القواعد الفقهية المجلد 1

اشارة

سرشناسه : مكارم شيرازي ناصر، 1305-

عنوان و نام پديدآور : القواعد الفقهيه / ناصر مكارم الشيرازي

مشخصات نشر : قم : مدرسه الامام علي بن ابي طالب ع ، 1425ق = 1383.

مشخصات ظاهري : 2ج.

شابك : 50000 ريال : دوره : 964-533-036-X ؛ 50000 ريال دوره ، چاپ دوم ؛ : ج.1 ، چاپ دوم : 9648139040 ؛ : ج.2 ، چاپ دوم : 9648139210

يادداشت : عربي.

يادداشت : چاپ قبلي مدرسه الامام علي بن ابي طالب ع ، 1374( با فروست ).

يادداشت : ج.1 تا 2 ( چاپ دوم : 1385 ).

يادداشت : كتابنامه

موضوع : فقه -- قواعد.

موضوع : اصول فقه شيعه

شناسه افزوده : مدرسه الامام علي بن ابي طالب ع .

رده بندي كنگره : BP169/5 ‮ /م 7ق 9 1383

رده بندي ديويي : 297/324

شماره كتابشناسي ملي : م 83-30013

الجزء الأول

مقدمة

بعض مشاكلنا العلمية

لم تزل و لاتزال تفتخر الشيعة الإمامية بأنّ مصادر علومها هم أهل بيت الوحي و ورثة علم النبيّ صلى الله عليه و آله، فعندهم من الأثر الصحيح ما لم يصل إلى غيرهم، حيث أخذوها ممّن صاحبه طوال الليالي و الأيّام، و صاحب سرّه و من تربّي في حجره، أو ممّن نشأ من بعده في بيته.

لكن لايفتخر الشيعة بهذا فحسب؛ بل يفتخرون أيضاً بأنّ أئمتهم عليهم السلام قد فتحوا لهم باب الإجتهاد حينما أغلقه الأخرون على أنفسهم، فأمروهم بالنظر و التفكير في الأصول التي وصلت إليهم و استنباط فروعها منها، و في الفروع الَّتي تحدث لهم و إرجاعها الى أصولها، ليتبيّن لهم بذلك كل ما يحتاجون إليه من الأحكام الشرعية في جميع الحوادث الواقعة لهم.

و قد ندبهم أئمة اهل البيت عليهم السلام إلى ذلك تارة بقولهم عليهم السلام: «أنتم أعرف النّاس إذا عرفتم معاني

كلامنا» «1».

و أخرى؛ بأنّ للَّه على الناس حجّتين: حجة ظاهرة و حجة باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل و الأنبياء و الأئمة، و أما الباطنة فالعقول. «2»

و ثالثة؛ بتعليمهم طرق الجمع بين الأخبار المتعارضة، بالأخذ بالمجمع عليه، و بعرضها على كتاب اللّه، و غير ذلك من المرجّحات.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 4

و رابعة؛ بمثل قولهم عليهم السلام: «هذا باب ينفتح منه ألف باب»، بعد الإشارة إلى قاعدة «الغلبة» و هي: إنَّ ما غلب اللَّه عليه فاللَّه أولى بالعذر، «1» و قولهم عليهم السلام مشيرين إلى بعض مسائل الوضوء: «هذا و أشباهه يُعرف من كتاب اللَّه، و ما جعل عليكم في الدين من حرج»، «2» فحثوهم على الإستضاءة بالكتاب العزيز و الأصول الّتي وردت في السنة أكثر ممّا يعرفه النّاس.

و خامسة؛ بإبطالهم التصويب و إعلامهم بأنَّ للَّه في كُلِّ واقعة حكماً يشترك فيه العالم و الجاهل، «3» فمن أدركه فقد أصاب و إلّافقد أخطأ، و: «إن للمصيب أجرين و للمخطئ أجراً واحداً»، «4» حتى يبذل الناظر غاية مجهوده في البحث و الفحص عن الأدلة ليصيب الأحكام الواقعية، و لايكتفي بما وقف عليه بادئ نظره، بزعمه أنّ المجتهد مصيب في رأيه، و ما انتهى إليه إجتهاده هو حكم اللَّه الواقعي في حقه؛ إلى غير ذلك من القرائن الكثيرة التي يطول المقام بذكرها.

فبهذه و بغيرها فتحوا عليهم السلام علينا باب الإجتهاد، الّذي هو رمز بقاء الدّين و حافظ نشاطه العلمي، و به تُوجَّه الخطى نحو الكمال و يتقدم العلم إلى الإمام و يعلو الإسلام و لا يُعلى عليه، أجل لا ينمو العلم- أيّ علم كان- ولا يربو إلَّاتحت ضوء الإجتهاد.

و لذلك نرى فقهاء أهل البيت من أصحابنا قد أتوا بما لم

يأت به الأخرون، من كتب قيّمة كثيرة في مختلف أبواب الفقه و أصوله، و تلاحقت آراؤهم العلميّة و

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 5

نظراتهم جيلًا بعد جيل حتى انتهت إلى يومنا هذا، فأخذت علوم الدين و لا سيما الفقه عندهم يتسع نطاقها كل يوم، فها نحن قد ورثنا اليوم من أصحابنا الأقدمين و علمائنا الأكابر المتأخّرين مئات، لا بل آلاف من الكتب القيمة في الفقه و أصوله و الحديث و رجاله؛ بها ينكشف النقاب عن غوامض مسائلها، و يهتدي روّاد العلم إلى مكنون حقائقها، فشكر اللَّه سعيهم و أجزل أجرهم، و جزاهم عنّا و عن الإسلام خير الجزاء.

لكن مع الأسف!

لم يخل هذا النجاح العلمي العظيم عن نواقص لايستهان بها، نشأت عن إفراط في بعض الجوانب و تفريط في جوانب أُخر، حيث أنّا نرى اليوم مسائل كثيرة، لاتترتب عليها آية فائدة يعبأ بها، قد أختلطت بالمسائل النافعة، لاسيّما في أصول الفقه، بل حتى في الفقه نفسه.

و من العجب أنَّ هذه المسائل تزداد كل يوم، تحت عنوان بسط العلم و تحقيق الحقيقة؛ بما يُنذر عن مستقبل مظلم!

فنرى في «اصول الفقه» الّذي هو من أهم أركان الإجتهاد و استنباط الاحكام الفرعية عن مداركها؛ مباحث لا طائل تحتها اصلًا أو قليلة الفائدة جداً، لا تليق بتلك الأبحاث الطويلة، كالبحث الطويل عن المعاني الحرفية، و بعض أبحاث المشتق، و بعض أبحاث مقدمة الواجب، و كثير من مباحث الإنسداد، و البحث عما يرد على التعاريف من النقوض، مع إعترافهم بأنّها تعاريف بنحو شرح الإسم لاحدود حقيقية.

و في الفقه أيضاً نرى انّهم يبحثون في فروع نادرة جداً، لو لم يكن الإبتلاءِ بها محالا عادة، ككثير من فروع العلم الإجمالي الّتي تذكر في الفقه تارة و

في الأصول أخرى، و كالبحث المشهور عن وجوب القسمة على النّبي صلى الله عليه و آله بين أزواجه و عن وظائف الإمام عند ظهوره؛ و حكم دمه و غيره، و كالبحث عن أنّ من خُلِقَ بالغاً دفعةً،

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 6

هل يحتاج إلى الوضوء لصلواته أم لا؟ إلى غير ذلك مما يطّلع عليه الخبير في كثير من أبواب الفقه.

و من جانب آخر نراهم يعتنون بشأن الأقوال الشاذة، مهما كانت، و يتعبون أنفسهم بإيراد الإشكالات الكثيرة على كل واحد منها و لو كانت ظاهرة البطلان من غير حاجة إلى إبطال، و بتوضيح موارد النظر في ذيل كلام المخالف و صدره، و معناه و لفظه، و أصله و فرعه، و لو كان أجنبياً عن تحقيق حكم المسألة.

و نراهم ايضاً يبحثون في بعض مسائل أصول الفقه- أي ما يسمى أصولًا و لعلّها ليست بأصول!- شهراً أو شهوراً عديدة ثمّ يلتمسون ثمرة لها، من هنا و هناك، و قد لايرى لها عين و لا أثر، و لمّا يعييهم الفحص يسكنون إلى النذر و أشباهه و يرضون أنفسهم بظهور ثمرتها في النذور؛ و يقولون: لعلّ ناذراً ينذر شيئاً يرتبط بتلك المسألة، غافلين عن أنّ هذا النّاذر المسكين يمكن أن يرتبط نذره بمسألة من مسائل أيّ علمٍ من العلوم، فهل يرضى اللبيب بطرح جميع تلك العلوم في الأصول معتذراً بمثل هذا العذر؟

و أسوأ من ذلك كله ما نراه من تغيير مجاري البحث في هذه العلوم و خلطها بغيرها، فيستدلّ للمسائل الفقهية أو الاصوليّة بإستدلالات لايليق إيرادها إلّافي المباحث الفلسفية، مع أنّه من الواضح أنَّ طور البحث يختلف من علمٍ لآخر، فالفلسفة تدور على التدقيق و التعمّق في الحقائق الكونية الخارجية و تدور

استدلالاتها عليها؛ و أمّا الفقه و أصوله فإنّهما يدوران على أمور إعتبارية تشريعية و أمور عرفية و ضوابط جرت عليها سيرة العقلاء فيما بينهم؛ و كلّ من هذين يليق بطور من البحث لايليق به الآخر، و لا شك أن تحريف كل منها عن موضعه لايوجب إلّا بعداً و ضلالًا عن الحقيقة.

فصارت هذه الأمور و أمثالها تُفني مدّة طويلة من أحسن أيّام شباب طلّاب العلم و شيئاً كثيراً من نشاطهم العلمي و قواهم الفكرية، و تمنعهم عمّا هو أهم وأنفع.

فأصبحت هذه المشكلة بلاءاً للعلم و أهله، و لهذا- و لغيره- صارت أبحاثنا الفقهية

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 7

اليوم تدور غالباً حول أبواب العبادات و شي طفيف من المعاملات، و بقيت سائر المباحث القيّمة متروكة مهجورة إلّاعند الأوحدي من العلماء الأعلام.

نسأل اللَّه تعالى و نبتهل إليه سبحانه أن يبعث أقواماً ذوي عزائم راسخة يقومون بأعباء هذا الأمر، و يهذّبون علوم الدين و ينفون عنها هذه الزوائد، و يهدون طلاب العلم إلى سواء السّبيل، و لست أنسى أن بعض الأساتذة الكرام يرى أنَّ التعرّض لمثل هذه المسائل لايخلو عن شبهات شرعية. و لعلّ ذلك بملاحظة ما نرى من إنّ الإسلام اليوم في أشدّ الحاجة إلى العلماء الذابين عن حوزته بعلومهم النافعة، فصرف الوقت في غيرها يمنع عن هذه المهمة.

و من العجب أنّ كثيراً من الباحثين مع علمهم بجميع هذه الأمور و قولهم في المجالس «كيت و كيت» إذا اشتغلوا بالبحث لايملكون أنفسهم عن متابعة الباقين.

فلعلّهم يحسبون عدم التّعدّي عن طورهم في سرد جميع هذه المباحث إقتداءاً محموداً بالسلف الصالح (رضوان اللَّه عليهم)، فكأنّهم نسوا طريقتهم في عدم الخضوع قبال أية مسألة من المسائل العلميّة المنقولة عنهم إلّابالدليل القطعي، لاينظرون

إلى القائل و لايرون في هذا أية منافاة للأسوة الحسنة بهم و اقتفاء آثارهم (قدّس اللَّه أسرارهم)، فإذا كانوا يطالبونهم الدليل القاطع على آرائهم في تلك المسائل فكيف لايطالبونهم الدليل على جعلها في عداد مسائل العلوم و في كيفية البحث عنها؟!

أو لعلّهم يعتقدون بوجود «فوائد علميّة» في هذه المباحث، و إن خلت عن «نتائج علمية»، لكنّهم نسوا أن فائدة هذه العلوم لاتظهر إلّافي العمل، فما لا فائدة عمليّة فيه لايستحقّ البحث، فإنَّ هذه العلوم ليست من العلوم الَّتي تُطلب لذاتها كالعلوم الباحثة عن توحيد اللَّه تعالى و صفاته و أسمائه.

أو لعلّهم يزعمون أنَّ مخالفة علمائنا الأكابر (رضوان اللّه عليهم) في هذه الأمور تمسّ كرامتهم و تضرّ بشأنهم! ولكن الحقّ أنَّ الجمود على ما أفادوه و ترك السعي في تهذيبه و تنقيحه و تكميله أمسُّ بكرامتهم و أضرُّ بشأنهم، لأنّه إضاعة لما راموه من

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 8

أهداف العلم و تقدّمه نحو الكمال، جزاهم اللَّه عن الدين و أهله خير الجزاء.

ربّنا اغفرلنا و لإخواننا الّذين سبقونا بالإيمان و لاتجعل في صدورنا غِلّاً للّذين آمنوا ربّنا إنّك رؤوف رحيم.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 9

القواعد الفقهية بين الفقه و الأصول

من أهم ما يجب على الفقيه تحقيقه و البحث عنه هي «القواعد الفقهية»، و هي مجموعة فى القواعد الّتي تكون ذريعة للوصول إلى أحكام كثيرة من أوّل الفقه إلى آخره، و تبتني عليها فروع هامة في شتّى المباحث و الأبواب.

لكن رغم فائدتها الكبيرة هذه- لم يبحث عنها بما يليق بها، و لم تؤدَ حقّها من البحث، لا في الفقه و لا في أصوله، إلّاشئٌ طفيف منها، كقاعدة لاضرر، و بعض القواعد الآخر كقاعدة التجاوز و الفراغ الّتي وقع البحث عنها في بعض كتب

المتأخّرين من الأصوليّين بحثاً تبعياً إستطرادياً، لاذاتياً إستقلاليا، فأصبحت هذه القواعد النّفيسة كالمشردين لاتأويها دارٌ و لاتجد قراراً، لاتعد من الأصول و لا من الفقه، مع أنّ من حقّها أن يفرد لها علم مستقل. و غير خفي أنّه لايمكن تنقيحها ضمن الأبحاث الفقهية؛ لأنّ كل مسألة منها تختص ببحث خاص، كما أنَّ كثيراً منها لاتمسّ المسائل الأصوليّة كي يبحث عنها في علم الاصول و لو استطراداً.

نعم، قام شرذمة قليلون من متأخّري الأصحاب بتأليف رسالات تحتوي على بعض تلك القواعد: منهم:

1- العالم الفاضل المولى محمد باقر اليزدي الحائري المتوفّي قريب سنة الثلاثمائة بعد الألف.

2- المولى العلّامة محمد جعفر الأسترابادي المتوفّي سنة 1263 و سمّاها (مقاليد الجعفرية).

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 10

3- السيد الأجلّ السيد محمد مهدي القزويني المتوفي سنة 1300. «1»

ولكن مع الأسف لم يصل شي من هذه الكتب إلينا.

و أمّا كتاب (القواعد) الّذي صنفه شيخنا الأعظم الشّهيد الأوّل (قدّس اللّه نفسه) فليس متمحضاً في سرد القواعد الفقهية، بل يحتوي على مسائل فقهية مختلفة من شتّى الأبواب، و أخرى أصولية، و يرى فيه بعض المسائل الكلامية بل اللغوية أيضاً، فهو بكتاب فقهي أشبه منه بغيره.

و كذا (تمهيد القواعد) للعلّامة النحرير الشهيد الثّاني، فهو كما ذكر (قدس اللَّه نفسه) في مقدمته يحتوي على مائة قاعدة أصولية و ما يتفرع عليها من الأحكام، و مائة قاعدة أدبية مع ما يناسبها من الفروع الشرعية.

و أمّا كتاب (عوائد الأيّام) في بيان قواعد الأحكام و مهمّات مسائل الحلال و الحرام، الّذي ألفه شيخنا المحقق النراقي قدس سره فهو- كما يظهر من اسمه- و إن اشتمل على بعض القواعد الفقهية إلّاأنّه لايستوعبها، كما أنّه لايختص بها بل يعمّها وغيرها.

فتحصّل من ذلك كله أنّه لايوجد

في مؤلفاتنا تأليف يحتوي على تلك القواعد الهامة بأجمعها و يبحث عنها بحثاً يليق بها، و لذلك لم يبق لي شك في أنّ القيام بهذه المهمة بجمع تلك القواعد في موسوعة مستقلّة و البحث عنها بما يليق بها خدمة للعلم و أهله، فقمت لها مع قلة البضاعة مستمداً من اللّه التوفيق و الهداية، و أبتهل إليه سبحانه أن يُبلّغني مُناي في إتمامه، و أن يجعله ذخراً لي و تذكرةً لغيري إنّه خيرُ ناصرٍ و معين.

و القواعد الفقهية الّتي يستند إليها في مختلف أبواب الفقه و إن كانت كثيرة جدّاً إلّا أنّا نبحث في هذا الكتاب عن مهمّاتها، و هي ثلاثون قاعدة كما يلي:

1- قاعدة لاضرر.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 11

2- قاعدة الصحة.

3- قاعدة لاحرج.

4- قاعدة الفراغ و التجاوز.

5- قاعدة اليد (دلالتها على الملك و صحة التصرفات و ما يلحق بها من الأحكام).

6- قاعدة القرعة.

7- التقية.

8- قاعدة لاتعاد (لاتعاد الصلاة إلّامن خمس الخ).

9- قاعدة الميسور (الميسور لا يسقط بالمعسور).

10- قاعدة التسلّط (الناس مسلّطون على أموالهم).

11- قاعدة حجية البينة.

12- قاعدة حجية خبر الواحد في الموضوعات.

13- قاعدة حجية قول ذي اليد.

14- قاعدة الحيازة (من حاز ملك).

15- قاعدة السّبق (من سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد فهو أحق به).

16- قاعدة الإلزام (إلزام المخالفين بما ألزموا به أنفسهم).

17- قاعدة الجبّ (الإسلام يجب ما قبله).

18- قاعدة الإتلاف (من أتلف مال الغير فهو له ضامن).

19- قاعدة ما يضمن و ما لايضمن (ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسد و بالعكس).

20- قاعدة اليد (على اليد ما أخذت حتى تؤدّي).

21- قاعدة عدم ضمان الأمين.

22- قاعدة الغرور (المغرور يرجع إلى من غرّه).

23- قاعدة الخراج (بالضمان).

24- قاعدة اللزوم (كل معاملة لازمة إلاما خرج بالدليل).

25- قاعدة البيّنة واليمين (ثبوت

البينة على المدّعي و اليمين على من أنكر).

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 12

26- قاعدة التلف المبيع قبل قبضه (كل مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بايعه).

27- قاعدة تبعية العقود للقصود.

28- قاعدة التلف في زمن الخيار (التلف في زمن الخيار ممّن لاخيار له).

29- قاعدة الاقرار (من ملك شيئاً ملك الإقرار به).

30- قاعدة الطهارة.

و نبدأ بالأهم فالأهم و نجعلها في مجلدين إن شاء اللّه تعالى، و نراعي جانب الاختصار في سرد المطالب و نقل الأقوال، و لا نتعرّض لها إلّاإذا مسّت الحاجة إليها عند البحث، و نصرّح بأساميهم و أسامي كتبهم الّتي ننقل عنها، و نجتنب عن التكنّي عنهم و عن كتبهم بما تداول في هذه الأيّام، إلّاإذا دعت إليه الضرورة، حفظاً لحقوقهم العظيمة و حرصاً على درك الحقيقة، فلعلّ الناظر يراجع كلماتهم و يفهم منها غير ما فهمناه و يرى فيها رأياً أقرب إلى الحق و الصواب.

و قبل الشروع في البحث عن هذه القواعد لابدّ لنا من تحقيق مرادنا من «القاعدة الفقهية» و طريق تمييزها عن «المسائل الأصوليّة» و «المسائل الفقهية».

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 13

القاعدة الفقهية و تمييزها

عن المسائل الأصولية والفقهية

إصطلح جمع من متأخّرى الأصوليّين- كما يظهر من كلماتهم في مقامات مختلفة- على إطلاق هذا العنوان أعنى «القاعدة الفقهية» على أحكام عامة ترتبط بكثير من المسائل الفقهية، و بما أنّ المقصود هنا بيان مرادهم منها وجهة افتراقها عن المسائل الأصوليّة و الفقهية فقبل ذلك لابدّ من الإشارة إلى تعريف المسائل الأصوليّة و الفقهيّة إجمالًا، فنقول:

أمّا المسائل الأصولية، فقد ذكروا لها تعاريف مختلفة لايهمنا التعرّض لها و لما قيل أو يمكن أن يقال فيها، كيلا نخرج عن طور البحث الّذي أشرنا إليه في المقدّمة؛ و عليه نكتفي بذكر ما هو الحق عندنا

في المقام و ما يكون مقياساً لتشخيص المسائل الأصوليّة عن غيرها عند الشك في بعض مصاديقها، و نقدّم لذلك مقدمة هي:

إنّ علم «أصول الفقه» في عصرنا الحاضر يشتمل على أنواع مختلفة من المسائل، أحدها: ما يبحث فيها عن كليّات ترتبط بدلالة الألفاظ الواقعة في الكتاب و السنة و معاقد الإجماعات؛ و تسمّى «مباحث الألفاظ».

ثانيها: ما يبحث فيها عن حجية أدلّة كثيرة و جواز الإستناد إليها في كشف الأحكام الشرعية و تسمّى: «باب الإمارات و الأدلّة الإجتهاديّة».

ثالثها: ما يبحث فيها عن وظيفة المكلّف عند الشك في حكمه الواقعي مع عدم طريق إليه، و هو بحث «الأصول العلميّة».

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 14

رابعها: ما يبحث فيها عن حكم تعارض الأدلة الشرعية و طريق علاجها و هو باب «التعادل و الترجيح».

و خامسها: أبحاث تدور حول «الإجتهاد و التقليد» و حجية قول المجتهد للعامي و حدودها و شرائطها.

و المسائل الأخيرة قسم من بحث الحجج الشرعية إلّاأنّها مخصوصة بالمقلّدين، كما إنّ ما قبلها أعني أبحاث التعادل و الترجيح ترجع إليها أيضاً لأنّها ترجع إلى تعيين ما هي الحجّة من الأدلة المتعارضة.

ثمّ لاريب في أنّ علم الأصول لم يكن بادئ الأمر مشتملًا على عامة تلك الأبحاث كما يظهر بمراجعة كتب الأقدمين من الأصوليّين؛ بل زيدت عليه تدريجاً حتى بلغ ما نشاهده اليوم، و لاشك في أنّا نرى نحواً من الإرتباط بين هذه المسائل إجمالًا بحيث لايستنفر الطبع من جعلها علماً واحداً منفرداً بالتدوين، و هذا شي يظهر للناظر في أوّل نظرة، كما أنّا نرى بينها إشتراكاً في الأثر و هو أنّها تعطي الفقيه قدرة قريبة على كشف الأحكام الشرعية من مداركها، و إشتراك جميع مسائلها في هذا الأثر أيضاً ممّا لاينكر؛ أضف

إلى ذلك أنّا نرى فرقاً واضحاً بين هذه المسائل و سائر العلوم الّتي يُحتاج إليها في الفقه كعلمي الرّجال و الحديث و اللّغة و غيرها بحيث إذا عرض علينا بعض تلك المسائل لم نشك أنّها من الأصول أو ليست منها، كل ذلك معلوم بالوجدان.

و هذه الأمور، أعني الإرتباط الّذي يوجد بين تلك المسائل، و إتّحادها في الأثر الخاص، و تمايزها عن مسائل سائر العلوم المعلوم بالوجدان إجمالًا، كلّها حاكية عن وجود نوع من الوحدة بين تلك المسائل يتجلّى بأنحاء مختلفة؛ و من الواضح أنّ جمع هذه المسائل المختلفة بهذا النّحو و جعلها علماً واحداً كما تصدّى له جمع من المحققين و قرّره الآخرون لم يكن صدفة و إتفاقاً بل لم يحملهم على ذلك إلّاالربط الواقعي بينها.

فإذن لايمكننا القول بخروج بعض هذه الأبحاث عن المسائل الأصلية وعدّها بحثاً

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 15

إستطرادياً كما ارتكبه كثير منهم، حتّى جعل المحقق القمي قدس سره جلّ تلك المباحث إلّا ما شذ منها خارجاً عن مسائل الأصول و داخلًا في مبادئها، نظراً إلى أنّها ليست أبحاثاً عن عوارض الأدلّة الأربعة بل عن الأدلة بما هي أدلة. و ليت شعرى إذا كانت عامة مباحث الألفاظ و جميع أبحاث الأدلة الإجتهادية و كذا الأصول العمليّة خارجة عن علم الأصول فأين هذا العلم الّذي قرع الأسماع و ملأ الكتب؟ و هل هو البحث عن أحوال تعارض الدليلين فقط؟ و ما الداعي إلى إخراج هذه المسائل المهمّة عن علم الأصول؟

و يتلوه في الضعف قول من يرى دخول مباحث الألفاظ طراً في مبادئ هذا العلم، مع أنّها تقرب من نصف مسائل الأصول، و لايُرى أيّ فرق بينها و بين غيرها من مسائل الأصول فيما يُرام

من أهدافه. فالحق أنّ تصحيح التعاريف الّتي ذكروها للأصول أهون من إرتكاب التفكيك بين تلك المسائل.

و التّعريف الجامع بين عامة تلك المسائل و ما أشبهها، الحاكي عن الوحدة الّتي تتضمّنها، هو أن يقال: «إنّ مسائل الأصول هي القواعد العامة الممهَّدة لحاجة الفقيه إليها في تشخيص الوظائف الكلّية للمكلّفين»، و على هذا تمتاز المسائل الأصوليّة عن غيرها من المسائل الفقهية و القواعد الفقهية و سائر العلوم بأمور:

أوّلها: أنّها ممهّدة لحاجة الفقيه إليها في تشخيص وظائف المكلّفين، و بهذا تمتاز عن العلوم الأدبيّة و أمثالها الّتي يحتاجها الفقيه ايضاً، حيث لم تُمهَّد لذلك. و منه يُعلم أنّ أبحاث صيغة الأمر و مادته و المشتق و أمثاله أبحاث أصوليّة و إن كانت تشبه الأبحاث اللغويّة و الأدبيّة، لأنّها ممهَّدة لحاجة الفقيه إليها.

ثانيها: أنّ نتائجها أحكام و وظائف كليّة، فالبحث عن حجية الإستصحاب في الشّبهات الموضوعيّة و كذا أصالتي البراء و الإحتياط الجاريتان فيها و ما شاكلها ليست أبحاثاً أصوليّة، لأنّ نتائجها أحكام و وظائف شخصية.

ثالثها: أنّها لاتختصّ بباب دون باب و بموضوع معيّن دون آخر، بل تشمل جميع الموضوعات في جميع أبواب الفقه، مهمّا وجد لها مصداق، فإنّ البحث عن هيئة

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 16

الأمر و مادته و أبحاث العموم و الخصوص و كذلك أبحاث الأدلّة الإجتهاديّة و الأصول العمليّة و أحكام التعارض و غيرها لاتختصّ بموضوع دون آخر و بباب من أبواب الفقه دون باب، و بهذا تمتاز عن القواعد الفقهيّة كما سيأتي شرحه إن شاء اللّه.

و ممّا ذكرنا تعرف أنّه ليس من شرط المسألة الأصوليّة الوقوع في طريق إستنباط الحكم الشرعي، كما يظهر من غير واحد من الأعلام، و ذلك لأنّ البحث في كثير من مسائله

بحثّ عن نفس الحكم الشرعي لاعمّا يقع في طريق استنباطه، كالبحث عن البراءة الشرعية في الشبهات الحكميّة المستفادة من قوله عليه السلام «كل شي لك حلال»- بناءاً على شموله للشّبهات الحكمية- فإنّه بحث عن حكم شرعي عام، و هو الإباحة، غاية الأمر أنّه لايختصّ بباب دون باب و بموضوع دون آخر، بخلاف الأحكام المبحوث عنها في الفقه. و كذا الكلام في غير البراءة من الأصول العمليّة عقلية كانت أو شرعيّة، فإن ما اشتمل منها على حكم ظاهري شرعي كان البحث عنه بحثاً عن نفس الحكم الشرعي، و أمّا في غيره فالبحث يدور مدار بيان وظيفة الشاك عند الحيرة و الشكّ على نحو كلّي عام من دون إختصاصٍ بباب دون باب و بموضوع دون آخر، كما هو شأن المسائل الفرعيّة.

و أمّا المسائل الفقهيّة؛ فهي «المسائل الباحثة عن الأحكام و الوظائف العملية الشرعية و ما يؤول اليها و عن موضوعاتها الشرعية». فالمسائل الباحثة عن الأحكام الخمسة المشهورة، و كذا ما يبحث عن الأحكام الوضعيّة، و ما يبحث عن ماهية العبادات، و كذا البحث عن مثل طهارة و النّجاسة الثابتتين لموضوعات خاصّة، ممّا يؤول إلى الأحكام تكليفية أو وضعية تتعلّق بأفعال المكلّفين، كلّها أبحاث فقهية داخلة فيما ذكرناه. كما أنّ البحث عن عبادات الصبي و سائر الأحكام الّتي تشمله أيضاً كذلك، فموضوع المسألة الفقهيّة إذن ليس خصوص الأفعال، و لا أفعال المكلّفين، لاستلزامه القول بالإستطراد في كثير من مسائله، كالأبحاث المتعلّقة

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 17

بعبادات الصبي و سائر أفعاله، و كالمسائل الباحثة عن أحكام وضعية متعلّقة بأعيان خارجية كأحكام المياه و المطهّرات و النّجاسات، و لا داعي الى إخراجها من الفقه مع كثرتها، كما أنّه لا وجه لصرفها

عن ظاهرها و إرجاعها إلى البحث عن أفعال المكلّفين بالتعسّف و التكلّف.

و من هنا تعرف أنّ القواعد الفقهيّة «هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة»، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلّاأنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لايضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها؛ و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لاضرر و لا حرج؛ فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلّاأنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية.

و هذا بخلاف المسائل الأصوليّة، فإنّها إمّا لاتشتمل على حكم شرعي أصلًا بل تكون واقعةً في طريق إستنباطه، ككثير من مسائله؛ و إمّا تتضمّن حكماً عاماً كالبراءة الشرعيّة الجارية فيما لانصّ فيه- على ما عرفت- من غير إختصاصٍ بموضوع دون آخر، بل تجري في جميع الموضوعات إذا فقد فيها النصّ.

لايقال: إنّها تختص أيضاً بموضوع خاصّ و هو ما لانصّ فيه.

فإنّا نقول: إنّ هذه الخصوصيّة ليست خصوصيّة خارجيّة من قِبل ذات الموضوع، و إنّما هي خصوصيّة ناشئة من ملاحظة حكم الشرع كما لايخفى على الخبير.

و الغرض من جميع ما ذكرنا في تعريف المسألة الأصوليّة و الفقهيّة و القاعدة الفقهيّة تشخيص حال بعض المسائل المتشابهة الّتي قد يقع البحث عنها، و أنّها من الأصول أو من القواعد الفقهية أو من الفقه نفسه. و من المعلوم أنَّ تمعيص حال

القواعد الفقهية، ج 1،

ص: 18

المسألة و إندراجها في أي واحد من العلوم له دخلّ تامّ في طور البحث عنها و كيفيّة استفادتها عن مبادئها الخاصة؛ فإنّ كلّ واحدٍ من هذه العلوم يمتاز بنوع من البحث لايجري في غيره، كما أشرنا إليه في المقدّمة فكن على بصيرة منها.

فائدة: إشتهر في ألسنة جماعة من الأصوليّين أنَّ المسائل الأصوليّة تنفع المجتهد دون المقلِّد، بخلاف المسائل الفقهيّة فإنّها تنفع المجتهد و المقلِّد كليهما، و قد يُجعل هذا طريقاً لتمييز المسألة الأصوليّة عن الفقهية.

و من نتائج هذا البحث- كما صرّحوا به- هو أنَّ تطبيق كبريات المسائل الفقهية على مصاديقها الجزئية ليس من شأن الفقيه، بل عليه بيان الأحكام الفرعيّة الكليّة الدائرة على موضوعاتها العامّة، و أمّا تشخيص مصاديقها و تطبيقها عليها عند الحاجة إليها فهو موكول إلى المقلِّد، وليس للفقيه فيه نصيب أصلًا- اللّهم إلّافي عمل نفسه-؛ و على هذا لو كان تشخيص المقلِّد في بعض الموضوعات مخالفاً لمجتهده فليس قوله حجة في حقّه، بل كلٌ يعمل على شاكلته.

و فيه إشكال واضح، فإنّه مخالف لما استقرّ عليه ديدنهم فى طيات كتب الفقه، حيث نراهم يكثرون البحث عن تشخيص المصاديق الخارجية و صدق العناوين العرفية الواردة في أدلّة الأحكام الشرعيّة على مصاديق مشكوكة و عدم صدقها ثم الإفتاء بما تستقرّ عليه أنظارهم.

فنراهم مثلًا يبحثون عن «التّغيير» الموجب لنجاسة الماء و أنّه صادق على التقديري حتّى يحكم بنجاسته إذا تغيّر تقديراً أم لا؟ و عن الماء الّذي نقص عن الكرّ بمقدارٍ يسير أنَّ إطلاق «الكرّ» عليه هل هو من باب المجاز و المسامحة أم أنّه حقيقة بنظر العرف حتّى يجري عليه أحكام الكر؟ و كذا ما أشبهه من التحديدات الواردة في الشريعة؛ و عن الأحجار

المأخوذة من المعادن، و أنّه هل يصدق عليها عنوان «الأرض» الوارد في أبواب ما يصحّ السجود عليه حتّى يصحّ السجود عليها أم لا؟ و أنّه هل يجوز السّجود على قشور الفواكه مطلقاً أو بعد انفصالها، نظراً إلى صدق

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 19

عنوان «ما أُكل» الوارد في أخبار الباب عليها أم لا؟ ... إلى غير ذلك ممّا لايُحصى كثرة، فإنّ جميع ذلك في الحقيقة راجع إلى تشخيص الموضوعات العرفيّة الخارجيّة.

فلولا أنَّ هذه التطبيقات موكولة إلى نظر الفقيه لكان من الواجب الإفتاء بالكليّات فقط، بأنّ يقال: الماء إذا تغيّر بالنّجاسة نجس، و: الكر طاهر مطهِّر، و: يجب السّجود على الأرض و ما خرج منها إلّاما أُكل و لُبس؛ و يخلّى بين المقلّدين و بين مصاديق هذه الكبريات الكلّية.

و السرّ في جريان سيرتهم في الفقه على ذلك أنَّ ملاك التقليد- و هو لزوم رجوع الجاهل إلى العالم- لايختصّ بالأحكام الكليّة، بل قد يحتاج تطبيق كثير من الموضوعات العرفيّة على مصاديقها إلى دقّة في النّظر و تعمّق في الفكر كالأمثلة المذكورة، و ذلك خارج عن قدرة العوام فعليهم الرّجوع فيها إلى نظر المجتهد و رأيه؛ و المجتهد يرجع في تشخيصها إلى ارتكازاتهم المغفولة الموجودة في أعماق أذهانهم و أذهان جميع أهل العرف- و منهم مقلِّديه- فيستخرجها و يكشف بها صدق هذه العناوين على المصاديق المشكوكة و عدمه، و يفتي بمقتضاه.

نعم، في المفاهيم الواضحة الّتي لافرق فيها بين المجتهد و العامي- كمفهوم الماء و الدّم و أمثالهما- كلٌّ يرجع إلى تشخيصه و ليس تشخيص واحد منهما حجة في حق غيره.

و منه يظهر وجه عدم جواز تفويض أمر الاستصحاب و غيره من الأصول العمليّة في الشّبهات الموضوعيّة إلى المقلّدين، مع

أنّها ليست من المسائل الأصوليّة قطعاً، و الوجه فيه أنّ تشخيص مجاريها و معارضاتها و الحاكم و المحكوم منها ممّا لايقدر عليه العامي، فهو جاهل بها و يجب عليه الرّجوع إلى العالم بها؛ و قد عرفت أنّ رجوع الجاهل إلى العالم لايختصّ بالأحكام الكليّة، بل يعمّها و الموضوعات المشكلة و ما شاكلها لإتّحاد ملاك الرّجوع في الجميع.

أقسام القواعد الفقهية

تنقسم القواعد الفقهيّة إلى أقسام:

الأوّل: ما لايختصّ بباب من الفقه دون باب بل يجري بحسب مدلوله في جلّ الأبواب أو كلّها إلّاأن يمنع منه مانع، مثل قاعدة لاضرر و قاعدة لاحرج و قاعدتي القرعة و الصحّة على قولٍ، و لنسمّها: «القواعد العامة».

الثاني: ما يختصّ بأبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ و لايجري في غيرها، كقاعدة التلف في زمن الخيار، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن، و قاعدة عدم ضمان الأمين، و ما شابهها.

الثالث: ما يختصّ بأبواب العبادات، كقاعدة لاتعاد، و قاعدة التّجاوز و الفراغ على المعروف، و ما يضاهيهما.

الرابع: ما يجري في أبواب المعاملات بالمعنى الأعمّ كقاعدة الطهارة و غيرها.

الخامس: ما يُعمل لكشف الموضوعات الخارجية الواقعة تحت أدلّة الأحكام، مثل حجّية البيّنة و حجّية قول ذي اليد، و كفاية العدل الواحد في الموضوعات و عدمها؛ فهي كالأمارات الّتي يستند إليها في باب الأحكام. و الفرق بينها- أي الأمارات- و بين هذا القسم من القواعد الفقهية أنّها تُعمل لكشف الأحكام الكلّية و هذه تعمل لكشف الموضوعات، إلى غير ذلك من الأقسام.

و الأولى أن نخصّ كلّ قسم من هذه الأقسام ببحث مستقلّ، لما بين القواعد المندرجة تحت كل قسم من القرابة و المشاكلة الموجبة لتسهيل الأمر في إثباتها ودرك حقائقها و حلّ مشكلاتها.

«والحمد للّه أوّلًا و آخراً»

القواعد الفقهية، ج 1، ص:

21

قاعدة لاضرر

اشارة

هذه القاعدة من أشهر القواعد الفقهية، و يستدلّ بها في جلّ أبواب الفقه من العبادات و المعاملات، بل هي المدرك الوحيد لكثير من المسائل؛ و لهذا أفردوها بالبحث و صنف فيها غير واحد من أعاظم المتأخرين رسالات مستقلّة بيّنوا فيها حال القاعدة من حيث مدركها و معناها، و فروعها و نتائجها. منهم العلّامة الأكبر شيخنا الأعظم الشيخ مرتضى الأنصاري قدس سره حيث ضفّ فيها رسالة طبعت في ملحقات مكاسبه بعد أن تعرّض لها استطراداً في في فرائده ذيل قاعدة الاشتغال، و العلّامة المحقق شيخ الشريعة الاصفهاني قدس سره، و العلّامة النحرير النائيني قدس سره، و العلّامة النراقي قدس سره، و قد جعلها العائدة الرابعة من عوائده.

فبعضهم تقبّلها بقبول حسن و جعلها مدركاً لكثير من الفروع الفقهية، و بعضهم خرّب بنيانها من القواعد، و اعتقد بعدم إمكان الاعتماد عليها لاثبات شي من الفروع الّتي لايوجد لها مدرك سواها، و بعضهم رآها حكماً قضائياً يعتمد عليه في أبواب القضاء لاغير؛ بما سنتلو عليك منها ذكراً. فهذه القاعدة تليق بالبحث و التنقيح التام لكي يتضح حال تلك الفروع الكثيرة المتفرّعة عليها في الأبواب المختلفة من الفقه.

فنقول- و من اللَّه جل ثناؤه التوفيق و الهداية-: إنَّ الكلام فيها يقع في مقامات:

المقام الأوّل: في مدركها

اشارة

لاريب في أن نفي الضرر و الضرار في الجملة من الأمور الّتي يستقلّ بها العقل، و يشهد له في مقامات خاصة آيات من الكتاب العزيز:

قال اللَّه تعالى: «لَاتُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَ لَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ». «1»

والمعنى أنّه قد نهى سبحانه عن إضرار الأمّ بولدها بترك إرضاعه غيظاً على ابيه لبعض الجهات، كما أنّه نهى سبحانه عن إضرار الاب بولده بمنع رزقِهنَّ و كسوتِهنَّ بالمعروف مدة الرضاع، فيمتنعن عن

إرضاع الولد، فيتضرر منه الولد.

و هذا أظهر الاحتمالات في معنى الآية الشريفة، و يشهد له صدرها ايضاً حيث قال سبحانه: «وَ الْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» «2»

فإنّه يشتمل على حكمين: حكم إرضاع الأم حولين كاملين، و حكم الإنفاق عليهنّ مدة الرضاع، و ذيل الآية متمم لهذين الحكمين؛ فكأنّه سبحانه قال: فإنّ أبى أحدهما عن القيام بما هو وظيفة له- الأب من الإنفاق و الأم من الإرضاع- فعلى الآخر أن لايعامله بترك وظيفته فيضرّ بالولد من هذه الناحية، و يؤيّده ايضاً قوله تعالى في نفس الآية: «وَ عَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ» كما لايخفى؛ و على هذا يكون قوله «لاتُضَارَّ» مبنياً للفاعل و الباء زائدة، فإنّ المضارّة تتعدّى بنفسها.

و قد يُذكر في معنى الآية إحتمالات آخر مبتنية على كون «لاتُضَارَّ» مبنياً للمفعول و الباء للسببيّة، مثل ما ذكره الفاضل المقداد في (كنز العرفان في فقه القرآن) حيث قال: «قيل إنّ المراد أنْ لايُضارَّ بالوالدة بأنْ يترك جماعها خوفاً من الحمل و لاهي تمتنع من الجماع خوفاً من الحمل فتضرّ بالأب؛ روي عن الباقر و الصادق عليهما السلام». و الآية على هذا المعنى، تدلّ على نهي الأب عن الإضرار بالأم و بالعكس، بسبب خوف الولد، و على الأوّل تدلّ على نهيهما عن الإضرار بالولد؛ فهي

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 25

على كلّ حال دالة على نفي الضرر و النهي عن الإضرار في الجملة، و هو المطلوب. و أمّا تمام الكلام في فقه الآية فهو في محلّه.

و قال سبحانه، أيضاً في حق النّساء المطلّقات: «وَ لَاتُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ». «1»

فنهى سبحانه عن الإضرار و التضييق على المطلّقات في

السكنى و النفقة في أيّام عدتّهن، كما أوصى سبحانه بهنّ في موضع آخر بقوله: «وَ لَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراًلِّتَعْتَدُوا» «2»

حيث نهى عن الرجوع إلى المطلّقات رجعياً لا لرغبة فيهنّ بل لطلب الإضرار بهنّ كالتقصير في النفقة أو لتطويل المدة حتّى تلجأ إلى بذل مهرها؛ كما أشار إليه في كنز العرفان.

و قال سبحانه، ناهياً عن الإضرار بالورّاث و تضييع حقوقهم: «مِنْ بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ» «3»

فنهى سبحانه عن الإضرار بالورّاث في الوصية بأنّ يوصى ببعض الوصايا اجحافاً عليهم و دفعاً لهم عن حقّهم؛ أو يقرّ بدين ليس عليه دفعاً للميراث عنهم. و يشير إليه أيضاً قوله تعالى: «فَمَنْ خَافَ مِنْ مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَآ إِثْمَ عَلَيْهِ» «4»

و الجنف هو الميل إلى أفراط أو تفريط و الإضرار بالورثة.

و قال سبحانه، أيضاً «وَ لَايُضَآرُّ كَاتِبٌ وَ لَا شَهِيدٌ» «5»

فنهى عن إضرار كاتب الدّين و الشاهد عليه أو على البيع، بأن يكتب ما لم يمل أو يشهد بما لم يستشهد عليه؛ هذا اذا قُدِّر الفعل أعني: «لايضار» مبنياً للفاعل، و أمّا إذا قُدِّر مبنيّاً للمفعول فالنهي إنّما هو عن الإضرار بالكتَّاب و الشهداء إذا أدّوا حق الكتابة و الشهادة؛ على إختلاف الأقوال في تفسير الآية الشريفة.

هذا ولكنّ العمدة، في إثبات هذه القاعدة على وجه عام هي الروايات الكثيرة

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 26

المدّعى تواترها، المرويّة من طرق الفريقين، و إن اختلفت من حيث العبارة بل المضمون؛ حيث إن بعضها عام و بعضها خاص، إلّاأن مجموعها كافٍ في إثبات هذه الكلّية.

و بما أنَّ في استقصاء هذه الروايات فوائد جمة لاتُنال إلّابه فاللازم ذكر ما وقفنا عليه في كتب أعلام الفريقين ممّا ذكره المحقّقون في رسالاتهم المعمولة

في المسألة و ما لم يذكروه لتتمّ الفائدة بذلك إن شاءاللّه. و إنّي و إن بذلت جهدي في جمعها و إستقصائها و أوردت ما أورده الأصحاب في هذا الباب و أضفت عليه ما ظفرت به ممّا لم يشيروا إليه، لكن لعلّ باحثاً يقف على ما لم أقِفْ عليه فإنّ العلم غير محصور على قومٍ، و كم ترك الأوّل للآخر. و كيف كان، نبدأ بذكر أخبار أصحابنا الأعلام، ثمّ نتبعها بذكر ما أورده الجمهور في أصولهم.

و أخبار اصحابنا على نحوين، فبعضها يدل على هذه القاعدة بعمومها، و بعضها واردٌ في موارد خاصة؛ و سوف نذكرها تباعاً إن شاء اللَّه.

الأخبار الدالة على القاعدة بعمومها:

1- ما رواه الكليني (رضوان اللّه تعالى عليه) في (الكافي) عن ابن مسكان عن زرارة عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، قال: إنَّ سمرة بن جندب «1» كان له عذق، و كان طريقه

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 27

إليه في جوف منزل رجل من الأنصار، فكان يجي ء و يدخل إلى عذقه بغير إذن من الأنصاري فقال الأنصاري: يا سمرة؛ لاتزال تفجأنا على حال لا نحبّ أن تفجأنا عليه، فإذا دخلت فاستأذن، فقال: لا أستأذن في طريق، و هو طريقي إلى عذقى، قال:

فشكاه الأنصاري إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه و آله فأتاه فقال: إنّ فلاناً قد شكاك و زعم أنّك تمرّ عليه و على أهله بغير إذنه، فاستأذِن عليه إذا أردت أن تدخل، فقال يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله: أستأذن في طريقي إلى عذقي؟ فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله: خلِّ عنه و لك مكانه عذق في مكان كذا و كذا، فقال: لا،

قال: فلك إثنان، قال: لا اريد، فلم يزل يزيده حتّى بلغ عشرة أعذاق فقال: لا، قال فلك عشرة في مكان كذا و كذا، فأبى، فقال: خلِّ عنه و لك مكانه عذق في الجنة قال: لا أريد، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إنّك رجلٌ مضارٌّ و لاضرر و لاضرار على مؤمن، قال: ثمّ أمر بها رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقلعت ثم رمى بها إليه و قال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إنطلق فاغرسها حيث شئت. «1»

2- ما رواه في (الكافي) ايضاً عن عبداللَّه بن بكير عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال:

إنّ سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار، و كان منزل الأنصاري بباب البستان، فكان يمرّ به إلى نخلته و لايستأذن، فكلّمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء، فأبى سمرة، فلمّا تأبّى جاء الانصاري إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله، فشكا إليه و خبّره

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 28

الخبر، فأرسل إليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله، و خبّره بقول الأنصاري و ما شكا، و قال: إذا أردت الدخول فاستأذن فأبى، فلمّا أبى ساومه حتّى بلغ به من الثمن ما شاء اللّه فأبى أن يبيع، فقال: لك بها عذق يمدّ لك في الجنّة، فأبى أن يقبل، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله للأنصاري: اذهب فاقلعها و ارم بها إليه، فإنّه لاضرر و لاضرار. «1»

رواه في الوسائل في الباب 12 من كتاب إحياء الموت ثمّ قال: و رواه الصدوق بإسناده عن ابن بكير نحوه، و رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمد بن خالد مثله.

ولايخفى أنّ هذه الرواية

و ما قبلها رواية واحدة تحكي عن قضية واحدة نقلها زرارة عن أبي جعفر الباقر عليه السلام؛ و عمدة الفرق بين الطريقين هو ذكر قيد «على مؤمن» في قوله «لاضرر و لاضرار على مؤمن» في الأولى منهما دون الأخيرة، و سيأتي أنّ له دخلًا في فهم مغزى الحديث.

3- ما رواه الصدوق في (من لايحضره الفقيه) بإسناده عن الحسن الصيقل عن ابي عبيدة الحذاء، قال: قال أبوجعفر عليه السلام: كان لسمرة بن جندب نخلة في حائط بني فلان، فكان إذا جاء إلى نخلته نظر إلى شي من أهل الرّجل فكرهه الرّجل، قال: فذهب الرّجل إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله فشكاه فقال: يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله إنَّ سمرة يدخل عليّ بغير أذني فلو أرسلت إليه فأمرته أن يستأذن حتّى تأخذ أهلي حذرها منه، فأرسل إليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله فدعاه فقال: يا سمرة! ما شأن فلان يشكوك و يقول: يدخل بغير إذني، فترى من أهله ما يكره ذلك يا سمرة! إستأذن إذا أنت دخلت، ثمّ قال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله: يسرُّك أن يكون لك عذق في الجنة بنخلتك؟ قال: لا، قال: لك ثلاثة قال: لا؛ قال: ما أراك يا سمرة إلّامضارّاً، إذهب يا فلان فاقلعها و اضرب بها وجهه. «2»

و هذه الرواية كماترى خالية عن ذكر فقرة (لاضرر و لاضرار)، و لكنّها مشتملة على صغراها و هي قوله: «ما أراك يا سمرة إلّامضاراً».

و كيف كان، فلا ريب في أنّ هذه الروايات الثلاث تحكي عن قضية واحدة و إن

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 29

اختلفت عباراتها و بعض خصوصياتها، نقلها «زراة» تارة و «أبوعبيّدة الحذّاء»

أخرى. و يظهر منها أنّه كان لسمرة بن جندب حق العبور إلى نخلته من باب البستان الّذي كان دار الانصاري فيه؛ ولكن أراد استيفاء حقّه مع الاضرار بالأنصاري، و لم يرضَ بالجمع بين حقّه و حقّ الأنصاري بأنْ يكون دخوله مع استيذان منه، بل و لم يرض بالاستبدال عنها، فدفع عنه رسول اللّه صلى الله عليه و آله شرّه، و أمر بقلع نخلته، لانحصار طريق خلاص الأنصاري مِنَ الظالم المجحف فيه. و في فقه الرواية أبحاث تأتي في محلّه عن قريب إن شاء اللَّه.

4- ما رواه في (الكافي) عن عقبة بن خالد عن أبي عبداللّه عليه السلام: قضى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين و المساكن و قال: لاضرر و لاضرار، و قال: إذا أُرِّفت الأُرَف و حُدّت الحدود فلا شفعة. «1» رواه في الوسائل عن الكافي في الباب من أبواب الشفعة، ثمّ أشار إلى رواية الشيخ و الصدوق له بطرقهما؛ إلّاأنّ في رواية الصدوق زيادة و هي: «و لاشفعة إلّالشريك غير مقاسم». «2»

و يظهر من هذا الحديث أنّ العلّة أو الحكمة في جعل «حق الشفعة» للشريك هي لزوم الضرر و الإضرار عند فقده، فإنّ الإنسان لايرضى بأيّ شريك؛ و يدلّ أيضاً على أنّ هذا الحقّ ثابت في المشاع و قبل القسمة، و أمّا بعدها فلاشفعة، و هو المراد من قوله: إذا أُرِّفت الأُرَف (أي أعلمت علامات القسمة) وحدّت الحدود فلاشفعة؛ و يدلّ عليه أيضاً الزيادة الواردة في طريق الصدوق و هو قوله عليه السلام و لاشفعة إلّالشريك غير مقاسم «3».

و في هذا الحديث ايضاً أبحاث تدور حول قوله عليه السلام (لاضرر و لاضرار) و أنّها رواية مستقلّة ذكرها

الراوي مع حكم الشفعة من باب الجمع في الرواية و النقل، أو أنّها من تتمة رواية الشفعة، و الكلام فيها يأتي عن قريب ان شاءاللّه.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 30

و رواها في (مجمع البحرين) في مادة «ضرر» إلى قوله: لاضرر و لاضرار، إلّاأن فيه التقييد بقوله «في الإسلام» بعد قوله: و لاضرار. وليكن هذا على ذكر منك.

5- ما رواه في (الكافي) عن عقبة بن خالد عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: قضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله بين أهل المدينة في مشارب النخل أنّه لايمنع نفع الشي، «1» و قضى بين أهل البادية أنّه لايمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلاء، فقال: لاضرر و لاضرار.»

قال العلّامة المدفق شيخ الشريعة الاصفهاني قدس سره: إنّ في النسخة المصححة من الكافي عنده: «و قال: لاضرر و لاضرار»، لا فقال:. الخ، فتكون هذه الفقرة معطوفة على ما قبلها بالواو لا بالفاء، فليكن هذا أيضاً على ذكر منك.

أقول: و هنا شي ء يجب التنبيه عليه، و هو أنّه قد وقع الخلاف بينهم في أنّ مالك البئر إذا قضى حاجته و حاجة مواشيه وزرعه من مائها و فضل بعد ذلك شي، فهل يجب عليه بذله بلاعوض لمن احتاج إليه لشربه أو شرب ماشيته أو سقى زرعه، أو مع العوض، أم لا؟ و المعروف بينهم أنّه لايجب، ولكن المحكي عن شيخ الطائفة في المبسوط و في الخلاف و عن ابن الجنيد و السيد أبي المكارم بن زهرة أنّه يجب بذله لمن احتاج إليه لشربه و شرب ماشيته خاصة، و المسألة معنونة في كتاب «احياء الموات»، و لنا في تأييد مختار الشيخ قدس سره و تضعيف ما ذهب إليه المشهور كلام يأتي.

و في

معنى قوله: «لايمنع فضل ماء ليمنع فضل كلاء» احتمالات:

احدها: أنَّ صاحب البئر إذا منع فضل مائها عن أهل البادية، حتّى منعوا عن سقي مواشيهم عند العطش الحاصل عادة بعد الرّعي، لم يقدروا على رعي مواشيهم حول الآبار و منعوا من الاستفادة عن كلائها، فمنع فضل الماء يمنع عن فضل الكلاء.

ثانيها: أنّ صاحب البئر إذا منع فضل مائها عن أهل البادية قابله صاحب الكلاء

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 31

بمنع فضل كلائه منه.

ثالثها: أنّ صاحب البئر إذا منع فضل مائها فلعل أهل البادية يحتاجون إليه لزرعهم و كلائهم و ذلك يُضِرّ بهم و يمنعهم عن الزرع و الكلاء، فلهذا أُمِرَ صاحب البئر بأن لايمنع فضل مائها حتّى لايمنع فضل الكلاء.

و لعلّ أوجه الاحتمالات هو الأوّل، فتدبّر.

6- ما أرسله الصدوق قدس سره: قال النّبي صلى الله عليه و آله: الإسلام يزيد و لاينقص. قال و قال: لاضرر و لاضرار في الإسلام، فالإسلام يزيد المسلّم خيراً و لايزيده شراً. قال: و قال: الإسلام يعلو و لايُعلى عليه. «1»

و الظاهر أن الصدوق قدس سره جمع هنا بين روايات ثلاث واردة بطرق مختلفة ليستدلّ بها على أنّ المسلم يرث من غير المسلم، أحدها- قوله: الإسلام يزيد و لاينقص.

ثانيها- لاضرر و لاضرار في الإسلام.

ثالثها- الإسلام يعلو و لايعلى عليه.

و أمّا قوله: «فالإسلام يزيد المسلم خيراً و لايزيده شراً» فالظاهر أنّه تفريع على الرواية الاولى؛ و الّذي يؤيّد ذلك ما رواه في الوسائل في هذا الباب بعينه عن «معاذ» أنّه ورّث المسلم من أخيه اليهودي- وكان عندئذ باليمن- و قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول: الإسلام يزيد و لاينقص. فاستدلّ معاذ بهذه الرواية على أنّ المسلم يرث من أخيه اليهودي،

فعلى هذا ليس مجموعها رواية واحدة واردة في باب الإرث مشتملة على نفي الضرر و الضرار كي تعد رواية مغايرة لغيرها من الرّوايات. و يؤيّده أيضاً مارواه «الحاكم» في المستدرك «2» عن النّبي صلى الله عليه و آله: الإسلام يزيد و لاينقص، مجرداً عن هذا الذيل، أعني قوله: لاضرر و لاضرار.

7- مارواه المحدث النوري في (المستدرك) «3»

عن (دعائم الإسلام) عن أبي

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 32

عبداللّه عليه السلام أنّه سئل عن جدار الرّجل و هو سترة فيما بينه و بين جاره، سقط فامتنع من بنيانه قال: ليس يجبر على ذلك، إلّاأن يكون وجب ذلك لصاحب الدار الأخرى بحقّ أو شرط في أصل الملك، ولكن يقال لصاحب المنزل: أستر على نفسك في حقّك إن شئت، قيل له: فإن كان الجدار لم يسقط ولكنّه هدمه اضراراً بجاره، لغير حاجة منه إلى هدمه، قال لايترك، «1» و ذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله قال: لاضرر و لاإضرار، و إن هدمه كلف أن يبنيه.

ولكن لايظهر من هذه الرواية أنَّ هذه الفقرة كانت مذكورة في كلام النّبي صلى الله عليه و آله مجردة عن غيرها، فلعلّه عليه السلام اخذها من قول النّبي صلى الله عليه و آله الوارد في قضية سمرة بن جندب بعنوان كبرى كليّة يستدلّ بها على مورد السؤال؛ و هذا أمر جائز للإمام عليه السلام كما يجوز لغيره؛ فلايجوز الاستشهاد بهذه الرواية على كون هذه الفقرة قضية مستقلّة من قضايا النّبي صلى الله عليه و آله كما قديتوهّم. فكن على بصيرة منه، حتّى أحدث لك منه ذكراً.

8- ما رواه في (المستدرك) أيضاً عن (دعائم الإسلام) عن أبي عبد اللّه عن أبيه عن آبائه عن

أميرالمؤمنين عليه السلام أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: لاضرر و لاضرار. «2»

و هذه أيضاً- كالّتي قبلها- لاتدل على كون الفقرة المذكورة كلاماً مستقلًا من كلمات النّبي صلى الله عليه و آله و قضاءاً غير ما ورد في ذيل رواية سمرة.

9- ما رواه الشيخ في (التهذيب) بإسناده عن هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبداللّه عليه السلام: في رجل شهد بعيراً مريضاً و هو يباع، فاشتراه رجل بعشرة دراهم و أشرك فيه رجلًا بدرهمين بالرأس و الجلد، فقضى أنَّ البعير برى ء فبلغ ثمنه ثمانية دنانير، قال: فقال: لصاحب الدرهمين خمس ما بلغ، فإن قال: أريد الرّأس و الجلد فليس له ذلك، هذا الضرار و قد أُعطي حقّه إذا أُعطي الخمس. «3»

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 33

و يمكن عدّ هذه الرواية من الروايات العامة نظراً إلى ظهور قوله «هذا الضرار» في كونه صغرى لكبرى كلية مفهومة من العبارة، كما هو المعمول في حذف الكبريات في مقام التعليل و الاكتفاء بذكر صغراها، فكأنّه قيل: هذا الضرار و لاضرار، أو لا يجوز الضرار. و إحتمال كون الكبرى المحذوفة مقيّدة بقيود لم يكن المقام مقام ذكرها، لكونه من مصاديقها على كل حال، بعيد عن ظاهر العبارة كما لايخفى على من لاحظ نظائرها، مضافاً إلى أنّ ظاهرها كون التعليل بأمر ارتكازي عقلي، ولاقيد في هذا الحكم بنظر العقل فتدبّر. و كيف كان، فهي دالة على نفي الضرار فقط، فلو قلنا بالفرق بينه و بين عنوان الضرر- كما هو الأقوى- فلا تكون دالة على نفي الضرر.

الأخبار الدالة على القاعدة الواردة في الموارد الخاصة

مامرّ كان هي الروايات الدالة على هذا الحكم عموماً، و إليك بعض ما ورد في الموارد الخاصة المؤيّدة لما سبق من العمومات:

10- ما

رواه في (الكافي)، عن محمد بن حفص عن رجل عن أبي عبداللّه عليه السلام قال:

سألته عن قوم كانت لهم عيون في أرض قريبة بعضها من بعض، فأراد رجل أن يجعل عينه أسفل من موضعها الّذي كانت عليه، و بعض العيون إذا فعل بها ذلك أضرَّ بالبقية من العيون، و بعضها لايضرّ من شدّة الأرض، قال: فقال: ما كان في مكان شديد فلايضرّ، و ما كان في أرض رخوة بطحاء فإنّه يضرّ، و إن عرض رجل على جاره أن يضع عينه كما وضعها و هو على مقدار واحد قال: إن تراضيا فلايضرّ، و قال: يكون بين العينين ألف ذراع. «1»

و يظهر من هذه الرواية أنّ الإضرار بالغير غير جائز، حتّى إذا كان منشأه التصرّف في أمواله الّتي يتسلّط على التصرّف فيها كيف يشاء بمقتضى قاعدة تسلّط النّاس على أموالهم، فإنّ صاحب العين إنّما أراد التصرّف في عينه المملوكة بأن يجعلها

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 34

أسفل ممّا كانت فمنعه الإمام عليه السلام من ذلك لما فيه من الإضرار بالعيون القريبة منها.

هذا ولكن لاعموم فيها يمكن التمسك به في غير موردها، نعم لايبعد التعدّي عنه إلى غير البئر من التصرّفات و إلى سائر الجيران و الأملاك المتقاربة.

و قد عنون الفقهاء هذه المسألة في باب «حريم العين» من كتاب إحياء الموات، و المشهور بينهم أنَّ حريم العين و القناة ألف ذراع في الارض الرخوة و خمسمائة ذراع في الأرض الصلبة؛ ولكن المحكي عن الأسكافي و المختلف و المسالك أنّ حدّه أن لايضرّ الثّاني بالأوّل.

و كيف كان، هذا الخلاف لا دخل له فيما نحن بصدده فإنّه لاشكّ في أنّ الحكمة أو العلّة في التحديد بالألف و خمسمائة على القول به هو

رفع الإضرار، و لايبعد القول بكفاية أحد الأمرين، أعني: البعد بالمقدار المذكور و العلم بعدم تضرّر الجار، و تمام الكلام في محلّه.

ثمّ لايخفى أنّ منصرف الرواية هو ما إذا كان ترك ذاك التصرف موجباً لفوات بعض المنافع الزائدة المترقبة لمالك العين لا ما إذا كان يتضرّر بتركه حتّى يؤول الأمر إلى تعارض الضررين؛ وليكن هذا على ذكر منك حتّى نبحث عنه في بحث تعارض الضررين من التنبيهات الاتية إن شاء اللّه تعالى.

11- ما رواه الكليني، بإسناده عن محمد بن الحسين قال: كتبت إلى أبي محمد عليه السلام:

رجل كانت له قناة في قرية فأراد رجل أن يحفر قناة أخرى إلى قرية له، كم يكون بينهما في البعد حتّى لاتضر إحداهما بالأخرى في الأرض إذا كانت صلبة أو رخوة؟

فوقّع عليه السلام: على حسب أن لاتضرّ إحداهما بالأخرى إن شاء اللّه. «1»

و هذه الرواية دالة على أنّ هذا الحكم، أعني: عدم جواز الإضرار بالغير- حتى بأنّ يتصرف الإنسان في ملكه أو ملك مباح فيلزم منه ضرر على غيره- كان مرتكزاً في ذهن الراوي فلذا لم يسأل عن أصل الحكم و إنّما سأل عن صغراه بقوله: كم يكون

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 35

بينهما في البعد حتّى لاتضرّ إحداهما بالأخرى؟ و منشأ هذا الإرتكاز امّا التعارف الخارجي و ما هو الدائر بين العقلاء في أمثال هذه الموارد، و إمّا عمومات لاضرر، و إمّا ما رُوي عن الأئمّة السّابقين عليهم السلام من لزوم التباعد بين العينين بألف أو خمسمائة ذراع على اختلاف الأراضي، مثل ما روي عن الصّادق عليه السلام في الرواية السابقة.

و كيف كان، فطريق الإستدلال بهذه الرواية هو عين ما مربّيانه في الرواية السابقة؛ إلّاأنّ مورد السؤال هناك هو

خصوص التصرّف في العيون المستحدثّة من قبل، و السؤال هنا عن احداث عين جديدة في أرض قريبة من عين أخرى.

12- ما رواه بذلك الإسناد، قال: كتبت إلى أبي محمّد عليه السلام: رجل كانت له رحى على نهر قرية، و القرية لرجل، فأراد صاحب القرية أن يسوق إلى قريته الماء في غير هذا النّهر، و يعطّل هذه الرحى، أله ذلك أم لا؟ فوقع عليه السلام: يتّقي اللّه، و يعمل في ذلك بالمعروف، و لايضرّ أخاه المؤمن. «1»

و الظاهر أن صاحب الرحى كان له حقّ الانتفاع من ذاك النّهر من قبل، و إلّاكان تصرفه فيه عدوانياً و جاز لصاحب القرية نهيه عن التصرف فيه بمثل هذا و تعطيل رحاه حتى إذا لم يرد سوق الماء في غير ذلك النّهر، فإنّ النّاس مسلّطون على أموالهم؛ و على هذا سوق الماء في غير هذا النهر مزاحم لحقه و يكون تعدياً عليه، فالمنع منه استناداً إلى هذه الجهة لادخل له بما نحن بصدده. ولكن الّذي يقرّب دلالة الرواية على المطلوب أنّ الامام عليه السلام لم يسند الحكم إليه، بل أسنده إلى عنوان آخر هو عنوان الإضرار فقال: (لايضرّ أخاه المؤمن)، و يستفاد منه حكم عام بعدم جواز إضرار المؤمن بأخيه في كل الموارد؛ و هو و إن كان حكماً تكليفياً في بادئ النظر إلّاأنّه يستفاد منه الحكم الوضعي أيضاً عند التأمّل فتأمّل.

13- ما رواه الكليني (رضوان اللّه تعالى عليه)، عن عقبة بن خالد، عن أبي عبداللّه عليه السلام في رجل أتى جبلًا، فشقّ فيه قناة، فذهبت قناة الآخر بماء قناة الأوّل،

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 36

قال: فقال: يقايسان «1» بحقائب البئر ليلة لية، فينظر أيّتهما أضرّت بصاحبتها، فإن رأيت الأخيرة أضرّت

بالأولى فلتعوّر.

و رواه الصدوق، بإسناده عن عقبة بن خالد؛ و زاد: و قضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله بذلك، و قال: إن كانت الأولى أخذت ماء الأخيرة لم يكن لصاحب الأخيرة على الأوّل سبيل. «2»

وبمضمونه رواية أخرى عن الشيخ بإسناده عن عقبة بن خالد عن أبي عبداللّه عليه السلام.

و في (مجمع البحرين) «حقائب البئر» أعجازها. «3» و هذه الرواية أيضاً تدلّ على عدم جواز الإضرار بالغير و إن كان بالاستفادة من أرض مباحة، حيث قد أمر عليه السلام بالاختبار و المقايسة و النّظر الى ماء القناتين ليلة ليلة، فإن ثبت أنَّ القناة الأخيرة تضرّ بالأولى فلتعور و إلّافلا؛ و أمّا عدم حكمه بعور الاولى لو أضرّت بالثانية فوجهه واضح، إذا لايصدق الإضرار عليه بعد إقدامه بنفسه على حفر قناته قرب الأولى مع كون ذلك معرضاً لقلّة الماء عادة. و لايخفى أنَّ المستفاد من هذه الرواية الحكم الوضعي أيضاً

14- ما رواه في (الكافي)، عن طلحة بن زيد عن أبي عبدالله عليه السلام قال: إنّ الجار كالنّفس غير مضارّ و لا أثم. «4»

و هي تدل على عدم جواز الإضرار بالجار بما لايضرّ الإنسان بنفسه، و قوله: (لا أثم) لعلّ معناه أنّه لايجوز إرتكاب الإثم في حقّ الجار و أنَّ كل إضرار به إثم، أو أنّه كفى في اداء حقّ المجاورة أن لايضرّ به، فإذا لم يضرّ به فلا إثم.

و رواه المحدّث الكاشاني قدس سره في (الوافي) في باب «حسن المجاورة» ثمّ قال: لعل المراد بالحديث أنَّ الرجل كما لايضار نفسه و لايوقعها في الإثم أو لايعد عليها الأمر إثماً، كذلك ينبغي أنّ لايضار أخاه و لايوقعه في الإثم أو لايعد الأمر عليه إثماً، يقال:

أثمه، أوقعه

في الإثم، أثمه اللّه في كذا عدّه عليه إثماً. إنتهى كلامه.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 37

15- ما رواه الطبرسي، في (المجمع) مرسلًا في تفسير قوله تعالى: «مِنْ بَعْدِ وَصِيّةٍ يُوصَي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيرِ مُضَآرٍ» «1»

من أنّه جاء في الحديث: إنّ الضرار في الوصية من الكبائر. «2»

و الظاهر منها- بقرينة سائر الروايات الواردة في ذاك الباب- أنَّ الضِرار في الوصية هو الوصية بتمام المال أو بأكثر من الثلث، و لايخفى أنّ المستفاد منها عدم صحة هذه الوصية و عدم نفوذها، سيّما بملاحظة الآية الشريفة، فهي لاتدلّ على الحكم التكليفي فحسب بل عليه و على الحكم الوضعي.

16- ما رواه الصدوق في (عقاب الأعمال) بإسناده عن النّبي صلى الله عليه و آله، في حديث: و من أضرّ بامرأة حتّى تفتدي منه نفسها لم يرضَ اللّه تعالى له بعقوبة دون النّار- إلى أن قال- و من ضارَّ مسلماً فليس منّا و لسنا منه في الدّنيا و الآخرة. «3»

و غير خفي أن الفقرة الأخيرة مطلقة، تدلّ على عدم جواز الإضرار بالمسلم مطلقاً.

17- ما رواه الكليني، بإسناده عن الحلبي عن أبي عبداللّه عليه السلام في حديث: أنّه نهى أن يضارّ بالصبي أو تضار أمّه في رضاعه. «4»

و في ذيل هذا الباب روياة أخرى قريبة منها.

18- ما رواه الكليني، ايضاً بإسناده عن الحلبي عن ابي عبداللّه عليه السلام قال: سألته عن الشي ء يوضع على الطريق فتمرّ الدابة فتنفر بصاحبها فتعقره فقال: كل شي ء يضرّ بطريق المسلمين فصاحبه ضامن لما يصيبه. «5»

فحكم عليه السلام بأنَّ التّصرف في الشارع المباح بما يوجب الإضرار بالغير موجب

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 38

للضمان، و أنَّ كون الطريق عامّاً لايمنع من هذه الحكم.

19- ما رواه الشيخ، بإسناده عن

أبي الصباح الكناني عن ابي عبداللّه عليه السلام قال: كل من أضر بشي ء من طريق المسلمين فهو له ضامن. «1»

20- ما رواه الصدوق، بإسناده عن الحسن بن زياد عن أبي عبدالله عليه السلام قال:

لاينبغي للرّجل أن يطلق أمرأته ثمّ يراجعها و ليس له فيها حاجة ثمّ يطلقها، فهذا الضرار الّذي نهى اللّه عزّوجلّ عنه، إلّاأن يطلق ثمّ يراجع و هو ينوي الإمساك. «2»

و قوله: فهذا الضرار الّذي نهى اللّه عزّوجلّ عنه، إشارة إلى قوله تعالى: «وَ لَاتُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا». «3»

و في ذاك الباب بعينه روايات أخر في هذا المعنى، فراجع.

هذا ما وصل إلينا من طرق الاصحاب عموماً و خصوصاً، و هناك روايات آخر خاصة واردة في أبواب مختلفة يعثر عليها المتتبع قد طوينا الكشح عنها، و العمدة هي العمومات المتقدّمة.

الأخبار الدالة على القاعدة فى طرف العامّة:

و أمّا ماورد من طرق العامة فهي روايات:

1- مارواه أحمد، في مسنده «4» قال حدثنا عبداللّه، قال حدثنا ابو كامل الجحدري، قال حدثنا الفضيل بن سليمان، قال حدثنا موسى بن عقبة، عن اسحاق بن يحيى

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 39

بن الوليد بن عبادة بن صامت عن عبادة قال: إنَّ من قضاء رسول الله صلى الله عليه و آله أنَّ المعدن جُبار، و البئر جُبار، و العجماء جرحها جبار، و العجماء البهيمة من الأنعام و غيرها، و الجبار هو الهدر الّذي لايُغرَّم؛ و قضى في الركاز الخمس، و قضى أنّ تمر النّخل لمن أبرّها إلّاأن يشترط المبتاع، و قضى أنّ مال المملوك لمن باعه ... إلى أن قال: و قضى للجدَّتَين من الميراث بالسدس بينهما بالسواء، و قضى أنّ من اعتق شِرْكاً في مملوك فعليه جواز عتقه إن كان له مال، و قضى أن لاضرر و

لاضرار، و قضى أنّه ليس لعرق ظالم حق، و قضى بين أهل المدينة في النخل لايُمنع نفع بئر، و قضى بين أهل المدينة أنّه لايمنع فضل ماء ليمنع فضل الكلاء.

قال في المجمع: الجبار بالضم و التخفيف الهدر يعني لاعزم فيه، و العجماء البهيمة سمّيت بذلك لأنّها لاتتكلّم، و المعنى: أنَّ البهيمة العجماء تنفلت فتتلف شيئاً فذلك الشي هدر، و كذلك المعدن إذا انهار على أحد فهو هدر. «1» انتهى

يعني لاغرامة في التلف في شي من هذه الموارد.

أقول: لاشك في أنّ هذه الاقضية صدرت في وقائع مختلفة، ولكن «عبادة» ذكر متون الأقضية و حذف مواردها و جمعها في حديث واحد؛ و مضمونها من أقوى الشواهد على ذلك، و على هذا فمن القريب جدّاً أن يكون قوله: «لاضرر و لاضرار» غير صادر عنه صلى الله عليه و آله مستقلًا و بلا سابقة دعوى و لامنازعة، بل لعلّه كان ذلك قضاء في واقعة أو وقائع متعددة و نقله عبادة مجرّداً عنها؛ فيحتمل قريباً أن يكون بعينه ماورد في قضية سمرة مع الأنصاري، أو ما ورد فيها و في حكمي الشفعة و منع فضل الماء- بناء على القول بوروده في ذيلها أيضاً على ما سيأتي شرحه- و حينئذ لايجوز لنا الأخذ بما يظهر منه بادئ النظر من وروده مستقلّاً و الاستدلال به على أنّه كان قضاءاً مستقلًا؛ فليكن هذا أيضاً على ذكر منك.

2- ما أرسله إبن الأثير، في (النهاية) أنّه صلى الله عليه و آله قال: لاضرر و لاضرار في الإسلام.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 40

و إحتمال التقطيع في كلام إبن الأثير عند النقل أيضاً قريب فلايصح عدّه قضاءاً مستقلًا

3- و هناك عبارات مختلفة من محققي اصحابنا تدل على

أنّ الحديث كان متّفقاً عليه بين العامة و الخاصة:

منها، ما ذكره العلامة قدس سره في (التذكرة) في المسألة الأولى من خيار الغبن، قال:

الغبن سبب الخيار للمغبون عند علمائنا و به قال مالك و أحمد لقوله صلى الله عليه و آله لاضرر و لاضرار في الإسلام. إنتهى.

و يظهر من عبارته أنّ مستند مالك و أحمد أيضاً في هذا الحكم هو حديث نفي الضرر، ولكن يحتمل أن يكون دليلًا لمختاره و مختار الأصحاب فقط. و كيف كان، فتمسّك العلامة بهذا الحديث في هذا المقام شاهد على كونه معتمداً عليه عند العامة و الخاصة.

و منها، ما أفاده السيد ابو المكارم بن زهرة في (الغنية) في أواخر أبواب الخيار من كتاب البيع لإثبات حكم الأرش من قوله: و يحتج على المخالف بقوله صلى الله عليه و آله: لاضرر و ضرار.

و منها، ما أفاده شيخ الطائفة في المسألة 60 من كتاب البيع من (الخلاف) في باب حكم خيار الغبن: دليلنا ما روي عن النبى صلى الله عليه و آله أنّه قال: لاضرر و لاضرار. إنتهى.

و ليعلم أنّه قدس سره لم يذكر هنا قيد «في الإسلام» مع ذكره في كتاب الشفعة من (الخلاف) بعينه حيث قال: في المسألة 14 منه: إنّ قول النبي صلى الله عليه و آله: لاضرر و لاضرار في الإسلام يدلّ على ذلك؛ فإذن يشكل الإعتماد على ذكره هذا القيد هناك و الإستدلال به على وجوده في متن الرواية.

و الحاصل أنَّ أمثال هذه التعبيرات و الإستدلالات في كتب العامة و الخاصة تدلّ على كون هذه الرواية كالمُجمع عليها بينهم، حيث أرسلوها إرسال المسلّمات.

و ممّا ينبغي التنبيه عليه هنا، أنَّ صاحب الوسائل قدس سره روى هذه الفقرة أعني قوله

«لاضرر و لاضرار» مجردة عن غيرها في أبواب مختلفة من الوسائل مثل الباب 17 من أبواب الخيار، و قديوهم ذلك أنّها رواية أو روايات اخر فيستند إليها في إثبات صدور

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 41

هذه الفقرة مستقلّة، ولكن هذه الشبهة تزول بسرعة بعد ملاحظة أسناد هذه الأخبار، فإنّ أسنادها بعينها أسناد رواية زرارة الواردة في قضية سمرة بن جندب، و رواية عقبة الواردة في قضاء رسول اللّه في منع فضل الماء فراجع، و ديدن صاحب الوسائل في تقطيع الروايات معلوم لكلّ من له أنس بكتابه.

هذا، ما وقفنا عليه من الروايات الدالة على هذه القاعدة عموماً و خصوصاً في كتب الفريقين، و قد تحصّل منه أنّ هذه الفقرة لاضرر و لاضرار نقلها زرارة و أبوعبيدة الحذّاء عن الإمام الباقر عليه السلام، و عقبة بن خالد عن الإمام الصادق عليه السلام، و رواها الصدوق و القاضي نعمان المصري مرسلًا، و أرسله الشيخ و العلامة و ابن زهرة (رضوان اللّه عليهم) في كتبهم إرسال المسلّمات، و من طرق العامة رواه أحمد مسنداً و ابن الأثير مرسلًا. و قد وردت روايات خاصة في مواضع شتّى تؤيّد مضمونها، فإذن لو لم ندّعِ التواتر فيها- كما ادعاه فخر الدّين في محكي (الإيضاح) من باب الرّهن- فلا أقلّ أنّها من المستفيضات الّتي لاينبغي التأمّل في جواز الإعتماد عليها حتّى من القائلين بعدم حجّية خبر الواحد.

المقام الثاني: في مفاد هذه القاعدة

و قبل الشروع في بيان مفاد القاعدة و مغزاها لابدّ من تقديم أمرين لهما دخل تام في فهم معنى هذه الرّوايات.

الأمر الأوّل: قد عرفت أن قوله «لا ضرر و لاضرار» مذيّل في غير واحد من طرق الرّواية بقوله في الاسلام فهل هذا القيد ثابت بطرق صحيحة يُركن إليها،

بحيث لو توقف استظهار بعض ما ذكر في معناها عليه يحكم به أم لا؟

الّذي يظهر بعد التأمّل التام في أسانيد الرّوايات و مضامينها أن تذييل الحديث بهذا الذيل غير ثابت، لِما عرفت عند بيان الاخبار من عدم وروده إلّافي مرسلة

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 42

الصدوق، «1» و مرسلة إبن الأثير، «2» و مرسلة الطريحي في (مجمع البحرين) في مادة «ضرر» ذيل حديث الشفعة «3» لكن الظّاهر أنّه سهو من قلمه الشريف، لأنّ حديث الشفعة مذكور في جوامع أخبارنا بدون هذا القيد، و لا شكّ أنّه أخذ الحديث منها، و في كلام الشّيخ في كتاب الشفعة في المسألة الرابعة عشرة «4» و قد عرفت أنّه نفسه نقله مجرداً عن هذا القيد في «المسألة الستّين» من كتاب البيع، و في كلام العلّامة في التذكرة في المسألة الأولى من خيار الغبن «5».

و الإنصاف أنّ شيئاً من هذه المرسلات بل و لامجموعها مع ما عرفت من السهو و الإشتباه في غير واحد منها لم تبلغ حداً يمكن معه الركون إليها؛ فما يظهر من بعض كلمات شيخ الشريعة الإصفهاني قدس سره من عدم وجود هذا القيد إلّافي كلام ابن الأثير في (النهاية) و إن كان مخالفاً للواقع، لما عرفت من نقله في كلام الصدوق و كلام غير واحد من أئمّة الفقه، إلّاأنّ هذا المقدار غير كاف في إثباته، كما أنّ ما نقله عن بعض معاصريه من دعوى التواتر في هذا القيد و إسناده إلى المحققين أيضاً، في غير محلّه. و الحاصل أنّ إثبات هذه الزيادة بنقل من عرفت دونه خرط القتاد.

و على هذا لاتصل النوبة إلى ملاحظة التعارض بين طرق الرّواية، و ما وردت فيه هذه الزيادة و ما لم ترد،

حتّى يقال بتقديم ما اشتمل على الزيادة، لما قرِّر في محله من تقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة، نظراً إلى أنّ الزيادة سهواً من الراوي نادر الوقوع جداً بخلاف النقيصة، فيؤخذ بما اشتمل على الزيادة؛ حتّى يجاب عنه بما أفاده المحقق النائيني بأنّ مبنى ذلك ليس إلّاسيرة العقلاء، و لايعلم بناؤهم على تقديم أصالة عدم الزيادة في أمثال هذه المقامات الّتي يحتمل قريباً كون الزيادة من الراوي عند النقل بالمعنى لمغروسيتها في ذهنه، بمناسبة الحكم و

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 43

الموضوع، و ملاحظة أشباهه من قوله: لا رهبانية في الإسلام، لا إخصاء في الإسلام، و غير ذلك من أمثالهما. إنتهى ما أفاده قدس سره ملخّصاً.

هذا مع أنّا لم نجد أساساً لهذا الأصل و ما أشبهه ممّا ينسب إلى بناء العقلاء؛ فإنّه ليس عندهم أثر من هذه الأصول الّتي تنسب إليهم، بل الّذي وجدنا منهم أن مدارهم في هذه المقامات، إذا أدّت حاجتهم إليها في عمل أنفسهم، على الإطمئنان من أي طريق حصل، و عند الإحتجاج مع خصومهم على قرائن لفظية أو حالية أو مقامية توجب الإطمئنان عادة لمن اطّلع عليها، و لم نجد لهم تعبداً خاصاً بتقديم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة. و إن شئت اختبر نفسك عند مطالعة الكتب الّتي ترد عليك كلّ يوم، فهل تأخذ بأصالة عدم الزيادة بعنوان أصل عقلائي و لو لم تفد الإطمئنان؟ فالإنصاف أن العقلاء لايعرفون كثيراً من هذه الأصول الّتي تنسب إليهم، و أنَّ بناءَهم في هذه الموارد على الأخذ بما تطمئن به أنفسهم لاغير.

و أمّا التذييل بقوله «على مؤمن»، فقد عرفت أنّه وارد في رواية ابن مسكان عن زرارة المرويّة في الكافي، ولكن عرفت

أيضاً أنَّ ابن بكير قد روى هذه الرواية بعينها عن زرارة مجردة عن هذا القيد، و رواها أيضاً بعينها أبوعبيدة الحذاء عن الباقر عليه السلام مجردة عنه، فإحدى الروايتين نقلها أبوعبيدة الحذّاء و زرارة برواية ابن بكير عنه مجردة عن القيد و الأخرى نقلها ابن مسكان عن زرارة مقيّدة به، فيكف يمكن الإعتماد على الأخيرة في إثباته، سيّما مع ملاحظة أنّه ليس قيداً يهتم بشأنه في بادئ النظر؟

ثمّ اعلم أنّ هذا البحث أعني زيادة «في الإسلام، أو على مؤمن» لو ثبت يترتب عليه بعض الفوائد المهمّة، و ليس كما أفاده المحقق النائيني قدس سره خالياً عن الفائدة؛ و تظهر الفائدة في تنقيح مفاد الحديث و تأييد كون كلمة «لا» نافية، الّذي استند إليه العلّامة الأنصاري في إثبات حكومة القاعدة على العمومات؛ لاناهية حتّى يكون مفادها حكماً فرعياً بعدم إضرار النّاس بعضهم ببعض، بيان ذلك:

إنّ الجار و المجرور (في الإسلام) هنا متعلق بفعل عام مقدّر و على اصطلاح

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 44

النحاة الظرف هنا ظرف لغو، و التقدير: لاضرر موجود في الإسلام؛ و معناه أنّه لايوجد حكم ضرري في أحكام الإسلام. و هذا المعنى يوافق حكومة القاعدة على عمومات الأحكام، و لايناسب كون «لا» ناهية، بأنّ يكون معناه: لاتضرّوا في الإسلام؛ لأنّ الإسلام ليس ظرفاً لإضرار النّاس بعضهم ببعض إلّاعلى تكلّف بعيد. و العجب من المحقّق النائيني (قدّس اللّه نفسه) حيث أنكر ذلك و أعتقد بجواز إرادة النّهي مع هذا القيد أيضاً! و كأنَّ الشبهة نشأت عن الخلط بين اصطلاح النحاة في الظرف، و بين الظرف و المظروف بمعناهما العرفي فراجع و تأمّل. و سيأتي تتمة لهذا الكلام عند تحقيق مفاد الحديث.

الأمر الثّاني: لايخفى على

الناظر في روايات الباب ورود قوله «لاضرر و لاضرار» ذيل قضية سمرة، و ظاهر غير واحد منها وروده مستقلّاً أيضاً، ولكنّ الإنصاف أنّه ظهور بدوي يزول بالتأمّل؛ فإنّ احتمال التقطيع فيها قوي جدّاً، و قد أشرنا إلى بعض ما علم التقطيع فيه، عند نقل الأخبار. هذا مضافاً إلى عدم اعتبار الطرق المشتملة على ذكر هذه العبارة مجرّدة عن غيرها، فلا يمكن الركون إليها.

ولكن ظاهر حديثي الشفعة و منع فضل الماء «1» المرويين عن عقبة بن خالد ورودها ذيل قضاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله في الشفعة و منع فضل الماء. لكن وقع التشكيك من غير واحد من محققي الأصحاب في هذا الظهور و احتمل كونه من باب الجمع في الرواية. و أوّل من فتح باب هذا التشكيك العلّامة الجليل شيخ الشريعة الإصفهاني قدس سره، فإنّه أصرّ على عدم ورودها في هاتين القضيتين، و أتعب نفسه الزكيّة في جمع القرائن على ذلك، و تبعه المحقّق النائيني قدس سره و أيّده بقرائن آخر.

و تظهر ثمرة هذا النزاع في تحقيق مفاد الحديث و أنّه نفي الأحكام الضررية الحاكم على عمومات أدلة الأحكام، أو أنَّ مفاده النّهي عن إضرار النّاس بعضهم

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 45

ببعض؟ فإنّه لو ثبت ورودها ذيل حديثي الشفعة و منع فضل الماء كانت كالعلة لتشريع هذين الحكمين في الشريعة، و هذا لايناسب النّهي بل يناسب النفي كما هو ظاهر.

و كيف كان عمدة ما استند إليه المحقّق المذكور في إثبات هذا المدّعى المخالف لظاهر الرواية مقايسة قضايا رسول اللّه صلى الله عليه و آله المحكية عن طرق العامة المنتهية إلى «عبادة بن صامت» و ما ورد من طرق الخاصة المنتهية في كثير من

مواردها إلى «عقبة بن خالد»؛ فإنّ توافقهما و اتّحادهما في كثير من عباراتهما مع خلوّ رواية «عبادة» من هذا الذيل، مع أنّه نقل قضاءه صلى الله عليه و آله في الشفعة و فضل الماء بعينه كما نقله «عقبة بن خالد»، ممّا يضعف الاعتماد على هذا الظهور البدوي، و يوجب قوّة الظنّ بأنّ الجمع بين هذه الفقرة و سائر فقرات الرّواية كان من باب الجمع في الرواية من ناحية الراوي، لا أنّها صدرت في قضية واحدة عن النّبي صلى الله عليه و آله؛ سيّما مع كون عبادة ضابطاً متقناً في نقل الأحاديث و من خيار الشيعة على ما قيل. كما أنّه لايمكن الإستشهاد بظهور «الفاء» في قوله: «فلاضرر و لاضرار» في ذيل حديث منع فضل الماء في كون ما بعده متفرعاً على ما قبله و متّصلًا به؛ لما عرفت سابقاً من أن النّسخ المصحّحة من (الكافي) خالية عنها بل المذكور فيها هو «الواو» بدل «الفاء»؛ فراجع الروايات السابقة و تأمّلها.

هذا ملخّص ما أفاده العلّامة الإصفهاني في كلام طويل له في رسالته المعمولة في المسألة. ولكنّ الإنصاف أنَّ رواية عقبة بن خالد أقوى ظهوراً في اتّصال هذه الفقرة بقضائه صلى الله عليه و آله في الشفعة و منع فضل الماء من رواية عبادة في الإنفصال، بيان ذلك: إنّ من يتأمّل في رواية عبادة بن صامت لا يشك في أنّه لخّص قضايا رسول اللّه صلى الله عليه و آله، و ارتكب التقطيع فيها، و لم ينقلها مع مواردها، بل نقلها مجرّدة عن ذكر المورد؛ لأنّا نعلم قطعاً بعدم صدور هذه القضايا أو أكثرها عنه صلى الله عليه و آله بلا مقدّمة، بل كل واحدة منها كانت واردةً في

مورد خاص، مثل قضية سمرة بن جندب و شبهها؛ ولكن عبادة لخّصها و جمعها في عبارة واحدة. و من هنا يحتمل قريباً أن يكون قد حذف قوله:

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 46

«لاضرر و لاضرار» عن ذيل قضائه في منع فضل الماء؛ حيث لايتفاوت معه المعنى حتّى يعد خارجاً عن حدود النقل بالمعنى المتداول بين الرواة، و اكتفى بذكر هذه الفقرة أعني: «لاضرر» بعنوان قضاء مستقلّ لوروده في موارد مختلفة.

و ممّا يقرب هذا الإحتمال أنّه لاشكّ في ورود «لاضرر» في ذيل قضية سمرة، ولكنّ عبادة لم ينقل موردها بل اكتفى بنقل قضائه صلى الله عليه و آله بأنَّه لاضرر و لاضرار مجرّداً عن كل شي؛ فيستكشف من ذلك عدم اعتنائه بنقل هذه الخصوصيات. فاكتفاؤه بذكر هذه الفقرة مستقلّة، و عدم تذييل قضائه صلى الله عليه و آله في الشفعة و منع فضل الماء بها، قريب جدّاً.

هذا مع أنّ الكلام بعدُ في سند رواية عبادة بن صامت، فإنّ مجرّد توثيق عبادة لو ثبت لايكفي في الاعتماد على الرواية، لاشتمال سندها على رجال آخرين لم يثبت لنا وثاقتهم لما عرفت من أنّ أحمد نقلها في مسنده بخمس وسائط عن عبادة. هذا كلّه مضافاً إلى أنّ الجمع بين الروايات في نقل واحد بهذا الوجه- بإلحاق حكمٍ يكون كالكبرى برواية خاصة تكون كالصغرى له- غير معهود من الرواة، بل هو أشبه بالفتاوى و الاجتهادات الّتي تداولت بعد عصر الرواة كما لايخفى.

فالحاصل أنّ صرف النظر عن ظهور رواية «عقبة» في ورود جميع فقراتها في واقعة واحدة و ارتباط بعضها ببعض بأمثال هذه الإحتمالات مشكل جداً؛ و وجود «فاء التفريع» و إنّ كان مؤيّداً للإتّصال، ولكنّ عدمها لايدلّ على عدمه، بل العطف بالواو

أيضاً ظاهر فيه و إن كان أضعف ظهوراً من الفاء.

و قد تبع هذا المحقق على هذا القول، المحقّق النائيني (قدّس سرّهما) في رسالته المعروفة، و استدلّ له مضافاً إلى ما ذكره بوجوه اخرى:

أحدها- إن أقضية النّبي صلى الله عليه و آله مضبوطة عند الإمامية و أهل السنّة، و بعد اتّفاق ما رواه العامة عنه صلى الله عليه و آله مع ما رواه أصحابنا عن أبي عبداللّه صلى الله عليه و آله و بعد ورود «لاضرر» مستقلًا في طريقهم، يحدس الفقيه أنّ ما ورد في طريقنا أيضاً كان قضاءاً مستقلّاً من دون أن يكون تتمة لحديثي الشفعة و منع فضل الماء، و إنّما الحقه بها عقبة بن

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 47

خالد من باب الجمع في الرواية و النقل.

ثانيها- إنّ جملة «و لاضرار» على ما سيجي من معناها لاتناسب حديث الشفعة و لاحديث منع فضل الماء، فلا يحتمل تذييلهما بها في كلام النّبي صلى الله عليه و آله.

ثالثها- إنّ بيع الشريك بغير رضا شريكه ليس مقتضياً للضرر فضلًا عن أن يكون علّة له، فلايصحّ تعليل فساده بحديث لاضرر، و كذلك كراهة منع فضل الماء- على ما هو الأقوى من أنّه ليس وجه التّحريم- لايمكن تعليلها بلاضرر، فيستكشف من هذا عدم كونه من تتمة الحديثين.

ثمّ أورد قدس سره على نفسه بإمكان كونه من قبيل العلّة في التشريع- و يعني بها حكمة الحكم-، و أجاب عنه بأنّ حكمة الأحكام لو لم تكن دائمية فلا أقلّ من لزوم كونها غالبية، و الحال أنّ الضرر في موارد الشفعة و منع فضل الماء ليس غالبياً. هذه خلاصة ما أفاده.

و جميع ما ذكره قدس سره قابل للمناقشة:

اشارة

أمّا الأوّل فبما عرفت آنفاً من أنّ القرائن شاهدة على عدم كون هذه

الفقرة قضاءاً مستقلًّا حتّى يلزم خلو رواية «عقبة» عنها، بل الظّاهر أنّ عبادة هو الّذي حذف موردها أو مواردها و جعلها قضاءاً مستقلًّا؛ و ليس عليه حرج في ذلك، لعدم كونه بصدد نقل جميع الخصوصيات كما تنادي به روايته. و يشهد له أيضاً ترك ذكر قضائه صلى الله عليه و آله في حق سمرة بن جندب الّذي وردت هذه الفقرة في ذيلها، و كذلك لم يذكر عقبة بن خالد قضية سمرة و ما حكم به النّبي صلى الله عليه و آله هناك، فلعلّه أو كلّ أمرها إلى شهرتها، أو لم يكن بصدد إستقصاء جميع قضاياه صلى الله عليه و آله، فإنّه لم يثبت لنا كونه بصدد ذلك، فلا «عقبة بن خالد» كان بصدد استقصاء قضايا النّبي صلى الله عليه و آله و لا «عبادة» كان بصدد بيان خصوصيات قضاياه.

و يجاب عن الثّاني بأنّه يمكن أن يكون ذكر «و لاضرار» بعد قوله «لاضرر» من قبيل الإستشهاد بثلاث فقرات من حديث الرّفع هي (رفع ما أكرهوا عليه و ما لم يطيقوه و

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 48

ما أخطأوا) في رواية البزنطي و صفوان عن أبي الحسن عليه السلام، الواردة في رجل أكره على اليمين، فيحلف بالطلاق و العتاق و صدقة مايملك؛ فإنّ مورد استشهاده عليه السلام لم يكن جميع الثلاثة، بل خصوص رفع الإكراه. و هذا أمر شائع عند الاستشهاد بالقضايا الّتي تشتهر بعبارة مخصوصة و جيزة؛ فإنّها كثيراً ما تنقل بجميعها في مقام الاستشهاد و إن كان مورد الاستشهاد خصوص بعض فقراتها. فذكر: «لا ضرار» في كلام النّبي صلى الله عليه و آله عقيب قوله: «لا ضرر» عند قضائه في الشفعة أو منع فضل الماء تتميماً لهذه

القضية الّتي اعتمد عليها في غير مقام لاينافي عدم انطباق «لا ضرار» على مورد الحديثين. و إن هذا إلّامثل سؤال بعضنا عن حكم النائم، فيجاب بما ورد من رفع القلم عن الصبي حتّى يحتلم و عن المجنون حتّى يفيق و عن النائم حتّى يستيقظ، مع أنّ مورد الاستشهاد هو إحدى فقراتها فقط.

هذا مضافاً إلى أنّ منافاة قوله: «ولا ضرار» لمورد الحديثين غير واضح كما سيأتي البحث عنه إن شاء اللّه عند البحث عن معنى كلمتي «الضرر» و «الضرار» فانتظر.

و يدفع الثالث أنَّ حمل النّهي في مسألة منع فضل الماء على الكراهة غير معلوم، بيان ذلك: إنّ القدر المتيقّن من مورد الرواية هو ما إذا كان الممنوع في حاجة شديدة، و يشقّ عليه تحصيل ماء آخر لسقيه أو سقي مواشيه، بحيث لو منع من فضل ماء البئر لوقع في مضرّة شديدة و حرج و ضيق في المعيشة، و لا إطلاق لها يشمل غير هذه الصورة؛ فإنّها واردة في حقّ أهل بوادي المدينة و من ضاهاهم، و قد كانوا بحسب الظاهر انذاك في مثل هذه الحال، و لااقلّ من الشك، فلايمكن التعدّي عنها إلى غير هذه الموارد.

ثمّ أنّه لايبعد من مذاق الشّارع المقدّس أن يأمر مالك البئر بعدم منع فضل مائه في أمثال المقام، إمّا مجاناً و بلا عوض، أو في مقابل القيمة- على خلافٍ في ذلك بين القائلين بوجوب البذل، كما عرفت شرحه عند نقل الأحاديث-؛ رعاية لمصالح جمع من ذوى الحاجة من المسلمين. و قاعدة تسلّط النّاس على أموالهم و إن كانت قاعدة مسلمة و ثابتة عند الشرع و العقلاء؛ إلّاأنّه لامانع من تحديدها من بعض النّواحي من قبل الشّارع المقدّس لمصالح هامة، كما حُدِّدت

من ناحية العقلاء في

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 49

بعض الموارد؛ و قد حدّدها الشارع في مواضع أُخر، كما في الإحتكار و الأكل في المخمصة و أمثالهما.

و لا مانع من القول بوجوب بذل فضل الماء هنا كما صار إليه جمع من الفقهاء، منهم شيخ الطائفة حيث قال فيما حكي عن (مبسوطه): «إنّ كلّ موضع قلنا فيه يملك البئر فإنّه أحقّ بمائها بقدر حاجته لشربه و شرب ماشيته و سقي زرعه، فإذا فضل بعد ذلك شي ء وجب بذله بلا عوض لمن احتاج إليه لشربه و شرب ماشيته- إلى أن قال-: أمّا لسقي زرعه فلا يجب عليه، لكنّه يستحب». و ذكر في الخلاف نحوه، و في المختلف حكايته عن إبن الجنيد و عن الغنية أيضاً، فراجع.

نعم ظاهر المشهور عدم وجوب البذل. و لعلّ الوجه فيه تردّدهم في صحة أسانيد الروايات الدالة على هذا الحكم- كما حكي عن المسالك-، أو استنادهم فيه إلى عموم السلطنة و غيرها، و استبعاد تخصيصها بأمثال هذه الروايات. و استيفاء البحث عن هذا الحكم موكول إلى محلّه من كتاب «إحياء الموات».

و الغرض من جميع ما ذكرنا أنّ القول بحرمة منع فضل الماء ممّا لا استبعاد فيه؛ كما أنّ انطباق عنوان الضرر على القدر المتيقّن من مورد الرواية بالنّظر الوسيع العرفي قريب جدّاً، كانطباقه على مورد الإحتكار و شبهه؛ فإنطباق لاضرر على مورد الرواية قريب بعد ملاحظة ما ذكرنا في توضيحه؛ و عليه لا وجه للقول بأنّ الذيل كان حديثاً مستقلًّا وقع الجمع بينه و بين سائر فقرات الرواية من الرّاوي.

و العجب أنَّ المحقّق النائيني قدس سره لم يكتف بما ذكر حتّى منع انطباق «لاضرر» على مورد الرواية و لو بعنوان حكمة الحكم؛ و قد

عرفت أنَّ انطباقه على القدر المتيقن من مورد الرواية بعنوان علّة الحكم أيضاً قريب فضلًا عن حكمة الحكم.

هذا كلّه مضافاً إلى أن التعليل بما يشتمل على حكم الزامي لتأكيد الأوامر الاستحبابية أو النّواهي التنزيهية المؤكّدة غير بعيد؛ فمجرد كون الحكم المعلّل غير إلزامي لايكفي شاهداً للحكم بعدم تذييله بهذه العلّة المشتملة على حكم إلزامي، فتدّبر.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 50

و أمّا حديث الشفعة، فلا مانع من ورود «لاضرر» فيه بعنوان حكمة الحكم. و القول بأنّ الحكمة لابدّ أن تكون أمراً غالبياً، و ليس الضرر الحاصل بترك الأخذ بالشفعة و لزوم بيع الشريك على شريكه كذلك، ممنوع بعدم الدليل على لزوم كونها أمراً غالبياً، بل يكفي كونها كثيرة الوقوع، و إن لم تكن أمراً غالبياً، بل لايبعد كفاية عدم كونها نادرةً؛ ألاترى أنّه قد ورد في غير مورد من المناهي أنّ المنهي عنه يورث الجنون أو البرص و أمثال ذلك، مع أنّ هذه اللوازم ليست دائميّة بل و لا غالبية.

و أضعف منه القول بأنّ الضرر الناشئ من ترك الشفعة إتّفاقي نادر الوقوع- كما يظهر من بعض كلمات المحقّق النائيني في رسالته الميل إليه-، فإنّه ممنوع جدّاً؛ لما نشاهد من حال النّاس و عدم رضاهم بأيّ شريك، بل الّذين يرضونهم للشركة أقلّ بمراتب بالنّسبة إلى من لايرضونهم؛ و لاشكّ لمن لاحظ حال الشركاء في المساكن و الأرضين و غيرها أنّه لولا حكم الشفعة و نهي الشريك عن بيع حصته ممّن شاء من دون رعاية نظر شريكه، لوقع بين النّاس من التشاجر و التنازع و البغضاء و فساد الأموال و الأنفس ما لايخفى.

نعم هذا الضرر ليس دائمياً حتّى يصلح لأن يكون علة لهذا الحكم، و لكنّه يصلح أنّ يكون

حكمة له بلا إشكال.

و لقائل أن يقول: كيف يجعل حكم واحد مثل: «لاضرر» علّة في مقام مثل قضية سمرة، و حكمة في مقام آخر، كما فيما نحن فيه؟ و قد أشار إلى هذا الإشكال المحقق النائيني في رسالته و ارتضا.

لكنّ الإنصاف، أنّه أيضاً في غير محلّه لعدم المانع من ذلك أصلًا، و هل ترى مانعاً من جعل حفظ النّفوس حكمة في باب القصاص و الديات، و علّة في باب وجوب بذل الطعام عند المخمصة لمن لايجد إليه سبيلًا؟ بل قد يكون حكم واحد في قضية واحدة علّة من جهة و حكمة من جهة أخرى؛ فإنّا نراهم يصرّحون بأنّ الإسكار علّة لتحريم الخمر، و لذا يجوز التعدّي عن الخمر إلى سائر المسكرات؛ بينما يقولون أنّه من قبيل الحكمة من جهة المقدار و الكم، و أنَّ «ما أسكر كثيره فقليله حرام» كما

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 51

ورد في عدة روايات؛ و حينئذ أي مانع من جعل قول الشارع «لأنّه مسكر» مثلًا علّة في بعض المقامات و حكمة في مقامات أخرى؟

و لايتوهّم أنّ ذلك يوجب اختلافاً في معنى هذه الفقرة حتّى يستبعد استعمالها في معنين مختلفين- و لو في مقامين مختلفين كما في محل البحث-؛ فإنّ المعنى في الجميع واحد لا اختلاف فيه أصلًا، و إنّما الإختلاف في كيفية التعليل بها، و نحو ارتباط هذه الكبرى مع صغراها؛ فإنّها قد تكون علّة لتشريع حكم عام فتكون حكمة، و لايجب دوران ذلك الحكم مدارها بل قد يتخلّف عنها كما في حكم الشفعة؛ و في بعض المقامات تكون ضابطة كليّة تُلقى إلى المكلّفين يدور الحكم معها حيثما دارت.

و أمّا تشخيص كون العلة من قبيل الأوّل أو الثّاني فإنّما هو من القرائن اللفظية

و المقامية. و كيف كان، لايتوجّه على الحديث إيرادٌ من هذه الناحية أيضاً.

و قد تحصّل ممّا ذكرنا، أنَّ الإستشكال في مناسبة «لاضرر» لمورد الحديثين ضعيف جداً، و لو بُني على أمثال هذه التشكيكات لجرى الإشكال في كثير من الظواهر المرتبطة بعضها ببعض.

و الإنصاف أنّا لو خلينا و أنفسنا لا نجد أيّ فرق بين هذين الحديثين و سائر الرّوايات الواردة في وقائع مختلفة المشتملة على ذكر التعليلات و الكبريات، بل لعلّه لو لم يفتح باب هذا التشكيك ما كان يبدو في أذهانهم (قدّس اللّه أسرارهم) شي ء من هذه الإيرادات؛ و إنّما حصل ما حصل بعد ابداء هذا الإحتمال.

و اذ قد عرفت ذلك فلنرجع إلى بيان مفاد هذه الفقرة الّتي هي العمدة في مدرك هذه القاعدة، و البحث عنها تارة يكون حول مفردات الحديث أعني كلمتي «الضرر» و «الضرار»، و أخرى في معنى الجملة، فيقع البحث في مقامين:

المقام الأوّل: في معنى الضرر و الضرار

و قد اختلفت عبارات اللغويين في معناهما، فأمّا الضرر:

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 52

فعن «الصحاح» أنّه: خلاف النّفع.

و عن «القاموس» أنّه: ضد النّفع، و أنّه: سوء الحال.

و عن «النهاية» و «مجمع البحرين» انّه: نقص في الحقّ.

و عن «المصباح» أنّه: فعل المكروه بأحدٍ و النقص في الأعيان.

و ذكر الراغب في «مفرداته» أنّه: سوء الحال، إمّا في النّفس، لقلّة العلم و الفضل؛ و إمّا في البدن، لعدم جارحة و نقص؛ و إمّا في الحال من قلّة مال و جا. «1»

و الظاهر أنّ الاختلاف بين هذه التعبيرات من جهة وضوح معنى الكلمة لا لاختلاف في معناها. بل الرّجوع إلى أقوال أهل اللغة- لو قلنا بحجية قول اللغوي- في أمثال هذه المقامات الّتي يكون المعنى ظاهراً عند أهل العرف و يعرفه كلّ من أنس بهم

و لو من غير أهل لسانهم، مشكلٌ؛ لأنّ الرّجوع إليهم من باب رجوع الجاهل إلى العالم و أهل الخبرة، و هنا ليس كذلك، لأنّ كلّ من يزاول هذه اللغة كمزاولتنا يكون من أهل الخبرة بالنسبة إلى أمثال هذه اللغات الدارجة، بحيث يحصل له من تتّبع موارد استعمالاتها الكثيرة نوع ارتكاز بالنسبة إلى معناها اللغوي، يمكنه الرّجوع إليه عند الشكّ في بعض مصاديقه. مضافاً إلى أنّه ليس من دأب اللغويين التّعرّض لخصوصيات معنى هذه اللغات اتكالًا على وضوحها؛ فاللازم علينا الرّجوع إلى ما ارتكز في أذهاننا و أذهان أهل العرف من معناها.

و الّذي نجده من ارتكازنا الحاصل من تتّبع موارد استعمالات هذه الكلمة أنّ معناها هو «فقد كل ما نجده و ننتفع به من مواهب الحياة، من نفس أو مال أو عرض أو غير ذلك». و ما قد يقال من عدم صدقه في موارد فقد العرض، كماترى. نعم استعماله في بعض موارد فقد العرض قليلٌ، بل الظاهر صدقه في موارد اجتماع الأسباب و حصول المقتضي لبعض تلك المنافع إذا منع منه مانع. كما أنّ الظاهر أنَّه مقابل للنفع، كما يشهد به كثير من آيات الذكر الحكيم مثل قوله تعالى: «وَ يَتَعَلَّمُونَ

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 53

مَا يَضُرُّهُمْ وَ لَايَنْفَعُهُمْ» «1»

و قوله: «يَدْعُواْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَايَضُرُّهُ وَ مَا لَايَنْفَعُهُ»»

و قوله: «يَدْعُوا لِمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ» «3»

و قوله: «وَ لَايَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَ لَانَفْعاً»؛ «4»

إلى غير ذلك في آيات.

فالأمر فيه سهلٌ بعد إمكان الرّجوع إلى ما ارتكز في الذّهن من تتبع موارد استعمالاته عند الشكّ في بعض مصاديقه؛ فإنّ الرّجوع إلى هذا الارتكاز يغني عن إتعاب النّفس في تحصيل ضابطة كلية له.

و أمّا الضرار، فهو

مصدر باب المفاعلة من ضارَّه يضارّه؛ و ذكر في معناه أمور:

الاول- أنّه فعل الإثنين، و الضرر فعل الواحد.

الثاني- أنّه المجازاة على الضرر.

الثالث- أنَّه الإضرار بالغير بما لاينتفع به، بخلاف الضرر فإنّه الإضرار بما ينتفع به.

الرّابع- أنَّ الضرر والضرار بمعنى واحد.

ذكر هذه المعاني الأربعة في «النهاية» و ظاهرها أنّه- أي الضرار- مشترك لفظي بين هذه المعاني.

الخامس- أنَّه بمعنى الضيق. ذكره في القاموس.

السادس- أنَّه الإضرار العمدي و الضرر أعمّ منه. مال إليه المحقّق النائيني في آخر كلامه بعد أن جعلهما بمعنى واحد في أوّل كلامه، و لذا احتمل كونه للتأكيد في محل الكلام.

و التحقيق أنّ المعنى الأخير أقرب من الجميع فإنّه الّذي يظهر بالتتّبع في موارد استعماله في الكتاب العزيز و الروايات، قال اللّه تعالى: «وِ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بَمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ لَاتُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا»؛ «5»

فإنّ

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 54

قوله: «لتعتدوا» من أقوى الشواهد على أنّ الضرار هنا بمعنى التعمّد في الضرر بقصد الاعتداء و قد مرّ في رواية العشرين من الرّوايات السابقة ما يؤيّده و يؤكّده.

و قال: تعالى: «لَاتُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَ لَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِه»؛ «1»

و قد مرّ أنّ المعروف في تفسيرها أنّه تعالى نهى عن إضرار الأم بولدها بترك إرضاعه غيظاً على أبيه و عن إضرار الأب بولده بإنتزاعه عن أمّه طلباً للإضرار بها.

و قال تعالى: «وَ مَا هُمْ بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ»؛ «2»

و كونه بمعنى الاضرار العمدي بالسحر واضح.

و قال: عزّ من قائل: «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ»؛ «3»

و قد مرّ أنّ المعروف في تفسيرها النّهي عن الإضرار بالورثة بإقراره بدين ليس عليه دفعاً لهم عن ميراثهم.

و قال تعالى: «وَ

لَاتُضَآرُّوَهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ»؛ «4»

نهى سبحانه عن الإضرار بالمطلّقات و التضييق عليهنّ في النفقة و السكنى طلباً للإضرار بهنّ.

و قد مضى في الحديث التّاسع من الأحاديث السابقة المروية عن هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبداللّه عليه السلام من أنّ البعير المريض إذا برئ و طلب الشريك الرأس و الجلد فهو الضرار؛ و لايخفى أنّه إذا ازدادت القيمة بالبرء و مع ذلك طلب الرّأس و الجلد فليس إلّالقصد الإضرار بصاحبه. بل الظّاهر أنَّ قوله في رواية سمرة:

(إنّك رجل مضار) ناظر إلى هذه المعنى؛ فإنّ القرائن تشهد على أنّه لم يقصد بعمله إلّا الإضرار بالأنصاري.

فهذا المعنى إذن أقرب معانيه.

و أمّا احتمال كونه فعل الإثنين، فالظاهر أنّه بملاحظة كونه من باب المفاعلة. و

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 55

لكنّه قياس في غير محلّه، لعدم استعماله في شي من الموارد الّتي أشرنا إليها آنفاً في هذا المعنى.

و أمّا كونه بمعنى المجازاة على الضرر، فلعلّه مأخوذ من سابقه. و هو أيضاً ضعيف لما عرفت.

و أمّا كونه بمعنى الإضرار بالغير بما لا ينتفع به، فالظاهر أنّه من لوازم المعنى المختار في كثير من الموارد، فهو من قبيل ذكر الملزومات و إرادة اللازم.

و أمّا كونهما بمعنى واحد، فهو في الجملة صحيح على ما ذكرنا، لأنّ الضرر أعمّ من العمدي و غيره، فيتصادقان في العمدي، و يفترقان في غيره.

و أمّا كونه بمعني «الضيق»، كما ذكره في القاموس، بناءاً على أنّ المراد منه الإيقاع في الحرج و الكُلفة، في مقابل الضرر الّذي هو إيراد نقص في الأموال و الأنفس- كما قد يفسر بذلك-، فهو أيضاً ممّا لايمكن المساعدة عليه؛ فإنّه لايلائم موارد استعماله، فإنّ قوله تعالى: «أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ» ناظر إلى الإضرار بالورثة ضرراً مالياً،

بأن يوصي بوصية، أو يقرّ بدينٍ ليس عليه، منعاً لهم عن حقّهم كما عرفت في أوائل الكتاب. إن قلت: إنّ هذا عين الإلقاء في الضيق و الكلفة؛ قلنا: بأنّ جميع موارد إيراد النقص في الأموال و الأنفس من هذا القبيل.

و قد مرّ في الرواية الخامسة عشرة أيضاً، أنّ الضرار في الوصية من الكبائر، و هو أيضاً مستعمل في هذا المعنى أعني إيراد النقص المالي على الغير. و قد مرّ في رواية هارون بن حمزة الغنوي الرواية العاشرة استعماله في مورد الضرر المالي. و أيضاً قوله تعالى: «وَ مَا هُمْ بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ» «1»

يشمل الضرر في الأموال و الأنفس بلا إشكال؛ فإنّه من أوضح مصاديق السحر. و قد استعمل الضرر ايضاً في هذا المعنى بعينه في قوله تعالى: «وَ يَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَ لَايَنْفَعُهُمْ». «2»

و بالجملة، القرائن الكثيرة المستفادة من موارد استعمال هذه الكلمة تؤكّد كونها

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 56

بمعنى التعمّد في الضرر.

و أمّا سائر المعاني المذكورة فهي إمّا ناشئة من توهّم كونه بين الإثنين، لكونه مصدراً لباب المفاعلة؛ و إمّا تكون من لوازم المعنى المختار؛ أو غير ذلك من الأمور الّتي لايسعنا الإعتماد عليها.

هذا تمام الكلام في معنى كلمتي «الضرر» و «الضرار».

المقام الثّانى: في معنى الحديث و مفاده
اشارة

إعلم أنّ في معنى الحديث الشريف إحتمالات قال بكلّ منها قائل:

الأوّل: إن نفي الضرر يعني نفي الأحكام الضررية؛ إمّا بأن يكون مجازاً، من باب ذكر المسبّب و إرادة السبب، كما يظهر من شيخنا الأعظم العلامة الأنصاري؛ فإنّ لزوم البيع مع الغبن حكم يلزم منه ضرر على المغبون، و كذا الحكم بجواز دخول سمرة دار الأنصاري بغير إذنه موجب للضرر- و إن كان له حق العبور في الجملة-؛ فنفي الضرر هنا بمعنى نفي

ذلك الحكم الوضعي أو التكليفي المستلزم له، و هكذا في سائر المقامات. و إمّا من باب الحقيقة الادعائية، كما هو الشأن في جميع المجازات على قول جمعٍ من المحققين. و إمّا من باب الإطلاق الحقيقي بلا احتياج إلى الإدّعاء، كما اختاره المحقق النائيني قدس سره.

الثّاني: إنّه من قبيل نفي الحكم بلسان نفي الموضوع؛ بأن يكون نفي الضرر كناية عن نفي أحكام الضرر في الشريعة. إختاره المحقق الخراساني قدس سره في (الكفاية) و في حاشيته على الفرائد. ولكنّ الظاهر أنَّ مختاره الكتابين و إن كان متقارب المضمون إلّا أنّ بينهما فرقاً، من حيث إنَّ ظاهر كلامه في الأوّل أنّ نفي الضرر كناية عن نفي جميع أحكامه، و ظاهر الثّاني أنّه كناية عن نفي الإضرار بالغير أو تحمّل الضرر عنه خاصة، فراجعهما و تأمّل.

الثالث: أن يكون المراد من نفي الضرر نفي صفة من صفاته، يُعنى بها: «عدم التدارك»، فقوله: «لاضرر» يقصد به أنّه: «لا ضرر غير متدارك في الشريعة». حكاه

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 57

العلّامة الأنصاري قدس سره في رسالته المطبوعة في ملحقات (المكاسب) عن بعض الفحول، و لم يسمّه.

و هذه الإحتمالات الثلاثة تبتني على إرادة النفي من لفظة «لا».

الرّابع: أن يكون المراد منه النّهي عن إضرار النّاس بعضهم ببعض، بأن يُراد من لفظة «لا» النّهي. إختاره جمع من أعلام المتأخّرين، و في مقدّمهم علّامة عصره شيخ الشريعة الإصفهاني في رسالته الّتي صنّفها في هذه القاعدة، و هي رسالة نافعة مشتملة على فوائد جمّة من أشباه التركيب أيضاً بما سيأتي الإشارة إليه، و من كلمات أئمّة اللغة أيضاً.

فهذه أقوال أربعة في معنى الحديث، لو لم نجعل ما ذكره المحقّق الخراساني في الحاشية و (الكفاية) قولين مختلفين، و

يختلف مفادها و نتائجها؛ فعلى الأخير يسقط الحديث عن الإستدلال به في الأبواب المختلفة من الفقه بالكليّة، و لايستفاد منه إلّاحكم فرعي تكليفي بعدم جواز إضرار النّاس بعضهم بعض؛ و على الثالث لايستفاد منه إلّالزوم الغرامة و التدارك في موارد الإضرار؛ و أمّا على الأوّلين فإنّه يكون مشتملًا على قاعدة عامة حاكمة على عمومات الأحكام الأوليّة بما سنتلو ذكره إن شاءاللّه. ولكنّ الحقّ أنّه لاتظهر ثمرة مهمّة بين هذين كما ستعرف.

المختار في معنى الحديث:

و لنذكر اوّلًا ما قيل أو يمكن أن يقال في توجيه كل واحد من المعاني المذكورة، حتّى تكون على بصيرة من أمرها، ثمّ نبحث عمّا هو المختار، سواء كان بين هذه المعاني أو معنى آخر سواها. فنقول و من اللّه الهداية:

أمّا المعنى الرابع فغاية ما يمكن أن يقال في توجيهه ما ذكره شيخ الشريعة الإصفهاني في رسالته، فإنّه قدس سره انتصر له بأوفى البيان بما لامزيد عليه، و إليك نص عبارته:

«إنَّ حديث الضرر محتمل عند القوم لمعانٍ: أحدها: أن يراد به النهي عن الضرر،

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 58

فيكون نظير قوله تعالى: «لَارَفَثَ وَ لَافُسُوقَ وَ لَاجِدَالَ في الحَجِّ»، «1»

و قوله تعالى: «فَإِنَّ لَكَ أَنْ تَقُولَ فِي الْحَيَاةِ لَامِسَاسَ،»، «2»

أي لايمسّ بعض بعضاً، فصار السامري يهيم في البرّية مع الوحش و السباع لايمسّ أحداً و لايمسّه أحد؛ عاقبه اللّه تعالى بذلك، و كان إذا لقي أحداً يقول: لامساس، أي: لاتقربني و لا تمسّني، و مثل قوله: «لاجلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام»، و قوله: «لاجلب و لاجنب و لا اعتراض»، و قوله: «لا إخصاء في الإسلام و لابنيان كنيسة»، و قوله: «لاحمى في الإسلام»، و قوله: «و لامناجشة»، و قوله: «لاحمى في الأراك»، و

قوله: «لاحمى إلّاما حمى اللّه و رسوله»، و قوله: «لاسبق إلّافي خفّ أو حافر أو نصل»، و قوله: «لاصمات يوم إلى اللّيل»، و قوله:

«لاصرورة في الإسلام»، و قوله: «لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق»، و قوله: «لا هجر بين المسلمين فوق ثلاثة أيّام»، و قوله: «لاغش بين المسلمين».

هذا كلّه ممّا في الكتاب و السنة النبويّة، و لو ذهبنا لنستقصي ما وقع من نظائرها في الرّوايات و استعمالات الفصحاء نظماً و نثراً لطال المقال وأدّى إلى الملال. و فيما ذكرنا كفاية في إثبات شيوع هذا المعنى في هذا التركيب؛ أعني تركيب «لا» الّتي لنفي الجنس، و في ردّ من قال- في إبطال إحتمال النّفي-: إنّ النّفي بمعني النّهى و إن كان ليس بعزيز، إلّاأنّه لم يعهد من مثل هذا التركيب».

ثمّ ذكر في تأييد هذا المعنى في كلام له في غير المقام مانصّه: «و لنذكر بعض كلمات أئمّة اللغة و مهرة أهل اللسان، تراهم متّفقين على إرادة النّهي لايرتابون فيه و لايحتملون غيره، ففي (النّهاية الأثيرية) قوله: لاضرر، أي: لايضرّ الرّجل أخاه فينقصه شيئاً من حقّه؛ و الضرار فعال من الضرر، أي: لا يجازيه على إضراره بإدخال الضرر عليه. و في (لسان العرب)- و هو كتاب جليل في اللغة في عشرين مجلّداً-، معنى قوله: لاضرر اي لايضرّ الرّجل أخاه و هو ضد النّفع؛ و قوله: لاضرار، أي: لايضار كلّ منهما صاحبه. و في (الدرّ المنثور) للسيوطى: لاضرر، أي لايضرّ الرّجل أخاه

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 59

فينقصه شيئاً من حقّه، و لاضرار، أي: لايجازيه على إضراره بإدخال الضرر عليه. و في (تاج العروس) مثل هذا بعينه، و كذا الطريحي في (المجمع). إنتهى موضع الحاجة من كلامه.

هذا ولكنّ الإنصاف، أنّ

ما أفاده هذا الشّيخ الجليل العلّامة المدقّق غير كافٍ في إثبات مرامه، لأنّ إرادة النّهي من لفظة «لا» فيما نقله من التراكيب المشابهة لحديث الضرر غير معلوم، بل الظاهر- كما يظهر بالتأمّل- أنّ «لا» في جميعها حتّى في قوله تعالى: «لَا رَفَثَ وَ لَافُسُوقَ وَ لَاجِدَالَ فِي الْحَجِ»، و قوله تعالى: «لَا مِسَاسَ» مستعملةٌ في معنى النفي؛ فليس معنى قوله: «لَارَفَثَ وَ لَافُسُوقَ وَ لَاجِدَالَ فِي الْحَجِ»، لاترفئوا و لاتفسقوا و لاتجادلوا في الحج، بل مفادها نفي وجود هذه الأمور من ناحية الحج، و إن كان لازمه النّهي عنها، ولكن بينه و بين ما أفاده من إستعمال «لا» في النّهي فرق ظاهر ستطلع على آثاره عند بيان المعنى المختار. و الشاهد عليه أنّ المتبادر من أمثال هذه التراكيب عند العرف الساذج ليس إلّاالنّفي فهل يحتمل أحدٌ أنَّ المعنى المطابقي لقوله تعالى: «لَارَفَثَ وَ لَافُسُوقَ. وَ لَا جِدَالَ فِي الْحَجِ» هو: لاترفثوا و لاتفسقوا و لاتجادلوا في الحج؟ و لعلّ منشأ الشبهة هو ما ذكرنا من أنّ النّفي في كثير من هذه التراكيب كناية عن النّهى، فاشتبه المعنى الكنائي بالمعنى المطابقي؛ و سيظهر لك أنّ بينهما فرقاً كثيراً من حيث النتيجة.

ثمّ لايخفى عليك ما في هذا التعبير الكنائي من لطف البيان و إفادة المراد بوجه آكد؛ و إن هذا إلّانظير قول الرّجل لخادمه: ليس في بيتي الكذب و الخيانة، ليعرّفه بأبلغ البيان أنّ هذه الأمور ممّا لاينبغي له ارتكابها في بيته أبداً، و من ارتكبها كان خارجاً عن أهل البيت. و يظهر ذلك بالرّجوع إلى الارتكاز الّذي نعهده من مثل هذه التراكيب في العربية بل و في غيرها من الالسنة؛ فإنّا لا نشكّ بعد التأمّل في

موارد استعمالها أنَّ كلمة «لا» و معادلها من سائر اللغات في هذه الموارد استعملت في النفي الّذي هو معناها الأصلي إذا دخلت على الإسم.

و من أقوى الشواهد على ذلك أنّه يصح تبديلها بغيرها من حروف النفي، فيقال

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 60

بدل قوله: لارفث و لافسوق و لاجدال في الحج، ليس في الحج رفث و لافسوق و لاجدال؛ فهل يمكن القول بأنَّ «ليس» أيضاً استعملت في معنى النّهي؟

هذا مضافاً إلى عدم إمكان إرادة النّهي من بعض هذه التراكيب بوجه من الوجوه، و هل يمكن أن يقال أنّ معنى قوله: «لا إخصاء في الإسلام»، هو: «لاتخصوا في الإسلام»؛ و هل لنا أنس بهذا التعبير، و هل الإسلام يمكن أن يكون ظرفاً للإخصاء؟

و أمّا ما نقله قدس سره عن أئمّة اللغة، فلعلّ نظرهم إلى النّتيجة و المغزى لا إلى المعنى المطابقي، كما هو دأبهم في سائر المقامات؛ لمّا قد عرفت من أنّا لانضائق عن القول بإرادة معنى النّهي بالمآل من هذا النّفي بعنوان الكناية، و إنّما الكلام هنا في مفاد كلمة «لا». هذا مضافاً إلى أنَّ حجية قولهم في أمثال هذه التراكيب الّتي نعلم وضع مفرداتها بل و هيئاتها في الجملة من دون الحاجة إلى الرجوع إليهم مشكلٌ، و لو قلنا بحجية قول اللغوي.

هذا كلّه مع ما عرفت في مقدّمات البحث من قوّة احتمال ورود هذه الفقرة ذيل رواية الشفعة الّتي لاتناسب النهي أصلًا، بل ظاهرها النّفي لجعلها كبرى كليّة للحكم الوضعي المذكور في صدر الرواية. و لو قلنا بورود قيد «في الإسلام» بعد قوله: «لاضرر و لاضرار» كان إرادة النفي هنا أوضح كما مرّ في المقدّمات.

و أمّا المعنى الثالث، فغاية ما يمكن أن يقال في توجيهه:

إنّ الضرر إذا كان متداركاً لم يصدق عليه عنوان «الضرر» بنظر العرف، و إن صحّ إطلاقه عليه بالدقّة العقليّة؛ فنفي الشّارع للضرر على الإطلاق، مع ما نرى من وجوده في الخارج، دليل على أنّ جميع أنواع الضرر الحاصلة من ناحية المكلّفين متداركة بحكم الشّرع، و أنّ فاعلها مأمور بتداركها و جبرانها، و إلّالم يصحّ نفيها؛ فهذا القيد أعني «عدم التّدارك» إنّما يستفاد من الخارج من باب دلالة الإقتضاء.

و أورد عليه العلّامة الانصاري قدس سره بعد عدّه أردأ الوجوه، بأنّ الضرر الخارجي لاينزّل منزلة العدم بمجرد حكم الشّارع بلزوم تداركه، و إنّما يصحّ ذلك إذا كان الضرر

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 61

متداركاً فعلًا و خارجاً.

و استحسنه المحقق النّائيني قدس سره و قال: إنّه حرّيٌ بالتحقيق، خصوصاً لو أُريد من لزوم التدارك وجوبه التكليفي، من دون إشتغال ذمة الضارّ بشي، فإنّ مجرد حكم الشّارع بوجوب تداركه لايبرر عدّه كالعدم.

هذا و الانصاف، أنّ شيئاً ممّا ذكراه (اعلى اللّه مقامهما) غير وارد على هذا الوجه، بل لقائله أن يقول: إنّ النّفي هنا بلحاظ عالم التشريع و الخارج- كما التزم به المحقق النائيني في بيان مختاره على ما عرفت في الوجه الأوّل-؛ فالشارع لايرى الضرر الّذي حكم بتداركه من قبل الضارّ ضرراً في عالم التشريع، لأنّه متدارك فعلًا بلحاظ حكمه، فلايرى منه بهذا النّظر عين و لا أثر، فالتدارك فعليّ بهذه الملاحظة لا شأنيّ.

و منه تعرف أنّه لافرق في ذلك بين الإلزام تكليفاً بتدارك الضرر أو اشتغال ذمة الضاّر بشي، لأنّ نظر الشّارع في مقام التشريع في الحقيقة إلى من يأتمر بأوامره و ينتهي بنواهيه، و لولا ذلك لم يكن لإشتغال الذمة أيضاً أثر في عدّه كالمعدوم، إذا فرضنا المكلّف عاصياً

غير معتن بتشريعات الشّارع المقدّس و أحكامه الوضعية و التكليفيّة.

نعم يرد على هذا الوجه أمران آخران يخرّبان بنيانه من القواعد:

أحدهما: أنّه لو كان مراده النّفي بلحاظ عالم التشريع- قد عرفت أنّه لا مناص منه-، فلا داعي لتقييد الضرر المنفي بغير المتدارك، بل يجوز نفي وجود الضرر بهذا اللحاظ مطلقاً؛ فيرجع إلى عدم جعل الأحكام الضررية كما هو مفاد الوجه الأوّل، فلا تصل النوبة إلى هذا الوجه. و الحاصل أنّه لادليل على تقييد نفي الضرر بغير المتدارك على كل حال.

ثانيهما: أنّ التدارك في عالم التّشريع بل و في الخارج أيضاً لايكفي في سلب عنوان الضرر حقيقةً عمّا هو مصداقه مع قطع النّظر عن التّدارك، بل هو نوع من التسامح العرفي، أو نحو من المجاز بلحاظ الإشتراك في الآثار؛ فإنّ الضرر المتدارك

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 62

في حكم العدم من جهة كثير من الآثار. نعم لو كان التدارك من جميع الجهات و الحيثيات بحيث لايرى أهل العرف فرقاً بين التألف و البدل في شي ء من الخصوصيّات، حتّى من جهة الزّمان، بأنّ يكون التدارك بعد التلف بلا فصل، أمكن الحكم بسلب عنوان الضّرر عنه بالنظر العرفي، و إن كان ضرراً بالدقّة العقليّة. ولكنّه أيضاً غير صاف عن شوب الأشكال.

و أمّا الوجه الأوّل فغاية ما يمكن أن يقال في تقريبه ما ذكره المحقق النائيني في كلام طويل له في المقام حاصله:

«إنّ النّفي في المقام و أشباهه من حديث الرّفع، و لاصلاة إلّابطهور، و غيرهما، محمول على معناه الحقيقي بالنّظر إلى عالم التّشريع؛ فإنّ الأحكام التكليفية و كذا الوضعيّة أمرها بيد الشّارع، إن شاء رفعها، و إن شاء وضعها. فالنّفي إذا تعلّق بحكم شرعي يكون نفياً حقيقياً، لارتفاعه واقعاً في

عالم التّشريع. هذا بالنسبة إلى النّفي، و أمّا إطلاق «الضرر» على الأحكام المستلزمة له فهو أيضاً حقيقي؛ لأنّ إطلاق المسببات التوليدية كالإحراق على ايجاد أسبابها شائع ذائع، فمن ألقى شيئاً في النّار يقال: إنّه أحرقه، قولًا حقيقياً.

و حينئذ نقول: كما أنّ الشّارع إذا حكم بحكم شرع وضعي أو تكليفي يوجب الضّرر على المكلّفين يصدق أنّه أضرّ بهم، و ليس هذا إطلاقاً مجازياً، كذلك إذا نفاه يصدق عليه أنّه نفى الضّرر عنه. نعم لو كانت الأحكام الشّريعّة من قبيل المعدّات للضرر لا من قبيل الأسباب، أو كانت من قبيل الأسباب غير التوليدية كان إسناد الضرر إلى من أوجدها إسناداً مجازياً. ولكن الأحكام الشرعية ليست كذلك، بل حكم الشارع بالنسبة إلى محيط التشريع كالسبب التوليدي لاغير؛ أمّا في الأحكام الوضعية فواضح، فإنّ حكم الشّارع بلزوم البيع الغبني مثلًا يوجب إلقاء المغبون في الضرر، و كذا في أشباهه؛ و أمّا في الأحكام التكليفيّة فإسناد الإضرار فيها إلى الشّارع إنّما هو بملاحظة داعي المكلّف و إرادته المنبعثة عن حكم الشّرع، ففي الحقيقة الحكم التكليفي سبب لانبعاث إرادة المكلّف و هي سبب للفعل؛ فهو أيضاً من سنخ

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 63

الأسباب التوليدية». هذه خلاصة ما أفاده و قد لخّصناه لطوله.

و يرد عليه أمور:

أوّلها: أنّ النّفي بلحاظ عالم التّشريع دون الخارج بنفسه نوع من المجاز، لأنّ ألفاظ النّفي و الإثبات موضوعة للوجود و العدم الخارجيين، أمّا الوجود و العدم في وعاء الإعتبار و التشريع فليسا وجوداً و عدماً حقيقيين، بل هما نوع من الوجود و العدم الإدّعائيين؛ فالحكم بالعدم على ما أنعدم في ذاك العالم و بالوجود على ما وجد فيه، و كذا حمل عنوان الضرر على الأحكام المجعولة فيها كلّها تحتاج

إلى نوع من العناية و المسامحة. بل إنّ إطلاق العالم على ذاك العالم الفرضي الإعتباري أيضاً من باب المجاز، غاية الأمر أنّه من باب الحقيقة الإدعائية- و المجازات كلّها أو جلّها من هذا القبيل على المختار-؛ فالشّارع المقدّس إذا اعتبر شيئاً نفياً أو إثباتاً في عالم التشريع فقد جعله فرداً إدعائياً للوجود و العدم الخارجيين، و أطلق الألفاظ عليه بهذه الملاحظة. و الحاصل أنّ النّفي في المقام و أشباهه ليس محمولًا على معناه الحقيقي.

ثانيها: أنّه لو سلّمنا أنّ النّفي هنا حقيقي بلحاظ عالم التّشريع- كما أفاده-، لم تبق حاجة في توجيه انطباق عنوان «الضرر» على الأحكام الضررية إلى بحث الأسباب التوليدية؛ فإنّ جعل الأحكام الضرريّة- وضعية كانت أو تكليفية- بنفسه مصداقٌ لعنوان الإضرار في وعاء التّشريع لاسببٌ له؛ فإنّ الجعل و الإعتبار في عالم التّشريع كالإيجاد في عالم التكوين، فمن شرّع قانوناً ضرريًّا فقد أضرّ بمن يشمله بنفس هذا الجعل. و بعبارة أخرى: الحكم بجواز أخذ مال الغير بغير حق، بالنسبة إلى عالم التشريع، كالأخذ منه في عالم الخارج؛ فكما أنّ أخذه منه بنفسه مصداق للضرر، كذلك الحكم بالجواز في عالم التشريع مصداق له بهذا النّظر، و لافرق فيه بين الأحكام التكليفيّة و الوضعية. نعم لو كان النّفي بلحاظ عالم التكوين مسّت الحاجة إلى بحث الأسباب التوليديّة في توجيه انطباق عنوان الضّرر على الأحكام

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 64

الضررية كما لايخفى.

ثالثها: أنّ ما ذكره من كون الأحكام التكليفية من سنخ الأسباب التوليدية بتوسيط إرادة المكلّفين المنبعثة من تلك الأحكام هو أيضاً في غير محلّه؛ فإنّ أفعال المكلّفين و إن استندت إلى إراداتهم إلّاأن أراداتهم مستندة إلى اختيارهم- على ما هو التّحقيق من بطلان الجبر-، فليست

الأحكام الشرعية عللًا توليدية للإرادة، بل العلّة لها هو الإختيار، و الأحكام من قبيل المعدّات و الدواعي المؤكّدة لاختيار أحد الطرفين لا غير. هذا مضافاً إلى أنّه لوتم هذا البيان كان اللازم الحكم بصدق عنوان الضّرر في عالم الخارج لا عالم التّشريع، لأنَّ انبعاث الإرادة عن الأحكام التكليفيّة يوجب تحقّق الفعل في الخارج، فنفي التكليف الضرري يستلزم نفي وجود الضّرر في هذا الوعاء، و لو من طريق إعدام إرادة المكلّفين المنبعثة عنه؛ فكأنّه وقع الخلط في كلامه قدس سره بين ظرفى الخارج و التّشريع.

و هذه الإيرادات واردة على التّقريب الّذي اختاره المحقّق النّائيني في بيان الوجه الأوّل. و أمّا ما يرد على هذا الوجه على جميع تقريباته و يهدم بنيانه من القواعد فهو:

إنّه مبني على أنّ الفاعل للضرر في قوله: «لاضرر و لاضرار» هو الشّارع المقدّس، بأن يكون المنفي في الحقيقة إضرار الشّارع بالمكلّفين، و مآله إلى نفي الأحكام المستلزمة للضرر. فحاصل معنى الرواية على هذا: أنّه لاضرر و لاضرار من ناحية الشّارع على المكلّفين؛ فإنّه لم يكتب عليهم أحكاماً- وضعية أو تكليفيّة- توجب الإضرار بهم، كلزوم البيع الغبني على المغبون، و وجوب الوضوء و الصوم الضرريين، و غيرها من أشباهها؛ فنفي العبادات الضرريّة بهذه القاعدة ينادي بأعلى صوته بأنّ الفاعل للضرر في هذه الفقرة عندهم هو الشارع لاغير.

مع أنّ هناك قرائن كثيرة تشهد على أنّ الفاعل هو النّاس، بعضهم ببعض؛ فالمنفي في الحقيقة نفي جواز إضرار بعضهم ببعض- وضعاً أو تكليفاً-. لا أقول: إنّ النّفي بمعنى النّهي- كما اختاره المحققّ الإصفهاني-، بل هو بمعناه الأصلي، ولكن

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 65

المنفي هو الضرر النّاشئ من ناحية المكلّفين. و سيأتي تحقيق هذا المعنى و بيان

نتائجه عند بيان المذهب المختار إن شاء اللّه.

و الّذي يدلّ على أن الفاعل في هذه الفقرة هو النّاس لاالشارع المقدس أمور:

منها: أنّ قوله صلى الله عليه و آله «إنّك رجل مضارّ» بمنزلة الصغرى لقوله: «لاضرر و لاضرار»، و لاشكّ أنّ الفاعل في هذه الجملة هو «سمرة بن جندب». فهذا من أقوى الشواهد على أنّ الفاعل في الفقرة الثانية ايضاً هم المكلّفون لاغير.

و منها: أنّ كلمة «ضرار» بما له من المعنى و هو الضرر العمدي النّاشئ عن الأغراض الفاسدة- كما قوّيناه- لاتناسب كون الفاعل هو الشّارع المقدّس قطعاً؛ لأنّ احتمال إضرار الشّارع بالمكلّفين بهذا الوجه منفي مطلقاً، عند كلّ أحد، من دون حاجة إلى بيان، بل الّذي يحتاج إليه إنّما هو نفي إضرار بعض المكلّفين ببعض كذلك، مثل ما في قضية سمرة.

و منها: قوله في ذيل رواية «منع فضل الماء» الّتي رواها عقبة بن خالد: «أنّه لا يمنع فضل ماء» ليمنع فضل كلاء، و قال: «لاضرر و لاضرار»؛ بناءاً على أنّ ورود هذه الفقرة ذيلها- كما قوّيناه- ظاهرٌ في أنّ نفي الضرر و الضرار بمنزلة التعليل للنّهي عن منع فضل الماء، فكأنّه قال: لايمنع صاحب البئر فضل مائه لما فيه من الإضرار بالممنوع، و إضرار النّاس بعضهم ببعض منفي في الشريعة؛ فظاهر هذه الرواية أيضاً كون الفاعل، المكلّفين، و إحتمال كونه هو الشارع يحتاج إلى تكلّف بعيد.

هذا مضافاً إلى ظهور كلمات أئمّة اللغة في ذلك، حيث إنّهم فسرّوه بما يرجع إلى النّهي عن الإضرار، ومن الواضح أنّه لايتمّ إلّاعلى كون الفاعل هو النّاس. و قد عرفت عند التّعرّض لما اختاره المحققّ الإصفهاني و نقده أنّه لايستفاد من تفسيرهم أنّ لفظة «لا» استعملت في النّهى، و إن

كان كناية عنه فراجع. و الحاصل أنّ هذه التفسيرات أيضاً مؤيّدة لما ذكرنا؛ و كذا ما يظهر من أئمّة الفقه و مهرته من الّتمسّك بهذه القاعدة في أبواب المعاملات، و ما يحذو حذوها ممّا يرجع إلى مناسبات بين النّاس؛ و ليس التمسّك بها في أبواب العبادات بهذه المثابة كما لايخفى على من له

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 66

أنس بكلماتهم.

و ممّا ذكرنا يظهر حال الوجه الثّاني من الوجوه المذكورة في معنى الحديث، حيث إنّه يشترك مع الوجه الأوّل من جهات شتّى، و إن كان قابلًا للتطبيق على المذهب المختار كما سنشير إليه فيما يلي.

فذلكة الكلام في معنى الحديث:

قد عرفت ممّا ذكرنا في توضيح الوجوه الّتي ذكرها الأعلام في تفسير الحديث و ما يتوجّه إليها من الإيرادات أموراً:

الأوّل: أنّ كلمة «لا» هنا بمعنى النّفى لا النّهي.

الثّاني: أنّ الفاعل للضرر في قوله: «لاضرر و لاضرار» هو النّاس لا الشارع المقدّس.

الثّالث: أنَّ المنفي هو نفس الضرر و الضرار لا الأحكام الّتي ينشأ منه الضرر، و لكنّه كناية عن عدم امضائهما في الشرع.

و من هذه الأمور يُستنتج المذهب المختار في تفسير الحديث. بيان ذلك:

إنّ ظاهر هذه الفقرة نفي وجود الضرر و الضرار بين المكلّفين، ولكن عدم صدق هذا المعنى في الخارج، مضافاً إلى قرينة المقام- و هو كونه صلى الله عليه و آله بصدد بيان الحكم الشرعي و القضاء بين الأنصاري و سمرة بن جندب- يكون شاهداً على أنّه كناية عن عدم امضاء هذه الفعل الضرري في الشريعة، لاوضعاً و لاتكليفاً؛ فكأنّه إذا لم يمضه لايرى منه عين و لا أثر في محيط التشريع؛ و إن هو إلّانظير قول الرجل لخادمه:

لايكون في بيتي الخيانة و الكذب و قول الزور، يعنى أنّ هذه الأمور

غير مجازة عندي، فكأنّي لا أرى منها عيناً و لاأثراً. فنفي هذه الأمور كناية عن نفي إمضائها و عدم ترخيصها بوجه من الوجوه. و كذا الكلام في أشباهه مثل قوله: لارهبانية في الإسلام، و لا إخصاء في الإسلام، حيث إنّ المنفي فيها أيضاً نفس هذه الأفعال، ولكنّه يفيد نفي الترخيص و الإمضاء بأبلغ الوجوه، كما هو الشأن في جميع الكنايات.

و من ذلك تعرف أنّ مفاد الحديث لاينحصر في النّهي التكليفي عن الإضرار

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 67

بالغير، بل يعمّه و الأحكام الوضعية؛ فكما أنّ دخول سمرة بن جندب على الأنصاري بغير استئذان منه ضررٌ منهي عنه تكليفاً، كذلك البيع الغبني إذا وقع على وجه اللزوم بنفسه مصداقٌ للضرر و الإضرار، فهو أيضاً غير ممضي من ناحية الشرع، و عدم امضائه يساوق عدم نفوذه و تأثيره.

و هذا المعنى المختار و إن وافق ما ذهب إليه الأكثر من حيث النتيجة في أكثر نواحيها، إلّاأنّه يفارقه في أبواب العبادات الضرريّة، من الوضوء و الصوم الضرريين و ما ضاهاهما؛ فعلى مختارهم يمكن نفي وجوبهما بهذه القاعدة، ولكن على المختار لا يمكن لعدم أوله إلى الضرر و الإضرار بين النّاس. و قد عرفت أنّ الفاعل للضرر المنفي هو النّاس لا الشّارع المقدّس، و هذا فرق ظاهر بين المذهبين من حيث النتيجة، فلاتغفل.

لايقال: إنّ قوله «لاضرر و لاضرار» و إن لم يكن ناظراً إلى غير الضرر الناشئ من أفعال المكلّفين؛ من المضارّ الناشئة من أحكامه تعالى. إلّاأنّه يمكن استفادة حكمه منه بالأولوية القطعية، فإنّ الشّارع إذا نهى عن إضرار النّاس بعضهم ببعض و منَّ عليهم بهذا الحكم كيف يرضى بإلقائهم في الضرر من ناحية أوامره و نواهيه؟ إذن لايبقى شك في أنّ

تكاليفه لاتشتمل على ضرر. و إن وجد ما ظاهره ذلك من عموم أو إطلاق يشمل موارد الضرر، فاللازم تخصيصه و تقييده.

و أمّا الأحكام المشتملة على الضرر دائماً أو غالباً فضررها متدارك لامحالة بما فيها من المصالح الغالبة و يكشف عن ذلك حكمه بها مع هذا الحال، فهي و إن كانت ضررية بظاهرها، ولكن لاريب في أنّ الشّارع قد حكم بها لمصالح تفوق ما فيها من المضار. فالجهاد و إن كان فيه تلف النّفوس، و نقص من الأموال و الأنفس و الّثمرات، إلّا أنّ فيه عزّ المسلمين و حفظ بيضة الإسلام و ثغوره، و أحكامه و حدوده؛ و فيه من المنافع العاجلة و الآجلة ما لايحصى. و من الواضح أن كون الشي نافعاً أو ضاراً تابعٌ لأقوى الجهات الموجودة فيه من المنافع و المضار. و لايزال العقلاء يقدمون على أمور فيها ضرر من بعض الجهات لمنافع أقوى تترتّب عليها، و لايسمّونها ضرراً

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 68

و شرّاً، بل يعدّونها نفعاً و خيراً. و الحاصل أنّه لابدّ من تقييد إطلاقات الأحكام الواردة في غيرهذه الموارد و حصرها على غير موارد الضرر.

لأنّا نقول: إذا كان حكم الشّارع في الموارد الّتي تستلزم الضرر دائماً أو غالباً كاشفاً عن مصالح تربو على المضار الظاهرة فيها، و معه لايكون الحكم ضررياً، فليكن إطلاق حكمه أو عمومه في مثل الصوم و الوضوء الشامل للصوم و الوضوء الضررين أيضاً كاشفاً عن وجود مصالح في هذه الموارد ينتفي معها عنوان الضرر؛ فالتمسّك بالأولوية القطعية في هذه الموارد، و التعدّي من دليل نفي الضرر إليها بهذه الولاية، ممنوع جدّاً، بعد عدم إحراز موضوع الضرر فيها، بل و إحراز عدمه.

و من أقوى المؤيّدات، على ما ذكرنا

من عدم شمول دليل نفي الضرر للعبادات الضررية، و أمثالها من التكاليف الّتي ينشأ الضرر في بعض مصاديقها، أنّ قدماء الأصحاب بل و كثير من متأخّريهم فيما- حضرني من كلماتهم- مع استقامة أنظارهم في فهم المفاهيم العرفية من الكتاب و السنة، لم يفهموا من قاعدة نفي الضرر شمولها لمثل هذه الأحكام؛ و لم يستندوا إليها في أبواب العبادات الضررية، و إنّما استدلّوا بها في أبواب المعاملات، مثل خيار الغبن و غيره ممّا يرجع إلى إضرار النّاس بعضهم ببعض فقط.

فهذا من المؤيّدات القويّة لما استظهرناه من أنّ دليل نفي الضرر لايدلّ على نفي هذه الأحكام، لابمعناه المطابقي و لا بالأولوية القطعيّة. و إليك بعض ما حضرني من كلماتهم عاجلًا، و لابدّ من التتبّع و التأمّل لكي يظهر حقيقة الحال.

قال شيخ الطائفة في المسألة 110 من كتاب الطهارة في باب أحكام الجبائر: «إذا خاف التلف من استعمال الماء أو الزيادة في العلّة يمسّح عليها، ثمّ قال: «دليلنا قوله تعالى «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الْدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» و إيجاب نزع الجبائر فيه حرج».

ثمّ استدلّ بالإجماع و ببعض الأخبار، و لم يستدلّ بقاعدة لاضرر. و مثله إستدلاله في غير واحد من مسائل التيمّم فراجع.

و قال المحقّق في «المعتبر» في مسألة خوف زيادة المرض، أو بطء برئه، أو ظهور

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 69

الشين في الأعضاء، أنّه يجوز التيمّم في هذه الحالات. ثمّ استدلّ له بقوله تعالى: «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الْدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»، و غيره من الأدلّة، و لم يستدلّ بهذه القاعدة.

و العلامة ايضاً استدلّ في «التذكرة» على جواز التيمّم عند خوف الشين في البدن بإستعمال الماء بقوله تعالى: «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الْدِينِ مِنْ حَرَجٍ»، و لم يستند إلى

قاعدة نفي الضرر.

و أفتى صاحب المدارك في مسألة من وجد الماء بثمن يضرّ بالحال بجواز التيمم، و ذكر في تأييد هذه الفتوى بعد الإستدلال بالروايات بقوله تعالى: «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الْدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»، و قوله تعالى: «يُريدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَ لَايُريدُ بِكُمُ الْعُسَرَ». و هكذا في غير واحدٍ من موارد الضرر في أبواب التيمّم إستدلّ بقاعدة نفي الحرج، و لم يتعرّض لقاعدة نفي الضرر أصلًا.

فهؤلاء الأعلام و غيرهم (رضوان اللّه عليهم) مع استنادهم غالباً في أبواب المعاملات- مثل: مسألة خيار الغبن و غيرها- بقاعدة نفي الضرر، لايستندون إليها- فيما حضرنا من كلماتهم- في أبواب العبادات الضررية، و غيرها من التكاليف الّتي تكون من حقوق اللّه، و لاترجع إلى معاملة الناس بعضهم مع بعض. أظنّ أنَّ الإستناد بهذه القاعدة في هذه الأبواب نشأ بين المتأخّرين، أو متأخري المتأخّرين من الأصحاب. و قد عرفت أنّ القرائن الكثيرة الموجودة في نفس روايات الباب تشرف الفقيه على القطع بعدم شمولها لما ذكرنا؛ و فتاوى الأصحاب أيضاً شاهدة له.

و لو تنزّلنا و حكمنا بإجمالها فاللازم أيضاً الأخذ بالمتيقّن منها؛ فتبقى إطلاقات أدلّة هذه التكاليف سليمة عن المعارض أو الحاكم.

هذا ولكن الّذي يسهّل الخطب إمكان الإستناد إلى قاعدة «نفي الحرج» في جلّ هذه الموارد، فيستغنى بها عن غيرها؛ ولكن مع ذلك تظهر الثمرة في موارد نادرة يصدق عليها عنوان الضرر دون الحرج فراجع و تأمّل.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 70

و هنا إحتمال آخر، في معنى الحديث يُحكى عن بعض «أعاظم العصر»، و هو أنَّ مفاد هذه القاعدة حكمٌ سلطاني بمنع إضرار النّاس بعضهم ببعض، فإنّ للنّبي صلى الله عليه و آله ثلاث مقامات: مقام النبوّة و تبليغ الرسالة، و هو

من هذه الجهة مبلّغ عن اللّه، و حاكٍ لأحكامه الظاهرية و الواقعيّة، كالمجتهد بالنسبة إلى الأحكام الشرعية المستفادة من الكتاب و السنّة؛ و مقام القضاء، و هو عند تنازع النّاس في حقوقهم و أموالهم، فللنّبي صلى الله عليه و آله القضاء و فصل الخصومة بينهم؛ و مقام السلطنة و الرياسة من قبل اللّه، فأمره صلى الله عليه و آله و نهيه نافذان فيما يراه مصلحة للأمة، كنصب أمراء الجيوش و القضاة و أشباه ذلك.

و حكمه صلى الله عليه و آله في قضية سمرة بنفى الضرر و الضرار ظاهرٌ في أنّه ليس من الأوّل ولا من الثّاني؛ لأنّه لم يكن للأنصاري- و لالسمرة- شكّ في حكم تكليفي أو وضعي في قضيتهما. أو تنازعٍ في حقّ إختلفا فيه من جهة اشتبهاههما في المصاديق أو الحكم، و إنّما وقع ما وقع من الأنصاري في مقام الشكوى و التظلّم و الاستنصار به صلى الله عليه و آله بما أنّه سلطان على المسلمين وسائسهم، مع وضوح الحكم و الموضوع كليهما.

فَأَمَرَهُ صلى الله عليه و آله بقلع النخلة حسماً لمادة الفساد، ثمّ عقّبه بقوله: «لاضرر و لاضرار». فهذا حكم سلطاني عام بعد حكمه الخاص؛ و معناه أنّه لايضرّ أحد أحداً في حمى سلطاني و حوزة رعيتي، و على جميع الأُمّة إطاعته في ذلك و الانتهاء بنهيه، لا بما أنّه حكم من أحكام اللّه بل بما أنّه حكم من قبل سلطان مفترض الطاعة. و يشهد لهذا المعنى تصدير هذه الفقرة في رواية «عبادة بن صامت» المرويّة من طرق العامة بقوله: و «قضى» الظّاهر في هذا النّوع من الحكم.

هذا ملخص ما يُحكى عنه (دام عُلاه) في كلام طويلٍ له فى المقام.

ولكن لايخفى على

المتأمّل أنّه لايمكن عدّ هذا معنى آخر للحديث، بل يؤول إلى المعنى الثالث من المعاني السابقة الّذي اختاره شيخ الشريعة الإصفهاني (قدّس اللّه سرّه الشريف)، من إرادة النهي من هذه الفقرة، غاية الأمر، ظاهر القائلين بهذ المعنى هو النّهي التشريعي، على وزان سائر الأحكام الشرعية، و مفاد هذا البيان كونه سنخاً

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 71

آخر من النّهي، سمّاه نهياً سلطانياً؛ و من المعلوم أنّه لايظهر ثمرة بينهما بعد وجوب إمتثال كل منهما على جميع الأمة بلا تفاوت في ذلك.

و الظّاهر أنّه (دام عُلاه) أيضاً ليس بصدد ذلك، بل بصدد بيان تقريب آخر في إثبات كون «لا» بمعنى النّهي، لا النفي، خلافاً للعلّامة الأنصاري (قدّس اللّه سرّه) و أتباعه؛ فلاتكون هذه القضية ناظرة إلى نفي الأحكام الضررية و حاكمة عليها، ولايجوز الإستدلال بها لنّفي الأحكام الضرريّة مطلقاً. و مع ذلك يرد عليه:

أوّلًا: أنّ كون «لا» هنا ناهية خلاف التّحقيق كما مرّ بيانه مشروحاً.

و ثانياً: أنّه إن كان مراده من مقام سلطنة النّبي صلى الله عليه و آله أنّ له صلى الله عليه و آله تشريعاً كتشريع اللّه في الأحكام الكلّية على الموضوعات الكلّية كالسلاطين في سابق الأيّام- و إن كانت سلطنته حقّة-، أعطا اللّه ذلك رعاية لمقامه السامي، فهذا كماترى، و لا يظنّ أن يكون هذه مراده.

و إنّ أراد أنّ له مقام ولاية الأمر و الحكومة الشرعية، بمعني أنّ الأمور الخاصة الجزئية الّتي ترتّبط بمصالح الأمّة، مما لايندرج تحت ضابطة كلّية،- كنصب الولاة و أمراء الجيوش و عمّال الصّدقات و غيرها من أمثالها- كلّها بيده، و أنّ تطبيق هذه الأمور على ما يراه مصلحة للعباد و تشخيص مصاديقها موكول إلى نظره الشريف، فهو و إن كان من

مقاماته قطعاً؛ إلّا أنّه لايشمل مثل: الضرر و الضرار، و ما أشبههما من الموضوعات الكلّية، الّتي لها في الشرع حكم كلّي لامحالة، و ليست من سنخ تلك الأمور الخاصّة الّتي لاتنضبط تحت قاعدة كلّية و يرد فيها حكم كلّي كما هو ظاهر.

و بعبارة أخرى: إنّ مقام السلطنة و الحكومة و إن كان من مقامات النّبي صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام، بل و حكّام الشّرع في الجملة بلا إشكال؛ إلّاأنّه يختصّ بأمور شخصية جزئيّة ترتّبط بمصالح الأمّة ممّا لايندرج تحت ضابط كلّي و لايمكن تشريعه في ضمن أحكام كلّية،- كنصب أمراء الجيوش و القضاة و جباة الصدقات و أمثالها ممّا لاتحيط الأحكام الكلّية بجزئياته يختلف بحسب الأزمنة والظروف-؛ فهذه الأمور و إن كانت أحكامها الكلّية واردة في الشّرع بنحو بسيط، مثل ما ورد في صفات القاضي

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 72

و جابي الصدقة و غير ذلك، إلّاأنّ تشخيص مواردها و تطبيقها على مصاديقها موكول إلى نظر السلطان و ولي الأمر. و أمّا غير هذه الأمور من الأحكام الكلّية الواردة على موضوعاتها الكلّية فليست بيد السّلطان، بل بيد الشّارع المقدّس؛ و ليس للنّبي تشريع في قبال تشريع اللّه حتّى يكون هناك تشريعان في الأحكام الكلّية.

و إن شئت قلت: ما من موضوع كلّي إلّاو له حكم كلّي في الشرع من قبل اللّه سبحانه، و حينئذ لايبقى مورد لتشريع النّبي صلى الله عليه و آله أحكاماً كلّية على موضوعاتها الكلّية؛ و إنّما سلطانه صلى الله عليه و آله على تعيين مصاديقها، و تطبيقها في الموارد التي فيها مصلحة للمسلمين بحسب اختلاف الظروف؛ و من المعلوم أنّ الضرر و الضرار من الموضوعات الكلّية الّتي تحتاج إلى حكم

كلّي، فليسا في حيطة سلطنة وليّ أمر المسلمين بل في حيطة التشريع الإلهي لا غير. نعم لو كان حكمه صلى الله عليه و آله مقصوراً على قلع شجرة «سمرة» أمكن القول بأنّه من قبيل الأحكام السلطانيّة، ولكنه ليس كذلك.

و ثالثاً: الظاهر أنّ حكمه صلى الله عليه و آله في قضية سمرة كان من باب القضاء و أنّ المقام كان من مقامات التنازع في الحقوق و الأموال، غاية الأمر أنّه قد يكون النزاع ناشئاً من الجهل بالحكم، و من الجهل بمصاديقه أخرى. و الشاهد على ذلك أنّ سمرة- كما يظهر من الرّواية- كان يدّعي أنّ وجوب الاستئذان من الأنصاري تضييق في دائرة سلطنته فيما كان له من حقّ العبور إلى نخلته، فلذا قال: أستأذن في طريقي إلى عذقي؟ و كان الأنصاري أيضاً يرى أنّ له إلزامه بذلك، فشكاه إلى النّبي صلى الله عليه و آله، فقضى له عليه، ثمّ ذكر حكماً عامّاً شرعياً يستفاد منه أحكام أشباهه. و يشهد بذلك ما ورد في الرواية من التعبير بالقضاء؛ و ذكره في ضمن أقضية النّبي صلى الله عليه و آله في روايات الفريقين. و قد كان هذا العنوان- أي عنوان القضاء- مستعملًا في هذا المعنى من لدن زمن النّبي صلى الله عليه و آله، إذا كان محفوفاً بقرينة الدعوى و الشكوى و المنازعة.

المقام الثالث: التنبيهات
اشارة

ذكر غير واحد من الأعلام هنا تنبيهات بيّنوا فيها حدود هذه القاعدة و مجراها، و فروعاً تستنبط منها، و مغزاها، و رفع ما يورد عليها من الإيرادات؛ فنذكرها و نذكر ما عندنا فيها، ثمّ نعقّبها بما أهملوا ذكره من الأمور المهمّة الّتي لها دخل في تحقيق حدود القاعدة و فروعها، فنقول و من اللّه سبحانه

نستمد التوفيق:

التّنبيه الأوّل: هل هذه القاعدة موهونة بكثرة التخصيصات؟

ذهب غير واحد من المحقّقين تبعاً لشيخنا العلّامة الأنصاري قدس سره في ما أفاده في (الفرائد) إلى أنّ هذه القاعدة و إن كانت متينة سنداً و دلالة، إلّاأنّها موهونة بكثرة التخصيصات الواردة عليها، بحيث يكون الخارج منها أضعاف ما بقي تحتها؛ بل لو أريد العمل بها على عمومها حصل منها فقه جديد. و من هنا يعلم بأنّ لها معنى آخر غير ما يظهر لنا في بادئ النظر لايرد عليه تخصيص كثير. و عليه، تكون القاعدة مجملة لنا؛ و علينا الاقتصار في العمل بها على الموارد التي عمل بها الأصحاب ممّا يعلم انحصار مدرك المسألة عندهم بهذه القاعدة لاغير.

و قد زعم بعضهم أنّ عمل الأصحاب بها جابرٌ للوهن المذكور؛ و كأنَّه قد وصلت إليهم قرائن بيّنت لهم مغزاها و مفادها لم تصل إلينا! مع أنّ الناظر في كلماتهم يعلم علماً قطعيّاً بعدم وصول شي آخر إليهم هنا عدا هذه الرّوايات المعروفة المشهورة، و قد عملوا بظواهرها و بنوا عليها أحكاماً كثيرة في مختلف أبواب الفقه. فراجع كلام شيخ الطائفة و العلّامة، و غيرهما من نظرائهما من القدماء و المتأخرين، في أبواب بيع الغبن، و شبهها ممّا استندوا فيه إلى هذه القاعدة، تجده شاهد صدق على ما ادّعينا؛ فكيف يكون عملهم- و الحال هذه- جابراً لهذا الضعف و دافعاً لهذا الإشكال؟

و قد شاع اليوم هذا النحو من الإستدلال في موارد كثيرة، حيث لم يتيسّر لهم حلّ بعض الإشكالات الواردة على بعض القواعد، فاستراحوا إلى عمل الأصحاب؛ مع أنّ التّدبّر في كلماتهم يرشدنا إلى أنّ أصحابنا الأقدمين لم يزيدوا علينا في كثير من هذه المباحث شيئاً، إلّاصرافة الذّهن وجودة النّظر العرفي، الموجبة لكشف مغزى

القواعد الفقهية،

ج 1، ص: 74

كلماتهم عليهم السلام لهم.

و كأنّ هذا المعنى قد ألجأ شيخنا العلّامة الأنصاري في بعض كلماته إلى حلّ هذا الإشكال، تارة: بمنع أكثرية الخارج منها و إن سلّمت كثرته، و أخرى: بخروج ما خرج بعنوان واحد؛- بناءاً على ما اختاره في أبواب العموم و الخصوص من عدم استهجان كثرة التخصيص إذا كان بعنوان واحد-.

و أورد عليه المحقق الخراساني في بعض حواشيه على (الفرائد) بأنّ خروج أفراد كثيرة بعنوان احد إنّما يمنع من استهجان التّخصيص إذا كانت أفراد العام هي العناوين لا الأشخاص.

أقول: الظّاهر أنَّ تسالمهم (قدّس اللّه أرواحهم)- على كثرة ما خرج من عموم قاعدة لاضرر- إنّما نشأ ممّا يترائى في بادئ النّظر من وجود أحكام ضرريّة كثيرة في الشريعة، كوجوب الأخماس و الزكوات و أداء الديّات و تحمّل الخسارات عند الإتلاف و الضمانات، و غير ذلك ممّا يتضمّن ضرراً مالياً؛ و كوجوب الجهاد و الحج و غير هما، ممّا يحتاج إلى بذل الأموال و الأنفس؛ و كوجوب تحمّل الحدود الشرعية و القصاص و أشباهها، ممّا يتضمّن ضرراً نفسياً أو عرضياً. فإنَّ هذه الأحكام ثابتة في الشريعة ظاهرة عند أهلها، خواصّهم و عوامهم.

و فيه، أولًا: إنّ هذا الأشكال على فرض صحّته- و هو غير صحيح كما سيأتي- إنما يلزم القائلين بكون مفاد القاعدة نفي الأحكام الضررية في الشريعة، و أمّا على المختار من أنّ مفادها نفي إضرار النّاس بعضهم ببعض، و أنّ الشّارع لم يمض الإضرار في عالمي الوضع و التكليف، فلا مجال له قطعاً.

نعم قد عرفت أنّ هذه القاعدة تدلّ بالملازمة و الأولويّة على أنّه لاضرر من ناحية أحكام الشرع على أحدٍ؛ و من المعلوم أنّ هذه الملازمة لاتنفي شيئاً من الأحكام الّتي

يترائى منها الضرر، بل أقصي ما يستفاد منها هو أنّ هذه الأحكام- بعد ثبوتها و تحقّقها و لو بطرق ظاهريّة- مشتملة على مصالح جمّة تكون بلحاظها أمراً نافعاً محبوباً لا ضاراً مبغوضاً؛ و ما نراه من الضرر أحياناً بادئ الأمر إنّما هو لعدم علمنا

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 75

بمنافعها و مصالحها، و إلّافالعالم بفوائد الخمس و الزكاة و الديّات يراها لازمة ببداهة عقله و حكومة فطرته، لِما فيها من المصالح.

و ثانياً: نمنع كون هذه الأحكام كلّها أوجلها ضرريّة بنظر العرف و العقلاء؛ فإنّ اشباهها أو ما يقرب منها متداولة معروفة بينهم، يحكمون بها و يرونها حقاً نافعاً لا ضاراً باطلًا؛ فإنّهم لايزالون يحكمون بلزوم بذل الخراج و العشور، و أنَّ فيها صلاح المجتمع الّذي يقوم صلاح الأفراد بصلاحه، و لاتنحفظ منافعهم إلّابه. و قد استدلّ الإ مام أميرالمؤمنين عليه السلام بهذا الإرتكاز العقلائي في عهده المعروف إلى مالك الأشتر، حيث قال: «فالجنود بإذن اللّه حصون الرعية و زين الولاة و عزّ المسلمين و سبل الأمن، و ليس تقوم الرّعية إلّابهم، ثمّ لا قوام للجنود إلّابما يخرج اللّه لهم من الخراج الّذي يقومون به على جهاد عدوّهم و يعتمدون عليه فيما يصلحهم».

و كذلك عندهم حدود و ديّات، يرون إجرائها صلاحاً للمجتمع الّذي يرتبط به صلاح كلّ فرد فرد منهم، و إن كانت في الأنظار البدوية الساذجة ضرريّة. و الحاصل أنّ جلّ هذه الأمور أو أشباهها موجودة عند العقلاء، و هم لايرون فيها ضرراً، بل يرونها نافعة؛ و القول بأنّ العرف بالنّظر البدوي يحكم بكونها ضرريّة، فتشملها قاعدة لاضرر، ساقط جداً؛ لأنّ العرف لو حكم بكونها مصاديق للضرر من باب المسامحة لايلزمنا متابعته بعد ما يحكم بعدم كونها

كذلك بعد تكرار النظر.

و بالجملة، الصغرى في جلّ الأمثلة المذكورة ممنوعة، فإن بقي هناك موارد يصدق عليها عنوان الضرر بالنّظر غير المسامحي العرفي، فلا شكّ أنَّها طفيفة لايلزم منها تخصيص الأكثر.

و أمّا ما أفاده العلّامة الأنصاري من كفاية الخروج بعنوان واحد في دفع محذور تخصيص الأكثر، و ما ذكره المحقق الخراساني من أنّ ذلك إنّما يصحّ إذا كان ما تحت العام هي العناوين لا الأفراد، فكلّاهما ممنوعان؛ لما حقّقناه في محلّه من استهجان التّخصيص ببعض مراتبه، و إن كان بعنوان واحد أو كان ما تحت العام هي العناوين لا الأفراد؛ كما يظهر بمراجعة امثلتها العرفية.

التنبيه الثّاني: هل في هذا الحديث شئ يخالف القواعد؟

قال شيخنا العلّامة الأنصاري رضوان اللّه عليه بعد نقل قضية سمرة: و في هذه القصّة إشكال من حيث حكم النّبي صلى الله عليه و آله بقلع العذق، مع أنّ القواعد لاتقتضيه؛ و نفي الضرر لايوجب ذلك- ثمّ قال-: لكن لايخلّ بالإستدلال» إنتهى كلامه.

و حاصل الإشكال عدم إنطباق بعض ما ذكر في الرّواية على هذه القاعدة، و لا على سائر القواعد المعمولة؛ لأنّ أقصى ما يستفاد من قاعدة نفي الضرر هو لزوم إستئذان سمرة من الأنصاري، لما في تركه من الضرر عليه، و أمّا قلع نخلته و رميها إليه عند إبائه عن الإستئذان فلا؛ مع أنّ ظاهر الرّواية أنّ هذا الحكم معلّل بالقاعدة المذكورة.

أقول: و يمكن الذب عنه بأنّ الظّاهر أنّ حكمه صلى الله عليه و آله بذلك كان من باب حسم مادة الظلم و الفساد و إحقاق الحق؛ لأنّ النّخلة لو بقيت- و الحال هذه- كان الأنصاري دائماً في عذاب و شدة، بل لعلّها صارت منشأ لمفاسد أخر؛ فلم يكن هناك طريق لدفع شرّ سمرة و قطع ظلمه عن الأنصاري،

الواجب على وليّ أمر المسلمين، إلّابقلع نخلته و رميها إليه.

و عليه يستقيم تعليل هذا الحكم بنفي الضرر، لأنَّ ضرر دخول سمرة على الأنصاري بلا إذن منه، إذا كان منفياً في الشريعة، و انحصر طريق دفعه في قلع النّخلة، صحّ تعليل الحكم بقلعه بأنّه لاضرر و لاضرار؛ فهو من قبيل التعليل بالعلّة السّابقة. فالتّعليل في محلّه و الإشكال مدفوع.

و غير خفي أنّ هذه الحكم لايختصّ بالنّبي صلى الله عليه و آله، بل لحكام الشّرع أيضاً ذلك، إذا لم يجدوا بدّاً منه في قطع يد الظّالم و حفظ حق المظلوم؛ فما أفاده المحقّق النّائيني في المقام، من أنّ القلع لعلّه كان من باب قطع الفساد لكونه صلى الله عليه و آله أولى بالمؤمنين من أنفسهم، في غير محلّه.

و ذكر هذه المحقّق طريقاً آخر في دفع هذا الأشكال حاصله: إنّ الضرر و إن كان

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 77

ينشأ من دخول سمرة على الأنصاري بلا استئذان منه، ولكن منشأ جواز دخوله كان هو استحقاقه، لكون النّخلة باقية في البستان؛ فالضرر و إن نشأ عن الدّخول، إلّاأنّه كان معلولًا لاستحقاق إبقاء النّخلة. فرفع هذا الحكم إنّما كان برفع منشأه، و هو إستحاق الإبقاء؛ كارتفاع وجوب المقدّمة برفع وجوب ذيهاً. فالقاعدة رافعة لإستحقاق بقاء النّخلة، و لازمه جواز قلعها؛ فيصحّ حينئذ تعليل الحكم المزبور بالقاعدة. إنتهى ملخّصاً.

و أنت خبير بما فيه؛ فإنّه أولًا: مخالف للوجدان، و لظاهر الرواية معاً؛ لظهورها في أنّ سمرة لو كان يرضى بالاستئذان من الأنصاري لم يكن عليه بأس، و لم يجز قلع نخلته؛ ولكنّه لمّا أبى و أصرّ على الإضرار بالأنصاري حكم بذلك في حقّه. مع أنّ ما ذكره قدس سره لوتمّ لاقتضى جواز قلع

النّخلة في هذه الحال أيضاً؛ لما ذكره من أنّ استحقاقه لإبقائها كان موجباً لجواز الدّخول على الأنصاري بغير إذن منه، و هذا الجواز بنفسه حكم ضرري، و إن لم يعمل بمقتضاه، و لم يدخل على الأنصاري بغير إذن منه.

و ثانياً: إنّ بقاء العذق في البستان كان له آثار شرعيّة مختلفة، منها: جواز الدّخول بلا استئذان؛ فإذا كان خصوص هذا الأثر ضرريّاً، فاللازم نفي ترتّبه، لانفي ذات المؤثّر بجميع آثاره. و السرّ في هذا أنّ الحكم باستحقاق إبقاء النّخلة كما أنّه من الأحكام الشرعيّة و أمره بيد الشارع رفعاً و وضعاً، فكذلك ما له من الآثار المختلفة المترتّبة عليه شرعاً، و الجزء الأخير من العلّة التامّة للضرر هو الدخول في البستان بلا استئذان، فاللازم رفع هذا الأثر خاصة، لاذات الموضوع بجميع آثاره. فاللازم أن يحكم بجواز إبقاء النّخلة، و ترتّب جميع آثاره عليه ما عدا الدّخول عليه بغير إذنه.

و أمّا قياسه على باب المقدمة فهو كماترى، للفرق الواضح بين المقامين؛ فإنّ الترتّب هناك تكويني ليس أمره بيد الشّارع، فليس له رفع وجوب المقدّمة إلّابرفع وجوب ذيها، بخلاف المقام. فكأنّه قدس سره خلط بين الترتّب الشّرعي و التكويني، فتدبّر جيّداً.

التّنبيه الثالث: في وجه تقديم هذه القاعدة على أدلّة الأحكام الأوّليّة

المعروف في وجه تقديم عموم هذه القاعدة على أدلّة الأحكام الشّرعيّة أنّه من باب حكومتها عليها؛ فليستا من قبيل المتعارضين حتّى تلاحظ النّسبة بينهما، أو يطلب الترجيح. و قد ذكر في وجه تقديمها عليها وجوه آخر، و لكن هذا البحث مبني على مختاراتهم في معنى الحديث.

فمن قال بأنّ معناه نفي الحكم الضرري، فهو قائل بالحكومة لامحالة؛ لأنّه بمدلوله اللّفظي ناظرٌ إلى أدلّة الأحكام الأوّلية، فيكون حاكماً عليها. و كذلك الكلام على مذهب من يقول بأنّ معناه نفي

الحكم الضرري بلسان نفي موضوعه. و أمّا بناء على ثالث الأقوال في معنى الحديث- و هو أن يكون النّفي بمعني النّهي- فلا يبقى مورد للحكومة، و لاربط له بأدلّة الأحكام، بل هو كسائر النّواهي الشرعيّة الواردة في مواردها بلا تفاوت بينها. و كذا الكلام على المعني الرابع، و هو إرادة نفي الصفة- أعني صفة عدم التدارك- عن نفي الضرر ليكون إشارة إلى لزوم تدارك الضرر؛ فإنّه حينئذ حكم مستقل في قبال سائر الأحكام، يختصّ بموارد الغرامات، و يدلّ على اشتغال ذمة الضارّ بغرامة ضرره؛ فيقدّم على العمومات الدالة على براءة الذمة منها؛ إمّا لكونه أخصّ منها، أو لعدم بقاء المورد له على فرض عدم التقدّم، أو لقوّته و إبائه عن التخصيص. هذا كلّه بناءً على مختارات القوم.

و أمّا بناءً على مختارنا في معنى الحديث، و أنّ مفاده نفي إمضاء إضرار النّاس بعضهم ببعض في عالمي الوضع و التكليف، فالظاهر أيضاً عدم حكومته على أدلّة الأحكام الأُخر، لعدم كونه ناظراً إليها؛ فإنّ الحكومة عبارة عن كون أحد الدليلين بمدلوله اللّفظي ناظراً إلى الآخر، بحيث لولاه لكان لغواً باطلًا. إمّا بأن يتصرّف في موضوعه، كقول المولى لعبده: «إنّ الفاسق ليس بعالم»، في قبال قوله: أكرِم العلماء. أو بالتّصرّف في متعلّقه، كقوله: «مجرّد الإطعام ليس من الإكرام». أو بالتصرف في حكمه، كقوله: «إنّما عنيت بذاك الأمر

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 79

أو بالتّصرّف في نسبة الحكم إلى موضوعه، كقوله: «إكرام الفاسق ليس إكراماً للعالم».

فإذن لا تنحصر الحكومة في الثلاثة الأولى كما أفاده المحقّق النّائيني في بعض كلماته في المقام. و من المعلوم أنّ شيئاً من هذه الأمور غير موجود في المقام.

نعم، هو مقدّم على أدلّة سائر الأحكام لوجهين آخرين:

أحدهما: قوّة

الدلالة، لاشتماله على نفي وجود الضرر رأساً، الظّاهر في كمال التّحاشي و التباعد عنه؛ لاسيّما إذا أضيف إليه قيد: «في الإسلام»- لو ثبت هذا القيد بحسب الأخبار، و قد عرفت الكلام فيه في مقدّمة البحث.

ثانيهما: إباؤه عن التخصيص؛ لكونه في مقام الإمتنان، و للمناسبات المغروسة في الأذهان بين هذا الحكم و موضوعه، كما لايخفى على المتأمّل الخبير. و لذا يستنفر الطبع من تخصيص هذا الحكم، و لو بالتّخصيص المتّصل، بأن يقال: لايجوز لأحد أن يضرّ بأحد إلّا في كذا و كذا، و لو خرج منه بعض الموارد- كما إذا كان الإضرار بحقّ- فهو في الحقيقة خروج موضوعي، لأنّه إحقاق حق لا إضرار، فتأمّل.

التّنبيه الرّابع: هل الحكم بنفي الضرر من باب الرخصة أو العزيمة؟

قد عرفت عند بيان المختار في مفاد القاعدة أنّها لا تدلّ على نفي التكاليف الضرريّة، كالوضوء و الصوم الضرريين، و أنَّ اللازم الرجوع في هذه الموارد الى قاعدة:

«نفي الحرج»؛ و أمّا على مختار القوم من دلاتها على نفيها، فهل هو من باب الرخصة أو العزيمة؟

لا إشكال في عدم وجوب الوضوء الضرري و شبهه، إذا كان المكلّف عالماً بموضوع الضرر على مختارهم، و إنّما الكلام في صحّته حينئذ و إن لم يكن واجباً. نقل المحقق النّائيني القول بالصحّة عن بعض الأعاظم و لم يسمّه، و استدلّ له بأنّ «لاضرر» إنّما يرفع الوجوب فإنّه ضرري، و أمّا أصل الجواز و المشروعيّة فلا، لأنّ الإمتنان لايقتضي أزيد ممّا ذكر.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 80

و ببيان آخر: أدلّة وجوب هذه الأمور دالّة بالإلتزام على وجود ملاكاتها حتّى في موارد الضرر، و أدلّة نفي الضرر إنّما تعارضها في دلالتها المطابقيّة على الوجوب، و لاتعارضها في دلالتها الالتزامية على وجود ملاكاتها الموجب لمشروعيّتها في هذه الموارد. و قد استحسن

هذا البيان بعض أعاظم العصر في (مستمسكه).

و أورد المحقق النّائيني على البيان الأوّل بأمرين:

أحدهما: إنّ هذه الأحكام أمور بسيطة لاتركيب فيها حتّى يرتفع بعض أجزائها و يبقى الآخر.

ثانيهما: إنّه يستلزم كون ما في طول الشي في عرضه؛ فإنّ التيمّم متأخّر عن الوضوء، و إذا كان المكلّف في موارد الضرر مرخّصاً شرعاً في الطهارة المائيّة مع جواز الإكتفاء بالطهارة الترابيّة يلزم اتّحادهما في الرتبة، و هو باطل؛ لأنّ المكلّف إذا كان قادراً على الطهارة المائية لم يدخل تحت قوله تعالى: «فَلَمْ تَجِدُوا مَآءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدَاً طَيِّبَاً». «1»

أقول: يمكن الجواب عنهما، أمّا عن الاوّل: فبأنّ طريقه غير منحصر في تجزئة الحكم البسيط، بل يمكن أن يكون من باب تقييد إطلاقات نفي الضرر بعدم إقدام المكلّف على التكليف الضرري، بأن يقال: إنّ وجوب الوضوء الضرري منفي عند عدم الإقدام لاغير، و لازم ذلك مشروعيّته و إن لم يكن واجباً. و الدليل عليه إنصراف الإطلاقات إليه، فتأمّل؛ فإنّ دعوى الإنصراف فيها عن هذه الصورة مشكلة جداً.

و عن الثّاني: بعدم قيام دليل على كون الطهارة الترابيّة في طول الطهارة المائية دائماً حتّى في أمثال المقام، ولو سلّمنا شمول إطلاق الآية الشريفة لها، فهو إطلاق كسائر إطلاقات أدلة الأحكام، محكوم لقاعدة «لاضرر» أو مخصّص بها، فتأمّل، و الأولى في دفع هذا الإشكال منع شمول الآية و دلالتها على المقام، و لا أقلّ من إجمالها من هذه الجهة، فتدّبر.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 81

و التّحقيق أنَّ هذه المسألة مبنيّة على مسألة حرمة الأضرار بالنّفس على الإطلاق، فإن قلنا بالحرمة فهذا الوضوء حرام لايمكن التقرّب به بلا إشكال؛ لأنّ حركات الوضوء متّحدة مع عنوان الإضرار بالنّفس. و على فرض كون الوضوء سبباً له لامتّحداً

معه لايمكن أيضاً التقرّب به؛ لما حققناه في محلّه من سراية الحسن و القبح من المسببّات إلى الأسباب التوليديّة.

هذا، ولكن الكلام في حرمة الإضرار بالنّفس بهذا العموم، و تمام الكلام في محلّه؛ و إن كان الأقوى في النّظر عاجلًا عدم مشروعيّة هذا الوضوء على القول بشمول «لاضرر» لأمثال هذه التكاليف.

التّنبيه الخامس: هل الأمر يدور مدار الضرر الواقعي أو لا؟

إذا جهل بالضرر مع وجوده واقعاً فقد يقال بالصحّة؛ لِما يظهر اختياره من السيّد السند المحقّق اليزدي في باب الوضوء عند ذكر الشرط السابع من شرائطه حيث قال: «و لو كان جاهلًا بالضرر صحّ، و إن كان متحقّقاً في الواقع و الأحوط الإعادة أو التيمّم»، و كأنّه عدل عنه في المسألة 34 من هذا الباب حيث قال: «لو كان أصل الإستعمال مضرّاً، و توضأ جهلًا أو نسياناً فإنّه يمكن الحكم ببطلانه، لأنّه مأمور واقعاً بالتيمّم». و كيف كان فقد أفتى بالصحّة غير واحد من أعلام محشّيها (قدّس اللّه أسرارهم).

و غاية ما يستدلّ به على الصحة أمران:

أحدهما: إنّ القاعدة واردة مورد الإمتنان، و لا مِنّة في نفي صحّة مثل هذا الوضوء؛ فإنّه لايزيد المكلّف إلّاعناءً و شدة، كما لايخفى.

ثانيهما: إنّ الضرر هنا مسبّب عن جهل المكلّف، لاعن حكم الشّارع؛ فإنَّ غفلته عن الواقع هي الّتي أوقعته في الضرر. و من المعلوم أنّ المنفي بهذه القاعدة هو الضرر النّاشئ من قبل حكم الشّارع لاغير.

ولكن يرد على الأوّل منهما أنّ المنّة إنّما هي بلحاظ نوع الحكم، لابلحاظ أشخاصه

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 82

و أفراده و كلّ واحد واحد من الوقائع الشّخصيّة؛ فرفع وجوب الوضوء الضرري إذا كان بحسب نوعه منة على العباد، كان داخلًا تحت القاعدة على الإطلاق. و ما يتوهّم كثيراً من دورانه مدار الأشخاص و لزوم

المنّة في كل واحد من الأحكام الشّخصيّة المرفوعة- و كثيراً ما يرتّب عليه فروع مختلفة- باطل جداً، لأنّ المتيقّن إنصراف أدلّة «لاضرر» عن الموارد الّتي لاتكون بحسب نوعها منّة على العباد لاغير.

و يشهد على ذلك أنّ حديث الرّفع أيضاً واردٌ مورد الإمتنان، و لايزالون يستدلون به على عدم نفوذ المعاملات الّتي وقعت عن إكراه- بل استدلّ به الإمام عليه السلام على ذلك أيضاً- حتّى فيما إذا كان في نفوذها مصلحة المكره بالفتح أحياناً، و إن لم يعلم هو به؛ فلا يراعى فيه ملاك الإمتنان في كلّ واحد من الموارد الشخصيّة. و لو كان مراعاة ذلك لازماً لكان الحكم ببطلان عقد المكرَه على الإطلاق بمقتضى حديث الرّفع في غير محلّه، و لكان و القول بأنّ نفوذ تلك المعاملة بغير رضى المالك مشتمل على الضرر دائماً- و إن كان فيها منافع جمّة له واقعاً- لما فيه من سلب إختيار المالك و قصر دائرة سلطنته، شططاً من الكلام. و هكذا الكلام في نفي آثار غير الإكراه من التسعة، كالجهل و النسيان، فإنّه لايكون فيه ملاك المنّة في جميع الحالات، مع إطلاقهم القول برفعها. و ليس ذلك إلّامن جهة كفاية ملاك المنّة بحسب نوع الحكم و نوع مصاديقه.

فالصواب في وجه الحكم بصحّة العبادة في المقام هو الوجه الثّاني، و يمكن تقريبه بوجه آخر أتمّ و أقوى و هو:

إنّه لا إشكال في أنّ الضرر في هذه الموارد من قبيل العناوين الثّانويّة الّتي تكون مانعة عن تأثير العنوان الأوّلي بملاكه، الّذي يكون على نحو الإقتضاء لا العلّية التامة؛ فالوضوء الضرري في حدّ ذاته واجد للملاك، ولكن هذا العنوان الثّانوي بملاكه يمنع عن تأثيره؛ و من المعلوم أنَّ الضرر إذا كان متوجّهاً

نحو المكلّف على كل حال، لجهله بالواقع، كان الحكم بنفيه بلا ملاك، لعدم إمكان استيفاء الشّارع غرضه منه؛ فالحكم بنفيه حينئذ حكم بلا ملاك و لغو محض. و إن هو إلّانظير الحكم ببطلان وضوء

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 83

المكره على إستعمال الماء مع كونه مضراً له؛ فهل يساعد وجدان أحد على الحكم ببطلان وضوئه في هذا الحال إذا أتى به عن قصد؟

و ممّا ذكرناه يظهر أنَّ المكلّف غير مأمور بالتّيمّم في محل البحث، بل هو مأمور بالوضوء واقعاً. فما ذكره في العروة من تعليل بطلان الوضوء بعدم الأمر به واقعاً في غير محلّه؛ الّلهم إلّاأن يقال: إنَّ نظره في ذلك إلى إطلاق الأخبار الخاصّة الواردة في باب التيمّم فيما إذا كان إستعمال الماء مضرّاً. ولكن الإنصاف أنَّ شمولها لصورة وجود الضرر واقعاً مع جهل المكلّف به محل تأمّل و إشكال.

هذا كلّه إذا كان الضرر موجوداً في الواقع مع جهله به؛ و أمّا عكس المسألة و هو:

إذا كان إستعمال الماء مضرّاً باعتقاده و مع ذلك توضأ و اغتسل، ثمّ بان عدم الضرر فيه، فظاهر غير واحد منهم الحكم بالبطلان فيه- كما يظهر من كلماتهم في أبواب مسوغات التيمّم-. و الوجه فيه: إمّا كونه مأموراً بالتيمّم، و عدم كونه مأموراً بالوضوء؛ نظراً إلى صدق عدم التمكّن من استعمال الماء في حقّه، لأنّ المراد من «عدم الوجدان» في قوله تعالى: «فَلَمْ تَجِدُوا مَآءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً» عدم التمكّن من استعماله؛ سواء كان لعدم وجوده، أو لعدم القدرة على استعماله لمانع شرعي أو عقلي. و يظهر إختيار هذا الوجه من المحقّق النائيني قدس سره.

أو لعدم تمشّي قصد القربة منه مع كونه باطلًا و حراماً باعتقاده، و لو فرض تمشيها منه

فلا يكون الفعل مقرّباً؛ لأنّه حرام واقعاً. بل لأنّ الفعل إذا وقع بعنوان التجري فهو كالمعصية الحقيقة في كونه مبعّداً للعبد من ساحة المولى و مانعاً من التّقرّب إليه. و قد اعتمد على هذا الوجه في «المستمسك».

و الإنصاف أنّ شيئاً من الوجهين لايكفي في إثبات البطلان؛ أمّا الأوّل: فلأن مجرّد تخيّل الضرر لايجعله غير واجد للماء و غير متمكّن من إستعماله، بل هو متخيّل لعدم، التمكّن، لا أنّه غير متمكن واقعاً. و إن هو إلّانظير من يكون مستطيعاً في والواقع و هو لا يعلم باستطاعته، أو يكون قادراً على الصلاة قائماً و هو يزعم أنّه غير قادر؛ فهو مأمور واقعاً بالطهارة المائية و إن كان معذوراً مادام جهله.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 84

و أمّا قياس ذلك على ما ذكروه في باب صحّة صلاة من يكون الماء في راحلته و هو لايعلم به فهو قياس مع الفارق؛ لأنّ الجهل هناك مانع عقلي من استعمال الماء كما هو ظاهر، بخلاف الجهل في ما نحن فيه، فإنّه ليس مانعاً عقلًا و لاشرعاً؛ كيف و المفروض أنّ المكلّف قد أقدم على الوضوء فكيف يقاس به؟ فتدبّر.

و أما عدم تمشّي قصد القربة، فهو ليس دائميّاً، كما يظهر من ملاحظة حال عوام النّاس في أمثال المقام. و كون التجري مبعّداً و مانعاً من التّقرّب أيضاً محل للكلام.

فالعمدة في وجه البطلان هو إستظهار الموضوعيّة من عنوان «الخوف» الوارد في أبواب التيمّم، الصّادق في المقام، لأنّ المفروض كون المكلّف خائفاً من استعمال الماء بل عالماً بالضرر- و إن لم يكن كذلك في الواقع-. ولكن في هذا الإستظهار ايضاً كلام في محلّه من الفقه.

التّنبيه السّادس: هل القاعدة شاملة للعدميات أو لا؟
اشارة

لا إشكال في شمول القاعدة للأحكام الوجوديّة، و إنّما الكلام في

شمولها للعدميات. و حاصل القول فيه أنّه هل يجوز التمسّك بالقاعدة لإثبات أحكام وجوديّة في موارد يلزم من فقدها الضرر، بأن يكون عدم الحكم مشتملًا على الضرر فيتمسّك بالقاعدة لنفيه و يستنتج منه حكم وجودي، أو لا؟

و مثّلوا له بضمان ما يفوت من عمل الحرّ بسبب حبسه، و بما لو فتح إنسان قفص طائر فطار؛ فإنّ عدم الضّمان في المقامين أمر ضرري، و إثباته رافع لذلك الضرر. هذا ولكن في التمثيل الثّاني إشكال ظاهر، لأنّه مشمول لقاعدة الإتلاف؛ فإنّ فتح قفص الطائر سبب لإتلافه و داخل تحت أدلّة الإتلاف بلا كلام. الّلهم إلّاأن يقال: إنّ النّظر هنا إلى شمول قاعدة لاضرر له و إن كان حكمه معلوماً من جهة قاعدة الإتلاف.

ولكنّه كماترى؛ ولذلك اقتصروا في ذكر المثال الأوّل على عمل الحرّ، مع أنّه لافرق بين عمل العبد و الحرّ من هذه الجهة، و إنّما الفرق بينهما من جهة صدق الاتلاف في عمل العبد لأنّه مال، و عدم صدقه في عمل الحرّ لعدم صدق المال عليه.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 85

و كيف كان، فهذا النزاع كما يتصوّر بين القائلين بدلالة الحديث على نفي الأحكام الشّرعيّة الضرريّة مطلقاً كذلك يتصوّر على المختار، من عدم دلالته إلّاعلى نفي إمضاء إضرار النّاس بعضهم ببعض في عالمي الوضع و التكليف؛ فما نذكره من الوجوه الآتية لتعميم القاعدة جارٍ على المذهبين.

و إذ قد عرفت ذلك، فاعلم أنّ الحقّ عدم الفرق بين الأمور الوجوديّة و العدميّة هنا؛ و يدلّ عليه أمور:

الأول: أنّ ما يطلق عليه الحكم العدمي في أمثال المقام يكون في الحقيقة حكماً وجودياً، فعدم الضمان في المثالين عبارة أخرى عن الحكم ببرائة الذمّة، و هي حكم شرعي يحتاج إلى جعل الشّارع

كما يحتاج شغل الذمّة إليه. و إن شئت قلت: براءة الذّمة في باب الأحكام الوضعيّة نظير الإباحة في باب الأحكام التكليفيّة؛ فكما أنَّ الإباحة و الترخيص في مواردها من الأمور الوجوديّة، فكذلك حكم الشّارع ببرائة ذمّة الحابس للحرّ عن الغرامة حكم وضعي وجودي. و توهّم أنّ الإباحة التكليفيّة كالبرائة الوضعيّة من الأمور العدميّة المطابقة للأصل غير محتاجة إلى التّشريع و الجعل فاسد، لأنّ الأحكام الخمسة بأجمعها أمور وجوديّة، غاية الأمر أنّ بعضها محتاج إلى البيان، و بعضها يستكشف من عدم البيان؛ و الحاجة إلى البيان و عدمه غير الحاجة إلى الجعل و عدمه، كما هو ظاهر. و لذا يترائى من الشّارع المقدّس إنشاء الإباحة في موارد كثيرة، كقوله: «كلّ شي حلال» و أمثاله فإنَّ التّحليل و الترخيص و الإباحة في هذه الموارد أمور وجوديّة أنشأها الشارع.

الثّاني: الظاهر من قوله: «لاضرر و لاضرار» أنّه لاضرر من ناحية الشارع على أحد- على قولهم-، أو من ناحية المكلّفين بعضهم إلى بعض- على المختار-؛ فالمنفي هو الضّرر المستند إلى الشّارع أو إلى المكلّفين. فلو لزم من عدم الجعل في بعض الموارد إستناد الضرر إليه- كما في مثال الحرّ المحبوس- وجب نفيه بالقاعدة.

فالدليل ليس فيه عنوان: «الحكم الضرري» حتّى يتكلّم في صدقه على العدميات، بل المدار على صدق نسبة الإضرار إلى الشّارع أو إلى المكلّفين.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 86

و دعوى أنَّ استناد الضرر لايصحّ إلّافي مورد الأفعال الوجوديّة ممنوعة جداً؛ ألاترى أنّه لو صرّح الشّارع بأنّ منافع الحرّ غير مضمونة و لايجب تداركها و أن بلغ ضرره ما بلغ، صحّ لنا إن نقول: إنّ الحرّ المحبوس لم يقع في هذه الخسارة العظيمة إلّا لقول الشارع كذا و كذا؟

و السرّ في

ذلك أنّ محيط التّشريع بجميع شؤونه محيط حكومة الشّارع، و الأمر فيه في جميع حركات المكلّفين و سكناتهم إليه؛ فما ينشأ من إهمال جعل بعض الأحكام من الضرر مستند إليه، مثل ما ينشأ من أحكامه المجعولة. ألاترى أن الوالي إذا أهمل في وضع الأنظمة اللازمة و نصب الحرس و الشرط و تجنيد الجنود لحفظ الرعية و نظام عيشهم فحدث في أمورهم أحداث، فإنّها تنسب كلّها إلى سوء تدبير الوالي و إهماله في الأمور؟

و الحاصل أنّ ترك الفعل في الموارد الّتي يترقّب وجوده، يصحّح إستناد لوازمه إلى من يترقّب منه، و لايشترط في صحة الإنتساب كون الفعل وجودياً دائماً. و من المعلوم أنّ المترقّب من الشّارع المقدّس في محيط التشريع جعل الأحكام الحافظة لمصالح العباد و منافعهم، فلو أخلّ بها فقد ألقاهم في الضرر، و هو منفي بمقتضى الحديث.

هذا على مختار القائلين بأنّ المنفي هو الضرر من ناحية الشرع؛ و أمّا على المختار فالأمر أوضح، لأنّ حبس الحرّ و إتلاف منافعه مثلًا إضرار من ناحية بعض المكلّفين ببعض، فهو منفي في الشريعة بجميع آثاره التكليفيّة و الوضعيّة، و لاينتفي إلّابثبوت الغرامة له عليه، فتأمّل.

و لعلّه إليه يرجع ما أفاده شيخنا الأعظم العلّامة الأنصاري قدس سره في رسالته المعروفة في المسألة في مقام توجيه القول بشمول القاعدة للعدميات، حيث قال:

(إنّ المنفي ليس خصوص المجعولات، بل مطلق ما يتدين به، و بعامل عليه في شريعة الإسلام، وجوديّاً كان أو عدميّاً؛ فكما أنّه يجب في حكمة الشّارع نفي الأحكام الضرريّة، كذلك يجب جعل الأحكام الّتي يلزم من عدمها الضرر). و لقد أجاد فيما

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 87

أفاد، قدّس الله سرّه الشريف.

الثالث: لو سلّمنا عدم شمولها للعدميات بالدلالة اللفظيّة، فلا

أقلّ من دلالتها عليها بتنقيح المناط و إلغاء الخصوصيّة و مناسبة الحكم و الموضوع؛ و أيّ خصوصيّة للوجود و العدم في هذا الباب و فيما منّ الله به على عباده من نفي الضرر عنهم؟ و غير خفي أنّ كل ما يتصوّر في الحكم بنفي الضرر و الضرار من المصالح و الملاكات فهو موجود في طرفي الوجود و العدم من دون أي تفاوت؛ و مجرّد كون شي ء من الأمور الوجوديّة أو العدميّة لايكون مبدءاً للفرق في المقام، و ليت شعري ماذا تصوّره القائلون بالتفرقة بينهما؟

و قد يذكر للتعميم وجوه أخر غير صافية عن الإشكال:

منها: أنّ الحكم العدمي يستلزم أحكاماً وجوديّة دائماً، لا لما ذكرناه في الوجه الأوّل، بل لأنّ عدم ضمان ما أتلفه على الحرّ من المنافع مثلًا يستلزم حرمة مطالبته بالغرامة و مقاصّته و التعرّض له.

و فيه: إنّ حرمة مزاحمة النّاس في سلطنتهم على أموالهم و أنفسهم بغير حقٍّ ثابت عليهم، ليس حكماً ضرريّاً أصلًا، و إنّما الضّرر في المقام ينشأ من عدم ثبوت حقّ للحرّ على من أتلف منافعه؛ فلو أمكن إثبات حقّ له عليه بأدلّة نفي الضرر فهو، و إلّا فلا يجوز الإستناد إليها لنّفي حرمة المذكورات.

و منها: أنّه يمكن استفادة العموم من نفس قضيّة «سمرة»، حيث إنَّ النبي صلى الله عليه و آله سلّط الأنصاري على قلع النّخلة، و علّله بنفي الضرر؛ فإنّ الضّرر هناك في عدم سلطنته على القلع، فنفاه و أثبت سلطانه عليه.

و فيه: ما عرفت في التنبيه الثّاني من أن تسليطه عليه إنّما كان من باب دفع المنكر، و مقدمة لحفظ الحقّ، و حسماً لمادة الفساد، بعد إبائه الشديد عن القيام بما هو وظيفته قبال الأنصاري. فالمرفوع أوّلًا و بالذات هو تسلّط سمرة على إتيان عذقه بغير

إذنٍ من الأنصاري- فإنّ الضّرر كان من ناحيته-، و من الواضح أنّه أمر وجودي.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 88

و منها: أنَّ استشهاده عليه السلام بهذه القاعدة في حديث الشفعة لإثبات حقّ الشفعة للشريك- مع أنّ الضرر إنّما هو في عدم هذا الحقّ- دليل على شمولها للعدميات؛ و كذلك استشهاده بها لإثبات حقّ الإنتفاع من فضل الماء في حديث منع فضل الماء.

و فيه: أنّ المرفوع في حديث الشفعة هو لزوم البيع، و في حديث منع فضل الماء هو جواز المنع، و كلاهما أمران وجوديان، فتأمّل.

و أمّا ما استدلّ به على عدم العموم فهو أمور ذكرها المحقّق النّائيني قدس سره في رسالته، نذكرها ثمّ نذكر ما عندنا في دفعها.

أحدها: أنّ الأمور العدميّة لايصحّ إستنادها إلى الشّارع.

و قد عرفت الجواب عنه.

ثانيها: أنَّه لو عمت القاعدة الأمور العدميّة لزم تأسيس فقه جديد؛ فيلزم مثلًا كون أمر الطّلاق بيد الزّوجة لو كان بقائها على الزوجية مضرّاً بحالها، كما إذا غاب عنها زوّجها، أو لم ينفق عليها لفقر أو عصيان، بل يلزم الإنفساخ بغير طلاق. و يلزم أيضاً إنعتاق العبيد إذا كانوا في الشدّة. و يلزم أيضاً وجوب تدارك كلّ ضرر يتوجّه إلى مسلم، إمّا من بيت المال أو من مال غيره.

و يدفعه: أنّ ما يلزم منه ليس فقهاً جديداً و ما يكون فقهاً جديداً لايلزم منه. أمّا كون الطّلاق بيد الزوجة إذا غاب عنها زوّجها فهو مخالف للنصوص الخاصة الواردة في كتاب الطّلاق- و للمسألة صور كثيرة مذكورة هناك-؛ لأنّها إمّا تعلم بحياة زوّجها أو لا، و على الأوّل يجب عليها أن تصبر كما ورد في النّصوص؛ و على الثّاني إمّا ينفق عليها ولي الزّوج أو لا، فإنّ أنفق فعليها أن

تصبر أيضاً، و على الثّاني ترفع أمرها إلى الحاكم فيتفحّص عن حالها أربع سنين؛ إلى غير ما ذكروه هناك مع مداركه و نصوصه، و تحقيق الحقّ في محلّه.

و بالجملة عدم حكمهم بجواز طلاق الزّوجة هناك إنّما هو لاتّباع النصوص، و لولاها لم نستبعد التمسّك بقاعدة لاضرر في هذا الباب كسائر الأبواب.

هذا، ولكن لايلزم من الّتمسّك بالقاعدة هنا كون أمر الطلاق بيد الزّوجة- كما

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 89

توهّمه المحقق المذكور، بل غاية ما يستفاد منها جواز حل عقدة النّكاح، أمّا كونه بيدها فلا؛ و حينئذ إمّا نقول بكون أمره بيد الحاكم، أو بيد ولي الزّوج، فإن طلق فهو و إلّافيجبره الحاكم. فإنّ هذا هو الّذي تقتضيه قواعد المذهب و الجمع بين النّصوص كما سيأتي. و ذهب جماعة إلى عدم الحاجة إلى الطّلاق في بعض صور المسألة بل يأمرها الحاكم بالإعتداد فتعتدّ و تبين من زوجها.

و أمّا إذا كان الزوج حاضراً ولكن كان لاينفق عليها لفقر أو عصيان، أو كان غائباً و لم يمكن إستفسار حاله- لعدم بسط يد الحاكم أو لموانع أُخر-، و لم يكن يوجد فيما من ينفق عليها و لم ترض هي بالصّبر، فقد ذهب المحقّق الطّباطبائي اليزدي قدس سره فيما أفاده في ملحقات (العروة) «1» إلى إمكان القول بجواز طلاقها للحاكم؛ لقاعدتي نفي الحرج و الضّرر- خصوصاً إذا كانت شابة و استلزم صبرها طول عمرها وقوعها في مشقّة شديدة-، و لما يستفاد من أخبار كثيرة واردة في باب «وجوب نفقة الزّوجة» من أنّه إذا لم يكسها ما يواري عورتها و لم يطعمها ما يقيم صلبها كان حقّاً على الإمام أن يفرّق بينهما، أو على الزّوج أن يطلّقها. و بعض تلك الأخبار ما هو

صحيح السند.

و يؤيّد ما أفاده قدس سره أنّهم استدلّوا بهذه الروايات في باب وجوب نفقة الزّوجة و لم يستشكلوا عليها بمخالفتها للقاعدة من هذه الجهة، و لو كان لوجب التنبيه عليه عادة، فراجع (الجواهر) و (الرياض) في باب وجوب النفقة تجد صدق ما ذكرنا. و قد حكي في (المسالك) في باب «من غاب عنها زوّجها» قولًا بأنّ للمرأة الخروج من النّكاح بالإعسار بالنفقة، و إن لم يسمّ قائله؛ و استدلّ هو على جواز الطّلاق في بعض صور المسئلة- أعني مسألة من غاب عنها زوجها- بقاعدتي نفي الحرج و الضرر مضافاً إلى النصوص.

و الحاصل إنّ مخالفة هذه الفتوى لفتاوى الأصحاب غير معلومة مع ذهاب هؤلاء الأعلام أو ميلهم إليها.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 90

و أمّا ما أفاده المحقّق النّائيني فيما عرفت من كلامه من احتمال الحكم بانفساخ النكاح بلا حاجة الى الطّلاق، فهو أمر عجيب؛ لأنّ الّذي يقتضيه الجمع بين أحكام الشّرع و أغراضه و ملاكات أحكامه أن يرفع الضرر بطريق يكون أقلّ محذوراً. و من المعلوم أن توقّف حل عقدة النّكاح على الطلاق- إلّافيما استثني- حكم ثابت في الشّرع، كما أنَّ كون الطلاق بيد من أخذ بالسّاق حكم آخر؛ فإذا أمكن دفع الضّرر بإلغاء الثّاني- الّذي هو في الواقع شرط من شرائط الطلاق- و إعطائه بيد وليّ الأمر الحافظ لنفوس المسلمين و أموالهم و فروجهم، فما الوجه في إهمال حكم الطّلاق و توقّف إنفساخ الزوجيّة عليه من رأس، و الحكم بانفساخها بنفس الضرر؟

و الحاصل أنّه يقتصر في تخصيص عمومات الأحكام الأوّلية بعموم لاضرر على مورد الضرورة لاغير.

كما أنّ ما ذكره من مسألة تدارك الضرر الّذي ليس من ناحية أحكام الشّرع و لا من ناحية المكلّفين بعضهم

ببعض من بيت المال، فهو أعجب من سابقه. و ليت شعري ماالوجه في لزوم تدارك هذا الضّرر مع عدم استناده إلى الشّارع و لا إلى مكلّف؟ و هل يمكن إسناد الضّرر إلى الشّارع و أحكامه لو لم يحكم بوجوب تدارك هذا الضّرر من بيت المال حتّى يستدلّ بحديث نفي الضرر لإثبات وجوب التدارك؟ و لعمري أنّه أوضح من أن يخفى على مثل هذا المحقّق النحرير.

التنبيه السابع: هل المراد بالضرر هو الضرر الشخصي أو النوعي؟

لاينبغي الإشكال في ظهور أدلّة الباب في الضرر الشخصي، أما على المختار فواضح؛ لأنّ النّهي عن الضرر كالنّهي عن سائر الموضوعات تابع لوجود مصداقه الخارجي الّذي هو عين التشخّص، و كون الضرر من العناوين الثانويّة لايصادم هذه الظهور في شي كما لايخفى. و أمّا على القول بأنَّ مفاد الحديث هو نفي الأحكام الضررية مطلقاً فهو ايضاً كذلك؛ فإنَّ الألفاظ بأجمعها في هذه المقامات ظاهرة في مصاديقها الخارجية الشخصيّة أينما تحققّت. فإذا كان الحكم بالنسبة إلى بعض أفراد

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 91

المكلّفين ضررياً دون بعض أختصّ جريان القاعدة بمن يصدق في حقّه الضرر دون غيره. و لايتوقّف هذا الظهور على القول بتقدّم القاعدة على عمومات الأحكام الأوّليّة من باب الحكومة- كما لعلّه يظهر من بعض كلمات المحقّق النّائيني في المقام-، بل يجري على جميع الوجوه الّتي ذكروها في وجه تقديمها عليها.

نعم، قد يتوهّم ظهور كلمات الأصحاب في الضرر النوعي؛ لأنّهم استدلّوا بها على خيار الغبن، مع أنّ المعاملة الغبنيّة لاتكون ضرريّة دائماً، بل قد تكون المصلحة في بيع المتاع و لو بأقلّ من ثمن المثل؛ كما إذا كان في معرض الحرق و السَّرَق، أو كان المالك عاجزاً عن حفظه و قدر غيره عليه، فإذا باعه، و الحال هذا و هو لايعلم

بأقلّ من ثمن المثل لم يتضرّر من هذه المعاملة و إن كان مغبوناً فيها؛ فهذه المعاملة الغبنيّة لاتشتمل على الضرر بالنسبة إلى هذه الشخص.

ولكن يدفعه أنَّ المعاملة المذكورة المشتملة على الغبن من جهة بيع المتاع بأقلّ من ثمن مثله، ضرريّة من حيث كونها معاملة بلا إشكال، و إن كانت نافعة لملاحظات أخر خارجيّة. و إن شئت قلت: إنّ هذه المعاملة، كما أنّها غبنيّة من حيث كونها معاملة فكذلك تكون ضرريّة من هذه الجهة. و كون المتاع في معرض الحرق و السَّرَق أمر خارج من دائرة المعاملة، فلا يقال: إنّه انتفع بهذا البيع؛ لأنّ الإنتفاع بالبيع إنّما يكون فيما إذا باعه بأكثر من ثمن مثله، بل يقال: إنّه و إن تضرّر في هذه المعاملة إلّاأنّه انتفع بأمر خارج منها. و لذا يقال في أمثال المقام: إنّ الضرر اليسير منع من الضرر الكثير، و إنّه لو لم يبعه بالضرر تضرر بأصله أو بأزيد منه؛ فإذا لوحظت جميع الحيثيات الداخليّة و الخارجيّة بعد الكسر و الإنكسار لم تكن هذه المبادلة ضرريّةً في حقّه، كما أنّه ليس مغبوناً بهذه الملاحظة، ولكن هذه ملاحظات خارجة عن حقيقة المعاملة بما أنّها معاملة و لايصحّ جعلها مقياساً لكون المعاملة ضرريّةً أو غير ضررية، فالمعاملة الغبنيّة ضرريّة دائماً. و الحاصل أنَّ عنوان الضرر صادق على هذه المعاملة بلا إشكال.

نعم، الحكم بالفساد في خصوص هذه الواقعة لايكون منّة على المكلّف. ولكن قد

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 92

عرفت آنفاً أنّ الإمتنان إنّما هو بلحاظ الحكم الكلّي في هذه المقامات، لابحسب مصاديقه الشخصيّة؛ و دوران الضرر مدار الأشخاص أمرٌ، و دوران الإمتنان مدار النّوع أمر آخر، و لامنافاة بينهما أصلًا.

التّنبيه الثّامن: هل يجوز الإضرار بالغير لدفع الضرر عن النّفس؟

قال شيخنا الأعظم العلّامة الأنصاري في رسالته

المعمولة في المسألة في ملحقات مكاسبه، في «التّنبيه الرّابع» من التّنبيهات الّتي أوردها هناك مالفظه:

«مقتضى القاعدة أن لايجوز لأحد إضرار إنسان لدفع الضرر المتوجّه إليه، و أنّه لايجب على أحد دفع الضرر عن الغير بإضرار نفسه؛ لأنّ الجواز في الأوّل و الوجوب في الثّاني حكمان ضرريان». ثمّ فرّع على الأوّل ما ذكروه من عدم جواز إسناد الحائط المخوف وقوعه على جذع الجار، و على الثّاني جواز إضرار الغير عند الإكراه و التّقيّة؛ بمعنى أنّه إذا أمر الظّالم بإضرار أحد و أوعد على تركه، جاز للمأمور إضراره لدفع الضرر المتوعّد عن نفسه، و لايجب عليه تحمّل ذلك الضرر لدفع الضرر عن الغير.

و ذكر في (الفرائد) في هذا المقام ما لفظه: «أنّه قد يتعارض الضرران بالنسبة إلى شخص واحد أو شخصين، فمع فقد المرّجح يرجع إلى الأصول و القواعد الأُخر، كما أنّه إذا أكره على الولاية من قبل الجائر المستلزمة للإضرار على النّاس، فإنّه يرجع إلى قاعدة «نفي الحرج»؛ لأنّ إلزام الشخص بتحمّل الضرر لدفع الضرر عن غيره حرج.

و قد ذكرنا توضيح ذلك في مسألة التولّي من قبل الجائر من كتاب المكاسب» إنتهى.

و ذكر هناك ما حاصله: «إنّ الضرر إذا توجّه إلى شخص- بمعنى حصل مقتضيه- فلا يجوز دفعه عن نفسه بإضرار غيره، كما إذا أجبره الظالم على دفع مال من أمواله، فإنّه لايجوز له نهب مال غيره لدفع الضرر عن نفسه؛ أمّا إذا كان الضرر أوّلًا و بالذات متوجّهاً إلى الغير، كما إذا أجبره على نهب مال الغير و أوعده على ترك النّهب بأخذ مال نفسه، فيجوز له ذلك، و لايجب عليه بذل مال من أمواله و تحمّل الضرر عن الغير؛ لأنّ الضرر بحسب قصد المكره

بالكسر و إرادته الحتميّة متوجّه نحو الغير، و

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 93

المكره بالفتح و إن كان مباشراً للإضرار إلّاأنّه ضعيف لاينسب إليه الإضرار حتّى يقال: إنّه أضرّ بالغير لئلّا يتضرّر نفسه. نعم، لو تحمّل الضرر و لم يضرّ بالغير فقد صرف الضرر عنه إلى نفسه عرفاً، ولكن الشّارع لم يوجب عليه هذا المعنى، و الإمتنان بهذا على الأمّة لا قبح فيه. هذا مع أنّ أدلّة نفي الحرج كافية في الفرق بين المقامين، فإنّه لاحرج في عدم الرخصة في دفع الضرر عن النّفس بإضرار الغير، بخلاف إلزام تحمّل الضرر عن الغير بإضرار النّفس فإنّه حرجي قطعاً» إنتهى ملخّصاً.

أقول: إعلم أنَّ هنا مسائل ثلاث:

أحداها: عدم جواز الإضرار بالغير لدفع الضرر عن النّفس، و هذا مستفاد من حديث لاضرر بلا كلام.

ثانيتها: عدم وجوب تحمّل الضرر عن الغير بإضرار النّفس، و هذا مستفاد من أدلّة البراءة، ولايحتاج إلى قاعدة لاضرر؛ لأنّه ليس لنا دليل يقتضي- بعمومه أو إطلاقه- وجوب تحمّل الضرر عن الغير، حتّى يحتاج في نفيه إلى أدلّة نفي الضرر، بخلاف المسألة الأولى؛ لأنّ إطلاقات البراءة هناك تدلّ على الجواز على عكس ما نحن فيه، فيحتاج في نفيه إلى قاعدة لاضرر.

ثالثتها: مسألة تعارض الضررين في حق شخصين أو شخص واحد، و سيأتي حكمه في التنبيه الآتي إن شاء اللّه، و لادخل له بالمسألتين السّابقتين. و من العجب أن شيخنا العلّامة الأنصاري قدس سره قد جمع في الفرائد بين هذه المسائل الثلاث في عبارة واحدة كما عرفت؛ ولكنّه قدس سره فرّق بينها في رسالته المطبوعة في ملحقات، (المكاسب)، فعقد للمسألتين الاوليّين التنبيه الرّابع، و لتعارض الضررين التنبيه السّادس من التّنبيهات الّتي ذكرها.

و أعجب منه ما أفاده المحقق النّائيني في

المقام، حيث أورد على كلام الشيخ في رسالته المذكورة بأنّه لاوجه لعقد مسألة واحدة للجميع، و أنّ الصّواب جعل عنوان مسألة تعارض الضررين عنواناً مستقلًّا، و مسألة الإضرار بالغير كالولاية من

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 94

قبل الجائر عنواناً آخر.

أقول: كأنّه زاغ بصره الشّريف عن الأمر الرّابع الّذي ذكره الشيخ قدس سره في تلك الرّسالة، فإنّه بعينه ما رامه. و على كل حال، فلنرجع إلى البحث عن المسألتين الأوليّين اللّتين عقد لهما هذا التّنبيه، ثمّ لنبحث عن الثالثة في التّنبيه الآتي إن شاء اللّه، فنقول و منه سبحانه نستمد التوفيق و العناية:

أمّا الاضرار بالغير لدفع الضرر عن النّفس فهو أمر غير جائز بلا إشكال، فلا يجوز توجيه السيل إلى دار الغير دفعاً له عن داره، و لا إلقاء الغير عند السبع لصرفه عن نفسه. و يدلّ عليه أدلّة نفي الضرر لاسيّما على المختار في معناها.

لايقال: إنّ ترك الإضرار بالغير في مفروض البحث أيضاً يشتمل على الضرر، فكما أنّ فعله مستلزم للضرر على الغير فكذلك تركه أيضاً مستلزم للضرر على نفسه، فيكون داخلًا في مسألة تعارض الضررين، و لعلّ هذا هو الوجه في جعل الجميع مسألة واحدة.

لأنّا نقول: ترك الإضرار بالغير في مفروض البحث ليس في حدّ ذاته ضرريّاً، و إنّما هو ترك للمانع عن مقتضي الضرر، توضيحه: إنّ مقتضي الضرر في مفروض الكلام- و هو توجّه السيل أو السّبع مثلًا- موجود بحسب أسبابه الطبيعيّة لابسبب فعل المكلّف، ولكن يمكن خارجاً دفع أثره بتوجيهه نحو الغير و صرفه عن نفسه، فترك هذا إنّما هو ترك للمانع لا إيجاد للمقتضي كما لايخفى.

و من هنا تعرف أنّ أدلّة لاضرر لاتشمل هذه الترك رأساً، لعدم موضوع له هنا، فلا يحتاج

إلى القول بانصرافها بقرينة ورودها مورد الإمتنان- كما يظهر من بعض كلماتهم-، لأنّ ذلك فرع وجود الموضوع و المقتضي لها، و قد عرفت عدمه في المقام.

هذا بالنّسبة إلى المسألة الأولى.

و أمّا المسألة الثّانية- و هي تحمّل الضرر بنفسه لدفعه عن غيره، كما إذا توجّه السيل بحسب أسبابه الطبيعيّة نحو الغير فدفعه إلى داره حفظاً لدار الغير عن الضرر-، فقد عرفت أنّه لادليل يقتضي وجوب ذلك و لو بالإطلاق كي يحتاج إلى نفيه

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 95

إلى قاعدة نفي الضرر أو قاعدة نفي الحرج؛ فالقاعدة أجنبيّة عنه، و المرجع فيه هو البراءة. نعم، لو كان هناك عموم أو إطلاق يقتضي وجوبه أمكن التمسّك بالقاعدة على نفيه.

بقي في المقام مسألة «الإضرار بالغير عند الإكراه»، كالتولّي من قبل الجائر مكرهاً إذا استلزم إضراراً و ظلماً على بعض العباد، الّذي صرح الشّيخ قدس سره بجوازه في مقامات مختلفة، مدعياً أنّ الضرر بحسب طبعه الأوّلي و إرادة المكره (بالكسر) متوجّه نحو الغير، فلايجب ترك الإضرار به و تحمّله عنه، فهو عنده من صغريات المسألة السابقة، و قد تبعه على هذا المعنى كثير من متأخّريه.

ولكن ما ذكره ممنوع جداً لأنّا نمنع من اندراجه تحت تلك المسألة، بيان ذلك: إنّ الضرر في هذه الموارد إنّما يتوجّه نحو الغير من ناحية فعل المكره (بالفتح)، فمع قطع النظر عن فعله لايتوجّه إليه شي ء. و إن شئت قلت: عدم وجوب تحمّل الضرر عن الغير إنّما هو في المواطن الّتي يكون مقتضي الضرر بحسب أسبابه الطبيعيّة و الخارجيّة مع قطع النّظر عن فعل هذا المكلّف موجوداً و متوجّهاً نحو الغير، ولكن مكلّفاً آخر يقدر على إيجاد المانع عن تأثيره بتوجيه الضرر إلى نفسه، و في

باب الإكراه ليس الأمر كذلك، فإنّ الضرر بحسب أسبابه الطبيعيّة و الخارجيّة لم يتوجّه نحو الغير، و إنّما يتوجّه إليه بسبب إرادة المكره (بالفتح).

و أمّا ما أفاده العلّامة المذكور قدس سره في بعض كلماته من أن توجّه الضرر نحو الغير في موارد الإكراه إنّما هو بسبب إرادة المكره بالكسر فهو ممنوع جداً، لأنّ مجرد إرادة المكره بالكسر لايوجب توجيه الضرر نحو الغير ما لم يكن المكره (بالفتح) كالالة.

نعم، لو كان المكره بالفتح مقهوراً للمكِره بحيث يعد مضطراً على العمل على وفق إرادته أمكن القول بذلك، لأنّ الضرر بحسب أسبابه الخارجيّة- و منها إرادة المكره (بالكسر)- توجه نحو الغير، و لم تتوسّط فيه إرادة المكره (بالفتح) و إختياره. ولكن الأمر في موارد الإلجاء و الإضطرار سهل، لأنّه لايبقى هناك مجال للبحث عن جواز

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 96

الإضرار و عدمه، لارتفاع التكليف فيها رأساً.

أمّا إذا لم يكن المكلّف ملجئاً، بل كان مكرها، مع بقاء إرادته و اختياره المقابل للإضطرار و الإلجاء، فتوجّه الضرر نحو الغير لايكون إلّابتوسيط إرادته؛ فإرادته و اختياره متوسّط في البين، و بدونه لايكون الضرر متوجّهاً نحو الغير. و ما يظهر من كلماته قدس سره من أنّ الفعل لايسند إلى المكره (بالفتح) و إن كان مباشراً- لضعفه و قوّة السبب و هو المكره (بالكسر)- أيضاً ضعيف؛ فإنّ إسناد الفعل في المقام إنّما هو إلى المباشر قطعاً بحسب أنظار أهل العرف لمقام إرادته و اختياره، و إنّما لاينسب إليه إذا كان مضطراً و ملجئاً و كان كالالة لفعل المكره بالكسر أو ما يجري مجراه.

و من أشنع ما يلزم هذا القول أنَّ مقتضاه جواز الإضرار بالغير في موارد الإكراه بما دون النّفس مطلقاً، و لو كان

بالمضار المؤلمة المشجية في الأموال و الأنفس، و إن بلغت ما بلغت، لدفع ضرر يسير عن نفس المكره (بالفتح) و ماله و عرضه؛ فإنّ ذلك هو مقتضى الحكم في باب تحمّل الضرر عن الغير، إذ لايجب تحمّل ضرر يسير على نفسه دفعاً لضرر كثير عن غيره- إلّافي موارد مستثناة كالنّفوس و شبهها-، و قد عرفت أنّ باب الإكراه عند العلّامة الأنصاري قدس سره و من تبعه من مصاديق مسألة تحمّل الضرر المتوجّه إلى الغير، فتدبّر تعرف.

و قد تلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ مسألة الإكراه على الضرر- كما في التولّي من قبل الجائر و أشباهه- لاتكون من باب تحمّل الضرر عن الغير بتضرّر النّفس، و إنّما تكون من باب تعارض الضررين، فيجري عليها الأحكام الآتية في التنبيه الآتي إن شاء اللّه، فكن على بصيرة منه.

التّنبيه التّاسع: حكم تعارض الضررين
اشارة

إذا تعارض ضرران، فإن كان بالنسبة إلى شخص واحد، كما إذا تضرّر إنسان من شرب دواء من بعض الجهات و انتقع به من جهات أُخر، فالحكم فيه واضح، فإنّ الواجب عليه ترك الضرر الأقوى و الأخذ بالأضعف- لو قلنا بأنّ الإضرار بالنّفس محرّم مطلقاً-؛ و إن كانا متساويين فالحكم فيه هو التخيير.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 97

إلّا أنَّ الكلام بعدُ في حرمة الإضرار بالنفس مطلقاً، حتّى في الموارد الّتي يكون هناك غرض عقلائي مع صدق عنوان الضرر و لم يكن هناك خوف هلاك النّفس. و الحكم بالتّحريم مطلقاً و إن كان مشهوراً إلّاأنّه قد وقع التأمّل فيه من بعض المعاصرين من جهة عدم قيام دليل عليه، و المسألة تحتاج إلى مزيد تتّبع و تأمّل.

ولكن لا إشكال في عدم شمول إطلاقات أدلّة نفي الضرر لها؛ فإنّها ناظرة إلى الإضرار بالغير على ما

هو التّحقيق، فمسألة الإضرار بالنّفس خارجة عن محل البحث و لها موقف آخر.

و أمّا إذا دار الأمر بين ضررين بالنسبة إلى شخصين، و هو المقصود بالبحث هنا، فقد وقع الكلام في حكمه بين الأعلام؛ و قد مثّلوا له بما إذا أدخلت الدابّة رأسها في قِدر مالك آخر بغير تفريط من المالكين و لم يمكن إخراج رأسها إلّابكسر أحدهما، أو وقع دينار من شخص في محبرة غيره كذلك. و مثّلوا له أيضاً بما إذا كان تصرّف المالك في ملكه موجباً لتضرّر جاره و تركه موجباً لتضرّر نفسه، كما إذا احتاج إلى حفر بئر في داره بما يتضرّر منه جاره.

أقول: مسألة تعارض ضرر المالك و غيره بالتّصرف في مال نفسه لها أحكام خاصة لاتجري في مطلق تعارض الضررين، فلذا عقدنا لها بحثاً آخر سيوافيك- و عليه لابدّلنا من البحث في مقامين مخلتفين؛ و قد عرفت آنفاً أنَّ مسألة التولّي من قبل الجائر و سائر موارد الإكراه على إضرار الغير داخلة في باب تعارض الضررين، و ليست من باب تحمل الضرر المتوجّه إلى الغير، فما نذكره من الأحكام هنا شامل لها أيضاً، فنقول:

المقام الأوّل: فيما إذا تعارض ضرران و دار الأمر بين الإضرار بأحد الشخصين أو أحد المالين لا على التعيين و لم يكن منشؤه تصرّف المالك في خصوص ملكه، و حاصل القول فيه أنّ التأمّل التام في أدلّة نفي الضرر يرشدنا إلى أنّها لاتشمل صورة تعارض الضررين؛ إمّا لأنّها واردة مورد الإمتنان فلا تشمل إلّاالموارد الّتي تكون قابلة له، لامثل المقام الّذي لايكون قابلًا له على كلّ حال، فتأمّل؛ و إمّا لانصراف أخبار

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 98

الباب إلى ما لايلزم منه الضرر إلّافي أحد طرفيه دون ما

يلزم منه ذلك في كلا طرفيه، و الوجه فيه أنّ ظاهر الأدلّة و لو بملاحظة مناسبة الحكم و الموضوع أنّ الشّارع المقدّس أراد بنفي الضرر في عالم التّشريع إعدامه من صفحة الوجود بالنسبة إلى مناسبات المكلّفين بعضهم ببعض، و هذه الغاية إنّما تنال إذا كان الضرر في أحد طرفي الفعل و الترك لافي كليهما، فكما أنّ إخراج رأس الدابّة من القِدر بكسر القدر مستلزم للضرر على صاحب القدر، فكذلك ذبح الدابة و حفظ القدر يوجب الإضرار على صاحبها، فلا يحصل غرض تشريع هذا الحكم من واحد منهما. و الحاصل أنّ مناسبة الحكم و الموضوع هنا مع قطع النّظر عن ورود القاعدة مورد الإمتنان تقتضي إنصرافها عن مورد التعارض.

فاللازم إلتماس دليل آخر للحكم هنا، و الّذي يظهر لنا بعد الرّجوع إلى سيرة العقلاء في أمثال هذه المقامات و ما تقتضيه قاعدة: «الجمع بين الحقوق مهمّا أمكن» هو لزوم تقديم جانب الضرر الأقوى، بأن يكسر القدر أو المحبرة في المثالين السابقين إذا كانت قيمتهما أقلّ من قيمة الدابة- كما هو الغالب-، ثم تجعل الخسارة على المالكين جميعاً لاعلى واحد منهما فقط. و الوجه في تضمين صاحب الدابّة شقصاً من الخسارة أنّ كسر القدر إنّما كان لحفظ ماله، و الوجه في تضمين صاحب القدر الشقص الآخر أنّ توجّه هذا الضرر إلى المالين لم يكن بتفريط من صاحب الدابّة حتّى يكون ضامناً لجميع القيمة، بل إنّما وقع لأسباب خارجية متساويّة النسبة إلى كليهما، فكلاهما متساويان في لزوم تحمّل هذا الضرر بالنسبة.

و الحاصل أنّ الضرر الحاصل من إدخال الدابة رأسها في القدر قد نشأ من ناحية أمور خارجية من غير دخل لأحد المالكين فيها- كما هو مفروض البحث-، و هذا الضرر

كما أنّه متوجّه إلى صاحب الدابة من جهة متوجّه إلى صاحب القدر من جهة أخرى، فعلى كل منهما قبول شقص من الخسارة الحاصلة من توجّه أسباب الضرر، لئلّا يلزم ترجيح بلا مرجح في تحمّل الخسارة المتساوية النسبة إليهما؛ و أهميّة أحد المالين بالنسبة إلى الآخر لاتؤثر في تضمين أحد المالكين دون الآخر. بل

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 99

يمكن أن يقال إنّ الخسارة عليهما تكون بنسبة مالهما، فصاحب الدابّة يضمن من الخسارة الحاصلة بنسبتها، و صاحب القدر بنسبته، غاية الأمر أنّه يراعى جانب الأهمّ في حفظ تشخّص أحد المالين، بإفناء الآخر و الإنتقال إلى بدله، فيكسر القدر و تخلّص الدابة؛ و لو كانا متساويين من جهة الماليّة فلا يبعد الحكم بالقرعة كما لايخفى.

هذا كلّه إذا لم يكن توجّه الضرر ناتج من تفريط أحد المالكين، و إلّاكانت الخسارة عليه فقط دون الآخر كما هو ظاهر.

و من هنا يظهر وجه النّظر فيما ذكروه في كتاب (الغصب) من أنّه: «إذا حصلت دابّة في دار لاتخرج إلّابهدمها و لم يكن تفريط من أحد المالكين يهدم و تخرج الدابة و يضمن صاحب الدار لمصلحته»؛ إذ مجرّد كون الهدم لمصلحة صاحب الدابّة لايوجب إستقرار تمام الخسارة عليه، بعد ما كانت الخسارة بسبب أمور خارجية متوجهة إليهما و لم يكن تفريط من صاحب الدابّة، فاللازم هو الحكم بإستقرارها عليهما، جمعاً بين الحقّين.

المقام الثّاني: في تعارض ضرر المالك و غيره.

إذا لزم من ترك تصرّف المالك في ملكه ببعض أنحاء التصرّفات ضرر عليه، و لزم من تصرّفه ضرر على غيره، فهل هو من قبيل تعارض الضررين حتّى يحكم عليه بما قدمناه في التنبية السابق، أو يجب ترجيح جانب المالك دائماً؛ فله التّصرف في ملكه بما

يشاء و كيف يشاء، أو فيه تفصيل؟

التحقيق أنَّ ههنا مسائل أربع:

أحدها: ما إذا لزم من ترك تصرّف المالك في ملكه ضرر عليه.

ثانيها: ما إذا لزم منه فوت بعض منافعه من دون توجّه ضرر عليه.

ثالثها: ما إذا لم يلزم شى ء منهما ولكن بدا له ذلك التصرّف عبثاً و تشهياً.

رابعها: ما إذا كان قصده من ذلك التّصرف الإضرار بالغير من دون أن ينتفع به

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 100

أصلًا.

و لا إشكال في عدم جواز الأخير بل الظّاهر أنَّ مورد رواية سمرة هو بعينه هذه الصورة.

و أمّا باقي الصور فظاهر المحكي عن المشهور الحكم بالجواز فيها مطلقاً، بل أدعي الأجماع على الجواز في الصورة الأولى. ولكن صريح بعضهم كالمحقّق قدس سره و ظاهر آخرين كالعلّامة في (التذكرة)، و الشّهيد في (الدّروس)- رحمة اللّه عليهما- إستثناء الصورة الثالثة حيث قيّد الأوّل منهم الجواز بصورة «دعاء الحاجة إليه»، و الأخيران بما «جرت به العادة». و من المعلوم أنّ مفروض الكلام في الصورة الثالثة ما لم تدع الحاجة إليه و لاجرت به السيرة، بل الظاهر إنصراف كلمات غير هؤلاء الأعلام أيضاً عن هذه الصورة و عدم شمولها لغير الصورتين الأوليين.

و إذا قد عرفت ذلك فاعلم أنّ الّذي اختاره شيخنا العلّامة قدس سره في فرائده هو الحكم بتقديم جانب المالك في هاتين الصورتين، بالرجوع إلى عموم قاعدة تسلّط النّاس على أموالهم و قاعدة لاحرج، بعد سقوط أدلّة نفي الضّرر بالنسبة إليهما للتعارض.

و أورد عليه المحقق النّائيني قدس سره بفساد الصغرى و الكبرى؛ أمّا الصغرى- يعني عدم كون المقام من مصاديق الحرج بل و لامن مصاديق تعارض الضررين- فملخّص ما أفاده في بيانه هو أنَّ الحرج ليس مطلق المشقّة بل هو المشقّة الجوارحية،

فالمشقة الطارئة على الجوانح من منع المالك عن التصرّف في ملكه غير منفية بأدلّة نفي الحرج؛ فليس المقام من مصاديق الحرج، بل و لا من تعارض الضررين؛ لأنّ الضرر الحاصل للمالك من ترك تصرّفه ليس في عرض الضرر الحاصل للجار عند التّصرف حتّى يتعارضان، بل أحدهما في طول الآخر، و ذلك لأنّ المجعول في هذه الواقعة ليس إلّاحكماً واحداً؛ إمّا جواز تصرّف المالك أو حرمته، و الأوّل ضرري للجار فقط، و الثّاني للمالك فقط؛ فليس هناك حكمان ينشأ منهما الضرر عليهما حتّى يتعارضان. نعم، بعد شمول أدلّة نفي الضرر لجواز تصرّف المالك ينشأ منه حكم ضرري على المالك، و هو عدم سلطنته على تصرّفه في ماله بهذا النّحو من التّصرّف؛

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 101

ولكن من المعلوم أنّ هذا الحكم إنّما نشأ من ناحية أدلّة لاضرر، و لا يعقل أن يكون منفياً بها و في عرضها، فليس المقام من باب تعارض الضررين.

و أمّا فساد الكبرى- يعني عدم جواز الرّجوع إلى قاعدة السلطنة و أدلّة نفي الحرج بعد تعارض الضررين- فقد ذكر في وجهه ما حاصله: إنّ الرّجوع إلى العام عند تعارض المخصِّصات إنّما يصح في موارد تعارض المخصِّص مع ما في رتبته، و أمّا إذا تولّد من تخصيص العام بمخصِّص فرد آخر من سنخ المخصِّص، و وقع التعارض بين هذين الفردين من أفراد للخصّص فذلك لا يوجب الرجوع الى العام، و المقام من هذا القبيل؛ فإنّ حكومة أدلّة نفي الضرر على عموم تسلّط النّاس على أموالهم أوجب الحكم بعدم جواز تصرّف المالك بذاك النّحو من التّصرّف، و هذا الحكم ضرري بالنسبة إلى المالك. و إن شئت قلت: التعارض هنا بين مصداقين لمخصص معلوم لابين دليلين مختلفين

أحدهما مخصصص للعام إجمالًا.

هذا كلّه بالنسبة إلى عدم جواز الرّجوع إلى قاعدة السلطنة، و أمّا عدم جواز الرّجوع إلى دليل نفي الحرج فلأن الرّجوع إليه إنّما يصحّ إذا كان حاكماً على دليل نفي الضرر و هو ممنوع. إنتهى كلامه ملخّصاً.

أقول: و ما أفاده قدس سره قابل للنقد من جهات شتّى، و لنذكر أوّلًا ما عندنا في حكم المسألة بجميع صورها؛ ثمّ لنشر إلى مواضع الإشكال فيما أفاده تحقيقاً للحقّ و توضيحاً للمختار.

المختار في حكم المسألة:

لاينبغي الإشكال في أنّ قاعدة السلطنة مع قطع النّظر عن دليل لاضرر قاصرة عن شمول بعض أنحاء التّصرّف في المال، فإنّها إنّما تدلّ على جواز تصرّف المالك في ماله بما جرت عليه سيرة العقلاء من أنحاء التصرّفات، و لا دليل على جريانها فيما عدا ذلك. و منه يظهر حال كثير من الأمثلة الّتي ذكروها في المقام؛ فإنّ التّصرّفات

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 102

الّتي لايكون في فعلها نفع للمالك و لا في تركها ضرر عليه عادة و إنّما يقصد بها مجرّد الإضرار بغيره، و كذلك ما يصدر منه عبثاً مع العلم بتضرّر غير منه ضرراً معتدّاً به، لادليل على جوازها أصلًا؛ فإنّها خارجة عن حدود السلطنة العرفيّة العقلائيّة في باب الأموال، كما لايخفى على الخبير بأحوال العقلاء و اعتباراتهم و أمثلتها.

و الوجه فيه أنَّ سلطنة المالك على ماله كسائر الإعتبارات العقلائيّة لها حدود معلومة لايتعدّى عنها، و من يتعدّ حدودها فهو خارج عن حيطة اعتباراتهم. و لعلّ من ذلك ما ذكروه من مثال جعل حانوت حداد في صف العطّارين بحيث يوجب تضرّراً فاحشاً على جيرانه، أو كالذي جعل داره مدبغة عظيمة يتاذّى منها جيرانه و يشتدّ عليهم الأمر إلى حدّ بعيد لايتحمّل عادة، فهل

أنَّ العقلاء من أهل العرف يجوّزون ذلك، و هل يرون دائرة سلطنة المالك على ماله تشمل هذه النّواحي؟!

و بذلك يظهر أنَّ قاعدة السلطنة في حدّ ذاتها قاصرة عن شمول الصورة الرابعة من صور المسألة المتقدّمة، بل الصورة الثالثة أيضاً، حتّى مع قطع النّظر عن ورود أدلّة لاضرر.

و أمّا إذا كان تصرّف المالك في ماله لغرض عقلائي في حدوده المتعارفة المعمولة فيما بينهم، ولكن لزم منه ضرر على غيره و لزم من تركه ضرر عليه، أو فات منه بعض المنافع، فهو أيضاً على قسمين؛ لأنّه تارة يكون صدق عنوان الإضرار بالغير ملازماً لصدق عنوان التّصرّف في ماله أيضاً، بأن يكون تصرّف المالك في ماله مستلزماً لتصرّف ضرري في مال غيره، و لو بعنوان التسبيب، كما إذا حفر بئراً في داره فأخذ ينضّ باتّجاه دار جاره فأسقط جداره، أو أسقط بعض بيوته عن حيز الإنتفاع؛ فإنّه لا إشكال في صدق التّصرّف في ملك الغير بحفر البئر و لو بعنوان التسبيب في هذا المثال و أشباهه.

و أخرى لايصدق عليه هذا العنوان و إن لزم منه تضرّره، كما إذا رفع جداره على جانب جدار جاره بما يتضرّر به و ينزِّل قيمة داره. و لعلّ منه ما ذكروه- و ورد في الرّوايات أيضاً- من نقص ماء قناة لحفر قناة أخرى في أرض قريبة منها، و كذا فساد

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 103

ماء بئر جاره لحفر البالوعة في داره في مكان قريب منه- في بعض الصور لا في جميعها، كما لايخفى-.

و إذ قد عرفت ذلك، فاعلم أنّه إن كان من قبيل القسم الأوّل، فهو من باب تعارض الضررين و السلطنتين؛ فكما أنَّ قاعدة السلطنة مع قطع النّظر عن أدلّة لاضرر تجري في

حقّ هذا المالك فيجوز له التّصرّف في داره بحفر البئر، فكذلك تجري في حقّ الآخر، فيجوز منع الأول ممّا يوجب تصرّفاً في دار الثاني بمقتضى سلطنة الثاني بنفس تلك القاعدة؛ فالتّعارض بين السلطنتين. كما أنّ أدلّة لاضرر متساوية النسبة إلى كليهما؛ فكما أنّ تصرّفه في داره بحفر البئر يكون ضرريّاً، فكذلك ترك تصرّفه.

فالحكم هنا هو الحكم في باب تعارض الضررين الّذي فصّلناه في المقام الأوّل، و حاصله لزوم الجمع بين الحقّين مهما أمكن.

و أمّا إن كان من القسم الثّاني فالحكم فيه هو الرّجوع إلى قاعدة السلطنة بعد تعارض الضرر من الجانبين، بل قد عرفت إمكان القول بعدم شمول أدلّة لاضرر لمورد التعارض رأساً؛ إمّا لعدم المقتضي للإمتنان، أو لانصرافها إلى غير هذه الصورة.

و على كل تقدير لا إشكال في جواز الرّجوع إلى قاعدة السلطنة هنا، و الحكم بجواز مثل هذه التّصرّفات. فللمالك التّصرّف في ملكه بأنحاء التّصرّفات المتعارفة و إن تضرر منه جاره، ما لم يلزم منه تصرّف في ملكه، سواء تضرر المالك من ترك هذا التّصرّف، أوفاته بعض منافعه، و ترك تصرّفه في ملكه بما يترقّب منه من المنافع ضرر عليه غالباً.

هذا كلّه إذا لم يرد دليل خاص على المنع من بعض أنواع التّصرف، كما ورد في باب حريم البئر، و قد مضى بعض رواياته و أحكامه عند ذكر أخبار الباب، و يطلب تفصيله من كتاب (إحياء الموات) و غيره.

و أما ما أفاده المحقّق السّابق ففيه مواقع للنظر:

أمّا أوّلًا: فلأنَّ ما ذكره في نفي الصغرى- من أنَّ ضرر المالك ليس في عرض ضرر

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 104

الجار لأنّ المجعول في هذه الواقعة ليس إلّاحكماً واحداً ... ممنوع؛ لأنّه مبني على كون حكم نفي الضرر

من قبيل الرّفع لا الأعمّ منه و من الدفع، مع أنّه لا إشكال في كونه أعمّ؛ و حينئذ كما يمكن الإستدلال به على نفي جواز تصرّف المالك في ملكه بهذا النّوع من التّصرّف لكونه ضرريّاً، كذلك يمكن نفي حرمته أيضاً لأنّه ضرري، و لا نحتاج إلى ورود دليل دال على الحرمة و الجواز كليهما بعمومه أو إطلاقه، حتّى يرفع اليد عنه في مورد الضرر بدليل نفي الضرر؛ فما أفاده قدس سره من «أنّه لايتصوّر هنا إلّاحكم واحد و أنَّ الحكم بحرمة التّصرّف إنّما نشأ من شمول لاضرر بجواز التّصرّف الثابت بعموم دليل السلطنة» خال عن التّحصيل، بل الضرر النّاشئ من التصرّف و من تركه في حدّ سواء بالنسبة إلى أدلّة نفي الضرر بعد كون النّفي هنا أعمّ من الدفع و الرّفع.

و ثانياً: إنّ ما أفاده من عدم شمول لاضرر للضرر النّاشئ من قِبل هذا الحكم أيضاً ممنوع؛ للقطع بعدم خصوصيّة لبعض أنواع الضرر في هذا الحكم الإمتناني، و بأنّ جميع الأحكام الضرريّة متساويّة فيما منَّ اللّه به على عباده من رفعها عنهم في عالمي التّكليف و الوضع و جعلهم في فسحة منها؛ فلو كان لتنقيح الملاك مورد فهذا مورده. هذا كلّه لو لم نقل بشمول الدليل له بمقتضي الدلالة اللفظيّة، لأنّ الحكم ورد على عنوان عام و طبيعة سارية إلى جميع مصاديقها.

و ثالثاً: إنّ ما أفاده في منع الكبرى من عدم جواز الرّجوع إلى عموم دليل السّلطنة بعد تعارض الضررين لعدم كونهما في رتبة واحدة، فيه مضافاً إلى ما عرفت من ابتنائه على مبني فاسد، و هو كون نفي الضرر من قبيل الرّفع لا الأعم منه و من الدفع، أنّه لا مناص هنا من الرّجوع

إلى العام الفوقاني بعد هذا التعارض؛ لأنّ البحث في الكبرى إنّما هو بعد الفراغ عن الصغرى و قبول وقوع التّعارض بين الضرّرين، و معلوم أنّه لاترجيح لأحدهما على الآخر حينئذ؛ فكيف لايتساقطان؟ و لَم لايُرجَعَ إلى عموم قاعدة السلطنة؟ و ليت شعري، إذا فرضنا حصول صغرى التّعارض بين مصداقي الضرر في المقام و لم يجز الرّجوع إلى قاعدة نفي الضرر، فما الوجه في عدم جواز التمسّك بدليل المحكوم، أعني: قاعدة السلطنة، و ما المرجع في المقام لو لم

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 105

تكن هي المرجع؟!

و رابعاً: إنّ ما أفاده من نفي صغرى الحرج- نظراً إلى أنّه عبارة عن مشاق الجوارح لا الجوانح- هو أيضاً بإطلاقه ممنوع؛ لأنّ مشاق الجوانح أيضاً كثيراً ما يصدق عليها عنوان الحرج، فالمصائب المؤلمة و الحوادث المفجعة أمور حرجيّة بلا إشكال، مع أنّها من مشاق الجوانح، و قد قال اللّه تعالى: «كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ»، «1»

و قال أيضاً: «فَلَا وَ رَبِّكَ لَايُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَايَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجَاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً». «2»

نعم، مطلق ضرر المالك و منعه من التّصرّف في ملكه لايكون مصداقاً للحرج كما أفاده العلّامة الأنصاري (قدّس الله سرّه)، و لايكون ذلك إلّافي بعض الموارد الّتي يصعب جداً على المالك تحمّله و يكون في صدره حرج منه و ضيق.

التنبيه العاشر: في أنّه لافرق بين توجه ضرر «الحكم» إلى خصوص من كُلِّف به أو غيره

إذا لزم من تكليف بعض المكلّفين ضرر على غيره، كما في المرضعة القليلة اللّبن إذا أضرَّ صيامها بولدها، و كما في الحامل المقرب، فهل يصحّ نفي وجوب الصوم عنها بدليل نفي الضرر، كما ينفى وجوب الوضوء و الغسل الضرريين به على القول به؟

الظاهر ذلك، لعموم الدّليل؛ فإنّ المنفي على

هذا القول هو الأحكام الضرريّة، و من المعلوم أنَّ حكم الصوم هنا ضرري و لو باعتبار الولد. و لادليل على لزوم توجّه الضرر النّاشئ من قبل الحكم الضرري إلى خصوص من كلِّف به، بل لايبعد نفي وجوب مثل هذا الصوم على المختار ايضاً من عدم جواز نفي وجوب الوضوء و الصوم الضررين بها، فإنّ صيامها- و الحال هذا- إضرار بالولد، و قد نفى الشّارع إضرار النّاس بعضهم ببعض في عالمي الوضع و التكليف، فيشمله أدلّة نفي الضرر. و يؤيّده أيضاً

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 106

نهيه سبحانه عن إضرار الأب و الأم بالولد في قوله تعالى: «لَاتُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَ لَامَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِة» «1»

و قد مرّ الكلام في تفسير الآية في صدر الكتاب.

التّنبيه الحادي عشر: تأييد للمختار في معني الحديث

ذكر شيخنا العلّامة الأنصاري قدس سره فى بعض كلماته في المقام إشكالًا و جواباً عن بعض معاصريه، لا بأس بنقله و البحث عنه لما فيه من تأييد المذهب المختار في معنى القاعدة.

حاصل الإشكال: أنّه كيف يجوز الإستدلال بقاعدة نفي الضرر لرفع التكاليف الضرريّة، مثل وجوب الحج و الصوم و الوضوء إذا لزم منها الضرر، مع أنّ الضرر ما لا يحصل نفع دنيوي أو أخروي في مقابله، و نحن نعلم من عموم أوامر هذه التكاليف لموارد الضرر أنّ لها عوضاً دينياً أو دنيوياً يربو على ضررها، فلا تكون إذن ضرريّة؟

و حاصل الجواب: أنَّ المعلوم كون العوض في قبال ماهية هذه الأمور المتحقّقة في حالتي الضرر و عدمه، لا في قبال الفرد الضرري منها، فالضرر غير منجبر بالعوض. نعم، لو كان المأمور به متضمّناً للضرر دائماً بنفسه كما في الحكم بأداء الزكاة و سائر الواجبات الماليّة كان هذا البيان حقاً. إنتهى ملخّصاً.

و أورد هو قدس سره

على كلّ من الإيراد و الجواب؛ على الأوّل بأنّ الضرر عبارة عن خصوص الضرر الدنيوي، و أمّا المنافع الأخرويّة الحاصلة في قباله فإنّها لا تخرجه عن كونه ضرراً؛ و على الثاني بما لفظه: «أنّه لو سلّم وجود النّفع في ماهية الفعل أو في مقدماته- كأن تضرّر بنفس الصوم أو بالحج أو بمقدّماته- يكون الأمر بذلك الفعل نفسياً أو مقدّمة أمراً بالتضرّر، فلايبقى فرق بين الأمر بالزّكاة و الأمر بالصوم المضر، أو الحجّ المضرّ بنفسه أو بمقدّماته» هكذا أفاد قدس سره.

أقول: الإنصاف أنّ ما ذكره هذا المعاصر للشيخ العلّامة (قدّس سرهما) بعنوان

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 107

الإشكال تحقيق لامحيص عنه، و قد عرفته سابقاً عند بيان المختار في معنى القاعدة ببيان أوفى و أتمّ؛ و حاصل ما ذكرناه هناك؛ أنَّ إطلاقات الأوامر الشرعيّة إذا شملت مورد الضرر- كما هو المفروض- دلّت بالإلتزام على وجود المصلحة في مورد الفعل على مذهب أهل العدل، لا على مجرد نفع أخروي كما ذكره هذا المعاصر، و معه لايصدق عليه عنوان الضّرر.

و أما ما أفاده الشّيخ العلّامة من أنّ الأجر الأخروي لايخرجه من تحت عنوان الضرر، فهو غير متوجّه إلى هذا البيان، لأنّ مصالح الأفعال المأمور بها الموجودة في نفس الأفعال غير الأجور الأخرويّة الّتي تكون بإزاء إطاعتها. مع أنّ ما ذكره قدس سره أيضاً قابل للبحث، فهل يصحّ في لسان أهل العرف من المتشرّعين إطلاق عنوان الضرر و الغرم بما لهما من المعنى الحقيقي على الإنفاق في سبيل اللّه، و قد قال اللّه تعالى:

«مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدْ وَ مَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ» «1»

إلى غير ذلك ممّا دلّ على عدم نفاد ما يُعطى في سبيل اللّه و بقائه بحسب النتيجة و الأثر

و إن فني من جهة العين و الظاهر. و القول بأنّ هذه الإطلاقات و التعبيرات لاتمنع من صدق عنوان الضرر بحسب أنظار أهل العرف مع قطع النّظر عن إيمانهم بالآخرة مدفوع؛ فإنّ صدق عنوان الضرر لغة و عرفاً تابع لتحقّق نقص بلا منفعة، و أمّا تشخيص الإنتفاع به و عدمه؛ فليس هو بنظر العرف، فلو رأى أهل العرف بحسب أنظارهم البادية المبنية على الغفلة عن المصالح الموجودة في متعلّقات أحكام الشّرع تحقّق هذا العنوان في بعض الموارد، ولكن لم نرها بعد الدقّة و التأمّل، فلا يلزمنا متابعتهم في إطلاق هذا اللفظ بعد ذلك و الحكم بصدق العنوان المزبور في تلك الموارد.

التّنبيه الثّاني عشر: هل الإقدام مانع عن شمول لاضرر أو لا؟

الحقّ أنّه لا فرق في جريان هذه القاعدة بين تحقّق موضوع الضرر بأسباب

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 108

خارجة عن اختيار المكلّف و بين تحقّقه بسوء اختياره، كمن شرب دواءاً يضرّ معه الصّوم، أو أجنب نفسه متعمّداً في حال يخاف من استعمال الماء؛ ففي جميع هذه المقامات يجوز نفي الوجوب بأدلّة لاضرر- على القول بشمولها لأمثال هذه التكاليف-، و ذلك لعموم الأدلّة؛ و حصول الموضوع بسوء اختيار المكلّف غير مانع عنه، و دعوى انصراف الإطلاقات إلى غيره ممنوعة.

نعم، في الأمور الماليّة، و كل ما يكون من سنخها من الحقوق، إذا أقدم المكلّف بنفسه على موضوع ضرري لايجوز نفي صحّته بأدلّة لاضرر؛ لما أشرنا إليه سابقاً من أنّ هذه الأمور بمقتضي طبعها الأوّلي أمرها بيد المكلّف يصنع بها ما يشاء، فإذا أقدم البالغ الرّشيد على البيع بما دون ثمن المثل عن علم و اختيار، كان بيعه صحيحاً، و لايمكن نفي صحته بأدلّة نفي الضرر، لا لمجرّد ورودها مورد الإمتنان و نفي الصحّة هنا مناف له- لما

عرفت من أن ورودها في مقام الإمتنان من قبيل الحكمة لا العلّة-، بل لأنّ باب الأموال و الحقوق المشابهة لها بحسب طبيعتها الأوّليّة تقتضي ذلك، و يكون المكلّف سلطاناً عليها ينفذ تصرّفه فيها، ضرريّاً كان أم لا؛ فكما أنّ الهبة و الصّلح بدون العوض و أشباهها أمور ضرريّة لايجوز نفي صحّتها بأدلّة نفي الضرر، فكذلك البيع بما دون ثمن المثل و شبهه.

و من هنا تعرف النّظر فيما أفاده الشّيخ الأعظم العلّامة الأنصاري قدس سره في المقام حيث قال: «لو أقدم على أصل التضرّر كالإقدام على البيع بدون ثمن المثل عالماً، فمثل هذا خارج عن القاعدة؛ لأنّ الضرر حصل بفعل الشّخص لا من حكم الشّارع» إنتهى.

أقول: بل حصل الضرر بحكم الشارع و إن تحقّق موضوعه بفعل المكلّف، لأنّه لو لم يمض هذا البيع لما كان مجرد إقدام المكلّف على إنشاء البيع أمراً ضررياً؛ و إن هو من هذه الجهة إلّاكسائر الموضوعات الضررية التي يوجدها المكلّف بسوء اختياره، كمن أجنب متعمّداً في حال يضرّ معه إستعمال الماء. فالوجه في صحّة هذه المعاملات ما قدّمناه من أنّ نفوذ المعاملة من آثار السلطنة الثابتة للمالك على ماله

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 109

يقلّبه كيف يشاء، و لولاه لما كان سلطاناً عليه، و هو مناف لطبيعة الملكيّة و سلطنة المالك على أمواله كما هو ظاهر.

فرع: قد أفتى غير واحد من الأصحاب في كتاب «الغصب» بوجوب ردّ الخشبة المغصوبة المستدخلة في البناء، أو اللّوح المغصوب المنصوب في السّفينة و إن تضرّر منه الغاصب؛ و كذلك أفتوا بوجوب قلع الشّجر و طم الحفر و ضمان كلّ نقص يحدث بسببه فيمن غرس بغير أرضه، و إن جرّت عليه من الدواهي ما جرّت.

و استدلّ له

بأنّ الغاصب هو الّذي أدخل الضرر على نفسه بسبب الغصب. و كأنّ المستدلّ بهذا ناظر إلى ما أشرنا إليه من أنّ الضرر المقدم عليه في باب الأموال غير منفي بأدلّة نفي الضرر، فلا يردّ عليه ما ذكره الشّيخ قدس سره في بعض كلماته في المقام من أنّ حصول موضوع الضرر بسوء الإختيار غير مانع من شمول أدلّته.

هذا، ولكن يرد عليه: أنّ المالك لايجوز له تضييع المال، بل له نقله إلى غيره بأيّ وجه كان؛ فإقدامه على أمر يوجب التضييع و الفساد لايكون ممضي من قبل الشّارع، و كون الموضوع من قبيل الأموال لايقتضي نفوذ مثل هذه الأمور، فتأمّل.

هذا، و يمكن الإستدلال له بما دلّ على أخذ الغاصب بأشقّ الأحوال، و في بعض موارد المسألة بما دلّ على أنّه: «ليس لعرق ظالم حقّ» كما قيل؛ فإنّ هذه قواعد عقلائيّة قبل أن تكون شرعيّة يستند إليها العقلاء في أمورهم، فهى المانع من شمول أدلّة لا ضرر لمثل المقام، لاسيّما مع ملاحظة ورودها مورد الإمتنان الّذي يكون الغاصب أجنبيّاً عنه؛ فورودها في هذا المقام و إن لم يكن دليلًا على المطلوب- كما عرفت- لكنّه مؤيّد له لامحالة.

و يمكن الإستدلال له أيضاً بأنَّه داخل في المسألة الّتي مرّ ذكرها من عدم جواز الإضرار بالغير لدفع الضرر عن نفسه؛ فإنّ الأمر هنا و إن كان دائراً بين إضرار مالك السفينة و مالك اللوح، إلّاأنّ الضرر بحسب أسبابه الشرعيّة الّتي تكون هنا كالأسباب الخارجيّة متوجّه إلى الغاصب، لأنّه الّذي جعل مال الغير في محل يكون مأموراً

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 110

بنزعه بحكم الشرع، فالضرر أوّلًا بالذات متوجّه إليه لا إلى المالك، فلا يجوز له دفع هذا الضرر عن نفسه بإضرار الغير، فتأمّل.

و

قد ذكر المحقّق النائيني هنا وجهاً آخر، و هو أنّ الهيئة الحاصلة من نصب اللّوح في السفينة ليست مملوكة للغاصب، و إذا لم تكن مملوكة فرفعها ليس ضراراً عليه، لأنّ الضرر عبارة عن نقص ما كان واجداً له.

و فيه: مضافاً إلى أنّه تدقيق عقلي في أمر عرفي كما لايخفي، أنَّ الكلام ليس في مجرد رفع الهيئة الحاصلة من نصب اللوح في السفينة أو الخشبة في الدار فقط، بل في ما يحدث من الخلل في محمولات السفينة و سائر أجزاء الدار أيضاً الحاصل بسبب رفع هذه الهيئة الإتصاليّة؛ فرفعها و إن كان رفعاً لأمر غير مملوك و من هذه الجهة لايكون ضررياً، إلّاأنّه منشأ لمضار كثيرة أخرى فيما يملكه الغاصب، لصيرورة السفينة بسببه معرضاً للغرق و الفساد. و كذا الحال في الحائط المبني على خشبة الغير، فإنّ إخراج الخشبة لايوجب رفع الهيئة الإتّصاليّة فقط، بل يوجب الفساد في سائر نواحي البنيان.

هذا آخر ما أردنا تحريره في بيان هذه القاعدة المهمّة و فروعها و نتائجها، و الحمدللّه أوّلًا و آخراً.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 111

قاعدة الصحّة

اشارة

و هذه القاعدة أيضاً من أشهر القواعد الفقهيّة المتداولة بينهم، يتمسّك بها في جلّ أبواب الفقه أو كلّها. و قد عنونها كثير منهم بعنوان «أصالة الصحة في فعل الغير»، و ظاهره عدم جواز تمسّك المكلّف بها لإثبات صحة أفعال نفسه عند الشك فيها، بل صرّح بعضهم- كالمحقّق النّائيني- باختصاصها بفعل الغير، و أنَّ المتّبع في أفعال شخص المكلّف هو «قاعدة الفراغ» لاغير؛ و ستعرف في «المقام الثالث» إن شاء اللّه عدم صحة هذه الدعوي، و لزوم تعميم القاعدة لأفعال المكلّف نفسه، و لذا نجعل عنوان بحثنا: «أصالة الصحّة في الأفعال الصادرة من الغير

أو من النّفس»، و إن كان بعض الأدلّة يختصّ بالقسم الأوّل منه.

كما أنَّ تقييد عنوان البحث بقيد «أفعال المسلّم» كما يترائى من بعضٍ بلا وجه، و لذا أسقطناه منه.

ثمّ إعلم أنّ هنا أبحاثاً تقع في مقامان:

المقام الأوّل: في مدرك القاعدة
اشارة

و استدلّ لها بالأدلّة الأربعة، ولكن عمدتها- كما ستعرف- هو الإجماع العملي و السيرة المستمرة المتداولة بين العقلاء، و الإستقراء، و لذا لم يتعرّض غير واحد من الأعلام لما استدلّ لها من الكتاب و السنّة، لعدم دلالتهما عليها، ولكن ما كان في

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 114

ذكره بعض الفوائد نشير إليه على سبيل الإجمال و الإختصار. و قبل البحث في ذلك لابدّ لنا من تقديم أمر ينفعنا في تحقيق حال تلك الأدلّة و هو:

إنّ حمل فعل الغير على الصحّة يتصوّر له معان ثلاث:

أوّلها: الإعتقاد الجميل في حقّه و ترك سوء الظّنّ به، بأن لايضمر المسلم لأخيه ما يزري به و يشينه، و يعتقد أنّه لم يفعل سوءاً عن علم و عمد و إن صدر منه ذلك خطأً أو نسياناً.

و ما قد يقال من أنّ الإعتقاد من الأمور غير القابلة للخطاب التكليفي تحريماً أو إيجاباً لخروجه عن حيطة الإختيار، ممنوع جدّاً، لأنّه في كثير من موارده أمر مقدور؛ و كثيراً ما يحصل لنا إعتقاد سوء في حقّ أحد و بعد ذلك نتفكّر في أمره و نبدي لأنفسنا إحتمالات فيما شاهدناه أو سمعناه منه ممّا صار منشأً لهذا الإعتقاد، و نقول:

لعلّه كان كذا و كذا، من الإحتمالات الّتي كانت مغفولة بادئ الأمر، بما يصرفنا عن ذاك الإعتقاد القطعي أو الظنّي بالسّوء؛ إذن فهذا أمر ممكن و واقع كثيراً و معه فهو قابل للخطاب الشّرعي تحريماً أو إيجاباً.

و الحاصل أنّ كثيراً من

الإعتقادات الحاصلة لنا حاصلة من الأنظار البادية في أفعال الغير، و عدم التّوجّه إلى ما يحتمله من الإحتمالات، فهي تزول بسرعة عند التّوجّه إلى الوجوه الّتي تحتملها. و حينئذ لا مانع من أن يأمر الشارع الحكيم بتحصيل الإعتقاد الحسن في حق المسلمين و نفي إعتقاد السوء عنهم، لما فيه من المصالح الّتي لاتحصى، كجلب اعتماد المسلمين بعضهم ببعض، و دفع الضغائن عنهم، و دفعاً لما في سوء الظنّ و الإعتقاد من التفرقة و التباعد و اختلال النظام و إثارة الفتن بينهم؛ كما هو ظاهر لمن تدبّر.

ثانيها: ترتيب آثار الحسن الفاعلي عليها، أي المعاملة مع فاعله معاملة من أتى بفعل حسن، و عدم المعاملة معه معاملة من ارتكب أمراً قبيحاً، من حسن العشرة معه و الرّكون إليه كما يركن إلى من لم يُرَ منه قبيح.

و الفرق بينه و بين المعنى السابق: أنّ الحمل على الصحّة بهذا المعنى عمل

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 115

خارجي بخلاف المعنى الأوّل، فإنّ الحمل عليها هناك بمعنى الإعتقاد الحسن و ترك إعتقاد السّوء، و هو و إن كان مستلزماً للثّاني كثيراً إلّاأنّ الفرق بينهما ثابت في المعنى، و في النتيجة أحياناً.

و ثالثها: ترتيب آثار الفعل الصحيح الواقعي على فعله، بمعنى فرض عمله صحيحاً واقعاً و في نفس الأمر، لابحسب إعتقاده فقط كما في الوجه السّابق؛ فيرتّب عليه ما هو من آثاره الواقعيّة، فيفرض فعله تامَّ الأجزاء و الشرائط واقعاً، و يرتّب عليه ما يرتّب عليه، و يكون عمله منشأً للآثار الشرعيّة. و هذا هو الّذي نحن بصدده في إثبات هذه القاعدة لا المعنيين السابقين.

و إذ قد عرفت ذلك فلنرجع إلى ذكر أدلّة هذه القاعدة فى الأدلة الأربعة:

الأوّل: الكتاب

و استدّل لها من الكتاب

العزيز بآيات، منها:

1- قوله تعالى مخاطباً لبني إسرائيل: «لَاتَعْبُدُونَ إلّااللَّهَ وَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَ ذي الْقُرْبَى وَ الْيَتَامَى وَ الْمَسَاكيِنَ وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَ أَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَ ءَاتُواْ الزَّكَوةَ». «1»

و الإستدلال به يتوقّف على أمرين: أحدهما: كون القول هنا بمعنى الإعتقاد، و الثّاني: كون الإعتقاد كناية عن ترتيب آثاره؛ نظراً إلى ما قد قيل من أنّه ليس أمراً مقدوراً قابلًا للخطاب الشّرعي، فالأمر بالقول الحسن في حقّ النّاس يؤول إلى الأمر بترتيب آثار الحسن على أفعالهم.

و كلاهما محل تأمّل و إشكال:، أمّا الأوّل: فلأنَّ حمل القول على هذا المعنى- مضافاً إلى أنّه لاشاهد له في المقام- مخالف لما يظهر من غير واحد من الأخبار الواردة في تفسير الآية:

منها: ما عن تفسير العسكري عليه السلام أنَّ معناه: «عاملوهم بخلق جميل». «2» و يظهر من

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 116

هذه الرواية أنّ القول الحسن كناية عن المعاشرة بالمعروف.

و منها: ما عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام في قول اللّه عزّ و جلّ: «وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً» قال: «قولوا للنّاس أحسن ما تحبّون أن يقال لكم، فإنَّ الله يبغض اللعَّان السبَّاب، الحديث.

و منها: ما عن عبداللّه بن سنان عن أبي عبدالله عليه السلام قال: سمعته يقول- إلى أن قال-: «وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً» قال: «عودوا مرضاهم و اشهدوا جنائزهم و صلّوا معهم في مساجدهم» الحديث. و هذا الحديث أيضاً يشير إلى المعاشرة الحسنة.

إلى غير ذلك من الرّوايات الدالّة على هذا المعنى.

و أمّا الثّاني: فلأنَّ غاية ما يستفاد من الآية- بناءاً على تفسير القول بالإعتقاد- هو أحد المعنيين الأوّلين، و لا دلالة لها على المعنى الثالث أصلًا.

و يرد على الإستدلال بها إشكال آخر، و هو أنَّ هذا

الأمر وقع في سياق أوامر أُخر، بعضها وجوبي و بعضها إستحبابي؛ فإنّ الإحسان الى ذي القربى و اليتامى و المساكين غير واجب بقرينة مقابلته بإيتاء الزكاة، فهذا السياق يضعّف دلالتها على الوجوب، فتدبرّ.

أمّا كون الخطاب إلى بني إسرائيل فلا يوجب وهناً في دلالة الآية كما لايخفى.

هذا كلّه مضافاً إلى أنّ الإعتقاد الحسن أمر مقدور كما عرفت.

2- قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَاتَجَسَّسُواْ وَ لَايَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً». «1»

و تقريب الإستدلال بهذه الآية كما ذكر في (الفرائد) و غيره-: أنّه سبحانه نهى عن بعض الظنّ، و القدر المتيقّن منه ظنّ السّوء، و معناه النّهي عن ترتيب آثاره عليه لما مرّ آنفاً، و لازمه الأمر بترتيب آثار الحسن عليه لعدم الواسطة.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 117

و يعلم الجواب عنها ممّا ذكرناه في الجواب عن الإستدلال بالآية الأولى.

3- آيات وجوب الوفاء بالعقود و التجارة عن تراض و ما أشبهها. إستدلّ بها شيخنا العلّامة الأنصاري قدس سره في (الفرائد). و الإستدلال بها عجيب؛ لأنّ هذه أحكام كليّة واردة على موضوعاتها الواقعيّة، و الّتمسّك بعمومها عند الشكّ في تحقّق مصداق التّجارة عن تراض أو العقد العرفي المقيّد بقيوده الثابتة شرعاً من قبيل التّمسّك بالعام فى الشّبهات المصداقيّة كما هو ظاهر.

الثّاني: الأخبار

و استدلّ لها من الأخبار بما دلّ على لزوم حمل أمر الأخ على أحسنه، و هو كثير، منه: 1- ما ورد مستفيضاً من أنّ المؤمن لايتّهم أخاه، و أنّه إذا أتّهم أخاه إنماث الإيمان في قلبه كانمياث الملح في الماء، و أنّ من أتّهم أخاه فهو ملعون.

2- ما عن أميرالمؤمنين عليه السلام: «ضع أمر أخيك على أحسنه حتّى يأتيك ما يقلبك عنه، ولا

تظنّن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً و أنت تجدلها في الخير سبيلًا».

3- ما ورد في وجوب تكذيب السّمع و البصر عن الأخ المؤمن، و أنّه إن شهد عندك خمسون قسامة فكذّبهم و صدقه ....

إلى غير ذلك ممّا هو كثير.

و عدم دلالتها على المقصود ظاهر؛ فإنّها ناظرة إلى أحد المعنيين الأوّلين من المعاني الثلاثة المذكورة لحمل فعل الغير على الصحّة، لا المعنى الثّالث الّذي نحن بصدده. و الغرض من جميع هذه التأكيدات تحكيم مباني الأخوّة بين المؤمنين و إلزامهم بالمعاشرة بالمعروف، و له شواهد كثيرة من نفس هذه الروايات لا تخفى.

هذا مضافاً إلى أنّ ذكر الأخ في كثير منها دليل على أنّ هذا الحكم ليس حكماً عمومياً في حقّ كل واحد و جميع النّاس من المؤمنين و غيرهم- كما أشار إليه العلّامة النراقي في عوائده-، فلعلّه نظير كثير من الحقوق الواردة في باب حقّ المؤمن على أخيه الّتي لاتجري في حقّ جميع المسلمين بل و لا جميع المؤمنين و إنّما تختص بالّذين استحكمت بينهم عرى المودّة و الإخاء، كما حقّق في باب حقوق

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 118

المؤمن.

الثّالث: الإجماع

أمّا الإجماع القولي فإثباته بوجه كلّي بعنوان «وجوب حمل أفعال المسلمين أو أفعال الغير مطلقاً على الصحّة» دونه خرط القتاد؛ فإنّ كلمات أكثرهم- كما اعترف به المحقّق المولى محمد باقر الخراساني في (الكفاية) و غيره فيما حكي عنهم، والعلّامة النّراقي في عوائده- خالية عنه، و إنّما تعرّض لهذه القاعدة بعنوان مستقل شرذمة من متأخّري الأصوليّين، و الظاهر من بعض العبائر أنّها من القواعد المقبولة على نحو كلّي، و لكن الإكتفاء بمجرّد ذلك في إثبات هذه القاعدة على نحو عام مشكل جدّاً. و الحاصل أنّ دعوى الإجماع القولي عليها

كما يترائى من بعضهم قابلة للذبّ و الإنكار، و على تقدير ثبوته- و هو غير ثابت- فالإعتماد على مثل هذه الإجماعات في أمثال هذه المسائل الّتي لها مدارك كثيرة أُخر كما ترى.

نعم، يمكن دعوى الإجماع في موارد خاصّة، كأبواب الذبائح و المناكح و بعض أبواب المعاملات و غير ذلك، و لكنه غير كاف في إثبات هذه الكليّة.

و أمّا الإجماع العملي من العلماء بل من المسلمين جميعاً- و هو الّذي يعبر عنه بسيرة المسلمين- فهو غير قابل للإنكار في جلّ موارد هذه القاعدة أو كلّها؛ فهم لايزالون يتعاملون مع الأفعال الصادرة عن غيرهم معاملة الصحّة في أبواب العبادات، كصلاة الإمام، و أذان المؤذّن، و إقامة المقيم للجماعة، و صلاة الميّت و تغسيله، و حج النّائب، و أشباهها. و كذا في أبواب المعاملات، كالمعاملات الصادرة من الوكلاء، و أبواب الذبائح و الجلود و الثياب و الأواني الّتي يغسلها الغير، و نظاهرها؛ فإنّه لايشك أحدٌ في أنّ المسلمين في جميع الأعصار و الأمصار يتعاملون مع هذه الأفعال إذا صدرت من غيرهم معاملة الصحّة، و لايتوقّفون عن ترتيب آثارها عليها إستناداً إلى أنّهم شاكّون في صحّتها. و كذلك جرى ديدنهم على حمل أفعال أولياء الصغار و المجانين، و أوصياء الأموات و متولّي الأوقاف و جباة الصّدقات على الصّحيح، و هذا

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 119

أمر معلوم لكلّ من عاشرهم و لو أيّاماً قليلة.

و في بعض هذه الموارد و إن كان هناك قواعد و إمارات أُخر تقتضي صحّتها، كقاعدة اليد، و سوق المسلمين و نحوهما، إلا أنّ النّاظر فيها بعين الإنصاف يعلم علماً قطعيّاً أنّ عملهم في هذه الموارد لايكون مستنداً إلى هذه القواعد، بل المدرك فيها جميعاً هو قاعدة الصحّة

و إن كانت مؤيّدة في بعض مواردها بقواعد و إمارات أخرى. كما أنّه لايحتمل إستناد المجمعين في جميع هذه الموارد على إختلافها إلى نصوص خاصّة وردت فيها.

و العجب من المحقّق النراقي قدس سره حيث أنكر هذا الإجماع العملي في عوائده. ولكنّ الظاهر- كما يظهر بمراجعة كلامه- أنّ عمدة إشكاله نشأ من تعميم البحث و عقد عنوانه للأفعال و الأقوال، و لكنّك خبير بأنّ للبحث في الأقوال الصادرة عن الغير مقاماً آخر لا يرتبط بالمقام.

و التّحقيق أنّه لاينحصر هذا الإجماع العملي بالمسلمين، بما هم مسلمون بل مدار أمور العقلاء على اختلافهم في العقائد و الآراء و العادات، في جميع الأزمنة و العصور عليه، كما يظهر بأدنى تأمّل في معاملاتهم و سياساتهم و غيرها؛ فما لم يثبت فساد عمل الغير لهم يحكمون بصحته، و يطالبون مدّعي الفساد في الأفعال الّتي صدرت عن غيرهم من الوكلاء و الأوصياء و الخدّام و أرباب الحرف و الصنائع و آحاد النّاس الدليل على ما ادّعاه، وإلّا لايتأمّلون في ترتيب آثار الصحّة عليها.

اللّهمّ إلّاأن يكون هناك إمارات الفساد و بعض قرائنه، أو يكون الفاعل متّهماً، فقد يتوقّفون في هاتين الصورتين عن الحمل عليها حتّى يتفحّص عن حاله، و سيأتي- إن شاء اللّه- إمكان القول بإستثنائهما عن قاعدة الصحّة حتّى في الأمور الشرعيّة عند ذكر التّنبيهات.

و حيث إنّ أفعال العقلاء و سيرهم و ما يستندون إليه في أمورهم مبنى على أصول عقلائيّة غير تعبّديّة، لا بدّ لنا من البحث في منشأ هذه السّيرة و تحقيق حالها، كي نكون على بصيرة من الفروع المشكوكة الّتي تترتّب على هذا الأصل.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 120

فنقول و من اللّه سبحانه نستمد التّوفيق و الهداية:

إنّ منشأ هذه السّيرة

العامّة العقلائيّة في حمل الأفعال الصادرة عن الغير على الصحّة لايخلّو عن أحد أمور ثلاثة:

أوّلها: الغلبة، بأن يقال: إنَّ الأفعال الصادرة من الغير لمّا كانت صحيحة غالباً صارت هذه الغلبة مورثة للظنّ بصحّة الفرد المشكوك، إلحاقاً له بالأعمّ الأغلب، فهذا الظنّ النّاشئ من الغلبة حجّة عندهم في المقام؛ و لايلازم القول بحجّيّة هذا الظنّ هنا حجّيّته في جميع المقامات، لما فيه من دواع أُخر، كشدّة الحاجّة و عموم الإبتلاء و غير ذلك، إنضمت إليه فأوجبت بناءهم على العمل به.

ولكن هذا إحتمال ضعيف، لما نشاهده من عدم اعتنائهم بشأن هذه الغلبة، و بنائهم على هذا الأصل و لو في مقامات لاتكون الصحّة غالبة فيها مضافاً إلى إمكان منع دعوى الغلبة، و إنكار كون غالب الأفعال الصادرة من النّاس صحيحة، لو لم يكن الغالب على أفعالهم الفساد، فتدبّر.

ثانيا: توقّف حفظ النّظام و صلاح المجتمع عليها، نظراً إلى أنّه لو لم يبن على الصحّة في موارد الشكّ في الأفعال الصادرة عن الغير، لزم العسر الأكيد و الحرج الشديد و اختلّ أمر المعاش و نظام أمور النّاس؛ لانسداد باب العلم العادي الّذي يمكن الوصول إليه بطرق متعارفة في هذه الموارد لغالب النّاس، فصار هذا منشأً لبنائهم و اتّفاقهم على حملها على الصّحّة فيما إذا لم يقم دليل خاص عليها، بل و مطالبة مدّعي الفساد بالدليل.

و يقرّب هذا المعنى إلى الذّهن و يزيده وضوحاً ما يلزم من عدم البناء على هذا الأصل من فساد الأموال و الأنفس و التنازع و التّشاجر و لو في يوم واحد.

ثالثها: اقتضاء العمل بحسب طبيعته الأوّليّة للصحّة، بيان ذلك: لاريب في أنّ الآثار المترقّبة من الأفعال إنّما تترتّب عليها إذا صدرت صحيحة، و الأفراد الفاسدة

لايترتّب عليها أثر أو الأثر المترقّب منها، و حيث إنَّ غرض العقلاء من كلّ فعل هو آثاره المطلوبة فالدّواعي النّفسيّة و البواعث الفكريّة إنّما تدعو إلى الأفراد الصحيحة.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 121

فكلّ فاعل- لو خلّي و طبعه- يقصد الأفعال الصحيحة و يتحرّك نحوها، فإنّها الّتي تفيض عليه الآثار الّتي يطلبها و الفوائد الّتي يرومها؛ فلا يطلب الفاعل بحسب طبعه الأوّلي إلّاالفرد الصحيح، و ما يصدر من الأفعال الفاسدة من بعض الفاعلين إمّا يكون من غفلة و اشتباه، أو أغراض فاسدة غير طبيعيّة، و كلّ ذلك على خلاف الطبع.

و يتّضح ذلك عند ملاحظة حال العقلاء في جميع أمورهم من الحرف و الصنائع و بناء الأبنية، و من معاملاتهم و سياساتهم و غيرها. فكما أنّ الصحّة في مقابل العيب هي الأصل في كلّ مبيع؛ لأنّها مقتضى طبعه الأوّلي و سنّة اللّه الّتي قد جرت في خلقه، فينصرف البيع إليها من غير حاجة إلى التصريح بها، فيكون المعيب غير مقصود للمتبايعين لأنّه مخالف للطبيعة الأوّليّة في الخلقة، كذلك الأمر في الأفعال الصادرة من العقلاء، فإنَّ الدواعي الحاصلة لهم الباعثة على العمل إنّما تدعو إلى الفرد الصحيح الّذي يكون منشأً للآثار، لا الفاسد الّذي لايترتّب عليه الأثر المرغوب فيه.

فبذلك صار الأصل في الأفعال الصادرة من الفاعلين- مسلمين كانوا أو غير مسلمين- هو الصحّة، و الفساد إنّما ينشأ من إغراض غير طبيعيّة، أو من خطأ الفاعل و غفلته الّذي هو أيضاً على خلاف الأصل و الطبع.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في منشأ هذا الإعتبار العقلائي. و الأقرب من هذه الوجوه هو الوجه الأخير ثمّ الثّاني.

و كيف كان، فإنَّ استقرار سيرة العقلاء على هذا الأصل ممّا لايكاد ينكر، من غير

فرق بين أرباب الديانات و غير هم، أو بين كون الفاعل مسلماً أو غيره، و جميع ما ورد في الشّرع في هذا الباب في الموارد الخاصّة كلّه إمضاء لهذا البناء العقلائي لا تأسيس لأصل جديد.

الرّابع: دليل العقل

و دلالته على المطلوب من وجهين:

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 122

الوجه الأوّل: أنّه لو لم يبن على الصحّة في الأفعال الصادرة من الغير لاختلّ أمر المعاد و المعاش جميعاً، و بطلان التّالي واضح عقلًا و شرعاً؛ فلا يمكن الإقتداء بإمام إلّا بعد العلم بصحّة صلاته من حيث القراءة و الطّهارة و غيرهما، و لا الرّكون إلى فعل النّائب و الأجير، و لا الإعتماد على الأفعال الواجبة كفاية الصادرة من الغير إلّاعند العلم بصحّتها، و لايمكن الإعتماد على العقود و الإيقاعات الصادرة من الغير ممّا يكون محلّاً لابتلاء المكلّف، و كذا في تطهير الثياب و ذبح الذبائح و غيرها ممّا لا يحصى.

و قد يخدش فيه من و جهين، من ناحية الصغرى و الكبرى؛ أمّا الصغرى: فبأنَّ اختلال النظام غير مسلّم فيما اذا اقتصر على العمل بما تطمئنّ به النّفس من أفعال الغير، و ما يوجد فيه أمارات شرعيّة أخرى تدلّ على صحّته، من «اليد» و «السّوق» و غيرهما ممّا قامت الأدلّة على اعتباره.

و أمّا ما ذكره المحقّق الأشتياني في بعض كلماته في ا لمقام، من لزوم الإختلال في أمر المعاد- لو لم يلزم في المعاش- لاستلزامه عدم جواز الصّلاة إلّاخلف النّبي و وصيّه عليهم السلام، فهو ممنوع؛ لكفاية الإطمئنان الحاصل في كثير من الموارد لكثير من النّاس، كما لايخفى.

و أمّا الكبرى: فبأنَّ هذا الوجه لا يثبت حجّية هذا الأصل إلّافي الجملة و لايكفي في إثبات هذه الكليّة؛ فإنّ اللازم الإقتصار على العمل بما

يندفع معه محذور اختلال النظام، و أمّا غيره فلا. هذا، ولكن لايخفى أنّ ملاحظة ما يلزم منه الإختلال و ما لايلزم منه ذلك، و التفكيك بينهما أيضاً قد يكون بنفسه حرجياً و منشأً للإختلال، و الإيكال على وجدان المكلّفين في تشخيص مواردها قد يؤدي إلى ذلك كما لايخفى على الخبير.

و قد يستند في إثبات الكبرى تبعاً لشيخنا الأعظم العلّامة الأنصاري قدس سره إلى فحوى ماورد في باب اليد في رواية حفص بن غياث من أنّه: «لولا ذلك لما قام للمسلمين سوق»، بعد حكمه عليه السلام بترتيب آثار الملكيّة على ما في اليد، فيدلّ على أنّ

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 123

كلّ ما يلزم الإختلال لولاه فهو حق. و يمكن تأييده أيضاً بما ورد في جواز شراء الفراء من سوق المسلمين عند الشكّ في تذكيتها و عدم وجوب السؤال عنه، معلّلًا بقوله عليه السلام: «إنّ الدّين أوسع من ذلك»، بعد أنَّ ذمّ الخوارج الّذين ضيّقوا على أنفسهم؛ «1» و غيره من أشباهه ممّا يدلّ على التوسعة في أمور الدّين.

هذا، ولكن الإستناد في إثبات الكبرى إلى الأدلّة النقليّة يخرجه عن الإستدلال العقلي، مضافاً إلى إمكان منع الأولويّة بعد ملاحظة إمكان الإعتماد إلى أمارات أخرى في كثير من موارد الشكّ في الصحّة.

ولكن الإنصاف أنَّ الدّليل ممّا يمكن الرّكون إليه، و لا أقلّ من تأييد المدّعى به، مع قطع النظّر عن كونه دليلًا عقليّاً أو نقليّاً.

الوجه الثّاني: الإستقراء، فإنّ الناقد البصير إذا أمعن النّظر في الأحكام الواردة في الشّرع، الثابتة عند أهله بإجماع أو غيره، يرى أنّ الشّارع المقدّس لايخرج في حكمه عمّا يطابق هذا الأصل في موارده، بحيث يورثه ذلك الأطمئنانَ بثبوت هذه الكليّة في الشرع. فلاحظ ما ورد

من الأحكام المختلفة في أبواب الطّهارات و النجاسات ممّا يرتبط بفعل الغير، و أبواب الذبائح و الجلود، و أبواب الشّهادات، و الدّعاوى و التنازع في صحّة بعض العقود و الإيقاعات و فسادها و غيرها، تجده شاهد صدق على ما ذكرنا، و كلّما كررّت النّظر زادك وضوحاً و ظهوراً.

و أورد عليه المحقّق النّراقي قدس سره في عوائده بأنّ هذا الإستقراء غير مفيد؛ لأنَّ تامّه لم يتحقّق، و ناقصه لو سلّمنا كونه مفيداً فإنّما يفيد لو لم يعارضه خلافه في موارد خاصّة أخرى أزيد ممّا يوافقه، كما في صحيحة الحلبي عن أبي عبداللّه عليه السلام قال:

(سئل عن رجل جمّال استكري منه إبل، و بعث معه بزيت إلى أرض، فزعم أنّ بعض زّقاق الزَّيت انخرق فاهراق ما فيه، فقال عليه السلام: إنّه إن شاء أخذ الزّيت، و قال: إنّه انخرق ولكنّه لا يصدَّق إلَّاببيّنة عادلة). «2» و هي صريحة في عدم حمل قول الجمال على

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 124

الصحّة. و موثّقة عمّار بن موسى عن أبي عبداللّه عليه السلام: (عن الرّجل يأتي بالشراب فيقول: هذا مطبوخ على الثلث، فقال: إن كان مسلماً ورعاً مأموناً فلا بأس أن يشرب)؛ إلى غير ذلك ما ذكره.

و فيه: أنّ التّحقيق- كما ذكرنا في محلّه- حجّيّة كل ما يورث الظنّ الإطمئناني و سكون النّفس؛ لبناء العقلاء عليها كافة في جلّ أمورهم، عدا موارد خاصة. و الإستقراء الغالبي و إن لم يوجب العلم- و لذا لا يعتمد عليه في الأمور الّتي تحتاج إلى أدلّة قاطعة- إلّاأنّه كاف في إثبات الأحكام الفرعيّة إذا انضم إليه قرائن أُخر و حصل منه الإطمئنان. و أمّا ما ذكره من المعارضات فهي إمّا واردة في مورد أقوال الغير

لا أفعاله، كالحديث الأوّل، أو في موارد الإتّهام كالحديث الثّاني، فتأمّل.

هذا تمام كلام فيما أردنا ذكره من أدلّة هذه القاعدة، و قد تحصّل من جميعها أنَّ هذه القاعدة من القواعد الّتي استقرّت عليها سيرة أهل الشّرع بل العقلاء جميعاً، و أَنَّ العمدة في إثباتها هو ذلك، و إن كان غيرها من الأدلّة أيضاً لا يخلو عن تأييد لها أو دلالة عليها.

المقام الثّاني: تنبيهات أصالة الصحّة
التنبيه الأوّل: هل المراد من «الصحة» الصحّة الواقعيّة أو الصحّة عند الفاعل؟

فيه خلاف مشهور، و قد يعبّر عن الصحّة الواقعيّة بالصحّة عند «الحامل»، نظراً إلى أنّ الصحيح الواقعي في نظره هو ما بني على صحّته إجتهاداً أو تقليداً؛ فلا فرق بين هذين التعبيرين فيما يراد في المقام.

و على كل حال، المحكي عن المشهور هو البناء على الصحّة الواقعيّة، و يحكى عن صاحب (المدارك) قدس سره الأوّل. ولكن قد عرفت عند حكاية الإجماع على الحجّيّة أنَّ هذه القاعدة بكليّتها غير معنونة في كلمات المشهور، فإسناد القول الثّاني إليهم هنا

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 125

لعلّه لظهور كلماتهم فيه في مقامات خاصّة، كفروع التنازع في أبواب المعاملات؛ حيث أطلقوا القول بتقديم قول مدّعي الصحّة و لم يقيّدوه بكونه عالماً بالصحّة و الفساد الواقعيين، لكي يكون الحمل على الحصّة عند الفاعل مساوقاً للحمل على الصحة الواقعية، ولو كان مرادهم من الصحة الصحة عند الفاعل لم يكن هناك بدٌّ من التقييد به. و من البعيد جداً أن يفرّق بين الأبواب المختلفة، فيحمل على الصحّة الواقعيّة في مقام و الصحّة الفاعليّة في مقام آخر، فإسناد هذا القول إلى المشهور بهذا الإعتبار قريب.

و تظهر الثمرة بين القولين فيما إذا كان معتقد الفاعل مخالفاً لمعتقد الحامل، كما إذا كان البائع ممّن يرى جواز العقد بالفارسيّة، أو بغير صيغة الماضي، أو جواز تقديم القبول على

الإيجاب أو غير ذلك؛ على خلاف ما يعتقده الحامل، فإذا شكّ في صحّة بيعه و فساده لم يفده حمل فعل البائع على الصحّة على القول الأوّل، و يفيده على الثّاني. فإذن تنحصر فائدة هذه القاعدة على القول الأوّل بالموارد الّتي تطابق الصحّة عند الفاعل الصحّة عند الحامل، و أمّا في غيرها فإنّما تفيد بالنسبة إلى الآثار الّتي يكون موضوعها الصحّة الفاعليّة كالإئتمام- على قول-.

ثمّ اعلم أنّ المدرك الوحيد في هذه المسألة هو ملاحظة الدليل الّذي إستندنا إليه في إثبات أصل القاعدة؛ و حيث أنّ عمدته- كما عرفت- هي السيرة المستمرة بين العقلاء من جميع الأمم و في جميع الأعصار على اختلافهم في المذاهب و الآراء، فالحق هو الحمل على الصحّة الواقعيّة؛ لأنّه لم يعهد منهم أن يتساءلوا بينهم عن معتقد الفاعلين في المسائل المختلفة عند حمل أفعالهم على الصحّة. و يزيدك وضوحاً ملاحظة حال المسلمين في الأعصار المختلفة مع تشعّبهم في المذهب، و إختلافهم في المسائل الفرعيّة، فلم يعهد منهم السؤال عن معتقد الفاعل إذا كان وكيلًا في البيع و غيره، أو وصيّاً عن ميّت، أو وليّاً على صغير أو غير ذلك، بل تحمل أفعالهم على الصحيح عند الشكّ من غير فحص عن حال فاعلها.

و لعلّ قائلًا يقول: إنَّ منشأ هذه السيرة كما ذكرت أحد أمور ثلاثة: إمّا الغلبة؛ أو

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 126

إقتضاء طبيعة العمل؛ أو التعبّد العقلائي دفعاً للحرج و حفظاً لنظام المجتمع، و لاشكّ أنّ شيئاً منها لايقتضي أزيد من الصحّة الفاعليّة؛ ضرورة أنّ الدواعي الباعثة على العمل إنّما تدعو إلى الصحيح في نظر الفاعل و بحسب معتقده، و الغلبة إنّما تكون في موافقة عمله لما هو الصحيح عنده، و الحرج و

الإختلال يندفعان بالحمل على الصحّة الفاعليّة، لتطابق الصحّة عند الفاعل و الحامل في كثير من الموارد، و كفى بها في دفع محذور الحرج و الإختلال.

و فيه: أنّه إنما ذكرنا هذه الأمور بعنوان الحكمة و الداعي لبناء العقلاء على هذا الأصل، لا العلّة الّتي يدور الحكم مدارها. و قد عرفت أنّ ما نشاهده من سيرتهم هذه لاتنحصر بالموارد الّتي تطابق الصحّة الفاعليّة و الصحّة عند الحامل، بل تعمّها و غيرها. و قد عرفت أنّ استمرار سيرة المسلمين على هذه القاعدة المتّخذة من سيرة العقلاء يؤكّد هذا المعنى؛ لأنّها جرت على ترتيب آثار الصحّة الواقعيّة على العقود و الإيقاعات الصادرة عن الغير، و عباداتهم النيابيّة، و أداء الواجبات الكفائيّة و غيرها، من غير تحقيق و تفحّص عن حال فاعليها و معتقدهم، مع ما يرى من الإختلاف الشديد بينهم في أحكام العبادات و المعاملات، لاسيّما مع ملاحظة أنّ هذه القاعدة تعمّ المخالفين أيضاً، و تدلّ على حمل أفعالهم على الصحّة و ترتيب آثارها عليها في ما لايشترط فيه الولاية، و مخالفتهم لنا في كثير من الفروع الفقهيّة واضح لكلّ أحد، و لم يعهد السؤال عن مذهب الفاعل أو الفحص عنه بطريق آخر.

نعم هاهنا صورتان قابلتان للبحث:

الأولى: ما إذا علم تفصيلًا إعتقاد الفاعل و مخالفته لمعتقد الحامل بالكليّة، بحيث لم يجمعهما جامع؛ كما إذا اعتقد الفاعل وجوب الجهر بالبسملة في الصلوات الإخفاتيّة حينما يعتقد الحامل حرمته. فإنّ حمل فعله على الصحّة هنا- من باب احتمال مصادفته للواقع ولو سهواً منه- مشكل جداً، لعدم جريان شي من الأدلّة السابقة فيه، و إن هو إلّاالحمل على الفساد بالنّظر إلى معتقد فاعله.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 127

الثّانية: ما إذا علم جهل الفاعل بالحكم

أو الموضوع أو كليّهما علماً تفصيلياً، كمن لايعلم ترتيب أجزاء الوضوء أو الصّلاة أو غيرهما، و يأتي بها من غير علم بأحكامها، ولكن يحتمل مطابقتها للواقع أحياناً من باب الصدفة و الإتّفاق. و الحمل على الصحّة الواقعيّة هنا أيضاً مشكل، و إن كان أخفّ إشكالًا من الصورة الأولى؛ و لذا اختار المحقّق الإصفهاني قدس سره في تعليقاته على (الكفاية) الحمل عليها في هذه الصورة، و ادّعى قيام السيرة عليها، خصوصاً بعد ملاحظة جهل غالب العوام بالأحكام.

و فيه: أنّه لم يثبت إستقرار السيرة في الموارد الّتي يعلم فيها علماً تفصيلياً بجهل الفاعلين في خصوص مسائل معيّنة. نعم، لايبعد جريانها في موارد يعلم إجمالًا بجهلهم ببعض المسائل أو بكثير منها، لأنّ غالب العوام- لاسيّما أهل البوادي و من ضاهاهم- من هذا القبيل، مع أنّه لا إشكال في حمل أفعالهم على الصحّة الواقعيّة و ترتيب آثارها عليها.

و يمكن إستظهار المقصود- أعني لزوم الحمل على الصحّة الواقعيّة لا الصحّة بنظر الفاعل- من غير واحد من الرّوايات الواردة في موارد خاصة: مثل ما رواه الشيخ (رضوان الله عليه) في (التهذيب)- و الصدوق (ره) في الفقيه- بإسناده عن إسماعيل بن عيسى قال: (سألت أبالحسن عليه السلام عن جلود الفرا يشتريها الرّجل في سوق من أسواق الجبل، أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلماً غير عارف؟ قال: ... و إذا رأيتم يصلّون فيه فلا تسألوا عنه). «1»

بناءاً على شموله لصورة العلم بكون معتقد الفاعل جواز الصّلاة في ما دبغ من الجلود و إن كانت غير مذكّاة، لاشتهار فتاوى أبي حنيفة في العراق في ذاك العصر، و مفروض سؤال الراوي أيضاً هو الشراء من المخالفين؛ فالعمل بهذه الأمارة- أعني الصلاة فيها- ليس إلّامن

جهة حمل أفعال المسلمين على الصحّة الواقعيّة، فبالصلاة فيها يستكشف كونها مذكّاة، لإعتبار التذكية في لباس المصلّي واقعاً.

اللّهمّ إلّاأن يقال: إنّ الرواية غير معمول بها، لكفاية الأخذ من سوق المسلمين و من يد المسلم من غير اعتبار الصلاة فيها، فيحمل هذا الحكم على الإستحباب و

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 128

ضربٍ من الإحتياط. ولكن يمكن القول بكفاية الحكم المذكور في إثبات المدّعى و إن كان حكماً إستحبابياً، فتأمّل.

نعم يظهر من بعض الرّوايات خلاف ذلك، و أنَّ الحمل على الصحّة إنّما يجوز في ما يوافق معتقد الفاعل لمعتقد الحامل، كالروايات الكثيرة الواردة في باب «تحريم العصير إذا أخذ مطبوخاً ممّن يستحلّه»؛ مثل ما وراه الكليني (رضوان اللّه عليه) بإسناده عن عمر بن يزيد قال: قلت لأبي عبداللّه عليه السلام: الرّجل يهدي إليَّ البختج «1» من غير أصحابنا؟ فقال: إن كان ممّن يستحلّ المسكر فلا تشربه، و إن كان ممّن لايستحلّ شربه فاقبله، أو قال: إشربه) «2» و مثله غيره.

فإنّ حمل فعل المسلم على الصحيح الواقعي يقتضي الحكم بالحلية هنا. و ليست هذه الصورة من الصورتين اللّتين اخترنا إستثناءهما من هذه القاعدة؛ لوجود الجامع بين العقيدتين، لاستحلال الفريقين المطبوخ على الثلث.

و يمكن الجواب عنه بأنّ المورد من موارد التهمة، و سيأتي الإشكال في جريان القاعدة فيها، و ذلك لأنّ مستحلّ المسكر لا داعي له إلى طبخ العصير على الثلث غالباً، فتسقط القاعدة في مورده، و يكون المرجع فيه هو الإستصحاب، و لاشكّ في أنّه يقتضي الحرمة.

التّنبيه الثّاني: في وجوب إحراز صورة العمل

يعتبر في جريان هذه القاعدة إحراز صورة العمل، و هو القدر المشترك بين صحيحه و فاسده، بحيث يصدق عليه عنوان ذاك العمل بالمعنى الأعمّ من الصحيح و الفاسد؛ فإذا رأينا رجلًا يأتي بحركات

نشك في صدق عنوان الصلاة عليها و لو فاسداً، كما إذا انحنى و لاندري أنّه انحناء ركوع أو انحناء لأخذ شي من الأرض، لم يكن هناك مورد للحمل على الصحّة كما هو ظاهر. و مجرّد كون الآتي بها قاصداً لعنوان

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 129

الصّلاة غير كافٍ في هذا المعنى، ما لم يحرز صورة العمل خارجاً؛ لوضوح عدم كفاية مجرّد القصد في صدق عنوان على عمل خارجي حتّى يؤتى بصورته الخاصة.

نعم، إذا كانت هناك صورة خاصة مشتركة بين عملين، فالمميّز هناك هو القصد؛ فهذا الشرط غير ما سيأتي الإشارة إليه- إن شاء الله- عن قريب من إشتراط إحراز كون الفاعل بصدد العنوان الّذي يراد حمل فعله على الصحيح منه.

و على كلّ حال، إعتبار هذا الشّرط في جريان أصالة الصحّة في جميع مواردها أمر ظاهر لا سترة عليه. و كأنّ ما ذكره المحقّق الثّاني في (جامع المقاصد) من: «عدم جريان أصالة الصحّة في العقود إلّابعد استكمال أركانها ليتحقّق وجود العقد، و أمّا قبله فلا وجود له» أيضاً ناظر إلى هذا المعنى، و لذا مثّل له في بعض كلماته بما إذا اختلفا في كون المعقود عليه حرّاً أو عبداً، أو اختلف الضامن و المضمون له فقال الضامن: ضمنت و أنا صبيّ، و قال المضمون له: بل ضمنت و أنت بالغ، و كذا ما يحكى عن العلّامة قدس سره من الإشكال في جريانها في هذا الفرض، فإنّ الظاهر أنَّ منشأ إستشكالهما في جريان قاعدة الصحّة هنا هو ما ذكرنا من عدم إحراز عنوان العمل في هذه الأمثلة. و على أيّ حال، فإن كان مراد المحقّق الثّاني قدس سره من استكمال الأركان ما ذكر- كما يظهر من أمثلته-، فهو

ممّا لاينبغي الرّيب فيه؛ و إن كان مراده أمراً وراءه، فهو قابل للتأمّل و البحث. و لا نظن أحداً يخالف ما ذكرنا عند العمل بقاعدة الصحّة، و هل ترى أحداً يحكم بالصحّة فيما يشكّ في صدق عنوان البيع أو النّكاح ولو فاسداً على الفعل الخارجيّ؟ و هل تظنّ أحداً فيما إذا رأى أحداً ينحني لايدري أهو انحناء ركوع أو انحناء لأخذ شي من الأرض يحكم بحمل فعله على الركوع الصحيح؟

فكل ما يكون الشكّ فيه مساوقاً للشكّ في صدق عنوان العمل و صورته لايكون مجرى للقاعدة، فإذا شكّ في مالية العوضين رأساً لم يصدق هناك عنوان البيع؛ لأنّ البيع إنّما يصدق في محل قابل له و لو إجمالًا؛ فإذا شك في أنّ المبيع حرّ أو عبد أو أنّه خمر أو مائع آخر مباح- بناءاً على أنّ الشّارع تصرّف في موضوع الخمر و أسقطها

التّنبيه الثّالث: في أنّ الصحّة المستفادة منها في كلّ مورد بحسبه

و لا إشكال في أنّه لاتثبت بهذ القاعدة إلّاالآثار المترتّبة على صحّة موردها و مجراها، و من المعلوم أنّ صحّة كلّ شي بحسبه؛ فإن كان موردها عبادة أو عقداً بجميع أجزائه و شرائطه، فصحّته صحّة فعليّة، و يترتّب عليه ما يترقّب منه من الآثار فعلًا.

و أمّا إذا كان موردها جزءاً من أجزائهما، فصحّته صحّة تأهليّة، بمعنى قابليّة ذاك الجزء لانضمام سائر الأجزاء أو الشرائط إليه و صيرورتها عبادة أو معاملة تامّة، و

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 134

تترتّب عليها آثار تلك العبادة أو المعاملة إذا لحقه سائر أجزائها و شرائطها. و هذا المعنى ممّا لاينبغي التأمّل فيه، إلّاأنّ الكلام في بعض ما فرّعوا عليه، حيث فرّع عليه شيخنا الأعظم (قدّس سرّه الشّريف) فروعاً:

منها: إذا شكّ في لحوق الإجازة لبيع الفضولي، فأصالة الصحّة في البيع الصّادر منه لاتثبت

لحوق إجازة المالك به؛ لأنّ صحته صحة تأهّلية لاتدلّ على أزيد من صحّة الإنشاء الصادر من الفضولي و اشتماله على شرائط الصحّة.

و منها: ما إذا شكّ في تحقّق القبض في الصّرف و السلم، فإنّ جريان إصالة الصحّة في العقد لا يدلّ على تحقّق القبض.

و منها: ما لو ادّعى بائع الوقف وجود المسوّغ له في بيعه، فإنّ أصالة الصحّة لا تثبت وجوده، لاسيّما مع بناء بيع الوقف على الفساد.

و منها: ما لو ادّعى الراهن إذن المرّتهن في بيع العين المرهونة، فإنّ أصالة صحّة البيع لاتثبت إذنه.

هذا ملخّص ما أفاده قدس سره.

أقول: قد عرفت من التّنبيه السابق أنّ القاعدة الكليّة في مجرى هذه القاعدة أنّه مهمّا حصلت أركان العمل، بأقلّ ما يصدق عليه عنوانه الأعمّ من الصحيح و الفاسد، جرت فيه أصالة الصحّة عند الشكّ فيما زاد عليها، ممّا يعتبر في صحّته. و أنت بعد الإحاطة بهذا تعرف حال هذه الفروع؛ فإنَّ من المعلوم أنّ مجرّد الإيجاب و القبول لايجدي في تحقّق عنوان البيع، أو النّكاح، أو غيرهما، ما لم ينضم إليه قابليّة محلّه، و غيره ممّا به قوامه و عليه أساسه؛ فلا يكفي إحراز مجرّد الإنشاء في إجراء القاعدة في البيع و النّكاح و شبههما، لا لأنّ صحّة كل شي ء بحسبه، بل لأنّ عنوان البيع و أشباهه لايصدق بمجرّد نفس الإنشاء كما لايخفى.

و من هنا يعلم حال البيع الصادر من الفضولي، فإنّه بدون إجازة المالك ليس بيعاً حقيقياً، و لايصدق عليه عنوانه- و لو بمعناه الأعم-؛ ضرورة عدم أهليّة الفضولي للعقد على مال غيره، بل هو أشبه شي ء بكتابة السند و تنظيمه للتوقيع عليه ممّن بيده أمره، فليس موقف الفضولي موقف البائع حقيقة، و لايصدق على

إنشائه عنوان

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 135

البيع.

نعم، إذا تحقّق إيجاب البيع و قبوله في محلّ قابل له و لو في الجملة، ثمّ شكّ في حصول بعض ما يتوقّف صحّته عليه من الشرائط، كالقبض في الصّرف و السّلم، فلا ينبغي الإشكال في جواز الإعتماد على هذا الأصل لإثباتها. فهل نجد من أنفسنا إلزاماً على البحث و الفحص عن حال بيع صرف أو سلم صدر من وكيلنا و أنّه هل أقبض المثمن أو قبض الثمن في مجلسه أو لا؟ فما أفاده قدس سره من عدم جواز الركون إلى هذا الأصل لإثبات صحّة البيع و حصول النّقل و الإنتقال، عند الشكّ في تحقّق القبض في الصّرف و السّلم، بمعزل عن الحقّ. و ليت شعري ما الفرق بين هذا الشّرط و غيره من الشروط المقارنة المعتبرة في العقود؟

نعم إذا علمنا من الخارج أنَّ المتبايعين أوقعا العقد متردّدين في القبض و الإقباض، ثمّ شككنا في أنّه بدا لهما فيهما، فالأمر كما ذكره قدس سره؛ أمّا إذا أحرزنا أنّهما أوقعاه قاصدين للنقل و الإنتقال، عازمين على القبض و الإقباض، ثمّ شككنا في لحوقه، فلا إشكال في جريان قاعدة الصحّة فيه. و بالجملة لا نجد أيَّ فرق بين الشروط المقارنة للعقد و المتأخّرة عنه، بعد إحراز عنوانه خارجاً، فلا وجه للفرق بينهما أصلًا.

و أمّا مسألة الشكّ في مسوّغات بيع الوقف، فالظاهر أنّه لاينبغي الإشكال فيها أيضاً من الجهة المبحوث عنها؛ لما عرفت في سابقه. بل الظّاهر أنّه ليس من فروع هذا البحث؛ فإنّ وجود المسوّغات من الشرائط المقارنة المعتبرة في صحّة العقد حين صدوره، كالمالية و الملكية و أشباههما. و لو قلنا بأنّ أركان البيع غير حاصلة مع الشكّ في وجود المسوّغ

سقطت أصالة الصحّة فيه من هذه الجهة، لا لأنّ الصحّة المستفادة منها صحّة تأهّليّة كما هو محلّ البحث. نعم، هنا إشكال آخر أشار إليه شيخنا الأعظم في ضمن كلامه في المقام، و هو أنّ طبع هذه المعاملة و بناءها على الفساد و سيأتي الإشكال في جريان أصالة الصحّة في أمثال هذه المسألة.

و قد ظهر ممّا ذكرنا حال الفرع الأخير، و هو ما إذا شكّ في إجازة المرّتهن في بيع

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 136

العين المرهونة، و الأقوى فيه أيضاً جريان أصالة الصحّة؛ لصدق عنوان البيع معه، و عدم وجود أي فرق بين هذا الشّرط و سائر شروطه. اللّهم إلّاأن يقال: إنّ بيع العين المرهونة أيضاً مبني على الفساد كبيع العين الموقوفة، و سيأتي الإشكال في أمثاله.

التّنبيه الرّابع: في لزوم إحراز كون الفاعل بصدد الفعل الّذي يراد ترتيب آثاره

يعتبر في إجراء هذه القاعدة إحراز عنوان الفعل و كون الفاعل بصدده، إذا كان ممّا يصلح لانطباق عناوين مختلفة عليه، و لايمتاز بعضها من بعض إلّابقصد فاعله؛ فغسل الثوب تارةً يكون بعنوان التطهير الشرعي، و أخرى بعنوان إزالة قذارته العرفيّة، و في الأوّل يراعى إطلاق الماء و طهارته شرعاً دون الثّاني. و كذلك حال قراءة الحمد بعنوان جزئيّتها للصّلاة و قراءتها بعنوان قراءة القرآن، و لاشكّ في أنّ الحمل على الصحّة من ناحية عنوان خاص يحتاج إلى إحراز كون الفاعل بصدده.

و الأصل في ذلك ما مرّ مراراً من لزوم صدق العنوان الأعمّ من الصحيح و الفاسد في إجراء هذه القاعدة، فإذا كان العنوان من العناوين القصديّة لايكاد يصدق إلّاإذا كان فاعله قاصداً له.

ولكن هنا أمر يجب التّنبيه عليه، و هو أنَّ القوم قد أفرطوا في باب العناوين القصديّة، و قد حققّنا في محلّه أنّ القصد في كثير من هذه

الموارد الّتي يسمّونها عناوين قصديّة لا أثر له إلّافي كون الفعل بعنوانه الخاص اختياريًا و مستنداً إلى فاعله، لا في تحقّق عنوان الفعل خارجاً؛ ألاترى أنّ عنوان التوهين- و هو من أظهر العناوين القصديّة عندهم- كثيراً ما لا يتوقّف وجوده خارجاً على قصد فاعله، كمن أقدم على تلويث بيت اللّه و الكتب المقدّسة- و العياذ باللّه- بأعين النّاس و مرآهم نتيجة غفلة أو نسيان؛ حيث إنّه لايشكّ أهل العرف في أنّ عمله هذا يوجب وهناً لهذه المقدّسات في أنظار النّاس، فيستنكرونها و يسرعون إلى إزالة النّجاسة و تطهير محلّها، و إن كان الفاعل عندهم معذوراً غير مستحقّ للمؤاخذة و الّلوم من جهة غفلته و نسيانه، إذا لم يكن مقصّراً في مقدّماته. نعم، لو كان العمل مشتركاً بين

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 137

عنوانين، و لم يكن هناك ما يمتاز به خارجاً من جهة من الجهات- لو وجد أعمال كذلك-، ففي مثله يمكن القول بتوقّف صدق أحد العنوانين عليه على قصده.

و بناءاً على هذا المبنى، يكون الدليل على اعتبار إحراز قصد الفاعل لهذه العناوين عدمُ جريان القاعدة في غير الأفعال الإختياريّة، لعدم بناء العقلاء عليه كما هو واضح؛ و قد عرفت أنّ الفعل في هذه الموارد لايكون إختياريّاً إلا بقصد عنوانه.

نعم لايبعد أن يقال بأنّه لايجب إحرازه بطرق علميّة، بل يكفي الظنّ الحاصل من ظاهر الحال، بأن يكون ظاهر حال الفاعل أنّه بصدد العنوان الفلاني؛ فإنَّ هذا الظنّ ممّا استقرّ بناء العقلاء على العمل به في مورد الصّفات الباطنيّة، كالقصد و العلم و العدالة، ممّا لاطريق إليها غالباً إلّاظواهر الحالات، و يستندون إليها في كثير من احتجاجاتهم كما لايخفى على من سبر أحوالهم. نعم، في غير هذه

المقامات من الصّفات الظاهرة الّتي يمكن إثباتها بطرق علميّة غالباً لا اعتبار بالظن عندهم.

و الظهور المزبور معتبر عندهم و إن لم يكن هناك شكّ في صحّة العمل على فرض قصده، فحجّيّة ظهور حال الفاعل في هذه المقامات أجنبيّة عن قاعدة الصحّة و إن كان يظهر بعض ثمراتها في إجراء القاعدة كما عرفت و من هنا يظهر وجه النّظر في بعض ما إفاده المحقّق الإصفهاني قدس سره في المقام بما لانطيل الكلام بذكره، فراجعه و تأمّل.

و إنّما عقدنا تنبيهاً خاصاً لهذا البحث مع أنّ شيخنا العلّامة الأنصاري و غيره من المحقّقين أدرجوه في التّنبيه الآتي، لما فيه من الآثار الخاصّة الّتي تظهر في إجراء القاعدة في مقامات مختلفة.

التّنبيه الخامس: في حكم عمل النائب والاجير اذا شك في صحته

قد عرفت أنّ الصحّة الّتي يحمل عليها فعل الغير هي الصحّة عند الحامل، و بعبارة أخرى الصحّة الواقعيّة لا الصحّة الفاعليّة، فيرتّب عليه جميع ما يترتّب على الفعل الصحيح الواقعي من آثاره، من غير فرق بين تلك الآثار. إلّاأنّه قد يظهر من

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 138

بعض كلماتهم في بعض المقامات التفكيك بينها أحياناً، مثل ما نسب إلى المشهور من عدم جواز الإكتفاء بعمل النّائب عند الشكّ إلّاأن يكون عدلًا، و إن كان مستحقّاً للأجرة؛ و مثل ما حكاه شيخنا الأعظم العلّامة الأنصاري قدس سره عن بعض من اشتراط العدالة فيمن يوضّئُ العاجز عن الوضوء، و ارتضاه المحقّق الهمداني قدس سره في بعض تعليقاته على (الفرائد).

أقول: أمّا ذهاب المشهور إلى اعتبار العدالة في النائب فمحلّ تأمّل و إشكال، قال في (المدارك) في بحث النّيابة من كتاب «الحج» ما لفظه: «و لم يذكر المصنف من الشرائط عدالة الأجير، و قد أعتبرها المتأخّرون في الحجّ الواجب، لا لأنّ عبادة الفاسق

تقع فاسدة، بل لأنّ الإتيان بالحجّ الصحيح إنّما يعلم بخبره، و الفاسق لايقبل إخباره بذلك». و يظهر منه أنّ الشّهرة لو ثبتت فإنّما هي حادثة بين المتأخّرين؛ هذا مضافاً إلى إمكان حمل كلام من اعتبر العدالة على خصوص صورة الشكّ في أصل تحقّق العمل، لا في صحّته مع العلم بصدوره.

و على أيّ حال، فقد استوجه الشّيخ قدس سره ما نسب إلى المشهور من عدم جريان أصالة الصحّة في عمل النّائب و وجّهه بما حاصله: إنَّ لفعل النائب عنوانين:

أحدهما: من حيث إنّه فعل من أفعاله، و به يستحقّ الأجرة، و يترتّب عليه غيره من آثاره.

ثانيهما: من حيث إنّه عمل تسبيبي للمنوب عنه، حيث إنّ المنوب عنه بمنزلة الفاعل بالتسبيب، و كأنّ فعل النّائب صادر عنه و قائم به؛ و من هذه الجهة الفعل فعل المنوب عنه.

و أصالة الصحّة في فعل النائب إنّما تنفع في ترتيب آثاره عليه من الجهة الأولى دون الثانية، ففي موارد الشكّ لامحيص عن التفكيك بين العنوانين و ترتيب خصوص آثاره الّتي تترتّب عليه بعنوان أنّه فعل النّائب، لا ما يترتّب عليه بعنوان أنّه فعل المنوب عنه؛ و من هنا يحكم بإستحقاقه الأجرة و لايحكم ببرائة ذمّة المنوب عنه. إنتهي محصّل كلامه.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 139

و اعترض عليه جمع ممّن تأخّر عنه، قائلين بشمول القاعدة لباب النّيابة، و جواز الحكم ببراءة ذمّة المنوب عنه، و عدم لزوم الإستنابة عنه ثانياً؛ و ذكروا في دفع إستدلاله قدس سره مقالات شتّى تعلم من مراجعة كتبهم.

ولكن الّذي ظهر لي أنّ عمدة الإشكال في كلامه قدس سره إنّما نشأ من حسبانه فعل النّائب فعلًا تسبيباً للمنوب عنه، مع أنّه لا ينبغي الرّيب في عدم جواز إسناده إليه

إلّا مجازاً؛ لأنّ المفروض أنّ النّائب فاعل مختار مستقلّ في فعله، و إن كان المنوب عنه محرّكاً و داعياً له إلى العمل؛ و لاشكّ أنّ الفعل في هذه المقامات يستند إلى المباشر، فالفعل فعل النّائب لاغير. و لا فرق في ذلك بين القول بأنّ حقيقة النّيابة عبارة عن تنزيل النّائب نفسه منزلة المنوب عنه، و القول بأنّ حقيقتها هي قصد تفريغ ذمة الغير بعمله، و أنّه لايعقل تنزيل نفسه منزلته أو تنزيل فعله منزلة فعله؛ فإنّ الفعل حقيقة فعله، و صادر عنه باختياره و إرادته و إن كانت فائدته لغيره.

نعم، قد يسند الفعل إلى السبب، و ذلك فيما إذا كان أقوى من المباشر، و كان المباشر مقهوراً على العمل غير مستقل في إرادته، لا في مثل المقام المفروض إستقلاله فيه. و حينئذ إذا جرت أصالة الصحّة في حقّ النّائب و الأجير يحكم بصحّة فعلهما، و تترتّب عليه جميع ما للعمل الصّحيح من الآثار، فإن كان عمله صلاة فهي صلاة صحيحة بحكم هذه القاعدة، و يترتّب عليها جميع ما للصّلاة الصحيحة الصادرة منهما بهذا العنوان من الأثر، و منها براءة ذمّة المنوب عنه، و عدم لزوم الإستنابة عنه ثانياً.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني قدس سره أورد في بعض كلماته في المقام على مقالة الشّيخ قدس سره إيراداً حاصله: إنَّ التفكيك المذكور في كلام الشّيخ بين استحقاق الأجرة و بين براءة ذمة المنوّب عنه من غرائب الكلام؛ إذمع إحراز قصد النيابة يحكم بمقتضى قاعدة الصحّة بصحّة الفعل النّيابي و يترتّب عليه إستحقاق الأجرة و براءة ذمّة المنوب عنه، و مع عدم إحرازه لايحكم بشي منهما؛ فإنّ ما يترتّب عليه إستحقاق الأجرة ليس إلّا صدور الفعل الصحيح من النّائب،

و هو بعينه موضوع للأثر الآخر أي فراغ ذمّة

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 140

المنوّب عنه، فكيف يمكن التّفكيك بينهما؟ إنتهى.

ولكن يمكن أنّ يوجّه هذا التفكيك بأنّ الملازمة بين هذين الأثرين و إن كانت ثابتة بحسب الحكم الواقعي- كما أنّ قاعدة الصحّة لو كانت جارية أثبتتهما-، إلّاأنّه بعد المنع من جريانها لبعض ما ذكر يمكن القول باستحقاق الأجير الأجرة على ذاك العمل الّذي يدعي صحّته، لا لقاعدة الصحّة؛ بل لأنّه لمّا لم يكن هناك طريق عادة لإثبات صحّة عمل الأجير إلّاقوله فلا محالة تنصرف الإجارة إليه. نعم، للمستأجر أن يراقب الأجير أو يبعث معه من يراقبه في عمله، و أمّا إذا لم يراقبه و خلّاه و نفسه و أوكل الأمر إليه، فعليه أن يقبل قوله؛ و هذا أمر ظاهر لمن سبر حال العقلاء في استيجاراتهم، فتأمّل.

ثمّ إنّه قد يفصّل في المقام بين مسألة النّيابة، و مسألة وضوء العاجز و شبهها، بجريان القاعدة في الأولى دون الثانية؛ إختاره المحقّق الهمداني قدس سره في بعض تعليقاته على (الفرائد)، و استدلّ على مختاره بما حاصله: إنَّ تكليف العاجز هو إيجاد الفعل بإعانة غيره، فالواجب عليه هو الوضوء و لو كان بإعانة الغير، فإجراء أصالة الصحّة في فعل غيره- و هو التوضية- لايثبت صحّة فعله- و هو الوضوء-. هذا ملخّص كلامه.

و فيه: إنّ فعل المُعين إذا كان محكوماً بالصحّة بمقتضى القاعدة يترتّب عليه جميع آثارها، حتّى ما كان مترتّباً على لوازمه العقليّة؛ لأنّها من الأمارات المعتبرة لا من الأصول العمليّة، و من المعلوم أنّ صحّة وضوئه من آثار صحّة فعل الغير؛ بل هما أمر واحد يتفاوتان من ناحية الإسناد إلى العاجز و من يعينه. فما أفاده قدس سره من عدم إثباته

صحّة الوضوء ممنوع، إلّاأن يرى القاعدة من الأصول العلميّة الّتي لاتثبت لوازمها العقليّة، و يرى هذين العنوانين المنطبقين على فعل واحد باعتبارين من قبيل اللوازم العقليّة، و كلاهما محلّ إشكال.

نعم، يمكن الإيراد على جريان القاعدة في أمثال المقام من ناحية أخرى، و هي:

أنّ السّيرة العقلائيّة الّتي يستند إليها في إثبات كلّيّة القاعدة غير جاريّة في أفعال

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 141

الغير، إذا كانت بمرئى و مسمع من المكلّف و كان منشأ شكّه عروض الغفلة له عن فعله أحياناً. و انسداد باب العلم الّذي هو الحكمة في حجّية أمثال هذه الطّرق إنّما هو في غير هذه الأفعال الّتي تكون بمرئى من المكلّف؛ نعم، إذا كان الفاعل مع حضوره كالبعيد، كالحجّام بالنسبة إلى غسل موضع الحجامة في الظهر، فلايبعد حينذاك إجراء أصالة الصحّة في فعله، و لعلّه إليه يشير ما ورد من أنّ الحجام مؤتمن، فتأمّل.

التّنبيه السّادس: هل القاعدة من الأمارات أو من الأصول العمليّة؟
اشارة

وقع الكلام بين الأعلام في أنّ قاعدة الصحّة هل هي من الأمارات المعتبرة؟ كما يظهر من كل من استند في حجّيتها إلى ظهور حال المسلم؛ أو من الأصول العمليّة؟

كما اختاره المحقّق النّائيني و بعض من تأخّر عنه، و قد يستظهر من عبارة الشيخ الأعظم أيضاً، و إن كان هذا الإستظهار محلّ تأمّل و إشكال.

أو يفصّل بين مواردها؟ فإن كان منشأ الشكّ في الصحّة إحتمال تعمّد الإخلال بما يعتبر في العمل من الأجزاء و الشّرائط، أو احتمال عروض الغفلة و السّهو مع علم الفاعل بالحكم، فهي من الأمارات؛ نظراً إلى أنّ احتمال التعمّد خلاف ظاهر حال الفاعل، كما أنّ احتمال عروض الغفلة و السهو منافٍ لما ورد في باب قاعدة الفراغ من التعليل بالأذكريّة حين الفعل، حيث إنّ وروده في ذاك الباب

لايوجب إختصاصه به بعد كونه أمراً عاماً يعمّ العامل و الحامل الأوّل في قاعدة الفراغ و الثّاني فيما نحن بصدده. و أمّا إن كان منشأ الشكّ إحتمال جهل الفاعل بالحكم- بناءاً على شمول القاعدة له-، فلا محالة تكون أصلًا تعبّديّاً؛ لعدم وجود ملاك الأمارية فيها أصلًا، و قد اختار هذا المذهب المحقّق الإصفهاني قدس سره في تعليقاته على (الكفاية)، و انتصر له بما ذكر.

و أورد عليه المحقّق النّائيني في بعض كلماته في المقام بما حاصله: إنَّ غاية ما يستفاد من التّعليل بالأذكريّة- و كذلك ظهور حال المسلم- هو حمل فعله على

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 142

الصحّة عند فاعله، لا الصحّة الواقعيّة الّتي نحن بصددها؛ فإذن لا مجال لعدّ هذا الأصل من الأمارات المعتبرة بل لايكون إلّامن سنخ الأصول العمليّة.

أقول: لاطريق لنا إلى تحقيق حال هذه القاعدة من حيث كونها أمارة أو أصلًا من الأصول العمليّة إلّابمراجعة أدلّة حجّيتها و تنقيح مفادها، و حيث كان العمدة من بينها السّيرة المستمرّة بين العقلاء فلا بدّ من تحقيق حال هذه السّيرة و مبدئها، فنقول و منه عزّ شأنه التوفيق:

إن كان منشأ هذه السيرة الغلبة الخارجيّة فتكون القاعدة من الظّنون المعتبرة و الأمارات العقلائيّة لامحالة؛ و إن كان الوجه فيها إقتضاء طبع العمل لذلك، و أنّ الفاسد على خلاف طبعه؛ حيث إنّ الفاعل بحسب دواعيه الخارجية لايتوجّه إلّانحو العمل الصحيح عادة، فإنّه منبع الآثار و إليه يرغب الرّاغبون كما عرفت بيانه وافياً عند ذكر الأدلّة، فهذا أيضاً يقتضي كونها من الأمارات. الّلهمّ إلّاأن يقال: إنَّ مقتضاها هي الصحّة الفاعليّة لا الصحّة الواقعيّة؛ فإنّ الّذي يقتضيه طبع العمل بحسب دواعي العاملين هو الصحّة عندهم لا الصحّة الواقعيّة الّتي بنينا عليها

الأمر في هذه القاعدة، و من هنا يسري الإشكال إلى أساس هذا الوجه، و يسقط بناء هذه السّيرة على هذا الأساس.

ولكن يمكن دفع الإشكال بأنّ مخالفة إعتقاد الفاعل للحامل و إن لم يكن نادراً، إلّا أنّ الأغلب إتّفاقهما في موارد الإبتلاء كما هو ظاهر لمن تتبعها، فالوجه في استناد سيرة العقلاء إلى اقتضاء طبع العمل هو ملاحظة الغلبة بهذا النّحو.

و نظيره من بعض الجهات ما ورد في باب قاعدة الفراغ من التعليل بقوله: «هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشكّ»، فإنّ الفاعل إذا كان بحسب الغالب حال اشتغاله بالعمل أذكر فظاهر حاله أنّه يجري على وفق دواعيه إلى الفعل الصحيح لأنّه الّذي يوصله إلى أغراضه، و من البعيد إقدامه على فعل فاسد؛ فهو بحسب طبعه الأوّلي يتوجّه نحو العمل الصحيح، فالتعليل المذكور هناك يشبه ما أشرنا إليه هنا من اقتضاء طبع العمل للصحّة.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 143

و إن كان الوجه في استقرار السيرة على الحمل على الصحة لزوم الحرج و اختلال النّظام على تقدير عدم حمل فعل الغير عليها، فالظاهر كون القاعدة حينئذ من الأصول العمليّة التعبّديّة؛ لأنّ المفروض عدم ملاك الأمارية فيها على هذا التقدير، بل لايبنى عليها إلّالبعض مصالح المجتمع.

و حيث قد عرفت أنّ الأقوى من هذه الوجوه هو الوجه الثّاني، فالأقوى كونها من الأمارات. كما أنّه ظهر بما ذكرنا إندفاع ما أفاده المحقّق النّائيني في توجيه عدم كونها من الأمارات، من أنّ ظاهر حال الفاعل جريه على العمل الصحيح باعتقاده لا الصّحيح الواقعي الّذي هو المقصود في المقام؛ و ذلك لما أشرنا إليه من تطابق المعنيين في أغلب موارد الإبتلاء و إن كان إختلافهما أيضاً غير نادر في نفسه، فملاك الأمارية- و

هو الكشف الظنّي عن الواقع- موجود فيه.

كما ظهر ايضاً وجه اندفاع ما اختاره المحقّق الإصفهاني، من القول بالتّفصيل بين ما كان منشأ الشكّ فيه إحتمال التعمّد أو عروض الغفلة و السّهو مع العلم بالحكم، فهو من الإمارات؛ و بين ما إذا كان منشؤه إحتمال الجهل بالحكم، فهو من الأصول العمليّة؛ و ذلك لكفاية إيراثه الظنّ النّوعي و كونه كاشفاً ظنّياً بحسب أغلب موارده في كونه من الأمارات، و إن لم يورث الظنّ الشّخصي في بعض موارده لأمور عرضيّة.

و ما ذكره قدس سره من دعوى غلبة جهل الفاعلين بصحيح الأفعال و فاسدها ممنوعة.

ثمرة هذا النزاع:

قد يقال بظهور ثمرة النزاع بين كون هذا الأصل من الأمارات أو الأصول العمليّة في إثبات اللوازم العقليّة و العادية- كما هو الشّأن في غيره من موارد إختلاف الأمارات و الأصول-؛ و قد مثّل له بما لو شكّ في أنّ الشراء الصّادر من الغير كان بما لايملك- كالخمر و الخنزير-، أو بعين من أعيان ماله، فعلى القول بكونه من الأصول التعبّديّة يحكم بصحّة الشّراء و عدم إنتقال شي ء من تركة المشتري إلى البائع، و عدم خروج تلك العين من تركته، لأصالة عدمه؛ و أمّا على القول بكونه من الأمارات فيحكم بمقتضى قاعدة الصحّة بانتقال شي ء من تركته إلى البايع. هكذا أفاد

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 144

الشّيخ الأعظم قدس سره.

و حُكى عن العلّامة قدس سره في (القواعد) فيما لو اختلف الموجر و المستأجر، فقال الموجر: «آجرتك كل شهر بدرهم»، و قال المستأجر «بل سنة بدينار» أنّه: (في تقديم قول المستأجر نظر؛ فإن قدّمنا قول المالك فالأقوى صحّة العقد في الشّهر الأوّل هنا؛ و كذا الإشكال في تقديم قول المستأجر لو ادّعى أجرة مدّة معلومة أو

عوضاً معيناً، و أنكر المالك التعيين فيهما، و الأقوى التّقديم فيما لم يتضمّن دعوى) إنتهى.

و لايخفى أنّ ما قواه أخيراً من تقديم قول المستأجر المدّعي لصحّة الإجارة في المقامين إذا لم يتضمّن دعوى و عدم قبوله فيما يتضمّن ذلك، ظاهر في عدم إثبات القاعدة لما يترتّب على الصحّة من الّلوازم العقليّة؛ فإنّ الحكم بصحّة الإجارة في الفرض الأوّل لايقتضي شرعاً كونها سنة بدينار، بل هو من اللوازم العقليّة لمفروض البحث. كما أنّ الصحّة في الفرض الثّاني لاتقتضي وقوع الإجارة على مدة معيّنة أو عروض معين، و إنّما يلزمها ذلك لما علمناه من الخارج من كيفيّة مورد تنازعهما.

و التّحقيق- كما ذكرناه في محلّه- أنّ ما هو المعروف من أنَّ مجرّد كون شي ء من الأمارات المعتبرة يوجب ترتّب جميع الآثار الشّرعيّة الثابتة لمورده عليه- و لو كانت بوسائط عقليّة أو عاديّة- ممّا لا أصل له، و إن اشتهر بين الأصوليّين في العصور الأخيرة؛ بل الحق أنّ ذلك تابع لدليل حجّيتها بحسب اختلاف الغايات و المقامات- و المقامات في ذلك مختلفة جدّاً-، حتّى أنّ «البيّنة» الّتي لا إشكال عندهم في كونها من الأمارات الشرعيّة لايمكن الحكم بترتّب جيمع لوازمها العقليّة عليها، و إن صرّح به غير واحد.

فمثلًا لو علمنا من الخارج بأنّ هذا المائع المعلوم لو كان نجساً لكان خمراً ثمّ قامت البيّنة على نجاسته، فهل يحكم بكونه خمراً و يجري عليه جميع ما للخمر من الآثار؟ لانظنّ أحداً يلتزم به في عمله، و إن لهج به لسانه أحياناً عند البحث؛ و ليس ذلك إلّالأنَّ اعتبار هذه اللوازم مقصورٌ على ما يفهم من إطلاق أدلّة حجّيّتها.

فمفاد قاعدة «اليد» مثلًا- لو قلنا بحجّيتها من باب الأمارات- ليس إلّاإثبات

القواعد

الفقهية، ج 1، ص: 145

الملكيّة و أحكامها و لوازمها، و أمّا الأحكام الّتي تثبت لموردها لا من جهة الملكيّة فلا يمكن الحكم بثبوتها؛ فلو علمنا إجمالًا أنّ المائع الفلاني إمّا خمر أو ماء مطلق، ثمّ دلت اليد على أنّه مِلْكٌ، فلا يمكن الحكم بكونه ماءاً مطلقاً، بحيث يجري عليه أحكامه من الطّهارة الحدثية و الخبثية. و الحاصل أنّ مفاد قاعدة اليد ثبوت الملكية لصاحبها و يترتّب على موردها ما للملك من الأثر؛ و لايبعد إثبات بعض لوازمها، مثل الشّهادة الّتي نطق بها بعض الأخبار الدالّة على جواز الشّهادة على الملك بمجرّد اليد، ولكن لايترتّب عليه جميع ماله من اللوازم و الآثار العقليّة و العاديّة و إن كانت غير مرتبطة بعنوان الملكيّة.

و كذلك قاعدة «الفراغ» إن قلنا بأنّها من الأمارات؛ فإنّ غاية ما يستفاد منها صحّة العمل المفروغ عنه، و ترتّب آثاره عليه، من فراغ الذمّة و ما يترتّب عليه من الأحكام، لا كل ما يلازمه عقلًا و عادة و لو من جهات أُخر، مثل كون المصلّي على وضوء فعلًا لو كان منشأ الشكّ في صحّة الصّلاة الصادرة منه كونه على وضوء حالها؛ و لذا حكموا بوجوب تحصيل الطهارة عليه للأعمال المستقبلة.

و من هذا القبيل أصالة الصحّة في فعل الغير؛ فإنّ مفادها- و لو على القول بأماريتها- كون الفعل صحيحاً و يترتّب عليه جميع أحكام الصحّة و لو كانت بوسائط عقليّة أو عادية، و أمّا ما يترتّب على لوازمها و ملزوماتها من الأحكام الّتي لم يؤخذ في موضوعها الصحّة و الفساد، فلا يمكن إثباتها بهذه القاعدة. ففي الفرع الأوّل من الفرعين الّلذين سبق ذكرهما صحّةُ الشراء و إن كانت واقعاً مستلزمةً لإنتقال شي ء من تركة المشتري إلى

البائع، إلّاأن ذلك ليس من أحكام صحة الشراء بما هي هي؛ فإنّ أثرها هو إنتقال الثمن إلى البائع أيّاً ما كان، و أمّا أنَّ هذا الّثمن الشخصي كان عيناً من الأعيان المملوكة و أنّها كانت في أمواله الّتي تركها للورثة فهو شي ء آخر علمناه من الخارج، لا أنّه من آثار الصحّة و لو بالواسطة.

هذا بالنسبة إلى جريان أصالة الصحّة في هذا الفرع. و أمّا ما قد يقال من أنّا نعلم هنا إجمالًا بأنّ المشتري إمّا لم يملك المثمن، و إمّا انتقل شي ء من تركته إلى البائع،

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 146

فالحكم بملكيّته للمثمن و انتقال جميع تركته إلى الورّاث أمر مقطوع البطلان، فهو حقٌّ، ولكن لا دخل له بقاعدة الصحّة و أحكامها و إن كان دخيلًا في استنباط حكم هذه المسألة.

و من هنا يظهر الحال في الفرع الثّاني المحكي عن (القواعد)، و هو ما إذا اختلف المالك و المستأجر في المدّة أو العوض، فادّعى المستأجر مدّة معلومة أو عوضاً معيّناً، و أنكره المالك؛ فإنّ أصالة الصحّة تقتضي تقديم قول المستأجر، و عدم قبول قول المالك المدّعي للفساد إلّاببينة. و يترتّب على صحّة الإجارة ما لها من الأحكام و لو بوسائط عقليّة أو عادّية، و أمّا أنّه ما هي مدّة الإجارة و ما هو عوضها؟ فهذا أمر لايمكن إثباته بمجرّد الحكم بالصحّة، حتّى إذا علمنا من الخارج بأنّها لو كانت صحيحة لكانت على هذا العوض المعلوم أو بهذه المدّة المعلومة؛ فإنّ صحّة الإجارة من حيث هي لاتتوقّف على مدّة خاصة أو عوض كذلك، بل هي أعم منه. و لقد أجاد العلّامة قدس سره فيما أفاده أخيراً، من تقديم قول المستأجر فيما لم يتضمّن دعوى.

و أمّا حكم هذه

المسألة من حيث صحّة الإجارة في الشّهر الأوّل- إذا إختلفا و قال الموجر: آجرتك كلّ شهر بدرهم، و قال المستأجر: بل سنة بدينار-، أو عدم صحّتها، فله مقام آخر لادخل له بما نحن بصدده من فروع أصالة الصحّة، و موعدنا فيه كتاب الإجارة إن شاء اللّه تعالى.

التّنبيه السّابع: هل تقدم قاعدة الصحة على اصالة الفساد في المعاملات واصالة الاشتغال في العبادات؟

أمّا على المختار من حجّيتها على نحو سائر الأمارات المعتبرة فواضح؛ و أمّا على القول بكونها أصلًا عملياً، فللزوم لغويتها رأساً على تقدير عدم تقدّمها عليهما؛ فإنّه ما من مورد يجري فيه قاعدة الصحّة إلّاو هناك أصالة الفساد- إن كان معاملة- أو أصالة بقاء شغل الذمّة- إن كان عبادة-، كما هو ظاهر لايخفى.

مضافاً إلى ما قد يقال من أنّ أصالة الصحّة بالنسبة إليهما من قبيل الأصول

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 147

السببيّة فإنّ الشّكّ في بقاء شغل الذمة في العبادات، أو حصول آثار المعاملات من النّقل و الإنتقال و غيرها، مسبّب عن صحّة العمل العبادي أو العقد الصادر من عاقده.

هذا حالها بالنّسبة إلى أصالة الفساد.

و أمّا بالنسبة إلى الأصول الموضوعيّة الجاريّة في موارد قاعدة الصحّة، فلا إشكال في تقدّم القاعدة عليها أيضاً؛ أمّا بناءاً على كونها من الأمارات المعتبرة فظاهر؛ و أمّا بناء على عدّها من الأصول العمليّة، فلما عرفت في أصالة الفساد من لزوم اللغويّة، فإنّه قلّما يوجد مورد يجري في أصالة الصحّة إلّاو يوجد هناك أصول موضوعيّة على خلافها؛ مثلًا: إذا شكّ في صحّة العبادة من جهة الشكّ في الطهارة أو الإستقبال أو غيرها، فأصالة عدم هذه الأمور تدلّ على فسادها؛ كما أنّه إذا شكّ في صحّة عقد من العقود، من جهة الشك في معلوميّة العوضين أو الإنشاء الصحيح أو القدرة على التّسليم أو غير ذلك، فإصالة

عدم هذه الأمور تقتضي فساده؛ لأنّ علم المتعاقدين و قدرتهما و صدور الإنشاء الصحيح منهما كلّها أمور حادثة، مسبوقة بالعدم؛ فإذن لايبقى لأصالة الصحّة إلّاموارد طفيفة.

لايقال: إنَّ شرائط المتعاقدين أو العوضين ليست دائماً من الأمور الوجوديّة المسبوقة بالعدم؛ فإنّ منشأ الشكّ قد يكون من ناحية زوال قدرة المتعاقدين أو علمهما بعد القطع بوجوده، و مثل هذا كثير جدّاً؛ فإذن لايبقى مجال للقول بلزوم اللغويّة على فرض تقديم الأصول الموضوعيّة عليها.

لأنّا نقول: إنَّ ما لايكون مسبوقاً بالعدم فالغالب معلوميّة سبق وجوده، كما إذا شكّ في بقاء المتعاقدين أو العوضين على ما كانا عليه من شرائط الصحّة، و من الواضح أنَّ اعتبار أصالة الصحّة في هذه المقامات أيضاً لغوٌ؛ للإستغناء عنها بالأصول الوجوديّة الجارية فى مجراها، فتدبّر. و أمّا الموارد الّتي لايعلم حالها من الوجود و العدم فقليلة جداً، لايمكن تنزيل القاعدة عليها.

التنبيه الثّامن: في مستثنيّات هذه القاعدة

يستثنى من عموم قاعدة الصحّة صورتان:

الصورة الأولى: ما إذا كان العمل بحسب طبيعته مبنيّاً على الفساد، بحيث تكون الصحّة فيه أمراً إستثنائياً على خلاف طبعه، كبيع الوقف، فإنّه بمقتضى طبعه فاسد؛ لأنّه لايباع و لايورث، و إنّما يجوز بيعه لأمور خاصّة عارضة أحياناً تقتضي الجري على خلاف مقتضى طبيعته، كالخلف بين أربابه، و أدائه إلى الخراب، على ما فصلّوه في كتاب الوقف. و كذلك بيع العين المرهونة، فإنّ طبعه الأوّلي يقتضي الفساد، و صحّته إنّما تكون بإذنٍ ممن المرّتهنّ.

و أمثلته في أبواب العبادات أيضاً كثيرة، كالصّلاة في النجس المعلوم، فإنّها فاسدة إلّافي موارد الضرورة لبردٍ أو نحوه.

ففي هذه المقامات و أمثالها لو شكّ في صحّة العقد أو العبادة الصادرة من الغير لايجوز الحكم بصحّتها بمقتضى هذه القاعدة، بل لابدّ من إقامة دليل آخر عليها؛

و ذلك لما عرفت غير مرّة من أنّ عمدة أدلّتها هي السّيرة المستمرّة بين العقلاء، و هي غير جارية في هذه المقامات كما لايخفى على من تتّبع مواردها.

و للمحقّق اليزدي قدس سره في المجلّد الأوّل من (ملحقات العروة) كلام لايخلو إيراده عن الفائدة في المقام؛ و إليك نصّ عبارته، قال في المسألة «63» من كتاب الوقف:

«إذا باع الموقوف عليه أو النّاظر العين الموقوفة، و لم يعلم أنّ بيعه كان مع وجود المسوّغ أو لا، فالظاهر عدم جريان قاعدة الحمل على الصحّة، فلو لم يثبت المسوّغ يجوز للبطون اللاحقة الإنتزاع من يدي المشتري؛ فهو كما لو باع شخص مال غيره مع عدم كونه في يده و لم يعلم كونه وكيلًا عن ذلك الغير، فإنّه لايصحّ ترتيب أثر البيع عليه. و دعوى الموقوف عليه أو النّاظر وجود المسوّغ لاتكفي في الحكم بصحّة الشراء، و لايجوز مع عدم العلم به الشراء منهما.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 149

و دعوى الكفاية من حيث كونهما من ذي اليد الّذي قوله مسموع بالنسبة إلى ما في يده، و لذا إذا رأينا شيئاً في يد الدلال المدّعي للوكالة عن صاحبه في بيعه جاز لنا الشراء منه، مدفوعة بأنّ يد مدّعي الوكالة يد مستقلّة و أمارة على السلطنة على التّصرّف فيه، بخلاف يد الموقوف عليه مع اعترافه بأنّ ما في يده وقف، فإنّها ليست يداً مستقلّة؛ لأنّها في الحقيقة يد الوقف، المفروض عدم جواز بيعه. فيد الموقوف عليه و النّاظر إنّما تنفع في كيفيّة التصرّفات الّتي هي مقتضى الوقف، لا في مثل البيع الّذي هو مناف و مبطل له؛ فهي نظير يد الودعي الّتي لاتنفع إلّافي الحفظ لا في البيع، فإذا أدّعى الوكالة بعد هذا

في البيع إحتاج إلى الإثبات، و أنَّ يد الأمانة صارت يد وكالة، و إلّافالأصل بقاؤها على ما كانت عليه» «1» إنتهى.

أقول: أما ما أفاده- قدّس اللّه سرّه- من عدم جريان قاعدة الصحّة هنا فهو صحيح متين، و وجهه ما ذكرناه.

و أمّا عدم جواز الإعتماد على دعوى الموقوف عليه أو النّاظر وجود المسوّغ، من باب قبول دعوى صاحب اليد، ففيه: أنّ المتصدّي لبيع الوقف- على ما صرّح به في كتاب البيع- هو البطن الموجود من الموقوف عليهم بضميمة الحاكم ولاية عن سائر البطون، أو خصوص النّاظر عليه؛ قال شيخنا الأعظم في (المكاسب): «إنَّ المتولّي للبيع هو البطن الموجود بضميمة الحاكم القيّم من قبل سائر البطون، و يحتمل أن يكون هذا إلى النّاظر إن كان، لأنّه المنصوب لمعظم الأمور الرّاجعة إلى الوقف، إلّاأن يقال بعدم انصراف وظيفته المجعولة من قبل الواقف إلى التّصرّف في نفس العين» إنتهى.

و كيف كان، فالمتولّي لبيع الوقف إمّا هو الموقوف عليه مع الحاكم، أو النّاظر؛ فيدهما قبل عروض المسوّغات يد التّصرّف في منافع الوقف بصرفها في مصارفها، و في عينه بالإصلاح و التدبير، و أمّا بعد عروض المسوّغ فيدهما يد البيع و إبدال العين الموقوفة، أو صرف قيمتها في مصارف خاصّة؛ على تفصيلٍ ذكروه في أبواب

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 150

بيع الوقف.

و الحاصل أنّ الموقوف عليه و النّاظر تختلف يدهما باختلاف الظّروف، ففي ظرف عدم وجود المسوّغ يدهما ليست يداً مستقلّة؛ و أمّا في ظرف وجود المسوّغ فهي يد مستقلة يجوز لها البيع. و إن شئت قلت: إنَّ يدهما يد مستقلّة في كل حال، ولكن تصرّفاتهما في العين الموقوفة ببيعها مشروطة بشرائط معيّنة. و نظيره في ذلك يد الولى، فإنّها يد مستقلّة

في أموال المولّى عليه، ولكن تصرّفاته فيها منوطة بوجود المصلحة فيها، أو عدم المفسدة، على خلاف فيها.

و حينئذ، لايبعد جواز الركون إلى دعوى الموقوف عليه أو النّاظر وجود المسوّغ في بيعها، كما يجوز الإعتماد على دعوى الولي وجوده في بيع مال المولّى عليه بلا إشكال.

الّلهم إلّاأن يقال: إنّ وجود المسوّغ في بيع الوقف أمر نادر إتّفاقي، بخلاف وجود المصلحة في بيع مال المولّى عليه، فإنّه شائع ذائع، و هذا هو الفارق بين المقامين؛ فالمتولّي لبيع الوقف المدّعي لوجود المسوّغ متّهم في دعواه و إن كان ذا يدٍ بالنسبة إلى العين الموقوفة، فلا يسمع دعواه بخلاف الولي. و هو قريب جدّاً.

فهذا هو السرّ في عدم سماع دعوى الموقوف عليه أو النّاظر وجود المسوّغ في بيع العين الموقوفة لا ما ذكره قدس سره.

و أمّا ما أفاده من عدم سماع قول الودعي إذا ادّعى الوكالة في بيع الوديعة، و أنّه محتاج إلى إثبات إنقلاب يد الأمانة إلى يد الوكالة، فهو عجيب، فإنّه لاينبغي الشكّ في سماع دعواه؛ ضرورة أنّه إذا رأينا مالًا في يد زيد، ثمّ رأيناه بعد ذلك في يد عمرو و هو يدّعي الوكالة عن زيد في بيعه، فلا شكّ في قبول دعواه فيه؛ فهل يد الودعي هنا أسوأ حالًا من عدم اليد على المال بالمرّة؟

و بالجملة إنقلاب اليد أمر شائع يقبل قول مدّعيه إذا لم يكن متهماً؛ مثلًا: إذا ادّعى أحدٌ الوكالة عن غيره في بيع ماله، ثمّ ادّعي بعد يوم أنّه اشتراه بنفسه من مالكه أو وهبه إيّاه، فلا شكّ في قبول قوله، و انقلاب يد الوكالة إلى يد الملك. و كذا

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 151

إذا رأينا أحداً يسكن داراً يدّعي أنّه استأجرها، ثمّ

رأيناه يدّعي أنّه اشتراها من مالكها و لم يكن متّهماً، فلا ريب في قبول قوله، و انقلاب يد الإجارة إلى يد الملك. و أمثلته كثيرة جداً.

الصورة الثّانية: إذا كان الفاعل متّهماً في فعله، فإنّه يشكل حمل فعله على الصحيح؛ و المراد من الإتّهام وجود قرائن ظنيّة خارجيّة توجب الظنّ بالفساد عادة لمن اطّلع عليها، لا كل ظنّ شخصي من أي وادٍ حصل.

و ذلك كما إذا ادّعى من كان وكيلًا في شراء أموال كثيرة تحتاج إلى الكيل أو الوزن أنّه اشتراها مراعياً لجميع شروط الصحّة فيها من الكيل و الوزن اللازمين و غيرهما، في وقت لايسعه عادة، فإنّه و إن كانت مراعاة تلك الشّروط ممكنة في حدّ ذاتها على خلاف العادة إلّا أنّ العادة تقضي بخلافها؛ و هذه قرينة ظنّية توجب سوء الظنّ بدعواه، و اتّهامه فيما يقول لغالب النّاس. و كذا إذا ادّعى الأجير في الصلاة و غيرها أنّه أتى بصلوات كثيرة، مراعياً لجميع أجزائها و شرائطها من الطّهارة و الموالاة و غيرهما في وقت لا يسعها عادة، إلى غير ذلك من الأمثلة.

و الرّكون إلى القاعدة في تصحيح هذه الأفعال عند الشكّ في صحّتها مشكل جدّاً.

و الوجه فيه ما عرفت نظيره في الصّورة السابقة من قصور أدلّة حجّيتها- و عمدتها السّيرة المستمرة بين العقلاء- عن شمول هذه الموارد كما هو ظاهر لمن تتبعها. و لا أقلّ من الشكّ، و هو كافٍ في الحكم بعدمها في أمثال المقام.

هذا، و يمكن القول برجوع الصورة الأولى إليها أيضاً؛ فإنّ بيع الوقف بدعوى وجود المسوّغ و أمثاله من مظانّ التهمة غالباً، و يكون مدّعيه متّهماً فيما يدعيه، فتدبّر.

التّنبيه التاسع: هل تجري القاعدة في أفعال المكلّف نفسه؟

ظاهر كثير من عناوين كلمات القوم إختصاص قاعدة الصحّة بأفعال الغير،

بل ظاهر بعضها إختصاصها بأفعال المسلمين فحسب. لكن قد عرفت في صدر البحث

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 152

أنّه لافرق في هذا بين المسلم و غيره أصلًا، بعد ما كان مدركه بناء العقلاء عليه، و سيرتهم المستمرّة في أمورهم، لايفرّقون في ذلك بين أتباع المذاهب المختلفة، و لابين المليين و غيرهم؛ و قد أمضاها- على هذا الوجه- الشّارع المقدّس و لم يردع عنها، و لايزال المسلمون يتعاملون مع المعاملات الصادرة عن أهل الذمّة معاملة الصّحيح، مع ما فيها من احتمال الفساد و لو على مذهبهم، و ليس هذا إلّالعموميّة القاعدة، و عدم اختصاصها بالمسلمين.

نعم في الموارد الّتي لايتمشي الفعل الصحيح من غير المسلم، أو يعلم علماً تفصيليّاً بإختلاف عقديتهم مع ما عليه المسلمون من الأحكام، و لايكون بينهما جامع، لايمكن حمل فعلهم على الصحيح. و قد عرفت في التّنبيه الأوّل جريان هذا المعنى في حقّ المسلمين أيضاً، إذا اختلفوا في الآراء الفقهيّة، و لم يجمعهم جامع، على ما فصّلناه هناك فراجع؛ فليس هذا أيضاً مقصوراً على غير المسلمين.

و أمّا تخصيص القاعدة بأفعال الغير فهو ظاهر عناوينهم و كلماتهم في مقامات مختلفة، بل و ظاهر غير واحد من أدلّتهم- كالآيات و الأخبار الّتي استدلّوا بها هنا-، بل وقع التّصريح به في كلمات بعضهم كالمحقّق النّائيني قدس سره، حيث إنّه صرّح في صدر كلامه في المسألة بأنّه: «لاريب في اختصاصها بفعل الغير، و أمّا بالنسبة إلى فعل نفس الشّخص فالمتبع فيه هو قاعدة الفراغ، فليس هناك أصل آخر يسمّى بأصالة الصحّة غير تلك القاعدة» إنتهى.

و الحقّ أنّه لو قلنا بعموم قاعدة الفراغ و شمولها لجميع الأفعال من العبادات و غيرها، من غير فرق بين الصّلاة و الصّيام و

البيع و الشّراء و النّكاح و العتق و تطهير الثياب و دفن الموتى إلى غيرها من الأفعال الّتي يتصوّر فيها الصحّة و الفساد، فلا يبقى مجال للنّزاع في شمول هذه القاعدة لأفعال نفس المكلّف، للإستغناء عنها بقاعدة الفراغ؛ و أمّا إذا قلنا باختصاصها بالعبادات و ما يرتبط بها، فالظاهر جواز الإستناد إلى قاعدة الصحّة في موارد الشكّ في صحّة أفعال النّفس، من ناحية الإخلال ببعض أجزائها و شرائطها، أو وجود بعض موانعها.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 153

و الدليل على جريانها في المقام هو الدليل على جريانها في غير المقام- من أفعال الغير-، و قد عرفت أنّ عمدة الدليل عليها هناك هي السّيرة المستمرّة بين العقلاء؛ فإنّا إذا تتبعنا حالهم نجدهم عاملين بها في أفعال أنفسهم، فهل ترى أحداً من العقلاء يتوقّف عن الحكم بآثار ما صدرت منه من العقود و الإيقاعات في الأزمنة السّالفة إذا شكّ في صحّتها من بعض الجهات و لم يجد عليها دليلًا؟ كلا، بل لايزالون يتعاملون مع ما صدر منهم في الأزمنة البعيدة و القريبة معاملة الصحّة و يرتّبون آثارها عليها، و لايمسكون عن ذلك بمجرّد الشكّ، و لايمنعهم عن ذلك شي ء إلّاإذا وجدوا على الفساد دليلًا.

و السرّ فيه أنّ العلّة الّتي دعتهم إلى هذه السّيرة هناك موجودة بعينها هنا، و كل ما كان ملاكاً لها في أفعال الغير موجود في أفعال النّفس؛ و ذلك لما عرفت من أنّ العلّة الباعثة إلى هذا البناء لاتخلو عن أمور ثلاثة: الغلبة الخارجيّة المورثة للظنّ، و إقتضاء طبع العمل للصحّة من جهة جري الفاعل بحسب دواعيه الخارجيّة نحو الفعل الصحيح، و العسر و الحرج أو اختلال النّظام الحاصلان من ترك مراعاة هذه القاعدة. و من الواضح

أنَّ هذه الأمور جارية بالنسبة إلى أفعال النّفس كجريانها في ناحية أفعال الغير، بل لعلّ جريانها هنا أسهل منه في أفعال الغير؛ فإنّ الإشكال الحاصل من جهة إختلاف الصحّة عند الفاعل مع الصحّة عند العامل هناك، غير موجود هنا، لأنّ الحامل هنا هو الفاعل بعينه.

التّنبيه العاشر: أصالة الصحّة في الأقوال و الإعتقادات

هل القاعدة مختصّة بالأفعال الصادرة من الغير، أو تشمل أقواله و اعتقاداته أيضاً؟

الحق أنّه إن كان المراد من الصحّة في باب الأقوال مطابقة مداليلها للواقع، فحملها على الصحّة بهذا المعنى عبارة أخرى عن حجّيتها، و المتكفّل له مبحث حجّية خبر الواحد؛ و من المعلوم عدم حجّية خبر كل مخبر، بل هو مشروط بشرائط

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 154

مذكورة في محلّه، على اختلاف المذاهب في ذلك.

و إن كان المراد صحّتها بما أنّها أفعال صادرة عن المتكلّمين بها، و كان لها آثار شرعيّة بهذا الإعتبار، كما إذا شكّ في صحّة القراءة و الأذكار الصلواتيّة الصادرة من الإمام أو الأجير، فإنّها و إن كانت من سنخ الأقوال و لها معان معلومة، إلّاأنّها باعتبار ألفاظها الصادرة عن المكلّف جزء للصلاة، فهي من هذه الجهة فعل من أفعاله يترتّب على صحيحها آثار خاصّة؛ فإذا كان هذا هو المراد فلاشكّ في أنّها بهذا الإعتبار مشمولة لأدلة حجّية القاعدة، فتجري فيها و يترتّب عليها آثارها. هذا ملخّص الكلام في «الأقوال».

و أمّا «الإعتقادات» فتارة يكون البحث فيها عن الإعتقادات المتعلّقة بالموضوعات الخارجيّة، و أخرى بما يتعلّق بالأحكام الفرعيّة، و ثالثة بما يتعلّق بأصول الدّين.

أمّا الأوّل، فكما إذا اعتقد إنسان أنّ هذا الماء الخاصّ بلغ قدر كر، و شككنا في صحّة إعتقاده ذلك، لاحتمال خطئه عند تقديره بالأشبار أو الوزن؛ فإن كان لاعتقاده ذلك آثار عمليّة خارجيّة، كما إذا غسل

ثوباً بذاك الماء المشكوك كريّته عندنا، فلا ينبغي الإشكال في لزوم حمل إعتقاده على الصحّة، و ترتيب آثار الطهارة على الثوب المغسول به، بل هو في الحقيقة من مصاديق حمل فعل الغير على الصحّة، و إن كان منشأ الشكّ في صحّته هو احتمال خطئه في إعتقاده؛ ففي المثال المذكور فعل الغير- و هو الغسل- محمول على الغسل الصحيح، و إن كان منشأ الشكّ فيه الشكّ في صحّة إعتقاده كون الماء المغسول به كرّاً.

و من المعلوم أنّ أدلّة حمل أفعال الغير على الصحيح مطلقة من جهة منشأ الشكّ، و لا فرق فيه بين كونه من جهة احتمال غفلة الفاعل و سهوه، أو تعمدّه في الجري على خلاف معتقده، أو اعتقاد فاسد بنى عليه في عمله. و هذا أمر ظاهر لاسترة عليه.

و أمّا الثّاني- و هو الإعتقاد المتعلّق بالأحكام الفرعيّة- فإن كان المراد من حمله على الصحّة الحكم بمطابقته للواقع، فيجوز اتّباعه و الجري على وفّقه، فهو راجع إلى

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 155

حجّية رأي الغير و جواز تقليده في الأحكام الفرعيّة، و المتّبع فيه أدلّة حجيّة قول المجتهد للعامي بما له من الشّرائط و القيود. و إن كان المراد منه ترتيب آثاره العمليّة عليه إذا عمل بما اعتقد من الأحكام، كما إذا كان إماماً و شكّ في صحّة صلاته، و كان منشأ الشكّ فيها إحتمال خطئه في بعض أحكامها و مخالفتها لما حصّله إجتهاداً أو تقليداً، فلا شكّ أنّ اللازم هنا أيضاً هو حمل إعتقاده على الصّحيح، و تترتّب عليه هذه الآثار، فيجوز الائتمام به، كما يجوز إستيجاره، و يُكتفى بأعماله في أداء الواجبات الكفائيّة؛ بل هو في الواقع من باب حمل فعل الغير على الصحّة،

و إن كان منشأ الشكّ فيها خطؤه في إعتقاده. و الوجه فيه ما عرفت من عدم الفرق في حجّيّة هذه القاعدة بين كون منشأ الشكّ في صحّة فعل الغير، خطؤه في تشخيص المصاديق الخارجيّة؛ أو خطؤه في إستنباط الأحكام من أدلّتها الشّرعيّة، أو غير ذلك ممّا لايرجع إلى خطئه في الإعتقاد.

و أمّا الثّالث- أعني الإعتقاد المتعلّق بأصول الدّين- فإن كان هناك أثر عملي يترتّب على الإعتقاد الصحيح، كما إذا كان هناك ذبيحة نشك في تذكيتها من جهة الشكّ في صحّة عقائد ذابحها، فاللازم حمل إعتقاده على الصحّة إن كان مدّعياً للإسلام إجمالًا، و ترتيب جميع آثار الإسلام عليه و إن شكّ في صحّة عقائده، و لايجب الفحص عن تفاصيل معتقده في ناحية المبدأ و المعاد و غيرهما. و الدّليل عليه ما مرّ فى القسم السّابق بعينه، من إطلاق أدلّة حجّيّة هذه القاعدة، و شمولها لجميع موارد الشكّ في صحّة فعل الغير من أي وادٍ حصل، و من أيّ منشأ نشأ.

بل لايبعد جواز الحكم بإسلام كلّ من شكّ في إسلامه و إن لم يدّع الإسلام إذا كان في دار الإيمان، و الوجه فيه إستقرار سيرة المسلمين على إجراء أحكام الإسلام، في المناكح و الذبائح و الطهارة و غيرها، على كلّ من كان في بلاد الإسلام من دون فحص عن مذهبه، حتّى يقوم دليل على فساده.

هذا آخر ما أردنا تحريره من تنبيهات هذه القاعدة الشريفة، النافعة في جلّ

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 156

أبواب الفقه أو كلّها، و لم نعتمد فيها الإجمال كما صنعه كثير منهم، و به نختم البحث عنها حامداً للّه و مسلّماً و مصليًّا على نبيّه و آله الخيرة الكرام. الّلهمّ ما بنا من نعمة

فمنك، فلا تسلبنا صالح ما أنعمت به عليها وزدنا من فضلك و مواهبك.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 157

3 قاعدة لا حرج

اشارة

إشتهر بين الأصحاب- لاسيّما المتأخّرين منهم- الإستدلال بهذه القاعدة في كثير من الموارد، لنفي كثير من التكاليف الّتي تستلزم العسر و الحرج؛ و يترائى هذا منهم في غير واحد من أبواب العبادات، مثل أبواب الوضوء، و الغسل، و التيمّم، و الصّلاة، و الصّيام و غيرها، و لم أرَ من تعرّض لها مستقلّاً و أفرد لها بحثاً يختصّ بها غير العلّامة النراقي في عوائده، حيث أفرد لها «عائدة» و بحث عنها بحثاً بين الإجمال و التّفصيل.

ولكن موقف القاعدة من الفقه و شدّة إبتلاء الفقيه بها في كثير من أبوابه توجب البحث عنها و عن مداركها و فروعها في جميع جوانبها و نواحيها، بما يعطي الفقيه بصيرة و معرفة بحال الفروع الكثيرة المبنّية عليها. و قد بلغ عدم الإعتناء بشأن هذه القاعدة المهمّة و ما يليق بها من البحث حدّاً أوجب التّرديد في أصلها فضلًا عن الفروع المتفرّعة عليها؛ و قد رأيت من ينكر وجود مدرك صحيح للقاعدة فيما بأيدينا من الأدلّة، مع ما ستعرف من وفور مداركها و كثرة أدلّتها.

و لهذا و لغيره من المزايا الّتي تشتمل عليها هذه القاعدة- و لاسيّما سعة دائرتها و شمولها لجلّ أبواب الفقه كما ستعرف- كان اللازم تقديم البحث عنها على غيرها من القواعد الّتي نبحث عنها فيما يلي إن شاء اللّه، فنقول- و منه سبحانه نستمد التوفيق و الهداية-: إنّ البحث عنها يقع في مقامات ثلاث:

الأوّل: في مداركها الّتي ظفرنا بها.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 160

الثّاني: في مفادها و مغزاها و نسبتها مع غيرها من الأدلّة.

الثّالث: فيما يتعلّق بها من التّنبيهات.

و قبل الشروع

في هذه الأمور لابدّ لنا من إيضاح محل البحث و ما نروم إثباته.

الحرج على أنواع:

إنّ العسر و الحرج في الأفعال يكون على أقسام؛ فتارة يبلغ حدّاً لايطيق المكلّف تحمله؛ و أخرى يكون ما دون ذلك، ولكن تحمّله يوجب إختلال النّظام؛ و ثالثة لا يبلغ ذا و لا ذاك، ولكن يستلزم الضّرر في الأموال أو الأنفس أو الأعراض؛ و رابعة لايوجب شيئاً من ذلك بل يكون فيه مجرّد المشقّة و الضّيق.

أمّا الأوّل- أعني التكاليف الحرجيّة البالغة حدّاً ما لايطاق- فلا إشكال في خروجه عن محل البحث، و قد عقدوا له بحثاً آخر في الكتب الكلاميّة و بعض الكتب الأصوليّة، و اختلفوا في جوازه و استحالته، بعد اتّفاقهم على عدم وقوعه في الشريعة الغرّاء؛ ولكن الظّاهر أنَّ القول بجوازه و إمكانه من الفروع الفاسدة المنشعبة عن شجرة خبيثة، و هي إنكار الحسن و القبح العقليين المعروف بين قدماء الأشاعرة. و على كل حال، فهو خارج عن نطاق البحث هنا.

و من هنا تعرف النّظر في كثير من كلمات العلّامة النّراقي قدس سره في عوائده، حيث ذكر كثيراً من الأدلّة النقليّة و العقليّة الدالّة على بطلان التكليف بما لايطاق في عداد أدلّة القاعدة، و إن اعترف بأنّها تختصّ بقسم خاص من الحرجيات و أنّها أخصّ من المدّعى و لاتقوم بإثبات جميعها. ولكن الإنصاف أنّها خارجة رأساً عن حيطة القاعدة المعروفة المتداولة بين القوم، بل لايعبّرون بالحرج إلّاعن التكاليف الممكنة المشتملة على الضيق و الشدّة، و أمّا التكاليف غير المقدورة فيعبّرون عنها بما لايطاق، و لا كلام لأحد من أصحابنا في بطلانها.

و أمّا الثّاني فهو أيضاً كسابقه خارجٌ عن محلّ الكلام في هذه القاعدة المشهورة، لانصراف كلماتهم و عبائرهم عنه، لأنّ

قبح التكاليف الموجبة لاختلال النّظام ممّا

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 161

لايحتاج إلى مؤنة الإستدلال، بل هو أمر واضح ظاهر؛ بداهة أنّ الشّارع المقدّس لم يُرد بتشريع أحكام الدّين و نُظُمه إبطال نظام المجتمع و تعطيل مسيرته، بل المقصد الأقصى من إثبات كثير من تكاليفه ليس إلّاحفظ هذا النّظام على الوجه الأحسن، و تحكيم قواعده على نهج صحيح يشتمل على منافع دينيّة و دنيويّة للنّاس، كأحكام الدّيات و القصاص الّتي فيها حياة لأولي الألباب، و كثير من أحكام المعاملات و غيرها، فكيف يكلّف النّاس بأمور توجب إختلالًا في هذا النّظام؟

و أمّا الثّالث فهو داخل في قاعدة لاضرر، و خارج عن نطاق هذه القاعدة، و إن أمكن الإستدلال بكليّهما في كثير من موارد الضرر لبعض ما يترتّب على كلّ منهما من الخصوصيّة.

فتحصّل من جميع ذلك أنّ مركز البحث في قاعدة لاحرج هو القسم الرّابع من الأقسام المتقدّمة، و هو الأفعال الحرجيّة غير البالغة حدّ ما لايطاق، و غير الموجبة لاختلال النّظام، و لا ما يتضمّن ضرراً في الأموال و الأنفس؛ و منه يظهر حال الأدلّة الّتي يستند إليها في إثبات القاعدة، و ما يكون مرتبطاً بمحلّ البحث، و ما هو خارج عن محل الكلام.

و إذا اتضح ذلك فإننا نشرع- بحول اللّه و قوّته- بذكر ما ظفرنا به من مدارك لهذه القاعدة.

المقام الاول: مدارك قاعدة لاحرج
اشارة

استدلّ لها بالأدلّة الأربعة؛ ولكن الإنصاف أنّه لامجال فيها للأدلّة العقليّة و لا الإجماع، بعد ما عرفت من اختصاص محل البحث بالتّكاليف الحرجيّة الّتي لاتبلغ حدّ ما لايطاق، و لا حدّ إختلال النّظام، و لاتوجب ضرراً على الأموال و الأنفس.

أمّا العقل فلأنَّه لا مانع عقلًا من تشريع الأحكام الحرجيّة و الإلزام بالأمور العسرة الشديدة، و الشاهد له

وجود تكاليف حرجيّة في الشرعيّات و العرفيات ثابتة بأدلّتها، كما سيأتي الإشارة إليه في التنبيهات الآتية إن شاء اللّه. و إلزام الموالي العرفيين

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 162

عبيدهم بل إلتزام كثير من النّاس من قبل أنفسهم بأمور عسرة حرجيّة لما يرقبون فيها من المنافع الدنيويّة أمر شائع ذائع؛ و سيأتي أنّ مثل هذه التكاليف كانت كثيرة في الأمم الماضية و إن صارت قليلة في هذه الأمّة المرحومة.

و أمّا الإجماع فلأنَّ دعواه على القاعدة بجميع نواحيها مشكل جداً بعد عدم تعرّض الأكثر لها بعنوان كلّي عام، و إنّما تعرّض لها من تعرّض في موارد خاصّة؛ و أمّا دعواه في خصوص بعض الموارد كالوضوء و الغسل الحرجيين و إن كان بمكان من الإمكان إلّاأنّه لاينفع في إثبات القاعدة، بل لايتمّ على مباني القوم حتّى في موارده الخاصّة؛ لاختصاص حجّية الإجماع عندهم بمسائل لا دلالة عليها من الكتاب و السنّة ممّا يصحّ إستناد المجمعين إليه في إثبات المسألة، و المقام من هذا القبيل، لما ستعرف من الأدلّة النقليّة الكثيرة الدالّة عليها، الّتي يعلم أو يظنّ إستناد المجمعين إليها في إثبات القاعدة.

فإذن العمدة من بين الأدلّة هنا هي الكتاب و السنة.

ما يدلّ عليها من الكتاب العزيز:

و استدلّ لها بآيات منه:

منها: قوله تعالى: «وَ جَاهِدُواْ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبيكُمْ إِبْرَاهِيمَ» «1»

و هي من أقوى الأدلّة عليها، و إليها استند في أخبار كثيرة لنفي تكاليف حرجيّة في الشّريعة المقدّسة، تارة بعنوان الحكمة لتشريع بعض الأحكام، و أخرى بعنوان العلّة لها بما سيأتي نقله؛ و معها لايبقي ريب في دلالتها على المطلوب؛ بل لاينبغي الرّيب فيها مع غضّ النّظر عن هذه الأخبار الكثيرة أيضاً،

لتماميّة دلالتها في حدّ ذاتها.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 163

و المراد من «المجاهدة» فيها هي المجاهدة في امتثال الواجبات و ترك المحرّمات- كما اختاره اكثر المفسّرين-. و حقّ الجهاد إمّا هو الإخلاص في هذه المجاهدة العظيمة- كما يحكى عن أكثر المفسّرين-، أو الإطاعة الخالية عن المعصية- كما يحكى عن بعضهم-؛ و لعلّ الجميع يرجع إلى معنى واحد، و هو المجاهدة البالغة حدّ الكمال الخالية عن شوائب النّقصان.

و معنى الآية- و اللّه أعلم- أنّه لاعذر لأحد في ترك المجاهدة في امتثال أوامر اللّه تعالى و اجتناب نواهيه بعد ما كانت الشّريعة سمحة سهلة و ليس في أحكام الدّين أمر حرجي يشكل إمتثاله، فكأنّه يقول: كيف لاتجاهدون في اللّه حقّ جهاده و قد اجتباكم من بين الأمم و لم يجعل عليكم في الشّريعة و أحكامها أمراً حرجياً؟

و منها: قوله تعالى: «و إِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنِ الْغَآئِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيْكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» «1»

و في دلالتها على المقصود تأمّل، فإنَّ المستفاد من صدرها و ذيلها أنّ الأمر بالغسل و الوضوء عند وجدان الماء، و التيمّم عند فقدانه، إنّما هو لمصلحة تطهير النّفوس، أو هي و الأبدان، من الأقذار الباطنة و الظاهرة؛ فلا يريد اللّه تعالى بتشريع هذه التّكاليف إلقاء النّاس في مشقّة و ضيق بلا فائدة فيها، بل إنّما يريد تطهيرهم بها؛ فالمراد من الحرج هنا ليس مطلق المشقّة، بل المشاق الخالية عن الفائدة و المصالح العالية الّتي يرغب فيها لتحصيلها.

و الشاهد على ذلك كلمة «لكن» الإستداركية في

قوله: «وَلَكِنْ لِيُطَهِّرَكُمْ» بعد قوله:

«مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ حَرَجٍ»، و إن هو إلّانظير قول القائل: «إشتر لي طعاماً من ذاك المكان البعيد، ما أريد لأجعلك بذلك في كلفة و مشقّة و إنّما أريد تحصيل

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 164

الطعام الطيّب»؛ فالمراد من الحرج هنا المشاق الّتي لاطائل تحتها، و لافائدة مهمّة فيها تجبر كلفتها، فلا يمكن التمسّك بها لإثبات هذه القاعدة الكلّية كما هو ظاهر.

و إن شئت قلت: المقصود إثبات قاعدة كلّية دافعة للتكاليف الحرجيّة، يمكن الّتمسّك بها في قبال العمومات المثبتة للتكاليف حتّى في موارد العسر و الحرج، نظير إطلاقات وجوب الوضوء و الغسل الشاملة لموارد الحرج. و من الواضح أنّ إطلاقات الأدلّة الأوّلية كما تدل على ثبوت الحكم حتّى في موارد العسر و الحرج كذلك تدلّ على وجود مصالح في مواردها أو في نفس تلك الأحكام بالملازمة القطعيّة، و حينئذ لايمكن نفي هذه التكليف في موارد الحرج بالآية الشريفة، بناءاً على ما عرفت من ظهورها في نفي المشقة الخالية عن فائدة جابرة لها.

و منها: قوله تعالى: «وَ مَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَ لَايُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ...». «1»

و غاية ما يمكن أن يقال في تقريب دلالتها على المدّعى هو أنّ الظاهر من قوله تعالى: «يُرِيدُ اللَّهَ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لَايُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» بعد نفي وجوب الصّيام عن طائفتين، المسافرين و المرضى، أنّه بمنزلة التّعليل لهذا الحكم، فيكون كسائر الكبريات الكليّة الّتي يستدلّ بها لإثبات أحكام خاصّة، ولكن مفادها عام شامل لمورد الإستدلال و غيره؛ فتدلّ هذه الفقرة على نفي جميع الأحكام العسرة و الحرجيّة، فتأمّل.

و منها: قوله تعالى: «رَبَّنَا وَ لَاتَحْمِلْ عَلَيْنَا

إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا ...» «2»

وجه الإستدلال بها أن نبينا الأعظم صلى الله عليه و آله سأل ربّه ليلة المعراج أموراً حكاها اللّه تعالى في هذه الآية الشريفة، و منها رفع الإصر عن أمّته؛ و كرامته صلى الله عليه و آله على ربّه و مقامه عنده تعالى يقتضي إجابة هذه الدّعوة و إعطاءه ذلك، و يشهد لهذه الإجابة

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 165

نقلها في القرآن العظيم و الإهتمام بأمرها، فلولا إجابته له لم يناسب نقلها في كتابه في مقام الإمتنان على هذه الأمّة المرحومة، و هو ظاهر.

و حيث أنّ الإصر في اللّغة- كما سيأتي عند تحقيق معنى العسر و الحرج و الإصر- بمعني النّقل، أو الحبس، أو الشّدائد، كانت الآية دليلًا على نفي التّكاليف الحرجيّة عن هذه الأمّة.

هذا كلّه مع قطع النّظر عن الرّوايات الواردة في تفسيرها، و أمّا بالنّظر إليها فالأمر أوضح جدّاً، فقد وقع التّصريح في غير واحد منها بأنّه تعالى أجاب رسوله و أعطاه ذلك و رفع عن أمّته صلى الله عليه و آله الآصار؛ و قد ذكر في بعض هذه الأخبار موارد كثيرة من هذه الآصار الّتي كانت في الأمم الماضية و رفعها اللّه عن هذه الأمّة، رحمة لها و إكراماً لنبيه الأعظم، و سيأتي نقل نماذج من هذه الأخبار عند ذكر الرّوايات الدالّة على القاعدة.

و قد ظهر من جميع ما ذكرنا في بيان الآيات الّتي يمكن التمسّك بها في إثبات هذه القاعدة أنّ أظهرها دلالة على المطلوب هي الآية الأولى، المستدلّ بها في كثير من الأخبار الواردة في المسألة، الّتي يظهر من مجموعها أنَّ للآية خصوصيّة في هذا الباب، و إن كانت بقيّة الآيات أيضاً لاتخلو عن دلالة

أو تأييد للمدّعى؛ ففي مجموعها غنى و كفاية، و إن لم تبلغ في الظهور و قوّة الدلالة مرتبة الروايات التّالية.

ما يدلّ عليها من السّنة:

و أمّا ما يمكن الإستدلال به على هذه القاعدة من السنّة فهي أخبار كثيرة، بين صريح في المدّعى، و ظاهر فيه، و قابل للنّقض و الإبرام. و إليك ما ظفرنا به و ما يمكن أن يقال في و جه دلالتها:

1- ما رواه الشّيخ بإسناده عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبداللّه عليه السلام: إنّا (نسافر، فربّما بلينا بالغدير من المطر يكون إلى جانب القرية، فتكون فيه العذرة، و يبول فيه

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 166

الصبي، و تبول فيه الدابّة، و تروث؟ فقال: إن عرض في قلبك شى ء فقل هكذا، يعني أفرج الماء بيدك، ثمّ توضأ، فإنّ الدّين ليس بمضيّق؛ فإنّ اللّه يقول: «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»). «1»

و ظاهرها أنّ الحكمة في عدم انفعال الماء الكر- بناءاً على أنّ مثل هذا الغدير الّذي وقع السؤال عنه في الرواية كرٌ غالباً كما هو الظّاهر- هي التوسعة على الأمّة، و رفع الضّيق و الحرج عنها؛ و منه يستفاد أنَّ كل ما يكون حرجيّاً و ضيّقاً على النّاس فهو مرفوع عنهم، و يؤكّد هذ التّعميم إستدلاله عليه السلام بقوله تعالى: «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ».

و الإستناد إلى هذه القاعدة في إثبات حكم عدم إنفعال الكر و إن كان من قبيل حكمة الحكم لا العلّة- كما هو كذلك في غير واحد من الرّوايات الآتية أيضاً-، إلّاأنّ مجرّد ذلك غير ضائر؛ لأنّه لا مانع من كون قضيّة واحدة بعينها حكمة لحكم و علّة لحكم آخر، و قد حققنا ذلك في مبحث قاعدة لاضرر، و أثبتنا ضعف

ما قد يلوح من بعض كلمات المحقّق النّائيني قدّس اللّه سرّه من عدم إمكان كون قضيّة واحدة حكمة لحكم في مقام و علّة لحكم آخر في مقام آخر، فراجع.

2- ما رواه في الكافي عن الفضيل بن يسار عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: (في الرّجل الجنب يغتسل فينتضح من الماء في الإناء؟ فقال: لابأس، «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ».»

و سؤال الرواي فيها يحتمل وجهين:

أحدهما: أن يكون من جهة الإغتسال بغسالة الحدث الأكبر، فإنّه إذا اغتسل من الإناء و انتضح من غسالته فيه إمتزج ماء الإناء به، و قد لايكون ذلك بمقدار يستهلك فيه، فيكون باقي الغسل بغسالة الحدث الأكبر؛ فتكون الرّواية دليلًا على جواز الإغتسال به في مقام الضرورة، أو مطلقاً، بناءاً على إلغاء خصوصيّة المورد.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 167

ثانيهما: أن يكون من جهة إنفعال الماء القليل، لأنّ الجنب لايخلو عن نجاسة بدنيّة غالباً؛ فتكون الرّواية فى الروايات الدالة على عدم إنفعال الماء القليل، و تنسلك في سلكها؛ كما استدلّ به بعض القائلين بعدم الإنفعال على مذهبه.

هذا، ولكن إجمالها من هذه النّاحية لايضرّ بدلالتها على ما نحن بصدده، لأنّ استناده عليه السلام في إثبات هذا الحكم بقاعدة رفع الحرج يدلّ على اعتبارها على نحو عام في جميع المقامات كما هو ظاهر. و في كون إستناده إليها في هذا المقام من قبيل الإستناد إلى الحكمة أو العلّة إحتمالان، يظهر وجههما لمن تدبّر.

و ممّا يستفاد من الرّواية أنّ الحرج المرفوع عن الأمّة أمر وسيع يشمل مثل الإجتناب عن هذا الإناء؛ فإنّ الإجتناب عن مثله في تلك الأوساط- ممّا كانت المياه فيه قليلة- و إن كان عسراً إلّاأنّه لم يكن في الإجتناب عنه مشقّة عظيمة؛ وليكن هذا على

ذكر منك.

3- ما رواه شيخ الطائفة قدس سره بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: (سألته عن الجنب يحمل يجعل الركوة أو التّور «1» فيدخل أصبعه فيه؟ قال: إن كانت يده قذرة فأهرقه (فليهرقه)، و إن كان لم يصبها قذر فليغتسل منه؛ هذا ممّا قال اللّه تعالى «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»). «2»

ذكره العلّامة المجلسي قدس سره في باب ما يمكن أن يستنبط منه متفرقات أصول مسائل الفقه. «3»

أقول: لعلّ وجه إستناده عليه السلام إلى قاعدة نفي الحرج لجواز الإغتسال من الماء القليل الّذي أدخل أصبعه فيه و لو لم يصبها قذر، هو نفي النّجاسة المتوهّمة في بدن الجنب أجمع بما أنّه جنب، و لو لم تصبها نجاسة عينية، فإنّه لاشكّ في لزوم العسر و الحرج منه لو كان الأمر كذلك.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 168

و يمكن أن يكون ناظراً إلى نفي الحكم الإستحبابي بالإجتناب عن القذارات العرفيّة لا الشّرعيّة، الموجودة في اليد غالباً، أو النّجاسات الشّرعيّة المشكوكة الّتي لايجب الإجتناب عنها، و لذا ورد في كثير من الرّوايات الواردة في كيفيّة إغتسال الجنب الأمر بغسل الكفين أوّلًا قبل الشّروع في الغسل «1». فالإستناد ألى آية نفي الحرج إنّما هو لنفي هذا الحكم الإستحبابي بالنّسبة إلى مثل هذا الشّخص، فتدبّر.

هذا، ولكنّ إبهام الرّواية من هذه النّاحية أيضاً لا يقدح في الإستدلال بها على المقصود، بعد استناده عليه السلام بالآية الشريفة لجواز الإغتسال من مثل هذه الإناء. ثمّ لايخفى أنّ الرّواية كسابقتها في احتمال كون الإستناد فيها إلى القاعدة من قبيل الإستناد إلى علّة الحكم أو حكمته.

4- ما رواه محمّد بن يعقوب بإسناده عن محمّد بن ميسّر قال: (سألت أبا عبداللّه عليه

السلام عن الرّجل الجنب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق، و يريد أن يغتسل منه، و ليس معه إناء يغرف به و يداه قذرتان؟ قال: يضع يده، ثمّ يتوضأ، ثمّ يغتسل، هذا ممّا قال اللّه عزّ و جلّ: «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»). «2»

و القذارة هنا إن كانت بمعنى النجاسة كانت الرّواية من أدلّة عدم انفعال الماء القليل- كما استدلّ بها القائلون بهذا القول-، و إن كانت قذارة عرفيّة- كما هو المحتمل على القول بانفعال الماء القليل- كانت الرّواية ناظرة إلى نفي حكم إستحبابي، و هو غسل اليدين خارج الإناء قبل الإغتراف منه في مورد الرواية و أشباهه؛ و هذا الحكم الإستحبابي إمّا يكون رعاية للتنزه عن القذارات العرفيّة، أو اجتناباً عن القذارات الشرعيّة المحتملة الّتي لايجب الإجتناب عنها في فرض الشكّ، كما عرفت آنفاً. و على كل تقدير، تكون الرّواية من أدلّة القاعدة؛ فإنّ إبهامها من حيث موردها لايضرّ بالقاعدة المستدلّ بها فيها.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 169

5- ما رواه شيخ الطائفة المحقّة بإسناده إلى عبد الأعلى مولى آل سام قال: (قلت لأبي عبداللّه عليه السلام: عثرت فانقطع ظفري، فجعلت على أصبعي مرارة، فكيف أصنع بالوضوء؟ قال: يعرف هذا و أشباهه من كتاب اللّه عزّ و جلّ، قال اللّه تعالى: «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» إمسح عليه). «1»

و هي من أظهر الروايات دلالة على المطلوب، لصراحتها في إرجاع حكم المسألة إلى كتاب اللّه عزّ و جلّ، و أمره عليه السلام باستفادة أشباه موردها من قوله تعالى: «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» فلو كان في الأحاديث السّابقة شائبة الإشكال من جهة احتمال كون نفي الحرج فيها من قبيل الحكمة للحكم

لا العلّة- و قد عرفت أنّ الإشكال فيها من هذه النّاحية أيضاً لا وجه له-، فإنّه يرتفع بصراحة هذا الحديث في كون نفي الحرج علّة للحكم، بحيث يدور مدارها، و يجوز التّعدّي من موردها إلى غيره.

نعم، يبقى فيها إشكالات من جهات أخر لابدّ من التّعرّض لها و بيان ما يمكن أن يقال في حلّها:

الإشكال الأوّل: في كيفيّة إستفادة وجوب المسح على المرارة من قوله تعالى: «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» فإنّ نفي الحرج إنما ينفي وجوب الوضوء عليه على نحو وضوء المختار، و أمّا وجوب المسح على الجبيرة فلا.

و يمكن الجواب عنه بوجهين: أحدهما: ما أفاده شيخنا العلّامة الأنصاري (قدّس سرّه الشّريف) و حاصله: إنّ المسح الواجب في الوضوء يشتمل على أمرين: إمرار اليد على المحلّ، و مباشرتها للبشرة؛ و المتعسّر في مفروض سؤال الراوي هو الثّاني- أعني مباشرة اليد للبشرة- لا إمرار اليد على المحلّ، فسقوط الثّاني بالحرج لايوجب سقوط الوظيفة الأولى. «2»

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 170

و يرد عليه أنّ إرجاع حكم المسح إلى هذين الحكمين و الحكم بانحلاله اليهما ممّا لايساعد عليه فهم العرف في أمثال المقام؛ فإنّ الظّاهر بنظر العرف أنّ إمرار اليد على المحلّ إنّما هو مقدّمة لحصول المسح على البشرة، لا أنّه أمر مطلوب في نفسه، فوجوبه من هذه الجهة من قبيل وجوب المقدّمة، و من المعلوم سقوطه عند سقوط وجوب ذيها؛ و يشهد له ما ورد في باب حرمة المسح على الخفّين و ذم القائلين به من قوله عليه السلام: (إذا كان يوم القيامة و ردَّ اللّه كلّ شي ء إلى شيئه و ردَّ الجلد إلى الغنم فترى أصحاب المسح أين يذهب وضؤهم؟!) «1» فإنّ ظاهره أنّ المسح على

الخفّين كالعدم، لا أنّه مشتمل لجزء من وظيفة المسح و فاقد للجزء الآخر، فتأمّل.

ثانيهما: أن يكون مراده عليه السلام من التمسّك بالآية الشريفة نفي وجوب المسح الواجب على المختار، و أمّا بدليّة المسح على المرارة فهو أمر آخر مستفاد من قاعدة الميسور المركوزة في الأذهان، لاسيّما في أبواب الوضوء و الصّلاة، كما لايخفى على من راجع أحكام الشّرع فيها. هذا، و لو بقي في الرّواية إبهام من هذه النّاحية لم يقدح في الإستدلال بها على المطلوب، فتدّبر.

الإشكال الثّاني: في أمره عليه السلام بالمسح على الجبيرة مع عدم انقطاع إلّاظفر واحد و كفاية المسح على غيره من الأظفار الباقية- بناءاً على كفاية المسح و لو على أصبع واحد أو أقلّ منه-.

و يمكن الذب عنه بأنّ الأمر بالمسح عليها للعمل باستحباب المسح بجميع الكفّ على ظهر القدم أجمع؛ أو أنّ الظفر الساقط لعلّه كان من أظفار يده لوقوعه على الأرض بعد عثره، و هو و إن كان بعيداً عن مساق السؤال إلّاأنّه ليس فيها ما ينافيه صريحاً، كما لايخفى على من راجعها و تأمّل فيها حقّه، و من المعلوم أنّ الواجب في غسل اليد غسلها بتمامها.

الإشكال الثّالث: في سنده، لضعفه بعبد الأعلى مولى آل سام؛ فإنّه و إن كان يظهر

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 171

من بعض القرائن المذكورة فى الكتب الرّجاليّة إمامياً ممدوخاً إلّاأنّه لم يثبت وثاقته، و مجرّد ذلك لايكفي في الإعتماد على روايته.

و يمكن دفعه بكفاية كون مثل «إبن محبوب» في سلسلة السند، فإنّه رواه عن علي بن الحسن بن رباط، الّذي قيل في حقّه أنّه ثقة لاغمز فيه، عن عبد الأعلى، عن الصّادق عليه السلام؛ و ابن محبوب من أصحاب الأجماع، و يجب تصحيح ما

يصحّ عنه.

ولكن لنا في هذا- أعني تصحيح ما يصحّ عن أصحاب الإجماع، و الإكتفاء بصحّة السند إليهم، و عدم ملاحظة من بعدهم- كلام و إشكال و إن كان من المشهورات، فربّ مشهور لا أصل له، و ليس المقام مقام بسط الكلام فيه، و لعلّنا نشير إليه في بعض المباحث الآتية لمناسبات تأتي إن شاء اللّه.

6- ما رواه الصدوق بإسناده عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام، في حديثٍ في تفسير آية الوضوء، قال: (فلمّا أن وضع الوضوء عمّن لم يجد الماء أثبت بعض الغسل مسحاً، لأنّه قال: «بِوجُوهِكُمْ» ثمّ وصل بها «وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ» أي من ذلك التيمّم، لأنّه علم أنّ ذلك أجمع لم يجر على الوجه؛ لأنّه يعلق من ذلك الصعيد ببعض الكفّ و لايعلق ببعضها، ثمّ قال:

«مَايُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ» و الحرج: الضيق). «1»

و الإنصاف أنّه لايستفاد من الرّواية أمر زائد على ما يستفاد من نفس الآية الشريفة، و قد عرفت عند ذكر آيات الكتاب المستدلّ بها على القاعدة أنّ لنا في دلالة هذه الآية عليها تأمّلًا و إشكالًا؛ لأنّ الظاهر من مقابلة نفي إرادة الحرج بإثبات إرادة التّطهير بقوله تعالى: «مَايُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُريدُ لِيُطَهَّرَكُمْ» أنّ المراد بالحرج هنا هو العمل الشاقّ الخالي عن فائدة مرغوبة، و إلّافمجرّد إرادة التطهير من الوضوء و الغسل و التيمّم الّذي بدل عنهما لايرفع مشقّة الفعل لو كان شاقاً و حرجيّاً في نفسه، فلا معنى لنفي إرادة الحرج و إثبات إرادة التطهير، لأنّ حالها من حيث العسر و الضّيق و المشقة لا تتفاوت بإرادة غاية الطّهارة منها و عدمها.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 172

7- ما رواه عبداللّه بن جعفر الحميري في (قرب

الأسناد) عن مسعدة بن صدقة قال: (حدّثني جعفر، عن أبيه، عن النّبي صلى الله عليه و آله قال: ممّا أعطى اللّه أمّتي و فضّلهم على سائر الأمم، أعطاهم ثلاث خصال لم يعطها إلّانبي (نبيا)، و ذلك أنّ اللّه تبارك و تعالى كان إذا بعث نبياً قال له: إجتهد في دينك و لاحرج عليك، و إنّ اللّه تبارك و تعالى أعطى ذلك أمّتي حيث يقول: «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» يقول: من ضيّق. الحديث «1».

و ظاهر هذا الحديث أنّ رفع الحرج الّذي مَنَّ اللّه به على هذه الأمّة المرحومة كان في الأمم الماضيّة خاصّ بالأنبياء، و أنّ اللّه أعطى هذه الأمّة ما لم يعطها إلّا الأنبياء الماضين (صلوات اللّه عليهم) فلا ينافي ما دلَّ على اختصاص رفع الحرج بهذه الأمّة، فتأمّل.

8- ما رواه العلّامة المجلسي قدّس سرّه من كتاب «عاصم بن حميد» عن محمد بن مسلم قال: (سألت أباجعفر عليه السلام عن قول اللّه عزّ و جلّ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونْ، وَ جَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» فقال: في الصّلاة و الزّكاة و الصّيام و الخير أن تفعلوه). «2»

ذكره العلّامة المجلسي في باب «ما يمكن أن يستنبط من الآيات و الأخبار من متفرّقات أصول مسائل الفقه» و قال في ذيله: الظاهر أنَّ الغرض تعميم نفي الحرج.

و الظاهر أنَّ مراده: أنّ نفي الحرج لايختصّ بعبادة من العبادات، بل يشمل جميعها، و جميع الطاعات و الخيرات الّتي يفعلها الإنسان، فلم يجعل الشّارع فيها أمراً حرجياً؛ فلو كان إطلاقه أدلة العبادات يشمل موارد الحرج لابدّ من تخصيصها بغيرها.

القواعد

الفقهية، ج 1، ص: 173

9- ما رواه الشّيخ بإسناده عن احمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي قال: (سألته عن الرّجل يأتي السوق فيشتري جبة فرا، لايدري أذكيّة هي أم غير ذكيّة، أيصلّي فيها؟ فقال: نعم، ليس عليكم المسألة، إنّ أباجعفر عليه السلام كان يقول: إنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهالتهم، إنّ الدّين أوسع من ذلك). «1»

دلّ على أنّ الحكمة في حلية ما يشترى من سوق المسلمين هي التوسعة على الأمّة و رفع الضيق عنها؛ و قوله: (إنّ الدّين أوسع من ذلك) دليل على عدم اختصاص هذا الحكم بهذا المورد، و أنّ الدّين وسيع في جميع نواحيه، و ليس فيه حكم حرجي، و التّضييق فيها إنّما ينشأ من الجهالة، كما نشأ للخوارج المتقشّفين الضّالين. و هذه الرّواية و إن خلت عن عموم «نفي الحرج» بهذا العنوان، إلّاأنّها مشتملة على معناه، و هو نفي الضيق و إثبات التوسعة في أحكام الدّين، كما سيأتي شرحه في باب معنى الحرج لغة و عرفاً.

10- ما رواه الصّدوق مرسلًا قال: (سئل علي عليه السلام أيتوضأ من فضل وضوء جماعة المسلمين أحبّ إليك أو يتوضّأ من ركو أبيض مخمر؟ فقال: لا، بل من فضل وضوء جماعة المسلمين، فإنّ أحب دينكم إلى اللّه الحنيفية السمحة السهلة). «2»

قال في (المجمع): ( «الركوة المخمر» أي المغطى)، و يستفاد من جوابه عليه السلام تفضيله الوضوء من فضل وضوء جماعة المسلمين على الوضوء من الإناء المغطّى، و استناده في هذا الحكم إلى سهولة الشريعة دليل على أنّ الأحكام الحرجيّة المعسورة ليست منها، و لا أقلّ من كونه مؤيّداً لسائر أخبار الباب.

11- ما رواه الطّبرسي في الإحتجاج مرسلًا عن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عن علي عليه

السلام في حديث طويل يذكر فيه مناقب رسول اللّه صلى الله عليه و آله و ما سأل ربّه ليلة المعراج؛ و فيه أنّه صلى الله عليه و آله قال: (الّلهمّ إذا أعطيتني ذلك [يعنى به رفع المؤاخذة على

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 174

الخطأ و النّسيان فزدني، فقال اللّه تعالى: سل؛ قال: «رَبَّنَا وَ لَا تَحْمِلْ عَلَيْنآ إصْرَاً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا» يعني بالأصر الشدائد الّتي كانت على من كان من قبلنا؛ فأجابه اللّه إلى ذلك، فقال تبارك اسمه: قد رفعت عن أمّتك الآصار الّتي كانت على الأمم السّابقة، كنت لا أقبل صلاتهم إلّافي بقاعٍ من الأرض معلومة، إخترتها لهم و إن بعدت، و قد جعلت الأرض كلّها لأمّتك مسجداً و طهوراً، فهذه من الآصار الّتي كانت على الأمم قبلك فرفعتها عن أمّتك؛ و كانت الأمم السّالفة إذا أصابهم أذى من نجاسة قرضوها من أجسادهم «1» و قد جعلت الماء لأمتك طهوراً؛ فهذه من الآصار الّتي كانت عليهم فرفعتها عن أمّتك،- إلى أن قال:- و كانت الأمم السّالفة صلواتها مفروضة عليها في ظلم اللّيل و أنصاف النّهار، و هي من الشّدائد الّتي كانت عليهم فرفعتها عن أمّتك، و فرضت عليهم صلاتهم في أطراف اللّيل و النّهار، و في أوقات نشاطهم ...) و الحديث طويل.

و رواه العلّامة المجلسي قدس سره في (بحار الأنوار) في باب إحتجاجات أميرالمؤمنين عليه السلام.

و رواه أيضاً المحدّث النبيل السيّد هاشم البحراني في تفسيره المسمّى بالبرهان في ذيل قوله تعالى: «آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيهِ مِنْ رَبِّهِ» الآية.

12- ما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره عن أبيه، عن إبن أبي عمير، عن هشام، عن أبي عبداللّه عليه السلام في تفسير

قوله تعالى: «رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَسِينَآ ...» أنّ هذه الآية مشافهة اللّه لنبيه صلى الله عليه و آله ليلة أُسري به إلى السّماء، قال النّبي صلى اللّه عليه و آله: لمّا انتهيت إلى محل سدرة المنتهى- إلى أن قال- فقلت: «رَبَّنَا لَاتُؤَاخِذْنَا إن نَسِينَا أَوْ

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 175

اخْطَأْنَا» فقال اللّه: لا أؤاخذك، فقلت: «رَبَّنَا وَ لَاتَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا» فقال اللّه: لا أحملك، فقلت: «رَبَّنَا وَ لَاتُحَمِّلْنَا مَا لَاطَاقَةَ لَنَا بِهْ وَاعْفُ عَنَّا وَ اغْفِرْ لَنَا وَ ارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَومِ الْكَافِرِينَ» فقال اللّه: قد أعطيتك ذلك لك و لأمتك، فقال الصّادق عليه السلام ما وفد إلى اللّه تعالى أحدٌ أكرم من رسول اللّه صلى الله عليه و آله حيث سأل لأمّته هذه الخصال. «1»

و في معناها أو ما يقرب منها روايات أُخر واردة في تفسير الآية الشريفة، من أرادها فليراجعها.

13- ما رواه في (أصول الكافي) بإسناده عن حمزة بن الطيّار، عن أبى عبداللّه عليه السلام قال: قال لي: أُكتب، فأملى عليَّ: إنّ من قولنا أنّ اللّه يحتج على العباد بما آتاهم و عرّفهم، ثمّ أرسل إليهم رسولًا، و أنزل عليهم الكتاب، فأمر فيه و نهى، و أمر بالصّلاة و الصّيام، فنام رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن الصّلاة، فقال: أنّا أنيمك و أنا أوقظك، فإذا قمت فصلِّ ليعلموا إذا أصابهم ذلك كيف يصنعون؛ ليس كما يقولون: إذا نام عنها هلك؛ و كذلك الصّيام، أنا أمرضك و أنا أصحك، فإذا شفيتك فاقضه، ثمّ قال أبو عبداللّه: و كذلك إذا نظرت في جميع الأشياء لم تجد أحداً في ضيق- إلى أن قال- و قال: و

ما أمروا إلّا بدون سعتهم، و كلّ شي ء أُمِرَ النّاس به فهم يسعون له، و كلّ شي ء لايسعون له فهو موضوع عنهم، ولكنَّ النّاس لا خير فيهم؛ ثمّ تلا عليه السلام «لَيْسَ عَلَى الْضُعَفَاءِ وَ لَا عَلَى الْمَرْضَى وَ لَا عَلَى الَّذِينَ لَايَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٍ ...» الحديث «2».

و ظاهر بعض فقرات ذيل الحديث و إن كان نفي التكليف بما لا يطاق إلّاأنّ ملاحظة مجموعها لاسيّما قوله، «لم تجد أحداً في ضيق»، و استشهاده بالآية الأخيرة، تشهد بأنّها ناظرة إلى نفي التّكاليف الحرجيّة أيضاً.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 176

14- الرّواية المشهورة المعروفة المرويّة عنه (صلّى اللّه عليه و آله): (بُعِثت بالحنيفيّة السمحة السهلة).

هذا ما ظفرنا عليه من الرّوايات الدالّة على هذه القاعدة الكلّية، و في دلالة بعضها كسند بعضها الآخر و إن كان هناك تأمّل أو إشكال، إلّاأنّ في مجموعها غنى و كفاية إن شاء اللّه.

و نحن و إن بذلنا الجهد في الظّفر بهذه الرّوايات و تتبّع مظانّها و مواردها، إلّاأنّ المتتبّع لعلّه يظفر بروايات أُخر غيرها تؤكّدها أو تؤيّدها. و في الرّوايات الواردة في الباب الأوّل من المجلّد الأوّل من الوسائل في مقدّمة العبادات أيضاً روايات لا تخلو عن إشعار بها، يظهر لمن راجعها، ولكن هناك بعض الرّوايات تبدو في أوّل النّظر أنّها تدلّ على المطلوب، ولكن عند التأمّل يظهر أنّها ناظرة إلى نفي التّكليف بما لا يطاق الّذي هو خارج عن نطاق البحث، فكن على بصيرة منها.

المقام الثّاني: في مفاد القاعدة
المراد من العسر و الحرج و الإصر:

أمّا الحرج: فالّذي يظهر من تتبّع كلمات أئمّة اللّغة و موارد استعمالاته و غير واحد من الرّوايات السّابقة المفسّرة له أنّه في الأصل بمعنى «الضّيق».

قال في (القاموس): مكان حرج أي ضيّق. و فسّره بالإثم أيضاً.

و قال في

(النّهاية): الحرج في الأصل الضيق، و يقع على الإثم و الحرام و قيل:

الحرج أضيق الضيق.

و قال في (المجمع): «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» أي من ضيق- إلى أن قال:- و في كلام الشّيخ علي بن إبراهيم: الحرج: الّذي لامدخل له، و الضيق: ما يكون له مدخل، و الحرج: الإثم.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 177

و في رواية زرارة عن أبي جعفر عليه السلام- و هي الرّواية السادسة ممّا ذكرنا-، و رواية (قرب الأسناد) عن الصّادق عليه السلام- و هي الرّواية السابعة ممّا ذكرنا- تفسير الحرج صريحاً بالضّيق؛ و قوله عليه السلام في رواية أبي بصير- و هي الرّواية الأولى ممّا ذكرنا-: (إنّ الدّين ليس بمضيّق، فإنّ اللّه يقول: «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ») ظاهر في هذا المعنى أيضاً؛ فالمستفاد من هذه الرّوايات الثلاث تفسير الحرج بالضّيق.

و قد استعمل «الحرج» في الكتاب العزيز في معان ثلاثة:

الأوّل: «الضّيق»، قال اللّه تعالى: «فَمَنْ يُرِدِ اللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحَ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً». «1»

و قال تعالى: «كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ». «2»

و قال تعالى: «ثُمَّ لَايَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً». «3»

فإنّ ظاهر سياق هذه الآيات يشهد بأنّ المراد من الحرج فيها هو الضّيق.

الثّاني: «الإثم»، كقوله تعالى: «لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَ لَا عَلَى المَرْضَى وَ لَا عَلَى الَّذِينَ لَايَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ». «4»

و قوله تعالى: «لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَ لَا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لَا عَلَى المَرِيضِ حَرَجٌ». «5»

و قوله تعالى: «مَا كَانَ عَلَى النَّبِيّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ». «6»

فإنّ الحرج في هذه الموارد استعمل

بمعنى الإثم.

الثّالث: «الكلفة»، كقوله تعالى: «وَ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ». «7»

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 178

و قوله تعالى: «مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ». «1»

ولكن الإنصاف أنّ جميع هذه المعاني راجعة إلى معناه الأصلي، و هو «الضّيق»، و أمّا الإثم و الكلفة، و كذا كثرة الشّجر- كما في قول القاموس: «مكان حرج أي الكثير الشّجر»- فهي من مصاديق الضّيق؛ فإنّ الإثم يوجب ضيقاً على صاحبه فى الآخرة، بل و في الدّنيا، فقوله تعالى: «لِيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ ....» كأنّه بمعنى قولنا: ليس على هذه الطوائف ضيق و محدوديّة في الدّنيا من جهة بعض أفعالهم، فهم مرخّصون فيها، بل و لا ضيق في الآخرة من جهة العذاب و غيره. و هكذا كثرة الشّجر توجب ضيقاً في المكان.

و ما ذكرنا هو الّذي يساعد عليه النّظر الدقيق بعد ملاحظة موارد الإستعمالات هذه الكلمة.

ولكن الّذي يظهر ممّا حكاه إبن الأثير في كلامه بقوله: و قيل: «إنّه أضيق الضّيق»، و كذا ما حكاه في (المجمع) عن علي بن إبراهيم من أنّ «الحرج ما لامدخل له، و الضّيق ما له مدخل»، أنّ الحرج ليس مطلق الضّيق، بل هو ضيق خاصّ عبر عنه في (النّهاية) بأضيق الضيق، يعني به الضّيق الشديد، و في كلام علي بن إبراهيم بما لا مدخل له، و كأنّ مراده أيضاً هو الضّيق الّذي بلغ حداً لا مخلص منه و لا مندوحة له.

و التّحقيق، عدم اعتبار شي ء من الخصوصيتين فيه، لخلّو كلمات أئمّة اللّغة منها، حتّى أنّ إبن الأثير نفسه أسنده إلى قيل مشعراً بضعفه، و الأحاديث المرويّة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام المفسّرة له أيضاً خالية عن القيدين، مضافاً إلى

عدم انطباقه بهذا المعنى على موارد كثير من الرّوايات السّابقة، حيث استدلّ فيها بقوله تعالى: «وَ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» لِأمور لاتكون من أضيق الضّيق، و لا ممّا لا مدخل له، فراجع و تأمّل. و أمّا ما حكاه في (المجمع) عن علي بن إبراهيم فلا حجّة فيه.

و أمّا العسر: ففي (النّهاية) أنّه ضدّ اليسر، و هو الضّيق و الشدّة و الصعوبة.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 179

و في (القاموس): العسر بالضمّ و بضمّتين و بالتّحريك ضد اليسر، و تعسّر على الأمر و تعاسر و استعسر: إشتدّ و التوى، و يومٌ عسر و عسير و أعسر: شديد أو شؤم.

و قريب منه ما ذكره غيرهما.

و أمّا الإصر: ففي (القاموس) الإصر بالكسر العهد و الذّنب و الثّقل.

و عن (النّهاية): الإصر الإثم و العقوبة، و أصله من الضيق و الحبس، يقال: أصره يأصره إذا حبسه و ضيّقه.

و عن (الصحاح) أصره حبسه، و أصرت الشي ء أصراً كسرته، و الإصر العهد و الإصر الذنب و الثّقل. و يقرب منه غيره.

و في (المفردات) للراغب الأصفهانى: الإصر عَقْدُ الشّي ء وَ حَبْسُه بِقَهْرِه، ... و المأْصِرْ مَحْبَسُ السّفينة، قال تعالى: «وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ» أيّ الأمور الّتي تثبطهم و تقيّدهم عن الخيرات و عن الوصول إلى الثّوابات، و على ذلك «وَ لَاتَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصراً» و قيل: ثِقلًا، و تحقيقه ما ذكرت؛ و الإصر العهد المؤكّد الّذي يُنَبِّطُ ناقِضَه عن الثّواب و الخيرات؛ قال تعالى: «أَأَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِى»، الإصار: الُطُنب و الأوتاد الّتي بها يُعْمَدُ البيت. «1» إنتهى ملخّصاً.

و في (مجمع البحرين): أصل الإصر الضّيق و الحبس، يقال: أصره يأصره إذا ضيّق عليه و حبسه، و يقال للثّقل إصراً لأنّه يأصر

صاحبه من الحركة لثقله، و قوله تعالى «يَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ» هو مَثَلٌ لِثْقل تكليفهم.

و المتحصّل من جميع ذلك أنّ الإصر في الأصل هو الحبس و الضّيق، و إنّما يستعمل بمعنى العهد و الإثم و العقوبة لمناسبات فيها مع هذا المعنى، و تفسيره في بعض الأخبار السّابقة- الحديث (11) ممّا ذكرنا- بالشدائد أيضاً مأخوذ من هذا المعنى. إذن فالإصر و الحرج بمعنى واحد، أو أنّهما متقار بالمعنى.

تنبيه:

قد ظهر ممّا ذكرنا في معنى «العسر» و «الحرج» أنّهما لايفترقان فرقاً جوهرياً، فهل هما بمعنى واحد، أو أنَّ الأوّل أعم من الثّاني؟ ذهب المحقّق النّراقي قدس سره في عوائده إلى الأخير حيث قال:

«العسر كما أشرنا إليه أعمّ مطلقاً من الضّيق، فإنّ كلّ ضيق عسر و لا عكس، فإنّ من حمل عبده على شرب دواء كريه في يوم مثلًا يقال: إنّه يعسر عليه، و لايقال: إنّه في ضيّق، أو ضيّق عليه مولاه؛ و كذا من يكون منتهى طاقته حمل مئة رطل، إذا أُمر بحمل تسعين مثلًا و نقله إلى فرسخ يقال: إنّه يعسر عليه، ولكن لايقال: إنّه في الضّيق، نعم لو أُمر بحمله و نقله كل يوم يقال: إنّه ضيّق عليه، و كذا يصحّ أن يقال: إنّ التوضؤ بالماء البارد في يوم شديد البرد ممّا يعسر، ولكن لايقال: إنّ المكلّف في ضيق من ذلك» «1» إنتهى موضع الحاجة من كلامه.

و يظهر من كلامه هذا أنّ الحرج لايدور مدار صعوبة العمل فحسب- و إن بلغ من الصعوبة ما بلغ-، بل يعتبر فيه مضافاً إلى ذلك نوع تضيّق آخر على المكلّف، فمثل الوضوء أو الغسل مرّة واحدة بالماء البارد شديد البرودة في أشدّ أيّام الشتاء و إن كان صعباً جدّاً، لكنه

ليس حرجياً؛ لأنّه ليس فيه ضيق على المكلّف عنده. نعم، لو كرّر هذا العمل أيّاماً كان ضيقاً و حرجاً.

و أنت خبير بأنّ هذا المعنى مضافاً إلى كونه مخالفاً لفهم الأصحاب المستدلّين بنفي الحرج في مقامات كثيرة لنفي ما فيه مجرّد الصعوبة من التّكاليف من دون اعتبار أمر زائد عليه، مثل الضّيق الحاصل من تكرار العمل، مخالف أيضاً لاستدلالات الأئمّة عليهم السلام بالآية الشريفة في مقامات ليس فيها أمر زائد على ما فيها من الصّعوبة و المشقّة و العسر، فراجع الأحاديث السّابقة تجد فيها شواهد مختلفة لهذا المعنى.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 181

و الحقّ، أنّ الحرج في الأصل و إن كان بمعنى الضّيق إلّاأنّ الضّيق المعتبر في الأمور الحرجيّة ليس أمراً وراء صعوبة العمل و شدّته و المشقّة الحاصلة منه، فإنّ العمل إذا كان صعباً و عسراً كان المكلّف منه في ضيق، بخلاف ما إذا كان سهلًا و يسراً.

و ما ذكره قدس سره من الأمثلة شاهداً على ما ادّعاه قابل للمنع و الإنكار، فإنّ من حمل عبده على شرب دواء كريه غاية الكراهة و لو مرّة واحدة يقال: إنّ هذا العمل حرج عليه، و ليس ذلك إلّالأنّه يقع منه في ضيق. و إن كان هذا الضيق في آنات خاصّة؛ و كذلك الحال في سائر الأمثلة.

و الحاصل أنّ المعتبر في معنى الحرج وجود نوع ضيق و محدوديّة فيه، و لو كان هذا الضّيق حاصلًا من صعوبة العمل و تعسّره، و لايعتبر فيه مداومته في يوم أو أيّام عديدة و تكراره؛ و يزيدك هذا وضوحاً ملاحظةُ ما ذكرناه في معنى هذه الكلمة، و موارد استعمالها من الكتاب و السنّة و غيرهما، فراجع و تأمّل.

نعم هنا إشكال، و هو أنّه

لو كان المراد من الحرج المنفي في هذه القاعدة مجرّد الضّيق و الصعوبة في قبال السّعة و السّهولة- على ما هو الظّاهر من معناه لغة و عرفاً- يلزم نفي كل تكليف يشتمل على أدنى مراتب الصعوبة و المشقّة، و هذا يوجب رفع اليد عن كثير من التّكاليف الشّرعيّة، كالصّيام في أيّام الصيف لكثير من النّاس، و الوضوء في ليالي الشّتاء بالمياه الباردة، و غير ذلك من أشباهه، بل جلّ التّكاليف يشتمل على نوع مشقّة في كثير من الأوقات و الحالات؛ و هذا ممّا لايتفوّه به فقيه، و لو بني عليه حصل منه فقه جديد.

و هذا يكشف عن أنّ معناه اللّغوي و العرفي و إن كان وسيعاً في نفسه، إلّاأنّ المراد منه هنا مرتبة خاصّة، لامطلق الصعوبة و المشقّة و الضّيق، ولكن أيّ مرتبة منه؟ و ما حدّها؟ و ما الدّليل على تعيين حدّ خاصّ بعينه؟ هذه أسئلة أشكلت أجوبتها على غير واحد من الأكابر على ما يظهر من كلماتهم في مقامات مختلفة.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 182

ولذا قال الشّيخ الحرّ العاملي (قدّس اللّه سرّه الشّريف) في كتابه المسمّى ب (الفصول المهمّة) بعد ذكر طائفة من الأخبار النّافية للحرج: «نفي الحرج مجمل لايمكن الجزم به فيما عدا التكليف بما لايطاق، و إلّالزم رفع جميع التّكاليف) إنتهى.

و ذهابه قدس سره إلى إجمال أدلّة نفي الحرج إنّما نشأ من قيام قرينة مقامية كما عرفت على إرادة مرتبة خاصّة منه، لعدم إمكان إرادة جميع مراتبه، ولكن أشكل عليه الأمر في تعيين هذه المرتبة، لعدم قيام دليل عليه عنده.

لكن الحقّ- كما يظهر بعد إمعان النّظر- إمكان تعيين هذه المرتبة، و هي: ما يلزم منه مشقّة شديدة لايتحمّلها النّاس عادة في مقاصدهم،

فإنّها القدر المسلّم من أدلّة نفي الحرج؛ أو أنّ القدر المسلّم خروجه منها هو ما دون هذه المرتبة، كما يشهد به رواية عبدالأعلى مولى آل سام الواردة في حكم الجبيرة، و كذا غيرها من روايات الباب.

و الظّاهر أنّ فقهاء الأصحاب قدّس سرّهم أيضاً لم يفهموا من عمومات نفي الحرج إلّاذاك، و لذا صرّح غير واحد منهم في مسألة «جواز التيمّم بخوف الشّين في أعضاء الوضوء» بوجوب تقييدها بما لايتحمّل عادة، أو بالشّديد منه، أو بالفاحش؛ على اختلاف تعابيرهم.

قال الشّيخ الأجلّ صاحب (الجواهر) قدس سره عند التّعرّض لهذه المسألة ما حاصله: «لا أعرف في جواز التيمّم عند خوف الشّين خلافاً بين الأصحاب، و ظاهر إطلاق كثير منهم عدم الفرق بين شديده و ضعيفه، و هو مشكل جداً؛ إذ لم نعثر له على دليل سوى عمومات العسر و الحرج، و احتمال دخوله في المرض، أو في إطلاق ما دلّ على التيمّم عند خوف البرد، و من المعلوم عدم العسر في ضعيفه، بل لايكاد ينفكّ عنه غالب النّاس في أوقات البرد، و عدم صدق إسم المرض عليه، و ظهور أدلّة خوف البرد في غيره» ثمّ قال: «و لعلّه لذا قيّده في موضع من (المنتهى) بالفاحش، و اختاره جماعة ممّن تأخّر عنه، منهم المحقّق الثّاني في جامعه، و الشهيد الثّاني في روضه،

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 183

و الفاضل الهندي في كشفه، و إليه يرجع ما عن جماعة أخرى من التقييد بما لايتحمّل عادة، فالأقوى الإقتصار على الشديد منه الّذي يعسر تحمّله عادة» إنتهى كلامه.

و كأنّه قدس سره تفطنّ لما ذكرناه من وجود القرينة المقامية على صرف إطلاقات أدلّة نفي الحرج في هذا المقام، ولكن قد عرفت عدم اختصاصها به.

و الظّاهر

أنَّ مراد غير هؤلاء المحقّقين الّذين قيّدوا الإطلاق بما عرفت من «الشّديد» أو «الفاحش» أيضاً ذلك، فلا خلاف بينهم فيه؛ كما أنّ الظّاهر إنحصار مدرك المسألة المذكورة في قاعدة لاحرج.

و قد تعرّض للمسألة كثير من أعاظم المتأخّرين، منهم المحقّق اليزدي في (العروة) حيث قال: «بل لو خاف من الشّين الّذي يكون تحمّله شاقاً تيمم» إنتهى. و قرّره عليه كثير من محققي المحشّين و زاد بعضهم: «إذا كانت بحيث لاتتحمّل عادة».

ثمّ لايخفى عليك أنّ عدم تحمّل مشقّة الفعل عادة يختلف باختلاف الأفعال و ما يرام منها، من حيث الإهتمام بشأنها، و باختلاف الحالات و غيرها، فتدبّر جيّداً.

فتحصّل من جميع ذلك أنّ المعيار في قاعدة نفي الحرج ليس مطلق المشقّة و العسر الموجودين في كثير من التّكاليف الشّرعيّة أو أكثرها، بل المشقّة الشديدة الّتي لاتتحمّل عادة في مثل ذاك الفعل؛ و أنّ الدّليل عليه قيام قرينة مقامية على هذا التقييد كما عرفت، فليست قاعدة نفي الحرج مجملة مبهمة. كما أنّه لايلزم فى القاعدة بناءاً على هذا المعيار تخصيص الأكثر أو المستوعب؛ و سيأتي تتمّة لهذا الكلام في التّنبيه الأوّل من التّنبيهات الآتية إن شاء اللّه.

مفاد القاعدة و وجه تقدّمها على سائر العمومات:

لايخفى أنّ العسر و الحرج و أمثال هذه العناوين أوصاف للأفعال الّتي تتعلّق بها الأحكام لا لنفس الأحكام، مثلًا بوضوء المختار لمن على يده جبيرة أمرٌ حرجي

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 184

متعسّر، فالمتّصف بهذه الصّفة نفس هذا العمل لا الوجوب المتعلّق به، فلا يقال:

وجوب الوضوء على مثل هذا الشّخص أمرٌ حرجي و فيه ضيق على المكلّف إلّامن باب الوصف بحال المتعلّق، فإنّه لو كان في الوجوب ضيق فإنّما هو من ناحية العمل المتعلّق به.

و يشهد له نفي الجعل عنه. في قوله تعالى:

«وَ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» فإنّ الجعل على المكلّفين كناية عن التّكليف، و المجعول هو نفس العمل المكلّف به، و هو المتّصف بالحرج هنا، فكأنّ المكلّف به أمرٌ يضعه الشّارع على عاتق المكلّفين و يكون ثقله عليهم، كما أنّه قد يرفعه عنهم «وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ»؛ فقوله: (مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» بمعنى: لم يكلّفكم عملًا حرجياً متعسّراً.

و أوضح من ذلك قوله صلى الله عليه و آله في رواية الإحتجاج السّابقة «1»: (يعني بالإصر الشدائد الّتي كانت على من كان قبلنا- إلى أنّ قال:- كنت لا أقبل صلاتهم إلّافي بقاع من الأرض معلومة، إخترتها لهم و إن بعدت، و قد جعلت الأرض كلّها لأمّتك مسجداً و طهوراً، فهذه من الآصار الّتي كانت على الأمم قبلك فرفعتها عن أمّتك ...) إلى غير ذلك من فقراتها، فإنّها ظاهرة أو صريحة في أنّ نفس هذه الأعمال كانت من الآصار الثّابتة في حقّ الأمم الماضية المرفوعة عن هذه الأمّة المرحومة.

فالمرفوع أوّلًا و بالذّات هي نفس الأفعال الحرجيّة، إلّاأنّ رفعها عن المكلّفين أو عدم جعلها عليهم كناية عن عدم إيجابها، كما أنّ وضعها عليهم كناية عن إيجابها؛ فالوضع و الرّفع في عالم التّشريع هو الإيجاب و نفيه، و هذا التّعبير- كما عرفت- مأخوذ من مشابهة الإلزام بشي ء و إيجابه لوضعه على عاتق المكلّف، فكأنّ الشّارع المقدّس إذا أوجبه على المكلّفين وضعه عليهم في الخارج، و إذا لم يوجبه عليهم رفعه عنهم.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 185

و الحاصل أنّ العسر و الحرج كمقابليهما من أوصاف أفعال المكلّفين، الّتي قد تكون شاقّة ضيقة كما قد تكون سهلة يسيرة.

و إذ قد عرفت ذلك فاعلم

أنّه لا إشكال في تقدّم عمومات نفي الحرج على العمومات المثبتة للأحكام بعناوينها الأوّلية، و وجوب تخصيصها بها، و يشهد له إستشهاد الإمام عليه السلام بها في قبال كثير من الأدلّة المثبتة للأحكام، مضافاً إلى فهم الفقهاء (رضوان اللّه عليهم) و استنادهم إليها في فروع فقهيّة كثيرة، ولكن ما وجه هذا التّقدّم؟ فهل هو من جهة حكومتها عليها أو أمر آخر وراءها؟

التّحقيق أنّه بناءاً على ما ذكرنا من أنّ العسر و الحرج و أشباههما من أوصاف أفعال المكلّفين لا الأحكام المتعلّقة بها لايصحّ لنا أنّ نقول بأنّ وجه تقدّم عمومات هذه القاعدة على أدلّة الأحكام هو حكومتها عليها، فإنّها عبارة عن كون أحد الدليلين بمدلوله اللّفظي ناظراً إلى الآخر، بحيث لولاه لكان لغواً؛ إمّا بأن يتصرّف في موضوعه، أو في حكمه، أو في متعلّقه، أو في انتساب المتعلّق إلى موضوعه؛ و قد مرّ بيانه في القاعدة الأولى من هذه السّلسلة- و هى. قاعدة لاضرر- عند ذكر نسبتها مع سائر الأدلّة.

و من المعلوم أنّ دليل نفي الحرج إنّما ينفي وجود الحرج و جعله على المكلّفين في عالم التّشريع، من دون أن يكون ناظراً إلى غيره من أدلّة أحكام الشّرع و متصرّفاً فيها بأحد الأنحاء الأربعة المتقدّمة؛ فمن هذه الجهة يكونان في عرض واحد و من قبيل المتعارضين. ففي الحقيقة أدلّة نفي الحرج تكون من سنخ ما دلّ على أنّه (لم يجعل على النّساء جمعة و لاجماعة و لا أذان و لا إقامة)، فلو كان هناك ما يدلّ بعمومه على أنّ عليهنّ بعض هذه الأمور فإنهما يكونان من المتعارضين- لا أنّ الأوّل حاكم على الثّاني-، ولا يقدّم عليه إلّامن باب التّخصيص؛ و مجرّد كون لسانه «نفي الجعل»

لايكفي في تقدّمه على غيره.

كما أنّ من الواضح أنّ النّسبة بين أدّلة هذه القاعدة و أدلّة الأحكام هي العموم من وجه، فكما أنّه يمكن تخصيصها بأدلّة نفي الحرج يمكن تخصّص أدلّة نفي الحرج بها.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 186

إلّا أنّ كونها في مقام الإمتنان على الأمّة يأبي من التّخصيص جدّاً، فتخصّص الأدلّة المثبتة للأحكام بها لقوّة دلالتها بالنّسبة إليها، و هذا أمر ظاهر لمن راجع العمومات السّابقة. و منه يظهر وجه استشهاد الأمام عليه السلام بها في مقابل كثير من العمومات المثبتة للأحكام، و وجه فهم الفقهاء و استشهادهم بها في أبواب شتّى.

نعم، لو قلنا بأنّ العسر و الحرج من أوصاف نفس الأحكام الشّرعيّة، و أنّها هي الّتي قد تكون تارةً عسرة حرجيّة و أخرى سهلة يسيرة، و أنّ قوله تعالى: (وَ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» في قوّة قولنا: إنّ الأحكام المجعولة الثّابتة بأدلّتها ليس فيها ما يكون حرجاً و ضيّقاً على المكلّفين، فحينئذ يصحّ القول بحكومتها عليها؛ لأنّها ناظرة إليها و مفسّرة لها بما هو ملاك الحكومة. ولكن قد عرفت آنفاً ضعف هذا المبني، و أنّها من صفات أفعال المكلّفين، بل القول بالحكومة على هذا المبنى، أيضاً عندي غير صافٍ عن شوب الإشكال، كما لايخفى على من تدبّر.

المقام الثالث: التنبيهات
التّنبيه الأوّل: هل القاعدة موهونة بكثرة التخصيصات الواردة عليها؟
اشارة

من الإشكالات القويّة الّتي أوردت على هذه القاعدة، أنّه كيف يمكن الحكم بعمومها و ارتفاع كلّ أمر حرجي في الشّريعة بها، مع ما يترائى من كثرة التكاليف الشاقّة الحرجيّة في أبواب العبادات و غيرها؛ كالوضوء بالمياه الباردة في ليالي الشّتاء، و الصوم في إلّايّام الحارّة من الصّيف، مع ما فيهما من المشقّة الظّاهرة؛ و كالجهاد بالأموال و الأنفس، و مقارعة السّيف و السّنان، و

مقابلة الشجعان، و عدم الفرار من الزحف؛ و تحمّل لومة اللائمين في إجراء أحكام اللّه، و تسليم النّفس لإجراء الحدود و القصاص؛ و الهجرة عن الأوطان لتحصيل مسائل الدّين و بثّها بين المسلمين الواجب على نحو الكفاية؛ و أشدّ منها الجهاد الأكبر مع النّفس و جنود الشّياطين.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 187

فهذه التّخصيصات الكثيرة توهنها و تمنع عن الّتمسّك بعمومها؛ لأنّ قبح تخصيص الأكثر دليل على أنّ المراد منها غير ما يفهم منها في بدء الأمر، فيكون معناها مجملًا مبهماً ولا تكون قابلة للإستدلال؛ فإنّ ما يظهر منها بادى ء الأمر غير مراد، و المراد منها غير معلوم. فعمومها كعمومات «القرعة» و ما أشبهها موهونٌ، فلا يجوز العمل بها إلّافي الموارد التي عمل بها الأصحاب.

و كأنّه إلى هذا المعنى أشار المحدّث الجليل الحرّ العاملي قدس سره في كتابه المسمّى:

(الفصول المهمّة) حيث قال بعد نقل طائفة من الأخبار النّافية للحرج: «نفي الحرج مجمل لايمكن الجزم به فيما عدا التكليف بما لايطاق، و إلّالزام رفع جميع التّكاليف» إنتهى. فالتزم بعد القول بإجمالها و إبهامها بسقوطها عن الحجّيّة إلّافي القدر المتيقّن منها، و هو التكليف بما لايطاق.

أقول: قوله: «و إلّالزم رفع جميع التكاليف» إن كان مراده منه المبالغة في كثرة التخصيصات الواردة عليها بما عرفت آنفاً، و أشرنا إليه أيضاً عند ذكر معنى «العسر و الحرج»، فله وجه مع قطع النّظر عمّا سيأتي، و أمّا إن كان مراده منه ما يظهر منه في ابتداء النّظر من نفي عامّة التكاليف الشّرعيّة، لما في جميعها من مرتبة من العسر و الحرج، فهو مبني على أن يكون المراد من «الحرج» مطلق الكلفة الحاصلة و لو من الأمور البسيطة العادية، و هو ممنوع جداً،

كما عرفت عند تحقيق معنى هذه الكلمة.

مضافاً إلى أنَّ غير واحد من التّكاليف الشّرعيّة لايشتمل على أدنى مشقّة و كلفة، لموافقتها لكثير من الطباع، فالقول بإستلزام عموم نفي الحرج لنفي عامّة التكاليف ممنوع من هذه الجهة أيضاً.

أضف إلى ذلك أنّ ما ذكره هذا المحدّث الجليل هدم لأساس هذه القاعدة رأساً؛ لأنّ بطلان التّكليف بما لايطاق ظاهر لكلّ أحد، بل لايبعد كونه من ضروريات الدّين، فحصر مفادها في خصوص التكليف بما لايطاق مساوق لسقوطها عن الحجّية، و هو مخالف لسيرة الفقهاء، حيث يستدلّون بها في كثير من أبواب الفقه لنفي التكاليف الحرجيّة غير البالغة حد ما لايطاق، بل مخالف لما عرفت من استدلال الإمام عليه السلام بها

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 188

لكثير من المسائل و تعليمه عليه السلام لإستنباط الحكم من هذه القاعدة العامّة.

و أمّا قصر العمل بها على خصوص الموارد الّتي عمل بها الأصحاب، مع أنّا نعلم أو نظن أنّه لم يكن عند أكثرهم أو جميعهم في هذا الباب إلّاهذه الآيات و الأخبار المأثورة عنهم عليهم السلام، فممّا لأوجه له.

و احتمال أن يكون قد وصل إليهم من المدارك ما لم يصل إلينا، أو كان لهذه العمومات قرائن متّصلة ترفع إبهامها و توضح المراد منها، وصلت إليهم دوننا، ضعيف جداً؛ و من أقوى الشّواهد على بطلانه أنّهم يستندون في إثبات المسائل إلى نفس هذه الآيات و الرّوايات، معتمدين في إثبات مقاصدهم عليها لاغير.

الوجوه المذكورة في دفع هذا الإشكال:

و قد يذبّ عن الإشكال بوجوه لاتخلو عن إيرادات، نذكرها و نذكر ما فيها من جهات الضّعف، ثمّ نتبعها بما عندنا في حسم مادّته.

الوجه الأوّل: ما حكاه المحقّق النّراقي عن بعض سادة مشايخه- و الظّاهر أنّه السيّد السند العلّامة الطباطبائى (قدّس سرّهما)- قال: «أمّا ما

ورد في هذه الشّريعة من التكاليف الشديدة كالحج و الجهاد و الزّكاة بالنّسبة إلى بعض النّاس و الدّية على العاقلة و نحوها، فليس شي ء منها من الحرج؛ فإنّ العادة قاضية بوقوع مثلها، و النّاس يرتكبون مثل ذلك من دون تكليف و من دون عوض، كالمحارب للحميّة، أو بعوض يسير ... و بالجملة فما جرت العادة على الإتيان بمثله و المسامحة فيه و إن كان عظيماً في نفسه، كبذل النّفس و المال، فليس من الحرج في شى ء. نعم، تعذيب النّفس و تحريم المباحات و المنع عن جميع المشتبهات أو نوع منها على الدّوام حرج و ضيق و مثله منقفٍ في الشّرع» إنتهي.

و هذا القول كما تراه على طرف الإفراط، كما أنّ ما ذكره المحدّث الحرّ العاملي على طرف التّفريط، فكلاهما خارجان عن حدّ السّواء، و يوجبان سقوط القاعدة عن

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 189

قابليّة الإستدلال بها في الفقه رأساً؛ أمّا الأوّل فقد عرفت حاله، و أمّا الأخير فلأنَّ لازمه وجوب العمل بالتّكاليف الواردة في الشّرع من الواجبات و المحرّمات و إن بلغت من العسرو الحرج ما بلغت من دون أي استثناء، فينحصر مفاد القاعدة في خصوص تعذيب النّفس و تحريم المباحات و أمثالها، و هو كماترى؛ فإنّه يرد عليه جميع ما أوردناه على سابقه من مخالفته لاستدلال الأئمّة عليهم السلام بآية نفي الحرج في موارد عديدة، و مخالفته لفهم الفقهاء و استنادهم إليها في أبواب شتّى.

أضف إلى ذلك مخالفته للوجدان؛ فإنّ مجرّد ارتكاب النّاس لبعض الأمور الشّاقّة، لأجور يترقّبونها أو لعللّ أخرى لايخرجها عن كونها أموراً شاقة حرجيّة، اللّهمّ إلّاأن يرجع هذا القول إلى بعض ما سنشير إليه فى الوجه المختار.

الوجه الثّاني: ما حكاه قدس سره

أيضاً عن بعض فضلاء عصره و حاصله: «إنّ الّذي يقتضيه النّظر بعد القطع بورود تكاليف شاقّة و مضار كثيرة في الشّريعة أنّ المراد بنفي العسر و الحرج و الضرر، ما هو زائد على ما هو لازم لطبائع التكليفات الثّابتة بالنسّبة إلى طاقة أوساط النّاس المبرئين عن المرض، و القدر الّذي هو معيار التّكاليف، بل هي منفيّة من الأصل إلّافيما ثبت و بقدر ما ثبت.

و الحاصل أنّا نقول: إنّ المراد أنّ اللّه سبحانه لايريد بعباده العسر و الحرج و الضرر، إلّامن جهة التّكاليف الثابتة بحسب أحوال متعارف الأوساط، و هم الأغلبون، فالباقي منفي، سواء لم يثبت أصله أصلًا أو ثبت ولكن على نهج لايستلزم هذه الزّيادة.- ثمّ قال:- إنّ ذلك النّفي إمّا من جهة تنصيص الشّارع، كما في كثير من أبواب الفقه من العبادات و غيرها، كالقصر في السّفر، و الخوف في الصّلاة، و الإفطار في الصّوم و نحو ذلك؛ و إمّا من جهة التّعميم، كجواز العمل بالإجتهاد لغير المقصّر في الجزئيّات كالوقت و القبلة، أو الكلّيات كالأحكام الشّرعيّة» إنتهى.

أقول: عبارته المحكيّة عنه قدس سره و إن كانت لاتخلو عن إجمال و إبهام، إلّاأنّ الظّاهر أنَّ مراده أنّ الأصل الأوّلي في الأحكام عدم كونها حرجيّة و لاضرريّة؛ و إنّما يخرج من هذا الأصل في موارد ثبت فيها تكليف حرجي أو ضرري، إمّا بالعموم أو

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 190

بالخصوص، فيقتصر في هذه الموارد الّتي ثبت فيها تكاليف حرجيّة أو ضرريّة على ما ثبت و بقدر ما ثبت، و أمّا الزّائد عليها فهو منفي بهذه القاعدة.

غاية الأمر أنّ التكاليف الحرجيّة الثّابتة بأدلّتها تنصرف إلى طاقة أوساط النّاس المبرئين عن الأمراض و الأعذار، و أمّا بالنّسبة إلى غيرهم فحيث

لا دليل على إثباتها فهي أيضاً منفيّة بهذه القاعدة.

و أمّا ما ذكره في آخر كلامه فالظّاهر أنّه ناظر إلى أنّ نفي الحرج و الضرر تارةً قد يكونان بعمومات هذه القاعدة، و أخرى بتنصيص الشّارع عليه خصوصاً، كما في صلاة القصر في السّفر، و الإفطار في الصّوم في السّفر و للمريض و الشيخ الكبير و أشباههم؛ و ثالثة بتنصيصه عليه عموماً، كتجويزه العمل بالظنّ في الموضوعات، كالوقت و القبلة لجميع آحاد النّاس غير المقصّر منهم، و في الأحكام الشّرعيّة الكلّية للمجتهدين خاصّة. هذا حاصل ما يستفاد من كلامه. و لازمه إختصاص نفي الحرج و الضرر بموارد لم يدلّ على خلافه دليل أصلًا، لاعموماً و لاخصوصاً.

و فساد هذا القول أيضاً ظاهر؛ لمنافاته لما عرفت من تمسّك الأئمّة عليهم السلام بعموم نفي الحرج لنفي كثير من الأحكام في موارد يستلزم العسر و الحرج و تخصيص أدلّتها به، و لسيرة كثير من الفقهاء (رضوان اللّه عليهم)، و لظاهر عمومات نفي الحرج و الضرر الواردة في مقام الإمتنان الآبية عن مثل هذه التّخصيصات الكثيرة.

أضف إليه أنّ النّسبة بينها و بين الأدلّة المثبتة للأحكام هي نسبة عموم من وجه. فلا وجه لتقديمها على عمومات نفي الحرج و الضرر.

و أمّا ما إحتمله النّراقي قدس سره من أنّ المستفاد من كلامه كون قاعدة نفي الحرج من باب أصل البراءة، فيكون تقديم ما ثبت بأدلّة الأحكام من باب تقديم الأدلّة الإجتهاديّة على الأصول العمليّة مع أنّه بعيد عن مساق كلامه، ظاهر الفساد؛ لأنّ الأصول العمليّة ناظرة إلى بيان وظيفة الشّاك، و ليس في أدلّة نفي الحرج و الضّرر من الشكّ عين و لاأثر.

الوجه الثالث: أنّ العسر و الحرج يختلفان باختلاف العوارض الخارجيّة، فقد يكون

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 191

شي ء عسراً و حرجاً ولكنه باعتبار أمر خارجي يكون سهلًا و يسيراً. و من الأمور الموجبة لسهولة كل عسر، وسعة كل ضيق، مقابلته بالعوض الكثير و الأجر الجزيل، و لاشكّ أنّ كل ما كلّف اللّه سبحانه به من التّكاليف يقابله ما لايحصى من الأجر، قال تعالى: «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا». و على هذا لايكون شي ء من التكاليف عسراً و حرجاً، فكلّ ما كلّف اللّه به من الأمور الشّاقة ظاهراً فقد ارتفعت مشقّته بما وعد له من الأجر الجميل و الثّواب الجّزيل. إنتهى.

و فيه: أنّ لازمه أيضاً سقوط أدلّة نفي الحرج عن جواز الإستدلال بها رأساً، لأنّ كلّ ما ورد الأمر به أو النّهي عنه ففي امتثال أمره و نهيه أجر إلهي بالملازمة الثّابتة من حكم العقل، فلا يصحّ نفيه بأدلّة نفي الحرج؛ بل تكون هذه الأدلّة لغواً بالمرّة و لايبقى لقوله تعالى: «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» معنى، إلّاأن يكون المراد نفي التّكاليف المشتملة على المشقّة الخالية عن الأجر و الثّواب، ولكنّه يرجع إلى توضيح أمر واضح.

و يرد عليه أيضاً ما أوردناه على ما تقدّمه، من مخالفته للأخبار الحاكية لاستدلال المعصومين عليهم السلام بها نفي الأمور الحرجية؛ كما أنّه مخالف لفهم فقهاء الأصحاب المستدلين بها في فروع كثيرة.

هذا مضافاً إلى عدم تماميته في نفسه، لأنّ مجرّد ترتّب الأجر الجميل و الثّواب الجزيل على شي ء لايمنع عن صدق العسر و الحرج عليه، مثلًا: نقل الصخور العظيمة من قلل الجبال، أو تحمّل منن اللئام، من الأمور العسرة الحرجيّة و إن كان في مقابلها أجور جزيلة. نعم، ترتّب الأجر و الثّواب عليها يكون داعياً على الإتيان بها و مصححّاً لارتكابها

عند العقلاء، لا أنّه مانع عن صدق عنوان العسر و الحرج عليها.

و يشهد على ذلك ظهور بعض الآيات و صرّاحة بعض الأخبار الماضية في ثبوت تكاليف عسرة حرجيّة في حقّ الأمم الماضية، مع أنّه لاينبغي الشكّ في ترتّب أجور جميلة على طاعاتهم و امتثالاتهم؛ فهذا دليل على أنّه لا منافاة بين صدق عنوان الحرج و العسر على شى ء مع ترتّب الأجر الجميل عليه.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 192

و الحاصل أنّ العسر و الحرج و إن كانا يختلفان باختلاف بعض العوارض الخارجية- كغيرهما من العناوين-، إلّاأنّ اختلافهما بمجرّد ترتّب الأجر و الثّواب الأخروي أو الأجور الدنيويّة عليهما ممنوع جدّاً.

الوجه الرّابع: ما اختاره المحقّق النّراقي و جعله الطريق الوحيد في حلّ الإشكال بحذافيره و إليك نصّ عبارته:

«إنّه لاحاجة إلى ارتكاب أمثال هذه التّأويلات و التّوجيهات، بل الأمر في قاعدة نفي العسر و الحرج كما في سائر العمومات المخصّصة الواردة في الكتاب الكريم و الأخبار الواردة في الشّرع القويم؛ فإنّ أدلّة نفي العسر و الحرج تدلّ على انتفائهما كليّة، لأنّهما لفظان مطلقان واقعان موقع النّفي فيفيدان العموم، و قد ورد في الشّرع التكليف ببعض الأمور الشّاقّة و التّكاليف الصّعبة أيضاً، و لايلزم منها ورود إشكال في المقام، كما لايرد بعد قوله سبحانه: «وَ أُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ» إشكال في تحريم كثير ممّا وراءه، و لا بعد قوله: «قُلْ لَا أَجِدُ فِيما أُوحِيَ إِليَّ مُحَرَّماً ...» تحريم أشياء كثيرة؛ بل يخصّص بأدلّة تحريم غيره عموم ذلك، فكذا ههنا، فإنّ تخصيص العمومات بمخصّصات كثيرة ليس بعزيز، بل هو أمر في أدلّة الأحكام شائع، و عليه استمرّت طريقة الفقهاء؛ فغاية الأمر كون أدلّة نفي العسر و الحرج عمومات يجب العمل بها

فيما لم يظهر لها مخصّص و بعد ظهوره يعمل بقاعدة التّخصيص» إنتهى.

و يردّ عليه أوّلًا: إنّ قبح تخصيص الأكثر أو التّخصيص الكثير المستهجن أمر ظاهر لايجوز ارتكابه، و لايصحّ الإلتزام به في كلام الشّارع الحكيم؛ كما أنّ لزوم مثل هذا التّخصيص في المقام ممّا لاينبغي الريب فيه بعد كثرة التّكاليف الحرجيّة الّتي أشرنا إليها إجمالًا عند تقريب أصل الإشكال، من الواجبات المالية الكثيرة، و الجهاد الأصغر والأكبر، و الحج و الصّيام و القصاص و الحدود و الدّيات، و غيرها.

و ما استشهد به من الآيتين على ما ادعاه من جواز التّخصيصات الكثيرة قابل للمنع، فإنّ الظّاهر أنَّ الحصر في قوله تعالى: «قُلْ لَا أَجِدُ فِيما أُوحِيَ إِليَّ مُحَرَّماً ....» حصر اضافي في مقابل ما حرّمه أهل الكتاب على أنفسهم و بدعهم في باب الذّبائح

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 193

أو غيره، فتدبّر. كما أنّ قوله تعالى «وَ أُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ» أيضاً ظاهر في الحصر الإضافي أو محتمل له، و تمام الكلام فيه في محلّه.

و ثانياً: إنّ عمومات نفي الحرج واردة في مقام الإمتنان على الأمّة المرحومة، كما أنّ ظاهر روايات الباب أو صريحها أنّه من خصائص هذه الأمّة، فكيف يجوز تخصيصها بمثل هذه المخصّصات الكثيرة و الحال هذه؟ و كيف يكون نفي الحرج من مختصّات هذه الأمّة مع إثبات أحكام حرجيّة كثيرة فيها؟ بحيث تكون حالها كحال بقيّة الأمم؟

اللّهمّ إلّاأن يقال بأنّ امتياز هذه الأمّة إنّما هو في قلّة أحكامها الحرجيّة بالنّسبة إلى الماضين و إن كانت في نفسها كثيرة؛ هذا ولكن إشكال إباء هذه العمومات الواردة في مقام الإمتنان عن مثل هذه التّخصيصات باق بحاله.

و ثالثاً: إنّ القول بجواز تخصيص عمومات نفي الحرج بمخصّصات

كثيرة يمنع عن الّتمسّك بها رأساً، لأنّك قد عرفت أنّ النّسبة بينها وبين عمومات الأدلّة المثبتة للأحكام هي العموم من وجه، فلا وجه لتقديمها عليها عند التّعارض إلّابما ذكرنا من إبائها عن التّخصيص.

المختار في حلّ الإشكال:

الوجه الخامس:- و هو المختار في حسم مادّة الإشكال- أنّ ما يدّعى من التّكاليف الحرجيّة الواردة في الشّريعة على أقسام:

منها: ما ليس حرجياً و إن ادُّعيَ كونها كذلك، كحجّ بيت اللّه الحرام و أداء الخمس و الزّكاة- لاسيّما مع ما عرفت عند ذكر معنى «الحرج» من أنّ المراد منه هنا ليس مطلق المشقّة و الضّيق، بل المشقّة الّتي لاتتحمّل عادة على ما بسطنا الكلام فيه-؛ فإنّ إخراج خمس أرباح المكاسب يكون بعد وضع مؤنة السّنة بجميع أنحائها، و كذا إخراج خمس غيرها من المعادن و الكنوز، و الزّكوات المقدّرة في الشّرع الّتي هي قليل من كثير ليست أموراً شاقّة لاتتحمّل عادة، لاسيّما مع صرفها في مصارف يعود

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 194

نفعها غالباً إلى المجتمع أجمع حتّى المعطين، كصرفها في إصلاح حال الفقراء و المساكين و أبناء السّبيل، و عمارة الشّوارع، و بناء القناطر، و حفظ ثغور الإسلام، و تقويّة جيوش المسلمين، و أمن السبيل؛ فهذه في الحقيقة مثل سائر ما يصرفونه في حاجاتهم الشّخصيّة و إصلاح أمورهم الخاصّة، ممّا لايعدّونه ضرراً و حرجاً بل إصلاحاً و نفعاً.

و هذا المعنى و إن كان عند بعض الأذهان البادية من الإستحسانات، إلّاأنّه اليوم ظاهر لكل خبير بوضع المجتمعات البشريّة و ما فيه نجاحها و فلاحها؛ و لذا ترى العقلاء من جميع الأمم يسلكون هذا المسلك و يكلّفون أفرادها بأداء واجبات ماليّة يصلحون بها حال الضّعفاء و ذوي الحاجات و سائر الأمور العامّة الّتي يعود نفعها

إلى مجتمعهم أجمع؛ و لايعدّونه ضرراً و لاحرجاً، بل قد عرفت أنّها في الحقيقة من قبيل مصارفهم الشّخصيّة.

و إن أبيت عن ذلك فقد عرفت أنّ الواجبات الماليّة في أنفسها و مع قطع النّظر عن هذا ليست أموراً شاقّة حرجيّة لاتتحمّل عادة، فلا يكون فيها ما هو الملاك في هذا الباب.

أضف إلى ذلك أنّ إطلاق العسر و الحرج على الأمور الماليّة مطلقاً لايخلو عن إشكال- كما أشار إليه المحقّق النّائيني في آخر رسالته المعمولة في قاعدة لاضرر-؛ لظهور عنوان الحرج في المشقّة في الجوارح لا في الجوانح، و من المعلوم أنّ بذل الأموال ليس فيه مشقّة بهذا المعنى و لو بلغ ما بلغ، اللّهمّ إلّافيما تسري فيه المشاق الرّوحيّة إلى البدن، كمن لاينام طول ليلته إذا بذل مالًا كثيراً، على تأمّل في ذلك أيضاً.

و منها: ما يكون من ناحية فعل المكلّف و سوء اختياره، كالقصاص و الحدود و ما شاكلهما، فإنّ المكلّف بسوء اختياره يقع في هذه الأمور الحرجيّة؛ فلو لم يقتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض، أو لم يجن عليها بجناية أخرى توجب القصاص أو الحدّ، أو لم يعتد على غيره بمال أو بعرض؛ فإنّه لايعتدى عليه بمثله و لايعاقب به.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 195

و انصراف أدلّة نفي العسر و الحرج عمّا أقدم عليه بسوء اختياره واضحٌ، لا سيّما في هذه الموارد الّتي لايكون نفي العسر و الحرج فيها منّة على من ارتكبها إلّابترك الإمتنان بل الظّلم الفاحش على غيره. فهذه الموارد لم تكن داخلة تحت عمومات نفي الحرج حتّى يكون خروجها عنها بالتّخصيص.

و منها: ما هو قابل للإنكار؛ فمثل التوضي بالماء البارد في ليالي الشّتاء، أو الصّيام في الأيّام الحارّة من الصّيف

إذا بلغت مشقّته حدّاً لا تتحمّل عادة، لا يبعد القول بعدم وجوبه. ولكنّ بلوغه هذا الحدّ لغالب النّاس ممنوع.

و منها: ما يبقى من الموارد النّادرة الّتي يمكن إلتزام تخصيص القاعدة بها إذا كان دليله أخصّ من أدلّة نفي الحرج أو بمنزلة الأخصّ، كالجهاد الّذي فيه من المشقّة و الحرج ما لايخفى؛ قال اللّه تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ» «1»

و قال تعالى حاكياً عن وقعة الأحزاب: «إِذْ جَآؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ»، «2»

و قد سمّى سبحانه في كتابه العزيز السّاعات الّتي كانت قبل غزوة تبوك «ساعة العسرة»؛ ففي هذا المورد و شبهه نلتزم بتخصيص عمومات لاحرج بها.

فإن قيل: كيف يجوز تخصيص عمومات نفي الحرج بهذه الموارد و لو كانت قليلة بالنّسبة إلى ما يبقى تحتها مع اعترافك بورودها مورد الإمتنان الآبي عن التّخصيص؟

قلنا: عدم جواز تخصيص العمومات الواردة في مقام البيان إنّما هو في موارد يكون تخصيصها منافياً للمنّة، و أمّا إذا كان موافقاً لها فلا مانع منه، و ما نحن فيه من هذا القبيل؛ فإنّ منافع الجهاد و مصالحه من ظهور المسلمين على الأعداء، و حفظ ثغورهم، و بقاء عزّهم، و جعل كلمة اللّه هي العليا، و تفريق أحزاب الكفر، و جعل كلمتهم هي السفلى، لمّا كانت ظاهرة واضحة لكلّ أحد صار هذا قرينة عرفيّة

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 196

على جواز التّخصيص، و لم يناف ورود العامّ مورد الإمتنان؛ بل إنَّ ترك تشريع هذا الحكم الظّاهر المصلحة منافٍ له؛ و كلّ ما كان من هذا القبيل جاز تخصيص عمومه من دون أي محذور.

و الحاصل أنّ حال العمومات الواردة في مقام البيان ليست حال

سائر العمومات الّتي يجوز تخصيصها بكلّ مخصّص؛ كما أنّه ليس حالها حال بعض العمومات المعلّلة بعلل عقليّة عامّة لايجوز تخصيصها أبداً بأيّ مخصّص كان، بل حكمها في جواز التّخصيص و عدمه جوازه بما لاينافي الإمتنان و عدم جوازه فيما ينافيه.

التنبيه الثاني: هل العبرة بالحرج الشخصي أو النوعي؟

هذا البحث نظير ما أسلفناه في قاعدة «لاضرر»، و الكلام فيه من جهات كثيرة كالكلام فيه، و إن كان بينهما إختلاف من بعض الجهات نشير إليها.

و حاصل القول أنَّ العبرة في ارتفاع الحكم بلزوم العسر و الحرج هل هو بالحرج الشخصي، بأن يكون لزوم الحرج فى مورد رافعاً للتكليف في خصوص ذاك المورد، أو النوعي بحيث كان لزومه على نوع المكلفين رافعاً للتكليف عن عامتهم؟

الحق هو الأوّل؛ لظهور جميع العناوين الواردة في لسان الأدلّة في مصاديقها الشّخصيّة، فعنوان الضرر إنّما يصدق في خصوص موارده و أشخاصه، و كذلك الحرج و غيرهما من العناوين الواردة في الأدلّة؛ و إرادة الحرج أو الضرر النّوعي تحتاج إلى قرينة مفقودة في المقام.

نعم، يظهر من أحاديث الباب استدلال الإمام عليه السلام في موارد مختلفة بعموم قوله تعالى «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» لنفي الحكم عن جميع الأفراد مع عدم كونه حرجياً إلّا في حقّ غالبهم- مثل رواية أبي بصير الدالة على عدم انفعال الماء الكر- مستنداً إلى عموم هذه الآية، مع أنَّه من المعلوم عدم لزوم العسر و الحرج على جميع المكلّفين من عدم هذا الحكم، و كذلك بالنسبة لغيره من الأحكام. و هذه

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 197

الرواية و أمثالها هي غاية ما يمكن أن يستشهد به للوجه الثّاني.

ولكن يمكن أن يجاب عنه بما ذكرناه عند ذكر روايات الباب من أنَّ استنادهم عليهم السلام بهذه الفقرة من

الآية الشريفة على وجهين: تارة يكون بعنوان العلّة للحكم و يكون ضابطة كلية تعطى بيد المكلّفين و يدور الحكم معها حيثما دارت، كما في رواية عبدالأعلى مولى آل سام فيمن عثر و انقطع ظفره .... و لاإشكال في أنّ الحرج في أمثال هذه الموارد أخذ شخصياً.

و أُخرى بعنوان حكمة الحكم، أعني ما كان داعياً و باعثاً على تشريعه و إن كان هناك بواعث أخر غيرها، فيكون كالمعدات أو العلل الناقصة. و من الواضح أنّ الحكم في هذا الموارد لا يدور مدار العلّة، بل قد يتجاوز عنها إلى غيرها، و قد لايشمل جميع مواردها، و لذا لايجوز الإستناد إلى ما ورد في أدلّة الأحكام من علل الشرائع، و لايعامل معها معاملة منصوص العلّة، فلا يكون جامعاً و لا مانعاً.

و ما يتوهّم أنّ الحرج قد أخذ فيه نوعيّاً هو في الحقيقة من قبيل القسم الأخير، أعنى ما يكون حكمة للحكم؛ فالحرج فيه أيضاً شخصي، ولكن دائرة التّعليل لاتنطبق على دائرة الحكم، لا أنّ الحرج فيه نوعي، فتدبّر.

و الحاصل أنَّ استدلالهم عليهم السلام في بعض الموارد الّتي يكون الحرج فيها نوعيًّا بآية نفي الحرج لايكون دليلًا على الوجه الثّاني، و لايجوز التعدّي منه إلى غيره من الموارد الّتي يكون الحرج فيه نوعيًّا، بل يجب الإقتصار على خصوص مورده؛ لأنّ سياقه سياق بيان حكمة التشريع لاعلّة الحكم.

كما أنّا نعلم خارجاً أنّ الحكمة في تشريع كثير من الأحكام هي التوسعة و رفع الحرج عن المكلّفين- و لو لم يستند فيها إلى آية نفي الحرج و غيرها من أشباهها-، كالقصر في الصّلاة و الصيام، و رفع الصوم عن المرضى و الشّيوخ، و العدول من الوضوء و الغسل الى التيمّم في كثير

من الموارد، و كثير من أحكام مستثنيات أبواب النجاسات. و لايكون هذا دليلًا على أخذ الحرج نوعيّاً في قاعدة نفي الحرج.

هذا كلّه مضافاً إلى عدم إنضباط الحرج النّوعي، فهل الملاك فيه هو نوع المكلّفين

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 198

في جميع الأزمنة و الأمكنة؟ أو أهل عصر واحد؟ أو أهل مكان واحد؟ أو صنف خاصّ منهم؟ أو غير ذلك من الإحتمالات فتأمّل.

فتحصّل من جميع ذلك أنّ المعيار في هذا الباب هو الحرج الشّخصي لاغير.

التّنبيه الثّالث: حكم تعارض دليلي نفى الحرج و نفي الضرر

إذا تعارض الضرر و الحرج في مورد- كما إذا كان تصرف المالك في ملكه موجباً لإضرار جاره و ترك تصرّفه فيه حرجاً عليه؛ لأنّ منع المالك عن تصرّفه في ملكه كيف يشاء أمرٌ حرجي- فهل يقدّم قاعدة نفي الحرج؟ أو يؤخذ بقاعدة نفي الضرر؟ أو يتساقطان و يرجع إلى أدلّة أخر؟

قال شيخنا الأعظم (قدّس سرّه الشّريف) في بحث قاعدة «لاضرر» من (الفرائد):

«إذا كان تصرّف المالك في ملكه موجباً لتضرّر جاره و تركه موجباً لتضرر نفسه، فإنّه يرجع إلى عموم «النّاس مسلّطون على أموالهم»، و لو عُدَّ مطلق حجره على التّصرّف في ملكه ضرراً، لم يعتبر في ترجيح المالك ضررٌ زائدٌ على ترك التصرّف فيه، فيرجع إلى عموم التسلّط. و يمكن الرّجوع إلى قاعدة «نفي الحرج»؛ لأنّ منع المالك لدفع ضرر الغير حرجٌ و ضيقٌ عليه؛ إمّا لحكومته ابتداءاً على نفي الضرر، و إمّا لتعارضهما و الرّجوع إلى الأصل». «1»

و قال المحقّق النّائيني قدس سره في آخر رسالته المعمولة في قاعدة لاضرر ما حاصله:

«إنّ حكومة لاحرج على لاضرر- كما احتمله الشيخ الأعظم- تتوقّف على أمرين:

الأوّل: كون لا حرج مثبتاً للحكم أيضاً، أي كما أنّه حاكم على الأحكام الوجوديّة يكون حاكماً على الأحكام العدميّة

أيضاً، و إلّالايعقل تعارضه مع لاضرر و اجتماعه معه في مورد واحد حتّى يكون حاكماً عليه ....

و إن شئت قلت: إنّ هذا الشّرط يرجع إلى منع الصّغرى و حاصله عدم إمكان تعارض لاضرر مع لاحرج.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 199

الثّاني: أن يكون لاحرج ناظراً إلى لاضرر، و معنى النّظر أن يكون الحكم في طرف المحكوم مفروض التحقّق حتّى يكون الحاكم ناظراً إلى الحكم الثّابت في المحكوم. و امّا لو كان كل منهما في عرض الآخر، و لا أولويّة لفرض تحقّق أحدهما قبل الآخر فلا معنى للحكومة.

و بالجملة لاوجه لجعل لاحرج حاكماً على لاضرر، فلا يمكن علاج التّعارض بالحكومة. كما أنّه لايمكن علاجه بتقديم لاضرر على لاحرج مطلقاً من باب أنّ مورد الضرر أقلّ من الحرج- لأنّ كلّ ضرري حرجي و لاعكس-؛ فإنّ فيه أوّلًا: أنّ أقلّيّة المورد إنّما توجب التّرجيح إذا كان المتعارضان متضادّين دائماً لا مثل المقام الّذي يتوافقان غالباً ....

و ثانياً: ... أنّ الحرج هو المشقّة في الجوارح لا في الرّوح، فقد يكون الشي ء ضررياً كالنقص في المال و لايكون حرجيّاً، فقولك: كل ضرري حرجي و لاعكس غير صحيح. «1»

أقول: و لقد أجاد فيما أفاد بقوله ثانياً من أنّ ملاك الحكومة- و هو نظر أحد الدليلين إلى الآخر و التّصرّف فيه بأحد انحائه الّتي مضى شرحها- مفقود في المقام.

توضيحه: إنّ أدلّة و نفي الضرر نفي الحرج متساوية الأقدام بالنّسبة إلى موضوعاتهما، و قد عرفت ممّا ذكرنا هنا و في قاعدة لاضرر أَنّ لسانهما واحد، فلا وجه لحكومة إحداهما على الأخرى؛ بل قد عرفت أنّه لاحكومة لهما على الأدلّة المثبتة للأحكام رأساً، و إنّما يقدّمان على غيرهما لورودهما مورد الإمتنان، و لجهات أُخر مضى شرحها،

فلا معنى لتقدّم إحداهما على الأخرى و حكومتها عليها، بل هما متعارضتان متكافئتان و النسبة بينهما عموم من وجه.

و أمّا القول بأنّ النّسبة بينهما عموم مطلق- لأنّ كلّ أمر ضرري حرجي و لاعكس- كما حكاه المحقّق المذكور، فإنّه ساقط جدّاً، لا لمّا ذكره فقط، بل لأنّ

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 200

تصادق مورد الضّرر و الحرج لو ثبت فإنّما هو في مورد الإضرار على النّفس لا في مورد الإضرار بالغير؛ فمثل دخول «سمرة بن جندب» على الأنصاري بلا إذن منه كان ضرراً عليه مرفوعاً بحكم قاعدة نفي الضرر، ولكن لم يكن فعلًا حرجيّاً لا لسمرة و لا للأنصاري؛ أمّا الأوّل فواضح، و أمّا الثّاني فلأنَّه لم يكن دخول سمرة فعلًا للأنصاري.

نعم، دخوله بلا إذن كان ضيقاً على الأنصاري، ولكن من الواضح أنّ قاعدة لاحرج لاتنفي كل ضيق حاصل من أيّ ناحية، بل الضّيق و الحرج المرفوع بها هو ما حصل من ناحية التكاليف الواردة في الشّرع، فقوله تعالى: «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» أي ما جعل عليكم تكليفاً يلزم منه الحرج و الضيق، بقرينة قوله: «عَلَيْكُمْ».

و إن شئت قلت: عمومات نفي الحرج إنّما تنفى الحرج الحاصل من ناحية التكاليف الشرعيّة على نفس المكلّفين بها؛ و أمّا الحرج و الضيق الحاصل من أفعالهم على غيرهم فلا دلالة لها عليه، و إنّما المتكفّل له قاعة لاضرر. و لافرق في ذلك بين شمول قاعدة نفي الحرج للعدميات أيضاً و بين اختصاصها بالوجوديّات فقط.

و إذ قد ثبت أنّ النّسبة بينهما عموم من وجه، فالحكم في موارد تعارضهما هو تساقطهما في مورد الإجتماع و الرجوع إلى غيرهما، إلا أن يكون هناك مرجّحات خاصّة في بعض الموارد، كاهتمام الشّارع ببعض

المواضيع، مثل حقوق النّاس و أشباهها، فيعمل بها.

و أمّا ما ذكره قدس سره بقوله: «أوّلًا»، و حاصله توقّف حكومة أدلّة لاحرج على أدلّة نفي الضرر على شمول لاحرج للعدميات، ففيه أنّ موارد التّعارض لاتنحصر بمورد السّؤال ممّا يكون الطرفان من قبيل النقيضين أحدهما وجودي و الآخر عدمي، بل قد يكون من قبيل الضدّين، و ذلك كما إذا كان القيام في مكان موجباً للضرر على غيره و القيام في غير ذاك المكان حرجاً عليه نفسه و دار أمره بينهما، فالتّعارض في هذا المثال و أشباهه ثابت من دون توقّف على شمول لاحرج للعدميّات. نعم، خصوص المثال الّذي ذكره الشّيخ الأعظم قدس سره في كلامه يكوم من قبيل المنتاقضين، ولكن ما ادّعاه المحقّق النّائيني ظاهر في انحصار مورد تعارضهما بالمتناقضين كما يظهر لمن تدبّر في كلامه.

التنبيه الرابع: هل تشمل القاعدة العدميّات أو لا؟

الحقّ أنّه لافرق في شمول أدلّة نفي الحرج بين الأحكام الوجوديّة و العدميّة- كما مرّ نظيره في قاعدة نفي الضرر-، ولكن بمعنى أنّه لو لزم من ترك بعض الأفعال ضيق و حرج على المكلّف- كترك شرب مائع نجس أحياناً- فإنّه يجوز شربه و ترتفع حرمته بمقتضى قاعدة نفي الحرج؛ و مجرد كون موضوعه- و هو ترك الشرب- أمراً عدمياً لا أثر له أصلًا، بعد كون الدليل الدالّ على نفي الحرج شاملًا لجميع الموارد، مثل قوله تعالى: «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» و قوله عليه السلام: (إنّ الدّين ليس بمضيق)، و قوله: (الدّين أوسع من ذلك)؛ فإنّ مفادها جميعاً نفي الأحكام الحرجيّة، سواء تعلقت بموضوعات وجوديّة أو عدميّة.

هذا بناءاً على المختار من أنّ الحرج و العسر من صفات فعل المكلّف لا من صفات الأحكام، و بناءاً عليه يلاحظ العدمي و

الوجودي في ناحية متعلّق الحكم و هو فعل المكلّف لافي ناحية الحكم نفسه.

و أمّا بناءاً على كونه من أوصاف الحكم فظاهر أدلّة نفي الحرج- أعني نفي الأحكام الحرجيّة بناءاً على هذا القول- و إن كان خصوص الأحكام الوجوديّة؛ لأنّ عدم الحكم ليس حكماً و لايصدق عليه أنّه ممّا جعله الشّارع فلا يدخل في قوله تعالى: «مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»، إلّاأنّك قد عرفت سابقاً في بحث قاعدة لاضرر، أنّ العرف يحكم حكماً قطعيّاً بإلغاء هذه الخصوصيّة، فلا يرى أيّ فرق بين لزوم الحرج من جعل الوضوء على المكلّف أو من ترك جعل تسلّط النّاس على أموالهم، و لايرى وجهاً للإمتنان بترك جعل الأوّل دون الثّاني، و قد مرّ هناك بعض ما ينفعك في المقام فراجع.

التنبيه الخامس: نفي الحرج هل هو رخصة أو عزيمة؟

إذا تحمّل الحرج و أتى بالعمل الّذي فيه ضيق و شدّة منفيّة- كالوضوء و الغسل الحرجيين- فهل يجزي عنه، لكون المرفوع وجوبه لا أصل مشروعيّته، أو لايجزي،

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 202

لكونه باطلًا لعدم الأمر به رأساً فيكون تشريعاً محرماً؟

و هذه المسألة كأصل القاعدة غير معنونة في كلمات القوم مستقلّاً، حتّى أنّ المحقّق النراقي الّذي انفرد بذكر هذه القاعدة في عوائده لم يتعرّض لهذه المسألة و لا لغير واحد من التّنبيهات الّتي ذكرناها، إلّاأنّ الّذي يظهر من غير واحد من أعاظم المتأخّرين في الفروع الفقهيّة المتفرّعة على هذه القاعدة كونها من باب الرّخصة لا العزيمة، فلنذكر بعض ما وصل إلينا من كلماتهم ثم نتبعها بما هو المختار.

قال الفقيه المتتبّع الماهر صاحب الجواهر (قدّس سرّه الشريف) في ذيل مسألة سقوط الصيام عن الشيخ و الشيخة و ذي العطاش ما نصّ عبارته:

«ثمّ لايخفى عليك أنّ الحكم في المقام و نظائره من العزائم

لا الرّخص، ضرورة كون المدرك فيه نفي الحرج و نحوه ممّا يقضي برفع التكليف ... مع عدم ظهور خلاف فيه من أحد من أصحابنا عدا ما عساه يظهر من المحدّث البحراني، فجعل المرتفع التعيين خاصّة تمسّكاً بظاهر قوله تعالى: «وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ طَعَامُ» إلى قوله: (وَ أَنْ تَصُومُوا خيرٌ لَكُمْ».»

و ظاهر كلامه أنّ دلالة عمومات نفي الحرج على ارتفاع التكليف كليّة، و كونه من باب العزيمة أمر مفروع عنه، حتى أنّ ذهاب المحدّث البحراني إلى الرّخصة في هذا المورد الخاصّ إنّما هو لقيام دليل خاصّ عليه، و هو قوله تعالى: «وَ أَنْ تَصُومُوا خيرٌ لَكُم».

و قال المحقّق الهمداني في مصباحه في بعض التّنبيهات الّتي ذكرها في مسوّغات التيمّم ما حاصله:

«إنّ التيمّم في الموارد الّتي ثبت جوازه بدليل نفي الحرج رخصة لاعزيمة، فلو تحمّل المشقّة الشديدة الرافعة للتكليف و أتى بالطّهارة المائيّة صحّت طهارته، كما تقدّمت الإشارة إليه في حكم الإغتسال لدى البرد الشديد؛ فإنّ أدلّة نفي الحرج

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 203

لأجل ورودها في مقام الإمتنان و بيان توسعة الدّين لاتصلح دليلًا إلّالنفي الوجوب لا لرفع الجواز.

ثمّ أورد على نفسه بقوله: «فإن قلت: إذا إنتفى وجوب الطّهارة في موارد الحرج فلايبقى جوازها حتّى تصحّ عبادة، فإنّ الجنس يذهب بذهاب فصله، و بعبارة أخرى:

أدلّة نفي الحرج حاكمة على العمومات المثبتة للتكاليف فتخصّصها بغير موارد الحرج فإتيانها في تلك الموارد بقصد الإمتثال تشريع محرم».

ثمّ أجاب عنه بأنّه: «إذا كان منشأ التّخصيص كون التّكليف بالوضوء و الغسل حرجيّاً من دون أن يترتّب عليهما عدا المشقّة الرافعة للتكليف مفسدة أخرى لايجوز الإقدام عليها شرعاً كالضرر و نحوه، فهو لايقتضي إلّارفع مطلوبيّة الفعل على سبيل الإلزام لا رفع ما

يقتضي الطلب و محبوبيّة الفعل، و كيف كان فلا يفهم من أدلّة نفي الحرج عرفاً و عقلًا إلّاما عرفت». «1»

و قال السيّد السند المحقّق الطباطبائي اليزدي في (العروة) في المسألة 18 من مسوّغات التيمّم: «إذا تحمّل الضرر و توضأ و اغتسل فإن كان الضرر في المقدّمات من تحصيل الماء و نحوه وجب الوضوء و الغسل و صحّ، و إن كان في استعمال الماء في أحدهما بطل، و أمّا اذا لم يكن استعمال الماء مضرّاً بل كان موجباً للحرج و المشقّة كتحمّل ألم البرد أو الشّين مثلًا فلا يبعد الصحّة، و إن كان يجوز معه التيمّم؛ لأنّ نفي الحرج من باب الرّخصة لا العزيمة، ولكن الأحوط ترك الإستعمال و عدم الإكتفاء به على فرضه فيتمّ أيضاً).

و أشكل عليه كثير من المحشّين و صرّحوا بوجوب التيمّم أو بعدم ترك الإحتياط به.

أقول: قد ظهر لك ممّا ذكرنا سابقاً أنَّ أدلّة نفي الحرج و إن لم تكن حاكمة على عمومات الأحكام إلّاأنّها مقدّمة عليها لقوّة دلالتها بالنّسبة إليها فتخصّص العمومات المثبتة للأحكام بها، و من الواضح أنّه لا دلالة لتلك العمومات عرفاً على إثبات

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 204

مرين: الإلزام و المطلوبيّة، حتّى يرتفع أحدهما و يبقى الآخر، بل المستفاد منها حكم واحد إثباتاً و نفياً؛ فإمّا أن يخصص فينتفي من أصله؛ و إمّا أن يبقى بحاله. و لا دخل لذلك بمسألة عدم جواز بقاء الجنس من دون فصله، فإنّ ذلك مسألة عقليّة و الكلام هنا في دلالة لفظيّة بحسب متفاهم العرف. فالّذي تقتضيه القاعدة الأوّليّة هو نفي المشروعيّة رأساً في موارد الحرج أو الضرر أو غيرهما ممّا يستلزم تخصيصاً في أدلّة الأحكام.

و ورودها في مقام الإمتنان و إن

كان معلوماً لاريب فيه إلّاأنّه لايقتضي ما ذكره من نفي خصوص الإلزام؛ لما حقّقناه في بعض أبحاث قاعدة لاضرر من أنّ الإمتنان يجوز أن يكون في أصل الحكم، فلايجب وجود ملاكه في جزئيّات موارده.

مثلًا رفعُ أثر الإكراه بحديث الرّفع يوجب بطلان البيع الحاصل عن إكراه، و إن كان في هذا البيع منافع كثيرة للمكرَه في بعض موارد الإكراه، كما إذا كان الثمن أكثر من ثمن المثل بأضعاف و كان لا يعلمه البايع المكرَه، فإنّه لا إشكال في أنّ حديث الرّفع من أظهر مصاديق ما ورد مورد الإمتنان ولكنّ الإمتنان في رفع آثار الإكراه إنّما يكون بنحو كلّي عام، لا في كلّ واحد واحد من مصاديقه و جزئيّاته. فلو انكشف بعد بيع المكره أنّه كان مشتملًّا على منافع كثيرة له لم يكشف ذلك عن صحّة البيع المذكور، من حيث إنّ رفع أثر هذا الإكراه مخالف للإمتنان لما في مورده من المنافع الهامة، بل يتوقّف على الإجازة اللاحقة بلا إشكال.

فالمعيار هو كون الحكم الكلّي- و هو رفع أثر الإكراه على نحو عام و بعنوان ضرب قانون كلّي- إمتناناً على المكلّف، و إن كان بملاحظة بعض مصاديقه النّادرة مخالفاً له. و هكذا الكلام في باقي التسعة.

و كذا الحال في حجّية كثير من الأمارات الشرعيّة كسوق المسلمين و أيديهم و غيرهما ممّا يستفاد من أدلّتها أو من قرائن خارجيّة أنَّ حجّيتها إنّما هي من باب التوسعة على المكلّفين، و أنَّ اللّه قد منَّ عليهم بذلك؛ فإنّ ذلك لاينافي ثبوت بعض التكاليف من ناحيتها عليهم أحياناً، بحيث لولاها لم يكن طريقٌ إلى إثباتها.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 205

و الحاصل إنّ الإمتنان بهذه الأمور إنّما هو باعتبار مجموع الوقائع الّتي تشملها.

فورود عمومات

نفي الحرج مورد الإمتنان لايصلح قرينة على صرفها عن ظاهرها من نفي الأحكام الحرجيّة رأساً، وجوباً كان أو تحريماً أو غيرهما. فلاوجه للقول بنفي خصوص الإلزام في بعض مواردها مع بقاء أصل المحبوبيّة.

و أمّا ما أفاده في جواب المستشكل فهو بمنزلة قرينة أخرى لصرف عمومات لاحرج عن نفي الجواز في موارد الأحكام الوجوبيّة الحرجيّة و انحصار مفادها في نفي الوجوب، و حاصله ببيان منّا:

أنّا نعلم خارجاً أنّ الوضوء و الغسل الحرجيين و أشباههما لايترتّب عليها أيّ مفسدة موجبة لنقصان ملاك المحبوبيّة فيها، إلّاأنّ إيجابها لمّا كان موجباً للضيق و الحرج على المكلّفين رفعه الشّارع منّة عليهم مع وجود ملاكه فيها؛ فعدم وجوبها ليس من ناحية عدم المقتضي بل من جهة ابتلائه بالمانع، و هو ما أراده الشّارع المقدّس من الإمتنان على هذه الأمّة. و من المعلوم أنّ هذا مانع عن الأمر الإلزامي دون غيره، فوجود ملاك المطلوبيّة فيها مع عدم المانع عن الأمر غير الإلزامي بها يكشف عن تعلّق أمر بها كذلك، بل يكفي في صحّتها و صحّة قصد القربة بها مجرّد وجود ملاك المحبوبيّة فيها و لو لم يكشف عن تعلّق أمر بها.

ولكن يرد عليه، أنّ دعوى العلم بعدم المفسدة فيها دعوى بلا بيّنة و لابرهان، لاحتمال وجود بعض المفاسد فيها بعد كونها حرجيّة، و لااقلّ من أن التّكليف إذا كان حرجيّاً و ثقيلًا على المكلّفين أوجب كثرة المخالفة و العصيان، و هي مفسدة عظيمة. و لهذا ذهب بعضهم إلى أنّ نفي الحرج لازم على الواجب الحكيم من باب وجوب اللّطف، فتأمّل.

أضف إلى ذلك أن تحمّل الحرج و تكلّف الفعل الحرجي بعدما منَّ اللّه تعالى على عباده بنفيه رفضٌ لمّا تصدّق و ما منَّ

به عليهم، و يمكن أن يكون في هذا مفسدة؛ كما ورد في باب عدم صحّة التمام في مواطن القصر من التّعليل بأنّه ردّ لتصدّق اللّه على الأمّة، مثل ما رواه ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبداللّه عليه السلام قال

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 206

سمعته يقول: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إنّ اللّه عزّ و جلّ تصدّق على مرضى أمّتي و مسافريها بالتقصير و الإفطار، أيسرُّ أحدَكم إذا تصدّق بصدقة أن تردّ عليه؟

و في معناه رواية أخرى رواها الصدوق في الخصال عن السكوني. «1»

و الغرض من ذلك كلّه إبداء إحتمال وجود مفسدة في تحمّل الحرج و الإتيان بالتكاليف الحرجيّة؛ و معه لايصحّ دعوى القطع بعدم وجود مفسدة فيها و بقاءِ ملاك المحبوبية على حاله، و من المعلوم أنّ مجرّد الإحتمال كافّ في المقام.

و أمّا مسألة التيمّم في الموارد الّتي ثبت جوازه فيها بدليل نفي الحرج ففيها إشكال آخر مضافاً إلى ما ذكرنا في الجميع، و هو أنّ المستفاد من أدلّة تشريع التيمّم و المركوز في أذهان المتشرّعة كون التيمّم بدلًا طوليّاً عن الوضوء و الغسل، لاعرضيّاً، فلا يجتمعان فى مورد. و من المعلوم أنّ القول بالرّخصة يستلزم كونهما في عرض واحد في الموارد الّتي ثبت جواز التيمّم فيها بأدلّة نفي الحرج، فيجوز في حال واحد التيمّم و الغسل، أو هو و الوضوء؛ و الإلتزام به مشكلٌ جدّاً.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ الأقوى بحسب ما يستفاد من ظاهر أدلّة نفي الحرج كونه من باب العزيمة لا الرّخصة، كما فهمه الشيخ الأجلّ صاحب (الجواهر) و جعله أمراً مفروغاً عنه، فحينئذ لايجوز تحمّل الحرج و الإتيان بالفعل الحرجي، و لو فعله لا يجتزى

به.

التّنبيه السّادس: في اختلاف العسر و الحرج باختلاف العوارض والاحوال

لايخفى أنّ العسر و الحرج يختلف باختلاف الأشخاص، و الحالات، و الأمكنة، و الأزمنة، و الظروف المختلفة و وجود الأسباب و عدمها إلى غير ذلك.

فربَّ شي ءٍ يكون حرجيّاً بالنّسبة إلى شخص دون آخر، كالضّعيف دون القوي؛ و ربّ شي ءٍ يختلف باختلاف حالات شخص واحد من القوّة و الضعف و الصحّة و

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 207

المرض؛ و ربّ شي ء يكون عسراً و حرجيّاً في مكان دون آخر، كتحصيل الماء في الصّحاري القفار دون الشاطى ء؛ أو في زمان دون آخر، كالحجّ بالنّسبة إلى بعض النّاس في الأزمنة السّابقة دون زماننا هذا، إلى غير ذلك.

و حيث قد عرفت في التّنبيه الثّاني من هذه التنبيهات أنّ المعيار في هذا الباب هو الحرج الشّخصي لا النّوعي فاللازم ملاحظة جميع هذه الأمور في الحكم بنفي التكليف.

و أمّا لو قلنا بأنّ العبرة بالحرج النّوعي، فهل العبرة بنوع المكلّفين في جميع الأزمنة و الأمكنة على اختلافهم في الصنوف و الحالات و الظروف، أو أنّ العبرة بصنف منهم؟ و ما الدّليل على تعيين صنف خاصّ، و ما المعيار في سعة دائرة هذا الصنف؟ و هذا كلّه ممّا أشرنا اليه سابقاً فى أنّ عدم وجود الضابطة لتشخيص ذلك أحد الموهنات لهذا القول.

هذا آخر ما أردنا تحريره في هذه القاعدة المهمّة المغفول ذكرها في كلمات الأصحاب، مع استنادهم إليها في مختلف أبواب الفقه، و تفريع فروع كثيرة عليها؛ و قد بقي خبايا في زوايا يعثر عليها الخبير.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 209

4 قاعدة الفراغ و التجاوز

اشارة

من القواعد المهمّة الّتي اشتهرت في ألسنة المتأخّرين اشتهاراً تامّاً حتّى صارت كالمسلّمات الدائرة بينهم هي قاعدة «التّجاوز و الفراغ»، و إن اختلفوا في أنّها هل ترجع إلى قاعدتين: «التجاوز» و «الفراغ»، أو هي قاعدة

واحدة يعبر عنها باسم تارّة و بآخر أخرى، حسب اختلاف المقامات؟ كما يأتي البحث عنه بما يستحقّه.

و هي المدرك الوحيد لكثير من الفروع الفقهيّة في أبوابها، و لذا وضع غير واحد من المحقّقين رسالات خاصّة لها، و مع ذلك لم يؤدَّ حقّها من البحث. و قد بذلنا غاية المجهود في كشف الستر عن وجه هذه القاعدة و مداركها و ما يتفرّع عليها من الفروع، و غيرها ممّا يتعلّق بها؛ و سنبيّن أنّها لاتختصّ بباب معيّن من أبواب الفقه.

و الكلام فيها يقع في مقامات:

1- البحث عن مدرك القاعدة.

2- في أنّها قاعدة واحدة لاقاعدتان.

3- في أنّها من الأمارات أو من الأصول العمليّة؟

4- في اعتبار الدّخول في الغير فيها و عدمه؟

5- في أنَّه ما هو المراد من «الغير»؟

6- في أنَّ المحلّ الّذي يعتبر التّجاوز عنه شرعي أو عقلي أو عادي؟

7- في عموم القاعدة لجميع أبواب الفقه و عدم اختصاصها بباب دون باب.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 212

8- في عمومها لأجزاء أجزاء العبادة و غيرها.

9- في جريانها عند الشكّ في صحّة العمل.

10- في جريانها في الشرائط.

11- في أنّه لماذا لاتجري القاعدة في أجزاء الطّهارات الثلاث؟

12- في عدم جريان القاعدة عند الغفلة عن كيفيّة العمل.

13- في عدم جريانها في الشّبهات الحكميّة.

14- في اختصاصها بالشكّ الحاصل بعد العمل، لا الشكّ الموجود من قبل.

و إذ قد عرفت ذلك نرجع إلى تفصيل هذه الأبحاث و توضيح هذه القاعدة من شتّى الجهات، فنقول و من اللّه جلّ شأنه نستمد التوفيق و الهداية:

المقام الاول: البحث عن مدرك القاعدة
اشارة

الّذي يجب البحث و التنقيب عنه قبل كلّ شي ء أنّ قاعدة الفراغ و التجاوز و إن كانت ثابتة في النصوص الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام، لكنّها لم تكن معروفة عند قدماء الأصحاب، كمعروفيّتها عند المتأخّرين، و إن استند إليها بعضهم أحياناً في بعض أبواب الطّهارة أو الصّلاة بعنوان حكم جزئي لاقاعدة كليّة سارية في أبواب كثيرة من الفقه أو كلّها.

و لاغرو في ذلك فإنّ لها نظائر من القواعد الفقهيّة و أدلّة الأحكام؛ فهل كانت أخبار الإستصحاب المتّكى عليها اليوم معروفة عند الأوائل؟ إنّ أوّل من استدلّ بها هو والد شيخنا البهائي على ما حُكي عنه. إلى غير ذلك من أشباهه.

ولكن من الواضح أنَّ غفلتهم عنها، أو عدم استنادهم إليها في كثير من كتبهم،

لاتؤثّر في اعتبار القاعدة بعد تماميّة دلالة الأخبار عليها كما هو ظاهر؛ فإنّ ذلك لايسقطها عن الإعتبار من جهة إعراض الأصحاب عنها، لعدم ثبوت الإعراض في أمثالها بعدما كانت استفادتها من الأخبار تحتاج إلى دقّة خاصّة في الأخبار لاتحصل إلّا بتلاقح الأفكار بعد برهة طويلة من الزمان.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 213

مضافاً إلى أنّ عدم تعرضهم لها بهذه الصّورة المعمولة في هذه الأعصار، لايدلّ على عدم اعتبارها عندهم، فإنّه لم يكن من دأبهم إيداع جميع القواعد و الأصول الّتي يستند إليها في استنباط الأحكام في كتبهم في صورة خاصّة مشروحة.

و كيف كان يمكن الإستدلال على هذه القاعدة بأمور:

1- الأخبار العامة و الخاصّة

أوّلها- و هي العمدة- الأخبار المستفيضة الواردة في أبواب مختلفة، بعضها مختصة بالطهارة أو الصلاة، و بعضها عامّة لاتقييد فيها بشي ء، و قسم ثالث منها و إن كان وارداً في مورد خاصّ ولكنّه مشتمل على كبرى كلّية يستفاد منها قاعدة كلّية شاملة لسائر الأبواب.

فلا بدّ لنا أوّلًا من إيراد جميع ما ظفرنا به من الرّوايات، ثمّ البحث عن مقدار دلالتها، و ما يحصل لنا من ضمّ بعضها إلى بعض، و الجمع بينها. و الرّوايات هي:

1- ما وراه زرارة عن أبي عبداللّه عليه السلام: رجل شكّ في الأذان و قد دخل في الإقامة؟ قال:

يمضي، قلت رجلٌ شكّ في الأذان و الإقامة و قد كبّر؟ قال: يمضي، قلت: رجل شكّ في التّكبير و قد قرأ؟ قال: يمضي، قلت: شكّ فى القراءة و قد ركع؟ قال: يمضي، قلت: شكّ في الرّكوع و قد سجد؟ قال: يمضي على صلاته، ثمّ قال: يا زرارة، إذا خرجت من شي ء ثمّ دخلت في غيره فشككّ ليس بشي ء. «1»

و هذه الرّواية بحسب ظاهرها شاملة للطّهارة و

الصّلاة و غيرهما من العبادات، بل تشمل جميع المركّبات الّتي لها أثر شرعي في أبواب العبادات و المعاملات و غيرهما- كما سيأتي الكلام فيه مستوفى إن شاء اللّه- لعموم لفظ «شي ء» لها.

ولكن ظاهرها بقرينة قوله «خرجت من ...» إختصاصها بالشكّ في صحة الشي ء بعد الفراغ عن أصل وجوده؛ فإنّ الخروج عن الشّى ء- بحسب الظهور الأوّلي- هو الخروج عن نفسه لاعن محلّه.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 214

كما أنّ ظاهرها، بادي الأمر هو اعتبار الدّخول في الغير، إلّاأن يكون ذلك جارياً مجرى الغالب؛ لأنّ الإنسان لايخلو عن فعل ما غالباً، فكلّما خرج من شي ء دخل في غيره عادةً. فيكون قوله: «ثم دخلت في غيره» من باب التّأكيد للخروج من الفعل الأوّل. فليكن هذا على ذكر منك، و سيأتي توضيحه في الأمر الرّابع إن شاء اللّه.

2- ما رواه إسماعيل بن جابر عن أبي عبداللّه عليه السلام، قال: إن شكّ في الركوع بعدما سجد فليمض، و إن شكّ في السّجود بعدما قام فليمض، كلّ شي ء شكّ فيه ممّا قد جاوزه و دخل في غيره فليمض عليه. «1»

و صدرها و إن كان مختصاً بباب أجزاء الصّلاة إلّاأنّ ذيلها قضيّة عامّة كالرّواية الأولى، و ظهورها بادئ الأمر في اعتبار الدّخول في الغير مثلها.

3- ما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: كلّما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو. «2»

و هي أيضاً ظاهرة في عدم اعتبار الدّخول في الغير، إلّاأن يقال بأنّ إطلاقها منصرف إلى ما هو الغالب من تلازم مضي الشي ء للدّخول في الآخر، على عكس ما قلناه فى الرّواية الأولى. ولكنّها من حيث اختصاصها بالشكّ في الصّحة دون أصل الوجود كالأولى، و إن كان القول

بالتّعميم هنا أقرب؛ لأنّ إطلاق مضي الشي ء على مضي وقته أو محلّه كثير، يقال: مضت الصّلاة، أي فات وقتها و محلّها. و سيأتي البحث عنه مستوفى إن شاء اللّه.

4- ما رواه عبدااللّه بن أبي يعفور عن أبي عبداللّه عليه السلام: إذا شككْت في شي ء من الوضوء و قد دخلت في غيره فليس شكك بشي ء، إنّما الشكّ إذا كنت في شي ء لم تجزه. «3»

و الضّمير في قوله «غيره» يحتمل رجوعه إلى «شي ء من الوضوء»، و هو الّذي يسبق إلى الذهن بادئ الأمر، ولكنّه مخالف لما يأتي من عدم جريان القاعدة في

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 215

أجزاء الطّهارات الثلاث؛ و يحتمل رجوعه إلى «الوضوء»، فينطبق على ما هو المشهور المعروف المدّعى عليه الإجماع، ولكنّ هذا الإحتمال لايخلو عن مخالفة للظّاهر كما عرفت.

و هل هي عامّة للشكّ في الصّحة و الوجود معاً، أو مختصّة بأحدهما؟

ظاهر صدرها التّعميم؛ فإنّ الشكّ في شي ء من الوضوء أعمّ من الشكّ في أصل وجوده أو صحّته، و ذيلها أيضاً لايأبى عن الحمل عليه.

و هل الرّواية تعمّ جميع أبواب الفقه أو تختصّ بباب الوضوء؟

ظاهر قوله «إنّما الشكّ ... العموم، ولكنّ تخصيصها بباب الوضوء ليس ببعيد؛ فإنّ قوله «إنّما الشكّ «إذا كنت في شي ء لم تجزه» يحتمل أن يكون ناظراً إلى قوله «شي ء فى الوضوء» فالمعنى حينئذ أنَّ الشك إنّما يعتبر «إذا كنت في شي ء من الوضوء لم تجزه»، ولكنّ هذا الإحتمال لايخلو عن مخالفة للظّاهر، لاسيّما بملاحظة كون التّعليل كقاعدة ارتكازية عقلائيّة، كما سيأتي إن شاء اللّه.

و هل يستفاد منها اعتبار الدّخول في الغير أو لا؟

ظاهر صدرها- كما أفاده العلّامة الأنصاري- هو الإعتبار، بينما ذيلها ظاهر في خلافه. ثم إنّه إذا لم يحمل إطلاق

الذيل على ما هو الغالب من الدّخول في الغير بعد الفراغ عن الشّي ء، لم يبعد ترجيحه على الصّدر بناءاً على أنّ ظهور التعليل يكون أقوى.

5- ما رواه بكير بن أعين، قال: قلت له: الرّجل يشكّ بعدما يتوضّأ؟ قال: هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ. «1»

و هي و إن كان واردة في خصوص الشكّ في الوضوء إلّاأنّ قوله «هو حين يتوضأ ...» من قبيل ذكر العلّة في مقام بيان المعلول، فذكر قوله «هو حين يتوضأ ...» بدل قوله «لايعيد الوضوء».

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 216

و حيث إنّ التّعليل بأمر عقلي شامل لغير مورد السّؤال، يجوز عدُّ الرّواية في سلسلة الرّوايات العامّة الدّالة على القاعدة.

الّلهمّ إلّاأن يقال: أنّه ليس من قبيل العلّة للحكم، بل من سنخ الحكمة له، ذُكر استيناساً للحكم، فلايجوز التّعدّي عنه إلى سائر الموارد. و مثله كثير في مختلف أبواب الفقه، فتأمّل.

6- مارواه محمد بن مسلم عن أبى عبداللّه عليه السلام أنّه قال: إن شكّ الرّجل بعدما صلّى فلم يدر أثلثاً صلّى أم أربعاً و كان يقينه حين انصرف أنّه كان قد أتمّ لم يعدّ الصّلاة، و كان حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك. «1»

و بيان دلالتها بعين التّقريب الّذي تقدّم في سابقتها إلّاأنّ الحكم و علّته كليهما مذكوران هنا.

و قد يتوهّم أنّ التّعبير بقوله: «و كان يقينه حين انصرف أنّه كان قد أتمّ» دليل على أنّها ناظرة إلى بيان قاعدة اليقين و الشكّ السّاري، ولكنّه كماترى؛ فإنّ اليقين في تلك القاعدة لايجب أن يكون في خصوص حال الإنصراف كما ذكر في هذه الرّواية، مضافاً إلى أن لسانها في الذيل «و كان حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك» من أقوى

الشّواهد على أنّها بصدد بيان قاعدة الفراغ، و ظاهر في أنّها من سنخ الأمارات، و قاعدة اليقين على القول بها ليست كذلك، فتدبّر.

ثمّ لايخفى أنّ عدَّ الرّواية من الرّوايات العامّة الدّالّة على القاعدة مبني على التّعليل الضمني الإرتكازي المستفاد من قوله: «و كان حين انصرف ...»، و إلّاهي مختصة بباب الشكّ في ركعات الصّلاة بعد الفراغ. و لو قلنا بأنّه لايزيد على الأشعار بالعلّة العامّة سقطت عن الدّلالة على المطلوب.

7- ما وراه إبن إدريس في مستطرفات (السّرائر) نقلًا عن كتاب حريز بن عبداللّه عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إذا جاء يقين بعد حائل قضاه و مضى على اليقين و

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 217

يقضي الحائل و الشكّ جميعاً؛ فإن شكّ في الظّهر فيما بينه و بين أن يصلّي العصر قضاها، و إن دخله الشكّ بعد أن يصلّي العصر فقد مضت، إلّاأن يستيقن؛ لأنّ العصر حائل فيما بينه و بين الظهر، فلا يدع الحائل لما كان من الشكّ إلّابيقين». «1»

و حاصل مفادها أنّ وجود «الحائل» الّذي هو عبارة أخرى عن «الغير» الوارد في سائر الرّوايات يوجب عدم الإعتناء بالشكّ بعد التجاوز عنه، فلو شكّ في فعل الظّهر بعد الإتيان بالعصر لايعتني بشكّه لتحقّق الحائل و هو العصر، و أمّا لو شكّ قبله فعليه إتيانها. نعم، لو علم بترك الظهر و لو بعد تحقّق الحائل- و هو العصر- فعليه أداؤها، لوضوح أنّ القاعدة تختصّ بصورة الشكّ.

و أمّا قوله: «و يقضي الحائل و الشكّ جميعاً» فلا يخلو عن تشويش و اضطراب، ولكن لايمنع من الإستدلال بالذيل بعد وضوحه و ظهوره في المقصود.

و قد استدلّ بالرّواية سيّدنا الأستاذ في (المستمسك) على عدم وجوب الظّهر على من صلّى

العصر ثمّ شكّ في فعل الظّهر، ثمّ صرّح بأنّه لم يجد عاجلًا من تعرّض لذلك؛ ثمّ استدلّ لهذا الحكم بقاعدة التّجاوز أيضاً بناءاً على أنّه يثبت وجود المشكوك بلحاظ جميع آثاره. «2»

هذا ولكنَّ الرّواية بنفسها من أدلّة القاعدة كما رأيت، و سيأتي له مزيد تحقيق أيضاً. و على كلّ حال، هي من الأدلّة العامّة الدّالّة على عدم الإعتناء بالشّكّ بعد تحقق الحائل؛ لأنّ الحكم المذكور في صدر الرّواية كالعلّة المذكورة في ذيلها حكم عام لايختصّ بباب دون باب. ولكن ظاهرها اعتبار الدّخول في الغير لو لم نقل بظهورها في اعتبار الفراغ عن الغير. فتأمّل.

هذا ما عثرنا عليه من الرّوايات العامّة الّتي لاتختصّ بباب دون باب.

و هناك روايات كثيرة خاصّة وردت في أبواب مختلفة مثل أبواب الوضوء، و غسل

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 218

الجنابة، و الرّكوع و غيره من أفعال الصّلاة، بل و في أبواب الحج. و لا بأس بالإشارة إلى بعض ما ورد في تلك الأبواب من الرّوايات الخاصّة المؤّيدة لما مرّ عليك من العمومات:

1- ما ورد في باب الوضوء، مثل ما رواه محمد بن مسلم، قال: سمعت أباعبداللّه عليه السلام يقول: كل ما مضى من صلاتك و طهورك فذكرته تذكّراً فأمضه و لا إعادة عليك. «1»

وهذه الرّواية- كما ترى- مختصّة بباب الوضوء و الصّلاة، و لاتعمّ سائر الأبواب بلسانها.

2- ما ورد في أبواب الجنابة، مثل ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السلام في حديث، قال: قلت له: رجل ترك بعض ذراعه، أو بعض جسده من غسل الجنابة- إلى أن قال: فإن دخله الشكّ و قد دخل في صلاته فليمض في صلاته و لا شي ء عليه .... «2»

و ظاهرها إعتبار الدّخول في الغير فتأمّل.

3- ما

ورد في باب الشكّ في الرّكوع، مثل ما رواه حمّاد بن عثمان قال: قلت لأبي عبداللّه عليه السلام: أشكّ و أنا ساجد فلا أدري ركعت أم لا؟ فقال: قد ركعت، أمضه. «3»

4- ما رواه في ذاك الباب بعينه عن الفضيل بن يسار، قال: قلت لأبي عبداللّه عليه السلام: أستتمّ قائماً فلا أدري ركعت أم لا؟ قال: بلى قد ركعت، فامض في صلاتك. «4»

5- و ما رواه أيضاً في ذاك الباب عن عبدالرّحمن بن أبي عبداللّه، قال: قلت لأبي عبداللّه عليه السلام: رجل أهوى إلى السجود، فلم يدر أركع أم لم يركع؟ قال: قد ركع. «5»

6- ما ورد في باب عدد الأشواط في الطواف من عدم الإعتناء بالشكّ فيه بعد خروجه عن الطواف و فوت المحلّ، مثل ما رواه محمد بن مسلم، قال: سألت أباعبداللّه عليه السلام عن رجل طاف بالبيت فلم يدر أستّة طاف أم سبعة، طواف فريضة؟ قال: فليعد

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 219

طوافه، قيل: إنّه قد خرج و فاته ذلك، قال ليس عليه شي ء. «1»

7- و ما رواه عن منصور بن حازم في ذاك الباب بعينه، قال: سألت أباعبداللّه عليه السلام عن رجل طاف طواف الفريضة فلم يدر ستّة طاف أم سبعة؟ قال: فليعد طوافه، قلت: ففاته، قال:

ما أرى عليه شيئاً، و الإعادة أحبّ إليَّ و أفضل. «2»

و استدلّ في الجواهر بها و بما أشبهها للحكم بعدم العبرة بالشكّ في عدد أشواط الطواف بعد الفراغ عنه، بعد استظهار عدم الخلاف في حكم المسألة.

و من هنا تعرف أيضاً أنّ الحكم بمقتضي قاعدة التّجاوز و الفراغ لايختصّ بأبواب الطّهارة و الصّلاة، بل يجري في الحج و غيره أيضاً كما سيأتي البحث عنه مستوفى إن شاء اللّه.

و لم نعثر في غير هذا الباب من أبواب الحجّ ما يدلّ على ما نحن فيه، و لعلّ المتتبّع الخبير يعثر على غيره أيضاً.

و هناك روايات أخرى خاصّة في مختلف أبواب الصّلاة و الطّهارة تتّحد مضامينها مع ما ذكرنا لم نتعرّض لبيانها، و إنّما اخترنا هذه الرّوايات السّبع من بينها لما فيها من الشّواهد و الإشارات و أضواء تشرق على المباحث الآتية، و يُهتدى بالحقائق التي تحتها كما ستعرف إن شاء اللّه.

و هذه الرّوايات و إن وردت في أبواب خاصّة و ليس فيها ما يدلّ على عموم الحكم كالرّوايات السّابقة ولكنّها تكون مؤيّدة لها، و يشرف الباحث على القطع بعدم اختصاص القاعدة بباب دون باب، و جريانها في جميع العبادات، بل و غيرها من المركّبات الشرعيّة إذا شكّ في بعض أجزائها و شرائطها، أو في أصل وجودها بعد مضي محلّها.

و يمكن جعل هذه الأخبار و ما يضاهيها دليلًا مستقلًا بنفسه، فإنَّ استقراء أحكام الشرع في أبواب الوضوء و الغسل، و الإقامة و التّكبير و القراءة و الركوع و

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 220

السّجود و الطواف- مع قطع النّظر عن العمومات- يوجب الإطمئنان بعدم اختصاص الحكم بباب دون باب، و جريان القاعدة في جميع الأبواب؛ لاسيّما بعد ملاحظة التّعبيرات الواردة فيها، ممّا يشعر أو يدلّ على عدم اتّكاء الحكم على خصوصيّة المورد، بل على عناوين: الشكّ، الفراغ و التّجاوز، و أمثالها، فتأمّل.

2- السّيرة العقلائيّة

و يدلّ على المقصود أيضاً إستقرار سيرة العقلاء و أهل العرف- في الجملة- على البناء على صحّة العمل بعد مضيّه، و لعلّه في الحقيقة راجع إلى عموميّة أصالة الصحّة لفعل النّفس كما مرّ في بحث «قاعدة الصحّة»، و أنّه لافرق فيها بين فعل الغير و

فعل النّفس، خلافاً لما يستفاد من صريح كلمات بعضهم و ظاهر آخرين من تخصيصها بفعل الغير فقط، و لذا ذكروا في عناوين كلماتهم هناك: «أصالة الصحّة في فعل الغير».

و قد عرفت أنّ دقيق النّظر يعطي عدم اختصاص بعض أدلّتها به و شمولها لأصالة الصحّة في فعل النّفس أيضاً.

و لذا قال فخر المحقّقين قدّس سرّه الشريف في (إيضاح القواعد) في مسألة الشكّ في بعض أفعال الطّهارة: إنّ الأصل في فعل العاقل المكلّف الّذي يقصد براءة ذمّته بفعل صحيح و هو يعلم الكمّية و الكيفيّة الصّحّة.

و هذا الكلام منه- كما ترى- إشارة إلى قاعدة عامّة تجري في فعل الإنسان نفسه و غيره، و هو مبني على ظهور حال الفاعل الّذي هو بصدد تفريغ ذمّته بفعل صحيح مع علمه بأجزاء الفعل و شرائطه.

و هي قاعدة عقلائيّة عامّة في جميع الأفعال و جميع الأبواب. ولذا لو فرضنا واحداً منّا كتب كتاباً أو حاسب حساباً أو أقدم على تركيب معجون و هو عالم بأجزائه و شرائطه ثمّ مضت عليه أيّام أو شهور فشكّ في صحّة الكتاب أو المحاسبة أو تركيب المعجون من جهة احتمال الإخلال ببعض شرائطه و أجزائه غفلةً منه فهل تراه

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 221

يعتني بهذا الشكّ و يعيد النّظر اليها مرّة بعد مرّة كلّما شكّ في شي ء ممّا يعتبر فيها؟

مع أنّ احتمال الفساد من ناحية الغفلة موجود في غالب أفعال الإنسان، كيف و قد صار الغفلة و النّسيان كالطّبيعة الثّانية له، كما قال الشاعر: وَ لَلْغَفَلَات تَعْرضُ لِلْأرِيِبِ.

و كلّما كان الفعل أدقّ و كانت أجزاؤه و شرائطه أكثر كان هذا الإحتمال فيه أقوى؛ فإذا كتب كاتب كتاباً ضخماً كان احتمال الغلط فيه من ناحية الغفلة و الإشتباه

فيه قويًّا جداً، ولكن إذا كان الكاتب ذو بصيرة في فعله و نيّة صادقة في كتابته عازماً على بذل مجهوده في تصحيح الكتاب لايعتني باحتمال الفساد فيه إذا فرغ منه و جاوز عنه، إلّاأن يكون هناك قرائن و أمارات توجب الظنّ بوجود الخلل في بعض نواحيه.

و لافرق في ذلك بين أن يكون الكاتب غيره أو نفسه فشكّ في عمل نفسه. نعم، إذا كان هو مشتغلّاً بعمله فشكّ في شي ء منه في محلّه يعيد النّظر إليه حتّى يكون على ثقة من صحّته و أدائه كما هو حقّه.

و لعمر الحقّ أنّ هذا أمر ظاهر لاسترة عليه لمن راجع أفعال العقلاء و ديدنهم في أمورهم المختلفة في الجملة؛ و إن كان باب المناقشة في جزئيّات المسألة و حدودها سعة و ضيقاً واسعاً، ولكنّ أصل هذه القاعدة- على إجمالها- محفوظة عندهم.

و الظّاهر أنَّ الوجه في بنائهم هذا أنّ احتمال الغفلة حين الإشتغال بالعمل في حدّ ذاته أمر مرجوح لايعتنى به. أضف إليه أنّ العاقل الشّاعر الذاكر حين الفعل لايأتي بما هو مخالف لأغراضه و أهدافه.

و هذا هو بعينه ما أشار إليه الإمام عليه السلام في عبارة و جيزة لطيفة في رواية «بكير بن أعين» الماضية «1» حيث قال: «هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشكّ».

فإنّه كالصغرى لكبرى محذوفة تعرف من سياق الكلام، و هي أنّ الذاكر لفعله

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 222

لايأتي بما هو مخالف لمقصوده و غرضه. و إذا انضمت هذه الكبرى إلى صغرى مذكورة في كلامه عليه السلام و هي أنّه «حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ» لأنّ احتمال الغفلة أمر مرجوح بالنّسبة إلى المشتغلّ بالعمل حينه، كان قضيتها صحّة العمل و عدم الإعتناء بالشّكّ. فالصغرى تسدّ

احتمال الغفلة، و الكبرى تسدّ احتمال العمد في فعل ما هو مخلّ بغرضه.

و كذلك قوله في رواية محمد بن مسلم: «و كان حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك» «1»

هذا كلّه مضافاً إلى ما في هذا الأصل من رفع الحرج عن النّاس الّذي هو الملاك في كثير من الطرق و الأصول العقلائيّة. و ببالي أنّ صاحب الجواهرقدّس سرّه تمسّك بقاعدة الحرج أيضاً في مسألة الشكّ في عدد أشواط الطّواف الّتي مضى ذكرها آنفاً؛ و كأنّه قدّس سرّه أيضاً ناظرٌ إلى هذا المعنى، لأنّ مسألة الشكّ في عدد أشواط الطواف لاخصوصيّة لها من هذه الجهة.

و إن قال قائل: كيف يكون الذّكر هو الأصل في حال الفاعل مع أنّا كثيراً ما نغفل عن تفاصيل أعمالنا، و هل يوجد بين النّاس من يكون حاضر القلب، ذاكراً لجميع أفعال صلاته و سائر عباداته دائماً، الّلهمّ إلّاالأوحدي منهم؟ فالغفلة عن تفاصيل الفعل و أجزائه و شرائطه حين العمل لعلّها الغالب، من غير فرق بين الصّلاة و الصّيام و الطّهارات و الحجّ.

بل يظهر من غير واحد من الروايات الواردة في باب حضور القلب في الصّلاة، و أبواب الشكوك، أنّ الأمر كان على هذا الحال عند كثير من أصحاب الأئمّة، و كانوا يشكون عندهم عليه السلام إنصراف قلوبهم عن تفاصيل العمل- أو عن اللّه- في صلواتهم أو غيرها.

قلنا: هذه الغفلات ليست غفلة محضاً بل هي مشوبة بنوع من الذكر الإجمالي، و

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 223

ذلك لأنّ الإنسان إذا كان بصدد إتيان شي ء من المركّبات الخارجيّة، و لم يكن له عهدٌ به من قبل- كمن يصلّي لأوّل مرّة- فلا مناص له من الذكر الكامل و العلم التّفصيلي عند الإتيان بكلّ جزء جزء منه، بحيث

كلّما غفل عنه وقف عن العمل، لعدم اعتياده عليه. ولكن بعد الإتيان به مرّات عديدة- تتفاوت بتفاوت الأعمال و الأشخاص- يحصل له ملكة خاصّة، و نوع من الإرتكاز الإجمالي بالنّسبة إلى تفاصيل العمل و خصوصيّاته و أجزائه، و يقوم ذلك مقام الذكر الكامل و العلم بتفاصيله.

و حينئذ صورة العمل و خصوصيّاته و إن انمحت عن صفحة ذهنه عند غلبة الغفلة، لكنّها بعدُ مرتكزة في أعماق ذهنه و باطن شعوره، و لذا يأتي بالعمل غالباً على وجه الصّحّة حينئذ، ولايقف عنه عند انصراف ذهنه و غلبة الغفلة كالمتردّد الحائر؛ كيف لا، و الفعل فعل إرادي إختياري لابدّ من استناده إلى إرادة ما قطعاً.

و الحاصل أنّ الفاعل في هذه المقامات ليس ساهياً غافلًا بالمرّة، بل هو ذاكر بنوع من الذّكر، سمّه: «الذّكر الإجمالي» أو ما شئت.

بقي هنا أمران.

الأوّل: إنّ بناء العقلاء على هذه القاعدة في أمورهم لايلازم القول باتّحاد سعة دائرتها عند الشّرع مع ما هو عندهم، فلو دلت الإطلاقات السّابقة على جريانها في موارد لم يثبت استقرار السيرة العقلائيّة عليها فإنّه يُبنى عليها، فكم من أصل أو قاعدة أو أمارة ثبتت في الشّرع بنحو أوسع أو أضيق ممّا عند العرف و العقلاء مع كون أصولها متّخذة منهم؟

الثّاني: الظّاهر أنَّ بناء العقلاء على هذه القاعدة في أفعالهم إنّما هو في الموارد التي لم يكن فيها قرائن ظنّيّة يُعتنى بها على خلافها؛ فلو كان الفاعل ممّن يكثر عليه السّهو، أو نحو ذلك من القرائن و الأمارات الظنّيّة الغالبة، أشكل الركون إليها عند الشكّ في العمل و لو بعد الفراغ و التّجاوز منه.

المقام الثاني: في أنّها قاعدة واحدة أو قاعدتان؟
اشارة

ذهب غير واحد من أعاظم المتأخّرين و المعاصرين- و في مقدّمهم العلّامة الأنصاري (قدّس سرّه الشريف) على ما

يستفاد من ظاهر كلماته في الرّسالة- إلى أنّها قاعدة واحدة عامّة لموارد الفراغ عن العمل و التّجاوز عن أجزائه، بينما ذهب آخرون كالمحقّق الخراساني و الفقيه النابه الهمداني قدّس سرّهما في محكي تعاليقهما على الرّسالة إلى أنّهما قاعدتان مختلفتان واردتان على موضوعين مختلفين.

و اختار المحقّق النائيني قدس سره في بعض ما ذكره أخيراً في المسألة مذهباً ثالثاً، و هو أنّه ليس هناك إلّاقاعدة الفراغ الشّاملة لجميع الأبواب، و موضوعها الأعمال المستقلّة التّامّة، لا أجزاء عمل واحد. ولكنّه أضاف إلى ذلك أنّ الأخبار الواردة في خصوص الشكّ في أجزاء الصّلاة تدلّ على أنّ الشّارع المقدّس نزّل أجزاء الصّلاة منزلة الأعمال المستقلّة، فأجرى فيها تلك القاعدة أيضاً. فبمقتضى حكومة هذه الأخبار على أدلّة القاعدة حصل لقاعدة الفراغ فردٌ أدّعائي تنزيلي قبال أفرادها الحقيقيّة.

إذن لايبقى مجال للبحث عن تصوير الجامع بينهما- لأنَّ المفروض كون دخول أحد الفردين في الكبرى المجعولة في طول الفرد الآخر لا في عرضه- لكي يبحث عن كيفيّة الجامع بينهما، فإنّ ذلك إنّما هو في الأفراد العرضيّة لاغير.

هذا و البحث عن هذه المسألة تارّة يقع في مقام الثبوت، و أنّه هل يوجد هناك ما بمفاده يكون جامعاً بين حكم «الفراغ عن نفس العمل» و «التّجاوز عن أجزائه، أو لا يوجد هناك جامع أصلًا؟

و أخرى في مقام الإثبات و أنّ مفاد أخبار الباب و أدلّة القاعدة هل هو جعل قاعدة واحدة تشمل بعمومها الشك في أجزاء العمل في أثنائه، و الشك في صحّته بعد الفراغ عنه؟ و ذلك بعد إحراز إمكانها من جهة مقام الثّبوت.

و بعد ذلك كلّه نتكلّم فيما أفاده المحقّق النّائيني قدّس سرّه و ما أختاره من المذهب الثّالث.

أمّا المقام الأوّل، فحاصل الكلام فيه أنّه قد يتوهّم

عدم إمكان الجمع بين

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 225

القاعدتين في لسان واحد و جعل واحد ثبوتاً.

و استدلّ عليه بعدّة أدلّة ذكرها المحقّق النّائيني قدس سره في كلماته في المقام، و إن لم يرتضها و أجاب عنها بما سيأتي نقله و نقده.

الدليل الأول: أنّ لازم وجود الجامع المذكور الجمع بين اللحاظين في متعلّق الشكّ؛ فإنّ متعلّقه في قاعدة التّجاوز هو أصل وجود العمل بمفاد كان التّامّة، بينما متعلّقه في قاعدة الفراغ صحة العمل بمفاد كان النّاقصة، و الجمع بين هذين اللّحاظين في إنشاء واحد و خطاب واحد محال.

و يمكن الجواب عنه أوّلًا: بأنّ استحالة الجمع بين اللّحاظين في إنشاء واحد، و كلام واحد، و كذا استعمال اللّفظ في أكثر من معنى واحد و إن دارت في ألسن المتأخّرين و اشتهرت بينهم، و بنوا عليها ما بنوا من مسائل مختلفة في طيّات كتب الأصول الحديثة هي من المشهورات الّتي لا أصل لها. و ما بنوا عليها من المسائل الأصوليّة و غيرها- و ما أكثرها و أوفرها- كلّها مخدوشة ممنوعة؛ و ذلك لما حققناه في محلّه من وقوع ذلك فضلًا عن إمكانه، و حاصله؛ إنَّ اللّحاظ في هذه الموارد لايجب أن يكون تفصيليّاً و في آن واحد حقيقي مقارناً لآنِ صدور الكلام و الإنشاء، بل يجوز تصوّر هذه الأمور المختلفة تفصيلًا من قبل و لو آناً ما، ثمّ الإشارة إليها إجمالًا عند الإستعمال و في آن الإنشاء. و هذا أمر ممكن جدّاً، بل واقع كثيراً. و هذه الإشارة الإجماليّة كافية في مقام الإنشاء و استعمال اللّفظ.

و الوجدان أقوى شاهد على ذلك، فهل ترى من نفسك إشكالًا أو حزازة و استحالة في قول القائل عند إنشاء هاتين القاعدتين: «إذا جاوزت

عن محلّ شي ء فشكك فيه ليس بشي ء، سواء كان في أصل وجوده أم في صحّته، و سواء كان في أجزاء عمل واحد أم في أمور مستقلّة.

و هل ترى فرقاً بين أن يضيف إلى كلامه قوله: «سواء ...»، و بين أن يضمر ذلك في نفسه من غير تصريح به في الكلام؟ أَوَ ليس قوله: «سواء» توضيحاً للإطلاق المراد من كلامه السّابق؟ إنَّه ليس إنشاءاً جديداً مذكوراً في ذيل الكلام غير ما هو مذكور

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 226

في صدره.

و هذا أمر وجداني لاترفع اليد عنه ببعض السفسطات الباطلة، كيف و قد عرفت أن اللّحاظ الإجمالي حين الإنشاء، أو استعمال اللّفظ، كافٍ قطعاً، و لاحاجة إلى اللّحاظ التّفصيلي كي يقع الكلام في عدم إمكان المتعدّد منه في استعمال واحد.

هذا مضافاً إلى أنَّ آن استعمال اللّفظ ليس آناً حقيقياً عقليّاً، و ليس استعمال اللّفظ في المعنى من قبيل فناء العنوان في المعنون و المرآة في المرئي، كما توهّم؛ فإنّ هذه كلّها استحسانات زائفة لاقيمة لها عند أبناء المحاورة إذا رجعنا إليهم، و كثير منها من قبيل خلط الحقائق بالإعتباريّات، و الأمور العقليّة بالأمور العرفيّة. و توضيح ذلك أكثر ممّا ذكر موكول إلى محلّه. «1»

و ثانياً: إنّ وصف الصحّة- على ما هو التّحقيق- ليس من الأوصاف الحقيقيّة العارضة للعمل حقيقة، مثل عروض العلم و البياض للإنسان و الثّلج، بل هو أمر

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 227

إنتزاعي ينتزع من وجود الشي ء جامعاً لجميع أجزائه و شرائطه، ففقدان هذا الوصف إنّما هو بفقدان جزء من العمل أو شرط من شروطه؛ و من المعلوم أنّ الجعل لايتعلّق بها إلّاباعتبار منشأ انتزاعها.

فالشكّ في الصحّة يرجع لامحالة إلى الشكّ في وجود جزء أو شرط بمفاد كان التامّة.

إذن لايبقى فرق بين متعلّق الشكّ في مورد قاعدة الفراغ، و التّجاوز؛ فإنّ متعلّقه في كلّ منهما هو الوجود بمفاد كان التّامّة، فتدبّر.

و ثالثاً: أنّه لايلزم الجمع بين اللّحاظين، لإمكان إرجاع قاعدة الفراغ إلى ما هو مفاد كان التامّة؛ بأن يجعل متعلّق الشكّ نفس صحّة العمل، لا اتّصاف العمل بالصحّة. و الفرق بينهما ظاهر، لرجوع الأوّل إلى مفاد كان التّامّة و الثاني إلى مفاد كان النّاقصة.

ذكر هذا الوجه المحقّق النّائيني قدس سره و ارتضاه في آخر كلامه بعدما أورد عليه في أوّله بوجهين:

الأول: أنّه مخالف لظاهر أخبار الباب؛ لظهورها في الحكم باتّصاف العمل الموجود بالصحّة، لابنفس الصحّة بعنوان كان التامّة، فإرجاع التعبّد فيها إلى التعبّد بوجود صحّة العمل ربّما يشبه الأكل من القفا.

ثانيهما: أنّه لو تمّ فإنّما يتمّ في باب الأحكام التكليفيّة، الّتي لايعتبر فيها إلّاإحراز وجود الصحيح خارجاً؛ و لايتمّ في باب الأحكام الوضعيّة، لأنّ الأثر فيها يترتّب على اتّصاف العقد الموجود بالصحّة، و لايترتّب على مجرّد وجود الصّحيح في الخارج؛ فإنّه من الواضح أنَّ مجرّد التعبّد بهذا لايترتّب عليه أيّ أثر خارجي، بل الآثار إنّما تترتّب على هذا الفرد الموجود إذا اتّصف بالصحّة.

هذا ما أفاده المحقّق المذكور في هذا المقام، ولكن في كلا الوجهين نظر:

أمّا الأوّل فلأنَّه خروج عن محل البحث، لمّا عرفت من أنّ الكلام هنا في مقام الثّبوت، و ما ذكره من مخالفته لظاهر الروايات راجع إلى مقام الإثبات و الإستظهار من الأدلّة؛ و سيأتي الكلام فيه، فتأمّل.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 228

و أمّا الثّاني فلأنَّ الأثر في المعاملات يترتّب على ما هو مفاد كان التّامّة أيضاً، ولكن مع حفظ المورد و الموضوع؛ مثلًا: إذا شككنا في تحقّق عقد صحيح مستجمع لشرائطه

على امرأة خاصّة بمهر معين إلى أجلّ معلوم، و كان الشكّ في أصل وجود هذا العقد الخاصّ بعنوان كان التّامّة، ثمّ ثبت حكم الشّارع بوجوده كذلك، رتّبنا عليه الأثر، و كان لتلك المرأة جميع ما للزّوجة من الآثار الشّرعيّة.

و كأنّه قدّس سرّه توهّم أنّ وجود العقد بمفاد كان التّامّة دائماً يلازم إبهامه و إجماله و عدم تشخّص مورده حتّى يترتّب عليه الأثر، مع أنّ إبهام متعلّق العقد أوتعيّنه و تشخّصه لاربط له بكون الشكّ في وجوده بمفاد كان التّامّة أو غيرها؛ فإنّ متعلّق الشكّ قد يكون وجود عقد خاصّ معين من جميع الجهات، مع كونه من قبيل مفاد كان التّامّة، تأمّل فإنّه لايخلو عن دقّة.

الدليل الثاني: إنّ المركّب حيث إنّه مؤلّف من أجزاء، فلا محالة يكون لحاظ كلّ جزء بنفسه سابقاً في الرّتبة على لحاظ الكلّ، إذ في رتبة لحاظ المركّب و الكلّ يكون الجزء مندكاً فيه، مثلًا: لحاظ كلّ حرف من حروف كلمة بنفسه مقدّم على لحاظ الكلمة المؤلّفة منها، كما أنّ لحاظ الكلمة في نفسها مقدم على لحاظ الآية، و هكذا بالنّسبة إلى السورة و الصّلاة جميعاً. و حينئذ كيف يمكن أن يراد من لفظ «الشي ء» في قوله: «كلّ شي ء شكّ فيه و قد جاوزه ...» الكلّ و الجزء معاً و بلحاظ واحد، مع أنّهما مختلفان في مرتبة الّلحاظ؟!

و الجواب عنه:

أوّلًا: ما مرّ من إمكان الجمع بين اللّحاظين في كلام واحد؛ فإنّ هذا الوجه أيضاً يرجع في الحقيقة إلى استحالة الجمع بين اللّحاظ الإستقلالي للجزء- و هو لحاظه بنفسه-، و لحاظه مندكّاً في الكلّ- و هو لحاظه التّبعي-، في مرتبة واحدة.

و ثانياً: أنّ ما ذكر إنّما يلزم إذا لوحظ الكلّ و الجزء تفصيلًا و بهذين العنوانين،

و

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 229

لكنّ لحاظهما بعنوان إجمالي شامل لهما، كعنوان العمل- بنحو اللابشرط- لامانع منه أصلًا، فقوله «كلّ شي ء ...» في معنى قوله «كلّ عمل ...»، فكما يندرج مجموع العمل تحت هذا العنوان، يندرج جزؤه أيضاً فيه على نحو إجمالي. و الحاصل أنّ الإشكال إنّما هو في فرض ملاحظة هذين العنوانين بنفيهما، لا فيما إذا لوحظا بعنوان عامّ شامل لهما.

و العجب أنّه قدّس سرّه مثّل له بأجزاء الكلمة، و كلمات الآية، و آيات السّورة، مع أنّ كثيراً من الأعلام صرّحوا بشمول قاعدة التّجاوز بنفسها للأجزاء و أجزاء الأجزاء، فإذا شكّ في قراءة السّورة بعد مضي محلّها جرت فيها القاعدة، كما أنّه إذا شكّ في قراءة آية منها بعد مضي محلّها جرت فيها أيضاً؛ فالسّورة بنفسها مشمولة لها، و الآية من آياتها أيضاً كذلك. «1»

فلو كان لحاظ الكلّ و أجزائه في خطاب واحد مستحيلًا جرى ذلك في الجزء و أجزاء الجزء.

و ممّا ذكرنا تعرف عدم الحاجة في حلّ الإشكال الى تكلّف القول بأنّ الأدلّة الواردة في المسألة متكفّلة لحكم قاعدة الفراغ عن العمل فقط، فالمجعول أوّلًا و بالذّات هو هذه القاعدة، إلّاأنّ الأدلّة الخاصّة الواردة في باب أجزاء الصّلاة تنزّل أجزاءها منزلة الكلّ؛ فيحصل للقاعدة بعد حكومة أدلّة قاعدة التّجاوز- و هي الرّوايات الواردة في باب الشكّ في اجزاء الصّلاة- على أدلّتها فردان: فرد حقيقي، و فرد تنزيلي. و على هذا لايلزم الجمع بين اللّحاظين في إطلاق واحد أصلًا.

ذكر ذلك المحقّق النّائيني في أواخر كلامه في المسألة، و جعله طريقاً لحلّ هذه العقدة و الإشكال الآتي في الوجه الثالث من لزوم التّدافع بين القاعدتين، و بنى عليه ما بنى.

ولكن فيه من التّكلّف و التعسّف ما لايخفى، و

سيأتي توضيحه بنحو أوفى إن شاء

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 230

اللّه تعالى.

الدليل الثالث: لزوم التدافع بين القاعدتين في موارد التّجاوز عن محل الجزء المشكوك، فإنّه باعتبار لحاظ الجزء بنفسه- كما هو مورد قاعدة التّجاوز- يصدق أنّه قد تجاوز عن محلّه، فلا يعتني بالشّكّ فيه؛ و باعتبار لحاظ الكلّ يصدق أنّه لم يتجاوزه، فيجب الإعتناء به و تداركه، و هذا هو التّدافع بينهما.

و الجواب عنه، أنَّ هذا التّدافع ساقط جدّاً لأنّه:

أوّلًا: لاتدافع بين نفس القاعدتين، و إنّما يكون التّدافع- على فرض وجوده- بين أصل قاعدة التّجاوز و عكس قاعدة الفراغ، و هذا إنّما يلزم لو كان عكسها كنفسها مجعولة.

و أمّا لو كان المجعول أصلها فقط، و كان لزوم التّدارك عند عدم الفراغ من باب قاعدة الإشتغال- كما هو الظّاهر- فلا تدافع بينهما أصلا؛ فإنَّ مخالفتهما من قبيل مخالفة ما فيه الاقتضاء و ما لا إقتضاء فيه و من الواضح عدم المنافاة بينهما.

فلزوم تدارك الجزء المشكوك قبل الفراغ من باب عدم وجود ما يعذر به العبد و ما يقتضي براءته، فإذا اقتضت قاعدة التّجاوز عدم وجوب التدارك عليه كان عذراً له في تركه و مبرى ءً للذمّة.

و الحاصل أنّ التّدافع بينهما ثابت لو كان عكس قاعدة الفراغ كأصلها مجعولٌ، و كان كل واحد منهما من قبيل ما فيه الإقتضاء، فهذا يقتضي التدارك قبل الفراغ عن الكلّ بينما تكون قاعدة التّجاوز مقتضية لعدم وجوبه عند التّجاوز عن الجزء، فحينئذ يلزم التّدافع بينهما. إلّاأن يخصّص عكس القاعدة بموارد لاتجري فيها قاعدة التّجاوز، كالشّرائط الّتي تعتبر في مجموع الصّلاة، بناءاً على عدم جريان قاعدة التّجاوز فيها بالنّسبة إلى الأجزاء السّابقة.

هذا ولكن قد عرفت أنّ المجعول هو نفس القاعدة لاعكسها، و أنّ التدارك

قبل الفراغ إنّما هو بمقتضى قاعدة الإشتغال و التكليف الأصلي.

و من هنا تعرف وجه النظر فيما أفاده من الإشكال و الجواب في المقام بقوله:

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 231

«إن قلت» و «قلت»، فراجع كلامه.

الدليل الرابع: إنّ المعتبر في قاعدة التّجاوز هو التّجاوز عن محل المشكوك، و المعتبر في قاعدة الفراغ هو التّجاوز عن نفس العمل، فكيف يمكن إرادة التّجاوز عن محلّ الشي ء و عن نفسه معاً من لفظ واحد؟

و الجواب عن هذا الإشكال يظهر ممّا ذكرناه و أوضحناه في الوجوه السّابقة، و لاسيّما الوجه الأوّل. و نزيدك هنا أنّ الإختلاف بينهما ليس اختلافاً في مفادهما و ما يراد من لفظ «التّجاوز» و متعلّقه، و إنّما هو في المصاديق لاغير.

ففي موارد إحراز نفس العمل مع الشك في صحّته من جهة الشك في الإخلال ببعض ما يعتبر فيه، يتحقّق المُضي عنه بالتّجاوز عن نفسه، و في موارد الشك في نفس الأجزاء يكون المُضي عنه بالتّجاوز عن محلّه؛ فالملاك هو صدق التّجاوز عن الشّي ء و المضي عنه و هو مفهوم واحد و إن كان ما يتحقق به مختلفة.

هذا ولكن الإنصاف أنّ صدق التّجاوز عن الشّي ء بالتّجاوز عن محلّه يحتاج إلى نوع من المسامحة، لأنّ التّجاوز عن الشّي ء ظاهر في التّجاوز عن نفسه لاعن محلّه، ولكن هذا المقدار لايوجب إشكالًا في اندراج القاعدتين تحت عموم واحد، غاية الأمر يكون للتّجاوز فردان: فرد حقيقي- و هو التّجاوز عن نفس العمل-، و فرد إدّعائي- و هو التّجاوز عن محلّه-. و لايذهب عليك أنّ هذا ليس من باب إستعمال اللّفظ في أكثر من معنى واحد و لو قلنا بامتناعه كما لايخفى، كما أنّ هذا غير ما أفاده المحقّق المذكور من إرجاع احدى القاعدتين

إلى الأخرى.

نتيجة البحث في مقام الثبوت:

هذا كلّه بحسب مقام الثبوت، و قد تحصّل منه أنّه لا مانع من اتّحاد القاعدتين و إنشائهما بلفظ واحد، كما أنّه لامانع من إنشائهما بإنشاءين مختلفين لو كان هناك داع إليه. و قد عرفت أنّ جميع ما ذكروه من الموانع و الإشكالات وجوه فاسدة لايمكن الركون إليها، و أنّه لايلزم أي محذور عقلي من هذه النّاحية.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 232

و أمّا بحسب مقام الإثبات و ظهور أدلّة المسألة، فالمستفاد من بناء العقلاء الذي قد عرفت ثبوته في المسألة و قد أشير إليه في روايات الباب الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام أيضاً بقولهم: «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ»، و قولهم «كان حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك» هو اتّحادهما و عدم الفرق بينهما، لاتّحاد الملاك في الموردين، و إن اختلفت مصاديقهما من بعض الجهات.

فما دام الإنسان مشتغلّاً بعملٍ يكون خبيراً بحاله، مقبلًا عليه، عالماً بكيفيّاته- و لو بالعلم الإجمالي الإرتكازي الذي عرفته آنفاً-، فيكون أذكر و أبصر منه حين يشكّ عند مضيّه و انصرام أجله و انمحاء تفاصيله عن ذهنه؛ بلا تفاوت في ذلك بين الكلّ و الجزء، و بين الفراغ عن نفس الشّي ء أو التّجاوز عن محلّه.

و أمّا الأدلّة النّقليّة الّتي هي العمدة في المسألة، فالإنصاف أنّه لايستفاد منها- على اختلاف ألسنتها و تعابيرها- شيئان مختلفان، بل الناظر فيها إذا كان خالي النظر، غير مشوب الذهن بما دار بين الأعلام من النقض و الإبرام في إتّحاد القاعدتين و اختلافهما، لايتبادر إلى ذهنه إلّاقاعدة واحدة عامّة تجري في نفس العمل و أجزائه بعد مضيها و انصرامها.

و لاينافي ذلك كونها مقيّدة ببعض القيود في بعض مصاديقها، كاعتبار الدخول في

الغير بالنسبة إلى جريانها في الأجزاء- لو قلنا به- كما سيأتي إن شاء اللّه.

و يؤيّد هذا المعنى تقارب التّعبيرات- لو لم نقل بإتّحادها- في أخبار الباب الواردة في موارد الفراغ عن نفس العمل، و التّجاوز عن الأجزاء؛ من التّعبير بالمُضي- كما في روايتي إسماعيل و محمد بن مسلم-، و أنَّ الشك ليس بشي ء- كما في روايتي زرارة و ابن أبي يعفور.

حتّى أنّ التعبير ب «التّجاوز» أو «الدّخول في الغير» لايختصّ بموارد قاعدة التّجاوز- على ما اختاره القائلون بالتّعدّد-، بل ورد ذلك بعينه في الأحاديث الواردة في مورد قاعدة الفراغ أيضاً؛ فرواية إبن أبي يعفور المرويّة عن الصّادق عليه السلام: «إذا شككْت في

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 233

شي ء من الوضوء و قد دخلت في غيره فليس شكك بشى ء إنّما الشك إذا كنت في شي ء لم تجزه»- بناءاً على رجوع الضمير في قوله: «قد دخلت في غيره» إلى الوضوء- واردة في باب قاعدة الفراغ مع ذكر اعتبار الدخول في الغير فيها و ما وقع فيها من التعبير بالتّجاوز.

و في غير هذه الرواية أيضاً شواهد على المقصود، فراجع و تدبّر.

فتحصّل من ذلك كلّه أنّ الحقّ هو اتّحاد القاعدتين وفاقاً لما يظهر من شيخنا العلّامة الأنصاري و غيره- رضوان اللّه عليهم-.

بقي هنا شي ء:

و هو أنّه ما ثمرة هذا النزاع، و أيّ فرق بحسب النتيجة بين القول باتّحاد القاعدتين و تعددّهما؟

و سيظهر لك ذلك في البحوث الآتية لاسيّما البحث عن إعتبار الدّخول في الغير، و جريان قاعدة التّجاوز في الأعمال المستقلّة، و نحوهما.

المقام الثالث: في أنّها من الأمارات أو من الأصول العمليّة؟
اشارة

وقع الخلاف في أنّ قاعدة التّجاوز و الفراغ- سواء قلنا باتّحادهما كما هو التّحقيق، أو تعدّدهما كما عليه شرذمة من المتأخّرين و المعاصرين- هل هي من الأصول العمليّة

أو مندرجة في سلك الأمارات؟

و أنت إذا أحطت خبراً بما أسلفناه في بيان مدرك القاعدة لاتشكّ في اندارجها في سلك الامارات الظنّيّة، لما عرفت من أنّ الحقّ ثبوتها عند العقلاء و أهل العرف قبل ثبوتها في الشرع، و أنّ ملاكها عندهم هو غلبة الذّكر على الفاعل حين العمل، بما عرفت توضيحه.

فهي مبتنيّة عندهم على أصالة عدم الغفلة حين العمل، منضمة إلى عدم احتمال ارتكاب الفاعل العالم بالأجزاء و شرائط العمل ما هو خلاف مراده و مرامه.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 234

و قد عرفت أيضاً أنّ الشّارع المقدّس أمضاها بهذا الملاك عيناً، و الشّاهد له روايتا «بكير بن أعين» و «محمد بن مسلم»؛ «1» ففي الأولى علّل الحكم بقوله: «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشك»، و في الثانية بقوله: «و كان حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك»، و الإنصراف في الصّلاة آخر أزمنة الإشتغال بالفعل.

و معه لايبقى مجال للتّشكيك في حجّيّة القاعدة فتكون على نحو سائر الأمارات المعتبرة عقلًا و شرعاً.

هذا و من أوضح القرائن عليه أنّه ورد في غير مورد من الرّوايات الخاصّة- التي استدللنا بها سابقاً- إشارات لطيفة إلى هذا المعنى لايبقى معها شكّ في المسألة، و إليك بيانها:

ففي رواية عبدالرّحمن عن أبي عبداللّه عليه السلام الواردة فيمن أهوى إلى السّجود فلم يدر أركع أم لم يركع؟ قال: قد ركع. «2»

و في رواية أخرى عن الفضيل بن يسار عن أبي عبداللّه عليه السلام أيضاً بعد سؤاله بقوله:

أستتمّ قائماً فلا أدري أركعت أم لا؟ قال عليه السلام: بلى قد ركعت. «3»

و في رواية ثالثة عن حمّاد بن عثمان عن أبي عبداللّه عليه السلام أيضاً بعد سؤاله بقوله:

أشكّ و أنا ساجد فلا أدري ركعت

أم لا؟ فقال: قد ركعت، أمضه. «4»

هذا ما ظفرنا به من الرّوايات الخاصّة المشتملة على التّصريح بوقوع الفعل المشكوك و وجوده بقوله: «قد ركع»، أو: «بلى قد ركعت»، أو: «قد ركعت أمضه».

و هي شاهدة على كشف القاعدة عن الواقع، و أنّ اعتبارها إنّما هو من جهة كشفها عن ذلك، لا أنّها مجرّد حكم لرفع الحيرة و الشك عند العمل من دون أن تكون ناظرة إلى الواقع و إحرازه، كما هو شأن الأصول العمليّة.

نسبتها مع سائر الأصول:

و من هنا لايبقى مجال للشكّ في تقديمها على الإستصحاب و سائر الأصول العمليّة الواردة في مواردها، لتقدّم الأمارات عليها جميعاً.

و أمّا لو قلنا بأنّها مندرجة في سلك الأصول العمليّة أشكل تقديمها على غيرها كالإستصحاب و شبهه.

نعم، ذكر شيخنا العلّامة الأنصاري في صدر كلامه في المسألة أنّ هذه القاعدة مقدّمة على خصوص الإستصحاب- و شبهه- و إن كانت من الأصول العمليّة، لورودها في مورده، و لكونها أخصّ منه مطلقاً؛ فإنّه ما من مورد تجري فيه القاعدة إلّاو هناك إستصحاب يقتضي الفساد (إنتهى ملخّص كلامه).

و هذا الكلام و إن ارتضاه غير واحد ممّن تأخّر عنه و ركنوا إليه في وجه تقديم القاعدة على الإستصحاب- على القول بأنّها منسلكة في سلك الأصول العمليّة- إلّاأنّه لايخلو عن نقد و إشكال. و ذلك لأنّ موارد جريان القاعدة لاتنحصر بموارد يجري فيها إستصحاب الفساد بل هي على أقسام ثلاثة:

قسم يجري فيه إستصحاب الفساد، و قسم يجري فيه إستصحاب الصحّة، و قسم لايجري فيه استصحاب أصلًا، لا ذا و لا ذاك.

أمّا الأوّل فأمثلته كثيرة؛ و أمّا الثّاني فهو كالشك في صحّة الصّلاة بعد الفراغ عنها، من جهة الشكّ في الطّهارة أو السّتر أو غيرهما من الشّرائط، مع القطع

بسبق وجودها قبل الصّلاة و عدم العلم بحصول خلافها.

و الثّالث كالشكّ في الصحّة من ناحية هذه الشرائط، مع عدم العلم بالحالة السّابقة، من جهة تعاقب حالتين مختلفتين لايدري أيّتهما كانت مقدّمة على الأخرى.

و الموارد الّتي تكون من القسم الثّاني و الثّالث ليست نادرة لايُعتنى بها حتّى

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 236

يكون حمل العمومات أو الإطلاقات عليها من قبيل الحمل على الفرد النّادر، و تخصيصها بها من التّخصيص المستهجن، بل هي كثيرة جدّاً و لاسيّما القسم الثّاني.

الّلهم إلّاأن يقال: إنّه لاشكّ في ندرة القسم الثّالث، كما أنّه لاشكّ في لَغْويّة جعل القاعدة لخصوص الموارد الّتي تكون من القسم الثّاني؛ لكفاية الإستصحاب الجاري فيها و في غيرها، الموافق للقاعدة بحسب النّتيجة.

فإذن لايمكن حصر موارد القاعدة فيها، بل لابدّ من جريانها في موارد القسم الأوّل أيضاً، و هي موارد إستصحاب الفساد.

و أحسن من جميع ذلك أن يقال: إنّ الروايات الخاصّة الواردة في بعض مصاديق القاعدة- الّتي مرّت عليك عند بيان مدركها-، بل و بعض العمومات الواردة في مورد الشك في الرّكوع و السّجود و مثلهما دليل قاطع على تقديم القاعدة على أصالة الفساد و استصحاب العدم؛ لوضوح أنّ هذه الموارد من موارد استصحاب العدم.

فمثل قوله عليه السلام في رواية إسماعيل بن جابر عن أبي عبداللّه عليه السلام: إن شكّ في الركوع بعدما سجد فليمض، و إن شكّ في السّجود بعدما قام فليمض، كلّ شي ء شكّ فيه و قد جاوزه و دخل في غيره فليمض عليه. و هكذا مصحّحة زرارة و موثّقة إبن أبي يعفور و غيرهما، دليل واضح على جريانها في موارد أصالة الفساد، فتدبّر جيّداً.

بقي هنا شي ء:

و هو أنّ القول بأمارية القاعدة- كما هو المختار لايوجب الحكم بثبوت

جيمع لوازمها و ملازماتها، كما دار في ألسنة كثير من المتأخّرين و المعاصرين في باب الأمارات، و أنّه يثبت بها جميع ذلك.

مثلًا: إذا شكّ بعد الفراغ عن الظّهر في صحّتها من جهة الشك في الطّهارة، فلا إشكال في الحكم بصحّتها و صحّة ما يترتّب على فعلها من صلاة العصر؛ و أمّا الحكم بتحقّق الطّهارة حتّى لايجب تحصيلها للصّلوات الآتية فلا، بل يجب عليه تحصيلها

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 237

للصلاة العصر و غيرها؛ فإنّ مورد جريان القاعدة هو نفس صلاة الظهر و هي تدلّ على صحّتها كأنّها أمر معلوم بالوجدان من هذه الجهة- أيّ من حيث اشتمالها على الطّهارة المعتبرة فيها-، و أمّا تحقّق نفس الطّهارة مع قطع النّظر عن هذه الحيثيّة فلا. تأمّل فإنّه لايخلو عن دقّة.

نعم لو أجرى القاعدة في نفس الطّهارة، بأن شكّ في صحّتها بعد إحراز أصل وجودها، كانت كأنّها حصلت بالوجدان، فلا يجب تحصيلها للصّلوات الآتية.

و السّر في جميع ذلك، ما ذكرناه في محلّه من أن كون شي ء أمارة لايلازم إثبات جميع ملازماته. و ما يقال من إثباتها جميع اللوازم و الملازمات و لو بألف واسطة حديث ظاهري خال عن التّحقيق، و لو بُني عليه لزم فقه جديد كما لايخفى على الخبير.

بل إنّما يترتّب عليها من الآثار الواقعيّة و لوزامها في موردها بمقدار ما ينصرف إليه إطلاق أدلّتها، و يختلف ذلك باختلاف المقامات.

مثلًا: لاشكّ في كون البيّنة من أوضح الأمارات و أتمّها دليلًا وسعة، ولكن هل يمكن الأخذ بجميع لوازمها و ملازماتها و القول بحجّيّة مثبتاتها كيف كانت؟ مثلًا:

إذا شهد شاهدان أو أكثر بأنّ زيداً كان جالساً في مكان فلاني، ثمّ جاء رجل و رمى إلى جانبه سهماً لو كان جالساً في

مكانه لأصابه و قتله، فهل ترى بمجرّد شهادة الشهود إجراء حكم القتل- عمداً أو خطأً- في حقّه و لو لم يحصل القطع بوقوع القتل من الأمارة المذكورة، إستناداً إلى أنّ ذلك من آثارها الشرعيّة و لو بوسائط؟

أو أنَّه إذا قامت البيّنة بأنّ هذا اليوم هو أوّل يوم من شوال و يوم فطر، و علمنا أن زيداً يجي ء من سفره ذاك اليوم بعينه، فهل يمكن ترتيب آثار مجي ء زيد بمجرّد هذه الشّهادة؟ فتدبّر فإنّه حقيق به.

المقام الرابع: في اعتبار الدّخول في الغير و عدمه

إختلفوا في إعتبار الدّخول في الغير و عدمه في جريان القاعدة على أقوال:

القول الأوّل: ما يستفاد من كلمات شيخنا العلّامّة قدس سره في هذا المقام من اعتباره في جميع الموارد، ولكن هذا «الغير» لايجب أن يكون دائماً فعلًا وجوديّاً، بل يجوز أن يكون حالة عدميّة أحياناً، مثلًا: بالنّسبة إلى مجموع الصّلاة هو الحالة الحاصلة

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 238

بعدها، و لو لم يدخل في فعل وجوديّ بعدُ، و إليك نصّ عبارته:

«الأقوى إعتبار الدّخول في الغير و عدم كفاية مجرّد الفراغ، إلّاأنّه قد يكون الفراغ عن الشّي ء ملازماً للدّخول في غيره، كما لو فرغ عن الصّلاة و الوضوء؛ فإنّ حالة عدم الإشتغال بهما بعدُ مغايرة لحالهما، و إن لم يشتغل بفعل وجودي، فهو دخول في الغير بالنّسبة إليهما».

القول الثّاني: إعتبار الدّخول في فعل وجودي بعد العمل. يظهر ذلك من كلمات المحقّق الخراساني قدس سره في تعليقاته على (الرّسائل)، حيث إنّه بعدما صرّح باعتبار الدّخول في الغير في مورد قاعدة التّجاوز عند الشكّ في أجزاء فعل واحد، قال:

«و أمّا قاعدة الفراغ فالظّاهر منها أيضاً إعتبار الدّخول في الغير لظهور قوله عليه السلام في صحيحة زرارة في الوضوء: «و قد صرت إلى حال آخر»، و

صدر موثّقة إبن أبي يعفور:

«إن شككت في شي ء من الوضوء و قد دخلت في غيره».

و كلامه هذا مبني على إرجاع ضمير «غيره» في الحديث إلى الوضوء، أي دخلت في غير الوضوء من الأفعال الوجوديّة، لا في غير ذاك الجزء. و إستدلاله بهاتين الروايتين دليل على عدم اكتفائه في ذلك بمجرّد الفراغ عن العمل، و عدم كفاية مجرّد صدق عنوان «المُضي» أو «التّجاوز»- الواردين في بعض أحاديث الباب- عنده.

القول الثّالث: التّفصيل بين موارد جريان قاعدة التّجاوز و الفراغ، و القول باعتبار الدّخول في الجزء المستقلّ المترتّب عليه شرعاً في جريان قاعدة التّجاوز، و أمّا الفراغ فلا يعتبر فيه شي ء إلّاالدّخول فيما يكون مبايناً للعمل المشكوك فيه. حتّى أنّه بالنّسبة إلى جريان قاعدة التّجاوز في الجزء الأخير من الصّلاة إعتبر الدّخول في التعقيب المترتّب عليه شرعاً، و إلّالايجري فيه قاعدة التّجاوز، و إن جرت فيه قاعدة الفراغ، لعدم اعتبار شي ء فيه عدا الدّخول في حال مباين لها.

و لايبعد رجوع هذا القول إلى ما ذكره الشّيخ العلّامة الأنصاري قدس سره في المعنى، و إن كانا مختلفين في الصّورة فتأمّل.

القول الرّابع: التّفصيل بين موارد جريان قاعدة الفراغ من الوضوء و الصّلاة، بالتزام

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 239

كفاية مجرّد الفراغ من الوضوء و لو مع الشك في الجزء الأخير منه، و عدم كفايته بالنّسبة إلى الصّلاة. حكاه شيخنا العلّامة الأنصاري قدس سره عن بعض، و لم يسمّ قائله، ثمّ ردّ عليه باتّحاد الدّليل في البابين؛ و هو كذلك.

القول الخامس: عكس هذا التّفصيل، أعني إعتبار الدّخول في الغير في باب الوضوء دون باب الصّلاة؛ قال المحقّق الإصفهاني في بعض كلماته في المقام:

(و يمكن أن يقال- بناءاً على تعدّد القاعدة- بالفرق بين

الوضوء و الصّلاة في جريان قاعدة الفراغ فيهما، بتقيّيدها في الأوّل بالدّخول في الغير دون الثّاني؛ و ذلك لتقييد الفراغ عن الوضوء بذلك في رواية زرارة حيث قال: «فإذا قمت من الوضوء و فرغت منه فقد صرت في حال أخرى من صّلاة أو غيرها ...»، و كذا في رواية إبن أبي يعفور: «إذا شككت في شي ء من الوضوء و قد دخلت في غيره» ... و لا استبعاد في اختصاص الوضوء بالدّخول في الغير بعد اختصاصه بعدم جريان قاعدة التّجاوز عن المحلّ فيه رأساً).

هذا ما عثرنا عليه من الأقوال في المسألة، و لعلّ المتتبّع يعثر على أقوال أُخر في كلماتهم، ولكنَّ المهمّ تحقيق الحال بينها.

فنقول: التّحقيق أنَّ منشأ الخلاف في المسألة هو إختلاف ألسنة الرّوايات الواردة فيها:

فبعضها مطلقة لم يذكر فيها سوى عنوان المضي و التّجاوز عن الشّي ء؛ كرواية محمد بن مسلم، «1» و رواية إبن أبي يعفور، «2» و ظاهر رواية بكير بن أعين، «3» و رواية أخرى لمحمّد بن مسلم «4» المشتملّة على تعليل الحكم، و كذا ما قبلها؛ و بعض الرّوايات الخاصّة الواردة في أبواب الوضوء و الصّلاة، كقوله في رواية محمد بن مسلم:

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 240

«كل ما مضى من صلاتك و طهورك فذكرته تذكّراً فأمضه». «1»

و بعضها الآخر مقيّد بالدّخول في الغير مثل رواية زرارة،»

و رواية إسماعيل بن جابر، «3» و صدر رواية إبن أبي يعفور، و رواية أخرى لزرارة نقلناها عن مستطرفات (السرائر) نقلًا عن كتاب حريز. «4»

فحينئذ يقع البحث في أنَّه ما هو وجه الجمع بين الطّائفتين؟

هل هو بتقيّيد المطلقات بما قُيِّد بالدّخول في الغير، كما هو قضيّة المطلق و المقيّد في غير المقام؟ أو يقال: إنَّ القيد هنا

من قبيل القيود الغالبيّة فلا يفيد الإحتراز عن غيره؛ لأنّ الغالب في أفعال الإنسان- لاسيّما مثل الصّلاة الّتي هي مورد الروايات- أنّه إذا خرج منها دخل في فعل آخر؟

أو يقال: إنّ التّقييد بالدّخول في الغير إنّما هو في موارد التّجاوز عن أجزاء العمل، فكلّ جزء شكّ فيه لايعتنى به إذا دخل في غيره، و أمّا إذا كان الشّكّ بعد الفراغ عن الكلّ فيكفي فيه مجرّد الفراغ عنه؛ لأنّ التّقييد بذلك إنّما ورد في موارد التّجاوز عن الأجزاء لا بالنّسبة إلى الفراغ عن الكلّ؟

و لايخفى أنّ الخلاف الواقع في اتّحاد القاعدتين و تعدّدهما لادخل له بهذا التّفصيل، فإنّه لاينافي وحدة القاعدتين أيضاً لعدم المانع في تقييد أحد فردي عام واحد بقيدٍ لايجري في سائر أفراده.

هذا و لكن المحقّق النّائيني قدس سره بنى هذه المسألة و التّفصيل الّذي اختاره فيها على ما اختاره في أصل القاعدة من أنّه ليس هناك إلّاقاعدة واحدة، و هي قاعدة الفراغ الجارية في الأفعال المستقلّة، لكنَّ الشّارع المقدّس نزَّل خصوص أجزاء الصّلاة منزلة الأفعال المستقلّة بمقتضى حكومة الأدلّة الواردة فيها عليها، فبعد هذا التّنزيل

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 241

تجري القاعدة في أجزاء الصّلاة فقط. ولكن حيث إنّ أدلّة التنزيل مقيّدة بخصوص موارد الدّخول في الغير، و لا مانع من تنزيل شي ء مقام شي ء مع قيود خاصّة ليست في المنزَّل عليه، كان اللّازم إعتبار الدّخول في الغير في موارد قاعدة التّجاوز دون غيرها.

هذا و قد عرفت سابقاً ضعف ما اختاره من المبنى، و أنّه ليس في أخبار الباب من لسان التّنزيل و الحكومة عين و لا أثر، و أنّ جميع ما ورد في باب قاعدة التّجاوز و الفراغ يفرّغ عن لسان واحد من

دون أن يكون أحدهما ناظراً إلى الآخر، و تنزيل شي ء منزلة آخر.

مضافاً إلى أنّ لفظ «الشّي ء» الوارد في أخبار قاعدة الفراغ عامّ يشمل الأفعال المستقلّة و أجزاء المركّبات الشّرعيّة مثل الرّكوع و السّجود و غيرهما.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ ما يقتضيه الإنصاف هو أنّ الدّوران لو كان بين إحتمال التقييد، و بين الأخذ بالإطلاق و حمل القيد على القيد الغالبي- مع تسليم كون القيد هنا قيداً غالبيًّا- لم يكن مجال للتّرديد في ترجيح جانب الإطلاق؛ فإنّ المفروض أنّ أدلّة التقييد في نفسها قاصرة عن الدّلالة عليه بعد كونها واردة مورد الغالب.

إلّا أنّ الكلام بعد في أنّ حمل القيد على الغالب ليس بأولى من حمل إطلاق المطلق عليه و انصرافه إلى الغالب.

فإذن تكون المطلقات أيضاً قاصرة في نفسها عن الدّلالة على شمول الحكم و عمومه، و نتيجة ذلك وجوب الأخذ بها في القدر المتيقّن منها، أعني خصوص الموارد الّتي يكون القيد موجوداً- و هي موارد الدّخول في الغير- لاغير. غاية ما في الباب أنّ هذا ليس من جهة قيام الدّليل على التقييد، بل من ناحية قصور المطلقات عن إثبات أزيد منه.

هذا ولكنَّ الّذي يسهل الخطب و يرفع الغائلة هو أنّه و إن لم نعتبر الدّخول في الغير في موارد قاعدة التّجاوز، إلّاأنّه لازم لتحقّق عنوان «المضي و التّجاوز»، فنفس

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 242

هذا العنوان لايتحقّق إلّابالدّخول في الغير. مثلًا: إذا شككنا في تحقّق جزء من أجزاء الصّلاة و وجوده فإنّما يتحقّق التّجاوز عن محلّه إذا دخلنا في جزء آخر منها أو في مقدّمة له، و بدونه فالمحلّ باق لم يتجاوز عنه.

و هذا بخلاف موارد الفراغ عن الكلّ؛ فإنّ عنوان «المضي» أو غيره من أشباهه يتحقّق

بوجود آخرِ جزءٍ منه مثل التّسليم في الصّلاة، و إن لم يدخل في غيرها.

فحينئذ يكون التقييد بالدّخول في الغير فى خصوص «الأجزاء» من باب عدم تحقّق عنوان التّجاوز و المضي بدونه. فهذا القيد لايكون في الواقع قيداً، بل يكون من باب تحقّق الموضوع. ولكن ليُعلم أنّ هذا إنّما هو في مورد الشكّ في أصل وجود الجزء، لا ما إذا شكّ في صحّته بعد العلم بتحقّقه و وجوده.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا، أنّ الأقوى عدم اعتبار الدّخول في الغير في موارد القاعدتين- سواء قلنا باتّحادهما أو تعددّهما،- إلّاما يتحقّق به موضوع المضي و التّجاوز. نعم، يستثنى من ذلك بعض مواردها لورود دليل خاصّ فيه، كما سيأتي إن شاء اللّه.

و بهذا البيان تنحلّ عقدة الإشكال و ترتفع الغائلة.

و يؤيّد ما ذكرنا ظهور التّعليل الوارد في روايتي «بكير بن أعين» و «محمد بن مسلم» بقوله عليه السلام: (هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ)، و قوله عليه السلام: (و كان حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك)؛ لرفضه كلّ قيد سوى عنوان «البعديّة». و من الواضح أنّ ظهور التّعليل مقدّم على غيره عند التّعارض، مع ما عرفت فيها من ضعف الدّلالة.

و كذلك بناء العقلاء على العمل بالقاعدة أيضاً ينفي إعتبار هذا القيد؛ لأنّه يدور مدار مضي العمل و الفراغ عنه، و لا دخل للدّخول في الغير فيه كما هو ظاهر.

نعم، يبقى في المقام شي ء و هو أنّه ما المراد من الغير بناءاً على القول باعتباره؟

و هل هو كلّ فعل مغاير للمشكوك فيه، أو يعتبر فيه قيود خاصّة؟ و سنبحث عنه في الأمر الآتي إن شاء اللّه.

المقام الخامس: ما هو المراد من «الغير»؟

قد وقع الكلام بين الأعلام أيضاً في أنّ الّذي يعتبر في

تحقّق التّجاوز عن محلّ الشي ء هل هو الدّخول في مطلق الغير- بناءاً على اعتبار الدّخول في الغير-، و لو كان مقدّمة للجزء الآتي، كالهوي للسّجود، و النهوض للقيام، أو لا يكفى إلّاالدّخول في الأجزاء الأصليّة؟

و المشهور عدم الإكتفاء بمطلق الغير، و ظاهر الرّوايات أيضاً ذلك؛ لظهور قوله عليه السلام:

«إن شكّ في الرّكوع بعد ما سجد فليمض، و إن شكّ في السّجود بعد ما قام فليمض» في مقام التوطئة لذكر الكبرى الكلّية بقوله: «كلّ شي ء شكّ فيه و قد جاوزه في غيره فليمض عليه» في أنّ الغير لابدّ و أن يكون من الأجزاء الأصليّة، و أن لاغير أقرب إلى «الرّكوع» من «السّجود» و إلى «السّجود» من «القيام».

اللّهمّ إلّاأن يقال: إنّ ذكر المثالين ليس من جهة اعتبار الدّخول في الأجزاء الأصليّة المستقبلة، بل من باب أنّهما ممّا يكثر الإبتلاء بهما؛ و أنّ الشك في حال الهوي أو النّهوض نادر، فإنّه يحصل عادة بعد ما استقرّ في الغير و قبله لاتغيب صورة الفعل غالباً عن الذّهن.

و يؤيّد ما عليه المشهور رواية عبدالرّحمن، قال: قلت لأبي عبداللّه عليه السلام رجل رفع رأسه من السّجود فشكّ قبل أن يستوي جالساً فلم يدر أسجد أم لم يسجد؟ قال:

يسجد؛ قلت: الرّجل نهض من سجوده فشكّ قبل أن يستوي قائماً فلم يدر أسجد أم لم يسجد؟ قال سجد» «1» فإنّ المدار فيها الأجزاء الأصليّة لامقدّماتها.

ولكن تعارضها رواية أخرى له عن أبي عبداللّه عليه السلام، قال: قلت له عليه السلام: رجل أهوى إلى السّجود فلم يدر أركع أم لم يركع؟ قال: قد ركع» «2»

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 244

فإنّ ظاهر قوله: «أهوى إلى السّجود» عدم بلوغه حدّه.

و رواية فضيل بن يسار قال قلت لأبي عبداللّه

عليه السلام: أستتمّ قائماً فلا أدري ركعت أم لا؟ قال: بلى قد ركعت، فامض في صلاتك، فإنّما ذلك من الشّيطان «1».

هذا ولكن الرّواية الأخيرة لاتخلو عن شوب أبهام؛ فإنّ المراد من الإستتمام قائماً يمكن أن يكون إستتمامه بعد السّجود الثّاني، فلو شكّ في ركوع الركعة السّابقة لايعتني به، كما احتمله شيخ الطّائفة (قدّس اللّه سرّه الشّريف).

و أمّا احتمال إرادة الإستتمام قائماً في نفس تلك الرّكعة فبعيد جداً، لعدم تصوير وجه صحيح له. و ما ذكره المحقّق الإصفهاني قدس سره في (نهاية الدّراية) في توجيهه من أنّ المراد إنحناؤه للرّكوع ثمّ استتمامه القيام مع الشكّ في أنّه ركع أم لا نادرٌ بعيد الوقوع كما لايخفى.

هذا مضافاً إلى أنّ القيام بعد الرّكوع بنفسه من الواجبات، فهو من قبيل الدّخول في جزء آخر من الأفعال الأصليّة، لا من باب الدّخول في مقدّمة الأجزاء.

و يحتمل أيضاً ورودها في كثير الشكّ بقوله عليه السلام: «فإنّما ذلك من الشّيطان»، كما احتمله صاحب (الوسائل) بعد ذكر احتمال الشّيخ.

و أمّا الرّواية الأولى فظهورها و إن كان فى الهوي الّذي هو من المقدّمات، إلّاأنّ حملها على آخر مراتب الهوي الّذي يصل إلى حدّ السّجود بقرينة غيرها من الرّوايات الّتي ذكرناها آنفاً- لاسيّما مع ذهاب المشهور إلى عدم الإعتناء بمقدّمات الأفعال- ليس ببعيد، فتأمّل.

فتحصّل من جميع ذلك أنّ الّذي يقتضيه الجمع بين روايات الباب هو عدم الإعتناء بالدّخول في مقدّمات الأفعال عند إجراء القاعدة و أنّه يجب الدّخول في فعل آخر أصلي.

و هذا لاينافي ما ذكرناه آنفاً من ظهور روايات القاعدة في كفاية مطلق الفراغ، و

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 245

كذا التّجاوز الحاصل بالدّخول في فعل غيره أيّاً ما كان؛ لأنّه لامانع من أن يكون هذا حكماً

تعبديّاً في خصوص مورده بأن يكون الشّارع قد أسقط هنا حكم مقدّمات الأفعال و لم يعتن بها. و لاينافي ذلك بقاء الإطلاق على حاله بالنّسبة إلى سائر موارد القاعدة. و لعلّ الحكمة في حكم الشّارع بذلك أنّ صورة الجزء السّابق لاتنمحي عن الذّهن غالباً قبل الإنتقال إلى جزء آخر مباين له؛ فحالة الذّكر الحاصلة حين الفعل باقية قبل الإنتقال إلى الجزء الثّاني، فتأمّل. و إن أبيت عن قبول هذه الحكمة فالحكم تعبّد محضٌ في مورده.

و أمّا التّفصيل بين الوضوء و الصّلاة بعدم اعتبار الدّخول في الغير في الأوّل دون الثّاني أو بالعكس، فهو ضعيف جداً يدفعه إتّحاد الدّليل في البابين، كما ذكره شيخنا العلّامة الأنصاري قدس سره.

و أمّا قوله في رواية زرارة: «فإذا قمت من الوضوء و فرغت منه و قد صرت في حال أخرى، في الصّلاة أو غيرها، فشككت في بعض ما سمّى اللّه ممّا أوجب اللّه عليك فيه وضوءه لاشى ء عليك فيه» «1» فالظّاهر أنّه ليس قيداً شرعيّاً، و لعلّ الوجه فيه هو جريان العادة بأنّ صورة الفعل لاتذهب عن الذّهن عادة قبل صيرورته إلى حال آخر، و اشتغاله بفعل مباين له. و لذا جعله مقابلًا لما ذكر في صدر الرواية بقوله: إذا كنت قاعداً على وضوئك فلم تدرأ غسلت ذراعيك أم لا؟ فأعد عليهما،- إلى أن قال:- ما دمت في حال الوضوء.

فلو كان القيد قيداً شرعياً كان هناك صورة ثالثة لم يذكرها الإمام عليه السلام، مع أنّ ظاهرها كون الإمام عليه السلام بصدد بيان جميع صور المسألة بما ذكره من الشقّين.

و منه يظهر الجواب عن الإستدلال بالحديث الثّاني، أعني صدر رواية إبن أبي يعفور «إذا شككت في شي ء من الوضوء و قد

دخلت في غيره فشكك ليس بشي ءٍ، إنّما الشكّ إذا كنت في شي ء لم تجزه».

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 246

فإنّه لامناص من حمل القيد على ما ذكرنا أو شبهه، كما يشهد به ذيل الرواية أيضاً؛ فإنّه خال عن هذا القيد، مع أنّه من قبيل الكبرى له.

هذا مضافاً إلى احتمال رجوع الضّمير في قوله «دخلت فى غيره» إلى غير هذا الجزء، فيكون حال أجزاء الوضوء حال أجزاء الصّلاة. و هذا الحكم و إن كان مخالفاً للمشهور، بل مخالفاً لغيرها من الرّوايات كما سيأتي، إلّاأنّ هذا الإحتمال في نفسه أقرب إلى ظاهر الرّواية. و كونها غير معمول بها على هذا التّقدير لايوجب حملها على غيره، ما لم تقمّ قرينة لفظيّة أو حاليّة عليه، فتدبّر.

المقام السادس: المحلّ الّذي يعتبر التّجاوز عنه شرعي أو عقلي أو عادي؟

قد عرفت أنّ ظاهر إطلاقات أخبار الباب عدم الإعتناء بالشّكّ في الشي ء بعد مضيّه، أو التّجاوز عنه، أو الخروج منه، و أنّ هذه العناوين المضيّ و التّجاوز و الخروج إنّما تصدق حقيقة في موارد يعلم بوجود أصل الشي ء مع الشّكّ في تحقّق بعض ما يعتبر فيه من الأجزاء و الشّرائط؛ فهي غير صادقة في الموارد الّتي يشكّ في أصل وجود الشي ء حقيقة، فلا تشمل مورد قاعدة التّجاوز الّذي يكون الشكّ فيه في أصل وجود الرّكوع أو السّجود أو غيرهما مثلًا.

إلّا أنَّ تطبيق هذه الكبرى في غير واحد من الأخبار على هذه الموارد، يدلّ على أنّ المراد من التّجاوز عن الشّئ أعمّ من التّجاوز عنه حقيقة و بالعناية- أيّ بالتّجاوز عن محلّه-، و هذا إطلاق شائع ذائع.

فحينئذ يقع الكلام في أنّ المراد ب «محل الشّي ء» ماذا؟ فإنّه يتصوّر على أنحاء:

1- المحلّ الشّرعي: و هو المحلّ المقرّر للشي ء شرعاً.

و لايخفى أنّ المراد منه هو المحلّ الّذي يعتبر

إتيانه فيه أوّلًا و بالذّات و بحسب حال الذّكر و الإختيار، فمحلّ السّجود قبل الدّخول في القيام بحسب جعله الأوّلي الشّرعي، و إن كان يجوز الرّجوع إليه و إتيانه بعد الدّخول في القيام إذا تذكر قبل الرّكوع.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 247

فما يقال من أنّ محلّ السّجود باقٍ قبل الدّخول في ركوع الرّكعة الآتية فاسد؛ لأنّه محلٌ له في حال السّهو و النّسيان، و لذا لايجوز تأخيره كذلك عمداً.

2- المحل العقلي: و هو المحلّ المقرّر له بحكم العقل و بحسب الطّبع. و قد مثّل له شيخنا العلّامة الأنصاري قدس سره بمحلّ «الرّاء» من تكبيرة الإحرام، فإنّه لابدّ أن يؤتى بها بلا فصل، و إلّالزام الإبتداء بالسّاكن المحال عقلًا.

و لايخفى أنّ هذا القسم- مع غمض النّظر عن المثال الّذي ذكره قدس سره؛ فإنّ الإبتداء بالسّاكن ليس محالًا عقلًا بل هو كالتقاء السّاكن بل ثلاث ساكنات أمرٌ ممكنٌ في لغتنا و إن لم يقع فيها، بينما وقع في غيرها من لغات الأجانب- راجعٌ إلى المحلّ الشرعي بالمآل؛ فإنّ الأمر إنّما يتعلّق بالأفراد الممكنة لاغير، فتأمّل.

3- المحلّ العرفي: و هو المحلّ الّذي قررّ له بحكم الطريقة المألوفة، كمحلّ أجزاء الجملة و آيات السّورة، فإنّه لابدّ أن يؤتى بها قبل فصل طويل يوجب انمحاء صورتها كما مُثِّل له.

ولكن غير خفي أنّ هذا أيضاً راجع إلى المحلّ الشرعي، فإنّ المعتبر شرعاً في القراءة إتيانها على الطريقة المألوفة، فلو أُتي بها على غيرها كانت فاسدة غير مأمور بها شرعاً، لعدم صدق إسم الكلام أو السورة أو القراءة عليها عرفاً.

4- المحلّ العادي: و هو المحلّ المقرّر له بحسب العادة.

و العادة إمّا «عادة نوعيّة» أو «شخصيّة»، و الأولى مثل الإتيان بأجزاء الغسل متوالية؛ فإنّ

التّوالي و إن لم يكن معتبراً فيها شرعاً و يجوز الفصل بينها بساعة أو يوم أو أيّام إلّاأنّه جرت عادة النّاس بإتيانها متوالية غالباً. و الثّاني كمن اعتاد أداء الصّلاة في أوّل وقتها؛ فإنّ أوّل الوقت بالنّسبة إليه محل عادي.

و لا إشكال و لا كلام في الإقسام الثلاثة الأولى؛ لما عرفت من رجوعها إلى المحلّ الشّرعي، و إنّما الكلام في القسم الأخير بكلا شقّيه، فقد نفاه كثيرٌ من أعلام المتأخّرين كشيخنا العلّامة الأنصاري، و المحقّق الخراساني، و المحقّق الإصفهاني و غيرهم (قدّس اللّه أسرارهم.)

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 248

إلّا أنّه قد يُحكى عن غير واحد من الأعاظم ممّن تقدّم- كفخر المحقّقين و غيره- الميل إلى إجراء قاعدة الفراغ و التّجاوز هنا، حتّى أنّهم مثّلوا له بمعتاد الموالاة في غسل الجنابة إذا شكّ في الجزء الأخير منه. بل يُحكى عن الفخر الإستدلال له بخبر «زرارة»، و بأنّ خرق العادة على خلاف الأصل.

و الّذي ينبغي أن يقال: إنّه كما عرفت ليس في أخبار الباب من لفظ «المحلّ» عينٌ و لا أثر، حتّى يتكلّم في المراد منه؛ و إنّما المذكور فيها عنوان «الخروج» و «المضي» و «التّجاوز» بمعناها الأعمّ من الحقيقي و المجازي كما عرفت، و في صدق هذه العناوين على التّجاوز عن المحلّ المعتاد إشكال؛ لأنّ القدر المعلوم منها المستكشف من الأمثلة المذكورة في الرّوايات هو المحلّ الشّرعي، أو ما يرجع إليه، و لا إطلاق يعتمد عليه بالنّسبة إلى غيره كما لايخفى.

هذا ولكنَّ المكلّف إذا كان من قصده الإتيان بأجزاء الغسل- مثلًا- متواليةً، كان داخلًا تحت ملاك التّعليل الوارد في الرّوايات بقوله: «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ»، و قوله في رواية محمد بن مسلم: «كان حين

انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك»؛ لما قد عرفت من أنّه كالصّغرى لكبرى محذوفة، و هي أنّ الذاكر لايأتي بما يخالف مقصده و مرامه.

و من الواضح أنّ المحلّ الشّرعي أو العقلي أو العرفي بما هو لا دخل في هذا المعنى، و إنّما هو مقدّمة لقصد الفاعل إليه؛ فإنّ الفاعل إذا كان بصدد الإتيان بعمل و كان عالماً بأنّ أجزاءه مترتّبة شرعاً على نحوٍ خاص فلا محالة يقصده بهذا التّرتيب، و إذا كان قاصداً له بهذا التّرتيب- و العاقل لايأتي بما هو مخالف لمرامه- كان فعله الخارجي منطبقاً على قصده، إلّاأن يكون غافلًا أثناء العمل، و هو خلاف أصالة عدم الغفلة المأخوذة من ظهور حال الفاعل.

و الحاصل أنّ المحلّ الشرعي أو ما يشبهه لا دخل له في هذا التّعليل أصلًا، بل هو مبني على قصد الفاعل ونيّته فقط؛ فلو حصل هذا القصد بعلل أخرى غير التّرتّب الشّرعي، كالعادة، كانت العلّة جارية فيها.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 249

و من هنا تعرف أنّ المحلّ العادي بما هو لا أثر لها في جريان القاعدة، إلّاأن تكون العادة كاشفة عن قصد الفاعل؛ فإنّ الفاعل إذا كان معتاداً بعادة نوعيّة أو شخصيّة بإتيان عمل كالغسل- مثلًا- متوالياً، كشفت هذا العادة عن أنّه حين الفعل قصده بهذا النّحو، فيجري التّعليل في حقّه؛ و لو فرض عدم كشف العادة عنه في مقام، لم يعتدّ بها أصلًا، فتدبّر فإنّه حقيقٌ به.

هذا و يمكن الإستدلال على اعتبار المحلّ العادي، بالمعنى الّذي ذكرنا، بالسّيرة العقلائيّة الّتي استدلّلنا بها لأصل القاعدة؛ فهل ترى من نفسك إذا كنت بصدد كتابة كتاب أو تركيب معاجين أو حساب أمور عديدة، و كنت عالماً بأجزائها و شرائطها، و بعد ذلك شككت في

أنّك أتيت بها صحيحة تامّة، فهل ترجع إليها مرّة بعد مرّة و إن كان محلّها العقلي باقٍ بعدُ، أو تعتمد على ما كنت بصدده و تتعامل مع ما فعلت معاملة الفعل الصّحيح؟

و هل ترى من نفسك إذا أتيت بغسل الجنابة بقصد رفع الجنابة ثمّ مضى أيّام أو شهور، ثمّ شككت في الإتيان بالجزء الأخير منه، تعود إليه مرّة بعد مرّة لأنّ أجزاء غسل الجنابة في نفسها ليس لها محلّ شرعي يفوت بالفصل الطّويل؟

فالإنصاف أنّ الإعتماد على المحلّ العادي في إجراء القاعدة بالمعنى الّذي ذكرنا قريب جدّاً، و لعلّ ما حُكي عن الفخر و غيره من أعاظم أصحابنا أيضاً ناظر إلى هذا المعنى.

هذا ولكنّ الّذي منع غير واحد من كُبراء الأصحاب عن إختيار هذا القول و جعلهم في وحشة منه، أنّ فتح هذا الباب يوجب فقهاً جديداً؛ فإنّ لازمه أنّه إذا كان من عادة الإنسان الإتيان بالصّلاة أوّل وقتها، أو الوضوء بعد الحدث فوراً، الحكم بعدم وجوب الإتيان بها عليه لو شكّ آخر وقتها و كذا عدم وجوب تحصيل الطّهارة لو شكّ بعد حدثه بفصل طويل.

ولكنّه توهّم باطل؛ فإنّ ما ذكرنا من البيان يختصّ بما إذا أحرز إقدام الفاعل على العمل قاصداً لإتيان تمام أجزائه و شرائطه، ثمّ بعد ذلك شكّ في تماميتها؛ فإنّ هذا

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 250

الفعل محكوم بالصحّة و التماميّة، و لو كان المحلّ الشّرعي لتدارك بعض أجزائه باقياً، فإنّ العادّة كافية هنا. و أمّا إذا شكّ في أصل وجوده و لم يحرز إقدام المكلّف على العمل قاصداً له كذلك فلا.

و لعلّ ما حُكي عن الفخر و غير واحد من أعاظم الأصحاب أيضاً ناظرٌ إلى هذا المعنى؛ فإنّهم مثّلوا بغسل الجنابة لمعتاد الموالاة إذا

شكّ فى الجزء الأخير منه، و من الواضح أنّ هذا لايوجب فقهاً جديداً و لا ما يستوحش منه من الفتاوى، فافهم.

المقام السابع: عموم القاعدة لجميع أبواب الفقه

لايخفى أنّ مورد جريان قاعدة التّجاوز بالنّسبة إلى الأجزاء عند الشكّ في أصل وجودها، و قاعدة الفراغ بالنّسبة إلى مجموع العمل عند الشكّ في بعض ما يعتبر فيها، و إن كان في غير واحد من أخبار الباب هو «الصّلاة» و «الطهور»، إلّاأنّ إطلاقات الأخبار لاتختصّ بهما، بل تشملها و غيرهما من سائر العبادات، بل المعاملات من العقود و الإيقاعات، و غيرها. و قد عرفت أنّها تشير إلى كبرى واحدة تحتوي على القاعدتين معاً.

فلو شكّ في صحّة عقدٍ أو إيقاع بعد الفراغ عنه و مضيّه لم يعتدّ بالشّك و يمضي عليه كما هو. و كذا لو شكّ في صحّة غسل ميّت و كفنه و دفنه، فإنّ العمومات و الإطلاقات تقتضي صحّتها بعد مضيّها. و لا وجه لتخصيصها بباب الصّلاة و الطّهارة، أو أبواب العبادات.

و القول بأنّها القدر المتيقّن في مقام التّخاطب فلا تشمل العمومات غيرها، كما ترى؛ لمّا تحقّق في محلّه من أنّ مجرّد وجود القدر المتيقّن في مقام التّخاطب لايضرّ بإطلاق الدّليل، و إلّاأشكل الأمر في جميع الإطلاقات الواردة في الأخبار الّتي وقع السؤال فيها عن موارد خاصّة، و لايظنّ بأحد الإلتزام به في أبواب الفقه.

هذا مضافاً إلى أن بعض الأخبار العامّة غير وارد في مورد خاص، و دعوى القدر المتيقّن فيه أيضاً باطلٌ جدّاً.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 251

ولكن في إجراء قاعدة التّجاوز بالنّسبة إلى الكلمات و أجزاء عقد البيع و نحوه إشكال، يظهر وجهه بما سيأتي في الفصل الآتي إن شاء اللّه.

وقد عرفت سابقاً أنّ الفقيه المتتبّع الماهر صاحب (الجواهر) تمسّك بهذه القاعدة

في مسألة الشكّ في عدد أشواط الطواف بعد الفراغ منه؛ مضافاً إلى ما ورد فيها من الرّوايات الخاصّة. و لعلّ المتتبّع في كلماتهم يقف على غيره ممّا يتمسّك فيها بهذه القاعدة.

و صرّح في الجواهر أيضاً في باب الشّك في أفعال الوضوء: «إنّ هذه القاعدة محكمة في الصّلاة و غيرها من الحجّ و العمرة و غيرهما» «1»

المقام الثامن: عمومها للأجزاء غير المستقلّة

هذا كلّه بالنّسبة إلى عدم اختصاصها بأبواب الطّهارة و الصّلاة، و شمولها لجميع أبواب الفقه؛ و أمّا بالنّسبة إلى الأجزاء غير المستقلّة- أي أجزاء كل جزء- مثل آيات الحمد و كلمات جملة واحدة، فقد استشكل بعضهم كالمحقّق النّائيني قدس سره في جريان قاعدة التّجاوز فيها؛ بينما صرّح آخرون في تعليقاتهم على «العروة الوثقى» بجريانها فيها. و غاية ما يمكن أن يقال في وجه المنع أمران:

أحدهما: إنّ إطلاقات الأدلّة بطبعها الأوّلي لا دلالة لها إلّاعلى قاعدة الفراغ بالنّسبة إلى مجموع العمل، ولكن الأخبار الخاصّة و بعض الأخبار العامّة المصدّرة بالشّك في أجزاء الصّلاة، من الرّكوع و السّجود، كدليل حاكم عليها توجب سعة دائرتها؛ و من المعلوم أنّ القدر الثّابت من الدّليل الحاكم هنا هو الأجزاء المستقلّة و أمّا بالنّسبة إلى أجزاء الجزء فلا.

و أنت خبير بأنّ هذا يبتني على ما اختاره المحقّق المذكورقدّس سرّه في أصل بناء القاعدتين، و قد أشرنا إلى فساده غير مرّة، و أنّه بناءاً على تعدّدهما كلّ واحد

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 252

مستقل بالجعل؛ و بناءاً على اتّحادهما فإنَّ نسبتهما إلى إطلاقات أدلّتهما تكون متساوية.

ثانيهما: إنّ قاعدة التّجاوز تقتضي عدم الإعتداد بالشّكّ في الجزء بعد ما جاوز محلّه الشّرعي، و من المعلوم أنَّ الأجزاء غير المستقلّة مثل «اللّه» و «أكبر» في تكبيرة الإحرام ليس لها محلّ شرعي تعبّدي،

و إنّما يكون هذا التّرتيب الخاص من مقوّمات التّكبير، بحيث لو قال: «أكبر اللّه» كان آتياً بما هو مباين للمأمور به، لا آتياً به في غير محلّه؛ و هذا المعنى بالنّسبة إلى حروف كلمة واحدة أظهر، فإجراء القاعدة في مثل هذه الأجزاء محلّ تأمّل و إشكال.

و فيه: أنّ محلّ أجزاء الجزء ليس دائماً من قبيل مقوّماتها بحيث إذا حوّلت أجزاؤه عن محلّها صار أمراً مغايراً له، أو غلطاً رأساً، كما في جزئي تكبيرة الإحرام، ففي مثل ذلك ربّما نقول بعدم جريان قاعدة التّجاوز فيه مطلقاً. ولكن قد يكون من قبيل آيات السّورة الواحدة، و تغييرها عن محلّها يكون من قبيل تغيّر الأجزاء الأصليّة للصّلاة عن محالّها كما لايخفى، فكلٌّ من هذه الآيات مأمور بها، و لها محلّ شرعي بحسب نزول الآيات، أو أمر النّبي صلى الله عليه و آله بقراءتها كذلك، على تفصيل في محلّه، فإذا شكّ في قراءة الآية السّابقة يصدق أنّها «شي ء» شكّ فيه و قد جاوز عنه و دخل في غيره.

فعموم لفظ «الشي ء» كعنوان «التّجاوز» و «الدّخول فى الغير»- لو قلنا بإعتباره- شاملٌ لها. بل يمكن القول بشمولها لجزئي التّكبير؛ لما قد عرفت سابقاً من أنّ عنوان «المحلّ» فضلًا عن «المحلّ الشّرعي» غير موجود في روايات الباب حتّى يتكلّم فيه، بل المذكور فيها عنوان الشّي ء و التّجاوز و أمثالهما، و هي صادقة بالنّسبة إلى كلمة «اللّه» بعد الدّخول في «أكبر». نعم، في خصوص هذا المورد إشكال ناشٍ من أنّ جريان القاعدة إنّما يكون بعد إحراز عنوان الصّلاة، و مع هذا الشكّ لم يحرز دخوله في الصّلاة بعدُ، فتأمّل. و إذا سلّمنا ورود الإشكال هنا فجريان القاعدة في غيرها سليمة عنه.

القواعد الفقهية، ج 1،

ص: 253

نعم، في إجراء القاعدة في أجزاء كلمة واحدة بل الكلمات المتقاربة كجزئي تكبيرة الإحرام و ما شابهها إشكال آخر، و هو قوّة إنصراف الإطلاقات عنها، لاسيّما بعد ملاحظة التّعليلات الواردة فيها؛ فإنّ صورة العمل لاتكاد تخفى عن الذّهن عادة بمجرّد ذلك الزّمان القليل، فلا يصدق في حقّه أنّه في الحرف الأوّل أذكر منه في الثّاني، بل هو بعدُ كأنَّه في محلّ الفعل غير متجاوز عنه؛ فالأخذ بالإطلاق بالنّسبة إليها مشكل جدّاً.

نعم، لو كان الشكّ في آيات السّورة، أو فصول الأذان و الإقامة، لاسيّما فى الآيات و الفصول المتباعدة لم يبعد الأخذبها.

بقي هنا شي ء:

و هو أنّه هل تجري قاعدة «التّجاوز» في الأعمال المستقلّة كما تجري في أجزائها، فيحكم بتحقّقها بعد التّجاوز عن محلّها، أو الدّخول في عمل مستقلّ بعدها، أو لا؟

مثلًا: إذا دخل في صلاة العصر فشكّ في أنّه صلّى الظهر أو لا؟ فهل يحكم بتحقّق صلاة الظهر بمقتضى القاعدة- لا من ناحية شرطيّة ترتّب العصر عليها، فإنّ ذلك أمر راجع إلى باب الأجزاء و الشّرائط، بل من ناحية نفس صلاة الظّهر- بحيث لايجب الإتيان بها و لو بعد صلاة العصر، أو يجب الإتيان بها؟

قد يقال: إنّ القاعدة كما تجري في مثل «الأذان و الإقامة» بعد الدّخول في الصّلاة لورود النصّ فيها كما مرّ، كذلك تجري في مثل صلاة الظّهر في المثال المذكور و شبهها.

نعم، بناءاً على تعدّد القاعدتين و توهّم اختصاص دليل قاعدة التّجاوز بخصوص أجزاء الصّلاة و ما هو كالشّرط و لو لكمالها كالأذان و الإقامة، لم تجر في غير الأجزاء و شبهها.

هذا ولكنّ التّحقيق عدم جريان القاعدة في مفروض المسألة، و لو قلنا باتّحاد

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 254

القاعدتين و دخولهما تحت عنوان

واحد شامل لجميع الأبواب- كما هو المختار-؛ و ذلك لأنّ صّلاة الظهر لها اعتباران:

إعتبار من ناحية نفسها، و اعتبار من ناحية ترتّب العصر عليها؛ و موضوع «التّجاوز» في مفروض المسألة إنّما يصدق بالإعتبار الثّاني، فإنّ محّل صلاة الظّهر من ناحية إشتراط ترتّب العصر عليها يمضي بالدّخول في العصر، ولكن محلّها بالإعتبار الأوّل و في نفسها باقٍ إلى آخر وقتها الممتدّ إلى الغروب، و لذا لو نسيها و تذكّر بعد صلاة العصر وجب الإتيان بها.

و إن شئت قلت: التّرتيب شرط لصحّة صلاة العصر لا لصحّة الظهر، فإذا لم يصدق عنوان التّجاوز عليها بهذا الإعتبار فكيف تجري القاعدة فيها؟

نعم، بعد مضيّ وقتها و دخول وقت آخر يحكم بتحقّقها بمقتضى عموم هذه القاعدة، و لو لم يكن هناك دليل آخر يدلّ على عدم الإعتناء بالشكّ بعد الوقت.

ثمّ لايخفى عليك أنّه لافرق في ذلك بين القول بكون القاعدة أمارة، أو أصلًا؛ لما عرفت سابقاً من أنّ الأمارة إنّما تثبت آثار الواقع في خصوص موردها لا بالنّسبة إلى غيره، فراجع ما ذكر هناك.

المقام التاسع: جريان القاعدة عند الشّكّ في صحّة الأجزاء

لا إشكال في جريان القاعدة عند الشّكّ في صحّة المركّب، كالصّلاة و الوضوء، إذا شكّ فيه من جهة الإخلال ببعض ما يعتبر فيها من الأجزاء و الشّرائط.

و هل تجري في موارد الشّكّ في صحّة «الجزء»، كما إذا شكّ في صحّة القراءة أو الرّكوع من جهة الإخلال ببعض ما يعتبر فيها من الشّرائط، فيحكم بصحّتها بمقتضى القاعدة؛ أو تختصّ بالشّك في أصل وجود الأجزاء- كما هو مورد أحاديث الباب- و لاتجري عند الشّكّ في صحّتها؟

الحقّ أنّه لو قلنا باتّحاد القاعدتين- كما هو المختار- فلا إشكال في كون الحكم عامّاً للكلّ و أجزائه؛ و ذلك لما عرفت من أنّه

بناءاً على هذا يكون قوله: «كلّ ما

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 255

شككت فيه ممّا قد مضى» و شبهه من أخبار الباب عامّاً شاملًا للشّك في الشي ء بعد الفراغ و التّجاوز عنه؛ من غير فرق بين الكلّ و الجزء، و لابين التّجاوز عن نفسه- بأن يكون أصل وجوده محرزاً-، و بين المضي عن محلّه- بأنّ يشكّ في أصل وجوده-.

غاية الأمر أنَّ صدق التّجاوز و المضي في الأوّل حقيقي، و في الثّاني بنوع من العناية و الإدّعاء.

و أمّا إذا قلنا بتغاير القاعدتين، و اختصاص قاعدة التّجاوز بالأجزاء، كاختصاص قاعدة الفراغ بالكلّ، فقد يشكل الأمر؛ من جهة ظهور أخبار قاعدة التّجاوز في الشّك في أصل وجود الجزء، لا في صحّته بعد الفراغ عن وجوده، كما قيل باختصاصها بأجزاء الصّلاة و عدم جريانها في غيرها؛ و لا دليل على التّعميم هنا إلّاأمور:

أحدها: إنّ الشّك في صحّة الجزء راجع إلى الشّك في «وجود الشّي ء الصّحيح» على نحو كان التّامّة، فعموم القاعدة يشملها.

و فيه: إنّه خلاف ظاهر الأخبار على هذا المبني؛ لأنّها ظاهرة في الشّك في أصل وجود الشّي ء من رأس، لاوجود الشّي ء بصفة الصحّة.

ثانيها: إنّ عمومها و إن كان لا يشمله في بدء النّظر إلّاأنّه شامل له بتنقيح المناط؛ لعدم خصوصيّة في هذا الفرد، أعني الفرد الّذي يشك في أصل وجوده.

بل يمكن دعوى الفحوى و الأولويّة القطعيّة؛ لأنّ الشّك في أصل وجود الجزء إذا كان داخلًا تحتها كان الشّك في صحّته بعد إحراز وجوده أولى و أقرب.

و هذا الوجه حسن جداً.

ثالثها: أن يستند في هذا التّعميم إلى أنّ أصالة الصحّة في فعل المسلم أصل برأسه، و مدركها ظهور حال المسلم كما قال فخر الدّين في (الإيضاح): «إنّ الأصل في فعل العاقل

المكلّف الّذي يقصد براءة ذمّته بفعل صحيح و هو يعلم الكيفيّة و الكمّية الصحّة».

ذكر هذا الوجه شيخنا العلّامة الأنصاري قدس سره، ثمّ استشهد له بعموم التّعليل في قوله: «هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ».

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 256

أقول: هذا راجع إلى ما أشرنا إليه غير مرّة من أنّ أصالة الصحّة كما تجري في أفعال الغير كذلك تجري في فعل النفس، و أنّها ممّا جرت عليه سيرة العقلاء في أفعالهم و احتجاجاتهم، و أنّ التّعليل الوارد في هذه الرّواية و رواية محمّد بن مسلم:

«هو حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه حين يشّك» إشارة إلى هذه السّيرة العقلائيّة.

المقام العاشر: جريان القاعدة في الشّرائط

قد عرفت أنّه لا إشكال في جريان القاعدة في الأجزاء عموماً- كما هو المختار-، أو خصوص أجزاء الصّلاة- كما هو مذهب بعض-؛ ولكن في جريانها في الشّرائط كلام و إشكال، و اختار كلّ مذهباً:

فمن قائلٍ بعدم جريانها فيها مطلقاً، و لزوم إعادة المشروط و لو شكّ بعد الفراغ عنه؛ فيجب إعادة الصّلاة بعد الفراغ عنها إذا شكّ في شي ء من الطّهارة و شبهها.

نقله شيخنا العلّامة الأنصاري قدس سره عن بعض أصحابنا و لم يسمّ قائله.

و هو مذهبٌ عجيب لا وجه له أصلًا؛ لعدم قصور في النّصوص الخاصّة الدّالّة على عدم الإعتناء بالشّك في الصّلاة و الطّهور بعد مضيّهما، و لا في الرّوايات المطلقة و لا من حيث الفتوى.

و من قائلٍ بجريانها فيها مطلقاً، حتّى قال بعضهم بأنّ جريانها فيها يوجب إحراز وجود الشّرط حتّى بالنّسبة إلى الأعمال الآتية؛ فلا يجب تحصيل الطّهارة على من شكّ في صلاة بعد الفراغ عنها من ناحية الشكّ في الطّهارة حتّى بالنّسبة إلى الصّلوات الآتية.

و هذا القول أيضاً جائرٌ عن قصد السّبيل، قد

عرفت فساده سابقاً.

و من قائلٍ بجريانها بالنّسبة إلى نفس العمل المشروط، إمّا مطلقاً، و إمّا في خصوص ما إذا فرغ من المشروط كلّه؛ و أمّا إذا كان في الأثناء فلا تجري فيه.

و التّحقيق، أنّ الشّرط دائماً يكون من قبيل الكيفيّات أو الحالات المقارنة للمشروط، خلافاً لما ذكره غير واحد من المحقّقين في المقام من إمكان كون الشّرط

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 257

عملًا مستقلًّا يؤتى به قبل المشروط، كما في الوضوء بناءاً على ما يستفاد من ظاهر قوله تعالى: «إذا قُمْتُم إلى الصّلاةِ ...»، فإنّ هذا خلاف مفهوم الشّرط. فالشّرط دائماً من قبيل الحالات و الأوصاف و الكيّفيّات المقارنة، الّتي يكون تقييدها داخلًا في المشروط دون ذواتها؛ و هذا هو الفارق بينه و بين الجزء.

و أمّا الوضوء- لو قلنا بكونه شرطاً بعينه، لا الطّهارة الحاصلة منه- فالشّرط في مورده حقيقة هو تأخّر الصّلاة عنه، و هو صفة لاحقة للصّلاة، و إلّافالعمل المستقلّ المأتي به قبلًا أو بعداً إذا لم ينتزع منه عنوان «التّعقّب» أو «اللحوق» أو مثلهما الّذي يكون من الأوصاف المقارنة للمشروط لامعنى لكونه شرطاً.

هذا ولكن الشّرط من ناحية استقلال منشأ انتزاعه في الوجود، و عدم استقلاله، على أقسام:

أحدها: ما يستقلّ في الوجود و لايمكن تحصيله لمجموع المشروط إلّاقبله، كالطّهارة؛ فإنّ تحصيلها لمجموع الصّلاة لايكون إلّاقبلها.

ثانيها: ما يستقلّ في وجوده، ولكن يمكن تحصيله في الأثناء لكلّ جزء، كالإستقبال و السّتر و غيرهما.

ثالثها: ما لا يستقلّ في وجوده، كالموالاة؛ فإنّها أمر ينتزع من نسبة خاصّة بين أجزاء الصّلاة، و ليست كالطّهارة أو الإستقبال حتّى يمكن تحصيلها و لو بدون الصّلاة.

ففي جميع هذه الأقسام إذا كان الشّكّ بعد الفراغ عن المشروط بتمامه، كما إذا شكّ بعد التّسليم في

شي ء من الصلاة فلا إشكال في جريان القاعدة فيها و الحكم بصحّتها؛ لشمول إطلاقات الأدلّة لها على جميع المباني. نعم، يجب تحصيل الشّرط المشكوك للأعمال الآتية لما أشرنا إليه فى الأمر الرّابع، فراجع.

و أمّا إذا كان الشّك في أثنائه فقد يقال بأنّه لا إشكال أيضاً في جريان القاعدة في القسم الأوّل، لأنّ المفروض عدم إمكان تحصيله إلّاقبل العمل، فهو أمرٌ قد تجاوز عنه و دخل في غيره.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 258

و هذا إنّما يتمّ إذا قلنا بشرطيّة نفس الوضوء مثلًا، و قد عرفت ما فيه من الإشكال، و أمّا إذا قلنا بشرطيّة الطّهارة الحاصلة منها فإجراؤها فيه مشكل. و الوجه فيه أنّ مجرّد عدم إمكان تحصيله إلّاقبل العمل لا دخل له فيما نحن بصدده؛ لأنّ المأمور به هو الحالة الحاصلة منه، المقارنة للعمل، و ما يؤتى به قبله فهو من قبيل المقدّمة له، و مجرّد ذلك لايوجب صدق المضي و التّجاوز عنه إلّابالمسامحة؛ فإجراء القاعدة في هذا القسم مشكلّ جدّاً.

و أمّا القسم الثّاني، فلا يبعد جريان القاعدة فيه بالنّسبة إلى الأجزاء السّابقة، مع وجوب تحصيله للأجزاء الآتية، فلو شكّ في أثناء صلاته في استقبال القبلة في بعض الرّكعات السّابقة، و هو مستقبل القبلة لما هو فيه من الرّكعة، أمكن الحكم بصحّة صلاته و دخل في قوله: «كل ما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو». وقد عرفت عدم الفرق بين المركّب و أجزائه في ذلك.

هذا ولكن قد يستشكل عليه تارة: بأنّ شرطيّة الإستقبال و شبههه أمرٌ وحداني بالنّسبة إلى مجموع الصّلاة، و محلّه هو المجموع، فما دام المصلّي مشتغلًا بالصّلاة فمحلّه باق و لم يتجاوز عنه.

و فيه: إنّ مثل هذا الشّرط و إن كان

أمراً واحداً في مجموع الصّلاة، إلّاأنّه ينحلّ بالنّسبة إلى كلّ جزء من أجزاء الصّلاة، و يكون داخلًا تحت عنوان «الشّي ء» الوارد في الإخبار.

هذا مضافاً إلى أنّ الإشكال إنّما يتوجّه لو أُريد إجراء القاعدة بالنّسبة إلى نفس الشّرط، و أمّا إذا لوحظت بالنّسبة إلى نفس الأجزاء المشروطة به، فلا وجه للإشكال فيها أصلًا.

و أخرى: بأنّ الشّرائط لامحلّ لها حتّى يصدق التّجاوز عنها، فإنّها من قبيل الكيفيّات و الحالات العارضة للأجزاء، فالتّجاوز عنها إنّما يكون عرضيّاً بتبع التّجاوز عن الأجزاء لاحقيقيّاً، فلا يمكن إجراء القاعدة فيها.

و فيه مضافاً إلى أنّ التّجاوز عن الشّرط بتبع التّجاوز عن محلّه من الأجزاء كافٍ

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 259

في صدق عنوان التّجاوز عنه؛ فإنّ هذا مصداق التّجاوز حقيقةً لا مجازاً و مسامحة، فالتسترّ أو الإستقبال المقارن للقراءة أمرٌ يتجاوز عنه حقيقةً بعد الدّخول في الرّكوع، أنّ هذا الإشكال كالإشكال السّابق إنّما يتوجّه إذا جعل نفس الشّرط مورداً للقاعدة، و أمّا إذا كانت الأجزاء مورداً لها من جهة الشّك في صحّتها و تماميتها بعد الفراغ عنها، أو التّجاوز عن محلّها فلا يبقى مورد له؛ و ذلك لما مرّت الإشارة إليه من أنّ الشّك في صحّة الجزء كالشّك في أصل وجوده مشمول لعمومات القاعدة.

و أمّا القسم الثّالث من الشّرائط فإجراء قاعدة التّجاوز فيه و إن كان مشكلًا؛ فإنّ الموالاة- مثلًا- أمرٌ منتزع عن نسبة خاصّة بين أجزاء الصّلاة، و ليست شيئاً يتجاوز عنه برأسه، فانصراف الإطلاقات عنها قويّ جدّاً، فلا يقال: إنّ الموالاة بين آيات الحمد أمر تجاوز عنه و دخل في غيره، إلّاأنّه لامانع من إجراء القاعدة بالنّسبة إلى نفس الحمد و السّورة أو غيرهما بعد التّجاوز عنها و الشكّ في صحّتها

من ناحية موالاتها.

بقي هنا شى ء:

و هو أنّه قد يستشهد للقول بالتّفصيل بين الشّك في الوضوء بعد الفراغ عن الصّلاة، و الشّك فيه في أثنائها، بما رواه علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام «قال: سألته عن رجل يكون على وضوء، و يشكّ على وضوء هو أم لا؟ قال: إذا ذكر و هو في صلاته إنصرف فتوضأ و أعادها، و إن ذكر و قد فرغ من صلاته أجزأه ذلك»، «1»

بناءاً على أنّ مورد السّؤال هو من يكون على وضوء باعتقاده ثمّ يشكّ في ذلك.

و لكن فيه أنّ الأظهر في معنى الرّواية هو أن يكون على وضوء في زمان، ثم يشكّ فيه في زمان بعده، فيكون مجرى للإستصحاب، لا مورداً لقاعدة الفراغ و حينئذ إمّا يحمل هذا الحكم على الإستحباب، كما فعله صاحب (الوسائل)، و أمّا أن يطرح

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 260

لمعارضته لأخبار الإستصحاب.

المقام الحادى عشر: لماذا لاتجري القاعدة في أفعال الطّهارات الثلاث؟

الظّاهر أنّه لاخلاف بينهم في عدم جريان قاعدة التّجاوز في أجزاء الوضوء، إذا انتقل من جزء إلى جزء آخر، قبل الفراغ من تمامه. و قد أدعى غير واحد الإجماع عليه، بل لعلّ نقل الإجماع فيه مستفيض.

هذا بالنّسبة إلى الوضوء و أمّا إلحاق الغسل بالوضوء فهو المشهور كما حكى من طهارة شيخنا العلّامة الأنصاري، و عن جماعة من أئمّة الفقه كالعلّامة و الشّهيدين و المحقّق الثّاني و العلّامة الطّباطبائي (قدّست أسرارهم) التّصريح به، و عن بعضهم النّص على إلحاق التيمّم بهما. هذا حال المسألة من ناحية الفتاوى.

و الظّاهر أنّ الأصل فيها ما رواه زرارة عن أبي جعفر الباقر عليه السلام:

قال: إذا كنت قاعداً على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا؟ فأعد عليهما و على جميع ما شككت فيه أنّك

لم تغسله أو تمسحه، ممّا سمّى اللّه مادمت في حال الوضوء؛ فإذا قمت من الوضوء و فرغت منه، و قد صرت في حال أخرى في الصّلاة أو في غيرها، فشككت في بعض ما سمّى اللّه ممّا أوجب اللّه عليك فيه وضوءه، لاشي ء عليك فيه الحديث. «1»

و هذه الرّواية صريحة في وجوب الإعتناء بالشّك و الإتيان بالمشكوك مادام مشتغلًا بالوضوء، و أنّ عدم الإعتناء به يختصّ بصورة الفراغ منه؛ بل الدّخول في حال آخر.

ولكن قد عرفْت في الأمر الخامس أنّ هذا ليس في الحقيقة من قبيل القيد.

و يؤيّده رواية بكير بن أعين، قال: قلت له: الرّجل يشكّ بعدما يتوضّأ؟ قال: هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشك «2»

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 261

فإنّها ظاهرة في أنّه حال الوضوء أذكر، فبمقتضى أذكريّته يجب عليه الإعتناء بشكّه مادام مشتغلًا به. ولكن في دلالتها تأمّل؛ لأنّها غير ناظرة إلى صورة الشكّ في بعض أجزاء الوضوء بعد انتقاله إلى جزء آخر.

و استدلّ له برواية ثالثة نقلناها سابقاً، و هي ما رواه إبن أبي يعفور عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: إذا شككت في شي ء من الوضوء و قد دخلت في غيره فليس شكك بشي ء، إنّما الشّك إذا كنت في شي ء لم تجزه. «1»

بناءاً على رجوع ضمير «غيره» إلى «الوضوء»، فيكون دالًا بمقتضى مفهومه على وجوب الإعتناء بالشكّ مادام مشتغلًا بالوضوء.

ولكنّك قد عرفت فيما سبق أنّ رجوع ضمير «غيره» إلى الوضوء- مع قطع النّظر عن سائر أخبار الباب و الإجماع المدّعى عليه في المسألة- غير معلوم، بل الظّاهر رجوعه إلى الشّي ء المشكوك فيه، بقرينة الإطلاق الوارد في ذيلها؛ فإنّه دال على أنّ كلّ شي ء- سواء فيه الكلّ و الجزء- تجاوز عنه و

دخل في غيره يمضي عليه، و لايعتني بالشّك فيه.

و يؤيّد ما ذكرنا ورود هذا التّعبير بعينه في باب أجزاء الصّلاة في رواية «زرارة» و «إسماعيل بن جابر»، و ليس المراد منه هناك إلّاالتّجاوز عن الجزء المشكوك فيه و الدّخول في سائر الأجزاء. فالإستدلال بهذا الحديث في حدّ نفسه مشكل، بل لعلّه في بدء النّظر على خلاف المقصود أدلّ.

و يمكن الإستدلال له أيضاً برواية أبي يحيى الواسطي، عن بعض أصحابه، عن أبي عبداللّه عليه السلام: قال: قلت: جعلت فداك، أغسل وجهي ثمّ أغسل يدي، و يشكّكني الشّيطان أنّي لم أغسل ذراعي و يدي؟ قال: إذا وجدت برد الماء على ذراعك فلا تعد. «2»

فإنّه لو كان مجرّد التّجاوز عن جزء من الوضوء كافياً في عدم الإعتناء بالشكّ فيه لم يحتجّ إلى تحصيل أمارة قطعيّة أو ظنّية على غسل الذّراع- و هو وجدان برد الماء

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 262

عليه-، بل كان مجرّد التّجاوز عنه كافياً فيه.

ولكن الظّاهر منه كون الشكّ في حال الإشتغال بغسل اليد، و كأنّ منشأ شكّه كان هو الوسوسة في أفعال وضوئه، و تعبير الرّاوي بقوله: يشككني الشّيطان أيضاً شاهد عليه. فهذه الرّواية أجنبيّة عن المقصود.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ ما يدلّ على هذا الحكم من السنّة دلالة ظاهرة منحصر في رواية زرارة و العجب من شيخنا العلّامة الأنصاري قدس سره حيث صرّح في الرّسالة بورود أخبار كثيرة هنا مخصّصة للقاعدة المتقدّمة. فأين هي هذه الإخبار الكثيرة؟!

و مع ذلك رواية زرارة المؤيّدة بفتاوى الأصحاب كافية في إثبات هذا الحكم.

هذا كلّه بالنّسبة إلى الوضوء، و لايبعد كون التيمّم الّذي هو بدل عن الوضوء بحكمه؛ لإقتضاء البدليّة ذلك، ولكنّه يختصّ بما إذا كان التيمّم بدلًا عن

الوضوء.

و أمّا الغسل، و التّيمم الّذي هو بدل عنه؛ فلم نظفر على دليل يدلّ على استثنائهما. و خروجهما عن الأخبار العامّة الدّالّة على القاعدة، كإثبات الإجماع عليهما بنحو يكون حجّة مشكلٌ جدّاً.

نعم، قد يقال بدخولهما في ذيل رواية إبن أبي يعفور الّتي مرّت عليك آنفاً، أعني قوله: «إنّما الشكّ إذا كنت في شي ء لم تجزه». ولكن قد عرفت أنّها أجنبيّة عمّا نحن بصدده.

فإذن لو أمكن إثبات الحكم فيهما ببعض الإعتبارات الّتي سنذكرها فهو، و إلّا فشمول الإطلاقات لهما غير بعيد، و طريق الإحتياط فيهما واسع، فتأمّل.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ الطّهارات الثّلاث كلّها أو بعضها خارجة من تحت القاعدة.

ولكن يبقى الكلام في وجه خروجها مع أنّه لايرى فى بدء النّظر أيّ تفاوت بينها و بين سائر المركّبات الشّرعيّة، كالصّلاة و الحجّ و غيرهما.

فهل هو تعبّد محض؟ أو يوجد هناك فارق بينها و بين غيرها؟ إختار كلّ منهم مذهباً:

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 263

فقال المحقّق النّائيني قدس سره: إنّ خروجها إنّما هو بالتّخصّص؛ لمّا مرّ غير مرّة من أنّ العمومات على مختاره لاتدلّ إلّاعلى قاعدة الفراغ بالنّسبة إلى مجموع العمل، و أنّه لا دلالة لها بالنّسبة إلى الأجزاء، و أنّ الأخبار الواردة في حكم التّجاوز عن أجزاء الصّلاة حاكمة عليها، و تدلّ على تنزيل أجزاء الصّلاة منزلة الأعمال المستقلّة التّامّة، و حيث إنّ الدّليل الحاكم مختصّ بباب أجزاء الصّلاة يبقى غيرها خارجاً بحكم الأصل.

و قد عرفت فساد هذا المبني، و أنّ أدلّة القاعدة عامّة، شاملة للأجزاء و الكلّ، و أنّ سياق أخبار التّجاوز الواردة في أجزاء الصّلاة سياق غيرها من العمومات؛ فلا دلالة فيها على التّنزيل و الحكومة، بل الجميع يشير إلى معنى واحد، فلا يفهم العرف من

بعضها شيئاً وراء ما يفهم من غيره.

و قال شيخنا العلّامة الأنصاري قدس سره: أنّ خروج أجزاء أفعال الوضوء و شبهها من حكم قاعدة التّجاوز إنّما هو من باب التّخصيص؛ فإنّ الوضوء في نظر الشّارع فعل واحد، باعتبار وحدة مسببّه؛ فإنّه يطلب منه أمر واحد غير قابل للتبعيض، و هو الطّهارة، فلا يلاحظ كلّ فعل منه شيئاً برأسه. قال: و بذلك يرتفع التّعارض بين رواية إبن أبي يعفور- و هي قوله: إذا شككت في شي ء من الوضوء و قد دخلت في غيره فشكك ليس بشي ء، إنّما الشكّ إذا كنت في شى ء لم تجزه- الدّالة على الإعتناء بالشّكّ في أثناء الوضوء، و بين الأخبار السّابقة الدّالة على عدم الإعتناء بمثل هذا الشّكّ.

و كذلك يرتفع التّنافي المترائى بين صدر هذا الحديث و ذيله، فإذا كان الوضوء في نظر الشّارع فعلًا واحداً إرتفع الإشكالان و لم يكن حكم الوضوء مخالفاً للقاعدة، و به يوجّه حكم المشهور بإلحاق الغسل و التيمّم بالوضوء، و إلّالا وجه له ظاهراً.

هذا و أنت خبير بأنّ مجرّد وحدة المسبّب- و هو الطّهارة- لاتوجب لحاظ السّبب أمراً واحداً، و إلّاجرى مثله في الصّلاة و غيرها؛ لإمكان القول بأنّ المطلوب منها أيضاً أمر واحد، فتأمّل.

و بالجملة الإلتزام بلوازم هذا التّوجيه أمر مشكل جدّاً لايظنّ أنّه قدس سره يلتزم بها،

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 264

مضافاً إلى أنّ الحاقّ الغسل بالوضوء غير معلوم كما مرّ.

و الأولى أن يقال بعد كون الحكم في الوضوء من باب التّخصيص بدليل خاصّ وارد في المسألة أنّه لعلّ الوجه فيه كون أجزاء الوضوء يؤتى بها في زمان قصير لايغفل عن حالها غالباً، و لايكاد تخفى صورتها عادة بمضيّ هذا المقدار من الزّمان؛ فملاك القاعدة المصرّح

به في روايات الباب، و هو الأذكريّة في حال الفعل بالنّسبة إلى حال الشّكّ، مفقود فيها بحسب الغالب. بخلاف ما إذا فرغ من الوضوء، و انتقل إلى حال آخر؛ فإنّ انمحاء صورتها عن الذّهن و نسيان كيفيّة العمل فيه أمر قريب.

و لعلّ السّيرة العقلائيّة الجارية على عدم الإعتناء بالشّك بعد تمامه و التّجاوز عنه- بما مرّ من البيان- أيضاً غير جارية في أمثال المقام.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في وجه خروج الوضوء و شبهه عن عموم القاعدة. و إن أبيت بعد ذلك كلّه إلّاعن بقاء الإشكال في تفسير هذا الإستثناء و توجيهه، لم يكن قادحاً في أصل الحكم؛ بل لابدّ من حمله على التّعبّد المحض. و كم له من نظير في أحكام الشّرع.

و ممّا ذكرنا يوجد طريق آخر لتعميم حكم الوضوء و إجرائه في التّيمّم و الغسل، فتأمّل.

المقام الثانى عشر: عدم جريان القاعدة مع الغفلة
اشارة

إنّ الشّك في العمل بعد الفراغ و التّجاوز عنه يتصوّر على أقسام:

تارة يكون مع العلم بأنّه كان ذاكراً له حين العمل، عالماً بصحّته، ولكن يحتمل أنّه كان مخطئاً في اعتقاده، آتياً به على خلاف ما كان مأموراً به.

و أخرى مع الشّك في كونه ذاكراً له أو غافلًا عنه، فكما يحتمل الغفلة يحتمل الذكر.

و ثالثة مع العلم بكونه غافلًا محضاً ولكن يحتمل الإتيان بما كان مأموراً به من باب الصدفة و الإتّفاق، كمن يعلم بأنّه لم يحوّل خاتمه عن محلّه حين الوضوء ولكن

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 265

يحتمل انغسال ما تحته اتّفاقاً.

لا إشكال في جريان القاعدة في الصورتين الأوليين، و إنّما الكلام في شمول إطلاقات الأدلّة للثّالثة، فقد يقال بعدم شمولها لها، نظر اًإلى التّعليل الوارد في قوله:

«هو حين يتوضّأ أذكر منه حين يشكّ»؛ فإنّ التّعليل بذلك

يدلّ على تخصيص الحكم بمورد احتمال الذّكر، و إن كان عنوان السّؤال عامّاً. و يمكن أن يقال بشمولها لها و أنّ التّعليل من قبيل الحكمة للحكم لا العلّة له، حتّى يكون مخصّصاً.

و التّحقيق هو الأوّل، لا لمجرّد ظهور التّعليل الوارد في الرّواية، و في رواية أخرى لمحمد بن مسلم: «و كان حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك» في ذلك، بل لأنّ الإطلاقات بأنفسها قاصرة عن الشمول لها، و منصرفة عنها، لاسيّما مع القول بكون القاعدة من الأمارات، و من باب غلبة الذّكر؛ فإنّ هذا الملاك إنّما هو في غير صورةالعلم بعدم الذّكر.

هذا مضافاً إلى ما عرفت من أنّ حكم الشّارع بحجّية القاعدة ليس تأسيساً، بل هو إمضاء لما عند العقلاء من الحكم بالصّحة بعد الفراغ و التّجاوز عن العمل،- بل لعلّ الأمر في جميع الأمارات الشّرعيّة كذلك، فليس فيها تأسيساً جديداً على خلاف ما استقر عليه بناء العقلاء-، و من الواضح عدم استقرار بناء العقلاء على الحكم بالصّحة في صورة الغفلة المحضة.

فلا محيص عن الحكم ببطلان العمل في هذه الصّورة و إعادته بمقتضى قاعدة الإشتغال إلّا أن يقوم دليل آخر على الصّحة.

و يجب التّنبيه هنا على أمور:

الأوّل: لايخفى أنّه إذا كان هناك أمارة شرعيّة كالبيّنة، أو حجّة عقليّة كالقطع، فإعتمد عليها المكلّف حين الفعل ثمّ تبيّن خطؤها بعده؛ كمن صلّى إلى جهة يعلم أنّها قبلة، أو قامت أمارة شرعيّة عليها، ولكن تبيّن له بطلان منشأ قطعه و فساد الأمارة بعدما صلّى، ولكنّه يحتمل كون الجهة الّتي صلّى إليها قبلة من باب الإتّفاق،

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 266

فلا إشكال في أنّه محكوم بحكم الغفلة؛ لأنّ الإحراز المذكور كان فاسداً، مع كون صورة العمل محفوظة عنده، لعلمه بالجهة الّتي صلّى

إليها، ولكن لايعلم أنّها كانت هي القبلة، أو غيرها؟! فلو صادفت القبلة لم يكن من ناحية «الذّكر حين العمل»؛ لأنّ المفروض علمه بعدم كونه أذكر حينه، بل إنّما هي من باب الصدفة و الإتّفاق.

و ليس هذا من قبيل الشّك في انطباق «المأمور به» على «المأتيّ به»، كما ذكره المحقّق النّائيني قدس سره في الأمر الخامس الّذي ذكره في المسألة، بل من قبيل انطباق «المأتي به» على «المأمور به» صدفةً و اتّفاقاً عند الغفلة.

و العجب منه قدس سره أنّه جعله من ذاك الباب، و عقد له و لأشباهه باباً مستقلّاً. و كلامه في هذا المقام لايخلو عن تشويش و اضطراب، فراجع.

الثّاني: إنّ المراد بالغفلة هنا هو الغفلة المحضة، أعنى الذّهول عن العمل عند أدائه مطلقاً، إجمالًا و تفصيلًا، نظير مسألة الخاتم في الوضوء؛ فإنّ المفروض ذهوله عن غسل ما تحته مطلقاً، إجمالًا و تفصيلًا، فاحتمال الصحّة إنّما يكون من باب الصّدفة و الإتّفاق فقط.

و أمّا إذا ارتكزت كيفيّة العمل فى النّفس إجمالًا بسبب التّكرار و حصول العادة له، كما في أفعال الصّلاة و الوضوء و غيرهما من العبادات اليوميّة، بحيث يؤتى بها أحياناً متوالياً على وجهها الشّرعي مع الغفلة عنها تفصيلًا، فإنّ ذلك لايعدّ من الغفلة، بل فيه نوع من الذّكر كما أشرنا إليه سابقاً؛ و لولا ذلك كان الذّكر التّفصيلي غير حاصل لكثير من النّاس في أقوالهم و أفعالهم و عباداتهم و غيرها، فلا يصحّ التّعليل بغلبة الذّكر حين العمل بالنّسبة إلى العموم.

الثّالث: إنّ شيخنا العلّامة الأنصاري قدس سره ذكر في كلام له في المقام أنّه لافرق بين أن يكون المحتمل ترك الجزء نسياناً أو تركه عمداً، و التّعليل المذكور: (هو حين يتوضاً ...) بضميمة

الكبرى المتقدّمة: (إنّ القاصد لفعل لايتركه عمداً يدلّ على نفي الإحتمالين.

و هو منه قدس سره عجيب؛ فإنّ العاقل القاصد لفعل شي ء مع العلم بشرائطه و أجزائه

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 267

لايحتمل في حقّه ترك الجزء عمداً أصلًا، و هذا هو المراد من الكبرى المتقدّمة، لا أنّه يحتمل ذلك في حقّه و ينفي احتماله بهذه الكبرى تعبّداً، أو من باب الغلبة، كما في احتمال التّرك نسياناً.

و الحاصل أنّه لو فرض احتمال ترك الجزء تعمّداً لم تجرِ فيه القاعدة بلا إشكال؛ لأنّه لا دافع لهذا الإحتمال، و لايوجد مصحّح للعمل معه. فقوله قدس سره: لا فرق بين أن يكون المحتمل ترك الجزء نسياناً أو تركه تعمّداً، لاوجه له أصلًا.

المقام الثالث عشر: في عدم جريان القاعدة في الشّبهات الحكميّة

لا إشكال في جريان القاعدة في الشّبهات الموضوعيّة، بل هي القدر المعلوم من موردها، المصرّح به في كثير من الرّوايات؛ فإنّ ما اشتمل منها على ذكر صغرى لهذه الكليّة فتلك الصغرى من قبيل الشّبهات الموضوعيّة كما هو واضح، و ما كان عامّاً فالقدر المتيقّن منه ذلك.

إنّما الإشكال في جريانها في الشّبهات الحكميّة.

و الحقّ عدم جريانها فيها؛ فإنّ الشّك من ناحية الحكم هنا يتصوّر على وجهين، لاتجري القاعدة في شي ء منهما:

أحدهما أن تكون صورة العمل محفوظة عنده، و لم يكن في عمله مستنداً إلى حجّة شرعيّة من إجتهادٍ أو تقليد، كمن يعلم أنّه صلّى بلا سورة و كان ذلك عن جهل بالحكم أو غفلة منه، ثمّ بعد الفراغ منها يشكّ في صحّة صلاته من جهة الشّك في حكمها الشّرعي، و أنّ السّورة جرء أم لا؟ و ليس له طريق لإحرازها من اجتهاد أو تقليد؛ فإن قيل بعدم جريان القاعدة فيها وجب الإحتياط بإعادتها لاشتغال ذمّته، و إلّا كان محكوماً

بالصحّة و لم يجب عليه الإعادة.

و الحقّ عدم جواز الّتمسّك بها؛ لظهور أخبار الباب في كون الشّك في كيفيّة الوجود الخارجي، فقوله: «رجل شكّ في الرّكوع أو السّجود أو الوضوء» ظاهر في شكّه في كيفيّة الإتيان بها بعد إحراز حكمها، لا في حكمها بعد إحراز كيفيّة وقوعها؛ لعدم

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 268

ملاك الأذكريّة فيه، و هو واضح. هذا إذا كانت صورة العمل محفوظة، و كان عمله عن جهل بالحكم.

و منه تعرف أنّه لو لم تكن صورة العمل محفوظة عنده، كما إذا شكّ الجاهل بالحكم بعد مُضي برهة من الزّمان في مطابقة أعماله لما كان مأموراً به في الواقع، من جهة عدم انحفاظ صورة عمله، كان خارجاً عن محل البحث داخلًا في الشّبهات الموضوعيّة، و إن كان جريان القاعدة فيها أيضاً ممنوعاً؛ نظراً إلى استناد عمله إلى الجهل و الغفلة، خلافاً لما يترائى من المحقّق النّائيني من عدّه من أقسام الشّبهة الحكمية.

ثانيهما: أن تكون صورة العمل محفوظة عنده- كمن يعلم أنّه صلّى بلاسورة-، ولكن كان علمه مستنداً إلى حجّة شرعيّة من اجتهاد أو تقليد، ثمّ شكّ بعد الفراغ عنه في صحّته و فساده، من جهة زوال رأيه أو رأي مجتهده و تردّده في حكم المسألة من دون العلم بفساده.

و جريان القاعدة في هذه الصّورة و إن كان أقرب من سابقها، إلّاأنّ الحقّ عدم جريانها فيها أيضاً؛ لما ذكر في الصّورة السّابقة، فراجع و تدبّر جيّداً.

المقام الرابع عشر: مورد القاعدة خصوص الشكّ الحاصل بعد العمل

لاينبغي الرّيب في أنّ مورد قاعدة التّجاوز و الفراغ هو الشكّ الحاصل بعد العمل.

فلو كان الشكّ موجوداً من قبل، لكنّه غفل عنه و دخل في العمل، ثمّ بعد الفراغ منه تذكّر و تجدّدت له حالة الشكّ في صحّة عمله و

فساده، لم يجز له الّتمسّك بها، و لو قلنا بجريان القاعدة في موارد الغفلة.

و ذلك كمن شكّ في الطّهارة قبل الصّلاة و كان حالته السّابقة الحدث، ثمّ غفل و صلّى، مع علمه بعدم تحصيل الطّهارة بعد شكّه، فإذا سلّم توجه إلى ما كان فيه و شكّ في أنّه كان على طهارة أم لا، فعليه تحصيل الطّهارة و إعادة الصّلاة.

و الوجه فيه ظاهر، أمّا بناءاً على المختار من عدم جريان القاعدة في موارد الغفلة

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 269

فواضح؛ لأنّ المفروض غفلته عن تحصيل شرائطه قبل الصّلاة مع وجوب الطّهارة عليه بظاهر الشّرع بمقتضى الإستصحاب، فلم يكن داخلًا تحت قوله: «هو حين يتوضاً أذكر»، أو قوله: «و كان حين انصرف أقرب إلى الحقّ منه بعد ذلك»، بل لو كان ذاكراً لم يقدم على هذا العمل.

و إن شئت قلت: مورد القاعدة هو ما كان احتمال الذّكر منشأ لاحتمال صحّة العمل و حصول شرائطه، و في المقام لو كان ذاكراً كان عمله محكوماً بالفساد في ظاهر الشّرع بحكم الإستصحاب الجاري فيه بلا كلام.

و أمّا على القول بجريانها في موارد الغفلة، فالأمر أيضاً كذلك، لا لمجرّد ظهور أخبار الباب مثل قوله: «الرّجل يشكّ بعدما يتوضأ»، أو قوله «شكّ في الرّكوع بعدما سجد»، و أشباههما في أنّ الشّك نشأ بعد الفراغ عن العمل أو التّجاوز منه، بل لأنّ مجرى القاعدة هو ما إذا كان العمل مبنيّاً على الصحّة و لو في ظاهر الشّرع؛ فلو كان من أوّل أمره مبنياً على الفساد و محكوماً بالبطلان في ظاهر الشّرع لم يمكن تصحيحه بالقاعدة بعد الحكم بفساده. و المقام من هذا القبيل؛ فإنّ الصّلاة في مفروض الكلام كانت محكومةً بالفساد من أوّل آنات وجودها

بحكم استصحاب الحدث، و إن كان المصلّي غافلًا عن هذا الحكم حين الشّروع لغفلته و نسيانه، فكيف يصحّ الحكم بصحّتها بعد الفراغ عنها، و هل يرضى بذلك لبيب؟

هذا تمام الكلام في قاعدة التّجاوز و الفراغ.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 271

5 قاعدة اليد

اشارة

و من القواعد المشهورة الّتي يتمسّك بها في كثير من أبواب الفقه و تدور عليها أحكام المعاملات كلّها قاعدة اليد، فبها تدور رحى المعاملات، و بها تنحلّ عقدها.

و يزيد هذا وضوحاً ما ستعرف- إن شاء اللّه- من أنّ مرادنا من «اليد» ليس خصوص يد الملكيّة، بل نبحث عن «اليد و الاستيلاء» بمفهومها العام الشّامل ليد المالك، و المستأجر، و متولّي الأوقاف، و المستعير، و الودعي، و أشباههم؛ فإنّ كيفيّة السّلطة و الإستيلاء على الأموال و المنافع مختلفة، تترتّب عليها أحكامها كذلك.

فالبحث لايدور على دلالة اليد على الملك فقط بل يعمّها و غيرها، فليكن هذا على ذكر منك.

و إذ قد عرفت ذلك فاعلم أنّ الكلام في هذه القاعدة أيضاً يقع في مقامات:

الأوّل: في مدرك القاعدة.

الثّاني: في أنّها من الأمارات أو من الأصول العمليّة؟

الثّالث: في أنّه بماذا تتحقّق اليد؟

الرّابع: هل هي حجّة حتّى إذا كان متعلّقها ممّا لايجوز بيعه إلّابمسوغ خاصّ، كالوقف؟

الخامس: هل هي حجّة و لو حدثت أوّلًا لا بعنوان الملك؟

السّادس: هل هي تستقرّ على المنافع و الأعيان كليّهما؟

السّابع: هل يجوز الشّهادة بالملك بمجرّد اليد؟

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 274

الثّامن: هل هي حجّة لصاحبها أيضاً؟

التّاسع: في عدم حجّية يد السّارق و شبهه.

العاشر: في حجّية اليد في الدعاوى إلّاما يستثنى.

المقام الاول: في مدرك القاعدة و ملاك حجّيتها

لا إشكال و لا كلام في حجيّة اليد و دلالتها على الملك في الجملة، و عليه إجماع علماء الفريقين، بل المسلمين جيمعاً، بل كافّة العقلاء من أرباب المذاهب و غيرهم.

و هذا الحكم على إجماله من ضروريات الدّين. ولكن مع ذلك لابدّ لنا من استقصاء الأدلّة الدّالّة عليه لكي نرجع إليها في إزالة الشّكوك الواقعة في حدودها، و نستريح إليها فيما وقع الكلام فيه من فروع القاعدة و جزئيّاتها.

فنقول

و من اللّه نستمد التّوفيق و الهداية: يدلّ على هذا الحكم- أعني كون اليد حجّة على الملك- أمور:

أوّلها: إجماع علماء الفريقين عليه بل ضرورة الدّين كما عرفت.

هذا ولكن في الإستناد إلى الإجماع في هذه المسألة الّتي فيها مدارك كثيرة أخرى، الإشكال المعروف، من عدم كشفها عن قول المعصوم؛ بناءاً على ما اختاره المتأخّرون من أصحابنا- رضوان اللّه عليهم- من حجّية الإجماع من طريق الحدس و الكشف عن قوله عليه السلام.

ثانيها: السيرة المستمرّة من المسلمين في جميع الأعصار و الأمصار على معاملة من بيده عينٌ من الأعيان معاملة المالك، فلا يتصرّف فيها إلّابإذنه. كما أنّه يكتفى بإذنه في جواز التّصرّف فيها، و الإشتراء و الإستئجار؛ و كذلك تمضي جميع تصرّفاته فيها، من الوصيّة و الهبة و غيرها، و تورث بمجرّد ذلك. و هذا أمر ظاهر لاسترة عليه.

ولكن الظّاهر أنّ هذه السّيرة مأخوذة من بناء العقلاء، فتؤول إلى ما سنذكره في الدّليل الثّالث.

و من هنا يعلم أنّه لابدّ في الإعتماد عليها من ضمّ عدم ردع الشّارع عنها، فيعتمد

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 275

عليها في موارد لايوجد فيها ردع عموماً أو خصوصاً؛ و لو كانت سيرة المسلمين بما هم مسلمون لم يحتج إليه، و هو واضح.

ثالثها: بناء العقلاء جميعاً، من أرباب الأديان و الملل و غيرهم، على ترتيب آثار الملك على اليد، و قد صار هذا الحكم مرتكزاً فى الأذهان، و راسخاً في النّفوس، بحيث يكون كالأمور الغريزيّة؛ بل لعلّه يوجد شي ء من آثار هذه الغريزة عند غير الإنسان من الحيوانات كما لايخفى على من سبر أحوالها.

و هذا الحكم إنّما ينشأ من المبادئ الأوّليّة في حصول الملك؛ فإنّه نشأ حينما نشأ من ناحية الحيازة و الإستيلاء على الأشياء الّتي

توجد في عالم الطّبيعة، و تكون فيها منافع الإنسان، و لايمكن الحصول عليها في أيّ زمان و مكان بحيث تكون كثرتها رادعة له عن حيازتها.

فأوّل ما نشأ الملك في العالم نشأ من ناحية الحيازة و الإستيلاء على شي ء، و هما يعتمدان على الجارحة المخصوصة، أعني: اليد، فكانت اليد هي الواسطة الأصليّة في الملك، و الوسيلة الإبتدائيّة له. ثمّ إنّه إذا ظفر الحائز عليه و جعله تحت يده فقد ينقله من يده إلى غيره و يجعله تحت يده باختيار منه، أو بإرثٍ أو نحو ذلك.

و من هنا كلّ من شاهد عيناً بيد غيره؛ ورآه مستولياً عليها، رآه أولى بها.

فلم تكن الملكيّة في أوّل أمرها إلّاهذه الأولويّة الطبيعية التّكوينيّة، و الإختصاص الخارجي النّاشى ء من الإستيلاء، فالمالك هو المستولي على شي ءٍ خارجاً.

ثمّ بعد ذلك جعلت الأولويّة الإعتباريّة التشريعيّة الّتي هي من الأمور الإختياريّة مكانها.

وقد أطلق في آيات الكتاب العزيز عنوان «الكاسب» على «اليد» فقال تبارك و تعالى: «فَبَما كَسَبَتْ أَيْديكُمْ» «1»

، و في موضع آخر

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 276

«بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ» «1». و من هنا تعرف نكتة التّعبير عن هذه القاعدة بقاعدة «اليد» دون سائر الجوارح؛ فإنّ الحيازة و الإستيلاء، لاسيّما بصورتها الإبتدائيّة البسيطة، تكون باليد، فهي ممتازة عن سائر الجوارح في هذا الباب. فيحكم على «اليد» بالملك و الضّمان، و الغصب؛ فيقال: يد الملك، يد الضمان، و يد الغصب و الإعتداء.

ثمّ إنّه من الواضح أنّ ما يكون بيد الإنسان حقيقةً لايكون دائماً بهذه الحالة، بل قد يدعه جانباً من يده، ولكنّه يكون في مكان يقدر على أخذه كلّما أراده؛ فيطلق «اليد» على هذا المعنى الّذي هو في الحقيقة السّلطة و الإستيلاء فقط؛ فيقال: إنّه تحت يده.

و هذا المعنى من «اليد» معنى أوسع من معناه الحقيقي، أعني الجارحة المخصوصة.

و لا يهمنا البحث عن أنّ هذا المعنى صار من كثرة الإستعمال معنى حقيقيّاً لها، بحيث يراد من هذه اللّفظة بلا قرينة، أو هو معنى كنائي أو مجازي لها بعدُ؛ فإنّه لو لم يكن من معانيها الحقيقيّة فلا أقلّ من كونه كنايةً واضحةً، أو مجازاً مشهوراً مقترناً بقرينة الشّهرة و غيرها من القرائن الحاليّة، فلا ثمرة مهمّة في هذا البحث.

و قد صرّح المحقّق النحرير الشّيخ محمد حسين الإصفهاني قدس سره في رسالته المعمولة في المسألة أنّها حقيقة في الأوّل، و كناية في الثّاني؛ و ذكر في وجه ما اختاره ما لايخلو عن الإشكال، فراجع.

فتحصّل من جميع ذلك أنّ كاشفيّة اليد عن الملكيّة أمر يقتضيها طبعها الأوّلي، و لذا لايرى في هذا الحكم خلاف بين العقلاء جميعاً مع اختلاف آرائهم و تشتّت مذهبهم في غيره. و أمّا الغصب و الإستيلاء العدواني على شي ء فهو في الحقيقة إنحراف عن هذه الطّبيعة، و خروج عن مقتضى وضعها الأوّلي.

و سيأتي- إن شاء اللّه- أنّ الغصب و السّلطة و العدوانيّة مهما كثرت و شاعت لاتقدح في كاشفيّة اليد عن الملك- حتّى إذا كانت الأيدي العادية أكثر من الأيدي

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 277

الأمينة-، و أنَّ الكاشفيّة في الأمارات- برغم ما ذكره غير واحد من المحقّقين لاتدور مدار الغلبة دائماً، فتدبّر.

رابعها: إنّ اليد لو لم تكن دليلًا على الملك لزم العسر الأكيد، و الحرج الشديد، و اختلّ النّظام في أمور الدّنيا و الدّين، و بلغ الأمر إلى ما لايكاد يتحمّله أحد، و لم يستقرّ حجر على حجر. و لايحتاج لزوم هذه الأمور إلى مُضي برهة طويلة من الدّهر أو

زمن كثير، بل يلزم ذلك من إلغاء حجيّة اليد و لو ساعة واحدة!

و إلى هذا أشار الإمام عليه السلام في رواية حفص بن غياث الواردة في جواز الشّهادة بالملكيّة بمجرّد اليد: «و لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق». «1»

و من المعلوم أنّه إذا لم يقم لهم سوق لم يقم لهم بلد و لادار، و لاشي ء من أمور دينهم و دنياهم، و من معاشهم و معادهم.

هذا، ولكن في الاستدلال بالعسر و الحرج و اختلال النظام الإشكال المعروف، و هو أنّ لازمه الإكتفاء بما يندفع معه العسر و يرتفع إختلال النظام، لاحجّيتها مطلقاً؛ فلا يكفي مجرّد ذلك في إثبات دلالة اليدّ على الملكيّة في جميع مواردها.

و لابدّ حينئذ من حمل استشهاد الإمام عليه السلام بهذه القضيّة على بيان حكمة الحكم لا العلّة له، فاختلال النظام حكمة للحكم بحجّية اليد على الإطلاق لا علّة لها، و إلّادارت مداره.

الّلهمّ إلّاأن يقال: إنّ «التّبعيض» في ذلك بنفسه موجب للعسر و اختلال النّظام، لأنّه لاتفاوت بين الأيدي المختلفة حتّى تتبعّض في الحجّية، و لو كان هناك فرق و تفاوت فإنّما هو فى أمور لايمكن جعلها فارقاً في المقام. كما أنّ «التّخيير» أيضاً لايرفع الغائلة؛ فلو قيل بأنّ هذه اليد حجّة دون أخرى لكان أوّل النّزاع و الخلاف، و أوّل المخاصمة و اللّجاج، و كان فيه من الهرج و المرج ما لايخفى. فلا مناص من القول بحجّيتها مطلقاً.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 278

فاستدلال الامام عليه السلام إذاً يكون من قبيل «العلّة» للحكم، كما هو ظاهره أيضاً.

خامسها: السّنّة

و هي روايات كثيرة وردت في مختلف أبواب الفقه، بعضها يدلّل عليها بالعموم و بعضها بالخصوص.

منها: رواية حفص بن غياث، المعروف بين الفقهاء، عن أبي

عبداللّه عليه السلام قال: (قال له رجلٌ إذا رأيت شيئاً في يدي رجل أيجوز لي أنّ أشهد أنّه له قال عليه السلام: نعم، قال الرّجل أشهد أنّه في يده و لا أشهد أنّه له، فلعلّه لغيره، فقال أبوعبداللّه عليه السلام: أفيحل الشّراء منه؟ قال: نعم، قال أبوعبداللّه عليه السلام: فلعلّه لغيره، فمن أين جازلك أن تشتريه و يصير ملكاً لك ثمّ تقول بعد الملك: هو لي ء و تحلف عليه؛ و لايجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك؟ ثمّ قال أبوعبداللّه عليه السلام: لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق). «1»

و الرّواية و إن كانت غير خالية عن ضعف في سندها، إلّاأنّها منجبرة بعمل الأصحاب و استنادهم إليها؛ و إستفاضة مضمونها فتأمّل.

و هي مشتملة على حجّية اليد بأبلغ بيان؛ بل جواز الشّهادة بالملكيّة بمقتضاها، و أنّه كما يجوز أن يحلف الإنسان على كونه مالكاً لما في يده- مع أنّه غالباً مسبوق بيد غيره المحتملة للغصب و نحوه- فكذلك يجوز له الشّهادة على ملك غيره بمجرّد إستقرار يده عليه، و هذا هو منتهى المقصود في المسألة.

إلا أنّ «الشّهادة» و «الحلف» هنا ليسا على الملكيّة الواقعيّة؛ بل على الملكيّة الظّاهريّة كما هو ظاهر. و بهذا يندفع ما قد يقال من أنّه يعتبر في الشّهادة العلم اليقيني المستند إلى أسباب حسّية، و ليس في المقام كذلك.

و منها: ما رواه يونس بن يعقوب عن أبي عبداللّه عليه السلام في حديث: (من استولى على

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 279

شى ء منه فهو له) «1»

الواردة في باب حكم اختلاف الزّوج و الزّوجة أو ورثتهما فيما بأيديهم من أثاث البيت، دلّت على أنّ كلًا من الرّجل و المرأة أحقّ و

أولى فيما استولى عليه من متاع البيث.

و العجب من المحقّق النّائيني قدس سره حيث أسقط كلمة «منه» من الرّواية و رواها هكذا: «من استولى على شي ء فهو له»، فصارت رواية عامّة، و اعتمد عليها لإثبات هذه الكلّية، أعني حجّية اليد مطلقاً؛ مع أنّها مختصّة بباب معيّن كما عرفت.

و قد نقلها المحقّق الإصفهاني في رسالته مع لفظة «منه»، و مع ذلك جعلها أحسن ما في الباب، و هو أيضاً عجيب.

اللّهمّ إلّاأن يقال: إنّ الحديث و إن كان وارداً في بعض مصاديق القاعدة، إلا أنّ إلغاء خصوصيّة المورد منه قريب جدّاً؛ و لاسيّما بملاحظة ارتكاز الحكم في الذّهن و مناسبة التّعبير بقوله: «من استولى» لعموميّة الحكم بملاك الاستيلاء؛ فإنّه من قبيل الوصف الّذي علق عليه الحكم و هو دالّ أو مشعر بالعلّية.

و منها: ما رواه عثمان بن عيسى و حمّاد بن عثمان جميعاً عن أبي عبداللّه عليه السلام في حديث فدك أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام قال لأبي بكر: (أتحكم فينا بخلاف حكم اللّه في المسلمين؟ قال: لا، قال: فإن كان في يدالمسلمين شي ء يملكونه إدّعيت أنا فيه من تسأل البيّنة؟ قال: إيّاك كنت أسأل البيّنة على ما تدّعيه على المسلمين. قال عليه السلام: فإذا كان في يدي شي ء فادّعى فيه المسلمون تسألني البيّنة على ما في يدى؟! ...

الحديث) «2»

و هي ظاهرة بل صريحة في أنّ الوجه في عدم مطالبة البيّنة من ذي اليد هو كون اليد دليلًا على ملكيّته لاغير.

و قوله عليه السلام في الفقرة الأولى: (كان في يدالمسلمين شي ء يملكونه)، ظاهره أنّهم

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 280

يملكونه بمقتضى ظاهر اليد؛ فليس قوله: «يملكونه» زائداً على قوله «في يد المسلمين»، بل هو نتيجة له، فهو شاهد آخر

على دلالة اليد على الملكيّة.

و منه يظهر أنَّ حجّية اليد و دلالتها على الملكيّة كانت أمراً ظاهراً مرتكزاً في أذهان المسلمين و أهل العرف لايقدر أحد على إنكاره؛ فاحتج الأمير عليه السلام به على أبي بكر. و إطلاق حكم اللّه عليه في صدر الرّواية إنّما هو من ناحية إمضاء الشّارع لهذا الإرتكاز، و عدم ردعه عنه، لا أنّه حكم أسّسه الشّارع المقدّس.

هذا ولكنّ الرّواية دالّة على حجّية يدالمسلم فقط، و ساكتة عن غيرها؛ فلابدّ من تكميل دلالتها على المدّعى بالغاء خصوصيّة المورد و نحوه.

و منها: ما ورد في جواز اشتراء المملوك من صاحب اليد، و إن ادعى أنّه حرّ. مثل رواية حمزة بن حمران عن الصادق عليه السلام: (أدخل السّوق و أريد أشتري جارية فتقول:

إنّي حرّة، فقال: إشترها إلّاأن يكون لها بيّنة) و مثله غيره. «1»

فإنّ الحكم بجواز اشترائها مع أنّ الأصل يقتضي حريتها ليس إلّابمقتضى اليد، لعدم فرض أمارة أخرى على ملكيّة بايعها. هذا ولكن التّعدّي عن موردها إلى سائر الموارد يحتاج إلى إلغاء الخصوصيّة، و إلّافهي رواية خاصّة وردت في مورد خاص.

ومنها: ما رواه مسعدة بن صدقة عن الصادق عليه السلام: كلّ شي ء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، و ذلك مثل الثّوب يكون عليك قد اشتريته و هو سرقة والمملوك عندك لعلّه حرّ قد باع نفسه، أو خدُع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك و هي أختك أو رضيعتك. و الأشياء كلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البيّنة «2»

و الوجه في دلالتها أنّ الحكم بالحليّة في ما ذكره عليه السلام من المثالين الأوّلين لايصحّ بظاهر اليد السّابق على يده، و إلّاتكون أصالة عدم الملك

في مثال الثّوب، و

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 281

أصالة الحرّية في مثال العبد قاضية بالحرمة بلا إشكال؛ فالحلّية مستندة إلى يد البايع في المثالين.

و في دلالة الرّواية على قاعدة الحلّية المعروفة و تطبيقها على المثالين كلام مشهور في محلّه، ذكره العلّامة الأنصاري قدس سره في ذيل أصالة البراءة، و تبعه فيه غيره من المحقّقين في تعليقاتهم عليه فراجع؛ و على كلّ حال فذاك الكلام و الإشكال أجنبي عمّا نحن فيه.

و كيف كان، دلالتها على المقصود من ناحية المثالين- بالقرينة الّتي ذكرناها- ظاهر للمنصف.

هذا و قد يقال في توجيه دلالتها على المدّعى: إنّ قوله: «لك» في قوله «كلّ شي ء هو لك حلال» قيد للمبتدأ، لاجزء للخبر؛ فالمعنى: كلّ شي ء يكون لك و يدك ثابتة عليه فهو حلال الخ. و عليه تكون الرّواية دليلًا على حجيّة يده لنفسه عند الشّكّ في ملكيته لما تحت يده.

و فيه من التّكلّف و التعسّف ما لايكاد يخفى.

و قد تحصّل من جميع ما ذكرنا أنّ العمدة في دليل حجيّة قاعدة اليد أوّلًا هو إرتكاز أهل العرف و جميع العقلاء من أرباب الدّيانات و غيرهم، في جميع الأعصار و الأمصار عليها، مع إمضاء الشّارع لها، لابمجرّد عدم الرّدع عنها؛ بل بالتّصريح بإمضاء هذه السّيرة و الإرتكاز العرفي في غير مورد و ترتيب آثارها عليها، و في التّالي لزوم العسر و الحرج بل إختلال نظام المعاش و المعاد أيضاً، و أمّا غير هذين الدّليلين فهو في الحقيقة تأييد و إمضاء لهما.

المقام الثاني: في أنّها من الإمارات أو الأصول العمليّة؟

قد وقع الكلام بينهم في أنّ «اليد» حجّة كسائر «الإمارات الشّرعيّة و العقلائيّة» أو أنّها معتبرة كأصل عملي؟ ثمّ وقع الكلام في وجه تقديمها على الإستصحاب و سائر «الأصول العمليّة» على القول بكونها من

الأصول.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 282

فذهب كثير من المحقّقين إلى أنّها إمارة عقلائيّة أمضاها الشّارع المقدّس، ولكن يظهر من صدر كلام شيخنا العلّامة الأنصاري الميل إلى كونها أصلا تعبّديًّا معتبراً لحفظ النّظام و إقامة الأمت و العوج، بينما يظهر من ذيله الميل إلى كونها من الإمارات، نظراً إلى إنّ إعتبارها عند العقلاء إنّما هو لكشفها عن الملك غالباً و الغلبة إنّما توجب الحاق المشكوك بالغالب، فالشّارع إعتبرها بهذا الملاك أيضاً.

و قال المحقّق النّائيني بعد ما أختار كونها إمارة: «أنّه لاثمرة مهمّة في هذا النّزاع، لتقدّمها على الإستصحاب مطلقاً، إمارة كانت أو أصلًا عمليًا».

هذا و الحقّ أنّ الّذي يظهر ممّا ذكرنا آنفاً عند بيان أدلّة حجّيتها إنّ العمدة في ملاك حجّيتها إنّها كاشفة عن الملك لا لغلبة الأيدي المالكيّة على العاديّة كما ذكر غير واحد منهم، لمّا سيمر عليك من الإشكال في أمر هذه الغلبة؛ بل لأنّ الملك مقتضي طبعها الأولى؛ فإنّ الملكيّة أوّل ما نشأت كانت كالأمور العينيّة الخارجيّة، لا الأمور الإعتباريّة و التشريعيّة الّتي وعائها الذّهن و عالم الإعتبار.

فحقيقة الملكيّة كانت هي الغلبة و السّيطرة الخارجيّة على شى ء، و الإختصاص الحاصل منه في عالم الخارج؛ و منشأ هذه السّيطرة و الإستيلاء كانت الحيازة الّتي تكون باليد غالباً؛ فكلّ من اكتسب شيئاً من المباحات بيده كان مسلّطاً عليه، مانعاً لغيره من التّصرّف فيه بأنواع التّصرّفات. فأخذُه بيده دليل على كسبه، و سببٌ للوصول إلى جميع أنحاء التّصرّف فيه. فهذه هي المرحلة الأولى من مالكيّة الإنسان للأشياء الخارجيّة.

ثمّ انتقل الأمر من أخذ الإنسان العين الخارجية بيده إلى جعلها في محلّ تصل يده إليها كلّما شاء؛ و يمنع غيره عنها كلّما قصدها، و هذه هي المرحلة الثّانية لها.

و

حيث إنّ ذلك- أعني جعلها تحت يده و في حيطة تصرّفه الخارجي دائماً- كان أمراً صعباً؛ لأنّ الملكيّة مازالت تكثر و تزداد و تتنوّع، و كان المالك كثيراً ما يغيب عمّا يملكه و لايمكنه نقل جميعه معه أينما ذهب، التّجأوا إلى أمر أسهل و أوسع منه، و هو جعلها في شكل آخر إعتباري، لا خارجي تكويني؛ فجعلوا لها صورة قانونيّة

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 283

تشريعيّة لا واقعيّة تكوينيّة، و من هنا نشأت الملكيّة و السّلطة الإعتباريّة، المعبّر عنها باليد، و كانت هذه هي المرحلة الأخيرة للملكيّة.

فكانت اليد في شكلها الإعتباري القانوني دليلًا على الملك كما كانت في شكلها التّكويني الخارجي دليلًا عليه بمقتضى طبيعتها الأوّليّة.

و من هنا تعرّف أنّه لايتفاوت الحال في أمر هذه الكاشفيّة بغلبة الأيدي المالكة على غيرها- مع ما في هذه الغلبة من الإشكال-؛ لا لما ذكره المحقّق الإصفهاني قدس سره فقط من أنّ المسلّم إنّما هو غلبة اليد غير العادية- أعمّ من يد الملك و الوكالة و الوصاية و غيرها- لا اليد المالكة. بل لأنّ غلبة الأيدي غير العادية على العادية أيضاً أمر غير معلوم، لاسيّما في زماننا هذا، و كثير من الأزمنة السّابقة عليه؛ فمن سبر التّاريخ و علم أحوال كثير من الملوك و الخلفاء و الأمراء و فوضاهم في أموال اللّه و أموال النّاس، و خضمهم إيّاها خضم الإبل نبتة الرّبيع، و إقتقاء تابعيهم- و هم الأكثرون ذلك اليوم- لآثارهم، ثمّ انتقال هذه الأموال- لاسيّما الضياع و العقار- منهم إلى من بعدهم، جيلًا بعد جيل، يعلم أنّ دعوى هذه الغلبة أمر مشكل جدّاً.

و قد كان بعض سادة أساتذتنا يقول في بحثه في غير هذه المسألة ببعض المناسبات: «إنّ كلّ ما

يكون تحت أيدينا من الأرض و الدّار و شبههما قد جرت عليها من أوّل يوم إحيائه أيدي أناس كثيرون لايعلمهم إلّااللّه؛ و هل يظنّ كون جميع الأيدي الجارية على كلّ عين منها مالكة أمينة غير عادية»؟

و من الواضح أنّ يداً واحدة منها في سلسلتها الطولية إذا كانت عادية لم تكن تلك العين مملوكة لمالكها الفعلي واقعاً الآن، و إن كانت ملكا له ظاهراً.

و أوضح من هذا كلّه حال أموال النّاس و أملاكهم في زماننا هذا، الّذي غلب عليه و على أهله الجور و الإعتداء، يتقلّب كلّ على غيره و يتملّك أمواله يوماً بعنوان القهر و الظّلم، و يوماً بعنوان بسط العدل و المساواة، و يوماً تحت عنوان إجراء أصول الإشتراكيّة، و يوماً بالرّبا، و يوماً بالغشّ في المعاملة، و يوماً بالرّشاء، و بأشكال كثيرة آخر.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 284

و إن أبيت عن جميع ذلك و قلت بغلبة الأيدي الأمينة على العادية في جميع ما ذكرنا، فافرض نفسك في صقع من الأصقاع و بلد من البلاد تكون الأيدي المالكة متساوية مع الأيدي الخائنة، فهل ترى من نفسك اسقاط اليد عن دلالتها على الملكية مطلقاً، و تتعامل مع جميع الأموال الّتي بأيدي النّاس هناك معاملة مجهول المالك، و هل يساعدك العقلاء و أهل العرف على ذلك، لو قلت به؟!

هذا و لا غرو أن يكون هناك أمارة لاتدور مدار الغلبة. و إن تعجب فعجب قولهم بحجّية أصالة الحقيقة و تقديمها على احتمال المجاز، و لو كان الإستعمال المجازي بالنّسبة إلى بعض الألفاظ أغلب من استعماله الحقيقي. فهل ترى فرقاً بينه و بين ما نحن فيه؛ و السّرفيه أيضاً هو أنّ دلالة اللّفظ على المعنى الحقيقي إنّما هي بمقتضى طبعها

الأوّلي، و شرحه في محلّه.

و هكذا الحال في أصالة السّلامة الدّائرة بين العقلاء؛ فإنّها ليست من استصحاب الثّابت حجّيته بمقتضى أخبار «لاتنقض»، بل هي حجّة من باب الظنّ الحاصل من مقتضى طبع الإنسان؛ فإنّه يقتضي الصّحّة و السّلامة، و لاينافي ذلك تساوي المرضى و السّالمين أحياناً.

بقي هنا أمور:

الأول: إنّ التّعليل الوارد في رواية حفص بن غياث- و هو لزوم اختلال السّوق و انحلاله على فرض عدم حجّية اليد- لاينا في ما ذكرنا من كونها أمارة و طريقاً الى ء المكيّة؛ و ذلك لما عرفت من أنّه لامنافاة بين الملاكين، و أن تكون حجيّتها مستندة في المرتبة الأولى إلى إقتضاء طبع اليد، و في الثّانية إلى لزوم حفظ النّظام، و المنع عن الهرج و المرج. و أيّ مانع من أن يكون في شي ء واحد ملاكان للحجيّة؟

الثاني: إنّ تقديم البيّنة، في موارد قيامها، على اليدّ أيضاً لاينا في أماريتها. كما أنّ تقديم قرينة المجاز على أصالة الحقيقة؛ و دليل التّخصيص على أصالة العموم، و

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 285

أشباههما، لاينافي كون هذه الأمور حجّة من باب الأماريّة و الطريقيّة إلى الواقع؛ لأنّ الأمارات ليست متساوية الأقدام في كشف الواقع؛ فربّ أمارة تكون أقوى من أخرى، فتقدّم عليها. و لاشكّ أنّ البيّنة العادلة أقوى دلالة على الملكيّة من اليد؛ فاليد بطبعها الأوّلي و إن كانت تقتضي الملكيّد إلّاأنّه إذا كان هناك دليل أقوى يدلّ على انحرافها عن طبعها و استعمالها في غير محلّها، فلا بدّ من الرّكون إليه. و هذا نظير تقديم الأظهر على الظّاهر في باب الألفاظ.

و عليه لانحتاج إلى ما ذكره شيخنا العلّامة الأنصاري قدّس سرّه من أنّ تقديم البيّنة عليها إنّما هو من جهة أنّ اليد تكون أمارة على

الملك عند الجهل بسببها، و البيّنة مبيّنة لسبب اليد؛ و بعبارة أخرى: مستند الكشف في اليد هي الغلبة، و الغلبة إنّما توجب إلحاق المشكوك بالأعمّ الأغلب، أمّا إذا كان في مورد الشكّ أمارة معتبرة تزيل الشّكّ تعبّداً فلايبقى مورد للإلحاق.

و هذا البيان كماترى راجع إلى توجيه حكومة البيّنة على اليد، بتصرّفها في موضوعها بإزالة الشّكّ تعبّداً، و فيه من الإشكال ما لايخفى؛ لإمكان معارضته بمثله، و القول بأنّ حجّية البيّنة إنّما هي عند الجهل بالملك، و اليد تزيل هذا الشّكّ فتأمّل.

الثالث: إنّ اليد تقدّم على الإستصحاب حتى لو قلنا بأنّها من الأصول العلميّة، و أن الاستصحاب حجّة من باب الأمارة، و الوجه فيه ما ذكره غير واحد من المحقّقين من أنّها اعتبرت في موارد الإستصحاب، و أنّها أخصّ أو كالأخصّ بالنّسبة اليه؛ لأنّ ما لايجري فيه إستصحاب عدم الملكيّة قليل جدّاً، فلو لم تكن معتبرة في موارد إستصحاب عدم الملكيّة لزم الوقوع فيما فرّ منه، و هو عدم بقاء السّوق و بطلان الحقوق، و اختلال أمر الدّنيا و الدّين.

المقام الثالث: بماذا تتحقّق اليد

قد عرفت أنّ حقيقة اليد هي الإستيلاء و السّيطرة على الشّي ء، بحيث يمكن لصاحبها التّصرّف فيه كيفما شاء، و التقلّب فيه كيفما أراد. فهي لاتتكيّف بكيفيّة خاصّة، بل تختلف باختلاف الحالات و المقامات؛ فربّما يكون نحوٌ من الإستيلاء

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 286

محقّقاً لليد في مقام و لايكون كذلك في مقام آخر، أو بالنّسبة إلى شي ء دون آخر، أو حالة دون أخرى. و المعيار في جميع ذلك هو العرف.

فقد تتحقّق اليد بكون الشّي ء في يد الإنسان حقيقة؛ كالفلوس إذا كانت في كفّه.

و أخرى تكون بالتّعلّق ببدن الإنسان، كالقميص الّذي لبسه، و الحذاء في رجله و النظّارة على

عينه، و الفلوس في كيسه؛ و الشي ء على عاتقه.

و ثالثة تكون بركوبه؛ كركوب الدّابّة، أو ركوبه في محلّ خاص كالسّائق للسّيّارة؛ فإنّ استقراره في محلّه سبب لاستقرار يده عليها، دون غيره من الرّكاب.

و رابعة بأخذ زمامه، كما يأخذ المكاري زمام النّاقة و أمثالها، أو المشي في جانبه، كما يمشي هو أيضاً على جانب القافلة على الوضع الخاصّ لو كان.

و خامسة بالسكنى فيه، كسكنى الإنسان في الدّار و في الدّكان و شبهه.

و سادسة بكون مفتاحه بيده؛ و إن لم يكن ساكناً فيه، كما في الدّور و الخانات و الدّكاكين و غيرها إذا كانت غير مسكونة.

و سابعة بالعمل فيها بالمباشرة أو التّسبيب، كما في عمل الفلّاحين في الأراضي الزّراعيّة بالزّرع و الحصاد و غيرهما، إذا لم يكن هناك سبب آخر يحقّق سيطرتهم و استيلائهم عليها.

إلى غير ذلك من الأنحاء و الأشكال الّتي يطّلع عليها من سبر موارد الملك بين العقلاء و العرف.

و غير خفي أنّ التّصرف بنحو خاصّ في بعض الموارد- كما في الدّار- محقّق للسلطة و الاستيلاء، لا أنّه شرط زائد عليها. فما قد يتوهّم من أنّه يعتبر في تحقّق اليد التّصرّف بنوع خاصّ في جميع مواردها أو في بعضها مضافاً إلى السّلطة و الإستيلاء، توهّم فاسد لا دليل عليه أصلًا.

بل جميع ما ذكرنا من الأدلّة السّابقة و لاسيّما سيرة العقلاء و أهل العرف دليل على نفي هذا الشّرط، و كفاية حصول الاستيلاء على الشّي ء بنحو يمكنه التّصرف فيه كيفما شاء، و إن لم يتصرّف فيه أصلًا. و أمّا كون التّصرف في بعض مواردها و

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 287

مصاديقها محقّقاً لهذا المعنى في الخارج فهو أمر آخر وراء اعتبار التّصرف كأمر زائد على الإستيلاء.

ثمّ إنّه قد

تتعارض أنحاء اليد بالنّسبة إلى أشخاص مسيطرين على شى ء واحد بأنحاء مختلفة، كما إذا تعارضت دعوى راكب الدّابّة و الآخذ بزمامها، و كلٌ يدعي كونه مالكاً.

أو تعارضت دعوى المشتري و صاحب الدكان في متاع يكون بيد المشتري في دكان غيره، فالمشتري يدّعي أنّه ملكه إشتراه من غيره، و صاحب الدّكان يدعي أنّه من أمتعته، و هما في الدّكان؛ فلا يبعد أن يقال بأنّه يكون لكلّ منهم ذات اليد عليه، أحدهما من جهة كونه بيده حقيقةً، و الآخر من جهة كونه في حيطة سلطانه و استيلائه. و هذا ناشٍ من تنوّع اليد باختلاف المقامات. و قد يكون بعض هذه الأيدي أقوى من بعضُ و قد تكون متساوية، فتتعارض. و لحلّ هذه الدّعاوى مقام آخر.

المقام الرابع: هل اليد حجّة فيما لايُملك إلّابمسّوغ خاصّ؟

العين الّتي تستقرّ عليها اليد لاتخلو من أنحاء ثلاثة:

أحدها: ما يعلم بأنّها قابلة للنّقل و الإنتقال، ولكن يشكّ في تحقّق سببه بالنّسبة إلى من هي في يده.

ثانيها: ما يشكّ في كونها طلقاً أو غير طلق.

ثالثها: ما يعلم بأنّها لم تكن طلقاً و قابلة للنقل و الإنتقال إلّابمجوّز خاص؛ كالعين الموقوفة الّتي لايجوز بيعها و لا شراؤها إلّاإذا طرأ عليها الخراب، أو خلف شديد بين أربابها على المشهور.

لا إشكال في حجّية اليد في القسم الأوّل، في العين المعلوم قابليّتها لذلك؛ لأنّه القدر المتيقّن منها. و كذا القسم الثّاني؛ لشمول إطلاقات الأدلّة و بناء العقلاء و الإجماعات له، بل الغالب في موارد اليد هو هذا القسم ظاهراً، و إخراجه عن تحت القاعدة يوجب الهرج و المرج و اختلال النّظام، ولايبقى معه للمسلمين سوق. مع أنّه لاخلاف في شى ء من ذلك.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 288

و أمّا القسم الثّالث فهو الّذي وقع الخلاف فيه بين المحقّقين

ممّن قارب عصرنا، فاختار بعض عموم الحجّية لها، و اختار عدمه آخرون.

فممّن ذهب إلى الأوّل المحقّق الإصفهاني قدس سره في رسالته المعمولة في المسألة؛ و ممّن ذهب إلى الثّاني المحقّق النّائيني قدس سره في رسالته. و هو الأقوى.

و عليه لو شوهدت العين الموقوفة في يد واحد بعنوان الملكُ، و احتمل في حقّه اشتراؤها لطرو الخراب عليها أو الخلف شديد بين أربابها، لم يجز الإعتماد على مجرد يده في إثبات ذلك، بل كانت أصالة الفساد هنا محكمة.

و ذلك لقصور أدلّة حجّيتها عن شمول مثله؛ فإنّ عمدتها كما عرفت هو بناء العقلاء و السّيرة المستمرّة الدائرة بينهم، و الأخبار و الإجماعات الدّالّة على إمضاء هذه السّيرة من ناحية الشّارع المقدّس. و لايشمله شي ء منها؛ فإنّ العقلاء من أهل العرف يقفون عن معاملة الملك مع عين موقوفة استولي عليها شخص أو أشخاص بعنوان المالكيّة، بمجرّد احتمال وجود مسوّغ في بيعها؛ بل يلزمون أنفسهم على البحث و التّحقيق عن ذاك المسوّغ. و يظهر ذلك بأدنى مراجعة لحالهم.

و أمّا الإطلاقات الواردة في الشّرع- مضافاً إلى أنّها ناظرة إلى إمضاء هذا البناء- بنفسها منصرفة عن مثله. و لاأقلّ من الشّكّ، و هو كاف في إجراء أصالة الفساد.

و السرّ في جميع ذلك ما عرفت من أنّ دلالة اليد على الملكيّة شى ء يقتضيه طبعها الأوّلي و ظاهر حال اليد، و المفروض أنّ هذا الطّبع قد انقلب في موارد الأعيان الموقوفة و شبهها؛ لأنّ طبيعة الوقف تقتضي أن تكون محبوسة تترك في أيدي أهلها، لا تباع و لاتورث. فجواز النّقل و الإنتقال إنّما هو أمر عارضي لها، مخصوص بصور معيّنة محدودة. و بعبارة أخرى: جواز بيع الوقف إنّما هو في صورة الضّرورة و الإضطرار

لاغير.

و من المعلوم أنّ إثبات ذلك الأمر العارضي يحتاج إلى دليل خاصُ و مجرّد اليد لاتكفي لإثباته كما عرفت.

و ما قد يقال، من أنّ اليد من الأمارات، و هي تثبت أسبابها و لوازمها، فهي تثبت

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 289

أنّ محلها كان قابلًا للملكيّة، ممنوع جدّاً؛ فإنّ ذلك- لو قلنا به- إنّما هو في موارد يشملها دليل حجّيتها، و قد عرفت قصورها. و إثبات توسعة دليلها: ذلك يوجب الدّور الواضح.

هذا كلّه فيما يعلم كونه وقفاً، و أمّا في موارد الشّكّ فالحقّ- كما عرفت- حجّية اليد فيها؛ فإنّ الأعيان الخارجيّة بطبعها الأوّلي قابلة للنّقل و الإنتقال، و أمّا حبسها و إيقافها فهو أمر عارضي لها يحتاج إثباته إلى دليل. ولكن هذا الأمر العارضي إذا عرض في محلّ فصار من الأعيان الموقوفة كان عدم الإنتقال كالطّبيعة الثّانية له، فلا يُتعدّى عنه إلّابدليل. و إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى دليل المخالف و الجواب عنه:

قال المحقّق الإصفهاني قدس سره في رسالته المعمولة في قاعدة اليد بعد اختيار عموم دليل الحجّية للمقام ما حاصله: «إنّ ملاك الحجّية و هي غلبة الأيدي المالكيّة في مقابل غيرها [على مختاره محفوظ في المقام، و غلبة بقاء الأعيان الموقوفة على حالها؛ لندرة تحقّق المسوّغ، و إن كانت ثابتة لاتنكر، ولكنّها إنّما هي في اليد الّتي ثبتت على الوقف حدوثاً إذا شكّ في بقائها على حالها أو انقلابها يد الملك، و أمّا في مورد البحث المفروض انقطاع اليد السّابقة على الوقف فيها، و حدوث يد أخرى يشكّ في أنّها على الملك أو الوقف، فلا مجال لتوهّم بقاء اليد على حالها؛ فإنّ غلبة كون الأيدي مالكيّة شاملة له، و لا وجه للعدول عنها، و إذ

قد ثبت ملاك طريقة اليد هنا فلا وجه لمنع شمول الإطلاقات له، و ليست الخدشة فيه إلّاكالخدشة في سائر المقامات».

ثمّ قال: «بل يمكن أن يقال- بناءاً على كون اليد أصلًا- إنّ اليد تتكفّل لإثبات أصل الملكيّة، و حيث إنّها عن سببٍ مشكوك الحال من حيث استجماعه لشرط التأثير، و هو المسوّغ لبيع الوقفُ، فإصالة الصحّة في السبب الواقع بين مقولي الوقف و ذي اليد تقضي بصحة السّبب كما بنينا عليه في أصالة الصحّة؛ فإنّها مقدّمة على الأصول الموضوعيّة الجارية فى موردها، و منها أصالة عدم المسوّغ» إنتهى ملخّصاً.

أقول: فيه أوّلًا: ما عرفت سابقاً من أنّ ملاك حجّية اليد ليس غلبة الأيدي

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 290

المالكيّة، بل الملاك فيها ظهور حال اليد، و هو مقتضي طبعها الأوّلي. و نظيره في ذلك حجّية أصالة الحقيقة؛ فإنّها ليست من باب غلبة الحقيقة على المجاز بل هي حجّة- و لو كانت المجازات أكثر-. و قد مرّ توضيحه بما لا مزيد عليه.

و ثانياً: إنّ هذه الغلبة قد انقلبت في الأعيان الموقوفة؛ فإنّ الغالب في الأيدي الجارية عليها حدوثاً أو بقاءاً بأي نحو كانت هو عدم المالكيّة- و الفرق بين اليد السّابقة و الحادثة لاوجه له؛ فإنّ جميعها تجري على العين الموقوفة. و لحاظ الغلبة إنّما هو في المجموع من حيث المجموع، فإنّها تشترك في جريانها على العين الموقوفة.

و ثالثاً: ما ذكره من تتميم الإستدلال بها، بناءاً على كونها من الأصول العمليّة، بأصالة الصحّة في البيع الواقع من متولّي الوقف و ذي اليد، ممنوع؛ لما أشرنا إليه في قاعدة الصحّة من عدم جريانها في أمثال المقام، فراجع.

المقام الخامس: هل اليد حجّة و لو حدثت لا بعنوان الملك؟

لا إشكال في حجّية اليد و دلالتها على الملك إذا كانت من أوّل

أمرها مشكوكة.

كما أنّه لا إشكال في حجّيتها إذا كانت مسبوقة بالملك ولكن شكّ في خروجها عنه بقاءاً.

أمّا إذا كانت اليد حادثة لابعنوان الملك، كما إذا كانت يد إجارة أو عارية أو عدوان ثمّ شكّ في انقلابها ملكاً؛ ففيه كلام بين الأعلام، و الّذي اختاره غير واحد من المحقّقين هو عدم الحجّية، و غاية ما يقال في وجهه أمران:

الأوّل: إنّ ملاك حجّيتها- و هو الغلبة و الكاشفيّة النّوعيّة- منتف هنا؛ فإنّها تختصّ بما إذا لم يعلم حدوثها على غير الملك، و أمّا إذا حدثت على غير الملك فلا تكون لها هذه الكاشفيّة. بل الغالب في هذه الموارد بقائها على عنوانها الّذي كانت عليه، من الإجارة و غيرها. هذه الغلبة الطّارية يزول الحكم السّابق. و منه يعلم إنصراف الإطلاقات عنه أيضاً.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 291

و الشّاهد على هذا جريان سيرة العقلاء على أخذ مستمسك من المستأجرين و غيرهم بقبول الإجارة و غيرها، و ليس ذلك إلّالأجل إسقاط أماريّة اليد عن الدّلالة على الملكيّة، حتّى يكون المستأجر محتاجاً إلى إقامة الدّليل إنّ أدعى ذلك.

الثّاني: إنّها إنّما تكون أمارة بما أنّها مشكوكة الحال؛ ولكن استصحاب الحالة السّابقة في المقام يخرجها عن كونها مشكوكة بحكم الشّارع المقدّس، و يدلّ على عدم كونها يد ملك؛ فلا تكون أمارة.

و بعبارة أخرى: اليد إنّما تكون أمارة مع انحفاظ موضوعها، و هو كونه مشكوك الحال، و مع جريان الاستصحاب ينتفي موضوعها، و حينئذ لايبقي مجال للإشكال بأنّه كيف يقدّم الإستصحاب- و هو من الأصول العمليّة- على اليد- و هي من الأمارات-؟ فإنّ تقدّم الأمارة على الأصل إنّما هو فيما إذا كانا جاريين في مورد واحد، أمّا إذا كان الأصل جاريّاً في موضوع الأمارة و

منقّحاً له فلا إشكال في تقديمه عليها.

أقول: هذا غاية ما يمكن أن يقال في وجه عدم حجّية اليد هنا ولكن فيه:

أوّلًا: إنّ ما ذكر من بناء العقلاء مسلّم إذا كانت العين مورداً للتّشاح و التّنازع، بأنّ أدعى المالك الأصلي أنّه مالكها فعلًا، و ادّعى المستأجر أو المستعير انتقالها إليه ببيع أو نحوه، و أنّ يده فعلًا يد ملك؛ فإنّ الاعتماد على يده في قبال المالك الأوّل هنا غير معلوم، بل يطالبونه بالدّليل على كون يده فعلًا يد ملك بعدما كانت غيره. و ما ذكر من جريان سيرة العقلاء، على أخذ مستمسك من المستأجرين و غيرهم أيضاً ناظر إلى هذه الصّورة.

و أمّا لو لم يكن هناك منازعة و تشاح؛ بأن رأينا المستأجر السّابق مستولياً على العين إستيلاء المالك على ملكه، يتصرّف فيها كيفما شاء؛ يبيعه أو يهبه، فعدم الاعتماد على يده غير معلوم. كيف، و ليس حاله أسوأ ممّا إذا شاهدنا عيناً في يد واحد ثمّ شاهدناها في يد آخر يعمل فيها عمل المالك في ملكه. فإنّه لاينبغي الشّكّ في الإعتماد، على يده، كيف، و الغالب في الأيدي سبقها بيد الغير قطعاً؛- إمّا تفصيلًا

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 292

أو إجمالًا- فهل يمكن القول بأنّ سبق يد الاستيجار مثلًا أسوأ حالًا من سبق يد الغير؟!

نعم لو كان المدّعي للملكيّة متّهماً في دعواه أمكن الإشكال في الاعتماد على مجرّد يده، ولكنّه لايختصّ بهذا المقام، بل يجري في جيمع موارد التهمة، كما مرّ نظيره في باب أصالة الصحّة، و سيجي ء في مورد قاعدة اليد أيضاً أنّ حجيّتها في الأيدي المتّهمة- بما سيذكر لها من المعنى- غير معلومة.

و لايتوهّم أن ركون العقلاء إلى اليد فيما ذكرنا إنّما هو من باب أصالة

الصحّة في الأفعال الصّادرة عن الغير؛ فإنّ ما ذكرنا ثابتٌ و لو لم يكن هناك فعل يحمل على الصحّة، فتدبّر.

و ثانياً: إنّ ما ذكر من جواز الّتمسّك باستصحاب الحالة السّابقة و أنّه رافع لموضوع اليد، ممنوع أشد المنع؛ لأنّ الاستصحاب لايرفع الشّكّ عن حال اليد. و المفروض أنّ ظاهر اليد أوّلًا و بالذّات هو اليد المالكة، و هذا الظّهور من قبيل الأمارات، فكيف يمكن صرف النّظر عنه بمجرد استصحاب بقاء اليد على وضعها السّابق؟

و الإنصاف أنّ مثل هذا عن المحقّق النّائيني قدّس سرّه عجيب.

هذا ولكن لايبعد تخصيص ماذكرنا من جواز الاعتماد على اليد هنا بما إذا لم يكن مسبوقاً بيد العدوان؛ فإنّها من الأيدي المتّهمة الّتي لايمكن الرّكون إليها، و إنّ ادّعى صاحبها إنقلابها إلى يد الملك كما أشرنا إليه آنفاً و سيجى ء مزيد توضيح له عن قريب إن شاء اللّه.

المقام السادس: هل اليد تعمّ المنافع و الأعيان؟

لا إشكال في تعلّق اليد بالأعيان، و دلالتها على الملكيّة لها، إنّما الكلام في تعلّقها بالمنافع. و المحكي عن الفاضل المحقّق النّراقي قدس سره إختصاصها بالإعيان و عدم تعلّقها بالمنافع، و اختار غير واحد من أكابر المتأخّرين إمكان تعلّقها بالمنافع أيضاً.

و محل النّزاع الّذي تترتّب عليه الّثمرة ما إذا تعلّقت اليد بها إستقلالًا لاتبعاً

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 293

للعين، بحيث تكون المنافع- مع قطع النّظر عن العين- تحت اليد. أو إذا كانت تبعاً للعين، ولكن كان هناك دليل على عدم مالكيّة العين؛ فتظهر الّثمرة في دلالة الإستيلاء التّبعي للمنافع على ملكيّتها و عدمها.

ففي هاتين الصّورتين تتصوّر الّثمرة العمليّة لهذا النّزاع.

و إذ قد عرفت ذلك فاعلم أنَّ تعلّق اليد بالمنافع مستقلًّا أمر غير معقول، و إن مال إليه أو اختاره بعض المحقّقين- كما حُكي-؛ لعدم إمكان الاستيلاء الخارجي

عليها من غير طريق الاستيلاء على نفس الأعيان، فإنّها في نفسها من الأمور العرضيّة، و لا استقلال لها في الوجود، فلا استقلال لها في وقوعها تحت اليد، و كيف يستولى عليها إستقلالًا مع أنّها في ذاتها ممّا لا يوجد مستقلًا؟

و ما يُحكى من الّتمثيل لها بالمزارع الموقوفة الّتي تكون بأيدي المتولّين، فتصرف منافعها في حقّ الموقوف عليهم و تعطي ثمراتها بأيديهم، فلهم اليد على منافعها دون أعيانها، واضح الفساد- كما أفاده المحقّق الإصفهاني قدس سره في رسالته-؛ فإنّ مثل هذه المنافع من الأعيان، خارجة عن محل الكلام؛ لأنَّ الكلام هو في المنافع المقابلة للعين.

و كذلك ما قد يقال من إمكان تصويرها في الاستيلاء على حقّ الإختصاص بمكان من المسجد و نحوه من المدارس و الخانات الموقوفة، حيث إنّه في هذه الموارد لايكون المسجد و غيره تحت اليد، بل الّذي يكون تحتها هو نفس حق الاختصاص.

و فساد هذا أيضاً بيّنٌ؛ فإنّ حقّ الإختصاص ليس من المنافع و لايقع تحت اليد، بل هو أمر اعتباري نظير الملكيّة، و مرتبة نازلة من السّلطنة على العين. فهو من آثار اليد على العين بنحو خاصّ، لامتعلّقاً لها واقعاً تحتها.

و الحاصل أنّ الإستيلاء في هذه المقامات إنّما هو على نفس المسجد و المدرسة و الخان و شبهها، ولكنّه بنحو يكون مؤثّراً في وجود نوع خاص من الحقّ و كاشفاً عنه، لا الملكيّة، لعدم قابليّة المورد.

و الإنصاف أنّ عدم إمكان تعلّق اليد بالمنافع مستقلًاّ أوضح من أن يحتاج إلى أكثر من هذا البيان.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 294

فيبقى الكلام في إمكان وقوعها تحت اليد بتبع الأعيان حقيقة، بأن تكون اليد على العين من قبيل الواسطة في الثّبوت، لامن قبيل الواسطة في العروض، حتّى

يكون من باب المجاز و المسامحة. ثمّ بعد إمكان ذلك ثبوتاً يقع الكلام في قيام الأدلّة عليه و دلالتها على حجّية مثل هذه اليد إثباتاً.

و تنقيحه يحتاج إلى توضيح حقيقة المنفعة المقابلة للعين، فقد يتوهّم أنّها نفس صرف الشّي ء، في الطّرق المقصودة الّتي لها أثر في شأن من شؤون الحياة، و بناءاً عليه هي من الأمور التدريجية توجد شيئاً فشيئاً، و لاتقع تحت اليد إلّاباستيفائها، و استيفاؤها مساوق لإعدامها، فما لم تستوف لم تقع تحت اليد، و إذا استوفيت انعدمت؛ فلا فائدة و لا أثر في البحث عن وقوعها تحت اليد تبعاً.

ولكنّ هذا توهّم فاسد؛ لأنّ ذلك هو «الإنتفاع»، و هو قائم بأمرين: العين؛ و من يستوفي منها. و أمّا المنفعة الّتي هي مقابلة للعين، قائمة بالعين فقط، استوفيت أم لا، و تقع عليها المعاوضة في باب الإجارة و أمثالها فهي نفس قابليّة العين لصرفها في مصارف خاصّة؛ فإنّ هذا هو الّذي يمكن تمليكه في باب الإجارة، و يمكن قبضه و إقباضه و لو بتبع العين.

و من الواضح أنّ هذا المعنى من المنفعة من الأمور القارّة الثّابتة خارجاً، استوفيت أم لا. و بناءاً عليه تقع تحت اليد و لو بتبع العين. فالاستيلاء على الشّي ء يمكن أن يكون استيلاءاً على منافعه حقيقتة و بالذّات، على نحو الواسطة في الثّبوت، لامجازاً و بالعرض، على نحو الواسطة في العروض.

و إذ قد فرغنا عن تصوير ذلك ثبوتاً، فالحقّ أنّه لا مانع من شمول أدلّة حجّية اليد لها؛ لما قد عرفت من أنّ عمدتها بناء العقلاء؛ و من الواضح أنّ ملاكه عندهم أعمّ من العين، و منافعها.

فحينئذ تظهر الّثمرة فيما إذا علم من الخارج أنّ استيلاء الشّخص الفلاني على عين

خاصّة ليس استيلاءاً مالكياً؛ فتسقط يده عن الدّلالة على الملك، ولكن تبقى يده على المنافع دليلًا على ملكه لها.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 295

هذا ولكن يمكن أن يقال: بأنّ استقرار اليد على عين له أنحاء مختلفة:

فقد يكون الاستيلاء عليها استيلاءَ ملك؛ و قد يكون استيلاء إجارة؛ و قد يكون استيلاء عارية، أو استيلاء تولية كما في الأوقاف، إلى غير ذلك.

فاليد في جميع ذلك تعلّقت بنفس العين لاغير، ولكنّها ذات أنحاء مختلفة. و اليد أوّلًا و بالذّات لولا قرينة على خلافها دليل على الملكُ فإذا سقطت عن الدّلالة عليه بقرينة خارجية في مورد خاص لامانع من دلالتها على أنّها بنحو آخر من أنحاء الأيدي الأمينة، و أنّها ليست بيد عدوان.

ففي مورد البحث إذا سقطت اليد عن الحجّية على الملك، يبقى ظهورها في دلالتها على أنّها استيلاء إجارة أو نحوها. فما يقتضي ملك المنافع محفوظ.

ثمّ إنّه لو قامت قرينة خاصّة على أنّها ليست كذلك أيضاً يبقى ظهورها في دلالتها على أنّه استيلاء يقتضي ملك الإنتفاع محفوظ.

و الحاصل أنّ المستند في جميع ذلك هو ظهور اليد المتعلّقة بالعين و حجيّتها، لاحجّية اليد المتعلّقة بالمنافع. إذن لاحاجة إلى إثبات إمكان تعلّق اليد بالمنافع، لا استقلالًا و لاتبعاً للعين. و لايبقى للنّزاع هنا ثمرة عمليّة، و اللّه العالم.

المقام السابع: هل تجوز الشّهادة بالملك بمجرّد اليد؟

قد وقع الخلاف بينهم في كتاب الشّهادات في جواز الشّهادة على الملكيّة بمشاهدة اليد و لو لم توجب علماً، بعد الاتّفاق على كفايتها في الدّلالة على الملك. و ذلك من جهة اعتبار العلم اليقيني الحسّي في موضوع الشّهادة، بمقتضى ما ورد في محلّه من عدم جوازها إلّاأن يراه مثل الشّمس، كما روي عن النّبي صلى الله عليه و آله، أو يعرف كما يعرف

الكفّ، كما روي عن الصّادق عليه السلام، إلى غير ذلك. و من المعلوم أنّ اليد بمجرّدها لاتوجب علماً.

هذا ولكن المشهور، جواز ذلك، بل قد يدّعى الإجماع عليه كما حكاه في (الجواهر). و أولى منه ما إذا انضمّ إلى اليد التّصرّفات الحاكية عن الملك؛ كالتّصرّف

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 296

بالبناء و الهدم و الإجارة و غير ذلك، مع عدم وجود منازع؛ فإنّ الحكم بكفايتها، بل كفاية نفس هذه التّصرّفات في جواز الشّهادة بالملك، أشهر.

و أولى منهما ما إذا انضمّ إليهما الاستفاضة أي استفاضة استناد الملك إلى المتصرّف الّذي بيده المال-؛ فقد وقع في جملة من عبارات القوم الاجماع على جواز الشّهادة بالملك مع اجتماع الثلاثة، و أنّه أقصى الممكن في الشّهادة عليه.

و البحث هنا يكون من ناحيتين: من ناحية الأدلّة العامّة الكلّية، و من ناحية الأدلّة الخاصّة الواردة في خصوص محل البحث.

أمّا الأوّل فحاصله أنّه هل يمكن الحكم بقيام الأمارات- و منها اليد و شبهها- مقام العلم المأخوذ في الموضوع بمجرّد دليل اعتبارها أم لا؟

و الإنصاف عدم كفاية نفس أدلّة حجّيتها في ذلك، لامن جهة لزوم اجتماع اللّحاظين و استحالته إذا كانت أدلّة الحجّية ناظرة إلى تنزيل مؤدّى الأمارة منزلة الواقع، و تنزيل نفسها منزلة العلم؛ لما ذكرنا فى محلّه من عدم استحالة ذلك أصلًا.

بل من جهة ظهور أدلتها في تنزيل المؤدّى فقط و انصراف إطلاقاتها اليه، و عدم النظر إلى تنزيل نفسها منزلة العلم.

و ما قد يقال من الفرق بين العلم المأخوذ فى الموضوع على نحو الصفتية، و المأخوذ فيه على وجه الطّريقيّة، بجواز ذلك في الثّاني دون الأوّل- كما قد يستظهر من عبارات شيخنا العلّامة الأنصاري في باب القطع من (الرّسائل)، و إنّ حُكي

عنه في بعض تحقيقاته فيما كتبه في القضاء عدم جواز ذلك من دون تفصيل- فهو ممّا لامحصّل له، و لا دليل على هذه التّفرّقة، بل يرد عليه:

أوّلًا: إنّ أخذ العلم في الموضوع على نحو الصفتيّة مجرد فرض لايظنّ وقوعه في شي ء من الأدلّة الشّرعيّة؛ فإنّ النّظر إلى العلم دائماً يكون من ناحية إراءته للواقع، و لاينظر إليه بما هو صفة من صفات صاحبه.

و بعبارة أخرى: إنّما يؤخذ العلم في الموضوع بملاك أنّه نور لغيره، و كونه نوراً لصاحبه مستند إلى ذلك؛ فكلّما أخذ في الموضوع كان بهذا الملاك. و إن كان فرض

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 297

أخذه بما أنّه صفة خاصّة لصاحبه غير مستحيل، ولكنّه كما عرفت مجرّد فرض.

و ثانياً: إنّ أخذه في الموضوع على نحو الطّريقيّة دليل على أنّ هذه المرتبة من إراءة الواقع يقوم بها الملاك، و لذا لايُكتفى بما دونه من المراتب، من الظنّ و غيره، حتى الظنّ القوي، إلّاأن يبلغ حد الإطمئنان الّذي يسمّى علماً عرفاً.

نعم لوقام دليل على اعتبار شي ء من الظّنون و تنزيله منزلة العلم من جهة الآثار المترتّبة على نفس العلم و الظنّ، كان حاكماً على تلك الأدلّة الدالّة على أخذ العلم في موضوع حكم، و لمّا كانت أدلّة حجّية الظّنون ظاهرة في تنزيل نفس المؤدّى فقط لم يجز الرّكون إليه في ذلك.

و قد يقال: إن كثرة إطلاق العلم و المعرفة على الأمارات الظنيّة سنداً و دلالة؛ دليل على أنّها مُنزّلة منزلة العلم عند الشّارع المقدّس، مثل ماورد في مقبولة عمر بن حنظلة: ... روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا ألخ «1»؛ و قوله تعالى: «فاسئلوا أهل الذّكر إن كنتم لاتعلمون» «2»

يعني: حتى

تعلموا.

مع أنّ مجرّد الرّجوع إلى أهل العلم لايفيد بما هو إلّاالظنّ. إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

و فيه أيضاً: إنّ إطلاق العلم و المعرفة في هذه الآيات أو الرّوايات على الظنّ غير معلوم، و إلحاقه به في بعض الموارد لعلّه من باب كشف الملاك و إلغاء الخصوصيّة عرفاً.

هذا مضافاً إلى أنّه لو سلّم ذلك في غير المقام ففي المقام ممنوع؛ لعدم مقاومة هذا الظّهور الضّعيف لمثل قوله عليه السلام: (حتّى تعرفها كما تعرف كفّك) «3» و قوله صلى الله عليه و آله: (هل ترى الشّمس؟ على مثلها فأشهد أو دع) فتأمّل.

و قد يقال في تصحيح قيام الأمارات فيما نحن فيه مقام العلم: إنَّ الملكّية ليست

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 298

من الموضوعات الواقعيّة بل هي أمر انتزاعي من جواز جميع التّصرفّات كما اختاره شيخنا العلّامة الأنصاري قدس سره-، أو أمر اعتباري عقلائي- كما اختاره بعض آخر-. و على أي حال يحصل العلم الوجداني بها بمجرّد اليد؛ لأنّ الأحكام الّتي تنتزع منها الملكيّة حاصلة بسبب اليد، كما أنّ الاعتبار الشّرعي أو العقلائي حاصل بمجرّدها.

فبذلك يتحقّق واقع الملكيّة؛ فإنّها ليست إلّاهذه الأمور، و قد تحقّقت.

و هذا القول أيضاً ممنوع، و ذلك لأنّ الملكيّة- سواء جعلناها من الأمور الانتزاعيّة أو الاعتباريّة- لها واقع و ظاهر، فإذا كانت أسبابها الواقعيّة موجودة فالملك ملك واقعي، و إلّاكان ظاهريًّا فعليّاً، نظير سائر الأحكام الظّاهريّة. و من الواضح أنّ ظاهر أدلّة الشّهادة اعتبار العلم الوجداني بالواقع، لا كمجرّد الحكم الظّاهري؛ فالعلم الوجداني بالملكيّة الظّاهريّة بحكم اليد أو البيّنة و سائر الأمارات غير كافٍ فيها.

فتحصل من جميع ما ذكرنا عدم إمكان تصحيح جواز الرّكون إلى اليد في الشّهادة على الملك بمقتضى الأدلّة العامّة.

و أمّا

الأدلّة الخاصّة، فعمدتها رواية حفص بن غياث السّابقة عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: (إذا رأيت شيئاً في يدي رجل أيجوز لي أنّ أشهد أنّه له؟ قال نعم، قال الرّجل:

إنّه في يده و لا أشهد أنّه له، فلعلّه لغيره، فقال أبو عبداللّه عليه السلام: أفيحلّ الشراء منه؟

قال: نعم، قال أبوعبداللّه عليه السلام: فلعلّه لغيره؛ من أين جاز لك أن تشتريه و يصير ملكاً لك ثمّ تقول بعد ذلك الملك: هو لي، و تحلف عليه و لايجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك؟ ثمّ قال الصّادق عليه السلام: لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق). «1»

و هذه الرّواية و إن كانت ضعيفة السّند، إلّاأنّ الشّهرة و الإجماعات المنقولة جابرة لها كما عرفت؛ لأنّ الظّاهر أنَّ مستند المشهور في هذا الفتوى هو هذه.

و أمّا المصحّح المروي عن على بن إبراهيم في تفسيره في حديث فدك: (إنّ

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 299

أميرالمؤمنين عليه السلام قال لأبي بكر: تحكم فينا بخلاف حكم اللّه تعالى في المسلمين؟

قال: لا، قال: فإن كان في يد المسلمين شي ء يملكونه ادّعيت أنا فيه، من تسأل البيّنة؟ قال: إيّاك كنت أسأل البيّنة على ما تدّعيه على المسلمين، قال: فإذا كان في يدي شي ء فادّعى فيه المسلمون تسألني البيّنة على ما في يدي و قد ملكته في حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و بعده، و لم تسأل المؤمنين البيّنة على ما ادّعوا عليَّ كما سألتني البيّنة على ما ادّعيت عليهم؟ الحديث) «1» فهو أجنبي عن المقصود؛ لأنّه دليل على حجّيّة اليد، و عدم حاجة صاحبها إلى البيّنة، و كونه منكراً في مقام الدّعوى، و مخالفه مدّعيّاً، و أمّا جواز

الشّهادة على الملك بمجرّدها فليس فيه منه عين و لا أثر.

و كذلك الرّوايات الواردة في حكم تعارض البيّنات و تقديم بيّنة ذي اليد أو تقديم بيّنة الخارج على غيرها، أجنبيّة عمّا نحن بصدده.

إذن العمدة في هذا الفتوى هو ما عرفت من رواية حفص.

هذا و قد قام بعض من خالف المشهور، أو توقف في المسألة بنقد الرّواية و الإيراد عليها عقلًا، و تضعيفها سنداً، و صرف فتاوى المشهور عنها. منهم الشّيخ الأجلّ صاحب الجواهر قدس سره، فقد بالغ فيه حتّى جعل هذا الحكم غير قابل لمجي ء الخبر به عقلًا؛ لرجوعه إلى جواز التّدليس و الكذب في أخذ أموال النّاس!

هذا و نحن بعون اللّه، نبدأ بتفسير الرّواية و كشف مغزاها أوّلًا، ثمّ نرجع إلى ما أورده صاحب الجواهر و غيره، و ما يمكن أن يقال في دفعها انتصاراً لمذهب المشهور ثانياً.

أمّا الأوّل: فحاصله أنّه عليه السلام استدلّ بجواز شراء ما في اليد على جواز الشّهادة بملك ما في اليد لصاحبها، و هذا الاستدلال عند بادىُ النّظر ممّا لايمكن المساعدة عليه؛ لوضوح الفرق بين المسألتين، فإنّ جواز الشّهادة ليس من آثار الملكيّة، بل من آثار نفس العلم بها؛ و من المعلوم أنّ اليد بمجرّدها لاتعطي علماً، فكيف يجوز حمل أحدهما على الآخر؟

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 300

ولكن التّأمّل الصّادق يشهد بأنّه عليه السلام لم يستدلّ بمجرّد جواز الشّراء، بل استدلّ بجوازه مع ترتيب آثار الملك عليه، حتّى يدّعي في مقام الدّعوى يدعى أنّه ملكه و يحلف على الملكيّة في مقابل خصمه؛ و أيّ فرق بين بيّنة المدّعي و حلف المنكر؟

فكما أنّ الشّهادة على الملكيّة من آثار العلم كذلك الحلف عليها يكون من آثاره، فلو لم يجز أحدهما لم يجز

الآخر. و لنعم ما قال عليه السلام في هذا المعنى: (من أين جاز لك أن تشتريه و يصير ملكاً لك ثمّ تقول بعد ذلك: هو لي و تحلف عليه و لايجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك؟).

و لو قيل: إنّه لايجوز للمالك إذا كان الحال هذا الحلف على نفس الملك، بل عليه أن يحلف على السّبب، و هو شراؤه من ذي اليد المحكوم ظاهراً بالملك، فلايجوز الاستدلال بالحلف على جواز الشّهادة.

قلنا: الظّاهر أنَّ هذا هو الّذي أجاب عنه عليه السلام في ذيل كلامه بقوله: (لو لم يجز هذا ما قام للمسلمين سوق). و حاصله- و اللّه و رسوله و أولياؤه أعلم- أنّه لو لم يجز الاعتماد على اليد في إثبات الملكيّة و الحلف عليها لم يقم للمسلمين سوق؛ فإنّ الغالب في الأملاك كونها مسبوقة بيد الغير، فغاية ما يمكن الحلف عليه هو الحلف على وقوع السّبب مثل البيع، و من المعلوم أنّ مجرّد وقوع البيع على ما بيد الغير لايوجب علماً بانتقال المال إليه قطعاً، بعد عدم العلم بكون البائع نفسه مالكاً، و عدم دليل عليه إلا اليد الّتي لاتفيد علماً.

فالشّهادة و الحلف على الملك الواقعي القطعي غير ممكن إلّافي موارد شاذّة، فلو قلنا بحصرهما في خصوص هذه الموارد ما قام للمسلمين سوق، و لم يمكن للمدّعى إثبات حقّه لامن طريق إقامة البيّنة و لا من طريق الحلف- كلّ في مورده-، و مقتضى ذلك اختلال النّظام و عدم قيام السّوق على أساسه.

فالشّهادة و الحلف في الحقيقة لايكونان إلّاعلى الملك الظّاهري القطعي الثّابت بمقتضي اليد، و لايعتبر هنا أزيد من ذلك.

و من الواضح أنّه لايلزم الكذب و التّدليس و إبطال الحقوق من الشّهادة

على

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 301

الملك بمجرّد اليد هنا، بعد قيام هذه القرينة العامّة الظّاهرة عليها، فتدبّر جيّداً.

فهذا الحديث الشّريف اللائح منه آثار الصّدق دليل على المطلوب، مع برهان عقلي متين أورده الإمام عليه السلام في خلاله.

و لعلّه إلى ذلك يشير ما عن كاشف اللّثام من تشبيه الشّهادة بمقتضى الطّرق الشّرعيّة بالشّهادة على الأسباب الشّرعيّة، فإنّها أيضاً محتملة للفساد كما تحتمل الطّرق التّخلّف؛ و إن استغربه في (الجواهر) و أورد عليه بالفرق بينهما. ولكن يندفع الإشكال عنه بما أشرنا إليه في تفسير الحديث، فكأنّه قدّس سرّه في هذا الإستدلال اقتبس من نوره، و اقتفى أثره، فأورده منازل الصّدق و الحق.

و إذ قد عرفت ذلك تعرف أنّ جميع ما أورد على هذا الحكم من الإيرادات كلّها قابلة للذبّ و هي أمور:

منها: ما أفاده المحقّق قدس سره في (الشّرائع) من أنّ اليد لو أوجبت الملك واقعاً، لم تسمع دعوى من يقول: الدّار الّتي في يد هذا لي، كما لاتسمع لو قال: ملك هذا لي.

و فيه: إنّ جواز الشّهادة بالملك بمجرّد اليد لا يلازم كون الملك في موردها ملكاً واقعياً كما عرفت، فقول المدّعي: «الدّار الّتي في يد هذا لي» صحيحٌ مسموع إذا أمكنه إثباته بموازين شرعيّة، ترجّح على اليد، فلا تناقض في دعواه، بخلاف قوله:

«ملك هذا لي» فإنّه تناقض ظاهر.

و منها: إنّ مراد حاكي الإجماع في المسألة هو الإجماع على دلالة اليد على الملكيّة، لا الإجماع على جواز الشّهادة بمجرّدها، و من المعلوم عدم كفايته في المسألة. بل إذا أمكن حمل الشّهرة الجابرة لها عليه أيضاً كان من حسن الظّنّ المأمور به، ضرورة أنّ المعنى المزبور- أي الإكتفاء باليد في الشّهادة على الملك- غير قابل لمجي ء الرّواية به،

لرجوعه إلى جواز التّدليس و الكذب في أخذ أموال النّاس؛ إذ قد ذكر في محلّه أنّ بيّنة الملك تقدّم على بيّنة التّصرفّ أو اليد؛ لأنّ الأولى بمنزلة النّصّ و الثّانية بمنزلة الظّاهر، فلا يعارض النّص. فلو فرض فيما نحن

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 302

فيه أنّ للخصم بيّنة الملك و للآخر بيّنة التّصرّف أو اليد جاز لبيّنة الآخر أن تشهد بالملك، و المفروض أنّه لا علم لها إلّابالتّصرف أو اليد، فتسقط بيّنة الأوّل، و هو تدليس محض و كذب واضح، و تطرق لأخذ أموال النّاس بغير الطّرق الشّرعيّة، و مثله لايقبل فيه خبر الواحد.

هذا محصّل ما يستفاد من كلام (الجواهر) بتوضيح منّا.

و فيه: أنّك قد عرفت أنّ الرّواية لاتتضمّن إلا برهاناً متيناً عقليّاً يلوح منه آثار الصّدق و الحقّ. و ما ذكره من لزوم التّدليس و الكذب في أخذ أموال النّاس ممنوع؛ لأنّ بيّنة الملك أيضاً مستندة إلى اليد في مبادئها السّابقة غالباً، و لو فرض حصول العلم بالملك بحيث لايحتاج إلى الاعتماد على اليد أصلًا في موارد شاذّة فعلى الشّهود حينئذ ذكر السّبب، و أنّ الملك كان ملكاً واقعيّاً، كي لايلزم أخذ أموال النّاس بغير حقّ، كما ذكروا أشباهه في أبواب الشّهادة.

و ليس لبيّنة الملك في بدء النّظر ظهور في الملك الواقعي اليقيني حتّى يلزم التّدليس. و حمل كلام المشهور على مجرّد حجّيّة اليد بعيد جدّاً ليس من حسن الظنّ المأمور به. بل لعلّ حمله عليه خلاف حسن الظنّ؛ لأنّ بيان الحكم المزبور بهذه العبارة أشبه شي ء بالتّدليس.

و الحاصل أنّ الاعتماد على الرّواية قويّ جدّاً موافق للإعتبار، و كلمات الأصحاب، و لايردّ عليه شي ء ممّا ذكروه.

و لعلّه لذلك كلّه ذكر صاحب الجواهر في آخر كلامه

في المسألة أنّه إذا تحقّق بمقتضى الأسباب و الطّرق الشّرعيّة ما تتحقّق به النّسبة العرفيّة- أي كونه مالًا له و ملكاً من أملاكه عرفاً- جازت الشّهادة و اليمين بالملك. «1»

و ما أفاده لامحصّل له اذا لم يرجع إلى ما ذكرنا إقتباساً من الرّواية.

هذا غاية ما يخطر بالبال في هذه المسألة عاجلًا و تمام الكلام موكول إلى محلّه.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 303

و منه تعرف عدم الحاجة إلى الإستفاضة، أي إستفاضة إسناد الملك إليه، و كذا التّصرّف، في صحّة الشّهادة على الملك بعد حصول اليد.

المقام الثامن: هل اليد حجّة لصاحبها أيضاً؟

قد عرفت أنّ يد الغير حجّة و دليل على الملكيّة مطلقاً- إلّافيما نستثنيه-، فهل هي حجّة لصاحب اليد نفسه أيضاً إذا شكّ في ملكيّة بعض ما في يده أو لا؟

الظّاهر هو ذلك، لعدم الفرق فيما هو ملاك حجّيتها بين يد الغير و يد الإنسان نفسه، سواء قلنا بأنّ ملاكها هو اقتضاء طبيعة الإستيلاء و اليد ذلك- كما هو المختار بما مرّ له من البيان-، أم قلنا بأنّ ملاكها هو الغلبة- كما قيل-، أم غير ذلك؛ فإنّ جميعها مشتركة بين يد الغير و يد الإنسان نفسه.

و قد جرت سيرة العقلاء أيضاً عليه؛ فلو شكّ الإنسان في بعض ما في يده، أنّه ملكه أو أمانة للغير أو شبهها فلا شكّ في إجراء حكم الملك عليه عندهم ما لم تقم قرينة على كونه ملكاً للغير.

و لم يظهر ردع من الشّارع المقدّس بالنّسبة إليه، لو لم نقل بشمول بعض الإطلاقات الواردة في إمضاء حكم اليد له أيضاً.

بل يظهر من بعض الرّوايات الخاصّة الواردة في باب اللقطّة أيضاً ذلك، مثل مصحّحة جميل بن صالح: (قال: قلت لأبي عبداللّه عليه السلام: رجل وجد في منزله ديناراً قال: يدخل

منزله غيره؟ قلت: نعم كثير، قال: هذه لقطّة، قلت: فرجل وجد في صندوقه ديناراً؟ قال يدخل أحد يده في صندوقه غيره، أو يضع فيه شيئاً؟ قلت: لا، قال: فهو له) «1».

و الظّاهر أنّ المراد من قوله: (يدخل في منزله غيره) ليس صرف وجود دخول الغير، بل كون داره معدّاً لدخول أفراد مختلفة، و لولا ذلك لم يكن هناك مورد للسؤال، لعلمه عادة بأنّه له.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 304

فحاصل الرّواية أنّ يده على الأموال الّتي في حيطة سلطانه حجّة له عند الشّكّ، إلّا أن يكون هناك ما يسقطها عن الحجّية؛ مثل كون داره معدّاً لورود أشخاص مختلفة، فيجري عليه حكم اللقطّة لسقوط يده عن الحجّية بذلك، فإنّ ملاك حجّيتها أيّاً ما كان مفقود هنا، كما هو ظاهر.

و لايقصر ذيلها عن الصّدر في الظّهور فيما نحن بصدده؛ فإنّ إدخال غيره يده في صندوقه أو وضع شي ء فيه دليل على استيلاء كلّ منهم على الصّندوق، فيكون من قبيل الأيدي المشتركة على شى ء واحد، فلا يكون يد واحد منهم دليلًا على ملكيته بخصوصه. نعم، لو كان الصّندوق بيده فقط فيده حجّة على ملكيّة ما في الصّندوق، و إنّ احتمل أن يكون الدينار أمانة أو عارية لغيره، أو غير ذلك من الاحتمالات. اللّهمّ إلّا أن يكون الصّندوق معدّاً لوضع أموال النّاس و أماناتهم مع أموال نفسه؛ فإنّ حجّيّة يده حينئذ على ما فيه مشكل أيضاً.

و ممّا ذكرنا يظهر أنّه لا تهافت بين صدر الرّواية و ذيلها- كما توهّم-، و أنّهما يعطيان حقيقة واحدة، و معنى واحداً. كمايظهر أنّه ليس فيهما حكمٌ تعبديّ على خلاف الموازين المعمولة بين العقلاء في الأموال الّتي تحت أيديهم.

فهذا الحديث أيضاً ناظر إلى إمضاء ما عند

العقلاء في أمثال المقام.

و قد يستدلّ له أيضاً بقوله عليه السلام في ذيل رواية حفص بن غياث: (لولا ذلك لم يقم للمسلمين سوق)، نظراً إلى تطرّق مثل هذا الاحتمال في الأموال الّتي بأيدي النّاس غالباً.

و فيه: أنّه إن كان المراد غلبة احتمال كون بعضها من أموال غيرهم وقع في أيديهم بعنوان الأمانة أو العارية أو مثلهما مع نسيان أسبابها، فهو ممنوع؛ لأنّ احتماله ليس غالبيّاً في أموال النّاس كما هو ظاهر. و إن كان المراد غلبة نسيان سبب الملك تفصيلًا، و إن كان أصله معلوماً إجمالًا، فهو غير قادح في ء اجراء أحكام الملك عليه.

المقام التاسع: عدم حجّية يد السّارق و شبهه

و ممّا ذكرنا في الأمر الثّامن يظهر لك عدم حجّية أيدي السّراق، و الأيدي المتّهمة الّتي تكون بمنزلتها، على الأموال الّتي بأيديهم، و إن احتمل انتقالها إليهم بسبب صحيح مشروع؛ لأنّ ملاك الحجّيّة مفقود فيها أيضاً، لانقلاب طبع اليد بالنّسبة إليهم. و كذلك الغلبة- لو كانت هي الملاك في حجّتيها- مفقودة هناك.

و لذا لايرى من العقلاء الملتزمين بحفظ حقوق النّاس و عدم الخيانة في أموالهم ترتيب آثار الملكيّة على ما بأيدي هؤلاء، و لايتعاملون معهم معاملة غيرهم، و يلومون من تعامل معهم كذلك. و أمّا ما يرى من بعض من لامبالاة له في أمور الدّين و الدّنيا من عدم التّفرّقة بين هؤلاء و غيرهم، فهو غير قادح فيما نحن بصدده، كما هو واضح.

و يؤيّده ما ورد في بعض أبواب كتاب اللقطة عن حفص بن غياث قال: (سألت أباعبداللّه عليه السلام عن رجل من المسلمين أودعه رجل من اللّصوص دراهم أو متاعاً و اللّص مسلم هل يرد عليه؟ فقال: لايردّه، فإن أمكنه أن يردّه على أصحابه فعل، و إلّا كان في يده

بمنزلة اللقطة يصيبها، فيعرّفها حولًا، فإن أصاب صاحبها ردّها عليه، و إلّا تصدّق بها) الحديث. «1»

و الإستدلال بها متوقّف على كون السّؤال عن الدّراهم أو المتاع المشكوكة الّتي يحتمل كونها له، كما ربّما يشير إليه قوله: (واللصّ مسلم)؛ فإنّه لو كان المال من أموال النّاس قطعاً لم يكن فرق بين اللصّ المسلم و غيره، فافهم. حينئذٍ إجراء حكم اللقطّة عليه دليلٌ على سقوط اليد عن الحجّية و كون المال بمنزلة الأموال الّتي توجد في الطّريق.

ولكن قد ينافيه قوله: (يرده على أصحابه)، وقوله: (فإن أصاب صاحبها) الظّاهر في معلوميّة كون المال لغيره قطعاً، فيخرج عن محل البحث، فتأمّل.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 306

و يلحق بها- من هذه الجهة- أيدي الأمناء الّذين يرجع إليهم في حفظ الودائع و الأمانات، مثل القاضي و غيره، إذا غلب على أموالهم ذلك و انقلبت طبيعة أيديهم؛ فإنّ ترتيب آثار الملك على ما بأيديهم أيضاً مشكلٌ ما لم ينضمّ إليه قولهم، فإن انضمّ إليه ذلك كان حجّة، لا من باب حجّية اليد، بل من باب حجّية قول ذي اليد و تصديق قول الأمين- كما سيأتي في القواعد الآتية إن شاء اللّه-.

و هذا بخلاف أيدي السّراق، فإنّ ضمّ قولهم و شهادتهم أيضاً غير كاف في إثبات الملك لهم كما هو ظاهر.

و الحاصل أنّ ملاك حجّية اليد و بناء العقلاء مفقود في جميع هذه الموارد.

و يلحق، بها أيضاً يد الدّلال و من أشبهه، و كذلك أيدي مراجع الحقوق الشّرعيّة من الزّكوات و الأخماس و المظالم؛ و كذا الوكلاء، و متولّي الأوقاف إذا كان الغالب في أيديهم بحسب العادة من غير أموالهم، بل إذا كان مقداراً كثيراً و إن لم يكن غالبيّاً؛ فإنّ ملاك حجّية

اليد- كبناء العقلاء- مفقود في جميع ذلك، إلّاأن ينضمّ إليها قولهم و شهادتهم، فتأمّل.

المقام العاشر: حجّية اليد في الدّعاوى و ما يستثنى منها

لا إشكال في حجّية اليد و لو علم كونها مسبوقة بغيرها، إذا احتمل انتقال المال بوجه صحيح شرعي، بل الغالب في الأيدي ذلك. و لا فرق فيه بين أنّ يعلم ذلك من الخارج أو يقرّ صاحب اليد نفسه به، بأنّ يقول: إنّ هذا المتاع كان لزيد فاشتريته منه بكذا و كذا.

هذا كلّه في غير مقام الدّعوى. و كذلك في مقام الدّعوى، فالقول قول صاحب اليد؛ فلو أقرّ بكون المتاع سابقاً لثالث لايكون طرفاً للدّعوى، لم يضرّ بكونه صاحب اليد و كونه منكراً لايحتاج إلى بيّنة، بل المحتاج إلى البيّنة خصمه، لكونه مدّعياً.

و أمّا إن أقرّ صاحب اليد الفعلي لخصمه في مقام الدّعوى بذلك، بأنّ قال: إنّ هذا المال كان لك سابقاً، فالمحكي عن المشهور انقلاب الدّعوى، و صيرورة صاحب اليد

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 307

الفعلي مدّعيّاً، لأنّه يدّعي انتقاله إليه بسبب من الأسباب الشّرعيّة، فعليه إثبات ذلك.

فتسقط اليد هنا عن الحجّية بسبب هذا الإقرار.

و ينبغي توضيح كلام المشهور و تفسيره بما يندفع عنه ما استشكل عليه أو يمكن أنّ يستشكل عليه به، فنقول:

إنّ دعوى صاحب اليد الفعلي كونه مالكاً بعد اعترافه بكون المال لخصمه سابقاً لامعنى له إلّااشتراؤه منه، أو انتقاله إليه بناقل آخر شرعي، فقوله: «هذا ملكي فعلًا و قد كان ملك خصمي قبل ذلك» في قوّة قوله: «كان هذا ملكه فاشتريته منه أو انتقل إليَّ بناقل آخر».

و ليس هذا المعنى من اللّوازم الخارجة عن مصبّ الدّعوى حتّى يقال بأنّه لاعبرة باللّوازم إذا كانت خارجة عنه، بل هو في الواقع مآل كلامه، و معناه العرفي المقصود منه، من قبيل دلالة الإقتضاء.

و الحاصل أنّه لو أنفك هذا اللّازم عن ملزومه لم يكن للكلام مفهوم صحيح.

فالاعتراف بسبق يد المدّعي يوجب انقلاب نفس الدّعوى، و يجعل صاحب اليد الفعلي مدّعياً و مقابله منكراً؛ لا أنّه يوجب طرح دعوى أخرى بين المتخاصمين غير ما هما فيه، كما توهّم.

فصاحب اليد هنا يكون مدّعياً سواء قلنا بأنّ المقياس في تشخيص المدّعي عن المنكر في أبواب الدّعاوى هو العرف- كما اختاره غير واحد من الأكابر-، أم قلنا بأنّ المدّعي هو الّذي يدّعي أمراً على خلاف الأصل- كما أختاره آخرون منهم-.

أمّا الأوّل فلصدق المدّعي عرفاً على صاحب اليد الفعلي، الّذي يدّعي انتقاله إليه بناقل شرعى، و لو بلازم كلامه الّذي لامفهوم له بدونه؛ و صدق المنكر على خصمه، الّذي يدّعي بقاء الملك على ما كان عليه، و عدم بيعه، فتدبّر.

و أمّا الثّاني فلأنَّ مقتضى الاستصحاب بقاؤه على ملك الخصم و عدم انتقاله إلى صاحب اليد فعلًا. فصاحب اليد مدٍّع؛ لمخالفة قوله للأصل، و مقابله منكر.

لايقال: كيف يكون ذلك و هو معتمد على اليد، و قد مرّ أنّها حاكمة على

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 308

الإستصحابات الّتي في مواردها؟ فقوله حينئذ موافق للأصل، بمعناه الأعمّ من الأصول العمليّة، و الظّواهر المعتبرة، و القواعد الثّابتة شرعاً، كما هو المراد منه في المقام قطعاً.

لأنّا نقول: لعلّ الوجه فيه أنّ دعوى الإنتقال إليه إنّما تتعلّق بزمان لم يكن له عليه يد، لا في الوقت الحاضر. فالمدّعى انتقاله إليه من يد خصمه في زمانِ لم يكن تحت يده؛ فالمرجع بالنّسبة إلى ذاك الوقت ليس الإستصحاب، فتأمّل.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه كلام المشهور.

و قد يتصوّر أنَّ سقوط اليد عن الحجّيّة هنا من جهة قصور أدلّتها و عدم

شمول إطلاقاتها للمقام.

و فيه: أنّه لا وجه له يعتّد به.

و ممّا ذكرنا تعرف وجه النظر فيما أفاده المحقق الاصفهاني قدس سره في رسالته المعمولة في قاعدة اليد حيث قال: إنّ لازم دعوى الملكيّة الفعليّة بمقتضى يده، و إقراره بأنّ العين كانت للمدّعى سابقاً، هو الإخبار بالإنتقال منه إليه بالإلتزام. إلّاأنّه ليس كلّ دلالة إلتزاميّة توجب طرح دعوى أخرى على اللّازم، بل لابدّ من وقوعه في مصّب الدّعوى؛ فإنّ الدّعوى من الدّعاء و طلب الشّي ء، و ما لم يطلب لا دعوى منه- إلى أن قال-:

ففيما نحن فيه يدّعي ذو اليد أنّه ملكه، ساكتاً عن دعوى الإنتقال منه إليه و سببه، فهو مدّع للملكيّة، الموافقة ليده، فيكون منكراً؛ و لايدعي الانتقال حتّى يكون مدّعياً. و كون لازم مجموع الكلامين هو الانتقال غير كون لازمهما دعوى الإنتقال.

و يردّ عليه:

أوّلًا: أنّه ليس البحث في تشكيل دعوى أخرى غير الدّعوى الأصلية، بل البحث في انقلابها إلى دعوى أخرى بعد هذا الإقرار.

و ثانياً: قد عرفت أنّ هذا اللازم ليس من اللّوازم المغفول عنها، من قبيل دلالة الإشارة، بل هو من قبيل دلالة الإقتضاء الّتي يتوقّف صدق الكلام عليها؛ فالمفهوم

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 309

عرفاً من هذا الكلام ليس إلّادعوى الإنتقال منه إليه.

و قال في كلام آخر له في المقام ما حاصله: «المعروف فى اليد أنّها من الأمارات، و الأمارة على المسبّب أمارة على سببه، فكما أنّ اليد حجّة على الملكيّة لذي اليد حجّة على سببه النّاقل، فكما أنّه يكون منكراً في دعوى الملكيّة لموافقة دعواه للحجّة، كذلك في دعوى الانتقال إليه بسبب شرعي، لموافقته أيضاً للحجّة، و هي اليد؛ لأنّ المفروض أنّ الحجّة على المسبّب حجّة على السّبب».

و فيه: ما عرفت

سابقاً من أنّ حجّيّة مثبتات الأمارات على إطلاقها ممنوعة جدّاً، فراجع و تدبّر.

و قد ذكر المحقّق النّائيني قدّس سرّه في بعض أبحاثه في المقام- على ما في تقريرات بعض أعاظم تلامذته- ما نصّه:

«تسقط أمارية اليد على الملكيّة بالاقرار الملازم لدعوى الانتقال، فيكون قول مدّعي بقاء الملكيّة السّابقة بعد سقوط اليد على طبق الأصل».

و فيه: أنّه لم يعلم وجه صحيح لسقوط أمارية اليد بسبب الإقرار بملكيّته السّابقة، و إنّما تسقط أماريتها لو أقرّ بملكيّته للخصم فعلًا. و الحقّ في توجيه مخالفة قول ذي اليد هنا للأصل ما عرفت أنفاً.

و بعد ذلك كلّه ففي النّفس من كلام المشهور هنا شي ء و تمام الكلام في محلّه.

بقي هنا شي ء: و هو أنّ ما ذكره المشهور من انقلاب الدّعوى بالإقرار إنّما هو في فرض الإقرار لخصمه، و أمّا لو أقرّ الثّالث فلا أثر له في انقلاب الدّعوى كما عرفت. و إن كان الخصم ممّن ينتفع بهذا الإقرار، بأن كان وصيّاً أو وارثاً للثّالث أو شبههما.

و منه يعلم أنّ هذه الفتوى لاتنافي ما في رواية (الاحتجاج) من اعتراض أميرالمؤمنين عليه السلام على أبي بكر عند غصب فدك لمّا طالب الصديقة- سلام اللّه عليها- البيّنة لإثبات دعواها بقوله:

«تحكم فينا بخلاف حكم اللّه فى المسلمين؟ قال: لا، قال عليه السلام فإن كان في يد المسلمين شي ء يملكونه ادّعيت أنا فيه من تسأل البيّنة؟ قال: إيّاك كنت أسأل

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 310

البيّنة على ماتدّعيه على المسلمين. قال عليه السلام: فإذا كان في يدي شي ء فادّعى فيه المسلمون تسألني البيّنة على ما في يدي، و قد ملكته في حياة رسول اللّه صلى الله عليه و آله و بعده، و لم تسأل المؤمنين على ما ادعوا

علِىَّ كما سألتني البيّنة على ما ادّعيت عليهم؟! الحديث.

فإنّ الإقرار هنا إنّما هو لثالث و هو رسول اللّه صلى الله عليه و آله.

إلى هنا نختم الكلام في قاعدة اليد، و ما يلحق بها من الأحكام. و قد بقي هنا أمور أُخر، من قبيل حجّية قول ذى اليد، و حكم يد المسلم على الذبيحة، أو اليد على الطّفل، و أشباه ذلك، تعرّض بعضهم لها هنا، ولكنّا أعرضنا عنها لأنّا عقدنا لبعضها قاعدة خاصّة، مثل حجّية قول ذى اليد، و بعضها خارج عن القواعد الفقهيّة أصلًا. و تشترك جميعها في خروجها عن قاعدة اليد المعروفة الدّالّة على الملكيّة، فإلحاقها بها لاملزم له.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 311

6 قاعدة القرعة

اشارة

و هي من القواعد المعمول بها في كثير من أبواب الفقه عند اشتباه حال الموضوعات و عدم معرفتها على ما هي عليه. و هذه القاعدة- مثل كثير من القواعد الفقهيّة الأُخر- برغم شدّة ابتلاء الفقيه بها لم تنقّح في كلماتهم حق التنقيح، و لم يبحث عنها بحثاً وافياً يليق بها، و لذا يرى في العمل بها في مجاريها تشويشاً و اضطراباً ظاهراً؛ فيعمل بها في موارد، و تترك في موارد أخرى مشابهة لها ظاهراً من دون أن يبيّنوا لهذه التّفرقة دليلًا يعتمد عليه.

و من هذه النّاحية استشكل كثير منهم على عمومات هذه القاعدة، حتّى قالوا بعدم جواز العمل بها إلّافي موارد عمل الأصحاب بها!

فهل كانت عند أصحابنا الأقدمين قرائن أُخر تكشف لهم النّقاب عن وجه هذه القاعدة و حدودها، لم يتعرّضوا لذكرها في كتبهم على كثرتها و تنوّعها و احتوائها على دقائق الفقه و عمدة مداركه؟! و هذا أمر بعيد جداً عند التّأمّل الصّادق.

أو أنّهم فهموا من نفس هذه المدارك غير

ما نفهم منها؟ فما هو ذاك المعنى الّذي فهموا عنها؟

و لعّل عمّدة الاشكال نشأت فيما ذكرنا من عدم أداء القاعدة حقها من البحث و التنقيب.

فنحن- بعون اللّه و هدايته- ناخذ في البحث عن مهمّات هذه القاعدة الشريفة بما يسع المجال، لعلّنا نوفيها شيئاً من واجب حقّها و نوضح معضلاتها إن شاء اللّه و

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 314

نجعل البحث في مقامات:

الأوّل: في بيان مدارك مشروعيّة القرعة على إجمالها.

الثّاني: في مفادها و ما يستحصل من ملاحظة مجموعها على التّفصيل.

الثّالث: في شرائط جريانها من حيث المورد و المجرى.

الرّابع: في كيفيّة إجراء القرعة عند الحاجة إليها.

الخامس: في أنّ إجرائها في مواردها أمر جائز أو واجب؟ و على تقدير الجواز فهل يجب العمل بها بعد إجرائها أو يجوز ذلك؟

المقام الأوّل: في مدارك مشروعيّة القرعة
اشارة

و يدلّ عليها أمور:

الأول: آيات من الكتاب العزيز:

منها: قوله تعالى: «و ما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم و ما كنت لديهم إذ يختصمون» «1»

و هي واردة فى قصّة ولادة مريم و مارامته أمّها، إمرأة عمران، حيث إنّها بعدما وضعتها أنثى لفّتها في خرقة و أتت بها إلى الكنيسة ليتكلّفها عبّاد بني إسرائيل، و قد مات أبوها من قبل، فقالت: دونكم النّذيرة، فتنافس فيها الأحبار؛ لأنّها كانت بنت إمامهم عمران، فوقع التّشاح بينهم فيمن يكفل مريم حتّى قد بلغ حد الخصوصة، كما قال تعالى: «إذ يختصمون».

فما وجدوا طريقاً لرفع التّنازع إلّاالقرعة، فتقارعوا بينهم، فألقوا أقلامهم الّتي كانوا يكتبون بها التّوراة في الماء؛ و قيل قداحهم للإقتراح، جعلوا عليها علامات يعرفون بها من يكفل مريم. فارتزَّ قلم زكريّا ثم ارتفع فوق الماء، و رسبت أقلامهم، و قيل: ثبت قلم زكريّا و قام طرفه فوق الماء كأنّه في الطّين، و جرت أقلامهم مع

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 315

جريان الماء. فوقعت القرعة على زكريّا،- و قد كانوا تسعة و عشرين رجلًا- فكفّلها زكريّا، و كان خير كفيل لها. و قد كان بينهما قرابة؛ لأنّ خالة أم مريم كانت عنده.

هذا ولكن في الآية نفسها إبهام؛ فإنَّ كون جملة «إذ يلقون أقلامهم» بمعنى الاقتراع غير واضح.

إلّا أنّ بعض القرائن الدّاخليّة و الخارجيّة رافعة للإبهام عنها، منها قوله تعالى:

«أيُّهم يَكْفُل مَرْيَمَ» و قوله «إذ يَخْتَصِمُونَ»، و غير واحد من الرّوايات الواردة في تفسير الآية الّتي تأتي الإشارة إليها، و ذهاب المفسّرين إليه.

ففي الآية دلالة على أنّ القرعة كانت مشروعة لرفع النّزاع و الخصومة في الأمم السّالفة. و يمكن إثباتها في هذه الأمّة أيضاً بضميمة إستصحاب الشّرائع السّابقة.

مضافاً إلى أنّ نقلها في القرآن

من دون إنكار دليل على ثبوتها في هذه الشريعة أيضاً، و إلّالوجب التّنبيه على بطلانها فيها.

هذا ولكن في كون المورد من قبيل التّشاح في الحقوق إبهاماً، لعدم ثبوت حق لعباد بني إسرائيل على مريم. الّلهمّ إلّاأن يقال: إنَّ نذرها للَّه و لبيته يوجب ثبوت حقّ لهم عليها في حضانتها، و لمّا لم يكن هناك طريق آخر إلى تعيين من هو أحقّ بحضانتها انحصر الطّريق في القرعة، فتأمّل.

و لايخفى أنّ مورد القرعة في الآية ليس له واقع محفوظ، يراد استكشافه بها، فليكن هذا على ذكر منك.

و منها: قوله تعالى: «و إنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِيْنَ* إذْ أَبَقَ إلى الفُلْكِ المَشْحُوْنِ* فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المُدْحَضِينَ» «1»

و المساهمة هو الإقتراع- قال الرّاغب في مفرداته: «فساهم فكان من المدحضين»، إستهموا اقترعوا. و قال أيضاً: السهم ما يُرمى به، و ما يضرب به من القداح و نحوه).

و قال في القاموس: السهم الحظّ ... و القدح يقارع به.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 316

و الظّاهر أنّ كون المساهمة و الإستهام بمعنى المقارعة و الإقتراع من جهة كون الغالب في مقارعتهم أن تكون بسهام مخصوصة، يكتب عليها ما يعيّن المقصود عند خروجها، ثمّ أطلق على المقارعة و لو بغير السّهم: «المساهمة».

و أدحضه أي: أسقطه و أزاله، فقوله: كان من المدحضين، إمّا بمعنى: من المقروعين؛ بسبب وقوع السّهم عليه، أو بمعنى: الملقّين في البحر. وقال بكلّ قائل، ولكن الظّاهر هو الأوّل.

فمن هنا يستفاد من الآية أنّ يونس لمّا هرب من قومه و ركب الفلك المشحون- أي المملوءة من النّاس و الأثقال- قارع، فوقعت القرعة عليه.

و هذا المعنى المستفاد من الآية على إجماله يدلّ على مشروعيّة القرعة في الأمم السّالفة إجمالًا، و يمكن استفادة مشروعيّتها في شرعنا

أيضاً بالبيان الّذي ذكرناه آنفاً.

و تفصيل الحال في مورد الآية على ما يستفاد من بعض الأخبار و التّواريخ و كلمات المفسّرين أنّ يونس عليه السلام لمّا غضب على قومه دعا عليهم بالعذاب فاستجيب له، فوعده اللّه أن يعذّبهم و عيّن له وقتاً. ففرّ يونس منهم مخافة أنّ يأخذه العذاب بغتة.

و ظنّ أنّ اللّه لايقدر عليه- أي لايضيق عليه حاله-، ولكن اللّه أراد التضييف عليه، لتركه ما كان أولى في حقّه، و هو عدم الدّعاء عليهم، و الصّبر أكثر ممّا صبر.

و في بعض الرّوايات عن الصّادق عليه السلام أنّه كان في قومه رجلان: عالم و عابد فكان العابد يشير على يونس بالدّعاء عليهم، و كان العالم ينهاه و يقول: لاتدع عليهم، فإنّ اللّه يستجيب لك، و لايحبّ هلاك عباده فقبل قول العابد و لم يقبل من العالم» «1» فلعلّ التّضييق عليه كان من هذه النّاحية.

ثمّ إنّه لمّا أتى ساحل البحر فإذا بسفينة شحمت، و أرادوا أن يدفعوها؛ فسألهم يونس أن يحملوه فحملوه، فلمّا توسّط البحر بعث اللّه حوتاً عظيماً فحبس عليهم

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 317

السّفينة من قدامها- و قيل: إنّ السّفينة احتبست بنفسها-، فقال الملّاحون: (إنّ ها هنا عبداً آبقاً، و إنّ من عادة السّفينة إذا كان فيها آبق لاتجري) و قيل: إنّهم أشرفوا على الغرق فرأوا أنّهم إن طرحوا واحداً منهم في البحر لم يغرق الباقون.

و على كلّ حال اقترعوا فوقعت القرعة على يونس ثلاث مرّات، فعلموا أنّه المطلوب فألقوه في البحر. و في رواية أنّ أهل السّفينة لمّا رأوا الحوت قد فتح فاه قدّام السّفينة قالوا: فينا عاصٍ، فتساهموا فخرج سهم يونس، فألقوه فى البحر فالتقمه الحوت.»

ثمّ لايخفى أنّ الفاعل في قوله تعالى

«ساهم» هو يونس، فهو دليل على تسليمه للقرعة، و اشتراكه في فعلها، و عدم الإنكار عليهم. فلو لم تكن في شرعه جائزة لما أقدم هو عليها.

و في تفسير العيّاشي عن الّثمالي عن أبي جعفر عليه السلام (إنّ يونس لمّا آذاه قومه دعا اللّه عليهم- إلى أن قال:- فساهمهم فوقعت السّهام عليه، فجرت السنّة بأنّ السّهام إذا كانت ثلاث مرّات أنّها لاتخطى ء. الحديث). «2»

و هذا دليل واضح على إمضاء هذا الحكم في شرعنا أيضاً ولكن هنا أمران:

أحدهما: إنّ القرعة في هذه الواقعة لو كانت لاستكشاف آبقٍ أو عاصٍ أو مطلوبٍ بين أهل السّفينة- كما في غير واحد من الرّوايات و التّفاسير الواردة من طرق أهل البيت عليه السلام-، فهو من الأمور المشكلة الّتي لها واقع ثابت مجهول؛ أمّا لو كانت العلّة فيها عدم وجود مرجّح في إلقاء بعضهم لتخفيف السّفينة بعد أنّ ثقلت عليهم و أشرفوا على الغرق، فهو من الأمور المشكلة الّتي لا واقع لها مجهول. ولكن الأظهر بحسب الرّوايات و التّفاسير هو الأوّل.

ثانيهما: إنّ ظاهر الآية جواز الإقدام على إهلاك أحد بالقرعة عند الضّرورة أو

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 318

شبهها، فهل هذا أمر جائز يمكن الحكم بمقتضاه حتّى في هذه الشّريعة، لو إجتمعت فيه جميع الشّرائط الّتي اجتمعت في أمر يونس عليه السلام أو لا؟ و المسألة لاتخلو عن إشكال، و تحتاج بعدُ إلى تأمّل.

الثّاني: السنّة
اشارة

و هي العمدة من بين أدلّتها، و هي روايات كثيرة واردة في أبواب مختلفة، بين عام يشمل جميع موارد القرعة، و خاص ورد في قضايا خاصّة. و أحسن ما رأيت في هذا الباب ما أفاده المحقّق النّراقي في «عوائده»، فقد جمع من الرّوايات العامّة و الخاصّة ما يربو على أربعين

حديثاً، و إن لم يستقص أحاديث القرعة مع ذلك.

و قد عقد صاحب الوسائل قدس سره لهذه القاعدة باباً في كتاب القضاء، و أورد فيه روايات كثيرة، بينها و بين ما استقصاه المحقّق النّراقي قدس سره عمومٌ من وجه.

و على أيّ حال نذكر هنا «جميع» ما ظفرنا بها من الرّوايات العامّة، و نبدأ من الرّوايات الخاصّة الواردة في القضايا الجزئيّة المبثوتة في الأبواب المختلفة، ممّا له دخل في توضيح حال القاعدة و رفع ما فيها من الإبهام و الإجمال، و إنّما لم نستقص هذا القسم من الرّوايات لعدم فائدة مهمّة في ذكر جميعها.

الروايات العامّة:

1- ما رواه الصّدوق بإسناده عن عاصم بن حميد، عن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام، قال (بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله) عليّاً عليه السلام إلى اليمن فقال له حين قدم: حدّثني بأعجب ما ورد عليك، فقال: يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله، أتاني قوم قد تبايعوا جارية فوطأها جميعهم في طهر واحد، فولدت غلاماً، فاحتجوا فيهُ كلّهم يدّعيه، فأسهمت بينهم، فجعلته للّذي خرج سهمه، و ضمنّته نصيبتهم فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: ليس من قوم تقارعوا ثمّ فوّضوا أمرهم إلى اللّه إلّاخرج سهم المحقّ) «1».

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 319

و رواه في (التّهذيب) و (الإستبصار) عن عاصم بن حميد، عن بعض أصحابنا عن أبي جعفر عليه السلام إلّاأنّه قال (ليس من قوم تنازعوا ثمّ فوّضوا ...)

و لعلّه الأصحّ؛ فإنّ التفويض إلى اللّه، إنّما يكون بعد التّنازع و قبل القرعة كما في هذه النّسخة، لا بعد القرعة كما في نسخة (الفقيه).

و على كلّ حال هذه الرّواية عامّة في جميع موارد التّنازع و الحكومة الشّرعيّة، و أمّا بالنّسبة إلى

غيرها فلا دلالة لها. فليكن هذا على ذكر منك.

و موردها من الأمور المشكلة الّتي لها واقع مجهول يراد كشفه، وليكن هذا أيضاً على ذكر منك.

كما أنّ ظاهر الفقرة الواردة في ذيلها عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله كون القرعة- مع شرائطها و مع التّفويض إلى اللّه- كاشفة عن ذاك الواقع المجهول. و على هذا تكون منسلكة في سلك الأمارات لو كان خروج سهم المحقّ غالبيّاً، و لو كان دائميّاً كانت القرعة أعلى من الأمارات المعمولة

ثمّ أنّه هل يمكن المساعدة على هذا الظّهور الإبتدائي أم لابدّ من توجيهه و تفسيره بغير هذا المعنى؟ و سنتلو إن شاء اللّه عليك منه ذكراً.

و هذه الرّواية المصحّحة و المرويّة في الكتب الأربعة من أحسن ما ورد في هذا الباب.

2- ما رواه الصّدوق في (الفقيه) و الشّيخ في (التّهذيب) عن محمد بن حكيم، قال: (سألت أبالحسن عليه السلام عن شي ء، فقال لي: كلّ مجهول ففيه القرعة، قلت له: إنّ القرعة تخطى ء و تصيب، قال: كل ما حكم اللّه به فليس بمخطى ء) «1»

و مضمون هذه أعمّ من سابقتها، لعدم تخصيص الحكم هنا بالمنازعة بل عنوانه «كل مجهول».

و أمّا إيهام كلمة «شي ء»، و احتمال كون السّؤال عن شي ء خاصّ متنازع فيه

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 320

فالحقّ أنّه لايضرّ بإطلاق قوله: (كلّ مجهول ففيه القرعة)؛ لأنّ ورود السّؤال في مورد خاص لايضرّ بعموم الحكم إذا كان اللّفظ عاماً، فتأمّل.

و أمّا قوله: «كل ما حكم اللّه به فليس بمخطى ء) فقد ذكر فيه احتمالان:

أحدهما: أن يكون المراد خروج سهم المحقّ واقعاً- كما هو ظاهر الرّواية السّابقة-، فهو ردع لقول السّائل أنّ القرعة تخطى ء و تصيب، و إثبات لعدم خطئها.

و هذا المعنى بعيد عن ظاهر

الرّواية.

ثانيهما:- و هو الأنسب بظاهرها- أن يكون المراد عدم الخطا في الحكم بحجّيّة القرعة؛ فإنّه لو لم يكن هناك مصلحة فى العمل بالقرعة و الحكم بحجّيتها، لما حكم به اللّه فالمعنى حينئذ أنّ خطأ القرعة عن الواقع أحياناً لايمنع من كون نفس الحكم بحجّيتها صواباً، و مشتملًا على المصلحة، فحكم اللّه ليس بخطأ.

و الّذي يؤيّد هذا المعنى بل يدلّ عليه أنّ قوله: (كلّما حكم اللّه به) بمعنى نفس الحكم، فعدم الخطأ فيه، لا في متعلّقه الّذي هو القرعة. هذا مضافاً إلى أنّ العلم بوقوع الخطأ في كثير من الأمارات الشّرعيّة مع أنّها أيضاً ممّا حكم اللّه بها يمنع عن حمل الحديث على هذا المعنى، لو فرض ظهوره فيه بدء الأمر.

3- ما رواه الشّيخ عن جميل قال: (قال الطيّار لزرارة: ما تقول في المساهمة، أليس حقّاً؟ فقال زرارة بلى، هي حق، فقال الطيّار: أليس قد ورد أنّه يخرج سهم المحقّ؟ قال: بلى. قال: فتعال، حتّى أدّعي أنا و أنت شيئاً، ثمّ نساهم عليه، و ننظر هكذا هو؟ فقال له زرارة: إنّما جاء الحديث بأنّه ليس من قوم فوّضوا أمرهم إلى اللّه، ثمّ اقترعوا إلّاخرج سهم المحقّ، فأمّا على التّجارب فلم يوضع على التّجارب، فقال الطيّار: أرأيت إن كانا جيمعاً مدّعيين، ادعيا ما ليس لهما، من أين يخرج سهم أحدهما؟ فقال زرارة: إذا كان كذلك جعل معه سهم مبيح، فإن كانا ادّعياً ما ليس لهما خرج سهم المبيح. «1»

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 321

و هذا الحديث الشّريف يدلّنا على أمور هامة:

منها: كون حجّية القرعة أمراً واضحاً لايمكن إنكاره، و قد كان مشهوراً بين بطانة أهل البيت عليه السلام حتّى وقعت المباحثة فيه بين زرارة و الطيّار. و قد

كان زرارة من كبراء أصحاب الصّادق عليه السلام، و من أفقه فقهاء زمانه، و الطيّار- و هو محمد بن عبداللّه، أو ابنه حمزة بن محمد، فإنّ كلًا كلًاّ يلقّب بهذا اللّقب و إن كان الأشهر فيه هو الأب من أجلّاء صحابته، و كان متكلّماً فاضلًا يباهي به الصّادق عليه السلام كما في بعض الرّوايات.

و كأنَّ نظره في هذا البحث الاستفادة من غزارة علم صاحبه.

و لقد أجاد في ما أجاب عنه زرارة في الفقرتين، فقد ذكر في الأولى أنّ إطلاق ماورد في خروج سهم المحقّ ناظر إلى صورة إرادة كشف الواقع، فهو منصرف عمّا إذا كان على التّجارب.

و في الثّانية أنّه لو احتمل كذب المتداعيين جميعاً لم يكف إلقاء سهمين، بل لابدّ من ثلاثة أسهم: سهم لهذا، و سهم لذاك، و سهم مبيح ليس لهما. فلا يكون هناك ما ينافي ما ورد فى الحديث من خروج سهم المحقّ.

و منها: كون القرعة كاشفاً عن الواقع كشفاً دائميّاً لايقع التخلّف فيه.

ولكن هذا ليس من كلام النّبي صلى الله عليه و آله أو الإمام عليه السلام بل هو ما استنبطه زرارة عن الحديث النّبوي المشهور الوارد في هذا الباب: (ما من قوم فوّضوا أمرهم ...)، ثمّ بنى عليه ما بنى.

ولكن قد مرّ آنفاً إمكان حمله على الإصابة الغالبيّة، و سيأتي مزيد بحثٍ فيه إن شاء اللّه.

و منها: أنّه لابدّ من إلقاء سهم مبيح إذا احتمل كذب المتداعيين.

4- ما رواه البرقي عن منصور بن حازم، قال: (سأل بعض أصحابنا أباعبداللّه عليه السلام عن مسألة فقال هذه تخرج في القرعة، ثمّ قال: فأيّ قضية أعدل من القرعة، إذا فوّضوا

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 322

أمرهم إلى اللّه عزّ و جلّ، أليس اللّه يقول:

«فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المُدْحَضِينَ». «1»

و يستشم من قوله عليه السلام: (أي قضية أعدل من القرعة) ثمّ استشهاده بقضيّة يونس، أنّها عامّة في الأمور المشكلة، و لاتختصّ بالمورد الّذي سأله الرّواي. ولكن في شموله لغير موارد التّنازع إشكال ظاهر.

5- ما أرسله الشّيخ قدّس سرّه في (النّهاية) قال: رُوي عن أبي الحسن موسى بن جعفر، و عن غيره من آبائه و أبنائه عليهم السلام، من قولهم (كلّ مجهول ففيه القرعة، فقلت له: إنّ القرعة تخطى ء و تصيب؛ فقال: كل ما حكم اللّه به فليس بمخطى ء). «1»

و هذا و إن كان متّحداً مع ما مرّ من رواية محمد بن حكيم عن أبي الحسن عليه السلام، ولكنّ قول الشّيخ (ره) دليل على أنّ هذا المضمون بعينه مروي عن غير أبي الحسن من أئمّة أهل البيت، من آبائه و أبنائه عليهم السلام.

و الكلام فيه من حيث المعنى هو الكلام في حديث محمد بن حكيم.

6- ما رواه الشّيخ في (التّهذيب) عن «سيابة» و «ابراهيم بن عمر»، جميعاً عن أبي عبداللّه عليه السلام، (في رجل قال: أوّل مملوك أملكه فهو حرّ، فورث ثلاثة، قال: يقرع بينهم، فمن أصابه القرعة اعتقّ، قال: و القرعة سنّة) «2».

و هذا الحديث و إن كان وارداً في مورد خاص ولكن قوله: (القرعة سنّة) يدلّ إجمالًا على عموم الحكم، و عدم اختصاصه بالمقام. ولكن فيه أبهام ظاهر، من حيث عنوان الحكم؛ لأنّه لم يبين فيه أنّ القرعة سنّة في أي موضوع.

و في هذا الحديث دلالة واضحة على عدم اختصاص القرعة بماله واقع مجهول، فإنّ موردها ليس من هذا القبيل قطعاً.

7- مارواه العياشي في تفسيره عن الثمالي، عن أبي جعفر عليه السلام- في حديث يونس- قال: (فساهمهم، فوقعت السّهام عليه، فجرت

السنّة أنّ السّهام إذا كانت ثلاث مرّات أنّها لاتخطي ء الحديث). «3»

و هي أيضاً دليل على عموم الحكم في الأمور المشكلة إجمالًا، و إصابة القرعة

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 323

للواقع، و كونها دليلًا عليه. ولكن من غير تصريح بعنوان الموضوع، و أنّها سنّة في أي موضوع، و أيّ عنوان.

8- ما رواه في (التّهذيب) عن عبّاس بن هلال، عن أبي الحسن الرّضا عليه السلام قال ذكرأنَّ ابن أبي ليلى، و ابن شبرمة دخلا المسجد الحرام، فأتيا محمد بن علي عليه السلام فقال لهما: بما تقضيان؟ قالا: بكتاب اللّه و السّنّة، قال: فما لم تجداه في الكتاب و السنّة؟

قالا: نجتهد رأينا، قال: رأيكما أنتما؟! فما تقولان في امرأة و جاريتها كانتا

ترضعان صبّيين في بيت فسقط عليهما، فماتتا و سلم الصّبيان. قالا: القافّة، قال: القافة يتجهم منه لهما؟! «1» قالا: فأخبرنا، قال: لا. قال ابن داود- مولى له- جعلت فداك قد بلغني: أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام قال: ما من قوم فوضوا أمرهم إلى اللّه عزّ و جلّ، و ألقوا سهامهم إلّاخرج السّهم الأصوب، فسكت). «2»

و فيه أيضاً دلالة على أنّ عموم القرعة كان أمراً مشهوراً بين صحابة أهل البيت عليهم السلام و مواليهم. و سكوت الباقر عليه السلام بعد ما رواه ابن داود، عن أميرالمؤمنين عليه السلام دليل آخر على ثبوت هذه القاعدة عندهم فكل ما كان الأمر فيه مشكلًا مثل مورد الرّواية جاز الرّجوع فيه إلى القرعة. الّلهمّ إلّاأن يقال: إنّ سكوته أعمّ من رضاه بذلك.

9- ما رواه في (التّهذيب) عن عبداللّه بن مسكان، قال: سئل أبو عبداللّه عليه السلام- و أنا عنده عن مولود ليس بذكر و لا بأنثى، ليس له إلّادبر، كيف يورّث؟ فقال: يجلس الإمام و يجلس

عنده أناس من المسلمين، فيدعون اللّه و يجيل السّهام عليه على أيّ ميراث يورّثه، ثمّ قال: و أيّ قضيّة أعدل من قضيّة يجال عليها بالسّهام، يقول اللّه تعالى «فَسَاْهَمَ فَكَاْنَ مِنَ المُدْحَضِيْنَ» «3».

و فيه أيضاً دليل على عموم الحكمُ و إن لم يصرّح فيه أيضاً بعنوانه المأخوذ فيه.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 324

و صدره دليل آخر على اعتبار القرعة من حيث كشفها عن الواقع المجهول؛ فإنّ جلوس الإمام و أناس من المسلمين و دعاءهم إنّما يكون لإرائة الواقع المجهول، و إلّا لم يكن وجه ظّاهر للدّعاء. ولكن ذيله كبعض آخر من الرّوايات دليل على أنّ اعتبار القرعة من جهة كونها أقرب إلى العدالة في موارد الحقوق المشكوكة. و سيأتي مزيد توضيح له إن شاء اللّه.

10- ما رواه الشّيخ قدس سره أيضاً في (التّهذيب)، و الكليني قدس سره في (الكافي)، عن ثعلبة بن ميمون، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبداللّه عليه السلام؛ ثمّ ذكر مثل الحديث السّابق، ثمّ أضاف قوله: (ما من أمر يختلف فيه إثنان إلّاوله أصل في كتاب اللّه، ولكن لاتبلغه عقول الرّجال). «1»

و هذا دليل على أنّ أصل القرعة- كحكم عام- مأخوذ من كتاب اللّه من قضيّة يونس فهو جارٍ في جميع الموارد الّتي يشكل فيها الأمر، و إن لم يصرّح فيه أيضاً بعنوان «المشكل»، و شبهه.

11- ما رواه أيضاً في (الكافي) و (التّهذيب) عن عبداللّه بن مسكان، عن إسحاق العرزمي- كما في محكي (الكافي)-، أو إسحاق المرادي- كما في محكي (التّهذيب)، عن أبي عبداللّه عليه السلام؛ ثمّ ذكر مثل الرّوايتين السّابقتين، إلّاأنّه لم يذكر فيها التّذييل الأخير. «2»

12- ما ورد في (فقه الرّضا): (و كل ما لا يتهيّأ الإشهاد عليه، فإنَّ الحقّ فيه

أن يستعمل القرعة، و قد روي عن أبي عبداللّه عليه السلام أنّه قال: فأيّ قضيّة أعدل من القرعة ....) «3»

و الظّاهر أنّ المرسلة المرويّة فيها من قول الصّادق عليه السلام هي بعينها ما نقلناها سابقاً تحت الرّقم الرّابع.

ولكن في نفس عبارة (فقه الرّضا)- سواء كان حديثاً أم فتوى لبعض كبراء

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 325

أصحابنا الأقدمين، على الخلاف فيه- دلالة على أنّ القرعة جارية في كل ما لا يتهيّأ الإشهاد عليه؛ و إن لم يدلّ على اختصاصها به.

هذا ما ظفرنا به من الرّوايات العامّة، و هناك روايات مرسلة عن الصّدوق، أو غيره، متّحدة مع تلك الرّوايات، لم نذكرها بعنوان مستقل، لاتّحادها معها.

و غير خفي أنّ فيها غنى و كفاية في إثبات القاعدة بعمومها، و لاسيّما مع كونها مرويّة في الكتب المعتبرة. و قد رواها جمع من أجلاء الأصحاب. و فيها دليل على كونها مشهورة منذ أعصار الأئمّة عليهم السلام.

الرّوايات الخاصّة:

و هناك روايات خاصة مبثوتة في مختلف أبواب الفقه تؤيّد عموم القاعدة، و عدم اختصاصها بمورد معيّن و إن لم يكن فيها تصريح بالعموم. ولكن ورودها و انبثاثها في تلك الأبواب المختلفة من المؤيّدات القويّة على المقصود، و إليك نبذاً منها ممّا يشتمل على نكات خاصّة تفيدنا في حلّ معضلات القاعدة، و هي على طوائف:

الطّائفة الأولى، ماورد في باب تعارض الشّهود، و أنّه إذا تساويا في العدد و العدالة يرجع إلى القرعة، مثل:

1- مارواه في (الكافي) و (التّهذيب) عن داود بن أبي يزيد العطّار، عن بعض رجاله، عن أبي عبداللّه عليه السلام، (في رجل كانت له امرأة فجاء رجل بشهود أنَّ هذه المرأة إمرأة فلان، و جاء آخران فشهدا أنّها امرأة فلان، فاعتدل الشّهود و عدلوا، فقال:

يقرع

بينهمُ فمن خرج سهمه فهو المحقّ و هو أولى بها). «1»

2- ما رواه في (الفقيه) و (التّهذيب) و (الإستبصار) عن سماعة، قال: إنّ رجلين اختصما إلى عليّ عليه السلام في دابّة، فزعم كلّ واحد منهما أنّها نتجت على مذوده، و أقام

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 326

كلّ واحد منهما بيّنة سواء فى العدد، فأقرع بينهما سهمين، فعلّم السّهمين كلّ واحد منهما بعلامة، ثمّ قال: الّلهمّ ربّ السّموات السّبع، و ربّ الأرضين السّبع، و ربّ العرش العظيم، عالم الغيب و الشّهادةُ الرّحمن الرّحيم، أيّهما كان صاحب الدّابّة، و هو أولى بها فأسألك أن (يقرع و) يخرج سهمه؛ فخرج سهم أحدهما، فقضى له بها). «1»

3- ما رواه في (الكافي) و (التّهذيب) و (الإستبصار) و (الفقيه)، عن داود بن سرحان، عن أبي عبداللّه عليه السلام، في شّاهدين شهدا أعلى أمر واحد، و جاء آخران فشهدا على غير الّذي شهدا، و اختلفوا، قال: يقرع بينهم، فأيّهم قرع عليه اليمين فهو أولى بالقضاء). «2»

إلى غير ذلك من الرّوايات في هذا الباب الّتي جمعها صاحب (الوسائل) في كتاب القضاء، في بابٍ عقده لحكم «تعارض البيّنتين و ما ترجح به أحدهما». و بعضها و إن كانت مطلقة، و بعضها مقيّدة، إلّاأن طريق الجمع بينهما بالتّقيّيد واضح.

و قد أفتى بمضمونها مشهور المتأخّرين، و جمع من أكابر القدماء رضوان اللّه عليهم فقالوا: «إذا لم يكن العين في يد واحد من المتداعيين قُضي بأرجح البيّنتين عدالة، فإن تساويا قضي لأكثرهما شهوداً، و مع التّساوي عدداً و عدالة يقرع بينهما، فمن خرج اسمه أحلف و قُضي له». و استنادهم في ذلك إلى هذه الرّوايات الّتي عرفت نموذجاً منها، و إن كان فيها بعض ما ينافيها. و قد

ذكروا له توجيهات، فراجع، و تمام الكلام في نفس هذه المسألة في محلّها.

الطّائفة الثّانية: ما ورد في باب عتق المملوك، أو نذر عتقه، و أنّه اذا اشتبه أخرج بالقرعة مثل:

4- ما رواه الكليني في (الكافي) و الشّيخ في (التّهذيب) عن يونس قال: في رجل

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 327

كان له عدّة مماليك فقال: أيّكم علّمني آية من كتاب اللّه فهو حرّ، فعلّمه واحد منهم، ثمّ مات المولى، و لم يُذْرَ أيّهم الّذي علّمه، أنّه قال: يستخرج بالقرعة. قال:

لايستخرجه إلّاالإمام؛ لأنّ له على القرعة كلاماً و دعاءاً لايعلمه غيره) «1»

و مورد الرّواية من الأمور المجهولة الّتي لها واقع ثابت في الخارج و إن لم نعلمه.

و قوله: (لايستخرجه إلّاالإمام)، سيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه.

و عدم وجوب الدّعاء، معلوم، غاية ما فيه أنّه مستحبّ.

و الرّواية مقطوعة؛ لعدم اسنادها إلى الإمام عليه السلام، ولكنّ نقلها في الكتب الأربعة، و غير ذلك من القرائن، تؤيّد رجوع الضّمير في قوله: (قال يستخرج بالقرعة) إلى الإمام عليه السلام، فتأمّل.

5- ما رواه الشّيخ عن الحلبي عن أبي عبداللّه عليه السلام، (في رجل: قال أوّل مملوك أملكه فهو حرّ، فورث سبعة جميعاً، قال: يقرع بينهم، و يعتق الّذي قرع) «2».

6- ما رواه الشّيخ أيضاً عن عبداللّه بن سليمان قال سألته عن رجل قال أوّل مملوك أملكه فهو حرّ فلم يلبث أنّ ملك ستّة أيّهم يعتق؟ قال يقرع بينهم، ثمّ يعتق واحداً) «3».

و هاتان الرّوايتان و إن لم يصرّح فيهما بمسألة النّذر، إلّاأنّ القرائن تشهد على حمله عليه، و لذا أوردهما صاحب (الوسائل) أيضاً في بابٍ عقده تحت عنوان: النّذر في كتاب العتق.

و من الجدير بالذّكر أنّه ليس في مورد الروايتين واقع مجهول يراد

استكشافه بالقرعة. و هذا دليل آخر على عدم اختصاصها بما له واقع ثابت في نفس الأمر.

هذا و في نفس المسألة خلاف؛ و المحكي عن الشّيخ في (النّهاية)، و الصّدوق، و جماعة، بل نسب إلى الأكثر، هو القول بالرّجوع إلى القرعة؛ و قيل بعدم وجوب

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 328

الرجوع إليها، و أنّه يتخيّر في عتق واحد منها إلا أن يموت النّاذر فيرُجح إلى القرعة، لخبر الحسن الصّيقل قال: (سألت أباعبداللّه عليه السلام عن رجل قال: أوّل مملوك أملكه فهو حرّ، فأصاب ستّة، قال: إنّما كانت نيّته على واحد فليختر أيّهم شاء فليعتقه) «1».

و قد يجمع بينهما تارة بحمل الأمر بالقرعة على الإستحباب، و أخرى بأنّ طريق اختيار واحد منهم هو القرعة؛ فكأنَّ الرّواية الأخيرة ناظرة إلى نفي وجوب عتق ما عدا واحدٍ؛ و أمّا طريق اختيار الواحد فهو مسكوت عنه فيها، فيرجع إلى الرّوايتين السّابقتين، فتأمّل.

الطّائفة الثّالثة: ما ورد في باب الوصيّة بعتق بعض المماليك و أنّه يستخرج بالقرعة مثل:

7- ما رواه الصّدوق في (الفقيه) عن محمد بن مروان، عن الشّيخ- يعنى موسى بن جعفر عليه السلام- عن أبيه عليه السلام، قال: (إنّ أباجعفر عليه السلام مات و ترك ستّين مملوكاً، فأعتق ثلثهم، فأقرعت بينهم و أعتقت الثّلث). «2» و رواه الكليني، و الشّيخ في كتابيهما أيضاً.

8- ما رواه الشّيخ عن محمد بن مسلم، قال: (سألت أباجعفر عليه السلام عن الرّجل يكون له المملوكون، فيوصي بعتق ثلثهم، فقال: كان علي عليه السلام يسهم بينهم). «3»

و مورد الرّوايتين أيضاً من الأمور الّتي لا واقع لها في الخارج مجهول عندنا- كما هو واضح-. و الظّاهر أنّ المراد من عتق الثّلث فى الرّواية الأولى، الوصيّة بعتقهم، و إن

لم يصرّح فيها بالوصيّة. و هذا الحكم ممّا لا خلاف فيه كما ذكره في (الجواهر) في كتاب «العتق».

الطّائفة الرّابعة: ما ورد في باب اشتباه الحرّ بالمملوك، و أنّه يستخرج بالقرعة مثل:

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 329

9- ما رواه الشّيخ في (التّهذيب) عن حمّاد، عن المختار، قال: (دخل أبوحنيفة على أبي عبداللّه عليه السلام)، فقال له أبو عبداللّه عليه السلام: ما تقول في بيت سقط على قوم فبقي منهم صبيان، أحدهما حرّ و الآخر مملوك لصاحبه، فلم يعرف الحرّ من العيد؟ فقال أبوحنيفة: يعتق نصف هذا و نصف هذا، فقال أبو عبداللّه عليه السلام ليس كذلك ولكنّه يقرع بينهما فمن إصابته القرعة فهو الحرّ، و يعتق هذا فيجعل مولى لهذا). «1»

10- ما رواه الشّيخ أيضاً عن حماد، عن حريز، عمّن أخبره، عن أبي عبداللّه عليه السلام:

(قال قضى أميرالمؤمنين عليه السلام باليمن في قوم انهدمت عليهم دارهم، و بقي صبيان، أحدهما حرّ، و الأخر مملوك، فأسهم أميرالمؤمنين عليه السلام بينهما، فخرج السّهم على أحدهما فجعل له المال، و أعتق الأخر). «2»

و المستفاد من هاتين الرّوايتين لزوم العمل بالقرعة في تشخيص «الحرّ» من «العبد»، فيرث التركة كلّها. ولكن يجب إعتاق الأخر؛ إمّا من جهة بناء العتق على التّغليب و لزوم ترجيح جانب الحرّية مهمّا دار الأمر بينها وبين الرّقية، و إمّا من جهة الاحتياط، فإنّ محذور استرقاق الحرّ المحتمل هنا أشدّ من محذور المال.

و مع كون القرعة حكماً عاماً لمثل هذه الموارد المشكوكة لايبقى مجال لما ذكره أبوحنيفة من الرّجوع إلى قاعدة «العدل و الإنصاف»، و الحكم بكون نصف كلّ منهما حرّاً، الّذي فيه محذور المخالفة القطعيّة لما علم بالإجمال، بل قد يلزم منه مخالفة قطعيّة للعلم التّفصيلي، كما

قد ذكر في محلّه، فتدبّر.

الطّائفة الخامسة: ما ورد في ميراث الخنثى المشكل الّذي لاطريق إلى إثبات رجوليّتها و أنوثيتها، و أنّ المرجع فيه هو القرعة. و قد عقد له في (الوسائل) باباً خاصاً في كتاب الميراث تحت عنوان: «إنّ المولود إذا لم يكن له ما للرّجال و لاما

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 330

للنّساء حكم في ميراثه بالقرعة».

و قد مرّ عند ذكر عمومات القرعة غير واحد منها، مثل رواية «عبداللّه بن مسكان»، و مرسلة «ثعلبة بن ميمون» و «إسحاق المرادي»، و هي تدلّ على هذا الحكم خصوصاً، و على اعتبار القرعة عموماً.

و في نفس الباب بعض الرّوايات الخاصّة يدلّ على الحكم في خصوص المورد، مثل:

11- ما رواه في (الكافي)، و (الفقيه)، و (المحاسن)، عن فضيل بن يسار، قال:

(سألت أباعبداللّه عليه السلام عن مولود ليس له ما للرّجال و لا له ما للنّساء، قال: يقرع عليه الإمام عليه السلام أو المقرع، يكتب على سهم عبداللّه، و على سهم أمّة اللّه، ثمّ يقول الإمام أو المقرع: اللهم أنت اللّه لا إله إلّاأنت عالم الغيب و الشّهادة، أنت تحكم بين عبادك (يوم القيامة) فيما كانوا فيه يختلفون، بيّن لنا أمر هذا المولود كيف يورّث ما فرضت له في الكتاب، ثمّ تطرح السّهام السّهمان في سهام مبهمة، ثمّ تجال السّهام، على ما خرج ورث عليه) «1»

هذا ولكن في العمل بهذه الرّوايات خلاف بين الأصحاب مذكور في كتاب الميراث. فقد ذهب الشّيخ في الخلاف، و بعض آخر، إلى أنّه إذا لم يكن هناك أمارة على أحد الأمرين يعمل بالقرعة، بل ادّعى الشّيخ قدّس سرّه الإجماع عليه؛ ولكنّه كماترى.

و ذهب كثير من الأصحاب منهم المفيد، و الصدوقان، و الشّيخ في (النّهاية)، و ابن حمزة،

و ابن زهرة، و المحقّق الطّوسي، و الشّهيدان، و العلّامة و ولده، و غيرهم على ما حُكي عنهم، بل هو المشهور، إلى أنّه يعطى نصف ميراث الرّجل و نصف ميراث المرأة. و قد حُكي الإجماع عليه أيضاً، و يدلّ عليه غير واحد من الرّوايات.

و ذهب بعض آخر كالمفيد و المرتضى فيما حكي عنهما قدّس سرّهما إلى وجوب

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 331

عدّ أضلاعه فإن استوى جنباه فهي امرأة، و ان اختلفا فهو ذكر. ولكن مستندهم في ذلك ضعيف.

و كيف كان فالمسألة خلافيّةُ، و المشهور عدم العمل بروايات القرعة هنا.

الطّائفة السّادسة: ما ورد في اشتباه حال الولد، و أنّه من أيّ واحد ممّن واقعوا أمّه بالشّبهة، مثل:

12- ما رواه في (التّهذيب) و (الفقيه) عن معاوية بن عمّار، بن أبي عبداللّه عليه السلام، قال: (إذا وطأ رجلان أو ثلاثة جارية في طهر واحد فولدت فادعو جميعاً، أقرع الوالي بينهم، فمن قرع كان الولد ولده، و يرد قيمة الولد على صاحب الجارية. الحديث) «1»

13- ما رواه الشّيخ في (التّهذيب) أيضاً عن الحلبي، عن أبي عبداللّه عليه السلام، قال: (إذا وقع الحرّ و العبد و المشرك على امرأة في طهر واحد، و أدعوا الولد أقرع بينهم، و كان الولد للّذي يقرع) «2»

14- ما رواه الشّيخ أيضاً عن سليمان بن خالد، عن أبي عبداللّه عليه السلام، قال: (قضى علّي عليه السلام، في ثلاثة وقعوا على امرأة في طهر واحد و ذلك في الجاهليّة قبل أن يظهر الإسلام، فأقرع بينهم فجعل الولد للّذي قرع، و جعل عليه ثلثي الدّية للآخرين، فضحك رسول اللّه صلى الله عليه و آله حتّى بدت نواجده قال: و قال: و ما أعلم فيها شيئاً إلّاما قضى به

عليّ عليه السلام «3»).

15- ما أرسله المفيد في (الإرشاد) قال: (بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله عليّاً إلى اليمن، فرقع إليه رجلان بينهما جارية يملكان رقّها على السّواء، قد جهلا خطر و طئها معاً، فوطئاها معاً في طهر واحد، فحملت و وضعت غلاماً، فقرع على الغلام بإسميهما فخرجت القرعة لأحدهما، فالحق به الغلام و ألزمه نصف قيمته أن لو كان عبداً

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 332

لشريكه، فبلغ رسول اللّه صلى الله عليه و آله القضيّة فأمضاها و أقرّ الحكم بها في الإسلام «1»).

إلى غير ذلك من الرّوايات الدّالّة على هذا الحكم و قد مرّ في الرّوايات العامّة أيضاً بعض ما يدلّ عليه.

و لايخفى أنّ ما ورد فيه من إطلاق الحكم فيما إذا وقع رجال متعدّدون على امرأة في طهر واحد إمّا محمول على ما إذا كان ذلك لشبهة حصلت لهم، أو لعدم الاطّلاع على الحكم كما كان الحال. في الجاهليّة، أو لغير ذلك. و في نفس الرّوايات مضافاً إلى القرائن الخارجيّة، ما يشهد لهذا المعنى.

و إمّا محمول على ما ذكروه في كتاب النّكاح، من أنّ الأمة المشتركة إذا وطأها أحد الشّركاء أثمّ و وجب تعزيره، لكن لا يعدُّ زانياً فلا ينفى عنه الولد؛ بل يكون عاصياً و يلحق به الولد، و تكون الجارية أم ولد، و يغرم حصّة الشّريك من الأمّ و الولد.

و لعلّ الأقرب هو هذا المعنى؛ فإنّ لسان بعض هذه الرّوايات يأبي عن الحمل على الوطى ء بالشّبهة.

و على كلّ حال فالرّجوع إلى القرعة في المقام مشهور بين الأصحاب، بل لم نجد فيه مخالفاً؛ إلّاأنّ هنا إشكالًا في إلزام من يلحق به الولد بالقرعة، بالغرامة للباقين، و هو أنّه كيف يُلزم بذلك مع

أنّهم مدعين للولد، و لازم هذه الدّعوى عدم استحقاقهم للقيمة، أخذاً بمقتضى إقرارهم، فهم غير مستحقّين؛ لقاعدة إقرار العقلاء على أنفسهم.

و الظّاهر، أنَّ هذا الإشكال ألجأ بعضهم إلى حمل الغرامة في الرّوايات على غرامة الأم؛ لأنّها تصير أم ولد لمن لحق به الولد، فعليه الغرامة للباقين.

و هذا الحمل عجيب؛ فإنّه مضافاً إلى كونه منافياً لصريح بعض روايات الباب مثل رواية معاوية بن عمّار «2»، المصرّح فيهاب «قيمة الولد»، لايدفع الإشكال، لجريان نفس الإشكال في الأمّ أيضاً، لأنّ كلّ واحد منهم يدّعي أنَّها ولد له، فكيف يحلّ له أخذ

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 333

سهمه من قيمتها؟!

هذا ولكن قد يجاب عن الإشكال بوجهين آخرين:

أحدهما: إنّ هذه الإقرارات مسموعة إذا لم يكن هناك أمارة تدلّ على بطلانها، فإذا دلّت القرعة على إلحاق الولد بواحد منهم و نفيه عن آخرين، كان كما إذا علم بكون الولد ولداً له و أمّه أمّ ولد له، فحينئذ يجب العمل بمقتضى الأمارة، و تسقط الإقرارات.

ثانيهما: إنّ المراد من ادّعاء الولد هنا ليس ادّعاء العلم بأنّه من نطفته؛ لعدم إمكان حصوله عادة لأحد بعد مواقعة الجميع لها في طهر واحد، بل المراد إرادة كلّ واحد أخذ الولد و إلحاقه بنفسه، لأنّه يحتمل انعقاده من نطفته؛ فإنّ وقوع مثل هذه الدّعوى- لاسيّما بين عوام النّاس- أمر شائع في أمثال المقام الّذي يدور أمر شي ء بين عدّة منهم مع تساوي الإحتمال بالنّسبة إلى الجميع. إذن لايكون هناك إقرار من أحد منهم بكون الولد ولداً له واقعاً و أمّه أمّ ولد كذلك.

و هذا الوجه أقوى من سابقه، و أوفق بمورد الرّوايات، و على كلّ حال العدول عمّا ذكره الأصحاب في المسئلة لمثل هذا الإشكال ممّا لاوجه له.

الطّائفة السّابعة:

ما ورد في اشتباه الموطؤة، و أنها إذا اشتبهت استخرجت بالقرعة مثل:

16- ما رواه الشّيخ في (التّهذيب) عن محمد بن عيسى، عن «الرّجل» أنّه سئل عن رجل نظر إلى راع نزا على شاة؟ قال: إنّ عرفها ذبحها و أحرقها، و إن لم يعرفها قسّمها نصفين أبداً حتّى يقع السّهم بها، فتذبح و تحرق، و قد نجت سائرها)»

17- ما رواه حسن بن علي بن شعبة في (تحف العقول) عن أبي الحسن الثّالث عليه السلام في جواب مسائل يحيى بن أكثم قال: (و أمّا الرّجل النّاظر إلى الرّاعي و قد نزا على

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 334

شاة، فإن عرفها ذبحها و أحرقها و إن لم يعرفها قسّم الغنم نصفين و ساهم بينهما، فإذا وقع على أحد النّصفين فقد نجا النّصف الآخر، ثمّ يفرق النّصف الآخر فلا يزال كذلك حتّى تبقى شاتان، فيقرع بينهما، فأيّهما وقع السّهم بها ذبحت و أحرقت و نجا سائر الغنم). «1»

بل قال في (الجواهر): «بلا خلاف فيه؛ للخبرين المنجبرين بذلك».

و علّة الحاجة إلى الانجبار في حديث (تحف العقول) واضحٌ، من جهة إرساله. و أمّا في رواية الشّيخ في (التّهذيب)، فلكون محمد بن عيسى- الظّاهر كونه محمد بن عيسى بن عبيد المعروف بالعبيدي- محلًّا للكلام بينهم؛ فقد وثّقه بعضهم و أثنى عليه كمال الثّناء، و ضعّفه بعض آخر و قال: لا أثق بما يتفرّد به؛ مضافاً إلى عدم التّصريح باسم المروي عنه.

و قد عثرت على كلام جامع حول سند الحديث للعلّامة المجلسي قدس سره أحببت إيراده لما فيه من التّأييد لما نحن بصدده قال قدس سره بعد ذكر حديث محمّد ابن عيسى ما هذا نصّه:

«الظّاهر أنّ الرّجل أبوالحسن عليه السلام و هذا مختصر من

الحديث الّذي رويناه أوّلًا» أشار بذلك إلى مرسلة (تحف العقول ثمّ قال: «و قال في (المسالك): بضمون الرّواية عمل الأصحاب مع أنّها لاتخلو عن ضعف و إرسال؛ لأنّ راويها محمد بن عيسى عن الرّجل، و محمد بن عيسى مشترك بيع الأشعري الثقة، و اليقطيني و هو ضعيف، فإن كان المراد بالرّجل الكاظم عليه السلام كما هو الغالب فهي مع ضعفها بالاشتراك مرسلة، لأنّ كلا الرّجلين لم يدرك الكاظم عليه السلام، و إن أريد به غيره أو كان مبهماً كما هو مقتضى لفظه فهي مع ذلك مقطوعة.

ثمّ قال المجلسي: و أقول: يردّ عليه أنّ الظّاهر أنّه اليقطيني كما يظهر من

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 335

الأمارات و الشّواهد الرّجاليّة، لكن الظّاهر ثقته وثاقته، و القدح فيه غير ثابت؛ و جلّ الأصحاب يعدّون حديثه صحيحاً. و كون المراد بالرّجل الكاظم عليه السلام غير معروف، بل الغالب التّعبير بالرّجل و الغريم و أمثالهما عند شدّة التّقيّة بعد زمان الرّضا عليه السلام، و هذا بقرينة الرّاوي يحتمل الجواد و الهادي و العسكري عليهم السلام؛ لكن الظّاهر هو الهادي بقرينة الرّواية الأولى فظهر أنّ الخبر صحيح، مع أنّه لم يردّه أحد من الأصحاب» «1»

و على كلّ حال قد عرفت أنّ أصل الحكم هنا ممّا لاغبار عليه، لعدم نقل الخلاف عن أحد منهم، و انجبار الرّوايتين لو كانا ضعيفتين بعملهم.

ثمّ إنّه لايبعد أن يكون وجه إجراء القرعة فيها و جعل المورد من الأمور المشكلّة مع أنّ قاعدة الاحتياط في أطراف الشّبهة المحصورة تقتضي الإجتناب عن الجميع، هو أنّ ذبح الجميع و إحراقها إمّا ضرر أو حرج، فإذا انتفى الاحتياط لذلك، و لم يمكن الرّجوع إلى البراءة كما هو ظاهر، فلم يبق هنا

طريق إلى المجهول إلّاالقرعة.

ثمّ لايخفى عليك أنّ مورد هذه المسألة المتّفق فيها ليس من حقوق النّاس و لا من الأمور المتنازع فيها، و لايحتاج إلى إقامة الدّعوى و القضاء الشّرعي؛ فما قد يقال من أنّ روايات القرعة مخصوصة بباب القضاء و التّنازع ممّا لاوجه له.

الطّائفة الثّامنة: ما ورد في طريق إجراء القرعة و كيفيّتها و شرائطها ممّا يدلّ على مشروعيّة القرعة في الجملة و هي روايات:

18- ما رواه الشّيخ في (التّهذيب) عن حمّاد، عمّن ذكره، عن أحدهما عليه السلام قال:

(القرعة لاتكون إلّاللإمام) «2».

و سيأتي إن شاء اللّه أنّ هذا الشّرط ليس على نحو الوجوب.

19- ما رواه ابن طاووس في كتاب أمان الأخطار و في (الاستخارات) نقلًا عن

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 336

كتاب عمرو بن أبي المقدام عن أحدهما عليه السلام- في المساهمة- يكتب:

«بسم اللّه الرّحمن الرّحيم، الّلهمّ فاطر السّموات و الأرض، عالم الغيب و الشّهادة، الرّحمن الرّحيم، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، أسألك بحقّ محمّد و آل محمّد، أن تصلي على محمّد و آل محمد، و أن تخرج لي خير السّهمين في ديني و دنياي و آخرتي، و عاقبة أمري في عاجل أمري و آجلهُ إنّك على كلّ شي ء قدير، ما شاء اللّه، لاقوّة إلّا باللّه، صلّى اللّه على محمّد و آله» ثمّ تكتب ما تريد في الرّقعتين، و تكون الثّالثة غفلًا، ثمّ تجيل السّهام، فأيّما خرجت عملت عليه و لاتخالف؛ فمن خالف لم يصنع له، و إنّ خرج الغفل رميت به) «1»

و سيأتي الكلام إن شاء اللّه في استحباب هذا الدّعاء، إلى غير ذلك.

الطّائفة التّاسعة: ما يدلّ على وقوع القرعة أو مشروعيّتها فى الأمم السّالفة، ممّا يستشمّ منه رائحة الرّضا بها و

امضائها مثل:

20- ما رواه الصّدوق في (الفقيه) و (الخصال) عن حريز، عن أبي جعفر عليه السلام قال:

أوّل من سوهم عليه مريم بنت عمران، و هو قول اللّه عزّ و جلّ: «وَ مَا كُنتَ لَدَيْهِم إذْ يُلْقُونَ أقلَامَهُم أَيُّهُم يَكْفُلُ مَرْيَمَ» و السّهام ستّة؛ ثمّ استهموا في يونس لمّا ركب مع القوم فوقفت السّفينة في اللّجة، فاستهموا فوقع على يونس ثلاث مرّات، قال: فمضى يونس إلى صدر السّفينة، فإذا الحوت فاتح فاه فرمى نفسه، ثمّ كان عند عبدالمطلّب تسعة بنين، فنذر في العاشر إن رزقه اللّه غلاماً أن يذبحه، فلمّا ولد عبداللّه، لم يكن يقدر أن يذبحه و رسول اللّه صلى الله عليه و آله في صلبه، فجاء بعشر من الإبل، فساهم عليها و على عبداللّه فخرجت السّهام على عبداللّه، فزاد عشراً، فلم تزل السّهام تخرج على عبداللّه و يزيد عشراً، فلمّا أن خرجت مائة خرجت السّهام على الإبل، فقال عبدالمطلّب ما أنصفت ربّي، (فأعاد السّهام ثلاثاً، فخرجت على الإبل، فقال: الأن

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 337

علمت أنّ ربي قد رضي، فنحرها) «1».

و في الرّواية جهات من البحث:

الأولى: يظهر من سياق عبارة الإمام عليه السلام إجمالًا ارتضاؤه بما نذر جدّه عبدالمطلّب عليه السلام من ذبح ولده عبداللّه؛ فإنّه لو كان ذلك أمراً منكراً كان من البعيد ذكره مع السّكوت عليه. مع أنّا نعلم بأنّ هذه النّذر غير ماض قطعاً، لا في هذه الشّريعة و لا في الشّرائع السّابقة؛ لإنكار العقل له، مضافاً إلى ورود التّصريح به عنهم عليهم السلام، فقد روى الشّيخ قدس سره عن عبدالرّحمن بن أبي عبداللّه قال: (سألت أباعبداللّه عليه السلام عن رجل حلف أنّ ينحر ولده؟ قال: ذلك من خطوات الشّيطان «2»

و من المعلوم أنّه لافرق في ذلك بين الحلف و النّذر بل الأمر في الحلف أوسع.

و يمكن أن يقال بأنّ نذر عبدالمطلّب ذبح ولده كان بمعناه الأعمّ من ذبحه أو أداء ديته في سبيل اللّه، و من المعلوم أنّ المنذور و إذا كان كلّياً له مصاديق محلّلة و محرمة جاز النّذر، فتدبّر.

أو يقال بأنّ هذا النّذر و إن لم يكن منعقداً من أصل، ولكن مقتضي تعظيم أمراللّه هو أن يفدي عنه بشي ء إمّا ثمن ديته، أو بشي ء آخر. و يشهد له ما رواه الشّيخ أيضاً عن السّكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن عليّ عليهم السلام: (أنّه أتاه رجل فقال: إنّي نذرت أن أنحر ولدي عند مقام إبراهيم عليه السلام إن فعلت كذا و كذا ففعلته، فقال عليه السلام: اذبح كبشاً سميناً تتصدّق بلحمه على المساكين «3».

الثّانية: أنّ ظاهر الرّواية كون مريم أوّل من سوهم عليه و اقترع في حقّه، و كون مساهمة يونس بعده؛ مع أنّ يونس بن متى عليه السلام- كما تشهد به التّواريخ- كان قبل مريم بمئات من السنين؛ ففي بعض التّواريخ أنّه كان قبل ميلاد عيسى عليه السلام به 825 سنّة، و في بعضها الآخر أنّه كان قبله بأكثر من ذلك، كيف و هو من أنبياء بني إسرائيل

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 338

الّذين كانوا قبل عيسى عليه السلام؟!

و غاية ما يمكن أن يقال في حلّ هذا الإشكال أنّ المراد بالأوّلية، تقدّم ذكرها فى القرآن الكريم، فإنّ قضية مساهمة مريم واردة في سورة «آل عمران»، و مساهمة يونس في سورة «الصّافات»، فتأمّل.

الثالثة: الظّاهر من قضية نذر عبدالمطلّب شيخ الحجاز أنّ القرعة الّتي جعلها طريقاً لحلّ مشكله و مجهوله كانت في الشّبهات الحكميّة، فإنّه لم

يكن هناك موضوع خارجي مشتبه أراد كشفه بها، بل المجهول كان هو رضا الرّب جلّ و علا؛ و لاشكّ أنّه من سنخ الشّبهات الحكميّة، مع أنّه لا إشكال في عدم جواز الاتّكال على القرعة في الأحكام الشّرعيّة، و لم يقل أحد بها، بل الكلام في حدود جريانها في الموضوعات فقط.

و يمكن الجواب عنه بأنّ ذلك منه إنّما كان من جهة عدم إمكان كشف مرضاة ربّه في تلك القضيّة الخاصّة بغير هذا الطّريق، و هذا بخلاف ما بأيدينا من الأحكام، فإنّ أمرها من ناحية الأدلّة الخاصّة أو العامّة أو الأصول العمليّة الجاريّة فيها ظاهر واضح.

و الإنصاف أنّ قضيّة نذر عبدالمطلّب كانت قضيّة خاصّة، واردة في واقعة خاصّة، مبهمة من جهات شتّى. ولكن لايضرّنا ابهامها، لاسيّما مع عدم ظهور إمضائها بتمامها فى الإسلام. بل لعلّه إشارة إلى نقل تاريخي يدلّ على أنّ القرعة كانت قبل الإسلام فى الأمم السّالفة، أو في العرب، و الأمر في ذلك سهل.

21- ما رواه المجلسي في (البحار) عن (الأمالي) عن ابن عبّاس- في قصّة يوسف بعد مجي ء إخوته إليه، و هم له منكرون-، فقال لهم يوسف:

«إنّي أحبس منكم واحداً يكون عندي و ارجعوا إلى أبيكم و اقرأوه منّي السّلام، و قولوا له يرسل إليَّ بابنه الّذي زعمتم أنّه حبسه عنده ليخبرني عن حزنه ما الّذي أحزنه؟ و عن سرعة الشّيب إليه قبل أوان مشيبه، و عن بكائه و ذهاب بصره». فلمّا قال هذا اقترعوا بينهم فخرجت القرعة على شمعون، فأمر به فحبس. الحديث) «1»

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 339

و هذا الحديث و إن لم يكن مرويّاً إلا عن ابن عبّاس، و لايتّصل سنده بالمعصوم، إلّا أنّ الظّاهر أنّ ابن عبّاس- و هو حبر

الأمّة- أخذه من النّبي صلى الله عليه و آله، أو الوصي عليه السلام و هو تلميذه، أو من منبع آخر يُعبأ به من الكتب. و هو دليل على أنّ الاقتراع كان معمولًا في ذاك العصر، لترجيح ما لا ترجيح فيه واقعاً، دفعاً للفساد و النّزاع، و كان ذلك بمرئى و مسمع من يوسف عليه السلام، بعد ما أتاه اللّه علماً و حكماً.

22- ما رواه هو قدّس سرّه في استعلام موسى بن عمران عليه السلام الّنمام الّذي كان في أصحابه بالقرعة بتعليم اللّه إيّاه. عن عثمان بن عيسى، عن بعض أصحابه، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: (إنّ اللّه أوحى إلى موسى عليه السلام: إنّ بعض أصحابك ينمّ عليك فأحضره (فاحذره)، فقال: ياربّ لا أعرفه، فأخبرني به حتّى أعرفه، فقال: يا موسى عبت عليك الّنميمة و تكلّفني أن أكون نمّاماً؟ قال: ياربّ فكيف أصنع؟ قال اللّه تعالى: فرّق أصحابك عشرة عشرة، ثمّ تقرع بينهم فإنّ السّهم يقع على العشرة الّتي هو فيهم، ثم تفرّقهم و تقرع بينهم فإنّ السّهم يقع عليه. قال فلمّا رأى الرّجل أنّ السّهام تقرع قام فقال: يا رسول اللّه أنا صاحبك، لا واللّه لا أعود أبداً) «1»

و لاشكّ في أنّ هذه الرّواية تشير إلى قضيّة وردت في واقعة خاصّة كانت لها مساس ببعض نواحي حياة موسى عليه السلام، و لم تكن موضوعاً لحكم شرعي خاص، و لو كانت لم يكن الرّجوع إلى القرعة من هذه الجهة. و هذا دليل على كون القرعة طريقاً قطعيّاً لكشف الواقع المجهول، و من الواضح أنّه لايتعدّى منها إلى غيرها.

الطّائفة العاشرة: ما ورد في عمل النّبي الأعظم صلى الله عليه و آله بالقرعة في غير مورد من القضايا

الّتي حدثت في حياته ممّا كانت مظنّة للتنازع و مثاراً للبغضاء مثل:

23- ما رواه في (البحار) في قصّة عائشة، عن الزّهري، عن عروة بن الزّبير و سعيد بن المسيّب و غيرهما، عن عائشة أنّها قالت: (كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله إذا أراد سفراً أقرع

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 340

بين نسائه)، فأيّتهنّ خرج اسمها خرج بها- الحديث) «1».

و دلالتها- مع قطع النّظر عن سندها- واضحة على استمرار سيرته صلى الله عليه و آله في غزواته و أسفاره باختيار بعض نسائه بالقرعة.

24- ما رواه في (البحار) أيضاً عن إرشاد المفيد قدس سره في باب غزوة ذات الّسلاسل، من أنّه صلى الله عليه و آله أقرع بين أصحاب الصّفة- بعد ما قام جماعة منهم و قالوا نحن نخرج إليهم- فخرجت القرعة على ثمانين رجلًا منهم و من غير هم الحديث «2».

25- ما رواه هو أيضاً في باب غزوة حنين من أنّه صلى الله عليه و آله لمّا كلمته أخته الرضاعية «شيماء» بنت حليمة السّعديّة، في الغنائم الّتي أخذها المسلمون قال: «أمّا نصيبي و نصيب بني عبدالمطّلب فهو لك، و أمّا ما كان للمسلمين فاستشفعي بي عليهم، فلمّا صلّوا الظّهر قامت فتكلّمت و تكلّموا، فوهب لها النّاس أجمعون، إلّاالأقرع بن حابس، و عيينة بن حصن، فإنّهما أبيا أن يهبا، و قالوا: يا رسول اللّه، إنّ هؤلاء قد أصابوا من نسائنا، فنحن نصيب من نسائهم مثل ما أصابوا،- فأقرع رسول اللّه بينهم- إلى أن قال- فأصاب أحدهما خادماً لبني عقيل، و أصاب الأخر خادماً لبني نمير فلمّا رأيا ذلك وهبا ما منعا» «3»

و في هذا الحديث دلالة على جواز الرّجوع إلى القرعة عند قسمة الغنائم و شبهها.

هذا

تمام الكلام في «الأحاديث العامّة» الدّالة على حكم القرعة بعمومها أو إطلاقها، و «الخاصّة» الواردة في قضايا معيّنة معلومة، يستأنس منها لإثباتها إجمالًا. و قد ذكرنا منها عشر طوائف. و قد بلغ عدد الأحاديث الّتي ذكرناها سبعة و ثلاثين حديثاً، بعد حذف المكرّرات منها. و لعلّ المتتبّع يعثر على أحاديث أُخر في طي أبواب أخرى.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 341

و قد تحصّل من جميعها أنّ أصل الحكم و العمل به في هذه الشّريعة بل الشّرائع السّابقة ممّا لاشكّ فيه على إجماله و سنبحث في تفاصيله إن شاء اللّه تعالى.

الثالث: بناء العقلاء

قد جرت عادة العقلاء من جميع الأقوام من أرباب المذاهب و غيرهم على الرّجوع إلى القرعة عند التّشاح و التّنازع أو ما يكون مظنّة له، في الحقوق الدّائرة بين أفراد مختلفة، أو من الأمور الّتي لابدّ لهم من فعلها، و لها طرق متعدّدة يرغب كلّ شخص في نوع منها، و لامرجّح هناك، و يكون ابقاء الأمر بحاله مثاراً للتّنازع و ابغضاء.

ففي ذلك كلّه يتوسّلون بالقرعة، و يرونها طريقاً وحيداً لحلّ هذه المشكلات، لامحيص عنها.

و نشير هنا إلى بعض ما تداول فيه القرعة بينهم توضيحاً لهذا الكلام:

منها: قسمة الأموال المشتركة بين شخصين أو أشخاص؛ سواء حصلت من ناحية التّجارة أو الإرث أو غير ذلك، إذا لم يتراضوا بنحو خاص من القسمة، و كان هناك أموال متشاكلة في القيمة مختلفة من حيث الرّغبات؛ فإنّه لاشكّ في رجوعهم إلى القرعة في مثلها.

و هكذا في تقسيم البيوت، أو الدّور، أو القِطَع من الأرض المتشابهة، بين أشخاص متعددين، الّتي يكون إيكال الأمر إلى اختيارهم فيها مظنّة للتّشاح، و وقوع الخلف و النّزاع.

و كذلك تقسيم مياه الأنهار المشتركة بين الفلّاحين، إذا لم يكن

هناك مقياساً يرجّح به بعضهم على بعض؛ ففي كلّ ذلك يرجع إلى القرعة.

و منها: ما إذا كان هناك وظيفة خاصّة يكفي في القيام بها عدد معيّن، و كان هناك جمع كثيرون صالحون له، و كان تخصيص بعضهم بها دون بعض، تحميلًا بغير دليل و مثاراً للفتنة؛ فحينئذ يرجع إلى القرعة. و كذلك حال الموظّفين من العسكريين و

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 342

غيرهم، بالنّسبة إلى بعثهم إلى أمكنة مختلفة و غيرها، إذا لم يكن هناك معيّن أو مرجّح.

و منها: إذا كان هناك أمر يجب قيام كلّ واحد به، ولكن تدريجاً، و كان تقديم بعض و تأخير آخر بلا دليل ظلماً و إجحافاً و مسبّباً للضغائن، و لم يكن هناك طريق آخر يرجع إليه، فلا شكّ حينئذ في رجوعهم إلى القرعة.

إلى غير ذلك من أشباهه.

و بالجملة لاشكّ في اعتبار القرعة بين العقلاء إجمالًا، و رجوعهم إليها، و فصل النّزاع أو ما يمكن أن يقع النّزاع فيه بها.

و الظّاهر أنّ هذا ليس أمراً مستحدثاً في عرفنا، بل كان متداولًا بينهم منذ قديم الأيّام. و الظّاهر أنّ رجوع أهل السّفينة إليها، في تعيين من يلقى في البحر- في قضيّة يونس-، و كذلك رجوع عبّاد بني إسرائيل إليها، في أمر مريم لم يكن استناداً إلى حكم شرعي وضع في شرائعهم، بل استناداً إلى حكم عقلائي كان متداولًا بينهم من قديم الأزمنة. و هكذا الكلام في رجوع شيخ البطحاء عبدالمطلّب إليها في تعيين فداء ولده عبداللّه، حيث إنّ الظّاهر كونه أيضاً من هذا الباب.

كما أنّه لاشكّ في أنّ رجوعهم إليها ليس لكشفها عن الواقع، و إراءتها شيئاً مجهولًا لهم؛ فإنّه لاكاشفيّة فيها عندهم أصلًا، و إنّما يعتبرونها للفرار عن التّرجيح بالميول و

الأهواء، و ما يكون مثاراً للفتنة و البغضاء، لكونه ترجيحاً بلا مرجّح.

الرّابع: الإجماع

و يمكن الّتمسّك لإثبات حجّية القرعة، بالإجماع و اتّفاق العلماء عليها، في أبواب كثيرة من الفقه، يظهر لمن راجعها. و قد أشرنا إلى بعضها عند نقل أحاديث الباب و عملهم بها.

و ناهيك في ذلك ما ذكره المحقّق النرّاقي في المقام حيث قال: «أمّا الإجماع فثبوته في مشروعيّة القرعة و كونها مرجعاً للتّميز و المعرفة في الجملة ممّا لاشكّ

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 343

فيه، و لاشبهة تعتريه. كما يظهر لكلّ من تتبّع كلمات المتقدّمين و المتأخّرين في كثير من أبواب الفقه، فإنّه يراهم مجتمعين على العمل بها، و بناء الأمر عليها طرّاً». «1»

و قال المحقّق الآشتياني في كلام له فى المقام: «أمّا أصل مشروعيّة القرعة فهو ممّا لاخلاف فيه بين المسلمين، بل إجماعهم عليه، بحيث لايرتاب فيه ذو مسكة. و يكفي في القطع بتحقّق الإجماع ملاحظة الإجماعات المتواترة المنقولة في ذلك من زمان الشيخين إلى زماننا هذا، كما هو واضح لمن راجع كلماتهم، بل يمكن دعوى الضّرورة الفقهائيّة عليه» «2»

هذا ولكن يمكن الإيراد على جعل الإجماع دليلًا مستقلًّا في المسألة، بناء على ما هو المعروف بين المتأخّرين من اعتبار الإجماع من جهة الكشف عن قول المعصوم عليه السلام، فإنّ الظّاهر أنَّ مستند المجمعين كلّهم أو جلّهم هو الأدلّة الثّلاثة السّابقة، و لاسيّما الأخبار الّتي هي عمدة أدلّة المسألة. و لااقلّ من احتمال ذلك، و معه لايستفاد من الإجماع أزيد ممّا استفيد منها.

هذا تمام الكلام في الأدلّة الّتي أقاموها أو يمكن إقامتها لإثبات هذه القاعدة، و قد عرفت أنّ مجموعها كافٍ في إثباتها و تحكيم أساسها، فلنرجع إلى بيان مفادها، و ما يستفاد منها عموماً

أو خصوصاً، و حدودها و شرائطها.

المقام الثّاني: في مفاد القاعدة و حدودها

لقد تحصّل من جميع ما ذكرنا من الأدلّة أنّ مشروعيّة القرعة على إجمالها ممّا لاشكّ فيها، و إنّما الكلام في أمور:

1- هل هي عامّة لكلّ أمر مشكل؟- و ما المراد من المشكل؟- أو خاصّة ببعض الأبواب؟ و أنّها هل تختصّ بأبواب المنازعات و تزاحم الحقوقُ أو تجري في غيرها

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 344

أيضاً.

2- أنّه هل يشترط فى العمل بها في كلّ مورد عمل الأصحاب بها فيه- كما قيل- أو لا؟

3- أنّها من الأمارات، أو من الأصول العمليّة، أو فيها تفصيل؟

4- نسبتها مع غيرها من الأمارات و الأصول.

فنقول- و من اللّه سبحانه نستمد التّوفيق و الهداية-:

أمّا الأوّل: فالحقّ أنّه ليس في عناوين الأدلّة من عنوان: «المشكل» عين و لاأثر، و إنّما المذكور فيها عنوان: «كلّ مجهول». كما في رواية محمد بن حكيم عن أبي الحسن موسى عليه السلام، و كما في مرسلة الشّيخ في (النّهاية) عنه عليه السلام و عن غيره من آبائه و أبنائه عليهم السلام.

و قد قال المحقّق النّراقي قدس سره بأنّ الرّواية الأولى قد حُكي الإجماع على ثبوتها و على روايتها. «1»

و قد ورد في مرسلة (فقه الرّضا)- بناءاً على كونها رواية عن المعصوم-: (و كلّ ما لايتهيّأ فيه الإشهاد عليه).

و الظّاهر أنّ المراد بالمجهول هو المجهول المطلق، أعني: ما لا طريق إلى معرفة حاله لا من الأدلّة القطعيّة و لا الظنّية، و لا من الأصول العمليّة؛ بأن لايكون مجراها، أو كان ولكن كان في العمل بها فيه محذور، كما في مورد الغنم الموطؤة المشتبهة في قطيع غنم؛ فإنّ الأصل العملي فيها و إن كان هو الإحتياط بالاجتناب عن الجميع إلّاأنّه مستلزم للعسر و الحرج و الضّرر

الكثير فألغاه الشّارع، فصار مجهولًا مطلقاً، فأمر بالرّجوع فيها إلى القرعة.

و على هذا كلّ ما كان حاله معلوماً بأحد الطّرق و الموازين الشّرعيّة، قطعيّة كانت أو ظنّية، أمارة كانت أو أصلًا، لم يكن داخلًا تحت عنوان «المجهول» الوارد في أخبار

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 345

الباب.

و يؤيّد ذلك جداً أنّ مجرى القرعة عند العقلاء أيضاً ما لايمكن حلّه بشي ء من الطّرق و الأصول الدّائرة بينهم، بحيث كان ترجيح بعض الاحتمالات على بعض من قبيل التّرجيح بلا مرجح. و قد عرفت أنّ الشّارع المقدّس قد أمضى طريقتهم، و إن أضاف إليها بعض ما سيأتي الإشارة إليه إن شاء اللّه.

ثمّ انّه، لا إشكال و لا كلام في اختصاص القاعدة بالشّبهات الموضوعيّة، و عدم جريانها عند الشّكّ في الأحكام الكلّية الشّرعيّة؛ لاختصاصها عند العقلاء و العرف بها.

كما أنّه ليس في شى ء من الموارد الخاصّة الّتي ورد في الشّرع إجراء القرعة فيها غير الشّبهات الموضوعيّة كما عرفت.

نعم، الظّاهر من قضيّة عبدالمطلّب و استكشاف مقدار فداء ولده بالقرعة، جريانها في الشّبهات الحكميّة أحياناً، ولكن لابدّ من توجيهها بما ذكرناه عند نقل روايات الباب عند ذكر هذا الحديث، أو بغيره.

ثمّ، انّ الظّاهر أنّها لا تختصّ بأبواب المنازعات و تنازع الحقوق، و إن كان أكثر مواردها من هذ القبيل؛ حتّى ظنّ بعضهم أنّها من مدارك القضاء الشّرعي لا غير، و أنّه لايعتمد على القرعة في غيره؛ و ذلك لما رآه من ورود جلّ رواياتها في هذا الباب.

ولكن الإنصاف أنّ هذا القول ضعيف جدّاً و مثله في الضّعف ما حكاه في (القواعد) عن بعض العامّة أنّ مورد القرعة هو خصوص ما يجوز التّراضي عليه-؛ لأنّه يرد عليه:

أوّلًا؛ أنّ فيها ما لا ربط له بباب التّنازع

و القضاء. و ذلك مثل ما نقلنا في الطّائفة السّابعة من الأخبار الخاصّة الواردة في اشتباه «الشّاة الموطؤة و أنّها إذا اشتبهت استخرجت بالقرعة.

و قد عرفت أنّ الأصحاب عملوا بها حتّى قال في (الجواهر): «إنّه لاخلاف في هذا الحكم؛ للخبرين المنجبرين».

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 346

و من الواضح أنّ مسألة اشتباه الشّاة الموطوءة بغيرها ليست من أبواب المنازعات المحتاجة إلى القضاء الشّرعي، بل هي من الأمور المجهولة المطلقة. و قد عرفت أنّ إجراء القرعة فيها، و جعلها من الأمور المشكلة- بحسب القوم-، مع أنّ الحكم في أمثالها من الشّبهات المحصورة هو الاحتياط، و لا فرق ظاهراً بين الشبهة في المقام و بين غيرها من الشّبهات المحصورة الّتي نحكم فيها بالاحتياط بمقتضى العقل و النّقل، لعلّه من جهة أنّ الاحتياط بذبح جميع الشّياة الواقعة في أطراف الشّبهة ضررٌ أو حرجٌ عظيم على صاحبها، و ارتكاب الجميع و عدم الإحتياط في شي ء منها مخالف للعلم الإجمالي.

فإذا انتفى طريق الإحتياط و البراءة، و كذا الاستصحاب- كما هو ظاهر-، إنحصر الطّريق في التّخيير. ولكن الشّارع المقدّس ألغى التّخيير هنا؛ لأنّ القرعة و إن لم تكن أمارة على نحو سائر الأمارات الشّرعيّة و العقلائيّة، إلا أنّ فيها نوعاً من الكاشفيّة- كما يظهر من أخبارها و سيأتي شرحه إن شاء اللّه-. و هي توجب ترجيح أحد الطّرفين على الأخر، فتكون مانعاً عن التّخيير. مضافاً إلى ما فيها من رفع الحيرة و سكون النّفس، ممّا ليس في الحكم بالتّخيير كما لايخفى.

أمّا القول بجريانها في المقام تعبّداً، و اختصاصها بمسألة الشّاة الموطوءة، و عدم جريانها في غيرها من أشباهها من الأمور المشكلة، فهو كماترى؛ لعدم خصوصيّة فيه.

ثانياً: إنّ الرّوايات الخاصّة الواردة في غير واحد

من الأبواب، و إن كانت واردة في موارد تزاحم الحقوق، إلا أنّه ليس فيها من التّنازع عين و لا أثر. مثل ما ورد فيمن قال: أوّل مملوك أملكه فهو حرّ، فورث سبعة، قال: يقرع بينهم و يعتق الّذي قرع). «1»

فإنّ إطلاقها يشمل ما إذا لم يطّلع العبيد على نذره، و لم يقع التّشاح بينهم أبداً.

بل لعلّها ظاهرة في خصوص هذا الفرض، فأراد السّائل استكشاف حكمه فيما بينه و

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 347

بين اللّه. و مثلها غيرها.

و كذا ما ورد في باب الوصية بعتق بعض المماليك، و أنّه يستخرج بالقرعة «1». فإنّ إطلاقها أيضاً يشمل ما إذا لم يقع التنازع بينهم أصلًا، لولم نقل بظهورها في ذلك؛ فيكون السؤال لاستكشاف الحكم الشّرعي للمسألة، لاحكمه في مقام القضاء.

فهذه الرّوايات و شبهها و إن كانت واردة في أبواب تزاحم الحقوق المحتملة، إلا أنّ مجرّد وقوع التّزاحم في شى ء لايلازم التّنازع و التّشاح فيه، حتّى يحتاج إلى القضاء، و ليس دائماً مظنّة له. فهي أيضاً دليل على عدم اختصاص القرعة بأبواب القضاء.

لاسيّما و أنَّ مورد هذه الطّائفة من الرّوايات هو ممّا لا واقع له مجهول، بل هناك حقّ متساوي النّسبة إلى الجميع، و لايمكن إعطاؤه ألا واحداً منهم. ولكن لمّا كان إيكال الأمر إلى التّخيير مظنّة للإجحاف، و ترجيحاً بلا مرجّح، أو ترجيحاً بالميول و الأهواء أوكل الأمر فيها إلى القرعة الّتي لايكون فيها شي ء من ذلك.

ثالثاً: إطلاق بعض الأخبار العامّة غير الواردة في أبواب التّنازع أيضاً دليل على عدم اختصاص القرعة بباب القضاء، مثل قوله: (كلّ مجهول ففيه القرعة). فإنّ ظاهره يشمل المجهولات كلّها، وقع فيها التّشاح أم لا. بل الرّوايات العامّة الّتي وقعت عقب السّؤال عن بعض

مسائل التّنازع أيضاً ظاهرة في ذلك؛ فإنّ المورد لايكون مخصصّاً، فتدبّر.

رابعاً: الظّاهر أنَّ بناء العقلاء عليها أيضاً لايختصّ بأبواب المنازعات، بل يعتمدون عليها في مطلق تزاحم الحقوق، و إن لم يكن مظنّة للتّنازع، فتأمّل.

و بالجملة القول باختصاص هذه القاعدة بها مع أنّه مخالف لظواهر كلّمات الأصحاب و إطلاقات روايات الباب، بل صريح بعضها، لادليل عليه يعتّد به كما عرفت.

المقام الثّالث: في شرائط جريانها
اشارة

قد يقال إنّ عمومات القرعة لايجوز العمل بها إلّافيما عمل به الأصحاب. قال

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 348

المحدّث الخبير الشّيخ الحرّ قدس سره في (الفصول المهمّة) على ما حُكي عنه، بعد نقل بعض روايات القرعة و عموماتها: «و معلوم أنّ هذا العموم له مخصّصات كثيرة».

و زاد بعضهم أنّه لو لم يكن كذلك لجاز لنا ترجيح الحكم في المسائل الشّرعيّة بالقرعة، و قال العلّامة الأنصاري قدس سره: «إنّ أدلّة القرعة لايعمل بها بدون جبر عمومها بعمل الأصحاب، أو جماعة منهم».

و كأن الوجه فيه أنّه لايمكن العمل بظاهر عموماتها في كلّ مجهول، حتّى مع وجود أمارات أو أصول عمليّة، من البراءة و الإستصحاب و غيرهما، فإنه لم يقل به أحد. فلا بدّ من تخصيصها بإخراج جميع هذه الموارد منها.

و إن شئت قلت؛ إنّها مخصّصة بتخصيصات كثيرة بلغت حدّ تخصيص الأكثر، مع أنّ التّخصيص كذلك أمر مستهجن غير جائز. فهذا يكشف عن وجود قرينة أو مخصّص متّصل معها وصل إلى أصحابنا الأقدمين و لم يصل إلينا، و لمّا كان عنوان المخصّص مبهماً عندنا و القرينة مجهولة لنا لم يجز العمل بعموماتها؛ لأنّ إبهامها يسري إليها- كما ذكر في محلّه-، فحينئذ لايجوز العمل بها إلّافيما عمل الأصحاب به.

و يردّ عليه:

أوّلًا: إنّ احتمال وجود قرائن عندهم غير ما بأيدينا و غير

ما أودعوه في كتبهم، ممّا يرشدهم إلى مغزى هذه العمومات، ضعيف جدّاً، و لو كان كذلك فلماذا أهملوا ذكرها في كتبهم المعدة للرّواية؟ و لماذا لم يستندوا إليها في كتبهم الفقهيّة الإستدلاليّة، بل استندوا إلى نفس هذه الرّوايات الّتي بأيدينا؟ و هل هذا إلّاأغراء بالجهل في موردٍ يجب الإهتمام به؟ فحاشاهم ثمّ حاشاهم.

ثانياً: قد عرفت سابقاً أنّ المراد من «المجهول» الوارد في عمومات الباب، بقرينة شأن ورود رواياتها، و ما ثبت عند العقلاء في أمر القرعة، ليس كلّ مشكوك، بل ما ليس طريق إلى إثباته، لا من الأمارات الشّرعيّة و العقلائيّة، و لا من الأصول العمليّة العقليّة و النّقليّة؛ فحينئذ لايرد عليها تخصيصات كثيرة، كما هو ظاهر.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 349

و كأنَّ منشأ توهّم كثرة التّخصيص هو ما يظهر من عنوان «المجهول» بادى ء الأمر، ولكن بعدما عرفت هنا و فيما سبق في تحقيق المراد منه، لايبقى وجه لهذا التّوهّم، فراجع و تدبّر.

و الحاصل أنّ موارد وجود الأمارات و الأصول العمليّة، خارجة عن تحت عمومات القرعة بالتّخصّص لا بالتّخصيص؛ فإنّها ليست من الجهول بما عرفت له من المعنى.

هل القرعة من الأمارات أو الأصول العمليّة؟

ظاهر كثير من رواياتها أنّها من الأمارات، بل يظهر من بعضها أنّها أمارة قطعيّة في مواردها لاتخطى ء عن الواقع المجهول أبداً، مثل ما روي عنه صلى الله عليه و آله: (ليس من قوم تقارعوا ثمّ فوضوا أمرهم إلى اللّه إلّاخرج سهم المحقّ) «1».

و ما روي في مناظرة الطيّار و زرارة، الدّال على أنّ القرعة على طبق رأى زرارة- فقيه أهل البيت عليه السلام- كانت كاشفة عن الواقع كشفاً دائماً لايقع التّخلّف فيه، و لذا لو احتمل كذب المتداعيين جميعاً لابدّ من إلقاء سهم لهذا و سهم لذاك و

سهم مبيح «2»

و الظّاهر أنَّ تفويض الأمر إلى اللّه و الدّعاء عندها أيضاً لايكون إلّالكشف الواقع المجهول.

و يؤيّده ما ورد في قضيّة شيخ البطحاء عبدالمطلّب و قرعته لكشف مرضاة ربّه بالفداء عن عبداللّه «3».

و ما ورد في تفسير العيّاشي، في حديث يونس من قوله: «فجرت السنّة أنّ السّهام إذا كانت ثلاث مرّات لاتخطى ء» «4»

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 350

و ما روي عن أميرالمؤمنين عليه السلام: ما من قوم فوّضوا أمرهم إلى اللّه عزّوجلّ، و ألقوا سهامهم إلّاخرج السهم الأصوب) «1»

هذا ولكن يظهر من بعض أخبارها أنّ حجّيتها ليست بملاك كشفها عن الواقع المجهول، بل بملاك أنّها أقرب إلى العدالة، و أبعد من العمل بالميول و الأهواء في موارد جريانها، مثل ما ورد في رواية ابن مسكان عن الصّادق عليه السلام: (و أيّ قضيّة أعدل من قضيّة يجال عليها بالسّهام، يقول اللّه: «فَسَاهَمَ فَكَانَ مِن المُدحَضِينَ» «2».

و يؤيّد هذا استشهاده بقضيّة يونس، بناءاً على كفاية إلقاء واحد غير معيّن منهم عند الحوت لدفع شرّه؛ فتأمّل.

و يؤيّده أيضاً ما ورد في غير واحد من أخبارها من قوله: (كل ما حكم اللّه فليس بمخطى ء) في مقام الجواب عن قول السّائل: (إنّ القرعة تخطى ء و تصيب)، بناءاً على أنّ المراد منه عدم الخطأ في الحكم بحجّية القرعة، و أنّه إذا حكم اللّه سبحانه بشي ء ففيه مصلحة لامحالة، فخطأ القرعة عن الواقع أحياناً لايمنع عن صحّة هذا الحكم و إشتماله على المصلحة، و أمّا لو قلنا: إنّ المراد منه عدم خطأ القرعة عن الواقع المجهول، كان دليلًا آخر على كونها أمارة قطعية.

هذا و يمكن أن يقال لامنافاة بين الملاكين، و لامانع من كون حجّيتها بكليّهما:

ملاك الإصابة و ملاك العدالة. و أمّا

حمل الأوّل على ما له واقع ثابت مجهول، و الّثاني على ما ليس كذلك، فيدفعه الاستشهاد بملاك العدالة في ذيل مسألة الخنثى المشكل و كيفيّة ميراثه. «3» بناءاً على عدم خروج الخنثى عن الجنسين في الواقع كما هو المشهور.

و الإنصاف، أنّه لايمكن رفع اليد عن تلك الرّوايات الكثيرة الظّاهرة في كونها أمارة على الواقع، إمّا دائماً أو غالباً و لا مانع منه عقلًا إذا انحصر الطّريق فيها و فوّض الأمر إلى اللّه تبارك و تعالى، العالم بخفيّات الأمور اللّطيف بعباده.

و لقد جربنا هذا الأمر في باب الاستخارة- الّتي هي من القرعة على ما اختاره

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 351

بعضهم و ستأتي الإشارة إليه إن شاء اللّه في آخر المسألة- و رأينا منها عجائب جمّة في إصابة الواقع و كشف المجهول، إذا استعملت في محلّها، و فوّض الأمر إلى اللّه، و قرنت بالإخلاص و الابتهال.

ثمّ اعلم، أنّ كون القرعة أمارة على الواقع و كاشفاً عنه دائماً أو غالباً لايوجب تقدّمها على «الاصول العمليّة، و لا معارضتها لسائر الأمارات؛ و ذلك لما عرفت من أنّ أماريتها إنّما هي فرض خاص و منحصر بالأمور المجهولة المشكلة الّتي لاطريق إلى حلّها لا من الأمارات و لا من الأصول العمليّة.

و بعبارة أخرى: موضوعها مختصّ بموارد فقد الأدلّة و الأصول الأُخر، و عليه فلاتعارض شيئاً منها و لا تقدّم عليها، بل إنّما تجري في موارد فقدها.

ثمّ إنّ من المعلوم أنّ الكلام في أماريتها و عدمها إنّما هو في خصوص ما له واقع ثابت مجهول، و أمّا ما ليس كذلك من موارد تزاحم الحقوق أو المنازعات الّتي يرجع فيها إلى القرعة، كما في قضيّة زكريّا و تشاح أحبار بني إسرائيل في كفالة

مريم، و كما في قضيّة يونس- على احتمالٍ مضى ذكره- و كذلك فيمن نذر أو أوصى بعتق أوّل مملوك له فملك سبعة في زمان واحد، و أشباهها، فلا موقع لهذا النّزاع فيها، كما هو ظاهر.

فالرّجوع إليها حينئذ إنّما يكون بملاك أقربيتها إلى العدالة و أبعديتها عن التّرجيح بلا مرجح الّذي يكون منشأ للتّشاح و البغضاء غالباً.

هل تختصّ القرعة بالإمام أو نائبه؟

بقي هنا شي ء، و هو أن إجراء القرعة هل يجوز لكلّ أحد، أو يختصّ بحكام الشرع، أو خصوص الإمام عليه السلام؟

أما الأخير فالظّاهر أنّه لايقول به أحد؛ فإنّ لازمه تعطيل القرعة بتّاً عند عدم حضوره عليه السلام، و كلمات الأصحاب متفقة على خلافه، فهم يعتمدون عليها في كثير من

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 352

المسائل الفقهيّة، و كتبهم مشحونة بذلك.

و أمّا الثّاني فقد ذهب إليه بعضهم كالمحقّق النّراقي قدس سره في عوائده، فقال بإختصاصها به عليه السلام أو بنائبه الخاصّ أو العام؛ لعموم أدلّة النّيابة عنه عليه السلام، إلّاأنّه قال: (و يستثنى منه ما خرج بالدّليل، كمسألة الشّاة الموطوئة).

و فصّل المحدّث الكاشاني قدس سره فيما حكي عنه من كتابه (الوافي) بين ما كان له واقع ثابت مجهول فيختصّ بالإمام عليه السلام، و ما ليس كذلك فهو عام.

و ما أفاده مع أنّه لادليل عليه مخالفٌ أيضاً لكلمات الأصحاب و فتاواهم؛ لأنا نراهم معتمدين عليها عند عدم حضوره عليه السلام فيما له واقع مجهول و ما ليس له على حد سواء.

هذا بحسب الأقوال.

و أمّا الرّوايات الواردة في القرعة فالسنتها مختلفة؛ يظهر من بعضها اختصاصها بالإمام عليه السلام، مثل رواية ثعلبة عن أبي عبداللّه عليه السلام، قال: (سئل عن مولود ليس بذكر و لاأنثى ليس له إلّادبر كيف يورّث؟ قال: يجلس الإمام و

يجلس عنده ناس من المسلمين، فيدعون اللّه، و يجال السّهام عليه، أيّ ميراث يورثه أميراث الذّكر أو ميراث الأنثى؟ فأيّ ذلك خرج عليه ورّثه. الحديث). «1»

و ما في مرسلة حماد عن أحدهما عليه السلام: (القرعة لاتكون إلّاللإمام) «2».

و ما في رواية يونس قال: (في رجل كان له عدّة مماليك فقال أيّكم علّمني آية من كتاب اللّه فهو حرّ، فعلمه واحد منهم؛ ثمّ مات المولى و لم يدر أيّهم الّذي علمه؟

قال: يستخرج بالقرعة؟ قال: لايستخرجه إلّاالإمام؛ لأنّ له على القرعة كلاماً و دعاءاً لا يعلمه غيره) «3».

و ظاهر هذه الرّوايات لاسيّما الاخيرتين إخصاصها بالإمام عليه السلام.

و يظهر من بعضها الأخر كونها من وظائف اللوالي، مثل ما في مصحّحة معاوية بن

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 353

عمّار عن أبي عبداللّه عليه السلام قال إذا وطأ رجلان أو ثلاثة جاريّة في طهر واحد، فولدت، فأدعوه جميعاً، أقرع الوالي بينهم، فمن قرع كان الولد ولده. الحديث «1»

و يظهر من طائفة ثالثة منها أنَّ أمرها بيد الإمام أو المقرع أيّ شخص كان-، مثل ما رواه الفضيل قال: (سألت أباعبداللّه عليه السلام عن مولود ليس له ما للرّجال و لا له ما للنّساء؟ قال: يقرع الإمام أو المقرع، يكتب على سهم عبداللّه و على سهم أمة اللّه، ثمّ يقول الإمام أو المقرع: الّلهمّ ... الحديث «2».

و كثير منها مطلقة لاتختصّ بالإمام أو غيره، أو وقع التّصريح فيها بعنوان «القوم»؛ كما يظهر لمن راجع الأحاديث السّابقة.

و ظاهر روايات الشّاة الموطوءة أنَّ المقرع هو صاحب الشياة قال: (إنّ عرفها ذبحها و أحرقها، و إن لم يعرفها قسّمها نصفين الحديث) «3».

و الإنصاف أنّ اختلاف هذه التعابير لايدلّ على اختلاف في الحكم؛ فإنّ غالب موارد جريانها

هو موارد التّنازع المحتاجة إلى القضاء الشّرعي، و من المعلوم أنّ أمرها حينئذ إلى الإمام عليه السلام، أو من هو منصوب من قبله عموماً أو خصوصاً، من الوالي و القاضي، من العلماء العدول و رواة أحاديثهم. فالقرعة في هذه المقامات تكون كإقامة البيّنة، و الإحلاف، لاتعتبر إلّاعند من بيده أمر القضاء.

و أمّا في غير هذه المقامات فظاهر إطلاقات الأدلّة أنّ أمرها بيد مالك البهيمة في مثل الشّاة الموطوءة، أو من هو منصوب من قبله؛ أو بيدالوصي فيما إذا كان الشكّ في أموال الموصي؛ أو كلّ مكلّف لو لم يختصّ الأمر بشخص خاص. ولكن لايبعد أن يكون هذا القسم الأخير داخلًا في الحسبة، و يكون أمرها أيضاً بيد الحاكم لو كان، و إلّافبيد عدول المؤمنين.

هذا ما تقتضيه قواعد القوم.

و الظّاهر أنّه لايستفاد من روايات الباب ما ينافي ذلك، فإنّ قوله: (القرعة لاتكون

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 354

إلّا للإمام) في مرسلة حماد، مع ضعفها بالإرسال، قابل للحمل على موارد الدّعاوى و التّنازع الّتي يكون أمرها بيد الإمام أو من نصبه، خصوصاً أو عموماً، فتأمّل.

و أمّا رواية يونس الحاصرة لمستخرج القرعة بالإمام، (لأنّ له كلاماً و دعاءاً لايعلمه غيره)، ففيها ما هو شاذٌ جداً؛ لعدم دليل يعتد به على لزوم الدّعاء عندها، و إطلاق جلّ الرّوايات خالية عنها. مع أنّه لم ينقل عن الفقهاء قول بوجوب الدّعاء. و قد صرّح المحقّق النّراقي في (العوائد) باستحباب الدّعاء من دون نقل خلاف؛ فلا بدّ من حمل الرّواية على ضرب من النّدب و الفضيلة.

هذا مع أنّه لم يعهد من رواياتها دعاء لايعلمه غيره، بل المذكور فيها دعاء مأثور في رواية «فضيل بن يسار»، يقرأه الإمام أو المقرع كما صرّح به فيها.

و

الحاصل أنّ رواية يونس مع مخالفتها لصريح أو إطلاق جميع روايات الباب لايمكن الاعتماد على ظاهرها من وجوه شتّى.

و أما ما دلّ على كونها من وظائف الوالي، فموردها من الدّعاوى الّتي أمرها بيده، فلايمكن رفع اليد عن مقتضى القواعد الأوّلية بها في غير هذه الموارد.

المقام الرّابع: كيفيّة إجراء القرعة

قد عرفت أنّ القرعة كانت متداولة بين العقلاء من قديم الزّمان، و لم تكن مقيّدة بكيفيّة خاصّة عندهم.

بل كان كيفيّتها جعل علامات لكلّ واحد من أطرف الدّعوى، أو ذوي الحقوق المتزاحمة أو غيرها، ممّا كان طرفاً للإحتمال، ثمّ الرّجوع إلى ما يخرج صدفة من بينها، بحيث لايحتمل فيه إعمال نظر خاص. بل كان استخراج واحد معيّن من بين أطراف الإحتمال مستنداً إلى مجرّد الصدفة و الإتّفاق، كي يكون حاسماً للنّزاع و التّشاح.

و من الواضح أنّ هذا المقصود يؤدّى بكيفيّات عديدة لاتحصى؛ فلا فرق فيها عندهم بين «الرقاع» و «السّهام» و «الحصى» و غيرها، و لاخصوصيّة في شي منها بعد

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 355

اشتراكها جمعيّاً في أداء ذاك المقصود.

و من هنا اختلفت عادة الأقوام في اقتراعاتهم، فكلٌ يختار نوعاً أو أنواعاً منها، من غير أن يكون نافياً للطرق الأخرى. ولكن الكتابة و الرّقاع أكثر تداولًا اليوم؛ لسهولتها و إمكان الوصول إليها في جلّ موارد الحاجة، مع بعدها عن احتمال إعمال الميول و الأهواء الخاصّة.

و قد تستخرج الرقاع بيد صبي، أو بواسطة ماكينة خاصة؛ ليكون أبعد من سوء الظنّ و أقرب إلى العدالة في استخراجها.

هذا ما عند العقلاء.

و أما الرّوايات الواردة في هذه القاعدة فهي مختلفة، أكثرها مطلقة خالية عن تعيين كيفيّة خاصّة للإقتراع. و هي دليل على إيكال الأمر إلى ما كان متداولًا بين العقلاء و أهل العرف، و إمضاء طريقتهم

في ذلك.

ولكن ورد في غير واحد منها طرق خاصّة للقرعة من دون نصّ على حصرها فيه- على الظّاهر-.

منها: الإقتراع بالسّهام. كما في الرّواية الحادية عشرة من الرّوايات الخاصّة الّتي ذكرناها عند بيان مدركها من السنّة، الواردة في باب ميراث الخنثى قال: (يكتب على سهم عبداللّه)، و على سهم أمة اللّه،- إلى أن قال:- ثمّ تطرح السّهام في سهام مبهمة، ثمّ تجال السّهام، على ما خرج ورث عليه) «1».

و قد ورد في غيرها التّعبير بالسّهم أيضاً. و كأنَّ هذا النّحو كان أكثر تداولًا في تلك الأيّام.

و منها: الإقتراع بالخواتيم. كما ورد في أبواب قضايا أميرالمؤمنين عليه السلام في قضيّة شاب خرج أبوه مع جماعة في سفر فرجعوا و لم يرجع أبوه، و شهدوا جيمعاً بموته، و لم يقبل الشّاب ذلك فشكى إلى أميرالمؤمنين عليه السلام فقضى بينهم بطريق بديع عجيب

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 356

أثبت فيه كذبهم؛ فاعترفوا بقتلهم إيّاه. و في ذيله أنّ الفتى و القوم إختلفوا في مال المقتول كم كان، فأخذ أميرالمؤمنين عليه السلام خاتمه و جميع خواتيم من عنده، ثمّ قال:

أجيلوا هذه السّهام، فأيّكم أخرج خاتمي، فهو صادق في دعواه؛ لأنّه سهم اللّه عزّوجلّ، و هو لايخيب.»

و يظهر منه إطلاق السّهم على الخواتيم، و كل ما يعيّن به حق أحد طرفي الدّعوى.

هذا ولكن هل يمكن الإعتماد على الحكم المذكور فيها من حيث أنّ المدّعي لزيادة المال مدّع، و المدّعي للنقصان منكر، فلابدّ من إجراء القواعد المعهودة في باب القضاء للمدّعي و المنكر، أو لابدّ من العمل بهذا الحكم في خصوص مورده، أو أنّ مثل هذا النّحو من القضاء يختصّ بالإمام عليه السلام؟ و تمام الكلام فيه في محلّه.

و منها: الإقتراع بالكتابة على

الرّقاع. كما روي أنّه صلى الله عليه و آله أقرع بالكتابة على الرّقاع «2».

و منها: الإقتراع بالبعرة و النّوى. كما روي أنّه صلى الله عليه و آله أقرع في بعض الغنائم بالبعرة، و أنّه أقرع مرّة أخرى بالنّوى. «3»

و منها: الإقتراع بالأقلام. كما ورد في قضيّة زكريّا، و قد مرّ معناه.

و ليس في شي ء من ذلك تصريح بانحصار الطّريق فيه. فمن هنا يعلم أنّ الشّارع أمضى ما لدى العرف و العقلاء؛ لعدم خصوصيّة في شئ من طرقها.

و أمّا الدّعاء بالمأثور الوارد في بعض أحاديث الباب، أو مطلق الدّعاء كما يظهر من بعضها الآخر، فقد عرفت أنّه لادليل على وجوبه، بعد خلوّ جلّ الرّوايات و كلمات الأصحاب عنه. ولكن لاينبغي الرّيب في رجحانه.

هذا ولكن في رجحانه عند عدم ثبوت واقع مجهول في موارد القرعة، يراد استخراجه بها، تأمّلًا و إشكالًا؛ نظراً إلى أنّ قوله: (اللّهمّ ربّ السّموات السّبع، أيّهم

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 357

كان الحقّ له فأدّه إليه) الوارد في رواية «البصري» في باب تعارض البيّنتين المتساويتين؛ أو قوله: (الّلهمّ أنت اللّه لا إله إلّاأنت، عالم الغيب و الشّهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، فبيّن لنا أمر هذا المولود) الوارد في رواية «الفضيل» في باب ميراث الخنثى؛ ظاهر في اختصاص الدّعاء بما إذا كان له واقع مجهول، فيسأل اللّه تعالى إخراج الحقّ بالقرعة. اللّهمّ إلّاأن يقال: إنّه ليس دائماً بقصد الإنشاء، بل بعنوان التّأسّي، ولكنّه بعيد.

المقام الخامس: هل القرعة واجبة في مواردها أو جائزة؟
اشارة

قد وقع البحث في أنّ إجرائها في مواردها واجب أو جائز؟ و بعبارة أخرى: هل هي رخصة أو عزيمة، أو تختلف باختلاف المقامات؟ و على تقدير الجواز، فهل يجب العمل بها بعد إجرائها أو لا؟ فهنا مقامان:

أمّا

المقام الأوّل: فلم أظفر على كلام صريح للقوم فيه عدا ما أفاده العلّامة النّراقي قدس سره في (العوائد)، فقد ذكر في كلام طويل له هناك تفصيلًا حاصله:

أنّ موارد القرعة مختلفة؛

فتارة؛ تجب بمقتضى الأمر الوارد في أحاديثها، كما في الشّاة الموطوءة،

و أخرى؛ تجب تعييناً لتوقّف الواجب- و هو تعيين الحقّ- عليها. و ذلك فيما إذا كان له واقع معيّن وجب الوصول إليه، إمّا لرفع التّنازع، كما في الولد المتداعى فيه أو شبه ذلك، و لم يكن هناك طريق آخر للتّعيين؛ أو فيما إذا لم يكن له واقع ثابت، و لم يكن هناك دليل على التّخيير؛ كما إذا أوصى بعتق أربع رقبات من عشرين رقبة مثلًا، و لم يكن هناك دليل على تخيير، فإنّه الوصي أيضاً يجب الرّجوع فيه إلى القرعة.

و ثالثة، تجب تخييراً بينها و بين الرّجوع إلى التّخيير، كالمسألة السّابقة- أعني مسألة الوصيّة- إذا كان هناك إطلاق في كلام الموصي يدلّ على تخيير الوصي في ذلك؛ و كما في تعيين حقّ القسم للزّوجات إذا لم يكن هناك مرجّح.

و رابعة، ما لاتجب لاتعييناً و لاتخييراً. و ذلك فيما لايجب التّعيين فيه، كتقديم أحد المتعلّمين في علم مستحب، أو تقديم إحدى الزّوجتين المتمتّع بهما في اللّيلة

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 358

إنتهي مخلصاً.

أقول؛ يردّ عليه:

أوّلًا: إنّ حمل الأمر في القسم الأوّل- أعني مسئلة الشّاة الموطوءة- على الأمر المولوي الوجوبي غير معلوم، بل الأظهر أنّه إرشادي للتخلّص عن الشّاة المحرّمة، و عن الاحتياط اللازم في أطراف الشّبهة المحصورة. فلو كان هناك آثار لاتترتّب على حليّة لحمها، و أراد الإنتفاع بها فقط، لم يبعد الحكم بعدم وجوب إجراء القرعة فيها و كذلك إذا أراد الإنتفاع بلحمها برهة طويلة من الزّمان، فإنّ

وجوب إجراء القرعة فيها فعلًا غير معلوم، فتأمّل.

و ثانياً: إذا لم ينحصر الطّريق في القرعة، بل أمكن الرّجوع إلى «التّخيير»- كما في مثال الوصيّة المطلقة-، فلا بدّ من الرّجوع إليه فقط، و لا دليل على مشروعيّة القرعة هناك. و كذا فيما إذا لم يكن هناك أمر يجب تعيينه، كما في مثال المتعة أو المتعلّمين لعلم غير واجب؛ و ذلك لعدم دلالة أدلّتها على مشروعيّتها في هذه الموارد.

و الحاصل، أنّ المستفاد من أدلّتها، مشروعيّتها فيما إذا كان هناك أمر لازم التّعيين- سواء كان له واقع ثابت مجهول أم لا-، و لم يكن طريق آخر للتّعيين. و أمّا في غيره ممّا ليس هناك أمر لازم التّعيين فالقرعة كالعدم، بمعنى أنّ الأخذ بمقتضى القرعة فيها، و العمل بها، إنّما هو من باب أنّه أحد الأطراف المخيّر فيها، لا من باب أنّه استخرج بالقرعة.

إن قلت: إنّ ظاهر إطلاق أدلّة مشروعيّتها في كلّ مجهول جواز الرّجوع إليها حتّى في موارد لايجب التّعيين فيها.

قلنا: قد عرفت أنّ المجهول في أخبار الباب- كما تشهد به قرائن كثيرة- هو الأمر المشكل الّذي لاطريق إلى تعيينه مع لزوم تعيينه.

و أمّا المقام الثّاني: و هو أنّه هل يجب العمل بها بعد إجرائها، أو يجوز العدول عنها إلى غيرها، و فحاصل القول فيه أنّه لا إشكال في وجوب العمل بما يستخرج بالقرعة

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 359

في موارد يجب إجرائها؛ فإنّ وجوبَ إجرائها مقدّمةٌ لوجوب العمل بها، من غير فرق بين ما له واقع ثابت أو غيره، و إن كان في الأوّل أظهر؛ نظراً إلى أنّ ما يستخرج منها هو الحقّ كما ورد في روايات الباب.

فإذا أجريت في تعيين ميراث الخنثى مثلًا، فوقعت على سهم الذّكر أو

الأنثى؛ أو أجريت في تعيين من يجب عتقه من بين العبيد الموصى بعتق بعضهم من دون تعيين، فعلى الحاكم أو الوصي العمل بها، و لايجوز له إهمالها و العدول إلى قرعة أخرى و المفروض عدم طريق آخر هناك غير القرعة.

نعم يجوز لصاحب الحقّ غمض النّظر عن حقّه بعدما خرج السّهم له. كما أنّ للمتقارعين التّصالح على حقوقهم بعد خروج السّهم لأحدهما، أو لهما، في مثل تقسيم الأموال المشتركة، و التّراضي على أمر خاص.

ولكن هذا يختصّ بما إذا كان من «الحقوق»، مثل ما عرفت من تقسيم الشّركاء أموالهم، أو تقسيم الغنائم و غيرها. و أمّا إذا كان من سنخ «الأحكام»- كما في مسألة الولد المتنازع فيه و شبههه-، فلا يجوز ذلك أصلًا، لعدم جواز تغييره بالتّراضي و التّصالح و شبههما، كما هو واضح.

و كذلك مسألة الشّاة الموطوءة؛ فإنّ خروج القرعة على واحدة من الشّياة تجعلها بحكم الموطوءة- لو لم تكن موطوئة واقعاً-، فحينئذ لامعنى لتغييرها، و جعل غيرها في محلّها بقرعة أخرى، أو غيرها.

هذا كلّه في موارد وجوب القرعة.

و أمّا إذا قلنا بمشروعيّتها في موارد لايجب فيها إجراؤها- كما في المتعلّمين لعلم غير واجب و شبهها- فكما أنّ إجرائها غير واجب في هذه الموارد، كذلك العمل بها بعد إجرائها أيضاً غير واجب؛ فله العدول عمّا خرج بالقرعة إلى غيره، إذا لم يكن هناك محذور آخر، فتأمّل.

هذا تمام الكلام في قاعدة القرعة.

هل الإستخارة من أنواع القرعة؟

الظّاهر أنّ الإستخارة بالرّقاع و الحصى و البندقة و السّبحة و ما شاكلها، ممّا ورد

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 360

في روايات مخلتفة، نوع من القرعة، و أنّه إذا أشكل على الإنسان أمر يفوّضه إلى اللّه تعالى، ثمّ يدعو ببعض الدّعوات المأثورة، ثمّ يستخرج السّهم أو الرقعة

أو البندقة أو غيرها، ممّا كتب عليه فعل شي أو تركه، أو علّم عليه بعلامة، فيعمل على طبقه.

إلا أنّها تتفاوت مع القرعة المعروفة، في أنّ القرعة تكون في موارد لايعلم حكمها الشّرعي الجزئي، لاشتباه موضوعها، و في الغالب ممّا تتزاحم الحقوق؛ بينما تكون الإستخارة فيما يعلم حكمها الشّرعي و موضوعه، و يدور الأمر بين أمور مباحة، ولكن يشكّ في صلاحها و فسادها للفاعل، في عاجله أو آجله؛ فإذا لم ينته أمره إلى طريق بيّن، يتوسّل بها لكشف ما هو صلاحه، و رفع تحيّره.

و قد عقد العلّامة المجلسي قدس سره في أواخر المجلّد الثّامن و الثمانين من (بحار الأنوار) أبواباً أورد فيها كثيراً من الرّوايات الدّالّة على جواز الاستخارة بالدّعاء، ثمّ العمل بما يقع في قلبه؛ أو بالاستشارة بعد الدّعاء، ثمّ العمل بما يجري على لسان من يستشيره؛ أو بالرّقاع و البنادق و السّبحة و الحصى و القرآن الكريم.

و قد وقع الكلام في مشروعيّة الاستخارة بغير الدّعاء و الاستشارة. و المحكي عن أكثر الأصحاب جوازه، و عن ابن إدريس و بعض آخر إنكاره أو التّردّد فيه.

و ذكر العلّامة المجلسى قدس سره في آخر ما أورده في هذا الباب كلاماً، أحببنا إيراده هنا لما فيه من الفائدة، و مزيد بصيرة فيما نحن بصدده، قال ما نصّه:

«إنّ الأصل في الإستخارة الّذي يدلّ عليه أكثر الأخبار المعتبرة، هو أن لايكون الإنسان مستبدّاً برأيه، معتمداً على نظره و عقله، بل يتوسّل بربّه تعالى و يتوكّل عليه في جميع أموره، و يقرّ عنده بجهله بمصالحه، و يفوّض جميع ذلك إليه، و يطلب منه أن يأتي بما هو خير له في أُخراه و أُولاه، كما هو شأن العبد الجاهل العاجز مع مولاه

العالم القادر، فيدعو بأحد الوجوه المتقدّمة مع الصّلاة أو بدونها، بل بما يخطر بباله من الدّعاء إن لم يحضره شي من ذلك؛ للأخبار العامّة، ثمّ يرضى بكل ما يترتّب على فعله من نفع أو ضرّ.

و بعد ذلك، الإستخارة من اللّه سبحانه، ثمّ العمل بما يقع في قلبه، و يغلب على ظنّه أنّه أصلح له.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 361

و بعده الإستخارة بالاستشارة بالمؤمنين.

و بعده الإستخارة بالرّقاع، أو البنادق، أو القرعة بالسّبحة و الحصا، أو التفأُّل بالقرآن الكريم.

و الظّاهر جواز جميع ذلك، كما اختاره أكثر أصحابنا و أوردوها في كتبهم الفقهية و الدّعوات و غيرها، و قد اطّلعتَ هاهنا على بعضها».

و أنكر ابن إدريس الشّقوق الأخيرة، و قال: إنّها من أضعف أخبار الآحاد، و شواذ الأخبار؛ لأنّ رواتها فطحيّة ملعونون، مثل زرعة و سماعة و غيرهما، فلا يلتفت الى ما اختصّا بروايته، و لايعرج عليه. قال: و المحصّلون من أصحابنا ما يختارون في كتب الفقه إلا ما اخترناه، و لايذكرون «البنادق» و «الرقاع» و «القرعة»، إلا في كتب العبادات دون كتب الفقه. و ذكر أنَّ الشّيخين و إبن البراج لم يذكروها في كتبهم الفقهيّة.

و وافقه المحقّق قدس سره فقالُ: و أمّا الرقاع و ما يتضمّن «إفعل» و «لاتفعل» ففي حيّز الشّذوذ، فلا عبرة بهما.

و أصل هذا الكلام من المفيدره في (المقنعة)، حيث أورد أوّلًا أخبار الاستخارة بالدّعاء، و الإستشارة و غيرهما ممّا ذكرنا أوّلًا، ثمّ أورد استخارة ذات الرّقاع و كيفيّتها، ثمّ قال: قال الشّيخ: و هذه الرّواية شاذة ليست كالّذي تقدّم، لكنّا أوردناها للرّخصة دون تحقيق العمل بها».

ثمّ ذكر المجلسي قدس سره بعد كلام له ممّا يدلّ على اختلاف نسخ (المقنعة) في ذلك ما نصّه:

«قال الشّهيد

رفع اللّه درجته في (الذكرى): «و إنكار ابن إدريس الاستخارة بالرقاع لا مأخذ له مع اشتهارها بين الأصحاب، و عدم رادّ لها سواه، و من أخذ مأخذه، كالشّيخ نجم الدّين؛ قال: و كيف تكون شاذّة و قد دوّنها المحدّثون في كتبهم، و المصنّفون في مصنّفاتهم ...» «1»

هذا ولكن الأمر في جوازها سهل، بعد كون موردها أموراً مباحة يتردّد بينها، ثمّ يتوكّل على اللّه و يعمل بما يخرج من الرّقاع و شبهها رجاء الوصول إلى المطلوب. و

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 362

لعلّ عدم ذكر كثير منهم لها في الكتب الفقهيّة مستند إلى هذا المعنى.

و على كلّ حال فممّا يدلّ على أنّ الاستخارة بهذه الأمور نوع من القرعة أمور:

منها: التّعبير عنها في بعض رواياتها بالمساهمة- الّتي هي القرعة كما عرفت سابقاً عند ذكر الآيات الدّالّة عليها-، مثل رواية عبد الرّحمن بن سيّابة قال: (خرجت إلى مكّة و معي متاع كثير، فكسد علينا، فقال بعض أصحابنا: ابعث به إلى اليمن، فذكرت ذلك لأبي عبداللّه عليه السلام فقال لي: ساهم بين مصر و اليمن، ثمّ فوّض أمرك إلى اللّه، فأيّ البلدين خرج اسمه في السّهم فابعث إليه متاعك، فقلت: كيف أساهم؟ قال: اكتب في رقعة: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم، اللهم إنّه لا إله إلّاأنت عالم الغيب و الشّهادة، أنت العالم و أنا المتعلّم، فانظر في أيّ الأمرين خيّراً لي حتّى أتوكّل عليك فيه، و أعمل به، ثم اكتب: مصراً إن شاء اللّه، ثمّ اكتب في رقعة أخرى مثل ذلك، ثم اكتب: اليمن إن شاء اللَّه تعالى، ثم اكتب في رقعة أخرى مثل ذلك، ثمّ اكتب: يحبس إن شاء اللّه و لايبعث به إلى بلدة منهما، ثم اجمع الرّقاع فادفعها إلى

من يسترها عنك، ثمّ أدخل يدك فخذ رقعة من الثلاث رقاع، فأيّها وقعت في يدك فتوكلّ على اللّه، فاعمل بما فيها إن شاء اللّه). «1»

و فيها من الدّلالة على أنّ الإستخارة نوع من القرعة من وجوه شتّى لاتخفى على المتأمّل. و مثله غيره.

و منها: اتّحاد كيفيّة العمل و الدّعا، فيهما؛ روى ابن طاووس فى كتاب (أمان الأخطار) و في (الاستخارات) نقلًا عن كتاب عمرو بن أبي المقدام عن أحدهما عليه السلام في المساهمة يكتب:

«بسم اللّه الرّحمن الرّحيم، الّلهمّ فاطر السّموات و الأرض، عالم الغيب و الشّهادة، الرّحمن الرّحيم، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، أسألك بحقّ محمّد و آل محمّد، أن تصلّي على محمّد و آل محمّد، و أن تخرج لي خير السّهمين في

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 363

ديني و دنياي و آخرتي، و عاقبة أمري، في عاجل أمري و آجله، إنّك على كلّ شي قدير، ما شاء اللّه لاقوّة إلّا باللَّه، صلّى اللّه على محمّد و آله». ثمّ تكتب ما تريد في الرّقعتين و تكون الثّالثة غُفلًا «1»، ثمّ تجيل السّهام، فأيّما خرج عملت عليه، و لاتخالف؛ فمن خالف لم يصنع له، و إن خرج الغفُل رميت به» «2».

و هذه الرّواية بإطلاقها شاملة لموارد القرعة- و هو ما يشكّ في حكمه الشّرعي الجزئي و لا طريق إلى إثباته-، و موارد الإستخارة- و هو ما يشكّ في صلاحه و فساده للفاعل مع العلم بجوازه فعله و تركه-؛ كما فهمه ابن طاووس قدس سره.

و قد مرّ في كلام العلّامة المجلسي قدس سره قوله: «أو القرعة بالسّبحة ...». و هذا أيضاً دليل على إطلاقها عليها.

و ببالي أنّه قدّس سرّه تمسّك على مشروعيّة الاستخارة بالرّقاع و شبهها، بإطلاقات

القرعة الّتي مضى ذكرها، و أنّها لكلّ أمر مشكل و إن كان في الإستدلال بها ما لايخفى؛ فإنّها بقرينة فهم الأصحاب و الموارد الخاصّة الّتي وردت هذه العمومات فيها مختصة بما يشكّ في حكمه الشّرعي الجزئي من جهة اشتباه موضوعه، و لا أقلّ من أنّها منصرفة إليها. و على كلّ حال، كونها من أنواع القرعة ممّا لاينبغي الشّكّ فيها.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 365

7 التقية و موارد حرمتها و جوازها

اشارة

التّقيّة من أقدم ما يعرف أصحابنا بها، كما أنّها من اكثر ما يشنع به عليهم، جهلًا بمعناها و موارد حرمتها و جوازها، و غفلة عمّا يحكم به العقل و النّقل.

و يبتني عليها فروع كثيرة في مختلف أبواب الفقه من العبادات و غيرها. و لها صلتان بالمذهب:

صلة من ناحية الفقه و قواعد، و الفروع الكثيرة المبنيّة عليها.

و صلة من ناحية العقائد و الكلام؛ حيث إنّ القول بها صار عند الغافلين عن «مغزاها» و «مواردها» دليلًا على ضعف المذهب القائل بها و مبانيه.

و نحن و إن كنّا نبحث عنها هنا كقاعدة فقهيّة، ولكن نواصل الجهد في طيّات هذه الأبحاث لتوضيحها من النّاحية الأخرى ايضاً؛ لتبين قيم الإيرادات الّتي تشبث بها المخالفون هنا، و أنّ هذه المزعومة- كغالب المزعومات الأُخر- ناشئة من قلّة اتّصالهم بنا، و عدم أخذ عقائدنا منّا، بل من الكتب المشوهة المملوءة بأنواع التّهم المنبعثة عن التّعصبات القوميّة أو المذهبيّة، أو عن تدخل أعداء الدّين في شؤون المسلمين لتفريق كلمتهم و إشاعة البغضاء بينهم، ليتنازعوا، فيفشلوا و تذهب ريحهم- كما قال اللّه تعالى-.

و على كلّ حال لابدّ لنا أن نتكلّم هنا في مقامات:

الأوّل: في معناها اللّغوي و الإصطلاحي

الثّاني: في حكمها التّكليفي من الحرمة و الجواز، و موارد هما، و ما يدلّ

على كلّ

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 368

واحد، من الأدلّة العقليّة و النّقليّة، مضافاً إلى أقسام التّقيّة من «الخوفي» و «التّحبيبي»

كما و نتكلّم عن أنّ التّاركين للتّقيّة في الصدر الأوّل و في أعصار الأمويين و العبّاسيين، الّذين استشهدوا في هذا السّبيل كرشيد الهجري و ميثم الّتمار و أشباههما، لماذا تركوا التّقيّة و تجرعوا جرع الحِمام؟

و هل كان هذا واجباً عليهم أو راجحاً لهم، و هل يمكن لنا سلوك طريقتهم في أمثال هذه الظّروف أو لا؟

الثّالث: في حكمها الوضعي، من حيث إنّ العمل المأتي به تقيّة هل يوجب الإجزاء عن الإعادة و القضاء، في داخل الوقت و خارجه أو لا؟.

الرّابع: في أمور هامة مختلفة لها صلة بالبحث، مثل أنّه هل يعتبر في التّقيّة أن تكون من المخالف، أو يشمل الكافر، أو الموافق في المذهب أحياناً؟

و أنّها هل تختصّ بالأحكام أو تشمل الموضوعات؟

و أنّ المدار فيها على الخوف الشّخصي أو النّوعي؟

و أنّه إذا خالف التّقيّة فهل يفسد عمله؟

و أنَّ ترك تسميّة القائم (عج) باسمه هل هو من باب التّقيّة أو غيرها، و هل هو واجب في هذه الأعصار، أو لايجب أصلًا؟

الخامس: في ما يرتبط بهذه المسألة، نذكرها في طي تسع تنبيهات. و نسأل اللّه التّوفيق و الهداية نحو الحقّ في جميع الأمور، إنّه قريب مجيب.

المقام الأول: معنى التّقيّة لغة و اصطلاحا

الظّاهر أنّ التّقيّة لغة مصدر من: اتّقى يتّقي، لا أنّها اسم مصدر كما ذكره شيخنا العلّامة الأنصاري (قدّس سرّه الشّريف).

قال المحقّق الفيروزآبادي في (القاموس): «اتّقيت الشي ء و تقيّه أتّقيه، و أتقيه تقى و تقيّة و تقاء ككساء: حذرته، و الإسم: التّقوى، أصله: تقيا قلبوه للفرق بين الإسم و الصّفة». «1»

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 369

و ظاهره أنّ اتّقى و تقى بمعنى واحد- كما ذكره غيره

أيضاً-، و المصدر منه هو التّقيّة و التقى و التقاء، و اسم المصدر هو التّقوى. و الأمر فيه سهل.

و من الواضح أنّ معناها المصطلح في الفقه و الأصول و الكلام أخصّ من معناها اللّغوي، كما في غيرها من الألفاظ المستعملة في معانيها المصطلحة غالباً.

و قد ورثنا عن الأصحاب في معناها المصطلح عبائر تتقارب مضامينها، و لايدلّ اختلافها اليسير عن اختلاف منهم في حقيقتها و مفادها، و إليك نصّ بعض هذه التّعاريف:

1- قال المحقّق البارع الشّيخ الجليل المفيد في كتابه (تصحيح الإعتقاد):

«التّقيّة كتمان الحقّ، و ستر الاعتقاد فيه، و مكاتمة المخالفين، و ترك مظاهرتهم بما يعقب ضرراً في الدّين و (أو) الدّنيا». «1»

2- و قال شيخنا الشّهيد (رحمة اللّه) عليه في قواعده:

«التّقيّة مجاملة النّاس بما يعرفون، و ترك ما ينكرون، حذراً من غوائلهم». «2»

3- و قال شيخنا العلّامة الأنصاري في رسالته المعمولة في المسألة: «المراد منها هنا اللتّحفظ عن ضرر الغير، بموافقته في قول أو فعل مخالف للحقّ». «3»

4- و قال العلّامة الشّهرستاني قدس سره فيما علّقه على كتاب (أوائل المقالات) للشّيخ المفيد (أعلى اللّه مقامه):

«التّقيّة إخفاء أمر ديني لخوف الضرر من إظهاره». «4»

و لايخفى أنّ هذه التّعريفات بعضها أوسع من بعض. ولكن الظّاهر أنّهم لم يكونوا بصدد تعريف جامع لشتات أفرادها، مانع عن أغيارها، اعتماداً على وضوح معناها؛ و لذا لم يعترض واحد منهم على الآخر بنقص التّعريف من ناحية جمعه أو طرده.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 370

و الّذي يهمنا ذكره فى المقام أنّ التّقيّة؟ كلّ أقلّية يسيطر عليهم الأكثرون، و لايسمحون لهم بإظهار عقائدهم، أو العمل على وفقها، فيخافون على أنفسهم، أو النّفيس ممّا يتعلّق بهم، من مخالفيهم المتعصّبين. فهولاء بنداء الفطرة يلجأون إلى التّقيّة

فيما كان حفظ النّفس أو ما يتعلّق بها أهم عندهم من إظهار الحقّ، و إلى ترك التّقيّة و خوض غمرات الموت و تحمل المضار إذا كان إظهاره أهمّ، حسب اختلاف المقامات، و ما يتحمّل من الضّرر لأجل الأعمال المخالفة للتّقيّة.

كلّ ذلك مقتبس من حكم العقل بتقديم الأهمّ على المهمّ إذا دار الأمر بينهما.

فعندئذ لاتختصّ التقيّة بالشّيعة الأماميّة، و لايختصون بها- و إن اشتهروا بها-، و تعمّ جميع الطّوائف في العالم إذا ابتلوا ببعض ما ابتلي به الشّيعة في بعض الظّروف و الأحيان.

فليس ذلك إلا لأنّهم كانوا في كثير من الأعصار و الأقطار تحت سيطرة المخالفين المجحفين عليهم، و كلّ جماعة كانت كذلك ظهر في تاريخها التّقيّة أحياناً.

و سيوافيك- إن شاء اللّه- الآيات و الأخبار الحاكيّة عن أمر مؤمن آل فرعون، و أنّه كان في تقيّة من قومه، و كذلك ما يحكى عن أمر أصحاب الكهف و تقيّتهم.

بل و من بعض الوجوه تعزى التقّية إلى شيخ الأنبياء إبراهيم عليه السلام في احتجاجاته مع عبدة الأصنام، و إلى يوسف عليه السلام في كلامه لإخوته، كما سيأتي بيان كلّ منها إن شاء اللّه.

المقام الثاني: حكمها التّكليفي
اشارة

المعروف بين الأصحاب أنّ التّقيّة تنقسم بحسب حكمها التّكليفي إلى أقسام خمسة: منها ما هو واجب، و منها ما هو حرام، و منها ما هو راجح، و منها ما هو مرجوح، و منها ما يتساوى طرفاه جوازاً.

و هو موافق للتّحقيق.

فلبندأ بالقسم الجائز منها بالمعنى الأعمّ، ثمّ نتبعه بما هو حرام، ثمّ نبيّن ما هو راجح و مرجوح.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 371

أمّا الأوّل فلا ينبغي الشّك في جوازها إجمالًا في بعض الموارد، و يدلّ عليه- مضافاً إلى الإجماع- آيات من الذّكر الحكيم، و أخبار متواترة جدّاً،

و دليل العقل و قضاء الوجدان السّليم.

أمّا الآيات:

فمنها: قوله تعالى في سورة آل عمران «لَّايَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذَ لِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِى شَيْ ءٍ إلَّآأَنْ تَتَّقُوا مِنْهُم تُقَاةً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ» «1».

نهى سبحانه و تعالى عن اتّخاذ الكافرين أولياء، و الاستعانة بهم في الأمور، و الترّدد منهم و التأخي معهم. ثمّ أكده بأنّ من فعل ذلك من المؤمنين فليس من اللّه في شي، فهو بري ء منهم، و ليسوا في ولاية اللّه و رعايته.

و نظيره في ذلك قوله تعالى:

«يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَاتَتَّخِذُواْ عَدُوِّى وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَاءَكُمْ مِّنَ الحَقِّ» «2».

حيث نهى سبحانه عن اتّخاذ الأعداء أولياء، ثمّ عقّبه بإلقاء المودّة إليهم الّذي هو كالتّفسير له.

و مثله قوله تعالى: «لَّاتَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْأَخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ» «3».

ثمّ استثنى سبحانه منه مقام التّقيّة: «إلّاأن تتّقوا منهم تقاة» ففي هذا المقام إلقاء المودّة إليهم و اتّخاذهم أولياءَ جائزٌ، بعد أن كان منهيّاً عنه بحسب حكمه الأوّل. و لاشكّ أنّ المراد من «تقاة» هنا التّقيّة، و هما بمعنى واحد، بل قرأ بعضهم- كالحسن و المجاهد-: «تقيّة».

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 372

و قال أمين الإسلام الطّبرسي في (المجمع) عند ذكر الآية: «و المعني: إلّاأن يكون الكفّار غالبين و المؤمنون مغلوبين، فيخافهم المؤمن إن لم يظهر موافقتهم، و لم يحسن العشرة معهم، فعند ذلك يجوز له إظهار مودّتهم بلسانه و مداراتهم، تقيّة منه، و دفعاً عن نفسه، من غير أن يعتقد ذلك. و في هذه الآية دلالة على أنّ التّقيّة جائزة في الدّين عند الخوف على النّفس.

و قال أصحابنا: إنّها جائزة في الأحوال كلّها عند الضّرورة، و ربّما وجبت فيها لضرب من اللّطف و الاستصلاح، و ليس تجوز من الأفعال في قتل المؤمن، و لا فيما يعلم أو يغلب على الظنّ أنّه استفساد في الدّين» «1».

و قال شيخ الطّائفة قدس سره في (التّبيان) عند ذكر الآية:

«و التّقيّة عندنا واجبة عند الخوف على النّفس. و قد روي رخصةٌ في جواز الإفصاح بالحقّ عندها. روى الحسن (أنّ مسيلمة الكذّاب أخذ رجلين من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله، فقال لأحدهما: أتشهد أنَّ محمّداً رسول اللّه؟

قال: نعم

قال: أفتشهد أنّي رسول اللّه؟

قال: نعم.

ثمّ دعا بالآخر فقال: أتشهد أنّ محمّداً رسول اللّه؟

قال: نعم.

فقال له: أتشهد أنّى رسول اللّه؟

قال: إني أصمّ!

قالها ثلاثاً كلّ ذلك يجيبه بمثل الأوّل، فضرب عنقه.

فبلغ ذلك رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقال: أمّا ذلك المقتول فمضى على صدقه و يقينه، و أخذ بفضله، فهنيئاً له، و أمّا الآخر فقبل رخصة اللّه، (فلا تبعة عليه).

فعلى هذا تكون التّقيّة رخصة، و الافصاح بالحقّ فضيلة. و ظاهر أخبارنا يدلّ على أنّها واجبة و خلافها خطأ» «2».

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 373

هذا ولكن سيمرّ عليك- إن شاء اللّه- أنّ موارد وجوبها غير موارد جوازها، و موارد رجحان تركها و الإفصاح بالحقّ. و ليس جميع الرّوايات واردة على مورد واحد، و لاتعارض بينها، كما يظهر من عبارة شيخ الطّائفة (قدّس سرّه الشريف).

و بالجملة لا إشكال في دلالة الآية على جواز التّقيّة إجمالًا، بل في الآية تصريح بنفس عنوان التّقيّة؛ فإنّ «التّقيّة» و «التقاة» بمعنى، بل قد عرفت قراءة «التّقيّة» في نفس الآية من غير واحد من القرّاء.

و منها: قوله تعالى في سورة النّحل: «مَن كَفَرَ بِاللَّهِ

مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنُّ بِالْإِيمَانِ وَلكِنْ مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرَاً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ» «1».

و قد ذكر المفسّرون في شأن نزول الآية أموراً تتقارب معناها و إن اختلف أشخاصها و أمكنتها.

و في بعضها أنّها نزلت في «عمّار» و «ياسر أبيه» و «أمّه سميّة» و «صهيب» و «بلال» و «ضباب، حيث أخذهم الكفّار و عذّبوهم و أكرهوهم على كلمة الكفر و البراءة من الإسلام و رسول اللّه صلى الله عليه و آله.

فلم يعطهم أبو عمّار و أمّه فقتلا، و كانا أوّل شهيدين في الإسلام، و أعطاهم عمّار بلسانه ما أرادوا منه. فأخبر سبحانه بذلك رسول اللّه، فقال قوم: كفر عمّار، و قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله إنّ عماراً ملى ء إيماناً من قرنه إلى قدمه، و اختلط الإيمان بلحمه و دمه. ثمّ جاء عمّار إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله و هو يبكي.

فقال صلى الله عليه و آله و سلم: ماوراءك؟

فقال: شر، يا رسول اللّه، ما تركت حتّى نلت منك و ذكرت آلهتهم بخير!

فجعل رسول اللّه يمسح عينيه و يقول إن عادوا لك فعد لهم بما قلت؛ فنزلت الآية. «2»

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 374

و في آخر أنّها نزلت في «عيّاش بن أبي ربيعه» أخي أبي جهل من الرّضاعة، و «أبي جندل» و غيرهما، من أهل مكّة، حيث أكرههم المشركون، فأعطوهم بعض ما أرادو، ثمّ أنّهم هاجروا بعد ذلك و جاهدوا؛ فنزلت الآية.

و في ثالث أنّها نزلت في أناس من أهل مكّة آمنوا ثمّ خرجوا نحو المدينة، فأدركتهم قريش و أكرهتهم؟ فتكلّموا بكلمة الكفر كارهين، فنزلت الآية.

و الأشهر هو الأوّل.

و الآية دالّة على جواز

التّقيّة بإظهار كلمة الكفر من دون قصده، عند الضّرورة؛ فإنّ موردها و إن كان عنوان الإكراه، و مورد التّقيّة لايعتبر فيها إكراه و تعذيب، بل يكفي فيها خوف الضّرر على النّفس أو ما يتعلّق به و إن لم يكن هناك مُكره، إلّاأنّ الحقّ عدم الفرق بين العنوانين الإكراه و التّقيّة من حيث الملاك و المغزى، فإنّ ملاك الكلّ دفع الضّرر الأهمّ بارتكاب ترك المهمّ.

هذا من ناحية العنوان المأخوذ فيها.

و من ناحية أخرى الآية و إن اختص مفادها بمسألة الكفر و الإيمان، إلّاأنّ حكمها جارٍ في غيرها بطريق أولى كما لايخفى، فإذا جازت التّقيّة في هذه المسألة المهمّة جاز في غيرها قطعاً مع تحقّق شرائطها.

قال المحقّق البيضاوي في تفسيره عند ذكر الآية:

«و هو دليل على جواز التّكلّم بالكفر عند الإكراه، و إن كان الأفضل أن يتجنّب عنه، إعزازاً للدّين كما فعله أبواه (الضمير يعود على عمّار)» ثمّ نقل رواية الحسن السّابقة في رجلين أخذهما مسيلمة- إلى أن قال-: «أمّا الأوّل فقد أخذ رخصة اللّه و أمّا الثّاني فقد صدع بالحقّ، فهنيئاً له».

و منها: قوله تعالى في سورة غافر حاكياً عن مؤمن آل فرعون: «و قالَ رجُلٌ مؤمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَونَ يكتُمُ إيمانَهَ أتقتلونَ رجلًا أن يقولَ ربَّي اللّهُ و قد جاءَكُمْ بالبيّنات من ربّكم ...» «1».

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 375

هذه الآية و ما بعدها تحكي عن قصّة مؤمن آل فرعون و احتجاجه على قومه.

نقلها القرآن بلسان القبول و الرّضا، حتّى أن قوله: «يكتم إيمانه» أيضاً بهذا اللّسان، لسان القبول و الرّضا؛ فهي دالّة على جواز كتمان الإيمان عند الخوف على النّفس، و أمثاله.

و لاشكّ أنّ كتمان الإيمان لايمكن عادة بمجرّد عدم الإظهار عن مكنون القلب، بل لايخلو

عن إظهار خلافه، لاسيّما إذا كان ذلك مدة طويلة، كما هو ظاهر حال مؤمن آل فرعون.

فكتمان إيمانه لايتيسر إلّابالإشتراك معهم في بعض أعمالهم، و ترك بعض وظائف المؤمن الخاصّة به. و بالجملة حمل كتمان إيمانه على مجرّد عدم إظهار الحقّ، من دون إظهار خلافه قولًا و فعلًا شطط من الكلام، لاسيّما مع ما حُكي عن ابن عبّاس من أنّه لم يكن من آل فرعون مؤمن غيره، و غير امرأة فرعون، و غير المؤمن الّذي أنذر موسى عليه السلام.

فإذن ينطبق على عمله عنوان التّقيّة بلا إشكال، و تكون الآية دليلًا على جوازه إجمالًا.

و روى الطّبرسي عن أبي عبداللّه عليه السلام أنّه قال: (التّقيّة ديني و دين آبائي، و لا دين لمن لاتقيّة له. و التّقيّة ترس اللّه في الأرض؛ لأنّ مؤمن آل فرعون لو أظهر الإسلام لقتل). «1»

فتحصل من جميع ما ذكرنا، أنّ ظاهر الآيات الثلاث المذكورة أو صريحها جواز التّقيّة عند الخوف إجمالًا. و يظهر من غير واحد من الرّوايات الّتي سنوردها عليك- إن شاء اللّه- تفصيلًا أنّ موارد التّقيّة المشار إليها في القرآن لاتنحصر بذلك، بل تشمل فعل أصحاب الكهف، و ما فعله شيخ الأنبياء إبراهيم عليه السلام تجاه قومه عند كسر

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 376

الأصنام، و ما قاله يوسف لإخوته عند أخذ أخيه الصّغير عنده و عدم إرساله مع سائر إخوته.

ولكنّه مبني على ما سنشير إليه من عدم حصر التّقيّة في كتمان الحقّ و إظهارخلافه خوفاً على النّفس و شبهه بل يشمل ما إذا كان هذا الكتمان لمصال حاخر، فليكن هذا على ذكر منك.

هذا حكم كتاب اللّه و ما يستفاد من آيات الذّكر الحكيم في المسألة، و هي بحمد اللّه جليّة من هذه

النّاحية.

و أمّا الروايات:

فلاشكّ في تواتر الأخبار الدّالة على جواز التّقيّة في مظان الخطر، و هي على طوائف مختلفة، كلٌ تشير إلى بعض خصوصيّات البحث، و فيها فوائد جمة، و حقائق لطيفة، تكشف عن علل التّقيّة و نتائجها و كيفيّتها و حدودها، و أقسامها و مستثنيّاتها، و موارد حرمتها و وجوب الحذر عنها.

و هي مبثوتة في أبواب كثيرة من أبواب كتاب الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر، أوردها في (الوسائل).

و نحن نذكرها في خمس طوائف، نجمع ما يشترك منها في معنى واحد في طائفة مستقلّة.

الطّائفة الأولى: ما يدلّ على أنّ التّقيّة ترس المومن و حرزه و جُنّته. و قد ورد روايات عديدة في هذا المعنى منها:

1- مارواه الكليني في (الكافي) بسنده عن محمد بن مروان، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: (كان أبي عليه السلام يقول: و أيّ شئ أقرّ لعيني من التّقيّة، إنّ التّقيّة جُنّة المؤمن) «1».

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 377

2- ما رواه أيضاً في (الكافي) عن عبداللّه بن أبي يعفور قال: (سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول: التّقيّة ترس المؤمن، و التّقيّة حرز المؤمن، الحديث) «1»

3- ما رواه أيضاً في الكافي عن حريز، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: (التّقيّة ترس اللّه بينه و بين خلقه) «2».

4- ما رواه سعد بن عبداللّه في (بصائر الدّرجات) عن جميل بن صالح، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: (إنّ أبي كان يقول: أيّ شي ء أقرّ للعين من التّقيّة، إنّ التّقيّة جُنّة المؤمن) «3».

هذه الرّوايات بأجمعها دالّة على جواز التّقيّة في موارد الخوف لحفظ النّفس، و الاتقاء بها كما يُتقى في الحرب من ضربات العدو بالجُنّة و التّرس و أشباههما.

بل قد يستفاد منها الوجوب و اللزّوم بنحو من العناية؛

فإنّ الإستتار بالجُنّة و الترس و ما أشبههما في موارده واجب، فكذلك الإستتار بالتّقيّة في مظانّها، فتأملّ.

و لو أشكل على دلالتها من هذه النّاحية لم يكن هناك إشكال من ناحية الدّلالة على الجواز بمعناه الأعمّ.

الطّائفة الثّانية: ما دلّ على أنّه لا دين لمن لاتقيّة له، و لا إيمان لمن لاتقيّة له، و أنّ تسعة أعشار الدّين هي التّقيّة. إلى غير ذلك ممّا يدلّ على أنّها من الدّين نفسه، و بدونها يكون ناقصاً، و هي روايات:

5- ما رواه الكليني في (الكافي) بإسناده عن أبي عمر الأعجمي قال: (قال لي أبو عبداللّه عليه السلام: يا أبا عمر! إنّ تسعة أعشار الدّين في التّقيّة، و لادين لمن لاتقّية له ... الحديث «4».

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 378

6- ما رواه الصّدوق في (علل الشّرايع) عن أبي بصير قال: (قال أبوعبداللّه عليه السلام: التّقيّة دين اللّه عزّ و جلّ، قلت: من دين اللّه؟ قال: فقال: إي و اللّه من دين اللّه. الحديث «1».

7- ما رواه الصّدوق أيضاً في (صفات الشّيعة) عن أبان بن عثمان، عن الصّادق عليه السلام أنّه قال: (لا دين لمن لاتقيّة له، و لا إيمان لمن لا ورع له) «2».

8- ما رواه الكليني عن ابن أبي يعفور عن الصّادق عليه السلام- في حديث-: (لا إيمان لمن لاتقيّة له) «3».

إلى غير ذلك من الرّوايات.

و هذه الطّائفة دليل على وجوبها إجمالًا في مواردها، و أنّها من أهمّ مسائل الدّين و عمدتها في هذه المقامات. و سيأتي إن شاء اللّه علّة هذا التّأكيد الشّديد و سرّه، و أنّه إذا أخذ بحدّه و شرائطه كان ممّا يحكم به صريح الوجدان.

الطّائفة الثالثة: ما دلّ على أنّها من أعظم الفرائض، و أنّ أكرمكم عند اللّه

أعملكم بالتّقيّة، و أنّ الإيمان بدونها كجسد لا رأس مع، و أنّه ما شي ء أحبّ إلى الّه و أوليائه من التّقيّة في مواردها، و هي روايات:

9- ما رواه في (الكافي) عن حبيب بن بشير قال: قال أبو عبداللّه عليه السلام: (سمعت أبي يقول: لا واللّه ما على وجه الأرض شي ء أحبّ إليَّ من التّقيّة، يا حبيب! إنّه من كان له تقيّة رفعة اللّه، يا حبيب! من لم تكن له تقيّة وضعه اللّه، يا حبيب! إنّ النّاس إنّما هم في هدنة فلو قد كان ذلك كان هذا) «4».

و لعلّ قوله: (فلو قد كان ذلك كان هذا) إشارة إلى أنّه لو كان هناك تقيّة كانت الهدنة مستمرّة باقية، أو أنّه لو رفعت الهدنة و ظهر القائم جاز ترك التّقيّة و في غيره

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 379

وجبت التّقيّة. و لو فرض إبهامه لم يضرّ بدلالة الحديث.

10- ما روى في تفسير الإمام الحسن بن عليّ العسكري عليهم السلام في قوله تعالى: «وَ عَمِلُوا الصَّالحِاتِ» قال: (قضوا الفرائض كلّها بعد التّوحيد و اعتقاد النّبوّة و الإمامة، قال: و أعظمها فرضان: قضاء حقوق الإخوان في اللّه، و استعمال التّقيّة من أعداء اللّه عزّوجل). «1»

و ممّا ينبغي أن يذكر أنّه روي في هذا الباب الباب 28 من أبواب الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر من كتاب (الوسائل) رواية عن النّبي صلى الله عليه و آله و سلم، و رواية عن كلّ و احد من الأئمّة عليهم السلام إلى الإمام الحسن العسكري عليه السلام، فيكون المجموع ثلاث عشرة رواية، كلّها عن تفسير الإمام و بوساطته عليه السلام، رتّبها حسب ترتيب الأئمة عليه السلام. و كلّها تشير إلى مطلب واحد و إن كان

بعبارات مختلفة و تعبيرات شتّى، و هو ما مرّ في الحديث الأخير، أنّ من أعظم القربات و أشرف أخلاق الأئمّة التّقيّة، و قضاء حقوق الإخوة، و أنَّ تركها من الذّنوب الّتي لاتغفر. فراجعها و تأمّلها. و سنشير إلى كلّ واحد منها في محلّه المناسب له، و إلى سرّ هذا التّأكيد البليغ في الأمرين.

11- ما في تفسير الإمام الحسن العسكري عليه السلام أيضاً: قال: (و قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: مَثَلُ مؤمنٍ لاتقيّة له كمَثَلِ جسد لارأس له) «2».

12- و عنه عليه السلام أيضاً عن أميرالمؤمنين عليه السلام: (التّقيّة من أفضل أعمال المؤمن، يصون بها نفسه و إخوانه عن الفاجرين)»

.و في هذا الحديث دليل على أنّه لاتشرع لحفظ نفسه فقط بل تشرع لحفظ نفوس الإخوان أيضاً. و هل هو فيما إذا كان هناك خوف على نفوس و أشخاص معلومين، أو يكفي الخوف على نوع المؤمنين في بعض الأمكنة أو بعض الأحيان و إن لم تعرف أشخاصهم؟ سيأتي الكلام فيه عند ذكر تنبيهات المسألة إن شاء اللّه،

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 380

فليكن على ذكر منك.

13- و عنه عليه السلام أيضاً عن جدّه على بن الحسين عليه السلام: (يغفر اللّه للمؤمن كلّ ذنبٍ، و يطهّره منه في الدّنيا و الآخرة ما خلا ذنبين: ترك التّقيّة، و تضييع حقوق الإخوان) «1».

14- و عنه عليه السلام أيضاً: (قيل لمحمد بن علي عليه السلام: إن فلاناً أخذ بتهمة فضربوه مائة سوط، فقال: محمد بن علي عليه السلام: إنّه ضيّع حقّ أخ مؤمن، و ترك التّقيّة، فوجه إليه فتاب) «2».

و هذه الرّواية تدلّ على أنّ تركها في موارد وجوبها لايورث عقاب الآخرة فحسب، بل قد يورث عذاباً دنيويّاً أيضاً.

15- مارواه

على بن محمد الخزاز في كتاب (كفاية الأثر) عن الحسين بن خالد عن الرّضا عليه السلام، قال: (لادين لمن لاورع له، و لا إيمان لمن لاتقيّة له، و إنّ أكرمكم عند اللّه أعملكم بالتّقيّة، قيل: يابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى متى؟ قال: إلى قيام القائم، فمن ترك التّقيّة قبل خروج قائمنا فليس منّا ... الحديث) «3».

الطّائفة الرّابعة: روايات عديدة تحكي عن وقوع التّقيّة في أفعال أنبياء السّلف، و أنّهم عملوا بالتّقيّة في غير مورد و هي روايات:

16- ما رواه الصّدوق في (العلل) عن أبي بصير قال: (سمعت أباجعفر عليه السلام يقول:

لاخير فيمن لاتقيّة له، و لقد قال يوسف: «أيّتُهَا العيرُ إنّكُم لسارِقُون» و ماسرقوا) «4».

ولايخفى أنّ نسبة التّقيّة هنا إلى يوسف عليه السلام إنّما هي من جهة أمره أو رضاه بقول المؤذّن الّذي أذّن بين إخوة يوسف فقال: «أيّتها العير إنّكم لسارقون»، و هم ما سرقوا شيئاً، و لو سرقوا فإنّما سرقوا يوسف من قبل؛ فهو نوع من التّوريّة، و قد صدرت تقيّة

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 381

و إخفاءاً للحقّ، لبعض المصالح الّتي أوجبت أخذ أخيه «بنيامين».

و غير خفى أنّ هذه التّقيّة ليست من قسم ما يؤتى به خوفاً على النّفس، بل قسم آخر يؤتى به لمصالح آخر، و سيأتي الإشارة إلى أنّها لاتنحصر بما يؤتى به خوفاً.

ثمّ لايخفى أنّ هذه التّقيّة و أشباهها ليست في باب الأحكام و تبليغ الرّسالة حتّى يتوهّم عدم جوازها في حقّ الأنبياء و المرسلين، بل هي في غير باب التّبليغ، حفظاً لبعض المصالح.

17- ما رواه في (العلل) أيضاً عن أبي بصير قال: (قال أبوعبداللّه عليه السلام: التّقيّة دين اللّه) عزّ و جلّ، قلت: من دين اللّه؟

قال: فقال إي واللّه من دين اللّه، لقد قال يوسف:

«أيّتُها العيرُ إنّكُم لسارقُونَ» و اللّه ما كانوا سرقوا شيئاً) «1».

و الكلام فيه كما في سابقه.

18- ما رواه الكليني في (الكافي) عن أبي بصير أيضاً قال: (قال أبوعبداللّه عليه السلام:

التّقيّة من دين اللّه) ثمّ روى نحو الرّواية السّابقة، ثمّ زاد قوله: (و لقد قال إبراهيم عليه السلام:

«إنّي سقيم» و اللّه ما كان سقيماً) «2».

و إطلاق التّقيّة على قول إبراهيم عليه السلام هنا إنّما هو بملاحظة أنّه أخفى حاله و أظهر غيره، لما لايخفى من المصالح الدينيّة، كما أشرنا إليه في الرّوايات السّابقة. كما أنّه ليس من باب التّقيّة فى الأحكام و إنّما هو في الموضوعات فلا ينافي دعوته و رسالته، بل كان ذلك لأداء رسالته، و تحطيم الأصنام و كسرها.

19- ما رواه في (معاني الأخبار) عن سفيان بن سعيد قال: (سمعت أباعبداللّه جعفر بن محمد الصّادق عليه السلام يقول: عليك بالتّقيّة فإنّها سنّة إبراهيم الخليل عليه السلام- إلى أن قال- و إن رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان إذا أراد سفراً داري بعيره، و قال: أمرني ربّي بمداراة النّاس كما أمرني بإقامة الفرائض. و لقد أدّبه اللّه عزّ و جلّ بالتّقيّة فقال: «ادفَع بالّتي

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 382

هي أحسنُ فإذَا الّذي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنّهُ وليٌّ حَميمٌ* وَ مَا يُلَقَّاهَا إلّاالَّذِينَ صَبَرُوا» الآية، يا سفيان، من استعمل التقّيّة في دين اللّه فقد تسنّم الذّروة العليا من القرآن، و إنّ عزّ المؤمن في حفظ لسانه، و من لم يملك لسانه ندم ... الحديث «1».

و في هذه الرّواية دلالة على أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله أيضاً كان يتّقي في بعض الموضوعات- لا

الأحكام و لا في ارشادة و تبليغ رسالته-، مداراة للنّاس، و دفعاً للبغضاء و العداوة عن قلوب المؤمنين، بالتّورية و شبهها.

و فيها أيضاً إشارة إلى تقيّة إبراهيم عليه السلام في أمر الأصنام في قوله: «إنّي سقيم» أو قوله: «هذا ربّي» أو قوله: «بل فعله كبير هم هذا» الخ، و أنّها كانت من سنّته. و من المعلوم أنّها داخلة في مفهوم التّقيّة بالمعنى الوسيع و الأعمّ، و هو إخفاء أمر لبعض ما هو أهمّ.

20- مارواه الكليني عن هشام بن سالم عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: (إنّ مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف، أسرّوا الإيمان و أظهروا الشّرك، فآتاهم اللّه أجرهم مرّتين) «2».

و هذه الرّواية و إن لم تكن من قسم تقيّة الأنبياء، إلّاأنّنا ذكرناها إلحاقاً بها.

و قد أشير إلى قصّة أصحاب الكهف في الكتاب العزيز، ولكن لم يصرّح فيها بلفظ التّقيّة، ولكن يظهر من قرائن مختلفة مذكورة فيها أنّهم كانوا يتّقون من أصحابهم، و أنّهم اختاروا، الإعتزال عن قومهم، و آووا إلى الكهف خوفاً من ظهور أمرهم و تعذيبهم بيد الملك و أتباعه، فلو أظهروا الإيمان أخذوا و قتلوا، فأسرّوا و أظهروا بعض ما أرادوا، إلى أن وفّقهم اللّه إلى الهجرة، فهاجروا من قومهم ليجدوا فراغاً يمكن فيه إظهار الإيمان، من غير حاجة إلى إظهار الشّرك و الموافقة لهم في أعمالهم.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 383

و قد ورد في الرّوايات و التّواريخ ما يؤيّد تقيّتهم. من قومهم، فعدم ذكر لفظ التّقيّة فيها لايضرّ بالاستدلال بعد وضوح المطلب.

و فيها أيضاً دلالة على تقيّة أبي طالب عليه السلام، عمّ النّبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله، و حاميه و ناصره، بقلبه و بيده و بلسانه. و لاينا في هذا

إظهاره الإيمان في غير مورد، طول حياته، كما ورد في الأخبار و السّير؛ فإنّ تقيّته كانت غالبيّة لادائميّة، و كانت من الأعداء، لا من المسلمين و أصحاب سيرهم. و فيها أيضاً جواب عن مقالة بعض أهل الخلاف و تهمة الشّرك- معاذ اللّه- إلى أبي طالب عليه السلام.

و هذه الطّائفة من الأخبار تدلّ على رجحان التّقيّة، أو وجوبها إجمالًا، في موارد يكون إخفاء الحقّ فيها واجباً أو راجحاً لمصالح مختلفة.

و هناك أخبار أُخر كثيرة تدلّ على وجوبها أو رجحانها في هذه الموارد، سيأتي الإشارة إلى شي ء كثير منها في الأبحاث الآتية إن شاء اللّه. و هي بالغة حد التّواتر، و معها لايبقى شكّ في أصل الحكم في المسألة إجمالًا.

بقي هنا أمور هامة يجب ذكرها:
الأمر الأوّل: علّة هذا التأكيد البليغ في أمر التقيّة

لاشكّ أنّ الناظر في هذه الأخبار يجد في أوّل نظره إليها تأكيداً بليغاً في التقيّة قلّما يوجد في أشباهها، و قد يستوحش منها، أو يوجب سوء الظنّ بها أو ببعضها، كلّ ذلك جهلًا بأسرارها و مواردها و مغزاها.

ولكن التّدبّر فيها و في الظّروف الّتي صدرت لها، و في القرائن الموجودة في كثير منها يرشدنا إلى سرّ هذه التأكيدات، و يرفع النّقاب عن وجهها و يفسّرها تفسيراً تاماً.

و الظّاهر أنَّ هذا الإهتمام كان لأمرين مهمين:

أحدهما: إنّ كثيراً من عوام الشّيعة، أو بعض خواصّها، كانوا يقومون في وجه

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 384

الحكومات و الأنظمة الفاسدة، الأمويّة و العبّاسيّة، بلا عِدّة و عُدّة، و لاتخطيط صحيح، و لامحجّة واضحة، فيلقون بأنفسهم إلى التّهلكة. كأنّهم يرون إعلان عقيدة الحقّ- و لو لم يكن نافعاً- واجباً، و إخفاءها- و لو لم يجلب إلّاالوهن و الضّرر على المذهب و مقدّساته- حراماً، و إن كان حافظاً للنّفوس و الأعراض و مفيداً لحفظ المذهب

و كيانه.

أو كانوا يرون التّقيّة كذباً، و مجرّد ذكر كلمة الشّرك شركاً و كفراً، و إن كان القلب مطمئناً بالإيمان، و لذا بكى عمّار بعد إظهار كلمة الكفر تقيّة، حتّى ظنّ أنّه خرج عن الإسلام و هلك.

فنهاهم أئمّة أهل البيت عليهم السلام عن هذه الأعمال الكاسدة الضّئيلة غير المفيدة، و عن هذه الآراء الباطلة. و يشهد لذلك ما ورد من أنّها الجُنّة و ترس المؤمن و أمثل ذلك.

أضف إلى ذلك قول الصّادق عليه السلام فيما رواه حذيفه عنه فى تفسير قوله تعالى: «و لاتُلْقُوا بِأيدِيَكُم إلى التَّهْلُكَةِ»، قال: (هذا في التّقيّة) «1».

و لعلّ الرّوايات الحاكية عن تقيّة الأنبياء و جمع من الأولياء ناظرة إلى أنّها ليست كذباً ممنوعاً، و لاموجباً للكفر و الخروج عن الدّين- إذا كانت في مواردها-، كما تشهد به الرّواية التي رواها. الكليني عن درست الواسطي قال: (قال أبوعبداللّه عليه السلام: ما بلغت تقيّة أحد تقيّة أصحاب الكهف، إن كانوا ليشهدون الأعياد، و يشدّون الزّنانير، فأعطاهم اللّه أجرهم مرّتين) «2».

ثانيهما: إنّ كثيراً من عوام الشّيعة و بعض خواصّهم كانوا يتركون العشرة مع غيرهم من المسلمين من أهل السنّة؛ لأنّهم إن أظهروا عقيدتهم الحقّ ربّما وقعوا فى الخطر و الضّرر، و جلب البغضاء و العداوة، و إن أخفوه كانوا مقصّرين في أداء ما

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 385

عليهم من إظهار الحقّ، مرتكبين للأكاذيب، فيرون الأرجح ترك العشرة معهم وعدم إلقاء أنفسهم في أحد المحذورين، غفلةً عن المضارّ المتربّتة على مثل هذا العمل، من شقّ العصا، و إسنادهم إلى الخشونة و قلّة الأدب و العواطف الإنسانيّة، و تركهم لجماعة المسلمين و آدابهم.

فندبهم الأئمّة عليه السلام بالعشرة معهم بالمعروف و حسن المصاحبة و الجوار، كيلا يعيّروا

بتركها و لايكونوا شيناً على أئمّتهم، و ان اضطروا في ذلك إلى التّقيّة أحياناً.

و يشهد لذلك روايات عديدة:

منها: ما رواه في (الكافي) عن هشام الكندي قال: (سمعت أباعبداللّه عليه السلام يقول:

إيّاكم أن تعملوا عملًا نعيّر به، فإنّ ولد السّوء يعيّر والده بعمله، كونوا لمن انقطعتم إليه زيناً، ولاتكونوا عليه شيناً، صلّوا في عشائرهم، و عودوا مرضاهم، و اشهدوا جنائزهم، و لايسبقونكم إلى شي من الخير، فأنتم أولى به منهم، و اللّه ما عبداللّه بشي أحبّ إليه من الخب ء، قلت: و ما الخب ء؟ قال: التّقيّة) «1».

و هذه الرّواية تنادي بأعلى صوتها بعدم الاعتزال عن القوم، و لزوم العشرة معهم بالمعروف، والصّلوة معهم، و عيادة مرضاهم، و شهادة جنائزهم، و غير ذلك من أشباهه؛ كيلا يعيّروا بتركه الأئمّة عليه السلام، و لايجدوا طريقاً للإزراء بهم و بأتباعهم، و يجوز حينئذ التّقيّة معهم. و هذا النوع من التّقيّة تحبيبي.

و منها: و ما رواه في (الكافي) أيضاً عن مدرك بن الهزهاز، عن أبيعبداللّه عليه السلام قال:

(رحم اللّه عبداً اجتّر مودّة النّاس إلى نفسه، فحدّثهم بما يعرفون، و ترك ما ينكرون) «2».

فإنّ الحديث معهم بما يعرفون و ترك ما ينكرون من مصاديق التّقيّة. و إنّما يؤتي بذلك تحبيباً.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 386

و منها: ما في تفسير الإمام الحسن العسكرى عليه السلام قال: (و قال الحسن بن علي [بن أبي طالب »]: إنّ التّقيّة يصلح اللّه بها أُمّة، لصاحبها مثل ثواب أعمالهم، فإن تركها أهلك أُمّة، تاركها شريك من أهلكهم ... الحديث) «1».

و لعلّ إرداف التّقيّة بحقوق الإخوان هنا و في روايات أُخر إشارة إلى اشتراكهما في حفظ الأمّة و وحدتها و حقوقها و كيانها، و إن كان التّأكيد في الأوّل لإخوانهم

الخاصّة، و الثّاني للعامّة.

و قد ورد في غير واحد من الرّوايات (مثل الرّواية 32 من الباب 24، و الرّواية 33 من ذاك الباب بعينه) تفسير قوله تعالى في قصّة ذى القرنين حاكياً عن القوم الّذين وجدهم عند السّدين: «... تَجْعَلَ بينَنا و بينَهُم سدَّاً»، «2»

و قوله «فَمَا اسطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَ مَا استَطَاعُوا له نَقْبَاً». «3»

أنّ هذا هو التّقيّة؛ فإنّها الحصن الحصين بينك و بين أعداء اللّه، و إذا عملت بها لم يقدروا على حيلة.

و هذا و إن كان ناظراً إلى تأويل الآية و بطنها، و العدول عن ظاهرها ببعض المناسبات لكشف ما فيها من المعاني الأُخر غير معناها الظّاهر، إلّاأنّه على كلّ حال دليل على أنّ التّقيّة تسدّ الأبواب على العدوّ. لاباب المضرة فقط، بل باب التّعيير و اللّوم و غيرهما. فهي الحصن الحصين الّذي لايقدرون ظهوره، و لايستطيعون له نقباً.

و يكون فيها أيضاً نجاة و صيانة للأئمّة عليه السلام عن سفلة الرّعيّة الّتي قد بدت البغضاء من أفواههم و ما تخفي صدورهم أكبر، فمعها لايجدون عذراً الى نيل الأعراض و هتك الحرمة، كما ورد في رواية (المجالس) عن الإمام علي بن محمد، عن آبائه عليهم السلام قال: (قال الصّادق عليه السلام: ليس منّا من لم يلزم التّقيّة، و يصوننا عن سفلة الرّعيّة) «4».

الأمر الثاني: أقسام التّقيّة و غاياتها

و قد تبيّن ممّا ذكر أنَّ غاية التّقيّة لاتنحصر في حفظ الأنفس و دفع الخطر عنها أو عن ما يتعلّق بها من الأعراض و الأموال، بل قد يكون ذلك لحفظ وحدة المسلمين، و جلب المحبّة، و دفع الضّغائن فيما ليس هناك دواع مهمّة إلى إظهار العقيدة و الدّفاع عنها.

كما أنّه قد تكون لمصالح أُخر، من تبليغ الرّسالة بنحو أحسن كما

في قصّة إبراهيم عليه السلام «1» و احتجاجه على عبدة الأصنام، أو مصلحة أخرى كما في قصّة يوسف مع إخوته.

فهي- بمعناها الوسيع- تكون على أقسام: الخوفي، و التحبيبي، و التّقيّة لمصالح أُخر مختلفة.

و غير خفي أنّها بأجمعها تشترك فى معنى واحد و ملاك عام، و هو إخفاء العقيدة أو إظهار خلافها، لمصلحة أهمّ من الإظهار. فالأمر في جميعها دائر بين ترك الأهمّ و المهم، و العقل و النّقل يحكمان بفعل الأوّل و ترك الثّاني، من غير فرق بين أن تكون المصلحة الّتي هي أهمّ حفظ النّفوس أو الأعراض و الأموال، أو جلب المحبّة و دفع عوامل الشّقاق و البغضاء، أو غير ذلك ممّا لايحصى.

الأمر الثالث: موارد وجوبها
اشارة

قد ظهر ممّا ذكرنا أيضاً أنّها تجب في مواضع كثيرة، بينما هي جائزة بالمعنى الأخصّ في موارد أخرى، و ضابط الجميع ما عرفت، و هي:

إن المصلحة الّتي تنحفظ بفعل التّقيّة إن كانت ممّا يجب حفظها و يحرم تضييعها، وجبت التّقيّة؛ و إن كانت مساوية لمصلحة ترك التّقيّة جازت (الجواز

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 388

بالمعنى الأخصّ)؛ و إن كان أحد الطّرفين راجحاً فحكمها تابع له.

ثمّ إن كشف موارد الوجوب عن غيرها يعلم بمراجعة مذاق الشّرع، و أهميّة بعض المصالح و رجحانها على بعض في نظره، كما يمكن كشف بعضها بمراجعة العقل أيضاً، كما في موارد حفظ النّفوس إذا كانت التّقيّة بمثل ترك المسح على الرّجلين و الاكتفاء بالمسح على الخفين مثلًا، و أشباهه.

فالرّوايات الدّالّة على أنّ التّقيّة من الدّين، و أنَّ تاركها يعاقب عليه، و أنَّ تركها مثل ترك الصّلاة، و أمثال هذه التّعبيرات، ناظرةٌ إلى موارد الوجوب، و المصالح المهمّة الّتي لايمكن تركها و الأغماض عنها.

و ما يدلّ على أنّها داخلة في

قوله تعالى «إدْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ السَّيَّئَة» «1»

و أنّه إذا عمل بالتّقيّة: «فإِذا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَليٌّ حَمِيمٌ» «2»

و أمثال هذه التّعبيرات، يدلّ على موارد رجحانها و استحبابها. «3»

إلى غير ذلك ممّا يظهر للمتأمّل في الأبواب المشتملّة على أخبار التّقيّة؛ فإنّ ألسنتها مختلفة غاية الإختلاف كلّ يشير إلى مورد، فلا يجوز الحكم على جميعها بشي واحد، كما هو أظهر من أن يخفى.

فمثل المداراة الّتي أمر بها رسول اللّه صلى الله عليه و آله (الواردة في الرّواية 17 من الباب 24) و ما ورد فيها من أنّه قد أدبّه اللّه بالتّقيّة بقوله عزّ و جلّ: «ادْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ ...» داخل في قسم المستحبّ.

و كذا ما ورد في ذيل هذا الحديث بعينه من قوله:

(من استعمل التّقيّة في دين اللّه فقد تسنّم الذّروة العليا من القرآن، و إنّ عزّ المؤمن في حفظ لسانه)، لعلّه أيضاً إشارة إلى هذه الموارد، و لاأقلّ من أنّه أعمّ من موارد الوجوب و الاستحباب.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 389

و ستأتي موارد رجحان ترك التّقيّة و جواز الاظهار أيضاً.

تنبيه:

و لعلّك بالنّظر الدّقيق فيما عرفت لاتشك في أنّ وجوب التّقيّة أو جوازها فيما مرّ من مواردها ليس أمراً تعبّديّاً ورد فى الأخبار المرويّة من طرق الخاصّة و روايات أئمّة أهل البيت عليهم السلام، فقط بل يدلّ عليه الأدلّة الأربعة: كتاب اللّه عزّوجلّ- و قد أوعزنا إلى موارد الدّلالة من الكتاب العزيز-، و الإجماع القاطع، و الأحاديث المتواترة، الّتي نقلنا شطراً منها و استغنينا بها عن غيرها اختصاراً للكلام، و حكم العقل القاطع مع صريح الوجدان.

بل لايختصّ ذلك بقوم دون قوم، و ملّة دون أخرى، و إنّ اختصّ هذا الإسم و العنوان

ببعضهم. كما أنّها لاتختصّ بالملّيين و أرباب الدّيانات بل تعمّ غيرهم أيضاً.

فهل ترى أحداً من العقلاء يوجب إظهار العقيدة في موارد لافائدة في إظهارها، أو يجد فيها نفعاً قليلًا مع المضرّة القاطعة الكثيرة الموجودة في إظهارها، في النّفوس أو الأعراض أو الأهداف المهمّة الّتي يعيش بها، ولها؟

و الإنصاف أنّ ما يلهج به لسان قوم من مخالفينا في المذهب من حرمة التّقيّة بنحو مطلق من دون استثناء، لايتجاوز عن آذانهم، حتّى أنّه لايوجد في أعمالهم أثر منه، و إنّما هو لعق على ألسنتهم يحوطونه مادرّت به معايشهم و أغراضهم؛ و أمّا عند العمل، فهم و غيرهم سواء في الأخذ بحكم العقل و صريح الوجدان بإخفاء العقيدة في ما لا نفع في إظهارها فيه بل فيه مضرّة بالّغة الخطورة، سمّوه تقيّة أو لم يسموه.

ولكن سيأتي أنّ هناك موارد يحرم التّقيّة فيها، بل يجب فيها التّضحية و الفداء و بذل الأموال و الأنفس و الثّمرات.

كما أنّه قديرجّح ذلك على الإخفاء، و تكون التّقيّة مرجوحة، و تركها راجحاً و فضلًا.

كلّ ذلك منوط بالظّروف الخاصّة و ما فيها من الشّرائط و الجهات. و من هنا قد يجد الفقيه البارع المجاهد، العارف بزمانه، الخبير بمواضع أحكام اللّه، ظرفاً خاصاً

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 390

منطبقاً لمورد الحرمة أو الكراهة فيحكم علانية بحرمة التّقيّة، و الجهاد بالأموال و الأنفس، و رفض المدارة فيها. و لايريد رفضها مطلقاً و إنّما يريد في تلك الظّروف المعيّنة، بما فيها من المصالح.

فلا شكّ أنّه حكم خاص بذاك الظّرف و الزّمان، و ما أشبهه من الظّروف و الأزمنة، و ليس حكماً دائميّاً، و في جميع الشّرائط و الظّروف، كما هو واضح من أن يخفى و أن ينكر.

الأمر الرابع: متى تحرم التّقيّة؟
اشارة

قد مرّ في

أوّل البحث عن هذه القاعدة أنّ التّقيّة- كما أشار إليه غير واحد من أعاظم المحقّقين- تنقسم بالأحكام الخمسة، و قد أشرنا أخيراً إلى موارد وجوبها و رجحانها و جوازها إجمالًا.

كما أنّه أشرنا إلى الضّابطة الّتي تكون مقياساً لكشف موارد حرمتها، و هي كلّ مورد تكون المصلحة المرتبة على ترك التّقيّة أعظم من فعلها، ممّا لايرضى الشّارع المقدّس بتركها، أو يستقلّ العقل في الحكم بحفظها.

و قد أشير إلى غير واحد من هذه الموارد في روايات الباب و هي أمور:

1- لايجوز التّقيّة في فساد الدّين

إذا، استلزفت التّقيّة فساداً في الدّين و تزلزلًا في أركان الإسلام، و محواً للشّعائر، و تقوية للكفر، أو كانت في كلّ ما يكون حفظه أهمّ في نظر الشّارع من حفظ النّفوس أو الأموال و الإعراض، ممّا يشرع له الجهاد أيضاً، و الدّفاع عنه و لو بلغ ما بلغ. ففي كلّ ذلك لاشكّ في حرمتها و لزوم رفضها.

ولكن تشخيص ذلك ممّا لايمكن للمقلّد غالباً، بل يكون بأيدي الفقهاء و المجتهدين، لاحتياجه إلى مزيد تتبّع في أدلّة الشّرع، و الاطّلاع على مذاق الشّارع و

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 391

مغزي أحكامه.

و يشهد لهذا- مضافاً إلى أنّه من الأمور الّتي دليلها معها، و مبني على قاعدة عقليّة واضحة و هي و ترجيح جانب الأهمّ إذا دار الأمر بينه و بين المهمّ- غير واحد من الأخبار:

منها: ما رواه في (الكافي) عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبداللّه عليه السلام- في حديث-:

(إنّ المؤمن إذا أظهر الإيمان ثمّ ظهر منه ما يدلّ على نقضه خرج ممّا وصف و أظهر، و كان له ناقضاً، إلّاأن يدّعي أنّه إنّما عمل ذلك تقيّة، و مع ذلك ينظر فيه، فإن كان ليس ممّا يمكن أن تكون التّقيّة في مثله

لم يقبل منه ذلك؛ لأنّ للتّقيّة مواضع من أزالها عن مواضعها لم تستقم له، و تفسير مايتّقى مثل أن يكون قوم سوء ظاهر حكمهم و فعلهم على غير حكم الحقّ و فعله، فكل شي يعمل المؤمن بينهم لمكان التّقيّة ممّا لايؤدّي إلى الفساد في الدّين فإنّه جائز) «1».

فإنّ قوله عليه السلام في ذيل تفسير موارد التّقيّة، و ما يجوز ممّا لايجوز: (ممّا لايؤدّي إلى الفساد في الدّين) يدّل بمفهومه على عدم جواز التّقيّة إذا أدّت إلى ذلك.

و منها: ما رواه «الكشّي» في رجاله، عن درست بن أبي منصور، قال: (كنت عند أبي الحسن موسى عليه السلام و عنده «الكميت بن زيد» فقال للكميت: أنت الّذي تقول:

فالآن صرت إلى أميّة- و الأمور إلى مصائر

قال: قد قلت ذاك فواللَّه ما رجعت عن إيماني، و إنّي لكم لموال و لعدوّكم لقال، ولكنّي قلته على التّقيّة، قال: أمّا لئن قلت ذلك أنّ التّقيّة تجوز في شرب الخمر) «2»

و هذا يدلّ على اعتراض الإمام عليه السلام على الكميت في شعره الّذي معناه «الآن رجعت إلى أميّة و أمورها الآن إلي ترجع». فإنّه مدح بالغ لهم، و دليل على رجوعه إليهم بعد أن كان معروفاً بالموالاة لأئمّة أهل البيت عليهم السلام.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 392

ولكن الكميت النّاصر لأهل البيت عليه السلام بقلبه و لسانه اعتذر بأنّه إنّما قاله بلسانه تقيّة و حفظاً لظواهر الأمور. و لكنَّ الإمام عليه السلام لم يقنع بعذره، و أجابه بأنّ باب التّقيّة لو كان واسعاً بهذه الوسعة لجاز الإتّقاء في كلّ شي حتّى في شرب الخمر، مع أنّه لايجوز.

فهو دليل على عدم جواز التّقيّة بمثل هذا المدح البالغ لبني أميّة، الجائرة أو إظهار المحبّة لهم. و

هذا من مثل الكميت الشّاعر البارع المشهور بحبّه للأئمّة عليه السلام قد يوجب تقوية لدعائم الكفر و الضّلال، و تأييداً لبقيّة أحزاب الجاهليّة و أشياعهم، فلايجوز له، و لو جاز فإنّما هو في شرائط و ظروف بالّغة الخطورةٌ لافي مثل ما قال الكميت فيه، فلذا واجهه عليه السلام بالعتاب.

و إذا لم تجز التّقيّة بمثل هذا البيت من الشّعر لم تجز في أشباهه، ممّا تقوى به كلمة الكفر و أعلام الضّلال، و يخفى به الهدى، و يشتبه به الحقّ بالباطل على كثير من النّاس، لاسيّما من الّذين يكون كلامهم و فعلهم يستند إليه النّاس في أعمالهم.

فالتّقيّة في هذه الموارد حرام. ولكنّ تشخيص هذه الظّروف من غيرها- كما أشرنا إليه آنفاً- موكول إلى نظر الفقيه غالباً.

و منها: ما رواه الطّبرسي في (الاحتجاج) عن أبي محمّد الحسن بن عليّ العسكري عليه السلام- في حديث (إنَّ الرّضا عليه السلام جفا جماعة من الشّيعة و حجبهم، فقالوا: يابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ما هذا الجفاء العظيم و الاستخفاف بعد الحجاب الصّعب؟ قال:

لدعواكم أنّكم شيعة أميرالمؤمنين عليه السلام، و أنتم في أكثر أعمالكم مخالفون، و مقصّرون في كثير من الفرائض، و تتهاونون بعظيم حقوق إخوانكم في اللّه، و تتّقون حيث لاتجب التّقيّة، و تتركون التّقيّة حيث لابدّ من التّقيّة) «1».

و هذه الرّواية و إن لم يصرح فيها باستثناء مايلزم منه فساد الدّين، إلّاأنّ القدر المتيقّن منها هو ذلك؛ إذ لايوجد هناك أمر أهمّ منه يجوز لأجله ترك التّقيّة. أللّهمّ

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 393

إلّا أن يقال: إنّ المراد منه التزامهم بالتّقيّة فيما ليس هناك خوف، و تركهم لها فيما يكون هناك خوف؛ فهي ناظرة إلى تخطئتهم في المصاديق،

لا في المستثنيّات الحكميّة، فتأمّل.

و منها: مارواه الشّيخ في (التّهذيب) عن أبي حمزة الّثمالي قال: (قال أبوعبداللّه عليه السلام: ... و أيم اللّه لو دعيتم لتنصرونا لقلتم: لا نفعل إنّما نتّقي، و لكانت التّقيّة أحبّ إليكم من آبائكم و أمّهاتكم، و لو قد قام القائم ما أحتاج إلى مساءلتكم عن ذلك، و لأقام في كثير منكم من أهل النفاق حدّ اللَّه «1»!

و دلالته على لزوم ترك التّقيّة فيما إذا وقع الدّين فى الخطر و استنصر الإمام عليه السلام من النّاس، غير خفيّة على أحد. و إنّ من لزوم التّقيّة في هذه الموارد أنَّه إذا قام القائم عليه السلام أقام حدّ المنافق في كثير ممّن هم كذلك. فالتّقيّة في هذه الموارد من أشدّ المحرّمات و آكدها.

و على كلّ حال لاينبغي الرّيب في وجوب رفض التّقيّة و إذا خيف على أساس الدّين و أحكامه و محو آثاره، الّتي جاهد في تحكيم دعائمها المهاجرون الأوّلون، و الّذين اتّبعوهم بإحسان، و افتدوا بأموالهم و أنفسهم في طريقها طلباً لمرضاة اللّه.

فكيف تجوز التّقيّة المستتبعة لهدمها و القضاء عليها، فهل يكون هذا إلّاتضاد ظاهراً و تحكّماً باتّاً؟!

2- لاتجوز التّقيّة في الدّماء

إذا بلغت التّقيّة الدم فالواجب رفضها و عدم الخوض فيها، كما إذا أمر الكافر أو الفاسق بقتل مؤمن، و يعلم أو يظنّ بأنّه لو تركه لأدّى ذلك إلى قتل نفس المأمور، فلا يجوز القتل تقيّه و حفظاً للنّفس؛ لأنّ المؤمنين تتكافى ء دماؤهم، و إنّما جعلت التّقيّه لحقن الدّماء و حفظ النّفوس، فإذا بلغت الدّم فلا معنى لتشريعها، و كانت ناقضة للغرض؛ لأنّ حفظ دم واحدٍ لايوجب جعل دم اخَرَ هدراً، و لايجوز في حكمة

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 394

الحكيم هذا.

و قد صرّح به في غير

واحد من أحاديث الباب:

منها: ما رواه محمد بن يعقوب الكليني في (الكافي) عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، قال: (إنّما جعلت التّقيّة ليحقن بها الدّم، فإذا بلغ الدّم فليس تقيّة) «1».

منها: ما رواه الشّيخ في (التّهذيب) عن أبي حمزة الّثمالي، قال: (قال أبوعبداللّه عليه السلام: لم (لن) تبق الأرض إلّاو فيها منّا عالم، يعرف الحقّ من الباطل، قال:

إنّما جعلت التّقيّة ليحقن بها الدّم، فإذا بلغت التّقيّة الدّم فلاتقيّة) «2».

3- يحرم التّقيّة في شرب الخمر و شبهه

قد ورد في رّوايات مختلفة تحريم التّقيّة في أمور هامّة، منها شرب الخمر، و النّبيذ، و المسحّ على الخفين، و متعة الحجّ. فلنذكر ما ورد فيها ثمّ نبيّن وجهها.

منها: ما رواه في (الكافي) عن أبي عمر الأعجمي، عن أبي عبداللّه عليه السلام- في حديث- قال: (و التّقيّة في كلّ شي إلا في النّبيذ و المسح على الخفّين) «3».

و منها: ما رواه فيه أيضاً عن زرارة قال: (قلت له: في مسح الخفّين تقيّة؟ فقال:

ثلاثة لا أتقي فيهنّ أحداً: شرب المسكر، و مسح الخفّين، و متعة الحج، قال زرارة: و لم يقل: الواجب عليكم أن لاتتّقوا فيهنّ أحداً). «4»

و لعلّ الوجه في حرمة التّقيّة في هذه الأمور أن موضوعها منتفٍ فيها؛ فإنّها شرّعت لحفظ النّفوس إذا كان هناك مظنّة للخطر و الضّرر، و من المعلوم أنّه لايكون

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 395

إلّا في الأعمال الخاصّة الّتي لم يصرّح بها في كتاب اللّه أو السنّة القطعيّة، فإذا كان هناك تصريح بها فهو عذر واضح لفاعلها، و إن خالف سيرة القوم و طريقتهم فيها.

فحرمة شرب المسكر، الخمر و النّبيذ و شبههما ممّا صرّح به كتاب اللّه، فلو خالفه أحد و اعتقد جواز شربها جهلًا، أو تعنتاً، لاتجور التّقيّة

منه فيها، لظهور الدّليل و وضوح العذر و قيام الحجّة، فليس هناك مساغ للتّقيّة و لامجوز لها.

و كذلك متعة الحج، فقد قال اللّه تبارك و تعالى: «فَمَنَ تَمَتّعَ بِالعَمْرَةِ إِلى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ ... ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ» «1»

و هو دليل على جواز عمرة التمتّع أو وجوبها. و قد ورد في السنة النّبويّة أيضاً الأمر بها. و قد رواه الفريقان في كتبهم، بل ما نقل عن «عمر» في قوله: «متعتان كانتا محلّلتان على زمن النّبي أنّا أحرمهما»، أيضاً دليل على تشريع متعة الحج على لسان النّبي صلى الله عليه و آله، و في عهده صلى الله عليه و آله.

و هذا كاف في ترك التقيّة فيها؛ لعدم الخوف بعد إمكان الاستناد إلى القرآن و السنّة الثّابتة.

و هكذا ترك المسح على الخفّين، و الاقتصار على المسح على البشرة؛ فإنّه أيضاً موافق لظاهر كتاب اللّه أو صريحه، فقد قال تعالى: «وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرجْلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْن» «2»

و من الواضح أنّ المسح بالرّأس و الرّجل لايكون إلّابالمسح عليهما نفسهما، لا على القلنسوة أو الخفّ مثلًا. و من عمل به إنّما عمل بكتاب اللّهُ و لاخوف له في ذلك في أجواء الإسلام و بين المسلمين، و لو خالف فيه من خالف.

و قد تحصّل ممّا ذكرنا أنّ نفي التّقيّة فيها إنّما هو من باب التّخصّص و الخروج الموضوعي، لامن باب التّخصيص و الخروج الحكمي.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 396

و أمّا احتمال كونها من باب التّخصيص، بأن يكون المراد نفي جوازها، لو فرض هناك خوف وقوع النّفس في الخطر و كان المقام بالغ الخطورة، نظراً إلى أهميّة هذه الأحكام- أعني حكم تحريم الخمر، و مشروعيّة متعة

الحج، و عدم جواز المسح على الخفّين- فهو ممنوع جدّاً؛ لأنّ مثل المسح على البشرة، أو متعة الحج، ليس أهمّ من جميع الأحكام الاسلاميّة حتّى ينفرد بهذا الاستثناء، كما لايخفى.

بل الإنصاف أنّ الرّوايات ناظرة إلى ما ذكرنا من عدم الحاجة و الضّرورة غالباً إلى التّقيّة في هذه الأمور، بعد وضوح مأخذها من كتاب اللّه و السنة القاطعة.

فعلى هذا لو أغمضنا النظّر عن هذه الغلبة، و كان هناك ظروف خاصّة لايمكن فيها إظهار هذه الأحكام، لغلبة الجهل و العصبيّة على أهلها، و كان المقام بالغ الخطورة، كالخطر على النّفوس أو الأموال و الأعراض ذات الأهميّة، فلاينبغي الشكّ في جواز التّقيّة في هذه الأمور أيضاً.

أرأيت لو كان هناك حاكم مخالف جائرٌ يرى المسح على الخفّين لازماً، أو يحرّم متعة الحج و يقتل من لايعتقد بذلك بلا تأمّل، فهل يجوز ترك التّقيّة فيها و استقبال الموت؟ كلا، لا أظنّ أن يلتزم به أحد. و كذلك المضار الّتي دون القتل ممّا يكون في مذاق الشّارع أهمّ من رعاية هذه الأحكام في زمن محدود، لايجب تحمّلها و رفض التّقيّة فيها.

و ممّا ذكرنا يظهر أنّ ما استنبطه (زرارة) في الرّواية السّابقة من أنّه عليه السلام لم يقل:

الواجب عليكم أن لاتتّقوا فيهنّ أحداً، بل قال: لا أتقي فيهنّ أحداً، و كأنّه حَسِبَ ذلك من مختصّات الإمام عليه السلام، ممنوع أيضاً؛ فإنّ الحكم عام لكلّ أحد بعد وضوح مأخذ هذه الأحكام في الكتاب و السنّة، و عدم الاضطرار إلى التّقيّة فيها. فاستنباطه هذا في غير محلّه، و إن كان هو من فقهاء أهل البيت و أمنائهم عليه السلام، فإنّ الجواد قد يكبو، و العصمة تختصّ بأفراد معلومين عليهم آلاف الثّناء و التحيّة.

(و يدلّ

على ما ذكرنا مارواه الصّدوق في (الخصال) بإسناده عن على عليه السلام في حديث الأربعمأة، قال: ليس في شرب المسكر و المسح على الخفّين تقيّة «1».

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 397

فإنّ ظاهره عدم جواز التّقيّة فيها على أحد. و كذلك ما مرّ سابقاً من رواية أبي عمر الأعجمي عن الصّادق عليه السلام: (و التّقيّة في كلّ شي ء إلّافي النّبيذ، و المسح على الخفّين)، فإنّ ظاهره أيضاً عموم الحكم لكلّ أحد.

و ممّا يؤيّد ما ذكرنا من جواز التّقيّة في هذه الأمور أيضاً إذا اضطرّ إليها- و لو نادراً- ما رواه الشّيخ في (التّهذيب) عن أبي الورد، قال: (قلت لأبي جعفر عليه السلام: إنّ أبا ظبيان حدّثني أنّه رأى عليّاً عليه السلام أراق الماء، ثمّ مسح على الخفّين، فقال: كذب أبوظبيان، أما بلغك قول علي عليه السلام فيكم: سبق الكتاب الخفّين؟ فقلت: فهل فيهما رخصة؟ فقال: لا، إلّامن عدو تتقيّه، أو ثلج تخاف على رجليك)»

.و فيه أيضاً إشارة إلى ما ذكرنا من أنّه بعد ورود المسح على الرّجلين في آية المائدة في الكتاب العزيز لم يجز لأحد المسحّ على الخفّين.

4- لاتجوز التّقيّة في غير الضّرورة

قد صُرِّح في غير واحد من الرّوايات الواردة عن المعصومين عليهم السلام بأنّه لاتجوز التقّيّة في غير الضّرورة. و معلوم أنّ ذلك أيضاً ليس من قبيل الاستثناء من الحكم و التّخصيص. بل من قبيل الخروج الموضوعي و الاستثناء المنقطع، المسمّى بالتّخصص، فإنّه إذا لم يكن هناك ضرورة لم يكن هناك تقيّة؛ لأخذ الخوف في موضوعها، كما عرفت في أوّل البحث عن هذه القاعدة.

و إليك بعض ما ورد في هذا الباب أيضاً:

منها: ما رواه الكليني عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: (التّقيّة في كلّ ضرورة، و صاحبها أعلم بها

حين تنزل به) «2».

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 398

و منها: ما رواه الكليني أيضاً في (الكافي) عن إسماعيل الجعفي، و معمّر بن يحيى سام و محمد بن مسلم، و زراة قالوا: (سمعنا أباجعفر عليه السلام يقول: التّقيّة في كلّ شي يضطرّ إليه ابن آدم فقد أحلّه اللّه له). «1»

و منها: ما رواه في (المحاسن) عن عمر بن يحيى بن سالم، عن أبي جعفر عليه السلام قال:

(التّقيّة في كلّ ضرورة) «2».

و الّذي تجب الإشارة إليه هنا أنّ هذه الرّوايات الثلاث المرويّة بطرق متعدّدة معتبرة كلّها أو جلّها، تدلّ على عموم التّقيّة لجميع الضّرورات، و لكلّ مايضطرّ إليه الإنسان، و يمكن الإعتماد عليها، كما سيأتي الاستناد إليها في بعض الفروع الهامّة المترتّبة عليها. و إن كنّا في غنى عنها من بعض الجهات، بالدّليل، العقلي، و صريح الوجدان الدّالّ على وجوب ترجيح الأهمّ على المهمّ عند الدوران، و بالعمومات الدّالّة على رفع ما اضطرّوا إليه، أو أنّه ما من شئ حرمه اللّه إلّاو قد أحلّه لمن اضطرّ إليه.

هذا ولكن سيأتي- إن شاء اللّه- أنّا لسنافي غنى منها من جميع الجهات، لحلّ بعض المعضلات بها ممّا لايمكن بغيرها، فتدبّر.

الأمر الخامس: حكم التّقيّة في إظهار كلمة الكفر و البراءة
اشارة

اتّفق النّص و الفتوى على جواز التكلّم بكلمة الكفر، و البراءة باللسان، مع حفظ الإيمان بالقلب و الجنان، عند الخطر على النّفس و الخوف. ولكن اختلفوا في أنّ الرّاجح ترك التّقيّة هنا و تحمل الضّرر و لو بلغ ما بلغ، أو أنّ الرّاجح فعل ما يندفع به الضّرر و الخطر؟

الظاهر أنَّ في ذلك اضطراباً في أخبار الباب و الفتاوى في بدء النّظر، ولكن سيأتي بعد ذكر الجميع و التكلّم فيها أنّ الحقّ فيه التّفصيل بحسب الأزّمان و

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 399

الأشخاص و

الظّروف، و لعلّه الطّريق الوحيد للجمع بينها.

و لنتكلّم أوّلًا في جواز ذلك بالمعنى الأعمّ، ثمّ لنتكلّم في الرّاجح منهما، و فيما تمسك به أصحاب الأئمّة عليه السلام الأوّلون، المطيعون الصّادرون بأمرهم، النّاصرون لهم بالأيدي و الألسن و القلوب، الّذين افتدوا بأنفسهم في هذه السّبيل، و لم يظهروا كلمة البراءة و الكفر أبداً.

فنقول و منه سبحانه نستمد التّوفيق:

يدلّ على الجواز إجمالًا أحاديث كثيرة:

1- ما مرّ عند سرد الآيات الدّالّة على جواز التّقيّة في مظانّها في تفسير قوله تعالى: «إلّامَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌ بِالإيِمَانِ» من فعل عمّار، و ماروته العامّة و الخاصّة في هذه المجال، من أنّ أبويه لم يُظهرا كلمة الكفر فقُتلا، و أنّ عمّاراً أظهر و نجى، ثمّ أتى رسولَ اللّه صلى الله عليه و آله باكياً، فقال جمع من الصّحابة: كفر عمّار، ولكن جعل رسولُ اللّه صلى الله عليه و آله يمسح عينيه و يقول له: إن عادوا لك فُعُدْ لهم بما قلت، فنزلت الآية «مَنْ كَفَرَ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلّامِنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌ بِالإِيَمانِ».

2- ما روته العامّة و الخاصّة في كتبهم- و قد مرّ ذكره أيضاً عند ذكر الآيات- من حديث رجلين من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله مع مسيلمة الكذّاب حيث لأحدهما: إشهد أنّي رسول اللّه، فشهدو نجا، و أمّا الآخر فقد أبى و قُتل، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله في حقّهما: أمّا الأوّل فقد أخذ رخصة اللّه، و أمّا الثّاني فقد صرع بالحقّ فهنيئاً له.

و في هذه الرّواية و إن لم يكن ذكر عن البراءة عن الرّسول صلى الله عليه و آله، ولكن الشّهادة برسالة مسيلمة كانت من كلمة الكفر نفسه، فيدلّ على

الجواز في غيره بطريق أولى، فتدبّر.

3- و في معناهما ما رواه الكليني في (أصول الكافي) عن عبداللّه بن عطا قال:

(قلت: لأبي جعفر عليه السلام: رجلان من أهل الكوفة أُخذا فقيل لهما: إبرءا عن أميرالمؤمنين عليه السلام فبرى ء واحد منهما، و أبى الآخر فخلّي سبيل الأوّل الّذي برى ء و قتل الآخر، فقال: أمّا الّذي برى ء فرجل فقيه في دينه، و أمّا الّذي لم يبرأ فرجل تعجّل إلى الجنّة) «1».

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 400

و سنتكلّم- إن شاء اللّه- في دلالتها على رجحان ترك التّقيّة أو فعلها.

4- مارواه الكليني عن مسعدة بن صدقة قال: (قلت لأبي عبداللّه عليه السلام: إنّ النّاس يروون أنّ عليًّا عليه السلام قال على منبر الكوفة: أيّها النّاس إنّكم ستدعون إلى سبّي فسبوني، ثمّ تدعون إلى البراءة منّي فلاتبرأو منّي. فقال: ما أكثر ما يكذب النّاس على علي عليه السلام! ثمّ قال: إنّما قال: إنّكم ستدعون إلى سبّي فسبّوني، ثمّ تدعون إلى البراءة منّي و إنّى لعلّى دين محمّد صلى الله عليه و آله، و لم يقلّ: ولاتبرأوا منّي، فقال له السّائل: أرأيت إن أختار القتل دون البراءة؟ فقال: و اللّه ما ذلك عليه، و ما له إلّاما مضى عليه عمّار بن ياسر حيث أكرهه أهل مكّة و قلبه مطمئن بالإيمان، فأنزل اللّه عزّوجلّ فيه: «إلّامَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنُ بِالإِيمَان»، فقال له النّبي صلى الله عليه و آله: يا عمّار إن عادوا فَعُدْ، فقد أنزل اللّه عذرك، و أمرك إن تعود إن عادوا) «1».

و ظاهر هذه الرّواية في بدء النّظر وجوب التّقيّة هنا أيضاً، ولكن بعد التأمّل يظهر أنّها ناظرة إلى نفي الحرمة فقط، لاسيّما بالنّسبة إلى البراءة عن علي عليه السلام و

الأئمّة من ولده عليهم السلام الّتي رووا حرمتها و إن جاز السبّ، و سيأتي الكلام فيها عن قريب- إن شاء اللّه-

هذا مضافاً إلى أنّ قوله عليه السلام: (واللّه ماذلك عليه)، و نقله حديث عمّار، دليلٌ على أنّه بصدد نفي الحرمة، لا إثبات وجوب التّقيّة هناك، و لذا كان فعل أبوي عمّار أيضاً جائزاً كما يظهر من قصّتهم.

5- ما رواه محمد بن مسعود العياشي في تفسيره، عن أبي بكر الحضرمي، عن أبي عبداللّه صلى الله عليه و آله- في حديث- أنّه قيل له: مدّ الرّقاب أحبّ إليك أم البراءة من علي عليه السلام؟

فقال: الرّخصة أحبّ إليَّ، أما سمعت قول اللّه عزّ و جلّ في عمّار: «إلّامَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌ بِالإِيمَانِ» «2».

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 401

و سيأتي أنّ دلالته على رجحان الرّخصة معارض بغيره، و سوف نذكر طريق الجمع بينهما إن شاء اللَّه.

6- ما رواه العياشي أيضاً عن عبداللّه بن عجلان عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: (سألته و قلت له: إنّ الضّحّاك قد ظهر بالكوفة، و يوشك أنّ ندعى إلى البراءة فكيف نصنع؟

قال: فابرأ منه، قلت: أيّهما أحبّ إليك؟ قال: أن تمضوا على ما مضى عليه عمّار بن ياسر، أُخذ بمكّة فقالوا له: إبرأ من رسول اللّه صلى الله عليه و آله فبرأ منه، فأنزل اللّه عزّ و جلّ عذره:

«إلّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌ بِالإِيمَانِ» «1».

و ظاهره أيضاً و إن كان الوجوب بادى ء الأمر، إلّاأنّ الأمر هنا في مورد توهّم الحظر؛ للرّوايات الدّالّة بظاهرها على المنع عن البراءة، فلا يدلّ على الوجوب. و يؤيّده استشهاده بقضيّة عمّار الّذي قتل أبواه و لم يظهرا كلمة الكفر، و لم يقدح في أمرهما رسول اللّه صلى الله عليه

و آله، فهو على كلّ حال دليل على مجرّد الرّخصة و الجواز لاغير.

7- ما رواه الطّبرسي في (الاحتجاج) عن أميرالمومنين عليه السلام في احتجاجه على بعض اليونان «2» قال:

(و آمرك أن تستعمل التقيّة في دينك، فإنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: «لَايَتَّخِذِ المؤمنونُ الكافرينَ أولياءَ مِنْ دُونِ المؤمنينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَليسَ مِنَ اللّهِ في شَيٍ إلّاأَنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقَاة» و قد أذنت لكم في تفضيل أعدائنا إن ألجأك الخوف إليه. و في إظهار البراءة إنّ حملك الوجل عليه، و في ترك الصّلوات المكتوبات إن خشيت على حشاشة نفسك الآفات و العاهات؛ فإنّ تفضيلك أعداءنا عند خوفك لاينفعهم و لايضرنا، و إنّ إظهارك براءتك منّا عند تقيّتك لايقدح فينا، و لاينقصنا، و لئن تبرأ منّا ساعة بلسانك و أنت موالٍ لنا بجنانك، لتبقي على نفسك روحها الّتي بها قوامها، و مالها الّذي به قيامها، و جاهها الّذي به تمسكها، و تصون من عرف بذلك أولياءنا و

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 402

إخواننا، فإنّ ذلك أفضل من أن تتعرّض للهلاك، و تنقطع به عن عمل فى الدّين، و صلاح إخوانك المؤمنين، و إيّاك ثمّ إيّاك أن تترك التقيّة الّتي أمرتك بها، فإنّك شائط بدمك و دماء إخوانك، معرّض لنعمتك و نعمتهم للزّوال، مذل لهم في أيدي أعداء دين اللّه، و قد أمرك اللّه بإعزازهم، فإنّك إن خالفت وصيّتي كان ضررك على إخوانك و نفسك أشدّ من ضرر النّاصب لنا، الكافر بنا) «1».

قال الفيروزآبادي في (القاموس): «و يونان بالضّمّ قرية ببعلبك، و أخرى بين برذعة و ييلقان».

و لعلّ هذا الحديث إنّما صدر منه عليه السلام و لم تخلص الشّامات و ضواحيها عن الشّرك و سيطرة الرّوم بعد؛ فإنّ

التّقيّة بترك الصلاة- المراد به ترك صلوة المختار، لاالمضطرّ الّذي يمكن أداؤها بمجرّد الإيماء و الإرشارة- لايكون بين المسلمين بل يكون بين الكفّار قطعاً.

ثمّ أنّ ظاهر قوله: (فإنّ ذلك أفضل من أن تتعرّض للهلاك الخ) و إن كان ظاهراً في أفضليّة التّقيّة من تركها في أمثال المقام بادى ء الأمر، إلّاأنّ قوله بعد ذلك في ذيل الحديث: (ايّاك ثمّ إيّاك الخ) و قوله: (كان ضررك على إخوانك و نفسك أشدّ من ضرر النّاصب لنا الكافر بنا) دليل واضح على وجوب التقيّة هنا. و إنّ أفعل التّفضيل هنا للتعيّن مثل: «و أُولي الأرحامِ بعضُهُم أولى ببعضٍ في كتابِ اللّهِ»، و مثل قوله في روايات يوم الشّك: (أحبّ من أن تضرب عنقي).

فعلى هذا تتمّ دلالة الرّواية على الوجوب، في موارد البراءة و إظهار كلمة الكفر و غيرهما. ولكن إرسالها يسقطها عن الحجّية؛ فإنّ الطّبرسي (رحمة اللّه) نقلها عن أميرالمؤمنين عليه السلام بدون ذكر السّند. و نقلُها في تفسير العسكري لايجعلها حجّة بعد الكلام المعروف حول التّفسير المزبور، فتأمّل.

و لو تمّت حجّيتها سنداً مع وضوحها دلالة أشكل العمل بها، بعد معارضتها

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 403

بالرّوايات الكثيرة المستفيضة أو البالغة حد التّواتر على جواز ترك التقيّة هنا، فلا بدّ من حملها على التّفصيل الآتي أو على بعض الظّروف الخاصّة.

هذا و قد يظهر من غير واحد من أحاديث الباب التّفصيل بين السبّ و البراءة، بالجواز في الأوّل و المنع عن الثّاني، و إليك بعض ما ورد في الباب:

1- ما رواه الشّيخ في (مجالسه) عن محمد بن ميمون-، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جدّه عليهم السلام قال: (قال أميرالمومنين عليه السلام: ستدعون إلى سبيّ فسبّوني، و تدعون إلى البراءة منّي

فمدّوا الرّقاب فإنّي على الفطرة) «1».

و هذا صريح في التّفصيل بين السبّ و البراءة بجواز التقيّة فى الأوّل و المنع عن الثّاني.

2- ما رواه الشّيخ عن علي بن علي أخي دعبل الخزاعي، عن على بن موسى الرّضا، عن أبيه، عن آبائه، عن علي بن أبي طالب عليهم السلام أنّه قال: (إنّكم ستعرضون على سبيّ، فإن خفتم على أنفسكم فسبّوني، ألا و إنّكم ستعرضون على البراءة منّي، فلاتفعلوا، فإنّي على الفطرة) «2».

و الحديث مثل سابقه في الدّلالة على التّفصيل، و ظاهره حرمة البراءة.

3- ما رواه الرّضي قدس سره في (نهج البلاغة) عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: (أمّا إنّه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم، مندحق البطن، يأكل مايجد، و يطلب ما لايجد،، فاقتلوه و لن تقتلوه، ألا و إنّه سيأمركم بسبّي، و البراءة منّي، فأمّا السّب فسبّوني فإنّه لي زكاة و لكم نجاة، و أمّا البراءة فلا تتبرأوا منّي، فإنّي ولدت على الفطرة، و سبقت إلى الإيمان و الهجرة) «3».

و يعارض هذه الرّوايات ما مرّ في رواية مسعدة بن صدقة السابقة «4»؛ ولكن الإنصاف

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 404

أنّه يمكن حمل هذه الرّوايات على ذاك الزّمان العنود، و في تلك الأفاق الكاسفة نورها الظّاهرة غرورها، الّتي كان من الواجب كفاية- على الأقلّ- إظهار كلمة الحقّ و الإفتداء بالأنفس، لئلّا تنمحي آثار النّبوّة؛ لاجتماع أعداء أهل البيت على محو آثار الوصي عليه السلام، بل و النّبي صلى الله عليه و آله أيضاً إذا قدروا عليه، فأجيز لهم بارتكاب الدّرجات الخفيفة من المنكر تقيّة- و هي السب- و نهوا عن الشّديدة و هي البراءة. و لو ابتلينا- لاسمح اللّه- بأزمنة في مستقبل الأيّام و ظروف تشبه زمن أميرالمؤمنين عليه

السلام و ما أرادوا من محو آثاره عليه السلام بعد شهادته كان القول بوجوب مدّ الأعناق- بعد ضرب أعناق الأعداء و نشر كلمة الحقّ و إبطال الباطل- قويّاً، فتدبّر.

فهذا طريق الجمع بين روايات الباب، الّتي يدلّ أكثرها على الجواز، و بعضها على الحرمة في خصوص البراءة، و لايمكن تخصيصها في خصوص مورد البراءة؛ لصراحة بعضها في جوازها بالخصوص، أو جواز ما لا يتفاوت من البراءة فراجع.

و أمّا الكلام في المقام الثّاني؛ أعني ترجيح أحد الجانبين- ترك التّقيّة في إظهار كلمة الكفر، و فعلها- فالّذي ينبغي أن يقال فيه:

إنَّ الّذين يظهر من رواية الحسن الّتي مرّت سابقاً الحاكية لفعل رجلين في عصر رسول اللّه صلى الله عليه و آله الذين أخذهما مسيلمة الكذّاب، أنّ الرّاجح تركُ التّقيّة، و أنَّ التّارك لها صدع بالحقّ فهيئناً له، و أنَّ الآخذ بالتّقيّة أخذ برخصة اللّه فحسب.

و كذلك الرّوايات الثلاث عن البراءة، الآمرة بافتداء النّفوس و استقبال المنيّة في هذا السّبيل، فإنّها أيضاً تدلّ على تقديم ترك التّقيّة إذا جاوز الأمر عن السبّ و انتهي إلى البراءة، و في حكمها كلمات الكفر، فتدبّر.

هذا مضافاً إلى عمل جمع من بطانة أهل البيت، و خواصّ أصحاب علي عليه السلام و غيره من الأئمّة الطّاهرين (عليهم صلوات اللّه و سلامه)، مثل «حجر بن عدي»، و ستّة أو

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 405

عشرة أشخاص آخرين من أصحاب علي عليه السلام، الّذين قتلوا في «مرج عذراء» «1»، و لم يتبرأوا. أو مثل «ميثم الّتمّار» و «رشيد الهجري» و «عبداللّه بن عفيف الأزدي» و «عبداللّه بن يقطر» و «سعيد بن جبير»، و جمع ممّن قتلوا دون الحسين عليه السلام.

و ترجمة كثير من هؤلاء نقلها الموافق و المخالف.

فقد

قال «الذّهبي» في ترجمة «حجر» أنّه كان يكذّب زياد بن أبيه على المنبر، و حصبه «2» مرّة فكتب فيه إلى معاوية ... فسيّره زياد إلى معاوية، و جاء الشّهود، شهدوا عند معاوية عليه، و كان معه عشرون رجلًا فهّم معاوية بقتلهم، و أخرجوا إلى «عذراء».

و قيل: إنّ رسول معاوية جاء إليهم لمّا وصلوا إلى عذراء يعرض عليهم التّوبة، و البراءة من علي عليه السلام فأبى عن ذلك عشرة و تبرّأ عشرة ... فقتلوا». «3»

و في محكي (أعلام الورى) قال: دخل معاوية على عائشة فقالت: ما حملك على قتل أهل عذراء، حجر و أصحابه، فقال: يا أمّ المؤمنين، رأيت قتلهم صلاحاً للأمّة، و بقاءهم فساداً للأمّة، فقالت: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال سيقتل بعذراء أناس يغضب اللّه لهم و أهل السّماء!

و قد أرّخ قتلهم بسنّة 51 أو 53. و قد تضمّن (تاريخ إبن الأثير) و كتاب «أبي الفرج الكبير» ما لايزيد عليه من ترجمته و كيفيّة قتله. «4»

و على كلّ حال، هؤلاء أو كثير منهم كانوا من حملة علوم الائمّة، أو رسلًا منهم إلى قومهم، فهم على كلّ حال من بطانة أهل البيت عليهم السلام؛ فهل كانوا جاهلين بمواقف أحكام الشّرع و وظائفهم تجاه الحوادث الواقعة؟! فلو كان ترك التّقيّة مرجوحاً أو مساويّاً لفعلها كيف آثروها على غيرها.

و يظهر من غير واحد من الأحادث الواردة في ترجمة «ميثم الّتمار» و «عمرو بن

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 406

الحمق الخزاعي» و أمثالهما أنّ أميرالمؤمنين عليّاً عليه السلام أخبرهم بقتلهم في سبيله، و أثنى عليهم، و بكى على بعضهم. و في كلّ ذلك تحريض و تشويق لغيرهم على فعلهم، الذي معناه ترك التّقيّة؛ و لو

لم يكن راجحاً لمّا صحّ ذلك.

بل يظهر من غير واحد من الرّوايات ثناء سائر الأئمّة عليه السلام عليهم، بما يظهر منه إمضاء عملهم إمضاءً باتاً.

و قد ذكر في ترجمة «عمرو بن الحمق الخزاعي» ماقاله الحسين عليه السلام في كتابه إلى معاوية، يجيبه عن كتابه إليه، جواباً يظهر فيه سيّئ أفعاله و شرور أعماله، بأوضح البيان و أشدّ الحجّة، فقال في حقّ «عمرو بن الحمق» و «حجر بن عدي» و أصحابه:

(... ألست القاتل حجر بن عدي أخا كندة و المصلّين العابدين، الّذين كانوا ينكرون الظّلم و يستعظمون البدع، و لايخافون في اللّه لومة لائم، ثمّ قتلتهم ظلماً و عدواناً، من بعد ما كنت أعطيتهم الأيمان المغلّظة و المواثيق المؤكّدة لاتأخذهم بحدث كان بينك و بينهم ...

أو لست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)، العبد الصّالح الّذي أبلته العبادة، فنحل جسمه و اصفرّ لونه، بعدما آمنته و أعطيته من عهود اللّه و مواثيقه ما لو أعطيته طائراً لنزل إليك من رأس الجبل، ثمّ قتلته جرأة على ربّك و استخفافاً بذلك العهد) «1».

بل يظهر ممّا روته عائشة في حقّ حجر و أصحابه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله أيضاً أسف عليهم، و غضب لهم، و عظّمهم.

كلّ ذلك دليل على رجحان فعلهم، و رضا الرّسول صلى الله عليه و آله و أهل بيته عليهم السلام بعملهم، و كيف يصحّ ذلك مع كونه مرجوحاً؟!

ولكن قد عرفت أنّ الظّاهر من غير واحد من روايات الباب رجحان الأخذ بالرّخصة، و التقيّة في هذه الموارد، مثل الرّواية (4 من الباب 29) الحاكية عن فعل

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 407

الرّجلين اللذين أخذا بالكوفة، أنّ الّذي برى ء

رجل فقيه في دينه؛ و الرّواية (2 من الباب 29)؛ و رواية العيّاشي (12 من 29)؛ و رواية أخرى عنه (13 من 29)؛ و رواية الطّبرسي فى الإحتجاج (11 من 29)، إلى غير ذلك ممّا قد يعثر عليه المتتّبع.

طريق الجمع بين أحاديث هذا الباب:

و الإنصاف أنّ أقرب طريق للجمع بينهما هو ما أشرنا إليه من التّفصيل بحسب الأزمان و الأشخاص، فالّذي هو عَلَمٌ للأمّة، و مقياس للدّين، و به يقتدي النّاسُ و يُعرف قربه من أهل البيت عليهم السلام يرجّح له إستقبال الحتوفُ و تحمّل المضار البالغة حد الشّهادة في سبيل اللّه، بل قد يجب له إذا كان ترك ذلك ضرراً على الدّين و مفسدة للحقّ و تزلزلًا في أركان الإسلام.

ففي مثل عصر بني أميّة، و لاسيّما البرهة المظلمة الّتي كانت في زمن معاوية بعد شهادة أميرالمؤمنين عليه السلام و ماشاكله، الّذي أراد المشركون و بقيّة الأحزاب الجاهليّة، و أغصان الشّجرة الخبيثة الملعونة في القرآن، ليطفئوا نور اللّه بأفواههم و يأبى اللّه إلّاأن يتمّ نوره، و جهدوا في إخفاء فضل أوصياء رسول اللّه صلى الله عليه و آله لينقلب النّاس على أعقابهم خاسرين.

ففي مثل هذه الأعصار لم يكن بدٌّ من رجال يقومون بالحقّ، و يتركون التقيّة، و يظهرون آيات اللّه و بيّناته، و يصكّون على جباه الباطل و الظّلم و الطّغيان.

و لولا مجاهدة هؤلاء بأموالهم و أنفسهم أوشك أن لايبقى من الإسلام إلّااسمه، و لا من القرآن و صاحبه الّذي لايفارقه إلّارسمه و ذكره؛ فكانوا هم الحلقة الواسطة بين الجيل الماضي و الجيل الآتي من المهاجرين و الأنصار و الّذين اتّبعوهم بإحسان.

و لولا جهاد أمثال حجر، و ميثم، و عمرو بن الحمق، و عبداللّه بن عفيف الأزدي، و عبداللّه

بن يقطر، و سعيد بن جبير، لاندرست آثار النّبوّة و آثار الأئمّة الطّاهرين

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 408

من أهل بيته (عليهم آلاف السّلام و التّحية)؛ لغلبة الباطل على أجواء الحكومة الإسلاميّة، و ركوب رقاب النّاس بالظّلم و العدوان، و سيطرته على مراكز الدّعوة- و النّاس على دين ملوكهم-.

قال المحقّق شيخنا العلّامة الأنصاري قدس سره ما لفظه: «و المكروه منها [من التقيّة] ما كان تركها و تحمل الضّرر أولى من فعله، كما ذكر ذلك بعضهم في إظهار كملة الكفر، و أنّ الأولى تركها ممّن يقتدي به النّاس إعلاءً لكلمة الإسلام».

ولايختصّ هذا بتلك الأعصار، بل كل زمان كان الأمر فيه مثل عصر الأمويّين و أشباههم، كان الحكم فيه هو الحكم فيه، من دون أيّ تفاوت.

و أمّا في الأعصار المتأخّرة كعصر الصّادقين و الرّضا عليهم السلام و ما ضاهاه، الّذي لم يكن الأمر بتلك المثابة، كان الأولى فيه ارتكاب التقيّة- كما يظهر من كثير من أحاديث الباب-، إلّافي موارد تستثنى.

و عليه لايبقى تعارض بين الأحاديث المرويّة عن أميرالمؤمنين عليه السلام، الآمرة بترك التقيّة في العصر المتّصل بزمانه، الّذي ظهر فيه على النّاس رجل رحب البلعوم، إلى آخر ما ذكره من علائمه و آثاره و الدالة على أنَّ الرّاجح أو الواجب ترك التقيّة.

و بين ما روي عن غيره من الأئمة عليه السلام، في مثل أعصار الصّادقين و الأعصار المتأخّرة عنها، حيث كانت الرّخصة أحب إليهم؛ لعدم وجود خطر من هذه النّاحية على الإسلام و المسلمين.

ولكن لاينافي ذلك عدم جواز التقيّة في تلك الأعصار أيضاً على بعض الأشخاص، لخصوصيّات فيهم.

و أمّا في زماننا هذا فيتفاوت الحال بالنّسبة إلى الأشخاص و الظّروف و الحالات و تجاه ما يحدث من الحوادث و

الهنات، فقد يجب أو يرجح أن يستن بسنة أصحاب أميرالمؤمنين و خواص بطانته عليه السلام.

و أخرى يجب أو يرجح الإقتداء بأصحاب الصّادقين عليهما السلام.

و من المأسوف عليه أنّي وجدت أنّ أكابر المحقّقين من أصحابنا لم يتعرّضوا

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 409

لهذه المسألة تعرّضاً واسعاً، و لم يبيّنوها بشكل يؤدّي حقّها، بل مرّوا عليها عاجلًا، مراعين جانب الاختصار، مع أنّها من الأهميّة بمكان لاينكر!

نسأل المولى سبحانه التّوفيق لأداء ما هو الواجب علينا في زماننا هذا، و أن يكشف لنا النّقاب عن وجه معضلاتها، و يهدينا سبل الحقّ، و ينتصف لنا من الأعداء، و يظهرنا عليهم، و يشفي صدور قوم مؤمنين، آمين ياربّ العالمين.

الأمر السادس: بعض ما تستحبّ فيها التقيّة و ضابطتها

قد عرفت أنّه من المظانّ الّتي يستحبّ فيها التقيّة، موارد العشرة مع العامّة بالمعروف، و قد عرفت دليله، و أنّ كثيراً من الرّوايات الواردة في الباب (26)، من أبواب الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر، من (الوسائل)، لاسيّما الرّواية 2 و 4 من هذا الباب، و الرّواية 16 من الباب (24)، و الرّوايات الكثيرة الواردة في أبواب الجماعة و الدّخول في جماعتهم، تدلّ على ذلك.

ولكن ذكر شيخنا العلّامة الأنصاري في كلام له: «و أمّا المستحبّ من التقيّة فالظّاهر وجوب الاقتصار فيه على مورد النصّ، و قد ورد النّص بالحثّ على المعاشرة مع العامّة، و عيادة مرضاهم، و تشييع جنائزهم، و الصّلاة في مساجدهم، و الأذان لهم؛ فلايجوز التّعدّي عن ذلك إلى ما لم يردّ النّص من الأفعال المخالفة للحقّ، كذم بعض رؤساء الشّيعة للتحبّب إليهم.

و يرد عليه أنّه لاخصوصيّة في هذه الأمور، بعد التّعليلات الواردة فيها، أو ما يشبه التّعليل، و بعد كونها داخلة في قاعدة «الأهمّ و المهمّ، و الأخذ بالأهمّ من المصالح

و المفاسد» كما لايخفى.

إلى هنا ينتهي كلامنا في حكم التقيّة بحسب التّكليف، فلنشرع في بيان حكمها الوضعي، و صحّة الأعمال المأتي بها تقيّة أو فسادها.

المقام الثالث: حكم العبادات و الأعمال الصّادرة تقيّة
اشارة

هل يجوز الاكتفاء بالأعمال الصّادرة على خلاف الواقع تقيّة أم لا؟

و قبل كلّ شي لابدّ من بيان الأصل الأوّلي في المسألة كي يرجع إليه عند إعواز الدّليل على أحد الطّرفين، فنقول و من اللّه التوفيق:

الظّاهر أنّ الأصل هنا هو الفساد، إذا كانت أدلّة الجزئيّة و الشّرطيّة في الجزء أو الشّرط الّذي أُخِلّ به تقيّة مطلقة.

توضيح ذلك: إذا عمل بالتّقيّة في الأحكام، كالصّلاة متكتفاً، أو الوضوء مع المسح على الخفّين؛ أو في الموضوعات، كالإفطار في يوم الشكّ خوفاً من سلطان جائر حكم بأنّه يوم عيد مع عدم ثبوته أو اليقين بأنّه من رمضان، فلا شكّ في أنّه أخلّ ببعض الأجزاء أو الشّرائط، أو بعض الموانع، المعتبر عدمها في صلاة المختار، أو وضوئه، أو صيامه.

فلو كان دليل وجوب المسح على البشرة مثلًا عاماً شاملًا لحالتي الاختيار و الاضطرار، بحيث لم يختصّ وجوبه بالأوّل فقط، كان مقتضى الدّليل الحكم بفساد مثل هذا الوضوء، و كذا الصّلاة الّتي تؤتى معه.

فهو و إن كان معذوراً من جهة التّقيّة في ترك الوضوء الواجب عليه، إلّاأنّ معذوريّته تكليفاً لاتمنع عن فساد عمله، و لزوم الإعادة فى الوقت أو القضاء خارجه، وضعاً.

إلا أن يدلّ دليل على إجزاء هذا العمل و صحّته، بحيث كان حاكماً على أدلّة الجزئيّة و الشّرطيّة و المانعيّة.

فالأصل الأوّلي في جميع هذه الأعمال هو الفساد مالم يثبت خلافه.

و هل يجوز الّتمسّك بحديث الرّفع لإثبات أصل ثانوي على الصّحة؛ لأنّ المقام داخل في قوله صلى الله عليه و آله «و ما أكرهوا عليه و ما اضطر

و إليه»؟

قد يقال: إنّه كذلك، و أنّه بناءً على شمول الحديث للأحكام الوضعيّة ترتفع الجزئيّة و ما شاكلها؛ لصدق الإضطرار على موارد التّقيّة بلاإشكال، بل صدق الإكراه عليها أيضاً أحياناً.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 411

ولكن الإنصاف، أنّه محلّ للإيراد صغرى و كبرى:

أمّا الصّغرى، فلأنَّ عنوان الإكراه غير صادق هنا مطلقاً؛ لأنّه لابدّ فيه من توعيد و تخويف غير موجود في موارد التّقيّة عادةً، لأنّ المأخوذ في مفهومها هو الاختفاء، و هو لايساعد الإكراه الّذي يخالط العلم بالشئ.

و أمّا الاضطرار فهو مختصّ بالتقيّة الصّادرة خوفاً، لا في أمثال التقيّة بقسمها التحبيبي، أو مثل تقيّة إبراهيم عليه السلام مقدّمة لكسر الأصنام و إيقاظ عبدتها من نومتهم، بما هو مذكور في كتاب اللّه العزيز، و أمثالها.

فهذا الدّليل لوتمّ لكان أخصّ من المدّعى.

و أمّا الكبرى، فهي متوقّفة على شمول حديث الرّفع للآثار الوضعيّة و عدم اختصاصه برفع المؤاخذة، مضافاً إلى أنّ الجزئيّة و الشّرطيّة- كما ذكر في محلّه- ليستا من الأحكام الوضعيّة، و كذا المانعيّة، بل هي انتزاعات عقليّة عن الأمر بالجزء و الشّرط و ترك المانع، فتدبّر.

و العجب من العلّامة الأنصاري قدس سره أنّه ذكر في رسالته هنا أنّ «الإنصاف ظهور الرّواية في رفع المؤاخذة» فأسقط دلالتها على المطلوب.

لكنه ذكر في (الفرائد) بعد ذكر الاحتمالات الثلاث فيها، بأنَّ رفع المؤاخذة أظهر.

نعم، يظهر من بعض الأخبار الصّحيحة عدم اختصاص الموضوع عن الأمّة بخصوص المؤاخذة. ثمّ ذكر رواية (المحاسن) المعروفة، في الإكراه على الحلف بالطّلاق و العتاق و صدقة ما يملك، فجعلها شاهدة على عدم اختصاص الحديث برفع خصوص المؤاخذة.

الّلهمّ إلّاأن يقال: إنّه قد رجع عن عقيدته في الرسالة، و الأمر سهل.

هذا ولكن ذكرنا في محلّه من أصل البراءة أنّ الرّفع

هنا مقابل الوضع، و هو وضع الفعل على عاتق المكلّف، فكأنَّ الفعل الواجب أو ترك الحرام وُضع على المكلّف في عالم الاعتبار، و له ثقل. فالموضوع هو نفس الأفعال أو التّروك، لا التكليف من الوجوب أو الحرمة، بل التّكليف هو نفس الوضع لا الموضوع، و أمّا الموضوع عليه فهو المكلّف، تدبّر جيّداً.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 412

فمتعلّق الرّفع أيضاً الأفعال الخارجيّة الّتي لها ثقل في عالم الاعتبار، فهو كناية عن نفي التّكاليف، كما أنّ الوضع كناية عن التّكليف. و الحاصل أنّ نائب الفاعل في رَفع أو وَضع عنه- لاوضع عليه الّذي هو بمعنى التّكليف- هو نفس الأفعال، فرفعها كناية عن عدم التّكليف بها. فعلى هذا يمكن أن يقال:

إنّ المسح على البشرة إذا اضطرّ إلى تركه للتقيّة، بنفسه مرفوع عن عاتق المكلّف فليس مأموراً به، و كذا أشباهه. فنفس الأجزاء و الشّرائط و ترك الموانع داخلة تحت حديث الرّفع، ترتفع عن المكلّف عند اضطراره الى تركها، فلا مانع من شمول الحديث بنفسه لها. و يكون حديث (المحاسن) مؤيّداً له. و تتمّة الكلام في محلّه.

ولكن قد عرفت أنّ حديث الرّفع لو تمّ لم يشمل إلّاموارد الاضطرار من التّقيّة، لاجميع أقسامها على اختلافها.

فتلخّص ممّا ذكر أنَّ شمول حديث الرّفع لجميع موارد المسألة مشكل.

هذا تمام الكلام في تأسيس الأصل في المسألة. و قد تحصّل منه أنّ الأصل الأوّلي هو الفساد، إلّاأن يدلّ حديث الرّفع أو دليل خاصّ من عمومات التّقيّة و غيرها على الصحّة.

هل هنا عموم أو إطلاق يدلّ على الإجزاء؟

لاينبغي الشكّ في أنَّ أمر الشّارع المقدّس بإتيان عبادة على وفق التقيّة يوجب الإجزاء، كما إذا قال: امسح على الخفّ عند التقيّة، أو: صلّ متكتّفاً، أو شبه ذلك.

و في الحقيقة هذا داخل في المأمور به بالأمر

الإضطراري، نظير الصّلاة مع الطّهارة المائيّة، و قد حقق في محلّه أنّ الأوامر الإضطرارية تدلّ على الإجزاء بلا إشكال و لايجب إعادتها بعدها.

نعم، الكلام هنا فيما إذا كانت التقيّة في بعض الوقت أو في تمام الوقت، كالكلام هناك إذا كان الإضطرار- كفقدان الماء- في خصوص الوقت أو تمامه.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 413

فإن كان هناك إطلاق يدلّ على جواز العمل بالتقيّة لو اضطرّ إليها، و لو في بعض الوقت، أجزأه و لاتجب الإعادة في الوقت إذا ارتفع سبب التقيّة؛ و أمّا لو لم يكن هناك عموم أو إطلاق كذلك، لم يجز الاكتفاء به، بل لابدّ أن يكون العذر شاملًا و مستوعباً لجميع الوقت، كما ذكر مثل ذلك كلّه في التيمّم و سائر الأبدال الاضطراريّة.

و عليه يبتني جواز البدار في أوّل الوقت و عدمه، إذا كان مصاحباً للعذر في أوّله مع رجاء زواله في آخره.

هذا كلّه إذا ورد الدّليل على جواز العمل بالتقيّة في العبادة بعنوانها العام، أو في خصوص عبادة معيّنة كالصّلاة مثلًا، فإنّها- على كلّ حال- أخصّ من أدلّة تلك العبادة أو كالأخصّ.

و أمّا إذا ورد الأمر بها بعنوان غير عنوان العبادة بل بعنوان عام، كقوله: «التّقيّة في كلّ ما يضطرّ إليه الإنسان»، فإنّ ذلك لايدلّ على الإجزاء، و لايدخل تحت أدلّة الأوامر الإضطراريّة؛ فإنّ غاية ما يستفاد من ذلك، جواز العمل على وفق التقيّة و لو استوجب ارتكاب ما هو محرّم بالذّات.

فهو كالدّليل الدّال على «إنّ كلّ شي حرّمه اللّه فقد أحلّه لمن اضطرّ إليه»؛ فإنّه لايدلّ على أزيد من الحكم التّكليفي و جواز العمل عند الضّرورة، و لا دلالة له على الحكم الوضعي من حيث الصحّة و الفساد.

و للمحقّق الأجلّ شيخنا العلّامة الأنصاري

قدس سره في المقام كلام لايخلو عن نظر:

قال في رسالته المعمولة في المسألة في ملحقات مكاسبه: «اللازم ملاحظة أدلّة الأجزاء أو الشّرائط المتعذّرة لأجل التّقيّة، فإن اقتضت مدخليّتها مطلقاً، فاللازم الحكم بسقوط الأمر عن المكلّف حين تعذّرها، و لو في تمام الوقت، كما لو تعذّرت الصّلاة في تمام الوقت إلّامع الوضوء بالنّبيذ، إلى أن قال- فهوكفا قد الطّهورين.

و إن اقتضت مدخليّتها في العبادة بشرط التمكّن منها دخلت في مسألة أولي الأعذار، في أنّه إذا استوعب العذر الوقت، لم يسقط الأمر رأساً، و إن كان في جزء من الوقت، كان داخلًا في مسألة جواز البدار لهم و عدمه»

هذا محصّل كلامه.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 414

و الحقّ أن يقال: إنّه لابدّ من ملاحظة أدلّة جواز التّقيّة، فإن كانت ناظرة إلى العبادات كانت حاكمة عليها، و لا يلاحظ النّسبة بينهما كما عرفت، و كانت كالأوامر الإضطراريّة الواردة في أجزاء العبادات و شرائطها.

و إن لم تكن كذلك بل كانت دالّة على جواز التقيّة مطلقاً بعنوان الاضطرار، فلا دلالة لها على الإجزاء. نعم، لو كان في أدلّة الأجزاء و الشّرائط قصور، بحيث كانت مختصّة بحال الاختيار فقط كان العمل مجزياً؛ لسقوط الجزء و الشّرط حينئذ، و أمّا لو كانت مطلقة- كما هو الغالب فيها- فلا وجه للإجزاء.

و إذ قد تبيّن ذلك فلنرجع إلى إطلاقات أدلّة التقيّة و ملاحظة حالها و أنّها من أيّ القسمين، و كذلك الأدلّة الخاصّة الواردة فيها و ملاحظة حدودها و خصوصيّاتها.

فنقول: يدلّ على الإجزاء روايات:

1- مارواه الكليني قدس سره في (الكافي) عن أبي عمر الأعجمي، عن أبي عبداللّه عليه السلام- في حديث-: (و التقيّة في كلّ شي ء، إلّافي النّبيذ، و المسح على الخفّين) «1»

و هو دليل عام ناظر

إلى العبادات أيضاً، بقرينة استثناء المسح على الخفين؛ فإنّه إخراج ما لولاه لدخل. فهو شاهد على كون العام بعمومه ناظراً إلى الأعمال العباديّة الّتي تصدر عن تقيّة.

ولكن في سند الحديث ضعف ظاهر؛ لجهالة حال أبي عمر الأعجمي، بل لم يعرف اسمه. و كأنّه لارواية للرّجل إلّافي هذا الباب فقط.

2- ما رواه في (الكافي) أيضاً بسند صحيح عن زرارة قال: (قلت له: في مسح الخفّين تقيّة؟ فقال: ثلاثة لا أتقي فيهنّ أحداً، شرب المسكر، و مسح الخفّين، و متعة الحجّ) «2»

فإنّ مفهومها جواز التقيّة في غيرها من العبادات، و حيث إنّ اثنين منها من

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 415

العبادات فهي تدلّ على جريان التقيّة في غيرها مطلقاً حتّى العبادات، فتكون ناظرة إليها أيضاً، فيثبت المقصود؛ و هو تحصيل عموم يدلّ على الأمر بها حتّى في العبادات، يستكشف منه الإجزاء.

و قد مرّ في باب التقيّة المحرّمة معنى إستثناء هذه الثلاثة و معنى استنباط زرارة اختصاص الثلاثة به عليه السلام دون غيره، و أنّه في غير محلّه، و مخالف لغيره من الأحاديث، فراجع هناك.

3- ما عن (الخصال) بإسناده عن علي عليه السلام في حديث الأربعمأة قال: (ليس في شرب المسكر و المسح على الخفّين تقيّة) «1»

و دلالته كسابقه من حيث المفهوم و غيره:

4- ما روى عن درست الواسطي، عن محمّد بن فضل الهاشمي، قال: (دخلت مع إخواني على أبي عبداللّه عليه السلام فقلنا: إنّا نريد الحجّ، و بعضنا صرورة، فقال: عليك بالّتمتّع، ثمّ قال: إنّا لانتّقي أحداً بالّتمتّع بالعمرة إلى الحجّ، و اجتناب المسكر، و المسح على الخفّين، معناه: انا لانمسح) «2».

و هو أيضاً دليل أو مشعر بجواز التقيّة في غير هذه الثلاثة.

5- ما رواه في (الوسائل) عن

سماعة قال: (سألته عن رجل كان يصلّي فخرج الإمام و قد صلّى الرّجل ركعة من صلاة فريضة، قال: إن كان إماماً عدلًا فليصلِّ أخرى و ينصرف، و يجعلهما، تطوعاً، و ليدخل مع الإمام في صلاته كما هو، و إن لم يكن إمام عدل فليبن على صلاته كما هو، و يصلّي ركعة أخرى، و يجلس قدر ما يقول:

(أشهد أن لا اله إلّااللّه وحده لاشريك له، و أشهد أنّ محمّداً عبده و رسوله) ثمّ ليتمّ صلاته معه على قدر ما استطاع؛ فإنّ التقيّة واسعة، و ليس شئ من التقيّة إلّاو صاحبها مأجور عليها إن شاء اللّه) «3».

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 416

و هذه من أقوى الرّوايات دلالة على جواز التقيّة في العبادات، و الاكتفاء بها كما في الأوامر الاضطراريّة مثل التيمّم و نحوه.

و يمكن من هذه الرّوايات إستفادة حكم العبادات بالخصوص، و أمّا ما يدلّ على عنوان عام تدخل العبادات تحته بعمومه و إطلاقه فهو أيضاً كثير، منها:

6- ما رواه أيضاً في (الكافي) عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: (التّقيّة في كلّ ضرورة، و صاحبها أعلم بها حين تنزل به). «1»

7- ما رواه أيضاً في (الكافي) عن زرارة و محمّد بن مسلم و غيرهما، قالوا: (سمعنا أباجعفر عليه السلام يقول: التقيّة في كلّ شئ يضطرّ إليه ابن آدم فقد أحلّه اللّه). «2»

8- مارواه في (المحاسن) عن عمر بن يحيى بن سالم (أو معمر بن يحيى)، عن أبي جعفر عليه السلام قال (التقيّة في كلّ ضرورة). «3»

9- مارواه في (الكافي) عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبداللّه عليه السلام- في حديث- قال: (فكلّ شئ يعمله المؤمن بينهم لمكان التقيّة ممّا لايؤدّي إلى الفساد في الدّين فإنّه جائز).

«4»

دلّت هذه الرّوايات الأربع على أنّ التقيّة تجري في كلّ ما يضطرّ إليه الإنسان. و ظاهرها و إن كان الجواز من حيث الحكم التّكليفي و الجواز في مقابل الحرمة الموجودة في الشئ بعنوانه الأوّلي، إلّاأنّ عمومها يدلّ على جريانها في العبادات أيضاً، لاسيّما أنّ التقيّة فيها من أظهر مصاديقها و من أشدّها و أكثرها ابتلاءاً. و الجواز التّكليفي بإتيان العبادة على وجه التقيّة لدفع ما يترتّب على تركه من الضرر و إن كان لاينافي وجوب إعادتها في الوقت أو خارجه إذا ارتفع العذر، ولكن هذا أمر يحتاج إلى البيان لغالب النّاس و التّوجيه إليه، و سكوت هذه العمومات و سائر أدلّة وجوب التقيّة أو جوازها في مواردها، عن الإشارة إلى وجوب القضاء أو الإعادة، ممّا

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 417

يوجب الاطمئنان بجواز الإكتفاء بما يؤتى تقيّة، و لو لم تكن العمومات السّابقة.

و الحاصل أنّ هذه الرّوايات المطلقة و الرّوايات السّابقة- بعد معاضدة بعضها ببعض- تؤسّس لنا أصلًا عاماً، و هو جواز الاكتفاء بالعبادات الّتي يؤتى بها تقيّة في مواردها، كما في الأوامر الواقعيّة الاضطراريّة.

و هناك روايات أُخر واردة في أبواب الصّلاة و غيرها، تدلّ أو تشير إلى صحّة العمل المأتي به على وجه التقيّة في موردها بالخصوص.

و في مجموع هذه غنى و كفاية على ما نحن بصدده من صحّة العبادات في حال التقيّة من غير حاجة إلى الإعادة و القضاء.

و هناك مسألة مهمّة هي كالتتمّة لهذه المسألة، نفردها بالبحث لمزيد الإهتمام بها، و هي حال الصّلاة الّتي يؤتى بها تحبيباً و توسّلًا إلى حفظ الوحدة مع المخالفين في المذهب، و حكم الاكتفاء بها.

المقام الرابع: حكم الصلوة التي يؤتى خلف المخالف و المعاند فى المذهب تحبيباً و حفظاً للوحدة

لا إشكال و لا كلام في جواز الصلاة خلف المخالف في المذهب عند

الخوف و جواز الاعتداد بها. و هل يجب فيها ملاحظة عدم المندوحة و عدم امكان الصلاة في زمان أو مكان آخر؟ فيه كلام سيأتي إن شاءاللّه في تنبيهات التقية.

إنّما الكلام في أنه هل يجوز الصلاة خلفهم عند عدم الخوف أيضاً، بل من باب حسن العشرة معهم، و التحبّب إليهم، كما هو كذلك في عصرنا هذا غالباً، لا سيّما في مواسم الحج، فإنَّ عدم الحضور في جماعتهم ليس ممّا يخاف منه على نفس أو مال أو عرض، و لكن الدخول معهم في صلاتهم أوفق بالأخوّة الاسلامية و أقرب الى حسن العشرة؟

ظاهر طائفة كثيرة من الأخبار رجحان ذلك و الندب اليه مؤكّداً، بل لعلها متواترة في هذا المضمون.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 418

و هل ينوي الاقتداء بها، أو ينوي منفرداً و يقرأ في نفسه مهما أمكن، و يأتي بما يأتي به المنفرد، و لكن ياتي بالأفعال معهم للغايات المذكورة؟

ثم لو قلنا بأنّه ينوي الاقتداء فهل يعتّد بتلك الصلاة، أو يصلّي صلاة أخرى قبلها او بعدها على وفق مذهبه؟

و لو قلنا: إنّه لا ينوي الاقتداء، بل يصلّي صلاة المنفرد، فهل يعتد بها اذا أخلّ ببعض الأجزاء او الشرائط حفظاً لظاهر الجماعة، أو يختص الاعتداد بها بما كان حافظاً لجميع الأجزاء و الشرائط؟

لابدّ لنا قبل كل شي ء من ذكر الأخبار الواردة في المسألة، المتفرقة في أبواب الجماعة، ثم استكشاف الحق في جميع ذلك منها.

و هي روايات:

1- ما رواه الصدوق في (الفقيه) عن زيد الشحام، عن الصادق عليه السلام قال: (يا زيد خالقوا الناس بأخلاقهم، صلّوا في مساجدهم، و عودوامرضاهم، و اشهدوا جنائزهم، و إن استطعتم ان تكونوا الأئمة و المؤذّنين فافعلوا، فإنكم اذا فعلتم ذلك قالوا: هؤلاء الجعفرية، رحم اللّه

جعفراً ما كان أحسن ما يؤدّب أصحابه و اذا تركتم ذلك قالوا:

هؤلاء الجعفرية، فعل اللّه بجعفر، ما كان أسوأ ما يؤدّب أصحابه) «1».

لاشك أنَّ المراد بالصلاة فى مساجدهم الصلاة معهم و بجماعتهم، لا الصلاة منفرداً في المساجد التي يجتمعون فيها. و أمّا دلالتها على جواز الاعتداد بتلك الصلاة فليس إلّابالاطلاق المقامي، و لكن يمكن عدم كونها بصدد البيان من هذه الجهة.

2- ما رواه الصدوق ايضاً، عن حمّاد، عن أبي عبداللّه عليه السلام أنّه قال: (من صلّى معهم في الصف الاول كان كمن صلّى خلف رسول اللّه صلى الله عليه و آله في الصف الاول) «2».

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 419

3- ما في (الكافي) عن الحلبي، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: (من صلّى معهم في الصف الأول كان كمن صلى خلف رسول اللّه صلى الله عليه و آله) «1».

4- ما رواه الشيخ في (التهذيب) عن اسحاق بن عمار قال: (قال لي أبو عبد اللّه عليه السلام: يا إسحاق أتصلّي معهم في المسجد؟ قلت: نعم، قال: صلِّ معهم، فإنَّ المصلّي في الصف الأول كالشاهر سيفه في سبيل الله)»

.و ظاهر هذه الأحاديث الثلاثة المتقارب مضمونها رجحان الصلاة معهم مع نية الاقتداء بهم، كما أنَّ ظاهرها جواز الاكتفاء بها و عدم وجوب إعادتها، إلّاان يدل عليه دليل من الخارج.

و الحاصل أنّا لو خليّنا و هذه الروايات لحكمنا بجواز الدخول معهم في صلوتهم، و نية الاقتداء بهم، و الاعتداد بتلك الصلاة مهما كانت مخالفة لما عليه مذهبنا.

و كأنَّ وجه التشبيه بالصلاة خلف رسول الله صلى الله عليه و آله من حيث أثرها في عزّ المسلمين و شوكتهم و قصّ ظهور الأعداء، و لذا شبّه بمن يشهر سيفه في سبيل الله.

إلّا

أنّه قد يدّعى مخالفة أمثال هذه الظهورات لما عليه الطائفة، كما ستعرف دعواه فيما سيمر عليك إن شاءاللّه من كلام (الحدائق).

5- ما رواه في (المحاسن) عن عبد الله بن سنان، قال: (سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: أوصيكم بتقوى الله عزّ و جلّ، و لا تحملوا الناس على أكتافكم فتذلوا، إنَّ الله تبارك و تعالى يقول في كتابه: «و قولوا للناس حسناً» ثم قال: عودوا مرضاهم، و اشهدوا جنائزهم، و اشهدوا لهم و عليهم، و صلّوا معهم في مساجدهم) «3».

6- ما رواه علي بن جعفر في كتابه، عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: (صلّى حسن و حسين خلف مروان، و نحن نصلّي معهم!). «4»

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 420

7- ما رواه احمد بن محمد بن عيسى في نوادره، عن سماعة قال: (سألته عن مناكحتهم و الصلاة خلفهم، فقال: هذا أمر شديد لن (إن) تستطيعوا ذلك، قد انكح رسول الله صلى الله عليه و آله و صلّى علي عليه السلام وراءهم). «1»

و هذه الروايات الثلاث أيضاً ظاهرة في جواز الصلاة معهم تحبيباً و حفظاً لوحدة الأمة، أو شبه ذلك- نعم، يمكن أن تكون رواية علي بن جعفر ناظرةً إلى حال الخوف على النفس و شبهه-. كما أنَّ ظاهرها نية الاقتداء و الاعتداد بتلك الصلاة. و عطف الصلوة على النكاح دليل آخر على ان المراد الاتيان بالصلاة الواجبة الواقعية معهم و الاكتفاء به.

كما أنّ قوله عليه السلام: (هذا أمر شديد لن (إن) تستطيعوا ذلك) أيضاً ناظر الى هذا المعنى؛ إذ لو كان المراد اتيان الصلوة منفرداً في نفسه، و إظهار كونها جماعة مع عدم القصد إليها، أو الاتيان بها و إعادتها بعد ذلك أو فعلها

قبلها، لم يكن أمراً شديداً لا يتعدرون عليه، بل هما من الأمور السهلة التي يستطيع عليها كل أحد.

8- ما رواه الصدوق مرسلًا قال: (قال الصادق عليه السلام: إذا صليّت معهم غفر لك بعدد من خالفك «2».

و دلالتها على أصل الجواز كغيرها ظاهرة، إلّاأنّ إطلاقها من حيث الاكتفاء بها و كونها بصدد البيان من هذه الجهة قابل للتأمل و الكلام.

إلى غير ذلك ممّا يطلع عليه الخبير المتتبع.

هذا و يظهر من غير واحدة من الروايات الواردة في الباب (6) من أبواب الجماعة أنّه لا يحتسب بتلك الصلاة، بل يصلّى قبلها أو بعدها، فتكون الصلاة الفريضة ما يصلّى قبلها أو بعدها، و تكون الصلاة معهم مستحباً أو واجباً للتقية تحبيباً أو خوفاً.

و إليك بعض هذه الروايات:

1- ما رواه الصدوق في (الفقيه) عن عمر بن يزيد، عن أبي عبداللّه عليه السلام أنه قال: (ما

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 421

منكم أحد يصلّي صلاة فريضة في وقتها، ثم يصلّي معهم صلاة تقية و هو متوضى ء، إلّا كتب اللّه له بها خمساً و عشرين درجة، فارغبوا فى ذلك) «1».

و لو كان الاقتداء بهم جائزاً لم يكن وجه في الترغيب إلى الصلاة فرادى قبل ذلك في بيته، فهذا الترغيب دليل على عدم جواز الاعتداد بتلك الصلاة.

أللّهم إلّاأن يقال: إنَّ هذا النحو من الجمع مندوب إليه، و لا دلالة في الحديث على وجوبه، فلا ينافي جواز الاقتداء بهم في صلاتهم، و لو تحبيباً لهم. و لكن هذا الحمل لا يخلو عن بُعدٍ، فتأمّل.

2- و ما رواه أيضاً عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبداللّه عليه السلام أنّه قال: (ما من عبد يصلّي في الوقت و يفرغ، ثم يأتيهم و يصلّي معهم و هو على

وضوء، إلّاكتب اللّه له خمساً و عشرين درجة) «2».

3- و ما رواه هو أيضاً عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبداللّه عليه السلام أنّه قال أيضاً: (إنَّ على بابي مسجداً يكون فيه قوم مخالفون معاندون، و هم يمسون في الصلاة، فأنا أصلّي العصر، ثم أخرج فأصلّي معهم، فقال: أما ترضى ان تحسب لك بأربع و عشرين صلاة) «3».

4- ما رواه الشيخ عن نشيط بن صالح، عن أبي الحسن الأول عليه السلام قال: (قلت له:

الرجل منّا يصلّي صلاته في جوف بيته مغلقاً عليه بابه، ثم يخرج فيصلّي مع جيرته، تكون صلاته تلك وحده في بيته جماعة؟ فقال: الذي يصلّي في بيته يضاعف اللّه له ضعفي أجر الجماعة، تكون له خمسين درجة، و الذي يصلّي مع جيرته يكتب له أجر من صلّى خلف رسول اللّه صلى الله عليه و آله، و يدخل معهم في صلاتهم فيخلف عليهم ذنوبه و يخرج بحسناتهم) «4».

و الذي يظهر بالتأمل فيها أنّه أراد بما أجابه إمضاء فعل السائل بفعل الصلاتين، و

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 422

أنّه يؤجر أجران على كل واحد، فلو كان الاعتداد بصلاة المخالف او المعاند جائزاً، لم يحتج إلى مثل ذلك، و لا سيّما أنه كان في شدة حتى أغلق عليه بابه عند الصلاة وحده، فتدبر.

و يمكن أن يكون المراد جواز الاعتداد بكل من الصلاتين، و أنَّ الأول له ضعف أجر الجماعة، و أنَّ ثواب الثاني ثواب من صلّى خلف رسول اللّه صلى الله عليه و آله.

إلى غير ذلك ممّا يدل على هذا المعنى.

هذا مضافاً إلى الروايات الكثيرة الدالة على عدم جواز الصلاة خلف المخالف و المعاند و غيرهما، الواردة في الأبواب: (10) و (11) و (12). فلعل الجمع

بين مجموع هذه الروايات و الطائفة الأولى الدالة بإطلاقها على جواز الاقتداء معهم و الدخول في جماعتهم، هو الحمل على ما اذا صلّى صلاته قبل أو بعد الصلاة معهم اذا قدر عليه و لم يكن هناك خوف.

و بالجملة القول بجواز الاكتفاء بتلك الصلاة إذا صلّاها معهم تحبيباً و لم يكن هناك تقية من غير هذه الناحية مشكلٌ، و إن كان ظاهر إطلاق الطائفة الأولى من الروايات ذلك.

هذا و لكن لا شك في جواز الدخول معهم فى صلاتهم، على ما يدل عليه الطائفة الأولى و غيرها. فما يظهرمن بعض أحاديث الباب من عدم الاقتداء معهم و ارائتهم كأنه يصلّي معهم و لا يصلّى، لابدّ من حمل على ما لا ينافي ذلك، فراجع و تدبّر.

ثم أنّه لا يخفى أنَّ جميع ما ذكرنا إنما هو في التقية بعنوان التحبيب أو حفظ الوحدة، و أمّا التقية خوفاً فلا إشكال في الاكتفاء بما يؤتى معها. و هل يعتبر فيها عدم المندوحة، يعنى عدم إمكان الصلاة صحيحة تامة في غير ذاك الوقت أو غيرذاك المكان؟ فيه كلام يأتي إن شاءاللّه في تنبيهات المسألة.

المقام الخامس: التنبيهات

اشارة

بقى هنا مسائل هامة ترتبط بالتقية او تلحق بها نذكرها في طى تنبيهات:

التنبيه الأول: هل تختص التقيّة بما يكون عن المخالف في المذهب؟

لاشك في أنَّ أكثر روايات الباب ناظرة إلى حكم التقيّة عن المخالفين، و قد يوجب هذا توهم اختصاص حكمها بهم فقط، و أنّها لا تجري في غيرهم.

قال العلّامة الانصاري قدس سره في رسالة المعمولة في المسألة ما نصّه:

«و يشترط في الأول (يعني الأدلة الدالة على إذن الشارع بالتقيّة) أن تكون التقيّة من مذهب المخالفين؛ لأنّه المتيقن من الأدلة الواردة في الإذن في العبادات على وجه التقيّة، لأنَّ المتبادر من التقيّة التقيّة من مذهب المخالفين، فلا يجري في التقيّة عن الكفار أو ظلمة الشيعة. لكن في رواية مسعدة بن صدقة الآتية ما يظهرمنه عموم الحكم لغير المخالفين، مع كفاية عمومات التقيّة في ذلك».

و أشار بقوله: «في رواية مسعدة بن صدقة الآتية» إلى ما رواه عن أبي عبداللّه عليه السلام في تفسير ما يتّقى فيه: (أن يكون قوم سوء ظاهر حكمهم و فعلهم على غير حكم الحق و فعله، فكل شي ء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية ممّا لا يؤدّي إلى الفساد في الدين فإنّه جائز) «1».

أقول: لا ينبغي الشك في عدم اختصاص التقيّة لغة و لا اصطلاحاً و لا دليلًا بخصوص ما كان في قبال المخالفين في المذهب من العامّة؛ لما قد عرفت من أنها إخفاء العقيدة أو عمل ديني لما في إظهاره من الضرر، و أنَّ ملاكها في الأصل قاعدة الأهمّ و المهمّ و ترجيح المحذور الأخفّ لدفع محذور الأهم، و أنّها قاعدة عقلية يشهد بها جميع العقلاء على اختلاف مذاهبهم و مشاربهم، و لو انكرها بعضٌ باللسان لبعض الدواعي فهو مؤمن بها بالجنان و تظهر فى أعماله و أحواله عند اضطراره إليها.

و

من الواضح أنه ليس في شي ء من ذلك اختصاص بالمخالفين، بل لا فرق في ذلك بينهم و بين الكافرين أو ظلمة الشيعة. بل انّ ما يبتلي به كثير من الناس و لاسيّما الضعفاء في قبال ظلمة الشيعة أكثر و أهم مما يبتلون به تجاه غيرهم، و إن

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 424

لم يكن ذلك في العبادات، بل كان في غيرها.

هذا مضافاً إلى ورود كثيرٍ من روايات الباب بل بعض الآيات من الذكر الحكيم، في التقيّة من الكافرين و أشباههم، مثل ما ورد في إبراهيم عليه السلام و تقيّته من قومه، و تقيّة مؤمن آل فرعون، و ما ورد في تقيّة عمّار بن ياسر من مشركي مكة، و غير واحد من المسلمين الأوّلين منهم أيضا.

و كذا ما ورد في حق رجلين أخذهما مسيلمة الكذاب و أجبرهما على الشهادة بنبوّته، فأظهر واحد الكفر و نجى، و لم يظهر الآخر فقتل، فبلغ الخبر النبي عليه السلام فاستصوب فعل كل واحد منهما، لما فيه من مصلحة خاصة.

و قد مرّت جميع هذه الروايات و الآيات في أوائل البحث في القاعدة، فراجع.

بل انّ لفظة التقاة المذكورة في كتاب اللّه في مورد واحد فقط إنما هي في قبال المشركين. «1» إذن لا يبقى شك في عموم الحكم، و لا نحتاج إلى خصوص رواية مسعدة بن صدقة، أو اطلاقات الباب و عموماتها.

و عليه لا يبقى شك في عموم الحكم للكفار و ظلمة الشيعة، بل قد مرّ أنّه قد يُتّقى منهم في عصرنا هذا بما لا يُتّقى من أهل السنّة.

و منه يظهر أيضاً أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون ذلك مذهباً منهم أو لا؛ مثلًا:

ترك حج التمتع ليس مذهباً لجميع فرق العامة،

و كذا التكتّف في الصلاة، و قد يجّوز علماؤهم تركهما، و لكن قد يكون هناك بعض العوام لا يرخّصون ذلك، و يرون فيه «رفضاً» في عقيدتهم، بل قد يكون هناك عادة خاصة دينية عندهم فيرونها لازمة أو دليلًا على العقيدة بمذهبهم، فكل ذلك قد لا يمكن مراعاته إلّابترك بعض الواجبات، أو تغيير فيها، أو فعل بعض المحرّمات، فلا شك أنَّ كل ذلك جائز عند الاضطرار إليه من باب التقيّة و طبقاً لأدلّتها.

التنبيه الثاني: هل التقيّة تجري في الأحكام و الموضوعات معاً؟

لا إشكال في جريان أحكام التقيّة في الأحكام، كالمسح على الخفين، أو التكتّف في الصلاة، أو غير ذلك ممّا لا يحصى.

إنما الكلام في جريانها في الموضوعات، كالحكم بهلال شوال أو ذي الحجة بالنسبة إلى الصيام و الحج. و كثيراً ما يتفّق أن يحكم حاكمهم بهلال شوال أو ذي الحجة، فيفطرون، و يحجّون على أساس ذلك، و هناك أناس من أصحابنا لو لم يتبعوهم فى هذا الحكم يتحمّلون منهم أشدّ المشاق، فهل يجوز متابعتهم في تشخيص هذه الموضوعات و العمل معهم و إن لم تثبت هذه الموضوعات عندنا بطرق صحيحة، أو ثبت خلافها أحياناً، و هل تجري هنا أدلة التقيّة أم لا؟.

لاشك أنَّ موضوعات أحكام الشرع التي نتكلم فيها على قسمين:

1- قسم يكون من الموضوعات الشرعية التي يكون بيانها بيد الشارع المقدّس، كوقت المغرب، و أنّه استتار القرص، أو ذهاب الحمرة المشرقية.

2- و قسم يكون من الموضوعات الخارجية المحضة، كالهلال و رؤيته.

لا إشكال في القسم الأول، لأنّه يعود بالأخير إلى الاختلاف في الحكم.

و أما القسم الثاني- و الذي هو محل الكلام فعلًا- فهو أيضاً على اقسام:

فتارة نعلم خطأهم فيها، و أخرى نشك. و منشأ الخطأ قد يكون في كشف الواقع بالطرق الخارجية المعمولة، و

أخرى فى إعمال طريق شرعي معتبر عندهم باطل عندنا، كالركون إلى بعض الشهود من غير الفحص عن حالهم، لعدم وجوبه عندهم مع وجوبه عندنا.

لا ينبغي الإشكال في القسم الأخير أيضاً، لأنّه أيضاً راجعٌ إلى التقيّة في الأحكام، و جوازها هنا لعلّه ممّا لا كلام فيه، فتدبّر.

يبقى الكلام في الموضوعات الخارجية المحضة، سواء علمنا بخطئهم فيها، أو شككنا و لم يثبت عندنا.

و الكلام هنا أيضاً تارة يكون من حيث الحكم التكليفي، و أخرى من حيث الحكم الوضعي:

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 426

أمّا من ناحية الحكم التكليفي فلا إشكال في جواز العمل مثلهم عند الضرورة و اجتماع شرائط التقيّة. و سيأتي أنَّ بعض الأئمة عليهم السلام قد وقعوا بأنفسهم في الضرورة من هذه الناحية أحياناً، و عملوا بالتقيّة، كإفطار الصادق عليه السلام صوم آخر يوم من رمضان (أو يوم الشك) خوفاً من المنصور عند حكمه بهلال شوال؛ لما كان في مخالفة الجبّار العنود من الخوف على النفس النفيسة المقدّسة، كما ورد في بعض الروايات، و ستأتي الإشارة إليه إن شاء اللّه عن قريب.

و يجرى هنا جميع ما دلّ على جواز التقيّة عند الضرورة، و دليل العقل.

إنما الكلام في الناحية الثانية، و هي صحة العمل إذا أتى به في غير محلّه تقيّة منهم، و إجزاؤه عن الواقع الصحيح.

فهل تشمله الإطلاقات السابقة الدالة على الإجتزاء بالعمل، مثل قوله عليه السلام في رواية أبي عمر الأعجمي: (و التقيّة في كل شي ء إلّافي النبيذ، و المسح على الخفين) «1».

ظاهره صحة العبادات التي يؤتى بها على وفق التقيّة، إلّافي الموارد المستثناة التي مرّ الكلام فيها.

و كذا قوله في رواية زرارة: (ثلاثة لا أتّقي فيهنَّ أحداً: شرب المسكر، و مسح الخفين، و متعة الحج)

«2».

و هكذا الرواية (18) من الباب (38) من أبواب الوضوء.

و الرواية (5) من الباب (3) من أقسام الحج.

نعم، ظاهر قوله عليه السلام في حديثه مع المنصور: (إفطاري يوماً و قضاؤه أيسر علىَّ من أن يضرب عنقي) «3» دليل على عدم الاجتزاء بذاك الصوم و لزوم قضائه. و لكن سيأتي- إن شاءاللّه- فى ذيل البحث وجهه، بحيث لا يبقى شك من هذه الناحية.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 427

و على كل حال، الإنصاف أنَّ الاطلاقات بنفسها، أو لا أقل بإلغاء الخصوصية عن موارد الأحكام و تنقيح المناط فيها، تشمل ما نحن فيه. فالعمل على طبق موازين التقية هنا مجزٍ و رافع للتكليف، لا سيّما بالنسبة إلى الحج و ثبوت الهلال فيه، الذي يمكن القول باستقرار السيرة عليه في جميع الأعصار.

قال الفقيه المحقق النابه صاحب (الجواهر) في كلام له في كتاب الحج ما نصّه:

«بقي شي ء مهمّ تشتد الحاجة إليه، و كأنّه أولى من ذلك كله بالذكر و هو أنه لو قامت البيّنة عند قاضي العامة، و حكم بالهلال على وجه يكون التروية عندنا عرفة عندهم، فهل يصح للإمامي الوقوف معهم و يجزي لأنّه من أحكام التقيّة و يعسر التكليف بغيره، او لا يجزي، لعدم ثبوتها في الموضوع الذي محل الفرض منه، كما يؤمي إليه وجوب القضاء في حكمهم بالعيد في شهر رمضان الذي دلّت عليه النصوص التى منها «لإن أفطر يوماً ثم أقضيه أحبّ إليَّ من ان يضرب عنقي»؟ لم أجد لهم كلاماً في ذلك و لا يبعد القول بالإجزاء هنا إلحاقاً له بالحكم؛ للحرج، و احتمال مثله في القضاء. و قد عثرت على الحكم بذلك منسوباً للعلّامة الطباطبائي، و لكن مع ذلك فالاحتياط لا ينبغي تركه، و اللّه

العالم» «1».

و كلامه قدس سره و إن كان متيناً من حيث النتيجة و لكن فيه مواقع للنظر:

منها: أنّه لاوجه لقياس مسألة القضاء عند حكمهم بالعيد في شهر رمضان بمسألة الوقوف او سائر المناسك في الحج، كما سنتلو عليك منه ذكراً.

و منها: أنَّ مجرد الحرج لايدل على الصحة و تمامية العمل، بل غاية ما يدل عليه هنا هو الجواز التكليفي و عدم الحرمة، كما لا يخفى.

و منها: أنَّ قوله: «احتمال مثله في القضاء» مدفوعٌ بأنَّ مجرد احتمال تحقق الخلاف في ثبوت الهلال في السنين الآتية لا يوجب سقوط التكليف بالحج الذي هو في ذمته.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 428

و الإنصاف أنّه لاينبغي الإشكال في أصل المسألة، و المستند هو عمومات أدلّة التقيّة، الظاهرة في الإجزاء في العبادات و غيرها، بالشرح الذي عرفته، و لا سيما في مثل الحج الذي استقرّت سيرة الأصحاب خلفاً عن سلف على العمل بحكمهم بالهلال مهما كان من غير نكير، و لم يسمع منهم وجوب الإعادة، أو تغيير الوقوفات، بل لم يتعرّضوا لذلك في كتبهم الفقهية كما عرفت الإشارة إليه في كلام (الجواهر).

و ما قد يترائى من بعض الأعلام و أتباعهم من المعاصرين أو ممّن قارب عصرنا بالاحتياط في بعض السنين التي وقع الاختلاف فيها في رؤية الهلال، فالظاهر أنّه أمر مستحدث لم يسمع به من قبل، إن هذا إلّااختلاق!

بقي هنا شي ء:

و هو أنهم ذكروا مسألة الإكراه في إفطار الصيام و حكم الأكثرون فيها بالصحة، و حُكي عن الشيخ قدس سره الفساد، و ممّا أُيدّ به القول بالفساد وجوب القضاء أنّه يجب القضاء في الافطار تقية، و هي من مصاديق الإكراه.

قال شيخنا الأجلّ في (الجواهر) عند ذكر الإكراه في إفطار الصيام بعد ما

عرفت من الأقوال، و بعد التصريح بعدم الخلاف في الصحة في خصوص ما إذا وجر في حلق الصائم شي ء، ما نصّه:

«الأولى الاستدلال (على الفساد و وجوب القضاء في الإكراه) بما دلّ على حكم اليوم الذي يفطر للتقية، إذ هو في معنى الإكراه، كمرسل رفاعة عن الصادق عليه السلام أنّه قال: (دخلت على أبي العباس بالحيرة فقال: يا اباعبداللّه عليه السلام ما تقول في الصيام اليوم؟ فقلت: ذلك إلى الإمام إن صمتَ صمنا و إن أفطرتَ أفطرنا، فقال: يا غلام عليَّ بالمائدة، فأكلت معه و أنا أعلم و اللّه أنّه من شهر رمضان، فكان إفطاري يوماً و قضاؤه أيسر عليَّ من أن يضربَ عنقي و لا اعبد اللّه) و في آخر (أفطر يوماً من شهر رمضان أحّب إليَّ من أن يضرب عنقى) حيث أطلق عليه اسم الافطار» «1».

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 429

و ذكر في أواخر كلامه في المسألة إمكان الفرق بين مسألتي الإكراه و التقيّة، و تضعيف خبر القضاء فيها بالارسال، و تخصيص دليل القضاء بالإكراه، ثم رجع عنه و ذكر أنَّ الأحوط سلك الجميع في مسلك واحد عليه السلام للشك في شمول إطلاقات أدلة التقية لمثل ذلك، الذي مرجعه في الحقيقة إلى الموضوع مصداقاً أو مفهوماً لا إلى الحكم.

و الإنصاف، أنَّ الروايات الواردة في هذا الباب التي رواها في (الوسائل) في الباب (57) من أبواب ما يمسك عنه الصائم، منها ما لا يدل على شي ء، مثل ما رواه الصدوق قدس سره عن عيسى بن أبي منصور أنّه قال: (كنت عند أبي عبد اللّه عليه السلام في اليوم الذي يشك فيه، فقال: يا غلام اذهب فانظر اصام السلطان أم لا؟ فذهب ثم عاد فقال:

لا، فدعا بالغداء

فتغدينا معه) «1».

فإنَّ غاية ما يدل عليه هو جواز الافطار، و أمّا القضاء فهو ساكت عنه بالمرّة.

و هكذا الرواية الثانية، و الثالثة، و السادسة من هذا الباب.

و منه ما يدل على فساد الصوم و إن جاز الإفطار، و لازمه القضاء، كما هو ظاهر مثل رواية أبي العباس التي مرّ ذكرها في كلام (الجواهر)، و هي الرواية الرابعة من هذا الباب، و كذلك الخامسة منه، و في ذيلها: (فكان إفطاري يوماً و قضاؤه أيسر عليَّ من أن يضرب عنقي و لا يعبد اللّه). و لكنهما ضعيفتا السند بالإرسال.

و يستشم ذلك من الرواية الثامنة أيضاً، فراجع.

و قد يتوهم من بعضها صحة الصوم؛ و هي الرواية السابعة من ذاك الباب، التي رواها الشيخ عن ابي الجارود قال: (سألت أبا جعفر عليه السلام: إنّا شككنا سنة في عام من تلك الأعوام في الأضحى، فلما دخلت على أبي جعفر عليه السلام و كان بعض أصحابنا يضحي، فقال: الفطر يوم يفطر الناس، و الأضحى يوم يضحّي الناس، و الصوم يوم يصوم الناس).

بدعوى أنّ ظاهرها كون ذلك اليوم الذي يفطر فيه الناس يوم فطر حقيقة، و اذا

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 430

كان كذلك لم يجب قضاؤه قطعاً. و لكن حملها على هذا المعنى بعيد جداً، و الأظهر أنَّها تدل على حكم ظاهري في المسألة لا إشكال فيه، و هو جواز الإفطار من باب التقيّة، و أمّا إجزاء ذلك عن القضاء فهو ما ليست بصدد بيانه، و لو فرض لها ظهور في ذلك، فهو لا يقاوم ما مضى و ما يأتي من سائر الأدلة الدالة على الفساد.

و الذي لابّد من ذكره في المقام أنَّ إطلاقات الإجزاء في التقيّة و العبادات التي تؤتى على طبقها

لا قصور فيها عن شمول الموضوعات، فكما تكون دليلًا على صحتها في الأحكام، كذلك تدل على صحتها في الموضوعات، كما في مناسك الحج و وقوفاته.

و لكن تختص مسألة الإفطار في الصيام بخصوصية، و هي أنَّ البحث عن إجزاء الأعمال الصادرة عن تقيّة إنما هو في الموارد التي يكون هناك عمل عبادي و أتي به على وجه التقية و على وفق مذهب المخالفين، أمّا إذا ترك العمل، لاقتضاء مذهبهم تركه، فلا وجه لسقوط القضاء عن المكلف.

و إن شئت قلت: الأعمال الصادرة عن تقيّة أبدالٌ اضطرارية عن التكاليف الواقعية، كالصلاة مع التيمم التي تكون بدلًا عن الصلاة مع الوضوء، و اقتضاؤها الإجزاء ليس إلّامن هذه الناحية. و من الواضح أنَّ ترك العمل- كالافطار- استناداً إلى عدم وجوبه، لا يمكن أن يكون بدلًا عن الواجب، فلا يسقط الواجب به، كما لا يخفى.

و يشبه هذا من بعض الجهات ما ذُكر في باب أصالة الصحة من أنّها لا تجري إلّا فيما إذا صدر عن المكلف عمل شككنا في صحته و فساده، فلو شككنا في أصل العمل، لم تجرِ القاعدة، لعدم إحراز عمل هناك حتى يحمل على الصحيح.

ان قلت: إنَّ التقيّة كما تقتضي في المقام ترك الأداء كذلك تقتضي ترك القضاء.

قلت: إذا كانت شرائط التقيّة موجودة بالنسبة إلى القضاء قلنا به، كما إذا كان المكلف معاشراً معهم طول السنة، و عُلم من فعله أنّه قصد القضاء. و هو فرض نادر جداً، بل لعلّه لا يوجد له مصداق، فإذا لم يكن تقية في القضاء وجب فعله.

التنبيه الثالث: هل يعتبر فيها عدم المندوحة أم لا؟
اشارة

قد وقع الكلام بينهم في اعتبار عدم المندوحة و ما يكون به الفرار، في التقيّة و آثارها، التى منها صحة الأعمال المأتي بها على طبقها، على

أقوال:

أوّلها: أنّه غيرمعتبر مطلقاً. و حكي عن الشهيدين و المحقق الثاني في (البيان) و (الروض) و (جامع المقاصد).

ثانيها: أنّه معتبر مطلقاً و حكي عن صاحب (المدارك).

ثالثها: التفصيل بين ما كان متعلق التقيّة مأذوناً فيه بالخصوص، و ورد فيه دليل خاص، مثل القبض في الصلاة- أي التكتف فيها-، فهو صحيح مجزٍ، سواء كان هناك مندوحة أم لا؛ و بين ما كان الدليل عليه هو عمومات التقيّة الدالة على أنها في كل ضرورة و اضطرار، كالوضوء بالنبيذ، أو الصلاة إلى غير القبلة و أشباههما، فحينئذ لا يصح العمل إلّاعند عدم المندوحة، لعدم صدق الضرورة بدونه. و هذا القول ايضاً محكيّ عن المحقق الثاني قدس سره.

و قد يقال برجوع هذا القول إلى قول صاحب (المدارك)؛ حيث إنَّ نفى اعتبار عدم المندوحة في الشقّ الأول إنّما هو باعتبار جميع الوقت، لا بالنسبة إلى خصوص الوقت الذي يؤدّي الصلاة فيه مثلًا، و من المعلوم أن صاحب (المدارك) القائل باعتباره مطلقاً لا يقول به في جميع الوقت، لأنّه ممّا لم يقل به أحد فيما نعلم ... و الأمر سهل.

و هناك قول رابع، و هو التفصيل الذي اختاره شيخنا الأعظم العلّامة الأنصاري قدس سره و حاصله:

أنّ هناك صور ثلاث:

الأولى: ما اذا كان المتّقي قادراً على الامتثال الواقعي من دون تعويض في الزمان و المكان، كما إذا كان عمله في الظاهر على وفق مذهب المتّقى منه، مع إتيانه بالعمل الصحيح الاختياري واقعاً، كمن يقرأ مثلًا خلف إمامهم سرّاً و هو يريهم أنّه لا يقرء، من دون أي محذور. فهذا ممّا لا تصح التقية فيه، لوجود المندوحة بلا حاجة إلى تغيير زمانه أو مكانه.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 432

الثانية: ما اذا كان في ضرورة بالنسبة

إلى بعض الوقت دون تمامه، فلو أراد الصلاة مثلًا في أول وقتها لم يمكنه إلّابالتقيّة. فهذا صحيح مجزٍ، و لا يعتبر عدم المندوحة في تمام وقتها.

الثالثة: ما إذا كان في ضرورة بالنسبة إلى مكان خاص دون جميع الأمكنة، كمن لا يقدر على ترك التقيّة في مسجد النبي صلى الله عليه و آله أو المسجد الحرام، مع قدرته على العمل الصحيح التام في غيرهما. و هذا ايضاً مجزٍ، فلا يعتبر عدم المندوحة في كل مكان.

و لكن نحن نقول:

أولًا: إنّه لا يخفى أنَّ هذه الأقوال كلها تختص بالتقيّة الخوفية، و لا تجري في التقيّة المداراتية، حيث لا يعتبر فيها تغيير الزمان أو المكان، بل الظاهر من أخبارها أنّها إنّما شرّعت لجلب قلوبهم، و اتفاق كلمة المسلمين. و مثل هذا لا يعتبر فيه عدم المندوحة بلا إشكال.

فهل ترى أنَّ قوله: (عودوا مرضاهم، و اشهدوا جنائزهم)، أو قوله: (من صلّى معهم في الصف الأول كان كمن صلّى خلف رسول اللّه صلى الله عليه و آله) أو قوله: فكن أول داخل و آخر خارج)، إلى غير ذلك ممّا قد مضى عند سرد الأخبار، محمول على ما إذا كان مضطراً إليه و لم يقدر على الفرار؟

فهذا مما لا ينبغى الكلام فيه.

نعم، لو قلنا بإجزاء العمل في مثل هذا النوع من التقيّة أمكن استثناء الصورة الأولى من الصور الثلاث التي ذكرها العلّامة الانصاري قدس سره، و هي ما إذا قدر على العمل التام في مكانه و زمانه بعينه مع عدم أي محذور؛ لانصرافها إلى غيرها.

ثانياً: في التقيّة الخوفية لا ينبغي الريب في عدم اعتبار نفي المندوحة في تمام الوقت، لا للإجماع؛ لعدم اعتباره في هذه المسألة، و لا لعمومات التقيّة، لظهورها في الاضطرار المطلق،

و هو لا يحصل إلّافي تمام الوقت كما في غيره من ذوي الأعذار، بل لخصوص الروايات الكثيرة الآمرة بالصلاة معهم، و غيرها تقيّة، فإنّها مطلقة بلا

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 433

إشكال، و حملها على خصوص المضطر في تمام الوقت حمل على فرد نادر جداً.

و كذا إذا كان قادراً على العمل الصحيح في غير ذاك المكان، فإنّه أيضاً لا يجب الأخذ فيها بالمندوحة و ترك الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه و آله مثلًا، و الصلاة في ربعه و قافلته خارجاً. و يدل على ذلك و على ما قبله روايات كثيرة:

منها: ما عن أحمد بن أبي نصر البزنطي، عن أبي الحسن عليه السلام قال: (قلت: إنّي أدخل مع هؤلاء في صلاة المغرب فيعجلوني الى ما أن أوذّن و أقيم، و لا أقرأ إلّاالحمد، حتى يركع، أيجزيني ذلك؟ قال: نعم يجزيك الحمد وحدها) «1».

و حملها على صورة الاضطرار بترك السورة في تمام الوقت كما ترى.

و منها: ما عن بكير بن أعين قال: (سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن الناصب يؤمّنا ما تقول في الصلاة معه؟ فقال: أمّا إذا جهر فأنصت للقراءة و اسمع ثم اركع و اسجد أنت لنفسك) «2».

و منها: ما عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: (لا بأس بأن تصلّي خلف الناصب و لا تقرأ خلفه فيما يجهر فيه، فإنَّ قراءته تجزيك إذا سمعتها) «3».

و لا ريب في لزوم حملها على التقية. كما أنَّ الظاهر وجود المندوحة في غالب هذه الموارد، بأن يصلّي بعد ذلك أو قبله في داره.

و منها: ما عن أبى بصير (ليث المرادي) قال: (قلت لأبي جعفر عليه السلام: من لا أقتدي الصلاة؟ قال افرغ قبل أن يفرغ، فإنّك في

حصار، فإن فرغ قبلك فاقطع القراءة و اركع معه) «4».

و ظاهرها الإجزاء و الاكتفاء بتلك الصلاة مطلقاً، و لو قدر على أدائها في ذاك الموضع، كما هو الغالب. و قوله: «افرغ ...» يعني من القراءة.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 434

و منها: ما ورد في أبواب صلاة الجمعة، عن حمران، عن أبي عبد اللّه عليه السلام- في حديث- قال: (في كتاب علي عليه السلام: إذا صلّوا الجمعة في وقت فصلّوا معهم، و لا تقومّن من مقعدك حتى تصلّي ركعتين أخريين، قلت: فأكون قد صليّت أربعاً لنفسي لم اقتد به؟ فقال: نعم) «1».

و دلالتها على الإجزاء كإطلاقها من حيث وجود المندوحة في مكان آخر و عدمه ممّا لا إشكال فيه.

و منها: ما رواه حمران بن أعين أيضاً قال: (قلت لأبي جعفر عليه السلام: جعلت فداك، إنّا نصلّي مع هؤلاء يوم الجمعة و هم يصلّون في الوقت، فكيف نصنع؟ فقال: صلّوا معهم، فخرج حمران إلى زرارة فقال له: قد أمرنا أن نصلّى معهم بصلاتهم، فقال زرارة: هذا ما يكون إلّابتأويل، فقال له حمران: قم حتى نسمع منه، قال: فدخلنا عليه، فقال له زرارة: إنَّ حمران أخبرنا عنك أنك أمرتنا أن نصلّي معهم فأنكرت ذلك، فقال لنا: كان الحسين بن علي عليه السلام يصلّي معهم الركعتين، فإذا فرغوا قام فأضاف إليها ركعتين) «2».

و إطلاق صدرها بجواز الصلاة معهم الدال على عدم وجوب إضافة الركعتين مقيّد بما في ذيلها، أو يحمل الثاني على خصوص ما إذا قدر على إضافة ركعتين أخريين، فإنَّ ذلك من قبيل ما يكون فيه المندوحة، من دون حاجة إلى تغيير المكان و الزمان، و إن كانت التقيّة موجود. بالنسبة إلى القراءة في الأوليين.

فتلخّص من جميع ذلك- و

لو بإلغاء الخصوصية عن مورد الروايات- عدم اعتبار نفي المندوحة من ناحية تغيير المكان أو الزمان في التقيّة سواء كانت في الأجزاء، كمورد الروايات، أو الكل. و إن كانت اطلاقات التقيّة المقيّدة بالضرورة- كدليل العقل- غير دالة عليه.

التنبيه الرابع: هل المدار على الخوف الشخصي أو النوعي؟

إذا كانت التقيّة من القسم الخوفي فهل المدار فيها على الخوف الشخصي أو النوعي؟ بعد الفراغ عن كون المناط في الخوف وجود احتمال الضرر احتمالًا معتداً به، حتى و إن لم يظن به، بل و إن شك، او كان احتماله مرجوحاً، مع كونه مما يعتني به العقلاء؛ فإنَّ عنوان الخوف عرفاً صادق في جميع ذلك، و إن كان قد يتفاوت بتفاوت المحتملات شدةً و ضعفاً.

و الحق في المقام أن يقال:

إنَّ المتّقي تارة يخاف على نفسه أو عرضه أو ماله، أو على شي ء من ذلك يتعلّق بمن له علقة به أو على فرد معين آخر لا علقة له به.

و أخرى يخاف على فرد أو جماعة غير معيّنة من أهل الحق، قد يُحصرون في أيدي أعدائهم، فيعقابون من جرّاء العمل الذى ترك فيه التقيّة غيرهم.

أمّا الأول فلا إشكال في جريان أحكام التقيّة فيه، بل هو من أظهر مصاديق التقيّة. و يؤيّده الروايات المعبَّر فيها بأنّها جُنَّة، أو ترسُ أو شبه ذلك.

و قد وقع التصريح به أيضاً في عدة روايات:

منها: ما رواه الأعمش، عن جعفر بن محمد عليه السلام- في حديث شرايع الدين- قال: (و لا يحلّ قتل أحدٍ من الكفّار و النصّاب في التقيّة إلّاقاتل أو ساعٍ في فساد، و ذلك إذا لم تخف على نفسك و لا على أصحابك، و استعمال التقيّة في دار التقية واجب.

الحديث) «1».

و القدر المتيقن منه هو الخوف الشخصي على الاصحاب، فتدبر.

و منها: رواية

المنصوري، عن عمّ أبيه، عن الإمام علي بن محمد، عن آبائه عليهم السلام قال:

(قال الصادق عليه السلام: ليس منّا من لم يلزم التقيّة، و يصوننا عن سفلة الرعية) «2».

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 436

و منها: قول أمير المؤمنين عليه السلام الذي ورد في تفسير الامام الحسن العسكري عليه السلام قال: (التقيّة من أفضل أعمال المؤمن، يصون بها نفسه و إخوانه عن الفاجرين، و قضاء حقوق الإخوان أشرف أعمال المتّقين. الحديث) «1».

و يدل عليه أيضاً الروايات الكثيرة الواردة في الباب (28) من أبواب الأمر بالمعروف، التي قرنت فيها التقيّة بقضاء حقوق الإخوان. و من المحتمل أن يكون مراعاة التقيّة شطراً من حقوق الإخوان، فتكون المقارنة بينهما من هذه الناحية لوجوب حفظهم بها.

و بعبارة أخرى: تجب التقيّة لحفظ حقوق أخيه كما تجب لحفظ نفسه و حقوقه.

و إن سبق منّا احتمال آخر في بيان هذه المقارنة، و أنَّ الأول ناظر إلى مناسبة الإنسان مع أعدائه، و الثاني إلى مناسبته مع أحبّائه.

و كذلك ما دل على أن ترك التقيّة من مصاديق إلقاء النفس في التهلكة- و هو كثير-، فكما أنَّ إلقاءه بنفسه في اتهلكة حرام، كذلك إلقاء أخيه المؤمن بالهلاك.

أو بإطلاق «أنفسكم» و شموله للغير أيضاً.

و أمّا القسم الثاني، و هو الخوف على النوع، بأن يكون ترك التقيّة مستلزماً للضرر في زمان آخر على أقوام آخرين احتمالًا معتّداً به، كما إذا تركها في بلاده عند بعض أهل الخلاف، و خاف منه الضرر على بعض إخوانه إذا رجعوا إلى بلادهم، سواء كان ذلك بالنسبة إلى فرد أو أفرد.

والظاهر جواز ذلك أيضاً. و ذلك:

أوّلًا: لما عرفت مراراً من ملاك التقيّة، و أنّه من باب مراعاة الأهمّ و تقديمه على المهمّ.

و ثانياً: لصدق

الضرورة عليه، فتشمله عمومات التقيّة الدالة على جوازها في كل ضرورة.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 437

و ثالثاً: لدلالة غير واحد من أخبار أبواب التقيّة عليه، بل على ما هو أوسع منه.

منها: ما روي في تفسير الإمام الحسن العسكري عليه السلام، عن الحسن بن علي عليه السلام قال:

(إنَّ التقية يصلح اللّه بها أمّة لصاحبها مثل ثواب أعمالهم، فإن تركها أهلك أمّة تاركها شريك من أهلكهم الحديث). «1»

و منها: ما رواه الشيخ في مجالسه، بسنده عن المنصوري، عن عمّ أبيه، عن الإمام علي بن محمد عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام قال: (قال سيّدنا الصادق عليه السلام: عليكم بالتقيّة، فإنَّه ليس منّا من لم يجعلها شعاره و دثاره مع من يأمنه لتكون سجيّته مع من يحذره). «2»

بل مفاده أوسع ممّا نحن بصدده؛ لدلالته على وجوب رعايتها عند شدّة التقيّة مع من يأمنه إذا كان مقدمة لأن يعتادها مع من يحذره، و يكون تركها سبباً لإضاعتها في موارد لزومها و وجوبها، فتأمل.

و لا يعارضه ما عن علي بن موسى الرضا عليه السلام- في حديث-، حيث جفى جماعة من الشيعة و حجبهم؛ لتقيّتهم حيث لا تجب التقيّة، «3» كما هو واضح.

التنبيه الخامس: اذا خالف التقية فى موارد وجوبها

إذا خالف التقيّة في موارد وجوبها فهل يكون العمل المخالف لها صحيحاً و إن كان عاصياً- كما اذا صلّى منفرداً فيما إذا اقتضت التقيّة الجماعة مع من لا يراه صالحاً لها-، أو يفسد مطلقاً، أو يفصّل بين مواردها؟

اختار شيخنا العلّامة الّانصاري قدس سره التفصيل بين ما إذا كان العمل المخالف لها أمراً متحداً مع العبادة، كالسجود على التربة الحسينية مع اقتضائها تركه، و مثله الوقوف بعرفات و صوم يوم الشك إذا خالف اعتقاده اعتقادَ مخالفه في تعيين يوم عرفة

و يوم العيد؛ و بين ما إذا كان خارجاً عنه، كترك القبض على اليد (التكتّف) في الصلاة إذا اقتضت التقيّة فعله.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 438

فاختار الفساد في الأول و الصحة في الثاني.

و الظاهر أنَّ الوجه فيه دخول المسألة في مسألة اجتماع الامر و النهي؛ ففي الاول يكون السجود أو نفس الوقوف و الصيام محرّماً منهياً عنه لا يصلح للتقرب المعتبر في صحة العبادة، بخلاف الثاني، فإنَّ الحرام أمر خارج عن العبادة، مثل النظر إلى الاجنبية حال الصلاة.

هذا و المسألة مبنية على أنّ أوامر التقيّة هل هي كأوامر الأبدال الإضطرارية، تدل على جزئية ما يؤتى تقيّة و شرطيته وبدليته عن المأمور به الواقعي، أو أنها ليست كذلك بل تدل على أمر واجب في نفسه؟

فعلى الأول يكون العمل المخالف لها فاسداً مطلقاً، لعدم الإتيان بالمأمور به في ذاك الحال و الرجوع إلى غير ما هو مأمور به، و على الثاني لايكون فاسداً، إلّاإذا دخل في مسألة اجتماع الأمر و النهي، و قلنا ببطلان العبادة مع الاتّحاد بالحرام.

و حيث إنَّ شيخنا العلّامة قدس سره اختار الثاني ذهب إلى التفصيل هنا.

و يرد عليه أوّلًا: أنَّه إذا قلنا بأنَّ إيجاب الشي ء بمقتضى التقيّه لا يجعله معتبراً في العبادة فلو تركه لم يكن عمله فاسداً، فعلى هذا لو ترك المسح على الخفّين في حال التقيّة- و لم يكن في تركه محذور آخر- لم يكن و ضوؤه باطلًا.

و قد أجاب هو نفسه عن هذا الاشكال بما حاصله: إنّ المسح على البشرة ينحلّ الى أمرين، أحدهما نفس المسح و الآخر مباشرته للبشرة، فإذا تعذر الثاني لم يسقط الأول، و في الحقيقة هذا ميسوره بعد ترك المباشرة، للتقيّة.

ثم أيّد ذلك بما ورد في رواية

عبد الأعلى مولى آل سام الواردة في حكم الجبيرة قال: (قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: عثرت فانقطع ظفري، فجعلت على اصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء؟ قال: يعرف هذا و أشباهه من كتاب اللّه عزّ و جلّ، قال اللّه تعالى: «مَا جَعَلَ عَلَيْكُم في الدِينِ مِنْ حَرَجٍ»، امسح عليه). «1»

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 439

فإنَّ المستفاد منها أنّ سقوط المباشرة لليد لا يوجب سقوط المسح على المرارة، و أنَّه يستفاد من ضم قاعدة نفي الحرج إلى حكم وجوب الوضوء، حكم الجبيرة.

و فيه: أنَّ ما أفاده قدس سره لا يكفي في حل الإشكال، فإنَّ المسح على الخفّ ليس ميسوراً بالنسبة للمسح على الرجل قطعاً، بل هو أمر مباين له عرفاً، كالمسح على شي ء آخرخارجي. و يشهد لذلك ما ورد في ذمّ الماسحين على الخفّ عن الصادق عليه السلام:

(إذا كان يوم القيامة و ردّ اللّه كل شي ء إلى شيئه و ردّ الجلد إلى الغنم فترى أصحاب المسح أين يذهب وضوؤهم؟!) «1»

فإنّها تنادي بأعلى صوتها أنَّ المسح على الخفّ كالمسح على ظهر الغنم في الحقيقة، و لا يرتبط بالإنسان أبداً.

و أمّا رواية عبد الأعلى فلا بدّ من توجيهها بما لا ينافي ما ذكر من فهم الميسور عرفاً في باب المسح، و أنَّ المسح على الجبيرة ليس إلّاكالمسح على أمر خارجي، فتدبّر.

و اوضح إشكالًا منه مسألة الحج و الوقوفين في أيام يراها المخالف أيامهما و ليست كذلك في الواقع، أو في ظاهر الشرع؛ فإنّه لا يمكن أن يقال فيه: إنَّ أصل الوقوف مطلوب، و وقوعه في يوم عرفة أو ليلة العاشر مطلوب آخر، فإذا تعذّر واحد وجب الآخر أخذاً بالميسور، و لازم ذلك صحة عمل من ترك الوقوف حينئذ و

أتى بسائر الواجبات. اللّهم إلّاأن يقال بعدم صدق ميسور الحج عليه حتى عند التقية، مضافاً إلى ركنيتهما، فتأمّل.

و ثانياً: أنَّه لا وجه للتفصيل الذي ذكره بين موارده، مثل السجود على التربة الحسينية و ترك القبض على اليد اذا اقتضت التقية خلافهما؛ و ذلك لأنَّ نفس التقيّة واجبة، و أمّا تركها الخاص و الاشتغال بضدها فليس محرّماً، فإنَّ ضد الواجب ليس بحرام.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 440

هذا محصّل ما أورده بعضهم عليه.

و لكن يمكن الذبّ عنه بأنَّ ترك التقيّة بنفسه حرام كما يظهر من الرواية (26) من الباب (24) و الرواية (9) من الباب (25) من أبواب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

ففي الأولى منهما عن الحسين بن خالد عن الرضا عليه السلام: (لا إيمان لمن لا تقيّة له ....

فمن ترك التقيّة قبل خروج قائمنا فليس منا)؛ و في الثانية عن الرضا عليه السلام أيضاً أنّه جفى جماعة من الشيعة و حجبهم فقالوا: (يابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ما هذا الجفاء العظيم و الاستخفاف بعد الحجاب الصعب؟

قال: ... و تتركون التقية حيث لابدّ من التقيّة).

اللّهم إلّاأن يقال: إنَّ المذمة فيهما لترك الواجب لا الفعل الحرام.

و هذا مضافاً إلى أنَّ الفعل الذي يؤتى به على وجه مخالف للتقية بنفسه مصداق لإلقاء النفس في التهلكة، و هو حرام و قد مرّ في غير واحد من روايات التقية أنَّ النهي عن تركها بملاك أنَّه مصداق لقوله تعالى «وَ لَا تُلْقُوا بِايْدِيكم إِلَى الْتَهْلُكَة». «1»

إذا عرفت ذلك فلنعد إلى أصل المسألة و نرى أن الحق فيها ماذا؟

فنقول: ظاهر إطلاقات الباب صحة العمل إذا أُتي به على وجه التقيّة. و الأدلة الخاصة، أعني الأخبار الواردة في موارد خاصة منها،

أيضاً كالصريح في صحة الأعمال المؤدّاة على وجهها. و لكن القدر المتيقن بل ظاهرها أنّ ذلك إنّما يكون إذا عمل على وفقها، لا ما إذا ترك العملين- فترك المسح على البشرة و الخفّ- معاً.

و من الواضح أنّه لا دليل لنا على صحة الأعمال المذكورة غير هذه، فإذا قَصُرَت عن إثبات صحتها بدونه فلابدّ من الحكم بالفساد. فيكون نتيجة ذلك أمراً يشبه البدليّة.

و إن شئت قلت: إنّه و إن لم يكن في أخبار الباب ما يدل على بدليّة العمل تقيّة

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 441

عن العمل الواقعي كالأبدال الإضطرارية، و ليس فيها دلالة على أنَّ المسح على الخفّ بدلّ عن المسح على البشرة.

كبدلّية التيمم عن الوضوء، و لكن إذا لم يكن هناك دليل على إجزاء العمل إلّافي هذه الصورة، كان أثره أثرَ البدليّة و نتيجتها.

و من المعلوم أنَّ ذلك إنّما يتصوّر إذا كانت التقيّة بترك شي ء من أجزاء الواجبات أو شرائطها، و أمّا إذا كانت بإضافة شى ء عليها كالقبض على اليد، و تركه، فالأدلة الدالة على المأمور به الواقعي بإطلاقها تشمله، و يصح العمل. اللّهم إلّاأن يكون نفس العمل على هذا الوجه مصداقاً لإلقاء النفس في التهلكة، فيكون حراماً لا يصلح للتقرب به، فيبطل من هذه الجهة.

التنبيه السادس: حكم آثار الأعمال المأتي بها تقيّة بعد زوالها

إذا توضّأ- مثلا- تقيّةً فلا شك في جواز الصلاة معه ما دامت أسبابها باقية، و أما اذا زالت و انقضى مورد التقية فهل تجوز الأعمال المشروطة بالوضوء؟ و إن شئت قلت: إنَّ الوضوء تقيّةً هل هو مبيح ما دامت عواملها، أو رافع للحدث بحيث لا يحتاج إلى إعادة الوضوء إلّاإذا تجدّد شي ء من الأحداث؟

و لا فرق في ذلك بين العمل الذي توضّأ له و غيره، بعد فرض الكلام في ارتفاع

أسباب التقية بقاء.

و كذلك الكلام فيما إذا أتى ببعض العقود أو الإيقاعات على وجه التقيّة، فهل يجوز ترتيب الأثر عليها بعد زوالها أم لا؟

و الفرق بين ما نحن فيه و بين العبادات التي يؤتى بها تقيّة التي قد عرفت إجزاءها عن المأمور به الواقعي ممّا لا يخفى؛ فإنَّ هذه أسباب شرعية لها دوام بحسب الآثار التي تترتب عليها، بخلاف مثل الصوم و الصلاة و سائر العبادات.

و إذ قد عرفت ذلك فاعلم أنَّ مقتضى القاعدة الأوّلية هو الفساد، و عدم ترتّب الأثر في جميع موارد التقيّة إلّاما خرج بالدليل، و قد مرّت الإشارة إليها في المباحث السابقة.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 442

فهل هناك دليل على الصحة أم لا؟

قد يقال: نعم، و يستدل له تارةً بالأوامر الخاصّة و أخرى بالأوامر العامّة.

توضيح ذلك: أمّا الأوامر الخاصة الواردة في موارد التقيّة كالأمر بالوضوء فربما يستفاد منها الصحة و عدم وجوب إعادته مطلقاً؛ و ذلك لأنَّ رفع الحدث من آثار امتثال الأمر بالوضوء من غير مزيد، و هو هنا موجود، و لذا كل مورد ورد فيه الأمر به كان رافعاً له، فهل تجد مورداً و حداً أُمر فيه بالوضوء و لا يكون رافعاً؟

و ما يترآى من كون الوضوء مبيحاً في دائم الحدث لا رافعاً، مع ورود الأمر به، فإنّما هو من جهة دوام الحدث و تجدده، لا من حيث قصور الوضوء في رفعه.

فتحصّل من ذلك أنَّ كل مورد ورد فيه أمر خاص ببعض الأسباب الشرعية عند التقيّة، سواء كان من العبادات كالوضوء و الغسل، أو من العقود كالنكاح، أو من الإيقاعات كالطلاق، فامتثال هذا الامر دليل على وجود المؤثرّ واقعاً، فيترتب عليه جميع آثاره، و لو بعد زوال أسباب التقيّة.

و أمّا

الأخبار العامّة الدالة على أنَّ التقية جائزة فى كل ضرورة، و أنَّ التقيّة في كل شي ء إلّافي النبيذ و المسح على الخفين،- و قد مرّت في محلها- فهي تدل على جوازها مطلقاً، و جواز كل شي ء بحسبه؛ فجواز الوضوء رفعه للحدث، و جواز البيع صحته، و ترتّب الملك عليه، و جواز الطلاق تأثيره في البينونة، و كذا غيرها.

هذا و لكن يمكن الخدشة في الجميع، أمّا الأخير فلأنَّ ظاهر الأدلة العامة هو الجواز التكليفي و نفي الحرمة، لا الجواز الوضعي، فالإستدلال بها على آثارها الوضعية مشكل جداً.

و أمّا الأوامر الخاصة فالقول بانصرافها عمّا نحن فيه قوي جداً، و إن هي إلّا كالأوامر الاضطرارية إذا زالت الأعذار، كالمتيمم بعدما وجد الماء.

هذا مضافاً إلى ما قد عرفت من أنَّ التقية أمر عقلائي قبل أن تكون شرعية، و لا شك أنَّ العقلاء لا يعاملون معاملة الصحة مع هذه الأسباب إلّاعند بقاء عوامل التقيّة، و أمّا بعد ارتفاعها فيرجعون إلى أسبابها الواقعية الاختيارية.

و الحاصل أنَّ الحكم ببقاء الآثار بعد زوال التقيّة مشكلٌ جداً.

التنبيه السابع: هل التقيّة واجب نفسي أو غيري؟

هل التقيّة في موارد وجوبها واجب نفسي يترتب على تركه العقاب و غيره من آثاره، أو واجب غيري مقدّمي بما له من الآثار المختلفة؟

الذي يستفاد بادى ء الأمر من أدلّتها هو الثاني؛ فإنّها شرّعت لحقن الدماء، و حفظاً عن الضرر الديني أو الدنيوي من غير علّة. و الدليل العقلي الدال عليها أيضاً لا يقتضي أزيد من المقدّمية، و كذا ما دلّ على أنَّ تركها داخل في إلقاء النفس في التهلكة، فتجب مقدّمة لحفظ النفس عنها.

هذا و لكنّ الإنصاف أنّها واجب نفسي بما له من الآثر، و ذلك لأمرين:

الأول: أنَّ الظاهر من إطلاقات الأدلّة وجوبها النفسي عند خوف الضرر،

سواء ترتّب على تركها ضرر أم لا. و ما ذكر فيها من حقن الدماء و غير ذلك فإنّما هو من قبيل الحكمة لا العلّة، و لذا ورد فيها الوعيد بالعذاب لمن تركها، مثل ما ورد في تفسير الإمام الحسن العسكري عليه السلام- في حديث-: «... فأعظم فرائض اللّه عليكم بعد فرض موالاتنا و معاداة أعدائكم استعمال التقية على أنفسكم و أموالكم و معارفكم، و قضاء حقوق إخوانكم، و إنَّ اللّه يغفر كل ذنب بعد ذلك و لا يستقصي، و أمّا هذان فقلّ من ينجو منهما إلّابعد مسّ عذاب شديد)»

.و كذا ما دلّ على أنّها مثل تضييع حقوق الإخوان، مثل ما ورد من قول علي بن الحسين عليه السلام: (يغفر اللّه للمؤمن كل ذنب، و يطهّره منه في الدنيا و الآخرة ما خلا ذنبين: ترك التقية، و تضييع حقوق الإخوان). «2»

و ما رواه ابن ادريس في آخر (السرائر) من قول مولانا علي بن محمد عليه السلام لداود الصرمي: (لو قلت: إنَّ تارك التقيّة كتارك الصلاة لكنت صادقاً) «3». إلى غير ذلك ممّا يطّلع عليه المتتبع.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 444

فإنَّ ذلك كله ظاهرٌ في وجوبها النفسي.

و الثاني: أنَّ ترك التقيّة- و هو ضدّ فعلها- بنفسه إلقاء للنفس في التهلكة، لا أنّه مقدمة له. و من المعلوم أنّ ذلك بنفسه حرام، فترك التقيّة بنفسها حرام يترتب عليه العقاب و يوجب الفسق. و إن شئت قلت: فعلُها عين مصداق حفظ النفسُ و تركها عين مصداق إضاعتها و إلقائها في الهلاك، و ليس هنا من المقدّمية عين و لا أثر، فتدبّر.

التنبيه الثامن: هل هناك قسم ثالث للتقيّة؟

قد عرفت في المباحث السابقة أنَّ التقيّة على ضربين: خوفي و تحبيبي، و الأول ما يكون الغرض منه حفظ

النفوس و الأعراض و الدين، بخلاف الثاني، فإنَّ الغاية فيه جلب المودة، و جمع الكلمة، توحيد صفّ المسلمين على اختلاف مذاهبهم في مقابل أعداء الإسلام، أعداء الحق، و قد عرفت أنّ لكلٍ مقاماً يختص به.

و قد يقال: يوجد هنا قسمٌ ثالثٌ لها، و هو ما يقابل الإشاعة و إذاعة السّر، و انّه حكم سياسي شرّع لحفظ المذهب، و لو لم يكن هناك خوف على أحد، أو مجال لجلب المودة و توحيد الكلمة.

و قد عقد له في (الوسائل) باباً يخصّه، و أورد فيه أخباراً تدل على المقصود:

منها: ما رواه محمد الخزاز عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: (من أذاع علينا حديثنا فهو بمنزلة من جحدنا حقّنا) «1».

و منها: ما رواه ابن أبي يعفور قال: (قال أبو عبد اللّه عليه السلام: من أذاع علينا حديثنا سلبه اللّه الإيمان). «2»

إلى غير ذلك ممّا ورد في هذا الموضوع. و مفادها وجوب كتمان عقيدة الحق، أو

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 445

إظهار غيرها في الموارد التي هي من الأسرار التي يجب كتمانها عن غير أهلها، لما في إذاعتها عند غير أهلها من الضرر.

فهذا نوع من التقية، و ينطبق عليه تعريفها، و مع ذلك ليس داخلًا في القسمين السابقين.

و لكنّ الإنصاف أنّه ممّا لا يمكن المساعدة عليه، بل هو في الحقيقة راجعٌ الى القسم الاول، و هو التقيّة في موارد الخوف؛ فإنَّ اطلاق السرّ ليس إلّافي الموارد التي يكون في إظهار الحق أو بعض العقائد الدينية ضررّ و خوفُ على النفس أو العرض أو الدين نفسه، وما لا يكون فيه ضررٌلا يكون سراً، و لا يدخل تحت عنوان كتمان السر و إذاعته. و على هذا يؤول هذا القسم الى القسم الخوفي.

و يشهد

لما ذكر غير واحد من روايات ذاك الباب بعينه، و إليك جملة منها:

1- ما رواه يونس بن يعقوب عن بعض أصحابه، عن أبي عبداللّه عليه السلام: (ما قتلنا من أذاع حديثنا قتل خطأ، و لكن قتلنا قتل عمد) «1».

و فيه دلالة على أنَّ إذاعة الحديث في موارد كتمانه يترتب عليها الأضرار العظيمة التي ربما تبلغ القتل، و حيث إنَّ فاعلها عالم بهذا الأثر فهو في الواقع قاتل عمد، و هل هو إلّامصداق لترك التقيّة الخوفي، و قد عرفت أنَّ الخوف كما أنَّه قد يكون على النفس يمكن أن يكون على الغير؟

2- ما رواه محمد بن مسلم قال: (سمعت أباجعفر عليه السلام يقول: يحشر العبد يوم القيامة و ما ندا دماً «2»، فيدفع إليه شبه المحجمة، أو فوق ذلك، فيقال له: هذا سهمك من دم فلان، فيقول: يا ربّ إنّك تعلم أنّك قبضتني و ما سفكت دماً، فيقول: بلى، و لكنّك سمعت من فلان رواية كذا و كذا فرويتها عليه، فنقلت حتى صارت إلى فلان الجبّار فقتله عليها، و هذا سهمك من دمه) «3».

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 446

فهل هذا إلّاترك التقيّة الموجب لإلقاء الغير في التهلكة؟

3- ما رواه إسحاق بن عمار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام و تلا هذه الآية: «ذَلِكَ بأَنَّهُمْ كَانُوا يكْفُرْونَ بآياتِ اللّهِ وَ يُقْتُلْونَ النَّبِيِيَن بِغَيْرِ الحَقِّ ذلِكَ بِمَا عَصَوا وَ كَانُوا يَعْتَدُونَ» قال: و اللّه ما قتلوهم بأيديهم، و لا ضربوهم بأسيافهم، و لكنّهم سمعوا أحاديثهم فأذاعوها، فأُخِذُوا عليها، فقَتِلوا فصار قتلًا و اعتداءً و معصية) «1».

إلى غير ذلك ممّا ورد في هذا المعنى. و جميعها تدل على أنَّ إذاعة السرّ إنّما هي في العقائد التي لو أُظهِرَت أورثت ضرراً

على صاحبها، فنقلُ ما يشتمل عليها على صاحبها منافٍ للتقية التي أمر بها عند الخوف على النفس أو على الغير، فليس هذا قسماً ثالثاً غير القسمين السابقين، و الامر واضح.

التنبيه التاسع: هل يحرم تسمية المهدي (عج) باسمه الشريف؟
اشارة

المشهور بين جمع من المحدّثين حرمة تسميته- أرواحنا له الفداء- باسمه الخاص، دون ألقابه المعروفة، فهل هذا حكم يختصّ بزمان غيبته الصغرى دون الكبرى، كما نقله العلّامة المجلسي في (بحارالأنوار) عن بعض؟ أو أنّه عام لكل زمان و مكان إلى أن يظهر (عج) و يملأ الارض قسطاً و عدلًا، كما مُلئت ظلماً و جوراً؟

أو أنَّ حرمتها دائرة مدار التقيّة و الخوف، فعند عدم الخوف تجوز و عند وجوده تحرم؛ بل لا يختص ذلك به أرواحنا فداه و يجري في غيره من الأئمة عليهم السلام؟ اختار ذلك شيخنا الحرّ العاملي قدس سره في (الوسائل) في مفتتح هذا الباب، و صرّح به أيضاً في ختامه.

و لنذكر أوّلًا الأخبار الواردة في هذا الباب، ثم نتبعها بذكر المختار، و هي على طوائف:

الطائفة الأولى:

ما دلّ على حرمة التسمية باسمه الشريف مطلقاً، من دون أي تقيّة من ناحية الزمان و المكان، و لم يعلّل بتعليل خاص، و إليك جملة منها:

1- ما رواه الكليني عن علي بن رئاب، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: (صاحب هذا الأمر لا يسميه باسمه إلّاكافر) «1».

2- ما رواه أيضاً عن الريّان بن الصلت، قال: (سمعت أبا الحسن الرضا عليه السلام و سئل عن القائم عليه السلام قال: لا يُرى جسمه و لا يُسمّى اسمه). «2»

3- ما رواه الصدوق قدس سره في كتاب (اكمال الدين)، عن صفوان بن مهران، عن الصادق عليه السلام أنّه قيل له: (مَنْ المهدى من ولدك؟ قال: الخامس من ولد السابع، يغيب عنكم شخصه، و لا يحلّ لكم تسميته) «3».

4- و ما رواه ايضاً في ذاك المصدر، عن محمد بن عثمان العمري قال: (خرج توقيع بخط أعرفه: من سمّاني في مجمع من الناس

فعليه لعنة اللّه). «4»

بناءاً على عدم اختصاصه بذاك الزمان كما هو ظاهر الإطلاق.

5- ما رواه الصدوق ايضاً في (اكمال الدين)، عن عبد العظيم الحسني، عن محمد بن علي بن موسى عليه السلام في ذكر القائم عليه السلام قال: (يخفى على الناس ولادته، و يغيب عنهم شخصه، و تحرم عليهم تسميته، و هو سمّي رسول اللّه و كنيّه ... الحديث). «5»

إلى غير ذلك ممّا ورد في هذا المعنى.

الطائفة الثانية:

ما ورد فيه التصريح بترك تسميته إلى أن يقوم و يملأ الارض عدلًا كما ملئت

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 448

ظلماً و جوراً، و إليك بعض ما ورد في هذا المعنى:

1- ما رواه العّلامة المجلسي في (بحارالأنوار) عن محمد بن زياد الأزدي، عن موسى بن جعفر عليه السلام أنه قال: عند ذكر القائم عليه السلام: (يخفى على الناس ولادته، و لا يحلّ لهم تسميته حتى يظهره عزّ و جلّ فيملأ به الأرض قسطاً و عدلًا كما ملئت ظلماً و جوراً). «1»

2- ما رواه ايضاً عن عبد العظيم الحسني، عن أبي الحسن الثالث عليه السلام أنّه قال عليه السلام في القائم عليه السلام: (لا يحلّ ذكره باسمه حتى يخرج فيملأ الارض قسطاً و عدلا كما ملئت ظلماً و جوراً). «2»

3- ما رواه الكليني بسنده عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري، عن أبى جعفر عليه السلام- فى حديث الخضر عليه السلام- أنّه قال: (و أشهد على رجل من ولد الحسن لا يُسمّى و لا يُكنّى حتى يظهر أمره فيملؤها عدلًا كما ملئت جوراً، إنّه القائم بأمر الحسن بن علي عليه السلام «3»).

4- ما رواه الصدوق أيضاً في كتاب (إكمال الدين)، بسنده عن عبدالعظيم الحسني، عن سيدنا عليّ بن محمد عليه السلام

أنّه عرض عليه اعتقاده و إقراره بالائمة- إلى أن قال:- (ثم أنت يا مولاي، فقال له عليه السلام: و من بعدي ابني الحسن، فكيف للناس بالخلف من بعده؟ قلت: فكيف ذلك؟ قال: لأنَّه لا يُرى شخصه، و لا يحلّ ذكره باسمه، حتى يخرج فيملأ الأرض قسطاً و عدلًا- إلى أن قال:- فقال عليه السلام: هذا ديني و دين آبائي) «4».

إلى غير ذلك ممّا يدل عليه.

الطائفة الثالثة:

ما دل على عدم جواز تسميته عليه السلام، معللًا بالخوف، و إليك بعض ما ورد في هذا المعنى:

1- ما رواه الكليني بسنده عن علي بن محمد، عن أبي عبد اللّه الصالحي قال:

(سألني أصحابنا بعد مضي أبي محمد عليه السلام أن أسأل عن الاسم و المكان، فخرج الجواب: إن دللتهم على الاسم أذاعوه، و إن عرفوا المكان دلّوا عليه) «1».

قال المحدّث الشيخ الحرّ العاملي قدس سره بعد نقل هذا الحديث: هذا دال على اختصاص النهي بالخوف، و ترتّب المفسدة.

2- ما رواه أيضاً عن عبد اللّه بن جعفر الحميري، عن محمد بن عثمان العمري- فى حديث- أنَّه قال له: (أنت رأيت الخلف؟ قال: إي و اللّه- إلى أن قال:- قلت:

فالاسم؟ قال محرّم عليكم أن تسألوا عن ذلك، و لا أقول هذا من عندي، فليس لي ان أحلّل و لا أُحرّم، و لكن عنه عليه السلام فإنَّ الأمر عند السلطان، أنَّ أبا محمّد مضى و لم يخلف ولداً- إلى أن قال:- و إذا وقع الاسم وقع الطلب، فاتّقوا اللّه و أمسكوا عن ذلك). «2»:

و هذا كالصريح في أنَّ النهي لمكان الخوف عليه عليه السلام، و أنّه إذا وقع الاسم طلبوه، فنهى عن التسمية، بل أُبهمت التسمية كي لا يطّلع عليها من لا يعلمها و

حرّمت على من يعلمها.

3- ما رواه الصدوق في (اكمال الدين)، عن علي بن الحسين الدقّاق و إبراهيم بن محمد قالا: (سمعنا علي بن عاصم الكوفي يقول: خرج في توقيعات صاحب الزمان عليه السلام: ملعون ملعون من سمّاني في محفل من الناس) «3».

و التقييد بقوله «في محفل من الناس» دليل على جوازه في غير محافلهم- بناءاً

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 450

على دلالة القيد على المفهوم، في هذه المقامات-، و أنَّ النهى إنّما هو من جهة التقيّة عنهم.

4- ما رواه أيضاً عن محمد بن همام، عن محمد بن عثمان العمري قال: (خرج توقيع بخط أعرفه: من سمّاني في مجمع من الناس فعليه لعنة اللّه) «1».

و دلالته كسابقه.

5- ما رواه في (البحار) عن أبي خالد الكابلي قال: (لما مضى علي بن الحسين عليه السلام دخلت على محمد بن علي الباقر عليه السلام فقلت: جعلت فداك قد عرفت انقطاعي إلى أبيك و أنسي به و وحشتى من الناس، قال: صدقت يا أبا خالد تريد ماذا؟ قلت: جعلت فداك قد وصف لي أبوك صاحب هذا الامر بصفة لو رأيته في بعض الطرف لأخذت بيده، قال: فتريد ماذا يا أبا خالد؟ قال: أريد ان تسميّه لي حتى أعرفه باسمه، فقال:

سألتني و اللّه يا أبا خالد عن سؤال مجهد و لقد سألتني بأمر ما لو كنت محدّثاً به أحداً لحدّثتك، و لقد سألتني عن أمر لو أنّ بني فاطمة عرفوه حرصوا على ان يقطعوه بضعة بضعة). «2»

بناءاً على أنَّ قوله: (لو أنَّ بني فاطمة ...) يدل على قصد بعضهم الاضرار به، فضلًا عن غيرهم، فلذلك لم يسمّه عليه السلام باسمه، حتى يكون مكتوماً فلا يعرف، و لا تصل أيدي المخالفين، إليه خوفاً من

الاضرار به.

و المستفاد من جميع ذلك أنَّ إخفاء اسمه (عج) ليس لأمرِ تعبدي خاص، بل بملاك التقيّة بما لها من الشروط لا غير.

الطائفة الرابعة:

ما يدل على وقوع التسمية منهم عليهم السلام أو من أصحابهم في موارد عديدة بلا نهي

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 451

منهم، وإليك بعض ما ورد في هذا المعنى:

1- ما رواه الصدوق في (اكمال الدين) بسنده عن محمد بن إبراهيم الكوفي، أنَّ أبا محمد الحسن بن علي العسكري عليه السلام بعث إلى بعض من سمّاه شاةً مذبوحة و قال:

(هذه من عقيقة ابني محمد «1»).

و هذا تصريح بالاسم منهم صريحاً، و إجازة بالتصريح من غيرهم تلويحاً.

2- ما رواه أيضاً عن أبي غانم الخادم قال: (ولد لأبي محمد عليه السلام مولود فسمّاه محمداً، و عرضه على أصحابه يوم الثالث و قال: هذا صاحبكم من بعدي و خليفتي عليكم و هو القائم) «2».

و هذا الحديث و إن لم يكن دالًا على التسمية منهم، إلّاأنَّ ذلك لو كان ممنوعاً لم يتسرع إليه أبوغانم الخادم، بل هو دليل على أنَّ الإمام العسكري عليه السلام صرّح باسمه له و لأمثاله.

3- ما رواه ايضاً عن الكليني، عن علان الرازي، عن بعض أصحابنا أنّه لمّا حملت جارية أبي محمد عليه السلام قال: (ستحملين ولداً و اسمه محمد، و هو القائم من بعدي «3»).

و نقلُ الرواة له واحداً بعد واحد شاهد على جواز التسمية في الجملة.

4- ما رواه أيضاً عن أبي نضرة، عن أبي جعفر عليه السلام، عن جابر بن عبد اللّه، عن فاطمة عليها السلام أنَّه وجد معها صحيفة من درّة فيها أسماء الأئمة من ولدها، فقرأها- إلى أن قال: (أبوالقاسم محمد بن الحسن حجّةاللّه على خلقه القائم، أُمّه جارية، اسمها

نرجس) «4».

و نقل جميع رواة السند مضافاً إلى نقل جابر دليلٌ على عدم المنع من التسمية في جميع الحالات و الظروف.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 452

5- ما رواه أيضاً عن أبي الجارود، عن أبي جعفر عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام قال: (قال أميرالمؤمنين عليه السلام على المنبر: يخرج رجل من ولدي في آخر الزمان- و ذكر صفة القائم و أحواله إلى أن قال:- له اسمان، اسم يخفى، و اسم يعلن، فأمّا الذي يخفى فأحمد، و أمّا الذي يعلن فمحمد ... الحديث) «1».

و هو دليل على أنّ التصريح باسمه بمحمد حتى من فوق المنبر جائز.

6- ما رواه بأسانيده الكثيرة عن الحسن بن محبوب، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر عليه السلام، عن جابر قال: (دخلت على فاطمة عليها السلام و بين يديها لوح فيه أسماء الأوصياء من ولدها، فعددت اثني عشر آخرهم القائم، ثلاثة منهم محمد، و أربعة منهم علي) «2».

7- ما رواه الطبرسي في (اعلام الورى) عن محمد بن عثمان العمري، عن أبيه، عن أبي محمد الحسن بن علي عليه السلام، (في الخبر الذي روي عن آبائه عليهم السلام أنّ الارض لا تخلو من حجة اللّه على خلقهُ و أنَّ من مات و لم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية، فقال: إنَّ هذا حق كما أنَّ النهار حقّ، فقيل: يابن رسول اللّه فمن الحجة و الإمام بعدك؟ فقال: ابني محمد، هو الإمام و الحجة بعدي، فمن مات و لم يعرفه مات ميتة جاهلية) «3»

إلى غير هذا ممّا في هذا المعنى.

و لقد أجاد صاحب (الوسائل) في آخر الباب 33 من أبواب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر حيث قال: «و الأحاديث في التصريح باسم المهدي محمد بن الحسن

عليه السلام، و في الأمر بتسميته عموماً و خصوصاً، تصريحاً و تلويحاً، فعلًا و تقريراً، في النصوص، و الزيارات، و الدعوات، و التعقيبات، و التلقين و غير ذلك كثيرة جداً».

ثم أضاف اليه في حاشية منه على آخر أحاديث هذا الباب فقال: «قد صرّح باسمه عليه السلام

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 453

جماعة من علمائنا في كتب الحديث، و الأصول، و الكلام و غيرها، منهم العلّامة، و المحقّق، و المقداد، و المرتضى، و ابن طاووس، و غيرهم، و المنع نادرٌ، و قد حقّقناه في رسالة مفردة».

هذا هو ما ورد في هذا الباب من طوائف الأخبار، و كلمات الاصحاب. و لا ينبغي الشك في أنَّ القول بمنع التسمية تعبداً كلام خالٍ عن التحقيق، و إن صرّح به بعض الأكابر، بل الظاهر أنَّ المنع منه يدور مدار وجود ملاك التقية، و في غيره كأمثال زماننا هذا لا يمنع على التحقيق.

و أمّا ما أفاده العلّامة المجلسي قدس سره بعد ذكر بعض ما دل على النهي عن التسمية إلى أن يظهر القائم عليه السلام بقوله: «إنَّ هذه التحديدات مصرّحة في نفي قول من خصّ ذلك بزمان الغيبة الصغرى تعويلًا على بعض العلل المستنبطة و الاستبعادات الوهمية» فهو ممنوع جداً؛ لما قد عرفت من أنَّ هذا ليس علّة مستنبطة و استبعاداً وهمياً، بل صرّح به في روايات عديدة ليست بأقل من غيرها، هذا مضافاً إلى ما دلّ من الروايات على جواز التسمية و التصريح به، و قد عرفتها في الطائفة الرابعة، و هي أكثر عدداً و أقوى دلالة من غيرها.

و الحاصل أنَّ المنع يدور مدار الخوف عليه عليه السلام، أو علينا، بالموازين المعتبرة في التقيّة؛ و ذلك لأمور:

الأول: أنَّ هذا هو الطريق

الوحيد في الجمع بين الأخبار و حمل مطلقها على مقيّدها، فالمطلقات و هي الطائفة الأولى بل الثانية أيضاً- فإنّها مطلقة من ناحية الخوف و عدمه و إن كانت مغيّاة بظهوره فإنه لا ينافي تقييدها بما ذكرنا- تقيّد بالطائفة الثالثة الدالة على دوران الحكم مدار التقيّة، و لولا ذلك تعارضت و تساقطت، لو قلنا بأنَّ كل طائفة منها قطعية أو كالقطعية لتضافرها، أو يقال بالتخيير بناءاً على كون أسنادها ظنية، و عندئذ يمكن الحكم بالجواز.

و من أقوى القرائن على الجمع الذي ذكرنا هو الطائفة الرابعة المصّرحة بجواز التسمية في الجملة. و ليت شعري ماذا يقول القائل بحرمة التسمية مطلقاً في هذه

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 454

الطائفة المتضافرة جداً؟ فهل يمكن طرح جميعها مع كثرتها و فتوى كثير من الأصحاب على طبقتها؟ أو يمكن ترجيح غيرها عليها؟

كلا، لا طريق إلى حلّها إلّابما ذكرنا.

الثاني: قد وردت احاديث كثيرة من طرق أهل البيت عليه السلام و السنّة، صرّح فيها بأنَّ اسم المهدي عليه السلام اسم النبي صلى الله عليه و آله، و كنيته عليه السلام كنيته صلى الله عليه و آله.

و من المعلوم أنّ هذا في قوة التسمية، فإنَّ الظاهر من بعض الأخبار الدالة على عدم ذكر الاسم هو عدم الدلالة عليه بحيث لا يعلم المخاطب من الناس ما يكون اسمه الشريف، لا مجرد التلفّظ به. اللّهم إلّاأن يقال: ان ذلك و إن كان مفاد بعض أخبار الباب و لكن ينافيه بعضها الآخر الدال على حرمة التلفّظ به، لا الدلالة عليه و لو بنحوٍ من الكناية، فراجع و تدبّر.

الثالث: أنَّ القول بحرمة التلفظ باسمه الشريف من دون التقيّة و محذور آخر، مع جواز الدلالة عليه بالكناية أو بمثل (م ح م د)

يحتاج إلى تعبد شديد، فأيّ حزازة في ذكر اسمه الشريف في اللفظ مع جواز ذكره كناية، كالقول بان اسمه اسم جده رسول اللّه، او بالحروف المقطعة، مع فرض عدم أي محذور ظاهر بتاتاً؟

و أيّ شبيه لمثل هذا الحكم في الأحكام الشرعية؟

و مثل هذا الاستبعاد و إن لم يكن بنفسه دليلًا في الأحكام الفقهية إلّاأنّه يمكن جعله تأييداً لما ذكرنا.

و يؤيّده أيضاً بعض ما ورد في عدم جواز التصريح باسم غيره عليه السلام من الأئمة عليهم السلام عند التقيّة، فلا يختصّ الحكم باسمه الشريف؛ مثل ما رواه الكليني باسناده إلى عنبسة، عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: (إيّاكم و ذكر علي و فاطمة عليها السلام، فإنَّ الناس ليس شي ء أبغض إليهم من ذكر علي و فاطمة) «1».

و من العجب ما حكي عن الصدوق قدس سره أنَّه بعد الاعتراف بالتصريح باسمه في رواية

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 455

اللوح قال: «جاء هذا الحديث هكذا بتسمية القائم، و الذي أذهب اليه النهي عن التسمية».

و قد عرفت أنَّه لا ينحصر التصريح باسمه الشريف برواية اللوح، و لا ينحصر الدليل بروايات الطائفة الرابعة المصرّحة بالاسم، و مع ذلك لِمَ لَمْ يختر القول بالجواز عند عدم التقية كما اختاره صاحب (الوسائل) و يظهر من كثير من الاصحاب؟

فلعله رآه موافقاً للاحتياط. و هو و إن كان كذلك إلّاأنَّ الاحتياط في عمل النفس شي ء و الفتوى بالاحتياط شى ء آخر، و بالجملة هذا الاحتياط ضعيف جداً لا يجب مراعاته.

فتلخّص عن جميع ما ذكر، جواز التسمية باسمه الشريف- و هو «محمد بن الحسن العسكري» عجّل اللّه تعالى له الفرج- في أمثال زماننا هذا مما لا تقيّة فيه من هذه الناحية.

إلى هنا ينتهي الكلام في أحكام التقيّة و

فروعها.

و قد وقع الفراغ منه في جمادى الاخرى من سنة 1392. هق

و الحمداللَّه ربّ العالمين

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 457

8 قاعدة لا تعاد

اشارة

من القواعد الفقهية قاعدة لا تعاد، و هي قاعدة عامة تجري في جميع أبواب أجزاء الصلاة و شرائطها و موانعها- على القول بحجيتها-، و بهذا دخلت في سلك القواعد الفقهية؛ لما قد عرفت من أنَّ ضابطها اشتمالها على احكام عامّة لا تختصّ بباب خاص.

و باشتمالها على الحكم تمتاز عن المسائل الأصولية؛ فإنّها لا تشتمل على حكم شرعي بل تكون قواعد تقع في طريق استنباط الأحكام.

و بعدم اختصاصها بباب خاص و موضوع معيّن تمتاز عن المسائل الفقهية المختصّة بمواضيع معيّنة.

و على هذا لا يمنع اختصاص هذه القاعدة بأبواب الصلاة من انسلاكها في سلك القواعد الفقهية؛ فإنَّ هذه الأبواب تحتوي مواضيع مختلفة غاية الاختلاف.

أصل القاعدة:

لا شك في أنَّ الحكم الأوّلي في المركبّات الشرعية و غيرها هو الفساد إذا أخلّ بشي ء من أجزائها و شرائطها، أو أتى بشي ء من موانعها؛ إذ مع الإخلال بشي ء من هذه لا يوجد المركّب على الفرض، سواء كان ذلك عمداً أو سهواً أو جهلًا، اذا كانت الجزئية و الشرطية و المانعية مطلقة.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 460

فالحكم بالبطلان و عدم الاجتزاء و لزوم الاءعادة هو الأصل الأوّلي في جميع هذه الموارد.

و لا فرق في ذلك بين أن يكون الدليل على الجزئية أو الشرطية أو المانعية بلسان نفي الماهية مثل قوله: (لا صلاة إلّابطهور)، و قوله: (لا صلاة إلّابفاتحة الكتاب)؛ أو بلسان الأمر، مثل قوله تعالى: «إذَا قُمْتْم إلى الصلَاة فَاغْسِلُوا وُجوهَكُم وَ أيدِيَكُم إِلى المرَافِقِ وَ أمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلى الكَعْبَينِ وَ إِنْ نْتُمْ جُنْبَاً فَاطَّهَّرُوا»».

أو بلسان وجوب الإعادة عند الإخلال بها، كما ورد في غير واحد من أبواب الأجزاء و الشرائط و الموانع، مثل قوله عليه السلام في حديث زرارة بعد السؤال

عن إصابة شي ء من الدم أو المني لثوب المصلّي و نسيانه و الصلاة معه و الذكر بعد الفراغ منها:

(تعيد الصلاة و تغسله). «2»

لعدم الفرق بين جميع هذه الصور. و إطلاقها دليل على عدم اختصاص الجزئية و شبهها بحال خاص.

و ما قد يتوهّم من أنَّه إذا كان الدليل عليها بلسان الأمر- و الأمر لا يشمل الناسي و شبهه- كان مختصّاً بالعالم العامد الذاكر، و غيره خارج عن نطاق إطلاق دليل الجزئية و الشرطية و المانعية، و مع عدم ثبوت هذه الأمور في حقّهم لا مناص عن الحكم بالصحة عند تركها غفلة و نسياناً و شبههما، فاسدٌ جداً؛ فإنَّ مثل هذه الأوامر أوامر إرشادية، ترشد إلى الجزئية تارة و الشرطية أو المانعية أخرى، و ليست على وزان الأوامر المولوية المختصة بالذاكر العامد.

هذا مضافاً إلى أنَّ الأوامر المولوية الواردة في أبواب الأحكام التكليفية أيضاً عامّة شاملة للجاهل و الناسي أيضاً، و إن سقطت عن الفعلية في حقهم ما دامت هذه

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 461

الأعذار، فإذا ارتفعت و أمكن التدارك بالإعادة أو القضاء وجب.

و بالجملة لا ينبغي الريب في أنَّ قضيّة الأصل الأوّلي هو الفساد عند الإخلال بشي ء من هذه الأمور.

نعم، يستثنى منه ما إذا كان الحكم بالجزئية أو الشرطية منتزعاً عن حكم تكليفي فعلي، مثل ما أفتى به المشهور من بطلان الصلاة في الأرض المغصوبة أو اللباس المغصوب؛ فإنّه لادليل على شرطية الإباحة أو مانعية الغصب إلّامن ناحية حكم العقل بعدم جواز اجتماع الأمر و النهي، أو عدم إمكان التقرّب إلى اللّه تعالى بفعلٍ يتّحد مع عنوان محرم.

و من الواضح أنَّ الفساد هنا مشروط بفعلية حكم الغصب، بحيث لا يمكن التقرّب معه بالصلاة، فلو نسي أو غفل

أو جهل به، بحيث لم تكن الحرمة فعلية لم يكن هناك مانع عن صحة الصلاة. و هذا هو الفارق بينه و بين غيره من الموانع و الشرائط.

فالغافل و الجاهل و الناسي لحكم الغصب و موضوعه تصحّ صلاتهم، لعدم المانع في حقهم.

إذا تبيّن ذلك فاعلم أنَّ فقهائنا (رضوان اللّه عليهم) استثنوا من أصالة الفساد الجارية في المركّبات عند الاخلال بشي ء من أجزائها و شرائطها و موانعها، أبواب الصلاة، و أفتوا بصحتها عندئذ، إلّافي خمسة أشياء: الطهور، و الوقت، و القبلة، و الركوع، و السجود. ثلاثة من الشرائط، و اثنان من الأجزاء. و اطلق جمعٌ من المتأخّرين و المعاصرين على ذلك: «قاعدة لا تعاد»، أخذاً بما ورد في الحديث الآتي.

1- مدرك القاعدة

اشارة

المدرك الوحيد لهذه القاعدة هو صحيحة زرارة، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: (لا تعاد الصلاة إلّامن خمسة: الطهور، و الوقت، و القبلة، و الركوع، و السجود، ثم قال:

القراءة سنّة، و التشهد سنّة، و التكبير سنّة، و لا تنقض السنّة بالفريضة). «1»

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 462

رواها في (الوسائل) في أبواب القبلة الباب (9)، الحديث (1).

و كذا في أبواب الوضوء الباب (3)، الحديث (8).

و كذا في أبواب أفعال الصلاة الباب الأول، الحديث (14).

و رواها ايضاً في أبواب القراءة، و أبواب الركوع، و أبواب السجود، و أبواب التشهد، و أبواب قواطع الصلاة.

و هذا الحديث صحيح سنداً و تامٌ دلالة.

أمّا السند:

فقد رواه الصدوق رحمه الله في (الخصال) عن أبيه، عن سعد- بن عبد اللّه القمّي-، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن حمّاد بن عيسى، عن حريز- بن عبد اللّه السجستانى، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام.

و رواه أيضاً في (الفقيه) باسناده إلى زرارة عنه عليه السلام.

و ذكر في (جامع الرواة) و غيره أنَّ إسناد الصدوق إلى زرارة صحيح.

و سنده إليه- كما ذكره في آخر كتابه- هو هكذا: «عن أبيه، عن عبد اللّه بن جعفر الحميري، عن محمد بن عيسى بن عبيد، و الحسن بن ظريف، و علي بن إسماعيل بن عيسى، كلهم عن حمّاد بن عيسى، عن حريز بن عبد اللّه عن، زرارة بن أعين».

و رواه في (التهذيب) بإسناده الى زرارة.

و على كل حال الحديث صحيح من حيث السند، قابل للاعتماد عليه، فلا غبار عليه من هذه الناحية.

و أمّا الدلالة:

لا كلام في دلالة الحديث بل صراحته في عدم وجوب اعادة الصلاة عند الإخلال بما عدا الخمسة في الجملة، إنّما الكلام فىّ مقدار دلالتها، و إطلاقها من جهات

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 463

مختلفة؛ فإنَّ الإخلال بما عدا الخمسة يتصوّر على وجوه:

أوّلها: أن يكون الإخلال ناشئاً من ناحية النسيان، إمّا نسيان الحكم أو نسيان الموضوع.

ثانيها: أن يكون مستنداً إلى الجهل و عدم العلم، إما بالحكم أو الموضوع.

ثانيها: أن يكون مع العلم و العمد.

لا إشكال في شمول إطلاقها للصورة الأولى، و عدم وجوب الإعادة فيها سواء كان النسيان في جانب الموضوع أو الحكم، بل القدر المتيقن منها هو هذه الصورة.

و أمّا الصورة الأخيرة فلا ينبغي الشك في خروجها منها، و انصرافها عنها، و بقائها على حالها من وجوب الإعادة عند الاخلال بشي ء من الشرائط و

الأجزاء.

و ما أجودها قاله سيدنا الأستاذ العلّامة المحقق البروجردي قدس سره في هذا المقام من «أنَّ القاعدة إنّما هي بصدد بيان حكم المريد للامتثال، المخلّ ببعض الجوانب، و من الواضح أنَّ من كان بهذا الصدد لا يتصوّر في حقّه الإخلال العمدي، و أمّا من ليس بصدد الامتثال من أول أمره فهو خارج عن نطاق بحثها قطعاً».

و يمكن أن يقال أيضاً: إنّه لا يجوز على المولى الحكيم الحكم بعدم وجوب الإعادة في هذه الصورة- صورة الاخلال ببعض ما يعتبر في الواجب عمداً-؛ فإنّه دليل على عدم وجوب ما أخلَّ به من أصل، و هو خلاف الفرض، فإذا كان واجباً فكيف يرخّص في تركه، و هل هذا إلّانقضٌ للغرض؟

فشمولها لصورة العمد و العلم تعود إلى أمر محال.

و ما قد يقال: إنَّ هذا ليس بدعاً من الأمر، و لا مانع من أمر المولى بشي ء مركّب ذي أجزاء و شرائط على نحو الوجوب، ثم الحكم بصحته عند الإخلال ببعضها. و قد وقع ذلك في باب القصر و الإتمام، و الجهر و الاخفات؛ فإنَّ القصر أو الجهر و الإخفات مع كونها أموراً واجبة في محلّها فقد حكموا بصحة العمل مع الإخلال بها جهلًا، و لو كان عن تقصير الذي في حكم العمد.

فكما أنَّ الجاهل المقصّر في هذين البابين يكون آثماً، و لكن يحكم بصحة

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 464

أعماله مع إخلاله ببعض ما يعتبر في الصلاة من الشرائط، فكذا الكلام فيمن أخلَّ بشيِ ء عامداً يحكم بصحة صلاته بمقتضى هذه القاعدة و إن كان آثماً في الجملة.

و يجري هنا ما ذكروه في توجيه الصحة و تفسيرها هناك، من أنَّ أمر المولى قد يكون له مراتب، فإذا أخلَّ ببعض مراتبها بترك بعض الأجزاء

أو الشرائط فقد نال مرتبة أخرى منه و أحرز شيئاً من الملاك و المطلوبية و إن أضاع بعضه، و المفروض أنّه بعد إحرازه بهذا المقدار لا يبقى موضوع لإحراز الباقي، فيسقط الأمر، و يصح العمل، و يكون آثماً من حيث الإخلال أيضاً.

ممنوعٌ: بأنَّ هذا الوجه إنّما يصح إذا كان الأمر ذا مراتب و كان من قبل تعدد المطلوب، و كانت الشرائط و الأجزاء الخمسة مطلوبة في حدّ ذاتها، و غيرها من الأجزاء و الشرائط مطلوبات أُخر، كما ذكروا ذلك في باب الجهر و الإخفات، و القصر و الاتمام.

و لكنك خبير بأنَّ هذا فرض غير واقع في ما عدا الخمسة، و قد قام الإجماع على أنَّ الصلاة بجميع أجزائها و شرائطها مطلوب واحد لا تعدّد فيه، إلّافى مسألتي الجهر و الإخفات، و القصر و الإتمام، فقد ذكروا فيهما ما ذكروه، و إنّما هو في فرض الجهل لا فرض العمد.

و الحاصل أنَّ هذا التوجيه إنّما يصحّ في فرض إمكان تعدّد الطلب، و أما في غيره- و ما نحن فيه منه- فيستحيل ذلك. فما ذكرناه من أنَّ هذا أمر غير ممكن- في المقام- يكون تامّاً صحيحاً مع حفظ الفرض.

يبقى الكلام في الصورة الثانية، و هي صورة الجهل بالموضوع أو الحكم فنقول:

الجاهل إمّا أن يكون جهله بسيطاً، و يكون ملتفتاً الى جهله شاكّاً في الحكم أو موضوعه- الملازم للجهل البسيط-، فالإنصاف أنّه بحكم العامد الذي قد عرفت انصراف القاعدة عنه، بل استحالة شمولها له؛ فإنَّه في الواقع نوع من العمد، و كيف يتصوّر كون الانسان بصدد إمتثال أمر مولاه و هو شاك في حصول المأمور به بأجزاء و شرائط خاصة و هو لا يعتني بهذا الشك و بما لا

يعلمه من الأجزاء و الشرائط؟ بل

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 465

يشكل تمشّي قصد القربة منه في كثير من الأحيان.

و لو قلنا بشمول القاعدة لمثله كانت باعثة للمكلفين إلى الجهل، و داعية لهم الى ترك الجدّ و الاجتهاد في تحصيل العلم بأجزاء الصلاة و شرائطها؛ فإنَّ إعلانها بصحة صلاة الجاهل المقصّر داعٍ إلى هذا لا محالة، و هو كما ترى.

و إمّا أن يكون جاهلًا بالجهل المركب، غافلًا عن جهله، عالماً بخلافه، كمن يعتقد عدم جزئية السورة مع أنها في الواقع كذلك، فلا يبعد شمول إطلاق الدليل له؛ لعدم المانع منه، و لا وجه للانصراف و شبهه.

2- إشكال على القاعدة و دفعه

ههنا اشكال ينشأ من أنَّ القاعدة لا شك أنّها بصدد الصحة الواقعية، فإذا قلنا بشمولها للجاهل بالجهل المركبّ لزم الحكم بصحة صلاة مثل

هذا الجاهل التارك لبعض أجزائها أو شرائطها- ما عدا الخمسة- واقعاً، و هو نوع من التصويب الباطل؛ إذاللازم كون الحكم واقعاً في حق العالم اشتمال صلاته على عشرة أجزاء، و في حق الجاهل خمسة أجزاء فقط، هذه التفرقة بين العالم و الجاهل في الأحكام الواقعية من التصويب الباطل.

و يمكن أن يجاب عنه: بأنَّ هناك فرقاً واضحاً بين العالم و الجاهل، و هو أنَّ العالم يستوفي بعلمه تمام مصلحة العمل، و لكن الجاهل لا يستوفي منها إلّامقداراً مع عدم إمكان استيفاء الباقي بعد استيفاء هذا المقدار.

و إن هو إلّانظير العبد التارك لأمر المولى القائل: اسقني ماءاً بارداً، فأتاه بماءٍ غير بارد و شرب المولى منه، فإنّه لايحتاج بعد ذلك إلى الماء البارد و الحاصل أنَّه لمّا أتى بالناقص لم يبقَ مجال للإتيان بالكامل.

و إن شئت قلت: هذا من قبيل الإتيان بغير المأمور به، الرافع لموضوع المأمور به، كما

في المثال السابق، و هذا أمر واقع في العرف و الشرع.

فالمأمور به الواقعي هو المشتمل على عشرة أجزاء لا غير، و أمَّا المشتمل على خمسة أجزاء فهو حاوٍ لشي ءٍ من المصلحة، من دون أن يكون مأموراً به، فلا يلزم

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 466

محذور التصويب.

و مثل هذا البيان و إن كان ممكناً في حق العالم العامد التارك لبعض الأجزاء، إلّا أنَّه خلاف ما ثبت بالدليل و الاجماع، فتأمّل.

و يمكن الجواب عنه أيضاً- كما ذكره بعض أجلّة العصر- بأنّ الحكم الواقعي الإنشائي في حق الجميع- الجاهل و العالم- سواءٌ، و هو عشرة أجزاء مثلا، و إنّما الفرق بين الجاهل و العالم في الحكم الفعلي، فالعالم حكمه الفعلي يدور على عشرة أيضاً، و الجاهل يدور حكمه الفعلي على خمسة أجزاء، فإذن لا يلزم التصويب؛ فانه إنّما يلزم إذا كان الحكم بجميع مراتبه مختلفاً بين العالم و الجاهل، لا ما إذا اتّحدا في مرحلة الانشاء.

و هذا الجواب مثل ما ذكروه في الجمع بين الحكم الظاهري و الواقعي من الاعتذار عن محذور التصويب باشتراك الحكم الإنشائي بين الجميع مع اختلاف العالم و الجاهل في الفعلية. نعم، كلامهم هناك إنّما هو في الحكم التكليفي، و هنا في الحكم الوضعي، و الظاهر أنَّ هذا المقدار من التفاوت لا يوجب محذوراً في المقام.

3- هل للقاعدة مدارك أُخرى غير ما ذكر؟

قد ذكر العلّامة الأنصاري قدس سره في بعض كلماته مدارك أُخرى للقاعدة:

منها: رواية منصور بن حازم المرويّة في أبواب القراءة قال: (قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام:

إنّي صليّت المكتوبة، فنسيت أن اقرأ في صلاتي كلها؟ فقال: أليس قد أتممت الركوع و السجود؟ قلت: بلى، قال: قد تمّت صلاتك إذا كان نسياناً). «1»

و مفاد الرواية أنَّ من أتمّ ركوعه و

سجوده تمّت صلاته، و لا يضرّه الإخلال بغيرهما من الأجزاء الأُخَر.

و منها: ما رواه ابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا، عن سفيان بن السمط، عن أبي عبد اللّه عليه السلام (تسجد سجدتي السهو في كل زيادة تدخل عليك أو نقصان). «2»

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 467

و هذه الرواية لو تمّت لكانت أوسع من حديث لا تعاد؛ بناءاً على ما عرفت من التشكيك في شمولها للزيادة، و لكن هذه تدل على أنَّ الزيادة و النقيصة السهويتين لا تضّران بالصلاة، بل يمكن علاجهما بسجدة السهو، فإنّها جابرة لهما، فلا تجب الإعادة لا محالة.

و الذي يوهن الاستدلال بالأولى منهما ما ورد في ذاك الباب بعينه من إجزاء تسبيح الركوع و السجود عن القراءة، فعن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: (إن نسي أنْ يقرأ في الأولى و الثانية أجزأه تسبيح الركوع و السجود ... الحديث). «1»

و هذا دليل على بدلية التسبيح عن القراءة، لا جواز تركها مطلقا مع إتمام الركوع و السجود.

و بالجملة لا تتجاوز دلالة الحديث- لو قلنا بها- عن حدّ الإشعار على كفاية الركوع و السجود عن غيرهما عند النسيان، فلا يمكن الاستدلال به، لا سيّما مع عدم عموم فيه يشمل غير القراءة من الأجزاء.

و يوهَّن الثاني، مضافاً إلى وهنه بالإرسال- ومع الغض عنه لكون المرسل ابن أبي عمير، هو ضعيف بوجود سفيان بن السمط الذي هو من المجاهيل- بأنَّ الرواية ليست في مقام بيان قاعدة كلية حاكمة بعدم فساد الصلاة بالزيادة و النقيصة في أجزائها، بل هي ناظرة إلى بيان تدارك ما عرضه من النقيصة و الزيادة بعد الفراغ عن صحتها معه.

و الحاصل أنَّ الحكم بصحة الصلاة في كل زيادة و نقيصة سهوية

شي ء، و الحكم بلزوم تداركها بعد الفراغ عن صحتها بسجدة السهو شي ء، آخر، و الظاهر أنَّ الرواية بصدد بيان الثاني لا الأول.

فإذا ثبتت صحة الصلاة مع الإخلال ببعض ما يعتبر فيها نقيصةً و زيادة وجب

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 468

تداركه بسجدة السهو، و هذا لا ربط له بما نحن فيه.

4- هل تجري القاعدة في موانع الصلاة؟

لا شك في شمول القاعدة للأجزاء و الشرائط إنّما الكلام في شمولها للموانع، مثلًا إذا كان المصلّي ناسياً لمانعية لبس الذهب للرجال أو لموضوعه و صلّى و في يده خاتم من ذهب، فهل يمكن الفتوى بصحة صلاته نظراً إلى أنّه أتى بالخمسة كملًا من دون الإخلال بشي ء منها فيشمله إطلاق الحديث؟

الظاهر في بدء النظر هو ذلك؛ لعدم المانع من شمول الإطلاق له، و لكن عند التأمل الصادق يظهر عدم شموله لها، أو الشك فيه و ذلك لأمرين:

أوّلهما: أنَّ الظاهر من الاستثناء كون المستثنى منه من جنس المستثنى، فإنّه في الحقيقة إخراج ما لولاه لدخل، و أمَّا انقطاع الإستثناء فهو أمر مخالف لظاهر الجملة الإستثنائية، لا يصار إليه إلّابدليل.

و حيث إنَّ المستثنى في محل البحث هو من الأجزاء و الشرائط فقط يعلم أنَّ المستثنى منه أيضاً ليس إلّامنها. و احتمال اندراج الموانع كلها في المستثنى منه و إن كان غير بعيد، إلّاأنَّ اختصاص المستثنى بهما قد يكون قرينة على اختصاص المستثنى منه أيضاً، و لاأقلّ من كونه من قبيل المحفوف بما يحتمل القرينية، و هو مانع عن الإطلاق و العموم كما ذكر في محله، فتأمّل.

ثانيهما: ما ورد في ذيل الحديث من قوله: (إنَّ القراءة سنّة، و التشهد سنّة، و السنّة لا تنقض الفريضة) كالتعليل لما ذكر في صدره، و هو أيضاً قرينة على أنَّ محط البحث

هو الأجزاء و الشرائط فقط، و أنَّ ما كان منها سنّة- غير ركن- لا يوجب نقض الفريضة- اعني الواجبات الركنية-، فتأمّل.

و على كل حال لا تطمئن النفس بإطلاق القاعدة، و يقوى فيها إنصرافها إلى خصوص الأجزاء و الشرائط فكأنَّ الموانع مسكوت عنها، و لاأقلّ من الشك في الشمول اللازم معه الرجوع الى مقتضى القاعدة الأوّلية، و هو الفساد بالإخلال بشي ء مما يعتبر في المركّب وجوداً أو عدماً.

5- هل تشمل القاعدة زيادة الأجزاء ايضاً؟

لا ريب في شمولها لنقص شي ء من الأجزاء و الشرائط، و إنّما البحث في شمولها لزيادة ما يمكن الزيادة فيها.

و اعلم أنَّ هناك أقوالًا ثلاثة:

أوّلها: أنَّها مختصة بالنقيصة و لا تشمل الزيادة أبداً.

ثانيها: أنّها تعمّ النقيصة و الزيادة معاً، و لا تختصّ بزيادة غير الخمسة، بل تشمل زيادة الخمسة أيضاً- فيما يتصوّر فيه الزيادة-. فالخمسة إنَّما استثنيت من حيث النقيصة فقط، و لم تستثنَ من ناحية الزيادة، فزيادتها أيضاً لا توجب الفساد.

ثالثها: أنَّها تعمّ الأمرين، و لكن زيادة الخمسة كنقيصتها توجب البطلان، فهي مستثناة من الجانبين، فالمعنى: أنّه لا تعاد الصلاة من نقيصة أو زياده شي ء ما عدا نقيصة أو زيادة الخمسة.

و إذ قد عرفت ذلك نرجع الى دليل كلٍ من هذه الأقوال:

أمّا القول الأول؛ فيدل عليه أنَّ نفس أدلّة اعتبار الشرائط و الأجزاء لا تدل على المنع عن الزيادة لولا أدلة المانعية. و إن شئت قلت: أدلة الجزئية و الشرطية إنّما تدلّ على اختلال الماهية المركّبة عند فقدانها، و أمّا إذا وجدت- سواء وجدت مرّة أو مراراً- فلا تدل على اختلالها به، كما هو ظاهر.

نعم، أدلة الموانع قد تدلّ على المنع من زيادة بعض الأجزاء أو جميعها، و هذا أمرٌ لا دخل له بأدلّة إعتبار الأجزاء و

الشرائط.

وبعد ما عرفت آنفاً من عدم شمول إطلاق القاعدة و دليلها لغير الأجزاء و الشرائط و أنّها لا دلالة لها على حكم الموانع ينتج عدم شمولها للزيادة مطلقاً؛ فإنّها أمرٌ يعود إلى المانعية غير الداخلة في القاعدة.

و يدل على القول الثانى؛ أنَّ الحكم ببطلان الصلاة بزيادة بعض أجزائها أو جميعها في الحقيقة يرجع إلى اشتراط عدمها فيها، فالشرط تارة يكون وجودياً كالطهارة و

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 470

غيرها، و أخرى عدميّاً كعدم الزيادة، فإذا قلنا بعموم القاعدة للشرائط كلها- و منها عدم الزيادة- فتشمله أيضاً. فالحديث دال على أنَّ الاءخلال بأيّ شي ء من الشرائط الوجودية و العدمية غير مضرٍ، ما عدا الإخلال بخصوص الخمسة الظاهر في نقيصتها فقط، فيبقى زيادة الأجزاء مطلقاً تحت المستثنى منه،

و يدل على القول الثالث؛ أنَّ إرجاع مانعية الزيادة إلى شرطيّة عدمها أمر خارج عن متفاهم العرف، و إنّما هو دقّة عقليّة لا يعتنى بها في هذه الأبواب، بل الذي يفهمه أهل العرف أنَّ أصل الزيادة كالنقيصة مفسد، لا أنَّ عدم الزيادة شرط.

فالمستفاد من حديث لا تعاد- على إطلاقه- أنَّه لا يضرّ الإخلال بالنقيصة و الزيادة من ناحية غير الخمسة، و إنّما يضرّ الإخلال بهما من الخمسة مطلقاً.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه كلٍ من الأقوال الثلاثة. و لكن الحقّ هو القول الأول، فتختّص القاعدة بالنقيصة دون الزيادة.

و الدليل على ما اخترناه يبتني على مقدمة و هي:

إنّ ما يقال من أنَّ أدلة اعتبار الأجزاء و الشرائط ناظرة إلى اعتبارها في مقابل انعدامها لا في مقابل الزيادة كيفما كان، كلامٌ شعري لا حقيقة تحته؛ لأنَّ المركبّات الشرعية كالمركّبات الخارجية كلها محدودة من الجانبين، من جانب الزيادة و جانب النقيصة، فإنّا لا

نجد مركّباً عرفياً أو شرعيّاً يُكتفى فيه بمجرّد وجود الأجزاء بأي كميّة و مقدار كان، فكما أنَّ أصل وجود الجزء لازم لأخذ النتيجة المرغوبة من المركّب، فكذا مقدارها أيضاً معتبر قطعاً.

فالناظر إلى تحديد الأجزاء من الجانبين هو نفس أدلة الجزئية، لا أنّه دليل آخر يدل على مانعية الزيادة، و هذا أمرٌ ظاهر لمن سبر مواردها في العرف و الشرع.

و حديث (لا تعاد) كالاستثناء من أدلّة الأجزاء و الشرائط، فلا بدّ أن يكون عامّاً شاملًا للنقيصة و الزيادة، كما أنَّ نفس تلك الأدلة كذلك.

و لكن الذي يوهّن إطلاقه، هو ذيل الحديث الذي هو كالعلة لما في صدره، و هو قوله: (التشهد سنّة، و القراءة سنّة، لا تنقضّ السنة بالفريضة). و من المعلوم أنَّ هذا

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 471

التعليل إنّما هو في ناحية الفقدان و النقيصة)؛ لأنَّه يقول: إنَّ الفرائض- و هي الأجزاء الركنية- إذا وجدت لا يضرّها فقد الأجزاء غير الركنية- و هي السنّة في اصطلاح الحديث-.

هذا مضافاً إلى عدم تصوّر الزيادة في ثلاث من الخمس، و هي الوقت، و القبلة، و الطهور. و إنّما تتصوّر في اثنين منها، و هذا و إن لم يكن مانعاً عن عموم الحديث للزيادة أيضاً إلّاأنّه يوهّنه في الجملة، فتدبّر.

فالحكم بعموم القاعدة لزيادة الأجزاء لا يخلو عن إشكال.

6- هل تختص القاعدة بمن فقد الشرط و الجزء والتفت بعد تمام الصلاة؟

لا ينبغي الكلام في عمومها لمن فقد شيئاً من أجزائها و شرائطها و التفت بعد تمام الصلاة، و لكن قد يتوهّم بالنسبة لما إذا فقد شيئاً منها في بعض صلاته، كمن صلّى ركعة بلا ستر شرعي، ثم التفت و استتر، أو صلّى في النجاسة ركعة، ثم التفت و ألقى الثوب النجس عن عاتقه مع وجود غيره الطاهر؛ أنَّ لفظ «الإعادة» ظاهرٌ في

الاتيان بالصلاة بتمامها بعد الانتهاء منها، و أنَّ من قطع صلاته ثم بنى عليها لا يصدق في حقّه الإعادة. و قد يكون هذا مانعاً عن الأخذ بالعموم.

و لكنّه توهم فاسد؛ لإطلاق لفظ الإعادة على القطع في الأثناء و البناء على العمل، عدم اختصاصه بما بعده. و قد عبّر عنه بالإعادة في كثير من الموارد من دون أي حزازة، مثل قوله عليه السلام في حديث زرارة الوراد في أبواب الاستصحاب: (قلت: إن رأيته في ثوبي و أنا في الصلاة؟ قال: تنقض الصلاة و تعيد ...). «1»

و إن أبيت عن عدم شمول الحديث له، فلا شك في شموله بالأولويّة القطعية؛ فإذا صحّت الصلاة مع ترك الستر نسياناً في مجموعها، فكيف لا تصحّ إذا تركه في ركعة منها مثلًا؟

7- ما هو حكم سائر الأركان؟

قد ثبت لنا من سائر الأدلّة أنَّ أركان الصلاة لا تختصّ بالإثنين من الخمسة، و هما الركوع و السجود، بل تكبيرة الإحرام، و القيام المتصل بالركوع، و القيام عند تكبيرة الإحرام أيضاً منها، و أنَّه لو أخلَّ بها و لو سهواً بطلت صلاته، مع عدم ذكرها في عداد الخمسة المذكورة في المستثنى.

و يمكن أن يجاب عنه:

أوّلًا: بأنَّ الرواية عامٌ كسائر العمومات، قابل للتخصيص، فتخصّص بسائر الأركان كغيرها من العمومات.

الّلهم إلّاأن يقال: إنَّ العمومات المشتملة على العدد في المخصّص يشكل تخصيصها بمخصّص آخر؛ فإنّه أشبه شي ء بالمعارض لا المخصّص، فإذا قال المولى:

أكرم العلماء إلا اثنين منهم، ثم ورد فى دليل آخر نفي الاكرام عن واحد آخر كان كالمعارض له، و لا سيّما فيما إذا كان الاستثناء من النفي، فإنّه أقوى مفاداً، و كيف يمكن جعل الاثنين ثلاثاً، أو أربعاً أربعاً، و ما الداعي على ذكر خصوص الإثنين؟

اللّهم إلّاأن يكون هناك

داعٍ إلى التخصيص بالذكر مستفاداً من قرائن المقام أو الكلام. ولكننا في مثل ما نحن فيه لا نجد وجهاً في تخصيص الخمس من بين الأركان بالذكر، و أيّ فرق بينها و بين غيرها؟

و ثانياً: أنَّ شيئاً من هذه الأمور الثلاثة لا يوجب تخصيصاً زائداً فيه، و إن كان في بدء النظر كذلك.

أمّا القيام المتصل بالركوع- و المراد منه أن يكون ركوعه عن قيام، لا عن جلوس، بأن يرجع من القعود إلى حد القيام منحنياً-؛ فلأنَّه محقّق لعنوان الركوع، و بدونه لا يصدق عنوانه، فالإخلال بهذا القيام، و الاكتفاء بأدائه من قعود، إخلالٌ بنفس الركوع واقعاً. فليس هذا ركناً مستقلا في قبال سائر الأركان، بل هو محقّق لواحد من الخمسة المذكورة في الرواية.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 473

و أمّا تكبيرة الإحرام، فإنّها محققة لعنوان الصلاة و افتتاحها، و بدونها لا تفتتح الصلاة، و لا يحرم عليه شي ء ممّا يحرم على المصلّي، فلا تتحقق الصلاة بدونها. و من الواضح أنَّ قاعدة لا تعاد موضوعها الصلاة، فإذا لم يصدق عنوانها لم يكن لها موضوع.

و يستفاد ذلك من روايات متعددة وردت في بابها. فعدم ذكرها في الحديث إنّما هو من جهة أنَّها مذكورة في الواقع بعد أخذ عنوان الصلاة في موضوع القاعدة، فليست هي تخصيصاً زائداً في القاعدة.

و أمّا القيام عند التكبير فهو شرط في صحتها شرعاً، و بدونه لا تتحقق تكبيرة الإحرام التي هي محقّقة لعنوان الصلاة و افتتاح لها فليس القيام حاله إذن واجباً مستقلًا ركنياً حتى نحتاج إلى تخصيص زائد في القاعدة.

فتلخّص من جميع ما ذكر أنَّ المستثنى من القاعدة في الحقيقة ليست إلّا الخمسة المذكورة فيها، و أمَّا غيرها مما عدّوه من أركان الصلاة، فإمّا يعود

إليها بنحو من الاعتبار، و إمَّا محقّق لموضوع القاعدة و هو الصلاة، فتدبّر.

8- في تعارض القاعدة مع غيرها ممّا ورد في حكم الزيادة

قد يتوهم أنَّ هناك تعارضاً بين القاعدة و بين ما ورد فى أبواب الخلل، من بطلان الصلاة بمطلق الزيادة فيها، فقد روى أبو بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال: (من زاد في صلاته فعليه الإعادة). «1»

فإذا قلنا بأنَّ القاعدة تختصّ بباب النقيصة و لا دلالة لها على حكم الزيادة- كما قويّناه آنفاً- فلا كلام، أمّا لو قلنا بما اختاره بعضٌ من إطلاقها و شمولها للزيادة و النقيصة معاً- كما في القولين الآخرين- فيقع التعارض بينهما، و لا مناص من علاجه بنحوٍ من الأنحاء المذكورة في بابه.

و لكن قبل كل شي ء لابدّ من ملاحظة النسبة بين الدليلين.

فقد يقال بوجوب ملاحظة النسبة بين كل واحد من المستثنى و المستثنى منه

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 474

مع حديث أبي بصير.

و فيه ما لا يخفى من الضعف؛ فإنَّ العام المخصّص بالمتصل دليل واحد، و لذا لا ينعقد له ظهور من الأول في العموم بعد ذكر الخاص متّصلا به، فلا معنى للتفكيك بينهما. فهذا الاحتمال ساقط جداً.

فلابدّ من ملاحظة النسبة بين حديث زرارة المشتمل على القاعدة كملًا، و حديث أبي بصير، و معلوم أنَّ النسبة بينهما عموم من وجه؛ لأنَّ القاعدة تشمل الزيادة و النقيصة معاً على الفرض، فهي أعم من حديث أبي بصير المختصّ بالزيادة، و لكنها أخصّ منه من جهةٍ، لاستثناء الخمس منها، دون حديث أبي بصير، فهي أعم و أخصّ من وجه. و مورد التنازع بينهما هو الزيادة في غير الخمس؛ فإنَّ القاعدة تدل على صحة الصلاة معها، و حديث أبي بصير يدل على وجوب الإعادة فيه.

هذا و يمكن القول بوجوب تقديم

القاعدة عليه لوجهين:

الأوّل: أنَّها أظهر من غيره؛ لاشتمالها على التعليل بقوله: (القراءة سنّة، و التشهد سنّة ... و لا تنقض السنّة بالفريضة)، بينما ليس في حديث أبي بصير تعليل.

الثانى: أنَّ القاعدة ليست في مرتبة حديث الزيادة، بل هي مقدّمة عليه بالحكومة.

لا يقال: دليل الحاكم لابدّ ان يكون ناظراً إلى دليل المحكوم- كما حقّقناه في محلّه، خلافاً لمن لم يعتبر ذلك-، و من المعلوم أنَّه لا نظر لواحد من هذين الدليلين إلى الآخر حتى يكون أحدهما حاكماً على الآخر، بل واحد منهما مثبت لوجوب الإعادة في الزيادة و الآخر نافٍ له، و بينهما مضادة لا حكومة.

فإنّا نقول: إنَّ القاعدة بمقتضى دليلها ناظرة إلى تحديد دائرة مدلول حديث أبي بصير؛ إذ لو لم يكن هناك دليل على مانعية الزيادة- بمقتضى حديث أبي بصير الذي هو مكمّل لأدلة اعتبار جزئية أجزاء الصلاة- لم يكن موقع للقاعدة بالنسبة إلى حكم الزيادة.

و بعبارة أخرى: مفروض الكلام في القاعدة فساد الصلوة من ناحية النقيصة و الزيادة بحسب طبعها الأوّلي، و لكن القاعدة تجعل لها حدّاً و أنَّ الإعادة المفروضة منفيّة في غير الخمس، فهي إذن ناظرة إلى تحديد حكمها، و هو كافٍ في باب

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 475

الحكومة.

و الحاصل أنَّ قوله: (لا تعاد ...) إنّما هو بعد فرض وجوب الإعادة بنحو الإطلاق بمقتضى دليل آخر، مثل حديث أبي بصير الدال على أنَّ من زاد في صلاته فعليه الإعادة، و بدونه ليس لها معنى محصّل، فتدبّر.

هذا و لكن قد عرفت أنَّ الزيادة لا تتصور في غير الإثنين من الخمس، و هما الركوع و السجود، فيلزم تخصيص حكم من زاد في صلاته، فعليه الإعادة- بالمآل- بهذين، و عندئذ يمكن أن يقال باستهجان

هذا التخصيص، و أنَّ إخراج ما عدا الركوع و السجود و إبقاءهما تحته أمر مستنكر. و هل يحتمل أن يكون المراد من قوله: (من زاد في صلاته فعليه الإعادة)، من زاد في ركوعه و سجوده فعليه الاعادة؟ و لو كان كذلك فلمَ عُدِل عن التعبير به إليه؟

و لعل هذا من المؤيّدات لما اخترناه سابقاً من عدم شمول القاعدة للزيادة أصلًا و عليه لا يلزم شي ء من هذا المحذور، فتدبّر.

و قد يقال: إنَّ استهجان التخصيص إنّما يكون في فرض اختصاص حديث أبي بصير بالزيادة السهوية، و أمّا لو قلنا بأنَّه يعمّ السهوية و العمدية، و الزيادة العمدية دائماً موجبة للفساد، خارجةٌ عن تحت قاعدة لا تعاد، فما يبقى تحت حديث أبي بصير شي ء كثير.

و لكنه مدفوع بأَنَّ الحديث منصرف عن الزيادة العمدية قطعاً، لأنَّه بصدد بيان حكم من يريد الامتثال، و من الواضح أنَّ مثله لا يزيد في صلاته عمداً. و هذا نظير ما ذكرناه في خروج النقيصة العمدية عن تحت قاعدة لا تعاد.

هذا و لكن ما ذكر إنّما يصح إذا كان هناك دليل على البطلان بالزيادة من قبل، و عندئذ يصح أن يقال: إنَّ المريد للامتثال لا يخالفه عمداً، و أمّا اذا كان دليل البطلان هو هذا الحديث و شبهه، لم يكن هناك مانع عن شمولها للزيادة العمدية.

و الحاصل أنَّ الدليل على شرطية عدم الزيادة هو هذا الحديث- حديث ابى بصير- و شبهه، المكمّل لأدلّة الأجزاء و الشرائط، و هو شامل للزيادة العمدية و

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 476

السهوية معاً، فلا موجب لاستهجان التخصيص هنا.

و هنا احتمال آخر في معنى الحديث يبتني على اختصاصه بالزيادة في الركعات فقط، إذ زيادة بعض الأجزاء لا تعدّ زيادة في

الصلاة، و ليس مجرد الجزء صلاة، و إنّما الزيادة فيها تكون بركعة، فإنّها أقلّ ما يصدق عليه عنوان الصلاة. و على هذا لا دخل للحديث بما نحن بصدده أصلًا، و لا يبقى محلّ للمعارضة بينه و بين القاعدة. و تمام الكلام في معنى الحديث من هذه الناحية موكول الى محلّه من كتاب الصلاة في باب الخلل.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 477

9 قاعدة الميسور

معنى قاعدة الميسور و موردها:

اذا تعذر بعض أجزاء المركبّات الشرعيّة كالصلاة و الحج و الوضوء و غيرها- كمن لا يقدر على السورة لضيق الوقت-، أو بعض شرائطها- كمن لا يقدر على الستر أو مراعاة القبلة-، أو اضطر إلى ارتكاب بعض الموانع كما إذا اضطر المصلّي إلى الصلاة في الثوب النجس، أو أجزاء غير المأكول-، فإن قام هناك دليل خاص على وجوب الاتيان بالباقي، أو وجوب ترك الكل لعدم الأمر بالباقي فلا كلام.

أمّا إن لم يكن هناك دليل على شي ء من الطرفين، فهل هناك قاعدة تقتضي وجوب الباقي إلّاما خرج بالدليل او لا؟

المعروف في كثير من كلمات القوم الإجابة نعم، و هو المسمّى بقاعدة الميسور، المأخوذة من الحديث المشهور الآتي: (الميسور لا يسقط بالمعسور)، يعني تعسّر البعض لا يكون موجباً لسقوط الباقي إذا كان التعسّر موجباً لسقوط التكليف بالمعسور.

ثم إنّه لا إشكال، في أنَّ قضية إطلاقات أدلة الجزئية و الشرطية هي سقوط الباقي بتعذّر بعض الأجزاء او الشرائط، أو الاضطرار إلى ارتكاب بعض الموانع؛ و ذلك لأنَّ إطلاقها دليل على اعتبارها في المأمور به مطلقاً، حتى في ظرف التعذّر، و لازمه عدم الفائدة في فعل الباقي، و هو واضح.

مدركها و أسنادها:

استدل للقاعدة بأمور مختلفة، و لكن العمدة من بينها الروايات الثلاث، المرسلات، المشهورات، و سيأتى الإشارة إلى أمور أُخر استدل بها لها أيضاً- إن شاءاللّه-

الأولى: ما رُوي عن النبي صلى الله عليه و آله أنّه قال: (إذا امرتكم بشي ء فأتوا منه ما استطعتم). «1»

الثانية: ما روي عن علي عليه السلام أيضاً: (الميسور لا يسقط بالمعسور). «2»

الثالثة ما روي عنه عليه السلام أيضاً: (ما لا يُدرك كلّه لا يترك كله). «3»

و لكن رواهما في (الكفاية) عن النبي صلى الله عليه و آله

أيضاً، بينما صرّح غير واحد بنقلهما عن علي عليه السلام، و قد نقل المحقق الأشتياني في تعليقاته على عوالي اللآلي روايتهما عن علي عليه السلام.

و الظاهر أنَّهما كذلك مرويان عنه عليه السلام.

و قد روي الحديث الأول مسنداً عن طرق العامّة، فقد رواه أغلب محدّثيهم في صحاحهم و مسايندهم منهم البيهقى في سننه، عن أحمد بن حنبل، عن يزيد بن هارون، عن الربيع بن مسلم القرشى، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقال: أيّها الناس قد فرض عليكم الحج فحجّوا، فقال رجل: أكُلَ عام يا رسول اللّه؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: لو قلت: نعم لوجبت و لما استطعتم، ثم قال: ذرونى ما تركتكم، فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم و اختلافم إلى انبيائهم، و إذا أمرتكم بشي ء فأتوا منه ما استطعتم، و إذا نهيتكم عن شي ء فدعوه؛ ثم قال البيهقي: رواه مسلم في الصحيح عن زهير بن حرب، عن يزيد بن هارون. «4»

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 481

و قد: يقال إنَّ ضعف أسناد الأحاديث منجر بالشهرة المحقّقة و قد قيل: إنّها بلغت حدّ الاشتهار حتى يعرفها العوام و النسوان. و قال العلّامة الأنصاري في كلام له في القاعدة في أبواب أصالة الاشتغال: «و ضعف اسنادها مجبور باشتهار التمّسك بها بين الأصحاب في أبواب العبادات كما لا يخفى على المتتبع».

الكلام فى دلالتها:

لو سلمنا انجبار الاسناد بما عرفت من الشهرة يبقى الكلام في دلالتها، فإنَّها قابلة للبحث و التنقيب من شتى الجهات.

أمّا الحديث الأوّل فالاستدلال به يتوقّف على كشف معنى «من» و «ما» فيه.

أمّا «من» في قوله صلى الله عليه و

آله «منه» فتحتمل ثلاث معان:

1- أن تكون تبعيضية، فالمعنى: فأتوا البعض الذي تستطيعون، و اتركوا ما لا تستطيعون.

2- أن تكون بمعنى «الباء»، فتكون للتعدية فإنَّ «الاتيان» يتعدّى بالباء.

3- أن تكون بيانية. و هذا الاحتمال ضعيف؛ لعدم كون الضمير الواقع بعدها بياناً لشي ء، فيبقى الاحتمالان الأوّلان. و حمل الحديث على كل منهما جائز، و إن كان الأول أظهر؛ لان الغالب في معنى «من» هو التبعيض، و لاأقلّ من أنَّها اشهر و أعرف من كونها بمعنى الباء.

و لكن يبقى الكلام في أنَّ المراد التبعيض بحسب الأفراد أو الأجزاء، يعني: فأتوا من أفراده و مصاديقه ما استطعتم؛ أو من أجزائه ما استطعتم. و من الواضح ان دلالته على المطلوب إنّما تتمّ لو كان التبعيض بحسب الأجزاء لا الأفراد.

و لكن الذي يبعّد هذا الاحتمال شأن ورود الحديث، و ما عرفت من مسألة الحج المرويّة في كتبهم بعبارات مختلفة، كلها ترمي إلى شي ء واحد، و هو أنَّه صلى الله عليه و آله قالها عند

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 482

السؤال عن تكرار الحج أو الاتيان به مرّة واحدة مدة العمر، و هو صريح في أنَّ المراد منه التبعيض بحسب الأفراد لا الأجزاء.

فالاستدلال بالحديت على دلالة الأمر على التكرار في قبال القول بدلالته على المرّة، او عدم الدلالة على شي ء أولى من الاستدلال به على قاعدة الميسور-، كما ذكره فى الفصول-، و إن كان فيه أيضاً ما لا يخفى كما سيأتى.

هذا مضافاً إلى أنَّ الاتيان بالحج مكرّراً بمقدار الاستطاعة ليس واجباً، باجماع الأمة و بلا خلاف من احد؛ فالأمر في الحديث محمول على الاستحباب، و هذا إشكال آخر عليه.

و الحاصل أنَّ التمسّك به ممنوع من وجهين؛ من جهة ظهوره بقرينة المورد في التبعيض

الأفرادي- و هو خلاف المطلوب-، و من جهة ظهوره في الاستحباب بقرينة المورد أيضاً.

و أمّا كلمة «ما» في قوله: «ما استطعتم» فتحتمل أيضاً وجهين: الموصولة، و المصدرية المادامية.

فعلى الأول يراد بها كل شي ء استطعتم من أفراده، و على الثاني يكون المراد الاتيان به ما دامت القدرة على تكراره باقية.

و الأول أظهر، و إن كان متّحداً مع الثاني في النتيجة.

بقي هنا كلام:

و هو أنَّه قد يتكلّف لتصحيح الاستدلال بالحديث بإمكان استعمال لفظ الشي ء في قوله: «إذا أمرتكم بشي ء (في الأعم من المركّب ذي الأجزاء، و الطبيعة ذات الأفراد، فيكون المراد من قوله: «ما استطعتم» الأعم من الأجزاء الميسورة و أفرادها كذلك، عند عدم القدرة على الجميع، فيشمل القاعدة و مورد الحديث جميعاً من دون أي محذور.

و ما قد يقال: من لزوم محذور الجمع بين اللحاظين المتنافيين؛ فإنَّ لحاظ الكل

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 483

في مقابل الأجزاء ينافي لحاظ الكلّي في مقابل الأفراد.

مدفوعٌ، بأنَّ استعماله في كليهما و إن كان كذلك، إلّاأنَّ استعماله في الجامع بين الأمرين بمكان من الإمكان، و أيّ جامع أوسع و أشمل من كلمة «شي ء» الدالة على مطلق الموجود؟ فإذن لا مانع من الأخذ بالحديث في المقام.

و لكن مع ذلك كلّه لا يمكن المساعدة عليه؛ فإنَّ استعمال الشي ء في الجامع، بل في كل واحد منهما بعينه و إن كان جائزاً- كما ذكرنا في محلّه من جواز استعمال لفظ واحد في أكثر من معنيين، و أنَّ تعدّد اللحاظين بل و تنافيهما أمرٌ شعري لا حقيقة له؛ فإنَّ الاستعمال ليس من قبيل فناء اللفظ في المعنى، الذى هو آني الوجود- إلّاأنَّ هذا النحو من الاستعمال مخالف للظاهر، لا يصار إليه إلّابدليل. كما أنَّ استعماله في

الجامع هنا أيضاً مخالف لظاهر سوق الحديث؛ حيث إنَّ الظاهر منه هو خصوص الأفراد لا غير، كما يظهر بأدنى تأمّل في معنى الحديث عند متفاهم العرف.

هذا مضافاً إلى لزوم استعمال الأمر في الجامع بين الوجوب و الاستحباب، لما قد عرفت من عدم وجوب التكرار في الحج قطعاً، و هذا أيضاً يحتاج إلى قرينة، بعد القطع بلزوم صرفه عن الوجوب الظاهر فيه بمقتضى طبيعته.

و بالجملة الاستدلال بهذا الحديث للقاعدة مشكل جداً.

و أمّا الحديث الثاني، و هو المروي عن علي عليه السلام: (الميسور لا يسقط بالمعسور)، فقد يقال: إنَّ دلالته أظهر من الاول؛ لعدم وجود مورد خاص له يخرجه عن ظهوره في الأجزاء.

و لكن مع ذلك فيه أبحاث من جهات شتى:

أوّلها: هل المراد منه الميسور من الأفراد، أو من الأجزاء، أو الأعمّ منهما؟ فإنَّ المتعلق فيه محذوف، و يحتمل أموراً مختلفة. و من الواضح أنّه لا يصح الاستدلال به إلّاعلى الأوّلين. فهذا مانع عن التمسّك به.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 484

و لكن لا يبعد دعوى الإطلاق فيه، فالميسور من كل شي ء- سواء كان من أفراده، كما إذا لم يتمكّن من صوم كل يوم من شهر رمضان، أو من أجزائه، كما، إذا لم يتمكّن من السورة في صلاته- لا يترك بمعسوره.

ثانيها: هل الأمر فيه المستفاد من قوله: «لا يسقط» للوجوب، أو أعم منه و الاستحباب؟

قد يقال: إنَّ مقتضى إطلاقه و شموله للمستحبات- لعدم الدليل على خروجها منه- كون الأمر بالباقي مستعملًا فى الأعم، فقوله: «لا يسقط» لا ظهور له في التحريم مطلقاً، و حينئذ يسقط الاستدلال به حتى في مورد الواجبات.

و الحاصل أنّه لو قلنا بخروج المستحبات عنه كان تخصيصاً بلا مخصّص، و إن قلنا بشموله لها سقط ظهور

الأمر فيه بالوجوب.

هذا و لكن الانصاف أنَّ إطلاقه لا يمنع عن الأخذ به في المقام؛ لظهوره في اتّحاد حكم الميسور من العمل مع الكل، فإن كان واجباً فهو واجب، و إن كان مستحباً فهو مستحب. و هذا مما لا ينبغي الشك فيه.

ثالثها: أنَّ أجزاء المركب ليست ميسوراً للكل أبداً؛ و ذلك لأنَّ وجوب الجزء في ضمن وجوب الكل وجوب ضمني غير إستقلالي، و من الواضح ارتفاعه بارتفاع وجوب الكلّ، فلو ثبت هناك وجوب على الأجزاء الباقية كان وجوباً آخر غير ضمني، بل كان استقلالياً، فهذا ليس ميسوراً له، بل شي ء مباين له.

و ان شئت قلت: إذا ارتفع وجوب الكل لتعذر بعض أجزائه كان وجوب الباقي، بالوجوب السابق من قبيل الانتفاء بانتفاء الموضوع.

إذن لابدّ من تخصيصه بأفراد الكلّي، و أنّه لا تسقط الأفراد الممكنة بالأفراد المعسورة.

هذا و فيه إشكال واضح؛ لأنَّ الميسور و المعسور صفتان للأجزاء و الكل، لا للوجوب العارض لهما، فلو فرض اختلاف الوجوبين لم يختلف الموضوعان. فالمعنى:

أنَّ الحمد و الركوع و السجود التي تكون ميسورة لا تترك بتعذّر الاتيان بالسورة.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 485

و إن شئت قلت: هذان عنوانان مشيران إلى ذوات الأجزاء الخارجية المعتبرة في المركّبات، لا إليها بصفة الجزئية للكلّ حتى تنتفي بانتفاء الكلّ.

رابعها؛ أنَّ الحكم بعدم السقوط محمول على الميسور، أي «الميسور من العمل»، فلا بدّ من إحراز هذا العنوان قبلًا حتى يصح الحكم بعدم سقوطه، و من المعلوم أنَّ كون الشي ء ميسوراً من العمل، معناه كونه مما يصدق عليه عنوانه فى الجملة، و يقوم به الملاك و المصلحة كذالك.

و إن شئت قلت: الميسور من الشي ء هو ما لا يصح سلب اسمه منه، فإذا كان المتعذّر من الأجزاء ما يوجب

سلب الاسم عنه كان الباقي خارجاً عن محطّ القاعدة؛ فإذا أمر المولى عبده مثلًا بطبيخ يتركّب من عدة أجزاء، من الأرز و بعض الحبوب و البقل و الملح و الماء، و لم يقدر العبد إلّاعلى الملح و الماء، لم تجر القاعدة في حقّه، و لا يعدّ هذان ميسوراً للطبيخ، كما هو واضح.

و اذا كان الأمر كذلك أشكل الأمر في المركّبات الشرعية؛ لأنَّ صدق الاسم و عدمه موكول إلى تشخيص الشارع و أمره، فشمول القاعدة لها موكول إلى أمره، و المفروض أنَّ الأمر بالباقي لا يستكشف إلّامن القاعدة.

و الإنصاف؛ أنَّ هذا الاشكال أيضاً قابل للدفع؛ لأنَّ صدق العناوين الشرعية مثل الصلاة و أشباهها لا يتوقف على ورود الأمر بها شرعاً، بل المقياس فيه نظر المتشرعة المتّبع في الحقائق الشرعية، المقتبس من مذاق الشارع المقدس.

فلو تعسّر جميع أركان الحج، و لم يقدر إلا على مجرد صلاة الطواف، أو هي و الطواف نفسه، لم يصدق عليها عنوان الحج قطعاً، بخلاف ما لو قدر على الوقوفين و غيرهما ما عدا رمي الجمرات مثلًا. و كذا الكلام في الصلاة و غيرها.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا إمكان دفع جميع الإشكالات عن الرواية، فلو ثبت اعتبار اسنادها بالشهرة لم يبقَ غبار على الاستدلال بها.

هذا و لكن ستعرف- إن شاء اللّه- بعد نقل الحديث الثالث، أنّ هنا إشكالًا هامّاً عليهما لا يمكن دفعه، و معه يشكل الاعتماد عليهما في إثبات القاعدة.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 486

و أمّا الحديث الثالث، و هو ما روى عن أمير المؤمنين عليه السلام: (ما لا يدرك كلّه لا يترك كله) فالكلام فيه من بعض الجهات كالكلام في سابقه؛ فإنَّ كلمة «كل» كما تحتمل الكل بحسب الأفراد تحتمل الكل بحسب

الأجزاء، و كذلك تحتمل الأعم منهما.

و لا يبعد دعوى الإطلاق فيه أيضا؛ فإنَّ لفظة «كل» جامع بينهما، فمعنى الحديث: إذا لم يدرك جميع الأفراد الواجب فعلها لا يترك جميعها، كما أنّه إذا لم يتمكن من تمام أجزاء المركّب لا يترك جميع أجزائه.

و إن أبيت عن ذلك لم يبعد القول بأنَّ ظهور الكل في الجميع من ناحية الأجزاء أقوى من ظهوره في جميع الأفراد، فتدبّر.

و على كل حال لو تمّ الحديث من ناحية السند لم يبعد تماميته من ناحية الدلالة.

و لكن هنا اشكال، ذو أهمية يرد على الحديثين و هو:

لا شك في أنَّ قاعدة الميسور عقلائية قبل أن تكون شرعية، و قد اشتهرت بين العقلاء بعبارات شتّى، و استعارات و تشبيهات مختلفة، و قد ذكرها الشعراء في أشعارهم بما يطول بذكره المقام.

فإذا لم يقدر العقلاء على الوفاء بجميع ما وعدوه، أو فعل جميع ما التزموه، أو أداء جميع ما يجب عليهم بنحوٍ من الأنحاء، أو كسب جميع ما له دخل في مقاصدهم تنزّلوا إلى ما يمكن إدراكه.

و هكذا الأمر في جميع أعمالهم و حاجاتهم؛ فلا يوجب عدم القدرة على جميع الأفراد أو جميع الأجزاء ترك جميعها، و الإعراض عن تحصيل ما يمكن تحصيله من الأفراد و الأجزاء.

و هذا من الوضوح بمكان لا يخفى على احد.

و لكن ليس ذلك عندهم إلّافي العمومات الأفرادية، التي يكون كل فرد مشتملًا

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 487

على مصلحة مستقلّة؛ أو المركبّات التي تكون ذات مراتب من ناحية المصالح، كما هو كذلك غالباً. و بعبارة أخرى: يتعلّق بكل مرتبة منه طلب، و يتعدّد فيه المطلوب، و إن كان لا يجوز الاقتصار على المرتبة الدانية عند التمكّن من المرتبة العالية.

فالمعجون المركّب من عشرة أجزاء

التي تقوم بمصالح مختلفة إذا لم تكن جميعها ميسورة، و كان في الخمسة أو الستة أو الاقل منها بعض المصلحة، عمدوا إليها تعويلًا على تلك القاعدة العقلائية.

و عندئذ لابدّ من احراز تعدّد المطلوب قبلًا حتى يجوز الأخذ بهذه القاعدة، فلو قلنا: إنَّ قوله عليه السلام: (ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه، أو قوله عليه السلام: (الميسور لا يسقط بالمعسور) أيضاً إشارة إلى هذه القاعدة و إمضاء لها، لا تأسيس لقاعدة أخرى، بل و لا فيها تطبيق خاص على المركّبات الشرعية حتى تكون منقّحةً لمصاديقها الشرعية و دليلًا على أنَّ مركباته دائماً ذات مراتب من المصلحة- إلّاما خرج بالدليل-، فيجوز الاكتفاء بالبعض عند عدم القدرة على الجميع؛ فحينئذ لم يجز الأخذ بهما و إن تمت أسنادهما و دلالتهما.

و الإنصاف أنَّ القول بدلالتهما على أزيد ممّا ذكرنا مما هو ثابت بين العقلاء مشكلٌ جداً، بل الظاهر أنَّهما ارشاد الى ما عندهم لا غير؛ فليس فيهما تعبّد بتعدد المراتب و المطلوبات في المركّبات الشرعية مصداقاً، و لا تأسيس لقاعدة جديدة مفهوماً.

بل لا بدّ من إحراز تعدّد المطلوب، أو قيام بعض الملاك بالناقص بعد تعذّر الكامل، حتى يتمسّك بهما و من المعلوم عدم الحاجة الى تعبد خاص حينئذ.

و عندئذ نقول:

إذا ثبت من الخارج أنَّ المركّب الفلاني ليس قابلًا للتبعيض من ناحية الأجزاء و الشرائط و الموانع- كالصوم- فلا تجري فيه القاعدة أصلا. فلا يجوز الاكتفاء بصيام اليوم عند عدم القدرة على الجميع، أو الاكتفاء باجتناب بعض المفطرات عند عدم القدرة على ترك جميعها. اللّهم إلّافي مثل ذي العطاش على إشكال قوي.

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 488

و اذا ثبت من مذاق الشارع و موارد أحكامه أنَّ المركّب الفلاني يقبل التبعيض

كذلك، نقول بجريان القاعدة فيه، و ذلك مثل الصلاة؛ حيث قد ثبت عدم جواز تركها بمجرد تعذّر بعض أجزائها، أو شرائطها، أو عدم القدرة على ترك جميع موانعها.

و لكن مع ذلك لابدّ من ان يكون الباقي ممّا يصدق عليه عنوان الصلاة و لو على الأعمّ.

و اذا لم يثبت شي ء من الأمرين لم يجز التمسك بها، لعدم إحراز موضوعها كما هو ظاهر.

و لعلّ تمسّك القوم بها إنّما هو فيما كان من قبيل القسم الثاني، فاستشهادهم بالروايات بعنوان قاعدة في كلماتهم لا يكون دليلًا على كونها قاعدة تعبديّة ثبتت من الشرع، بل هي كما عرفت قاعدة عقلائية مركوزة في جميع الأذهان عند إحراز موضوعها.

و لا أقّل من الشك في ذلك، و معه لا يجوز الاستدلال بها كقاعدة تعبديّة خاصة.

و مما يجب ذكره في المقام ما قد يقال من أنَّه قلّما يكون موردٌ تمسّك الأصحاب بهذه القاعدة فيه إلّاو قد ورد فيه نصّ خاص.

فكأنَّهم ذكروها تأييداً للنصوص الواردة فيها، فتأمّل.

جريان القاعدة في المستحبات:

اشارة

و مما ذكرنا تعرف أنَّ التمسّك بالقاعدة في المستحبات أظهر و أوضح؛ لما قد ثبت فى محلّه من أنَّ القيود الواردة في المستحبات ليست غالباً من قبيل التقييد، بل من قبيل تعدد المطلوب. و حينئذ تجري فيها هذه القاعدة الارتكازية العقلائية؛ فإذا تعذّر بعض تلك القيود استحب فعل الباقي. و هذا أيضاً ليس تعبّداً خاصاً بعد ثبوت ذاك الموضوع.

تنبيه:

ذكر صاحب الجواهر قدس سره في بعض كلماته في أبواب الجبائر في الوضوء ما حاصله:

أنَّ الاستدلال بقاعدة الميسور موقوف على الانجبار بفهم الأصحاب، و إلّالو أخذ بظاهرها في سائر التكاليف لأثبتت فقهاً جديداً لا يقول به أحد من أصحابنا «1».

و محصّل كلامه أنَّ هذه القاعدة- لو سلّم الاستدلال بها و ثبتت حجيتها- كانت كقاعدة لا ضرر، بناءاً على ما ذكر غير واحد منهم من أنَّ عمومها موهون بكثرة التخصيصات، فلا يجوز العمل بظاهرها. فكأنَّهم فهموا منها غير ما نفهم من ظاهرها، و لعلها كانت عندهم مقرونة بقرائن خاصة تدلّهم على معنى آخر غير ما يستفاد من ظاهرها، و حيث لا نعلم ذاك المعنى لابدّ لنا من الأخذ بما عملوا به، و ترك ما تركوه.

و بناءاً عليه يكون مصير قاعدة الميسور مصير قاعدة لا ضرر، في سقوط عمومها عن الحجية، و قلّة الجدوى فيها إلّافيما عمل به الأصحاب.

و كأنّه نظر في ذلك إلى عدم جريان الميسور في مثل الصيام، فإنَّه لا يجوز التبعيض فيه، لا من ناحية الزمان، بحيث إذا لم يقدر على الصوم في تمام الوقت اكتفى ببعض اليوم، و لا من ناحية المفطرات التي تجب تركها.

إلّا ما قد يقال فيما إذا خاف الصائم التلف على نفسه من جواز الشرب له بقدر ما يمسك الرمق، و

لكنه أيضاً غير مسلّم، و الروايات الواردة في هذا المعنى لا تدل على أزيد من جواز شرب ما يمسك به الرمق، و عدم جواز الشرب حتى يرتوي، و لا دلالة لها على صحة صيامه، بل لعل معناها جواز الافطار بشرب شي ء من الماء، ثم قضاء ذاك اليوم، و لكن مع ذلك عليه أن يمسك عن الزائد حفظاً لحرمة شهر رمضان كغيره ممن يفطر.

و كذلك في أبواب الأغسال، لا يجوز لمن لا يجد الماء لتمام الغسل، و لا يقدر إلّا على غسل بعض بدنه أن يكتفي به بمقتضى هذه القاعدة.

و كذلك في الوضوء، لا يجوز لمن لا يجد الماء إلّالغسل وجهه، أو وجهه و إحدى

القواعد الفقهية، ج 1، ص: 490

يديه، الاكتفاء به بمقتضاها.

و هكذا في أبواب الحج، لا يجوز لمن لا يقدر إلّاعلى بعض الوقوفات أو بعض الطواف من بين أعمال الحج، الاكتفاء به، إستناداً إليها.

و مثله من لا يقدر إلّاعلى بعض ركعات الصلاة مثلًا، فلا يجوز له الاكتفاء به، و هكذا غيرها.

فلو اكتفينا بجميع ذلك و ما شابهها حصل منها فقه جديد لا نعهده.

هذا و لكنّ الإنصاف أنَّ الظاهر أنَّ أصحابنا الأقدمين رضوان اللّه عليهم- لم يكن عندهم قرائن خاصة محفوفة بمثل خبر الميسور و شبههه، تدلّهم على معنى خاص فيها كما ذكرنا مثل ذلك في باب قاعدة لا ضرر، و ان هو إلّامن قبيل إحالة ما لا نفهمه على أمر مجهول.

بل الظاهر أنَّ ما كان بايديهم هنا هو الذي يكون بأيدينا، و لكنهم بصرافة أذهانهم و عدم شوبها بشوائب الاحتمالات المختلفة الحاصلة عندنا فهموا منها أنَّها ناظرة إلى إمضاء القاعدة الموجودة عند العقلاء، فيما ثبت فيه تعدّد المطلوب و تكثر الملاكات.

فإذا ثبت من الخارج

أنَّ العمل الفلاني يشتمل على ملاكات مختلفة، أو أنَّ كامله مشتمل على ملاك كامل و ناقصه على بعض المصلحة، تمسّكوا بهذه القاعدة عند تعذّر شي ء من ذلك.

و هذا مؤيّد آخر لما اخترناه في معنى القاعدة آنفاً. و مع ما ذكرنا لا يرد على عمومها تخصيص، و لا يلزم من العمل بها فقه جديد، و لا يتوقف العمل بها على ثبوت فهم الأصحاب و عملهم بها في الموارد الخاصة.

القواعد الفقهية، ج 2، ص: 3

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.