، لأنّه لا يملكه حينئذٍ، حتى يملك الإقراربه» «3».

5- ما ذكروه في باب الإقرار بالرجوع فيمن يصحّ له الرجوع في الزوجة وإن أشكل

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 375

فيه بعض، قال بعضهم يقبل، وقال بعضهم لا يقبل «1».

هذه جملة ممّا استدلّ فيها بالقاعدة أو يستشم أن يكون هو الدليل فيها.

إذا عرفت هذا تعلم أنّ المراد من القاعدة عندهم أنّه إذا كان الإنسان بحكم الشرع قادراً على إنشاء عقد أو ايقاع أو شبه ذلك قبل إقراره في فعل ذلك ويحكم بوقوع ذاك العقد أو الإيقاع أو شبهه لمكان هذه القاعدة.

مصدر قاعدة من ملك

اشارة

إعلم أنّه لم يرد فيها أيّة رواية من معصوم عليه السلام، بل ولم يدّعه أحد.

وما استدلّ أو يمكن الإستدلال به عليها بعد عدم ورود رواية خاصّة فيها أمور:

الأول: الإجماع

الذي صرّح به غير واحد منهم فيما مرّ عليك من كلماتهم ويؤيّده إرسال غيرهم للقاعدة إرسال المسلّمات.

ولكن يرد عليه أولًا: أنّه لا يمكن الإستدلال بمثله في مثل هذه المسألة التي فيها مصادر أخر يمكن استناد المجمعين إليها، مضافاً إلى ما قد عرفت من الإشكال فيه في بعض الموارد من التذكرة وصاحب الجواهر رحمه الله.

نعم، قد يستدل بالقدر المتيقن منها ممّا لا خلاف فيه بينهم، ولكنه وإن سلم من الإشكال الأخير لكنّه لا يسلم من الإشكال الأول، وعلى كلّ حال الإنصاف أنّ دعوى الإجماع وظهور التسالم مؤيّد قوي للأدلة الآتية وإن لم يكن بنفسه دليلًا.

الثاني: سيرة أهل الشرع

قال العلّامة الأنصاري رحمه الله في رسالته المعمولة في المسألة: «ويؤيده (أي الإجماع) استقرار السيرة على معاملة الأولياء بل مطلق الوكلاء معاملة الأصل في إقرارهم كتصرفاتهم» (إنتهى) «1».

والحقّ أنّ السيرة بنفسها دليل على المطلوب، لا أنّها مؤيّدة للإجماع، ولكن سيأتي إن شاءاللَّه أنّ منشأ السيرة أمر آخر وهو العمدة في المسألة.

الثالث: إقرار العقلاء

وقد يستدلّ لها بقاعدة «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» الثابتة بالإجماع وسيرة العقلاء والرواية الخاصّة المعتبرة كما عرفت فيما مرّ.

هذا ولكن مرّ آنفاً أنّهما قاعدتان مستقلتان لا دخل لأحدهما بالآخر، وإنّما وقع الخلط بينهما من غير واحد من فقهائنا (رضوان اللَّه عليهم) وهو بمعزل عن التحقيق، بل المهم في قاعدة من ملك موارد افتراقها عن قاعدة الإقرار، فلو كان الدليل عليها هو قاعدة الإقرار لأنحصر بمواردها.

الرابع: قاعدة الأمانة

وقد يتمسك لها بأدلّة قاعدة الأمانة، وأنّ من ائتمنه المالك على ملكه أو اذن له الشارع بأمر لا يجوز اتهامه.

وهو وإن كان جيّداً في الجملة، ولكن لا يشمل جميع موارد قاعدة من ملك، لأنّه قد لا يدخل في عنوان الإذن من المالك أو الشارع بالتصرف في شي ء، وبعبارة أخرى قاعدة الأيتمان تختصّ بموارد الأمانات، مع أنّ قاعدة من ملك تجري في غيرها أيضاً كما في مسألة إعطاء الأمان للكافر، ومسألة الرجوع في الطلالق الرجعي.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 377

الخامس: قد يتوهم أنّ القاعدة مستندة إلى قاعدة قبول قول من لا يعلم الأمر إلّا من قبله، ولكن يردّه أنّ بعض مواردها وإن كان من هذا القبيل، ولكنّه أخصّ من المدّعى كما لا يخفى على الخبير.

السادس: وهو العمدة: استقرار بناء العقلاء عليه، والظاهر أنّه من باب الدلالة الالتزامية الحاصلة من التسلّط على أمر.

توضيح ذلك: إذا ملك الإنسان أمراً، وكان مسلّطاً عليه بحيث يجوز له التصرف في أيّ زمان أراد، فلازم ذلك أن يقبل قوله في إعمال هذه السلطنة، وكيف لا يقبل، وكيف يطلب منه البيّنة على إعمال سلطنته مع أنّه قادر عليه في كلّ زمان، وأمره بيده، فهل يمكن أن يقال للزوج بأيّ دليل رجعت إلى زوجتك المطلّقة في عدّتها؟ أو ليس

يقول إنّ أمر الرجوع بيدي وتحت إختياري وأنا قادر عليه في كلّ زمان من غير حاجة إلى شي ء آخر.

وبالجملة، لازم هذه السلطة قبول قوله في إعماله، والملازمة بينهما وإن لم تكن عقلية إلّاأنّها ملازمة عرفية ظاهرة لكلّ أحد.

ولذا لا يشكّ أحد في قبول قول الوكيل المأذون في البيع والشراء، أو النكاح والطلاق، فيما فعله، وليس ذلك إلّامن جهة كون السلطة على هذه الأمور ملازمة لقبول قوله عرفاً.

وما وقع من بعضهم من الإشكال في قبول إقرار عبد المأذون (كما عرفته سابقا عند نقل الأقوال)، فالظاهر أنّه من جهة كون محل كلامهم العبد، وأمّا لو كان المأذون حرّاً فالظاهر قبول قوله فيما يملك أمره، كما أنّ الظاهر أنّ استقرار سيرة أهل الشرع على هذا المعنى ناشي ء من هنا لا من دليل تعبّدي وصل إليهم، لم يصل إلينا.

وبالجملة، لا ينبغي الريب في عموم القاعدة وشمولها لجميع موارد السلنطة، إلّا أنّ يدلّ دليل خاصّ على خروج بعض هذه الموارد.

وقد ظهر من جميع ما ذكرنا أنّ المراد بالملك هنا ليس «ملكيّة الأموال»، بل هو

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 378

عبارة عن السلطة على شي ء، سواء كانت في الأموال، والنفوس، والحقوق، وغيرها، وهذا أمر ظاهر لا يحتاج إلى مزيد بيان بعد ما عرفت.

كما أنّ الظاهر ممّا عرفت اشتراط كونها فعليّاً، فلو كانت السلطة بالقوة على أمره لم ينفذ إقراره فيه.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 379

30

قاعدة الطهارة

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 381

30 قاعدة الطهارة

اشارة

من القواعد المشهورة أيضاً قاعدة الطهارة التي يتمسّك بها الأصحاب في أبواب الطهارات كلّها، وحاصلها الحكم بطهارة كلّ شي ء ما لم يثبت نجاسته.

وهذا الحكم على إجماله مجمع عليه بين الأصحاب كما قال صاحب الحدائق في مقدمات حدائقه في المقدمة الحادية عشرة: «إنّ أصل الحكم

المذكور ممّا لا خلاف فيه، ولا شبهة تعتريه» «1».

وإن وقع الخلاف فيها في مواضع تأتي الإشارة إليه إن شاء اللَّه.

فلنذكر أولًا ما عثرنا عليه من الروايات الدالّة على هذا الحكم، ثمّ لنتكلم في موارد الخلاف فيها، وهي عدّة روايات:

1- موثقة عمّار، عن أبي عبداللَّه عليه السلام في حديث قال: «كلّ شي ء نظيف حتى تعلم أنّه قذر، فإذا علمت فقد قذر، وما لم تعلم فليس عليك» «2».

2- ما رواه حفص بن غياث، عن جعفر، عن أبيه، عن علي عليهم السلام قال: «ما ابالي أبول أصابني أو ماء إذا لم أعلم»؟! «3».

3- ما أرسله الصدوق في «المقنع»: «كلّ شي ء طاهر حتى تعلم أنّه قذر» «4».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 382

والظاهر أنّها متحدة مع سبق ولا دليل على كونها رواية أخرى.

ويستفاد عموم هذا الحكم من عدّة روايات في خصوص أبواب المياه أيضاً.

منها: ما رواه حمّاد بن عثمان، عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «الماء كلّه طاهر حتى تعلم أنّه قذر» «1».

وما أرسله المحقق في المعتبر قال قال عليه السلام: «خلق اللَّه الماء طهوراً لا ينجسه شي ء، إلّاما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه» «2».

وما رواه داود بن فرقد عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: ... «وجعل لكم الماء طهوراً» (إقتفاءاً لما يظهرمن آيات الذكر الحكيم من كون الماء طهوراً) «3». إلى غير ذلك ممّا ورد في هذا المعنى.

ولكنّ العمدة من ذلك هو «موثقة عمّار» لأنّ غيرها وردت في موارد خاصّة لا يمكن الاستناد إليها في هذه القاعدة الكليّة، ولكن كفى بها دليلًا على المطلوب بعد العمل بها، من ناحية الأصحاب (رضوان اللَّه عليهم) مع إعتبار سندها في نفسه.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّه قد يشكّ في كون شي ء طاهراً أو

نجساً من ناحية الشبهة الموضوعيّة، كما إذا شكّ في غليان العصير بناء على نجاسته بالغليان، أو في صيرورة العنب خمراً بناءاً على ما هو المشهور من نجاسة الخمر، أو في كون إنسان كافراً أو مسلماً إذا لم يكن له حالة سابقة، بناءاً على ما هوالمعروف من نجاسة الكفّار، وكذا إذا شكّ في تغيّر الماء بأحد أوصافه الثلاثة، أو إصابة الثوب واللباس شي ء من النجاسات، أو في البلل المشتبه بالبول والمني فشكّ أنّه بلل طاهر أو نجس، أو غير ذلك ممّا لا يُحصى.

ففي كلّ هذه الموارد إذا علم بالحالة السابقة فلا شكّ في أنّه يؤخذ بها بمقتضى الإستصحاب، وإن لم يكن له حالة سابقة فيحكم بطهارتها بمقتضى هذه القاعدة،

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 383

أعني قاعدة الطهارة، فيجوز استعمالها في كلّ ما يشترط فيه الطهارة.

هذا كله ممّا لا ريب فيه، ولم ينقل خلاف فيها من أحد من الأصحاب.

نعم، لا إشكال في رجحان الإحتياط في جميع هذه المقامات بالأدلّة العامّة الواردة في استحباب الاحتياط في أمور الدين.

هذا، ولكنّ الأولى الإقتصار في الإحتياط فيها بما يكون الشبهة فيه قوية كشرب سؤر من لا يبالي في الدين، أو يكون متهماً جدّاً، وأمّا الإحتياط في كلّ ما يؤخذ من سوق المسلمين، وأيدى أهل الدين، بمجرّد احتمال النجاسة، الموجود في جميع الأشياء، فلم يثبت في الشرع رجحانه، وإن كان قد يبدو العمل به من بعض أهل العلم والتقوى، بل الظاهر أنّه مخالف للإحتياط، لترتّب مفاسد كثيرة عليها، من إيذاء المؤمنين، واتلاف الوقت والمال، وكونه مظنّة للوسواس المرغوب عنها، أو مثل ذلك.

بل الظاهر أنّه مخالف لسيرة النبي صلى الله عليه و آله والأئمة المعصومين عليهم السلام وأصحابهم لأنّهم كانوا يزاولون الناس، ويأكلون، ويشربون معهم،

ويدخلون الحمّامات، ويشترون الألبسة، والأطعمة من سوق المسلمين، ويلبسونها، أو يأكلون منها من غير غسلها، مع ما كانت الأسواق والحمّامات، لا سيّما في تلك الأزمنة مشكوكة من حيث الطهارة والنجاسة، لدخول غير المسلمين فيها، واعتقاد بعض فرق المسلمين بطهارة الميتة بالدباغة، أو طهارة العصير العنبي المغلي، أو حكمهم بطهارة النبيذ، أو طهارة الأشياء النجسة بزوال عين النجاسة، إلى غير ذلك، ممّا يستفاد من الأخبار وفتاواهم في أبواب مختلفة، من أبواب الطهارات والنجاسات.

فلو كان الإحتياط أمراً مرغوباً فيه في باب الطهارة والنجاسة بمجرّد الاحتمال لما خالفه المعصومون المطهرون (عليهم آلاف الصلاة والتحية)، فالأولى ترك هذه الاحتياطات إلّافي موارد الإتهام الشديد، وترجيح الأخذ بسيرة المسلمين والأئمّة الطاهرين عليهم السلام والحكم بطهارة الأشياء ممّا لم يعلم نجاستها.

وأخرى يكون من جهة «الشبهة الحكميّة» كما إذا تولّد حيوان من طاهر ونجس،

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 384

ولم يصدق عليه شي ء من عناوين الحيوانات الموجودة، وشكّ في طهارته ونجاسته، وكذا إذا شك في بعض أجزاء الحيوان كبول الطائر الذي لا يؤكلّ لحمه، وغير ذلك ممّا ليس له حالة سابقة، حتى يتمسّك فيه بالإستصحاب فيه قولان: المحكى عن جملة من المتأخرين الحكم بالطهارة بمقتضى هذه القاعدة، وعن المحدّث الأمين الاسترآبادي في كتاب «الفوائد المدنية»، هو العدم، حكاهما صاحب الحدائق في «حدائقه» «1».

وقد يقال بأنّ القدر المتيقن من الأخبار السابقة، وعمدتها موثقة عمّار، هو ما وقع الإتفاق عليه من الشبهات الموضوعيّة، لأنّ المراد من هذا الخبر وأمثاله إنّما هو دفع الوساوس الشيطانيّة، والشكوك النفسانيّة، بالنسبة إلى حالة الجهل بملاقاة النجاسة، وبيان سعة الحنيفية السمحة السهلة، بالنسبة إلى إشتباه بعض الأفراد غير المحصورة ببعض، فيحكم بطهارة الجميع حتى يعلم الفرد النجس بعينه، وأمّا إجراء ذلك في

الجهل بالحكم الشرعي فلا يخلو من الإشكال، المانع من الجرأة الحكم به في هذا المجال «2».

ويمكن الاستدلال على ما ذكره من إختصاص الخبر بالشبهات الموضوعيّة هو تقييده بقوله «حتى تعلم»، لأنّ هذا التعبير إنّما هو في الأحكام الظاهريّة المناسبة للشبهات الموضوعيّة، وأمّا الأحكام الواقعيّة فهي غير مغياة بالعلم والجهل.

اللهم إلّاأن يقال: إنّ الرواية ناظرة إلى الحكم الظاهري في الشبهات الموضوعيّة والحكميّة معاً، أو إنّ صدرها عامّ بالنسبة إلى الحكم الواقعي والظاهري، وإن كان ذيلها خاصّاً في الحكم الظاهري.

ولكن كلّ ذلك بعيد، ولا أقلّ من الشكّ، فالحكم بالعموم مشكل.

وهنا بيان آخر لإثبات هذه القاعدة في الشبهات الحكميّة شبيه ما ذكروه في

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 385

بحث البراءة، بالنسبة إلى الأحكام التكليفيّة، وحاصله أنّ النجاسات أمور محدودة معدودة، والأصل الأولى في الأشياء هو الطهارة، فلو كان شي ء قذراً شرعاً ممّا لا يستقذره العرف، فعليه البيان، فلو لم ينبّه عليه، يعامل معها معاملة الطهارة، فكما أنّ الحرام هو الذي يحتاج إلى البيان، وكذا الواجب، وأمّا المباح فغير محتاج إليه في عرف العقلاء وفي عرف الشرع، فكذلك بالنسبة إلى الأحكام الوضعيّة مثل النجاسة وشبهها، وهكذا الكلام بالنسبة إلى النساء المحرّمات، فإنّهن اللواتي لابدّ من بيان حرمتهنّ، فلو لم يبيّن الشارع حرمة اخت الزوجة جاز نكاحها، لا بعنوان الحكم التكليفي والبراءة بل بعنوان الحكم الوضعي، لأنّ جواز النكاح وضعاً لا يحتاج إلى البيان، بل الحرمة تحتاج إليه.

ولعلّه لذا حكم غير واحد من الأصحاب بطهارة المتولّد من الكلب والخنزير إذا لم يتبعهما في الاسم ولم يماثله حيوان، أو أنّ المتولد من أحدهما وغيره طاهر كذلك.

وإن شئت قلت: إنّ النجاسة وإن كانت حكماً وضعياً على الأقوى، ولكن تنشأ منها أحكام تكليفيّة إلتزاميّة،

ويمكن التمسك بالبراءة بالنسبة إلى آثارها التكليفيّة، كالأكل والشرب، وتلويث المسجد به، وغير ذلك، ولكنّ هذا لا ينفع في مثل الوضوء بماء لا دليل على طهارته ونجاسته بحسب الحكم الشرعي، لأنّ استصحاب الحدث باق فتأمّل.

فالعمدة ما عرفت من القاعدة العقلائيّة في أمثال المقام، وأنّ الحرمة والنجاسة الوضعيين، وشبههما تحتاج إلى البيان، فلو لم يبيّن الشارع يحكم بالحلّية والطهارة.

وممّا ذكرنا ظهر الإشكال فيما أفاده في «التنقيح في شرح العروة الوثقى» فيما ذكره بقوله: «طهارة ما يشكّ في طهارته ونجاسته من الوضوح بمكان، ولم يقع فيها خلاف، لا في الشبهات الموضوعيّة، ولا في الشبهات الحكميّة، ومن جملة أدلّتها قوله في موثقة عمّار (كلّ شي ء نظيف حتى تعلم أنّه قذر الخ)» «1».

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 386

وقد عرفت المخالفة في الحكم من صاحب الحدائق والمحدّث الاسترآبادي في «الفوائد المدنية» وسكوت جمع من الأصحاب منه، كما أنّك عرفت قوّة اختصاص الموثقة بالشبهات الموضوعيّة، وأنّ طريق إثبات الحكم في الشبهات الحكميّة طريق آخر غير الحديث.

تنبيه

هل الطهارة والنجاسة حكمان واقعيان أو علميان

ظاهر جميع الأصحاب هو الأول ولكنّ صاحب الحدائق إختار الثاني.

قال في مقدمات «حدائقه»: «ظاهر الخبر المذكور (موثقة عمّار) أنّه لا تثبت النجاسة للأشياء، ولا تتصف بها إلّابالنظر إلى علم المكلف، لقوله عليه السلام: «فإذا علمت فقد قذر» بمعنى أنّه ليس التنجيس عبارة عمّا لاقته عين النجاسة واقعاً خاصّة، بل ما كان كذلك وعلم به المكلف، وكذلك ثبوت النجاسة لشي ء إنّما هو عبارة عن حكم الشارع بأنّه نجس وعلم المكلّف بذلك، وهو خلاف ما عليه جمهور أصحابنا (رضوان اللَّه عليهم) فإنّهم حكموا بأنّ النجس إنّما هو عبارة عمّا لاقته النجاسة واقعاً، وإن لم يعلم به المكلّف، وفرّعوا عليه بطلان صلاة المصلّي في النجاسة جاهلًا، وإن سقط الخطاب

عنه ظاهراً ...».

وأنت خبير بما فيه من العسر والحرج، ومخالفة ظواهر الأخبار الواردة عن العترة الأبرار».

ثمّ استدلّ على ما اختاره باستلزام قول المشهور التكليف بما لا يطاق، وما دلّ على أنّ من رأى في ثوب أخيه دماً وهو يصلي قال عليه السلام: «لا يؤذنه حتى ينصرف» «1» وغير ذلك.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 387

واستدلّ أيضاً بما حكاه عن الشهيد الثاني رحمه الله: «أنّ ذلك يكاد يوجب فساد جميع العبادات المشروطة بالطهارة لكثرة النجاسات في نفس الأمر، وإن لم يحكم الشارع ظاهراً بفسادها، فعلى هذا لا يستحق عليها ثواب الصلاة، وإن استحقّ أجر الذاكر المطيع بحركاته وسكناته، إن لم يتفضّل اللَّه تعالى بجوده» «1».

ولكن ما ذكره رحمه الله من أعجب ما يمكن أن يتفوه به، فإنّه يرد عليه أمور:

الأول: أنّ النجاسة هي القذارة، والطهارة عدمها، وهما أمران عرفيان قبل أن يكونا شرعيين، فالطهارة والنجاسة ليستا من اختراعات الشرع، بل كانتا من أول زمن وجود الإنسان، بل وقبل وجوده، فلذا يجتنب أهل العرف عن كثير من الأشياء لأنّها قذارات، ويطلبون أشياء آخر لأنّها طاهرات.

نعم، الشارع المقدّس زاد على ما عند العرف، ونقص في بعض الأحيان، واشترط فيهما شرائط وبيّن لها أحكاماً ولكنّها أشبه شي ء بما ورد عنه في أبواب العقود، والإيقاعات، والمعاملات.

وبالجملة، لا ينبغي الريب في كونهما أمرين واقعيين عند العرف، وقد أمضاهما الشرع مع قيود وشرائط، بل هما أمران تكوينيان لا اعتباريّان كما توهمّه بعض، وإن كان هذا المعنى لا يؤثر فيما نحن بصدده، فإذا كانتا عند العرف بعنوان أمرين واقعيين وأمضاهما الشرع كذلك تكونا أمرين واقعيين.

الثاني: إرتكاز المتشرّعة، فإنّه لا شكّ عندهم في كون النجس كالطاهر أمراً واقعيّاً، علمنا به أو لم نعلم، وهم قد

أخذوا ذلك من لسان الشرع، ومن البعيد جدّاً رميهم بالغفلة عن محتوى كلام الشارع ومغزاه في هذا الباب، وجهلهم جميعاً، مع كثرة الأحاديث الواردة في أبواب الطهارة والنجاسة.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 388

الثالث: ما ذكره مخالف لظاهر جميع ما ورد في أبواب الأعيان النجسة والطاهرة، فإنّ قوله عليه السلام في الكلب «إنّه نجس» «1»

وكذا الحكم بالنجاسة وما يفيد معناه بالنسبة إلى العناوين الآخر، وكذا «حكمه بطهارة الماء» وغيره، فهذه كلّها ظاهرة في تعلّق الحكم بعناوينها الواقعيّة، مع قطع النظر عن العلم والجهل، فإنّ الكلب، أو الدم، أو المني، أو الماء، عناوين خارجيّة، علمناها أو لم نعلم بها.

الرابع: لازم ما ذكره أن تكون النجاسة أمراً نسبيّاً، فثوب واحد نجس بالنسبة إلى من يعلم وطاهر بالنسبة إلى من لا يعلم، وهذا أمر عجيب لا يقبله ذوق الفقه، وإرتكاز أهل الشرع وأحاديث الباب.

الخامس: لازم ما ذكره كون الطهارة أيضاً أمراً عمليّاً، فإذا لم نعلم بطهارة شي ء لا يكون طاهراً، ومن البعيد أن يلتزم به، وحينئذٍ يلزم التفكيك بين الطهارة والنجاسة، مع أنّهما أمران متقابلان.

وبالجملة، أيّ داعٍ على ارتكاب هذه التكلّفات مع وضوح الأدلّة وظهورها في كونهما أمرين واقعيين، فمثل قوله عليه السلام في السؤال عن أبي حنيفة: «أيّما أنجس البول أو الجنابة فقال: البول؟ ...» «2».

وقوله في حديث أبي بصير: «إذا أدخلت يدك في الإناء قبل أن تغسلها فلا بأس إلّا أن يكون أصابها قذر بول أو جنابة» «3».

وغير ذلك ممّا يعثر عليه المتتبع وهو كثير كلّها دليل على ما ذكرنا، ولا داعي على حملها على خلاف ظاهرها.

وأمّا ما تشبّث به رحمه الله في هذا المجال فليس ممّا يركن إليه:

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 389

أمّا استدلاله بقوله «فإذا علمت فقد

قذر» الظاهر في حصول القذارة بمجرّد العلم يدفعها، ما ورد في صدر الحديث من قوله عليه السلام: «كلّ شي ء طاهر حتى تعلم أنّه قذر» فإنّه ظاهر أو صريح في أنّ القذارة أمر واقعي حاصل قبل العلم، وأنّ العلم يحصل بعدها، وهو قرينة على تفسير الذيل، وأنّه إذا علم بالقذارة يتنجّز الحكم في الظاهر والواقع، وما لم يعلم فهي حكم واقعي غيرمنجّز كما هو مشروح في باب الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي في الأصول.

وإن شئت قلت: العلم هنا طريقي كما هو الأصل فيه لا موضوعي.

وأمّا بعض الأخبار الدالّة على عدم إخبار الغير بكون الدم في ثوبه في حال الصلاة فقد فرغنا عنه بما ذكر في محلّه من أنّ الشرط على قسمين: الشرائط الواقعيّة والشرائط العلميّة، فالنجاسة وإن كانت أمراً واقعياً، ولكنّ اشتراط الصلاة بعدمها شرط علمي يختصّ بظرف العلم، ومن فرغ عن هذا البحث أعني تقسيم الشرائط إلى الشرائط العلميّة والواقعيّة، فليس يصعب عليه هذه الرواية ومثلها أبداً.

ومن هنا يعلم الجواب أيضاً عمّا نقله عن الشهيد الثاني فإنّ كثرة النجاسات في نفس الأمر لا تمنع عن صحة الصلاة بعد كون اشتراط الصلاة بعدمها من الشروط العلميّة لا الواقعيّة.

نعم، يبقى الكلام في مثل ماء الوضوء والغسل بما يظهر منهم، كونها شرطاً واقعيّاً في موردهما، ولكنّ الالتزام بكونها شرطاً علميّاً فيهما أيضاً غير بعيد، ووجوب الإعادة بعد الإطّلاع على نجاسة الماء يمكن أن يكون من باب الشرط المتأخر فتأمّل جيّداً.

إلى هنا تمّ الكلام عن قاعدة الطهارة وقع الفراغ منه

يوم الخميس 30/ جمادي الاولى/ 1405

والحمد للّه رب العالمين

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.