انوار الأصول

اشارة

سرشناسه : مکارم شیرازی ناصر، 1305 - عنوان و نام پديدآور : انوار الاصول تقریرا لابحاث شیخنا الاستاذ سماحه آیه الله العظمی الشیخ ناصر مکارم الشیرازی دام ظله / احمد القدسی مشخصات نشر : [قم نسل جوان 1414ق = - 1373. شابک : 3800ریال (ج 1) بهای هرجلدمتفاوت ؛ 15000 ریال هرجلد (ج.1و2) يادداشت : ج 3. چاپ اول 1416ق = 1375 يادداشت : ج 1، 2 (چاپ دوم 1376). يادداشت : ج. 1، 2 (چاپ سوم 1420ق = 1378). يادداشت : ج 1، 2 (چاپ 1420ق = 1378). يادداشت : ج 3 (چاپ دوم 1420ق =1378). يادداشت : چاپ اول 1373؛ بهار هر جلد متفاوت یادداشت : کتابنامه به صورت زیرنویس مندرجات : ج 1. مباحث الالفاظ "الی آخر النواهی .-- ج 2. مباحث المفاهیم الی نهایه الامارات .-- ج 3. الاصول العملیه - التعادل و التراجیع الاجتهاد و التقلید .-- موضوع : اصول فقه شیعه شناسه افزوده : امیرقدسی احمد رده بندی کنگره : BP159/8 /م 7‮الف 8 1373 رده بندی دیویی : 297/312 شماره کتابشناسی ملی : م 75-7018

الجزء الأول

كلمة المقرّر

الحمد للَّه، الذي هدانا لمعرفته، وخصّنا بولايته، ووفّقنا لطاعته، والصّلاة والسلام على رسوله الذي منّ اللَّه به على المؤمنين يتلوا عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم.

وعلى أهل بيته، الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، والذين بذلوا أنفسهم في مرضاته، وصبروا على ما أصابهم في جنبه، وجاهدوا في اللَّه حقّ جهاده، حتّى أعلنوا دعوته، وبيّنوا فرائضه،

ونشروا شرائع أحكامه، وفقّهوا في الدين العلماء من شيعتهم، وعلّموهم الكتاب والسنّة، وألقوا إليهم الاصول، وفوّضوا إليهم التفريع.

وصلوات اللَّه تعالى ورحمته ومغفرته، واستغفار رسوله وملائكته على أصحابهم وتلامذتهم المقتصّين آثارهم، والسالكين سبيلهم، والمهتدين بهداهم الذين حملوا مشعل الهداية في حالك الأزمنة الداميّة من تاريخ التشيّع، ورفعوا لواء الدين في ظروف عصيبة وأجواء قاسية، وأكرمهم اللَّه تعالى بأن جعل مدادهم أفضل من دماء الشهداء، فسقَوْا بأمطار أقلامهم شجرة الدين وأبقوها طريّة مثمرة، وحرسوا حصون الاجتهاد والفقاهة.

ونحمد اللَّه تعالى أن وفّقنا للانتفاع من موائد فيضهم، والاقتطاف من سنابل بَيْدرهم، واصطفانا من الوف مؤلّفة من الخلق، فعرّفنا علماء هذا الجيل وهم:

1- الرجال النبلاء أغصان شجرة الحوزات العلميّة الإسلاميّة الطيّبة، التي أصلها ثابت، وفرعها في السماء، تُؤتى اكلها كلّ حين بإذن ربّها.

2- خبراء الدين، غير المتهرّبين من قبول المسؤوليّة، الذين لم يستوحشوا في طريق إعلاء كلمة الحقّ طيلة تاريخ حياتهم من سُخرية طالبي الدنيا الدنيّة، وضغط الطواغيت الجبابرة، وتكفير المتحجّرين المتنسّكين، بل تحركوا في طريق إبلاغ حقائق الدين ونشر

انوار الأصول، ج 1، ص: 8

المعارف العالية لأهل البيت عليهم السلام بجهد وجهاد، وصبر وسداد، واستقاموا على طريق حفظ القيم الدينيّة المتكاملة، والدفاع عن نواميس هذه المدرسة، وموازين الشريعة المحمّديّة بأفكارهم وأقلامهم وأقوالهم.

3- الفقهاء الملتزمون، الذين حرسوا ثُغور العقيدة بوعي وذكاء، وجاهدوا في إبطال تحريف المبطلين، ونفي انحراف الغالين بيد بيضاء من البرهان والفرقان.

4- المتفكّرون، الذين لم يكتفوا بإكتساب العلوم السائدة في الحوزات العلميّة، بل انتهلوا أيضاً- عن وعي واسع، وفكر حيّ متحرّك- من ينابيع العلوم الاخرى القديمة أو الجديدة، ولم يغفلوا بالاشتغال بزاوية خاصّة وبُعد خاصّ من الدين عن سائر أبعاده وزواياه.

5- المصلحون المتنوّرون، الذين انتفضوا كعَيْنٍ صافية في صحراء إعصار

الطواغيت المقْفَرة، ورفدوا أحرار ذلك الليل المظلم بالأمن والرجاء.

6- الموقنون القائمون بالقسط، الذين يرون إيجاد مجتمع ديني وتشكيل نظام حكم إلهي في الدرجة الاولى من واجبات العلماء الملتزمين، و امنيّتهم المقدّسة تحقّق الأحكام الناصعة، والمعارف الراقية للإسلام على أرض الواقع ويموج في قلوبهم نور الأمل بالمستقبل الباهر الزاهر حول مصير الامّة الإسلاميّة.

7- المحقّقون الذين لم يعيشوا قلّة الهمّة ووهن العزيمة، ولم يدفنوا في غبار التسامح والتساهل.

8- المتتبّعون المتبحّرون، الذي يعدّون من طالبي الأسرار الإلهيّة والرموز القرآنيّة، والذين تصدّوا لإشباع الحاجات المعنويّة الدينيّة في المجتمع الاسلامي، ويتحمّلون مسؤوليّة استنباط الأحكام، وتبيين الثقافة الدينيّة في مجمع الحوزات الإسلاميّة بحيث أدّى حضورهم المستمر (واستعدادهم للمراجعات الدينيّة والجواب عن كلّ مسألة عرضت عليهم) أن يصبحوا علماء ربّانيين وفقهاء متمرّسين كاملًا عبقريّاً.

9- المتنزّهون، الذين لا ينظرون إلى المقامات الاعتباريّة والمناصب الحوزويّة إلّامن جهة أنّها أداة لخدمة الدين والمذهب، ولا يشترون تلك القيم المعنويّة، والمقامات الاخرويّة، والدرجات والاجور الموعودة لأصحاب الخدمات القلمية والبيانيّة، بحُطام الدنيا ومتاعها القليل الزائل.

انوار الأصول، ج 1، ص: 9

10- وأخيراً: النجوم الزاهرة لسماء الفقاهة، الذين صاغوا من أنفسهم رجالًا محنّكين لابتعادهم عن الكسل والعُزلة، ومعرفتهم بالزمان ومقتضياته، مع نضوج الفكر وحسن السليقة واستقامتها، والدقّة والنظم الإبداع في العمل مع أهداف ساميّة عالية وشعور عقلائي رائق في البيان والكتابة، وهمّة عالية وعزم راسخ إلهي، ونفس أبيّة قويّة، وحركة دائبة وجدّ مستمر (وكأنّ أحدهم بعد مضيّ ستّين أو سبعين سنة من عمره المبارك، يعمل ويسعى سعي عدّة أفراد من الطلّاب المجدّين).

إلهي: يامن هو المبدأ لهذه المكارم الكاملة الجميلة: نسألك أن تعطينا يقظة وانشراح صدر، حتّى لا يحجبنا بعض ما نراه نقصاً فيهم عن مشاهدة أنوار حكمتهم، ولا يحرمنا بعض عثراتهم-

التي لا يخلو غير المعصوم منها- من كوثر معارفهم البالغة، فانّه لا حكيم إلّاذو عثرة «1».

كما انّا نسألك يامالك القلوب والأبصار: أن تهب لنا وفاءً وتأدّباً، حتّى لا نطلق عليهم لساناً هم صيّروه ناطقاً، وقلماً وبياناً هم علّموه البلاغة «2».

والحقير الفاقد لأيّة بضاعة يحمدك بكلّ وجوده وأعماق قلبه على أن وفّقته لتقرير حلقة (الدورة الرابعة لخارج الاصول) من حلقات درس استاذٍ هو بنفسه غُصن من هذه الشجرة الطيّبة، ونجم من هذه المنظومة المضيئة.

فأرجو اللَّه سبحانه أن لا يمنعنا حجاب المعاصرة عن مشاهدة هذه الوجوه المشرقة، ومفاخر المدرسة الجعفريّة، فندرك مكانة هذه النجوم المضيئة ومقاماتهم بعد رحيلهم عن دنيا المعرفة والحكمة، وأفولهم عن سماء العلم والهداية.

ما الذي دعاني إلى هذا ...؟

إنّ سبب اختياري درس الاستاذ (دام ظلّه) أنّي بعد ما سمعت عزمه على الشروع بالدورة

انوار الأصول، ج 1، ص: 10

الرابعة لخارج الاصول، استخرت اللَّه بكتابه الكريم فجاءت هذه الآية: «وَقَالُوا الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ» «1»

فتفأّلت بالخير، وحضرت في محضره الشريف فوجدت صدق التفأّل، فكان درسه مذهباً للحَزَن وحالّاً للعُقَد، وذلك لتوفّر بعض الشرائط والخصوصيّات فيه:

منها: تحرّر فكري وأصالة في مجال البحث والنقد: بحيث يشاهد بوضوح عدم انجذاب عقربة الفكر إلى مدرسة خاصّة من المدارس الموجودة في محافل دروس مرحلة الخارج.

والإنصاف أنّ هذه الدرجة من الحرّية والاعتماد على النفس يلعب دوراً أساسيّاً في تربية التلميذ، وتكوين شخصيته العمليّة، وقوّة اعتماده على نفسه في البحث والدراسة بعد ما أراد بخروجه من مرحلة السطح إلى مرحلة الخارج أن يقوم على قدميه، وأن يُخرج نفسه من هيمنة أفكار الأعاظم وسطوتها مع احترامها والاهتمام بها.

ومنها: السعي أن يعطى البحث- حدّ الإمكان- إتّجاهاً موضوعيّاً عمليّاً، ويخرجه من إطار الافتراضات المدرسيّة، ولعلّ

هذا ممّا يلاحظ في مدرسة الشّيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله في رسائله، وممّا يتميّز به مشربه الاصولي ومنهجه عن منهج المحقّق الخراساني رحمه الله في كفايته إلى درجة كبيرة.

فشاهدت في كثير من المباحث عدم الاكتفاء ببيان كليّات المسألة، وتركها في دائرة الفرض والتصوّر، بل يستعرض أيضاً ما يعتمد عليه الفقيه في مقام العمل والاستنباط في الأبواب المختلفة من الفقه (من الاستظهارات العرفيّة، والارتكازات العقلائيّة، وما يستظهر من روايات أهل بيت الوحي عليهم السلام وما فهم منها أصحابنا الإماميّة (رضوان اللَّه عليهم) بحسن سليقة، واستقامة فكر ... إلى أن تصل المسألة إلى موضع من التنقيح والاطمئنان.

ومنها: سلاسة البيان وسهولته، ممّا يخرج موضوع البحث من التعقيد المحيّر للفكر والعمق المتوهّم والابّهة الخياليج ة المخيّبة لأمل التلميذ في حركته العمليّة.

بل إنّ سهولة بيانه (دام ظلّه) قد تصل إلى حدّ توجب تردّد التلميذ في بدء الأمر، فيحتمل أو يظنّ أنّ للمسألة المطروحة عمقاً آخر، وأنّه لم يؤدّ حقّها.

انوار الأصول، ج 1، ص: 11

والحقير الفاقد للبضاعة- الذي وقع من هذه الجهة في تردّد ووسواس في بادي ء الأمر- كان يسعى في دراسة المسألة قبل الدرس وبعده، ويعمّق النظر في جوانبها وبمعونة أصدقائه في المباحثة، فكان- بعد فحص كثير وتأمّل بالغ- ينتهي في كثير من الموارد إلى أنّ الحقّ في المسألة هو ما أفاده الاستاذ (دام ظلّه) بتبسّط في الحديث ومن دون عبارات مغلقة وتعبيرات معقّدة، وما فهمه بذوقه السليم وفكره الثاقب.

ومن الواضح أنّ ما يلعب دوراً هامّاً أوّليّاً في سلاسة البيان إنّما هو كيفية الورود في المسألة والخروج عنها، والتحليل الصحيح لموضوع البحث، وتشقيق الموضوع الكلّي العامّ وتفكيكه وتجزئته إلى موضوعات فرعيّة خاصّة، وبالجملة إبراز الموضوعات المتشابهة الخارجة عن محلّ البحث، والإرائة الدقيقة

لمحلّ النزاع، والإنصاف أنّ للُاستاذ (دام ظلّه) في هذا المجال تضلّعاً خاصّاً.

ومن الطريف أنّ الاستاذ (دام ظلّه) يلقى افاضاته ويؤدّي كلماته بقوّة ونشاط، وطراوة ونضارة، تجعل محفل درسه ناشطاً وطريّاً بحيث لا يحسّ أحد بصعوبة وكدورة، ولا يرى نفسه متأخّراً ومتخلّفاً عن القافلة، بل أن كلّ شخص يشعر في نفسه في مسرح البحث، راجياً لفهمه، ومطمئناً بإدراكه للمسألة.

هذا- وقد تذكّرت بعدُ ما كتبه السيّد الحكيم رحمه الله صاحب المستمسك في هامش تقريرات الاستاذ (دام ظلّه) لبحثه رحمه الله قبل أربعين سنة، حيث قال: «... فوجدته متقناً غاية الاتقان، ببيان رائق، واسلوب فائق يدلّ على نضوج في الفكر، وتوقّد في القريحة، واعتدال في السليقة ...» فوجدته وافياً لما هو مرادي، والحمد للَّه.

وأخيراً: ينبغي أن اشير إلى أنّ من توفيق اللَّه تعالى عرض جميع مباحث هذا التقرير- حرفاً بحرف، وسطراً بسطر، من البدو إلى الختم- على الاستاذ (دام ظلّه) وقراءتها له في طيلة الدورة، ولذلك يشاهد بعض الاختلاف- منهجاً ومحتوى- بين مباحث الكتاب وما أفاده (دام ظلّه) في مجلس المحاضرة، فقد يتبدّل نظره الشريف حين القراءة على مستوى المنهج أو المحتوى، أو يخطر ببالي القاصر إشكال أو إضافة نكتة أو رأي، أو حذفهما، فيقابلني الاستاذ غالباً- مع انشراح صدر وكرامة بالغة- بالتأييد أو إيراده تحت عنوان: «إن قلت» ثمّ الجواب انوار الأصول، ج 1، ص: 12

عنه، أو- على الأقلّ- بإشارة إليه تحت عنوان «اللهمّ إلّاأن يقال» أو «فتأمّل» ونظيرهما.

فليكن الإخوان الكرام الذين كانوا يحضرون درس الاستاذ (دام ظلّه) على ذكر من هذا.

وختاماً: أهدى هذا الجهد المتواضع إلى كلّ من له عليّ حقّ التعليم أو الهداية، سواء من علّمني في عنفوان شبابي المفاهيم الدينيّة وولاية أهل بيت العصمة، سيّما

معرفة ذلك العزيز المستور الغائب عن الأبصار، الحاضر في القلوب والأفكار (عج) فسقاني شراب محبّته، وأنفذ في قلبي شوق خدمته، فهيّأ لي قبل الورود إلى الحوزة العمليّة، الظروف الروحيّة والفكريّة للدخول فيها.

أم كان من الأساتذة الكرام الذين صقلوا شخصيتي الخُلقيّة والعمليّة، فوطّأوا لي ظروف هذا التقرير ومقوّماته.

فأسأل العزيز القادر المتعال أن يعطيهم خير الدنيا والآخرة، ويجعل حياتهم زاخرة بالعطاء مثمرة بالخير ومحيي للدين، ويهب لهم مرافقة الأنبياء عند مليك مقتدر.

وأسأله أن يتقبّله منّي بقبول حسن، ويجعله ذُخراً خالصاً لآخرتي، فانّه بادى ء برّي وتربيتي، وخير ناصر ومعين، وله الحمد في كلّ حين.

أحمد القدسي قم المقدّسة- رمضان 1414 هجرية- اسفند 1372 شمسية

انوار الأصول، ج 1، ص: 13

المدخل علم الاصول كما ينبغي انوار الأصول، ج 1، ص: 15

علم الاصول كما ينبغي

(1) تاريخ علم الاصول وتطوّره في سطور:

المعروف أنّ أوّل ما دوّن علم الاصول هو رسالة دوّنها الشّيخ المفيد رحمه الله وأوردها المحقّق الكراجكي رحمه الله في كنز فوائده «1»، ولكن من الواضح أنّ هذا لا يعني أنّ هذا المحقّق رحمه الله هو المبتكر لهذا الفنّ، بل إنّ الفكر الاصولي وقد وضِعت دعائمه وانعقدت نطفته منذ عصر الأئمّة عليهم السلام بل منذ عصر النبي صلى الله عليه و آله، ذلك العصر الذي شهد ظهور الفقه، وتحرك فيه فقهاء الامّة ليسترفدوا من الكتاب والسنّة- بل إجماع المسلمين ودليل العقل أحياناً- لاستنباط الأحكام الالهيّة فإحتاجوا إلى معرفة أدلّة الأحكام الفقهيّة والمنابع الأصلية لها والإحاطة الدقيقة بمنابعها الأساسيّة وحدودها وخصوصيّاتها على أحسن وجه، حيث كانت أحكام الدِّين وما يحتاج إليه المكلّفون مبثوثة في الكتاب والسنّة، ولا بدّ للعلماء وأصحاب الحديث وغيرهم من رسم خطوط عامّة لكشفها واستنباطها عن أدلّتها، فكان اللازم معرفة هذه الأدلّة التي يستكشف منها أحكام الشرع وكيفية الاستدلال بها

عليها.

لكن لا إشكال في أنّ علم الاصول كان في تلك العصور مجرّد قواعد بسيطة جدّاً، متفرّقة غير مدوّنة في كتاب خاصّ، مأخوذة من كتاب اللَّه وسنّة النبي وأئمّة الهدى عليهم السلام وعُرف العقلاء، ويلقيها العلماء في كلّ زمان إلى تلامذتهم، فقد صرّح أئمّة أهل البيت عليهم السلام بأنّ «علينا إلقاء الاصول وعليكم التفريع» «2»

. وقال الإمام الباقر عليه السلام لأبان بن تغلب: «اجلس في مسجد

انوار الأصول، ج 1، ص: 16

المدينة وافتِ الناس فإنّي احبّ أن يرى في شيعتي مثلك» «1».

فمن المقطوع أنّهم منذ العصر الأوّل كانوا يفتون بمقتضى ظواهر النصوص فيستندون إلى حجّية الظواهر بعنوان أصل قطعي، ويعتمدون في الرّوايات على أقوال الثقات (حجّية قول الثقة) ويعالجون تعارض العامّ والخاصّ، والمطلق والمقيّد، من طريق التخصيص والتقييد، ويعملون بالمفاهيم كمفهوم الشرط والغاية، وحين وقوع التعارض بين الظاهر والأظهر يقدّمون الثاني على الأوّل، ويقدّمون الدليل القطعي على الظنّي و ... إلى غير ذلك من أشباهه.

هذا، ولكن كلّما اتّسع نطاق علم الفقه وظهرت فيه فروع مستحدثة اتّسع بموازاته نطاق علم الاصول إلى يومنا هذا، حتّى صار من أوسع العلوم وأعقدها، مملوّاً من دقائق عقليّة ونقليّة، وهكذا يتّسع يوماً بعد يوم.

ومن الطريف جدّاً أنّ علم اصول الفقه- كالفقه نفسه- عند أتباع أهل بيت عليهم السلام الوحي أكثر توسّعاً من اصول أهل السنّة إلى درجة كبيرة، ودليله واضح، حيث إنّ فقهاءهم قد سدّوا باب الاجتهاد على أنفسهم وعدّوا الفقهاء الأربعة (أئمّة المذاهب الأربعة) خاتمي المجتهدين والمستنبطين فمالت مسألة الاستنباط إلى الركود والجمود وتوقّف بالطبع قرين علم الفقه وشقيقه (علم الاصول) عن النموّ والحركة، ولكن أتباع أهل بيت العصمة- مضافاً إلى تأكيدهم على فتح باب الاجتهاد- أفتوا بإتّفاق الآراء بحرمة التقليد الابتدائي

عن الميّت، ولأجل ذلك لا يزال وفي كلّ عصر طائفة من علمائهم يلزمون أنفسهم بعنوان الواجب الكفائي على استنباط الأحكام الفقهيّة من منابعها الإسلاميّة وأدلّتها المعتبرة، ويقدّمونها إلى المجتمع الاسلامي، ويضعونها في متناول أيدي المسلمين، وهذا الاعتقاد- مضافاً إلى جعله مصباح الفقه أكثر إضاءة وإشراقاً ممّا كان سابقاً- أوجب إزدهار علم الاصول ونموّه يوماً بعد يوم إلى حدّ تعدّ الكتب الاصوليّة المدوّنة في سائر الفِرق الإسلاميّة بالنسبة إلى ما دوّنه علماء الشيعة كتباً إعداديّة وبدائيّة جدّاً، بل لا يمكن الإحاطة بكنه الاصول لدى الشيعة إلّاعند فحول و خبراء من أساطين الفنّ طيلة سنين متمادية.

(2) المشكلة المهمّة في اصول الفقه:

ولكن علم الاصول رغم هذا التوسّع والدقّة والظرافة في طرح المسائل- مضافاً إلى التعمق التوغّل في استكناه الحقائق- مازال بفتقد للنظام اللازم اللائق في كيفيّة الورود والخروج في المسألة ومنهج عرض المباحث.

ومن جانب آخر: فإنّ الكثير من مسائله لم توضع موضعها الأصلي المناسب، الأمر الذي يثير مشكلة جديدة على مستوى تحرير محلّ النزاع في المسألة والاستدلال عليها.

ومن جانب ثالث: هناك بعض النواقص والتفريعات الزائدة في هذا العلم الشريف كانت مطروحة في سالف الزمان، ممّا يُلزم المحقّقين الكرام في الحوزات العمليّة بذل الجهد لرفعها وإصلاحها، فكأنّ الغواصّين في هذا البحر (أعلى اللَّه مقامهم الشريف) على رغم احاطتهم بمسائل هذا العلم وإعمال الدقّة والسعي الوافر في تنقيحها كانوا- لشدّة اهتمامهم بالاصول- يطرحون في علم الاصول كلّ مسألة مهمّةٍ مرتبطة بالفقه والاستنباط بنوع من الارتباط ولم يبحث عنها في موضعها المناسب، والذي أثار هذه المشكلة وشدّدها هو التنوّع البالغ والتفريع العجيب للمسائل الاصوليّة، واختلاف مبادئها العقليّة واصولها النقليّة.

ولكن هؤلاء الأعاظم- تغمّدهم اللَّه تعالى في رحمته وعناياته، وجزاهم اللَّه عن الإسلام وأهله خير الجزاء- قد

حرّموا علينا التقليد في طلب الحقائق العمليّة، وأوصونا بأشدّ الجهاد وأوفر السعي لتفعيل هذا العلم وتطويره، ولذا نستمدّ من المولى سبحانه ونعمل على البحث عمّا في مسائل هذا العلم كما يظهر في رأينا القاصر.

(3) رسم كلّي لأبحاث علم الاصول:

اشارة

المشهور في تعريف علم الاصول أنّه: «العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة»، وأنّ موضوعه «الأدلّة الأربعة». وفي قول آخر: «ما هو الحجّة في الفقه» مطلقاً سواء كان من الأدلّة الأربعة أو غيرها.

إذن، البحث عن حجّية الأدلّة الأربعة ونحوها بحث في المسائل الأصليّة لعلم الاصول، كما أنّ البحث عن حجّية ظواهر الألفاظ وحجّية قول اللغوي أيضاً بحث من هذا القبيل، فإنّ جميعها تقع في طريق الاستنباط، أي تكون كبرى في القياس الذي ينتج حكماً من أحكام الشرع. نعم، لا يخفى أنّه قد تقع في كبرى القياس عدّة مسائل اصوليّة معاً، كمسألة حجّية

انوار الأصول، ج 1، ص: 18

الخبر الواحد وحجّية الظواهر ومرجّحات باب التعارض، فيمكن وقوعها معاً كبرى قياس يُستنبط منه حكمٌ واحد كوجوب صلاة الجمعة مثلًا.

وعلى هذا الأساس تخرج كثير من المسائل الموجودة في علم الاصول من المسائل الأصلية لهذا العلم وتلحق بالمبادى ء.

كما أنّ كثيراً من المباحث المطروحة في باب الألفاظ ليست من المباحث اللّفظيّة، ولا بدّ فيها من تغيير وتبديل.

ومن جانب آخر، لا شكّ في عدم ترتّب ثمرة على بعض المسائل الاصوليّة، فلابدّ من حذفها من علم الاصول، وبالعكس توجد فيه نقائص لا بدّ من رفعها بإضافة مباحث كفيلة بذلك والانتهاء بعلم الاصول إلى كماله المطلوب.

إذن، يمكن تلخيص مشاكل علم الاصول في عدّة أمور:

1- وجود مسائل تُعدّ في الواقع من مبادى ء علم الاصول، ولكنّها امتزجت مع المسائل الأصلية، فلابدّ من تفكيكها وطرح كلّ واحدة منهما في موضعها الحقيقي المناسب.

2-

عدم وجود بعض المسائل التي كانت مطروحة في كتب السابقين ولا نجدها الآن في علم الاصول.

3- توسّع بعض المسائل نظير مبحث الانسداد توسّعاً يوجب تضييع عدّة شهور من أوقات طلّاب هذا العلم.

4- عدم طرح كثير من المسائل في موضعها اللائق المناسب.

5- وجود القواعد الفقهيّة التي لا بدّ من طرحها في علم على حدة، ولكن قلّة العناية بعلم القواعد الفقهيّة أوجب طرح عدّة من مباحثه في علم الاصول، وعدّة اخرى في علم الفقه في عرض المسائل الفقهيّة، وهناك عدّة ثالثة بقيت بعدُ في بقعة النسيان.

فمن موارد المشكلة الاولى مباحث الأوامر والنواهي (معنى الأمر ومعنى النهي من حيث المادّة والصيغة وسائر خصوصّياتهما) وكذلك مباحث العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد ومباحث المفاهيم والمشتقّ والصحيح والأعمّ والحقيقة الشرعيّة، لأنّ جميعها تنقّح صغريات أصالة الظهور.

وبعبارة اخرى: حجّية ظواهر الألفاظ تكون من المسائل الاصوليّة التي تقع في طريق استنباط الأحكام الفقهيّة، وبدونها لا يمكن الاستفادة من أيّ دليل لفظي، ولكن البحث في أنّ انوار الأصول، ج 1، ص: 19

ظاهر اللفظ الفلاني هل هو الوجوب أو الاستحباب أو الحرمة أو الكراهة؟ وهل هو عامّ أو خاصّ؟ وهل يكون له المفهوم أو لا؟ و ... كلّ ذلك بيان لموضوعات قاعدة أصالة الظهور وصغرياتها، ولا موضع لها في مسائل الاصول.

كما أنّ حجّية قول الثقة تعدّ من مباحث الاصول، وأمّا مسألة أنّ زرارة أو محمّد بن مسلم هل هو من الثقات أو لا أو أنّ أصحاب الإجماع مَن هم؟ فليست منها قطعاً واتّفاقاً.

وعلى هذا يكون جميع المباحث السابقة خارجة عن عداد مسائل علم الاصول وداخلة في مبادئها، ولكن حيث إنّ علم اللّغة أو العلوم الأدبيّة لم تبحث هذه الامور كما هو حقّها، لذا اضطرّ علماء الاصول إلى

بحثها بعنوان مقدّمات لمسائل علم الاصول.

هذا، مضافاً إلى أنّا نشاهد مباحث في هذا العلم تُعدّ في الواقع مقدّمة لهذه المقدّمات، وتكون في الحقيقة من قبيل مبادي المبادي ء لعلم الاصول، نظير مباحث الوضع والمعاني الحرفيّة وعلائم الحقيقة والمجاز ونظائرها، فهي في الواقع مقدّمة لمقدّمات علم الاصول.

وأمّا المورد الثاني- أيّ المسائل التي ينبغي وجودها في علم الاصول، بل كانت مذكورة في كتب الماضين ولكن لا أثر لها في علم الاصول فعلًا- فهي كثيرة، كحجّية نفس الإجماع بأقسامه (لا حجّية الإجماع المنقول فقط) وحجّية أنواع السِير من سيرة المسلمين وسيرة الفقهاء ونحوهما من سائر أقسامها، والمباحث المرتبطة بالأدلّة العقليّة (حجّية دليل العقل) ومسائل الحُسن والقُبح العقليّين ووجود الملازمة بين العقل والشرع، وهكذا عدم حجّية الاستحسان والظنّ القياسي وسدّ الذرائع والمصالح المرسلة والاجتهاد الظنّي بمعناه الأخصّ وأشباهها التي هي ثابتة عند علماء أهل السنّة، وهكذا المباحث المرتبطة بالخبر المتواتر والخبر المستفيض، ونحوها.

أمّا المباحث الزائدة التي لا حاجة إليها في هذا العصر فقد مرّ بعض نماذجها (وهو مبحث الانسداد).

وأمّا المباحث التي لا بدّ من إيرادها في الاصول ولكن في موضعها المناسب فمن قبيل كثير من المباحث التي تعدّ في يومنا هذا من مباحث الألفاظ ولكنّها ليست منها قطعاً كمباحث مقدّمة الواجب، واجتماع الأمر والنهي، ودلالة الأمر بالشي ء على النهي عن ضدّه، ومبحث الترتّب، ودلالة النهي في العبادات والمعاملات على الفساد أو عدمه، ومباحث الإجزاء، فإنّ جميع هذه المسائل من المباحث العقليّة التي لا بدّ من إدخالها تحت عنوان انوار الأصول، ج 1، ص: 20

«الملازمات الحكمية» في ذيل دليل من الأدلّة الأربعة وهو دليل العقل، لأنّ وجوب ذي المقدّمة مثلًا بأيّ طريق ثبت- سواء ثبت من خلال دليل لفظي أم لا- قابل

للبحث عن أنّه هل يكون ملازماً لوجوب مقدّمته أو لا؟ وهكذا الأمر والنهي- سواء ثبتا بدليل لفظي أو عقلي أو الإجماع- يدخل في مبحث اجتماع الأمر والنهي وإمكانه واستحالته، وجميع مسائل الضدّ والترتّب والإجزاء أيضاً من هذا القبيل.

ومن المعلوم أنّ تغيير البحث من ناحية الموضع يوجب تغيير شكل البحث أيضاً، فلا يتمسّك أحد بذيل استدلالات من قبيل أنّ وجوب ذي المقدّمة لا يدلّ على وجوب المقدّمة بإحدى الدلالات الثلاث، أو أنّ النهي لا يدلّ على الفساد بإحدى الدلالات الثلاث، فما ذكره بعض أعلام المعاصرين من أنّ هذا التبديل المكاني لا يوجب تغيير ماهية البحث وجوهره قابل للمناقشة، حيث إنّه من المعلوم حينئذ تغيير كيفية الاستدلالات أيضاً، فإنّ البحث اللّفظي يطلب دلائل معينة، والبحث العقلي يطلب دلائل اخرى.

وأمّا ما يكون من سنخ القواعد الفقهيّة لا اصول الفقه «1» ولا الفقه نفسه فحيث إنّه لم يدوّن لها سابقاً علمٌ على حدة دخلت عدّة منها في الاصول (كقاعدتي الفراغ والتجاوز وقاعدة اليد ولا ضرر والقرعة) وعدّة اخرى منها في علم الفقه (نظير قاعدة ما يضمن وما لا يضمن وقواعد اخرى من هذا القبيل) وعدّة ثالثة منها المظنون عندي أنّها غير معنونة في ما نعرفه من الكتب الفقهيّة والاصوليّة بل استند الفقهاء إليها في تضاعيف المباحث الفقهيّة من دون تعرّض لشرح أدلّتها وشرائطها «2».

فتلخّص من جميع ما ذكرنا: أنّه لا بدّ من فذلكة جديدة في مباحث علم الاصول على انوار الأصول، ج 1، ص: 21

مستوى الجهات الخمس المذكورة، ولعلّ الصحيح الخالي عن الإشكالات التي مرّ ذكرها أن تذكر بهذه الكيفية:

إنّ علم الاصول يشتمل على:

1- مقدّمة.

2- ومبادى ء المبادى ء.

3- المبادى ء.

4- المسائل.

5- الخاتمة.

والمبحوث عنه في المقدّمة عبارة عن:

1- موضوع كلّ علم.

2- تمايز العلوم.

3- تعريف علم الاصول.

4- موضوع

علم الاصول.

5- تقسيم المباحث الاصوليّة.

والمبحوث عنه في مبادى ء المبادى ء امور:

الأمر الأوّل في الوضع:

1- تعريف الوضع.

2- أقسام الوضع.

3- المعنى الحرفي.

4- أقسام الحروف.

5- الفرق بين الخبر والإنشاء.

6- معنى أسماء الإشارة والضمائر «1».

انوار الأصول، ج 1، ص: 22

الأمر الثاني في وضع المركّبات.

الأمر الثالث في الحقيقة والمجاز.

الأمر الرابع في تبعيّة الدلالة للارادة وعدمها.

الأمر الخامس في علائم الحقيقة والمجاز:

1- التبادر.

2- صحّة السلب وعدمها.

3- الإطراد.

4- تنصيص أهل اللّغة وحجّية قول اللغوي.

الأمر السادس في الحقيقة الشرعيّة والمتشرّعيّة.

الأمر السابع في الصحيح والأعمّ.

الأمر الثامن في الاشتراك:

1- الاشتراك اللّفظي والمعنوي.

2- استعمال اللفظ في أكثر من معنى.

3- بطون القرآن ومعناها.

الأمر التاسع في المشتقّ وما هو حقيقة فيه.

والمبحوث عنه في المبادى ء يشتمل على مقاصد:

المقصد الأوّل: الأوامر

وهو على فصول:

الفصل الأوّل: ما يتعلّق بمادّة الأمر «1».

الفصل الثاني: ما يتعلّق بصيغة الأمر.

انوار الأصول، ج 1، ص: 23

الفصل الثالث: دلالة الأمر على المرّة أو التكرار، والفور أو التراخي.

الفصل الرابع: أقسام الواجب:

1- المطلق والمشروط.

2- النفسي والغيري.

3- التخييري والتعييني (التخيير بين الأقلّ والأكثر).

4- العيني والكفائي.

5- الأصلي والتبعي.

6- التعبّدي والتوصّلي.

7- الموقت وغير الموقت.

الفصل الخامس: تعلّق الأمر بالطبائع أو الأفراد.

الفصل السادس: الأمر بعد الأمر.

الفصل السابع: نسخ الوجوب.

المقصد الثاني: النواهي وهو على فصلين:

الفصل الأوّل في مادّة النهي.

الفصل الثاني في صيغة النهي «1».

المقصد الثالث: المفاهيم وهو على فصول:

الفصل الأوّل في مفهوم الشرط.

الفصل الثاني في مفهوم الوصف.

الفصل الثالث في مفهوم الغاية.

الفصل الرابع في مفهوم الحصر.

انوار الأصول، ج 1، ص: 24

الفصل الخامس في مفهوم اللقب.

الفصل السادس في مفهوم العدد.

المقصد الرابع: العامّ والخاصّ وهو أيضاً على فصول:

الفصل الأوّل في معنى الخاصّ والعامّ.

الفصل الثاني في أقسام العامّ.

الفصل الثالث في الفرق بين العامّ والخاصّ.

الفصل الرابع في أدوات العموم:

1- النكرة في سياق النفي أو النهي.

2- لفظة كلّ وما شابههما.

3- الجمع المحلّى باللام.

الفصل الخامس في حجّية العامّ المخصّص في الباقي.

الفصل السادس في التمسّك بالعام في الشبهات المفهوميّة للمخصّص.

الفصل السابع في التمسّك

بالعام في الشبهات المصداقيّة للمخصّص.

الفصل الثامن: تأسيس الأصل في موارد إجمال المخصّص:

1- استصحاب العدم الأزلي.

2- التمسّك بالاصول العمليّة.

3- التمسّك بعموم العناوين الثانويّة.

الفصل التاسع فيما إذا دار الأمر بين التخصيص والتخصّص.

الفصل العاشر في وجوب الفحص عن المخصّص.

الفصل الحادي عشر في الخطابات الشفاهية.

الفصل الثاني عشر في تعقّب العامّ بضمير يرجع إلى البعض.

الفصل الثالث عشر في تخصيص العام بالمفهوم.

الفصل الرابع عشر في الإستثناء المتعقّب للجمل المتعدّدة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 25

الفصل الخامس عشر في تخصيص عمومات الكتاب بخبر الواحد.

الفصل السادس عشر في حالات العامّ والخاصّ.

الفصل السابع عشر في النسخ والبداء.

المقصد الخامس: المطلق والمقيّد، والمجمل والمبيّن

والمبحوث عنه في المسائل هو «الأدلّة في الفقه» في مقامين:

المقام الأوّل: الأمارات.

المقام الثاني: الاصول العمليّة.

امّا الأمارات فهي على قسمين: الأمارات المعتبرة والأمارات غير المعتبرة.

الأوّل: الأمارات المعتبرة والبحث فيها يقع في مقاصد:

المقصد الأوّل في كتاب اللَّه تعالى وحجّية ظواهر الألفاظ مطلقاً:

1- حجّية خصوص ظواهر كتاب اللَّه وعدم تحريفه.

2- جواز تخصيص الكتاب بالسنّة.

المقصد الثاني في السنّة وأقسام الخبر:

1- حجّية الخبر المتواتر وخبر الواحد والخبر المستفيض.

2- تتمّة في التعادل والتراجيح (تعارض الأدلّة اللّفظيّة من الكتاب والسنّة).

المقصد الثالث في الإجماع:

1- حجّية الإجماع ومعيار حجّيته عندنا وعند العامّة.

2- أنواع الإجماع.

المقصد الرابع في العقل.

1- حجّية العقل ومسألة الملازمة بين العقل والشرع.

2- المستقلّات العقليّة وغير المستقلّات العقليّة.

3- قول الأخباريين.

4- حجّية القطع وأقسامه.

انوار الأصول، ج 1، ص: 26

5- حجّية القياس القطعي (قياس الأولويّة، إلغاء الخصوصيّة، تنقيح المناط).

6- الاستلزامات الحكمية (الإجزاء، مقدّمة الواجب، مسألة الضدّ، مبحث الترتّب، اجتماع الأمر والنهي، النهي في العبادات والمعاملات).

الثاني: الأمارات غير المعتبرة:

1- أصالة عدم حجّية الظنّ مطلقاً إلّاما خرج بالدليل.

2- عدم حجّية الإجماع المنقول بخبر الواحد.

3- عدم حجّية الشهرة (أقسام الشهرة).

4- عدم حجّية القياس الظنّي.

5- عدم حجّية الاستحسان.

6- عدم حجّية المصالح المرسلة الظنّية.

7- عدم حجّية سدّ الذرائع الظنّية.

8-

عدم حجّية الاجتهاد الظنّي بالمعنى الخاصّ.

امّا الاصول العمليّة فهي أربعة:

1- قاعدة البراءة.

2- قاعدة الاحتياط.

3- قاعدة التخيير.

4- قاعدة الاستصحاب.

والمبحوث عنه في الخاتمة هو الاجتهاد والتقليد

هذا هو الذي ينبغي أن يبنى علم الاصول عليه حتّى تنتظم مسائله، وتحذف زوائده، وتتدارك نقائصه، وتظهر أعلامه، وتتبيّن مقاصده، ويقع كلّ مسألة في محلّها اللائق بها.

هذا ما وصل إليه نظرنا القاصر، ونحن وان اقتفينا في هذا الكتاب آثر الأصحاب، واقتدينا بعلماء السلف ومن قارب عصرنا في طرح المسائل وتبويب الأبواب لبعض ملاحظات لا تخفى انوار الأصول، ج 1، ص: 27

على القارى ء الكريم، ولكن نسأل اللَّه التوفيق لتأليف كتاب أوجز من هذا الكتاب طبقاً لما ذكرنا آنفاً من نظم المباحث وطرح المسائل الجديدة وحذف ما لا بدّ من حذفها، واللَّه الهادي إلى سواء السبيل.

انوار الأصول، ج 1، ص: 29

مقدّمة

الأمر الأوّل في مسائل:

1- موضوع كلّ علم 2- تمايز العلوم بماذا؟

3- موضوع علم الاصول 4- تعريف علم الاصول الأمر الثاني: الوضع وأحكامه:

1- حقيقة الوضع 2- من الواضع 3- أقسام الوضع 4- المعاني الحرفيّة

5- الفرق بين الإنشاء والإخبار 6- أسماء الإشارة

7- الضمائر 8- الموصولات الأمر الثالث: هل المجاز بالطبع أو بالوضع؟

الأمر الرابع: الدلالة تابعة للارادة أو لا؟

الأمر الخامس: وضع المركّبات والهيئات الأمر السادس: علائم الحقيقة والمجاز

الأمر السابع: الحقيقة الشرعيّة

الأمر الثامن: الصحيح والأعمّ.

الأمر التاسع: الاشتراك واستعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى الأمر العاشر: المشتقّ

مقدّمة

اشارة

قد جرت عادة الأصحاب المتأخّرين في علم الاصول على البحث عن امور بعنوان المقدّمة قبل الورود في نفس المسائل الاصوليّة، وأنهاها بعضهم إلى ثلاثة عشر أمراً كالمحقّق الخراساني رحمه الله في كفايته، ونحن أيضاً نقتفي آثارهم فيما له نفع في المسائل الاصوليّة دون ما لا نفع فيه «1»، فنقول- ومن اللَّه جلّ شأنه التوفيق والهداية- هنا امور:

الأمر الأوّل: يشتمل على مسائل أربع

المسألة الاولى: موضوع كلّ علم
اشارة

قال المحقّق الخراساني رحمه الله: «إنّ موضوع كلّ علم- وهو الذي يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة أي بلا واسطة في العروض- هو نفس موضوعات مسائله عيناً ...».

فقد تصدّى للبحث عن موضوع كلّ علم من دون أن يشير أوّلًا إلى أنّه هل يحتاج كلّ علم إلى موضوع جامع بين موضوعات مسائله أو لا؟

والظاهر أنّه أرسله إرسال المسلّمات، أي كانت حاجة كلّ علم إلى موضوع عنده أمراً قطعيّاً واضحاً مع أنّه وقع مورداً للسؤال والمناقشة بين أعلام المتأخّرين عنه، فاللازم البحث في هذا قبل تعريف الموضوع.

فنقول: هل يحتاج كلّ علم إلى موضوع واحد جامع لشتات موضوعات مسائله أو لا؟

الدليل الوحيد الذي استدلّ به للزوم وحدة الموضوع هو قاعدة «الواحد لا يصدر إلّامن الواحد» حيث إنّ لكلّ علم نتيجة واحدة فليكن ما تصدر منه هذه النتيجة أيضاً واحداً، ولازمه أن يكون لجميع موضوعات المسائل جامع واحد يكون هو موضوع العلم.

وقد أورد على هذه القاعدة المحقّق العراقي رحمه الله وبعض أعاظم العصر بامور:

أوّل: إنّها مختصّة بالواحد الشخصي البسيط، لا النوعي كما قرّر في محلّه، ولا إشكال في أنّ الأهداف والأغراض المترتّبة على علم كعلم الاصول الذي يقع في طريق استنباط مسائل متنوعة في مختلف أبواب الفقه ليس لها وحدة شخصيّة.

الثاني: سلّمنا جريانها في الواحد النوعي، لكنّها مختصّة بالواحد الحقيقي الخارجي ولا تجري

في الواحد الاعتباري كسلامة البدن التي هي غاية لعلم الطبّ، ومركّبة من سلامة القلب والكبد والعروق والأعصاب وغيرها من سائر أعضاء البدن، وليس واحداً في الخارج،

انوار الأصول، ج 1، ص: 34

وكعلم الاصول فإنّه يدور مدار المباحث الاعتباريّة والقوانين التشريعيّة «1».

انوار الأصول، ج 1، ص: 35

الثالث: سلّمنا جريانها في الواحد الاعتباري أيضاً لكنّا لا نسلّم جريانها فيما يتركّب من الامور الوجوديّة والعدميّة، أو من الوجوديّات التي يكون كلّ واحد منها داخلًا في إحدى المقولات التسع العرضيّة التي هي من الأجناس العالية، وليس فوقها جنس، وذلك لعدم إمكان تصوير جامع بين الوجود والعدم وبين الأجناس العالية.

مثال القسم الأوّل: علم الفقه (الذي يعدّ غاية لعلم الاصول) حيث إنّ بعض موضوعات مسائله وجودي كالصّلاة وبعضها عدمي كالصوم، ومثال القسم الثاني: الصّلاة التي تتركّب من مقولة الوضع ومقولة الكيف المسموع وهكذا ...

الرابع: أنّه لا يحصل الغرض في كلّ علم من خصوص موضوعات مسائله، بل يحصل من النسبة الموجودة بين الموضوع والمحمول، مثلًا الغرض من علم الفقه الذي هو عبارة عن العلم بأحكام الصّلاة والصّوم وغيرهما لا يحصل من موضوع «الصّلاة» أو «الصّوم» حتّى انوار الأصول، ج 1، ص: 36

نستكشف من وحدة النتيجة وحدة الموضوع، بل إنّها تحصل من النسبة القائمة بين الموضوع والمحمول في قولنا «الصّلاة واجبة»، وحينئذٍ فليكن المستفاد من القاعدة وحدة النسبة لا وحدة الموضوع، (انتهى ما ذكره الأعلام في المقام ملخّصاً).

أقول: الصحيح من هذه الإشكالات إنّما هو الأوّل الذي يندرج فيه الإشكال الثاني أيضاً، وحاصلهما عدم جريان هذه القاعدة- على القول بها- في غير البسيط الحقيقي الخارجي، ومنشأ الاستدلال بها في ما نحن فيه هو الخلط بين المسائل الاصوليّة التي هي من سنخ الاعتباريات وبين المسائل الفلسفية التي تدور حول

الحقائق التكوينيّة، فإنّ الفلسفة تبحث عن الحقائق الواقعيّة العينيّة، والاصول يبحث عن امور اعتباريّة قانونيّة، والفرق بين الأمرين غير خفيّ، والمشاكل المتولّدة من ناحية هذا الخلط غير قليلة، أي الخلط بين الحقائق والاعتباريات في طيّات أبواب علم الاصول من أوّله إلى آخره، فلا تغفل.

وأمّا الإشكال الثالث: فيرد عليه إنّ الموضوعات في جميع مسائل الفقه امور وجوديّة وليس فيها أمر عدمي، لأنّ موضوعات مسائل الفقه عبارة عن أفعال المكلّفين من دون واسطة كما في الأحكام التكليفيّة أو مع الواسطة كما في الامور الوضعيّة، وهي وجوديّة بأسرها غاية الأمر تارةً يكون الفعل هو الكفّ كما في الصّيام واخرى هو الأعمال الخارجيّة.

وأمّا كونها من المقولات المتباينة ففيه: أنّ الموضوع المبحوث عنه في المسائل الفقهيّة إنّما هو فعل هذه الأوضاع والكيفيّات، أعني إيجاد الركوع والسجود والقراءة وغيرها، والفعل أمر واحد من مقولة واحدة.

وأمّا الإشكال الرابع: ففيه أنّ الغرض وإن كان ناشئاً من النسبة بين الموضوعات والمحمولات، إلّاأنّ وحدتها تنشأ من وحدتهما لأنّها قائمة بطرفيها فتكون وحدة النسب الموجودة في المسائل دليلًا على وحدة موضوعاتها.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا إنّه لا دليل على وجوب تحصيل موضوع واحد جامع لجميع موضوعات مسائل كلّ علم حتّى يبحث عن تعريفه وتحديده كما فعله جمع كثير من الأصحاب.

ملاك وحدة العلم:

قد يقال: إن لم يكن ملاك وحدة العلم وحدة الموضوع كما مرّ فما هو الملاك في اتّحاد مسائل العلم وانسجامها؟

انوار الأصول، ج 1، ص: 37

قلنا: لا بدّ للحصول على الجواب الصحيح لهذا السؤال من الرجوع إلى تاريخ تدوين العلوم البشريّة (لا إلى حكم العقل لعدم كون المسألة عقليّة كما لا يخفى) فنقول: إذا رجعنا إلى تاريخ تدوين العلوم نجد بساطتها واختصارها في بدو تولّدها كما يظهر من

ملاحظة فلسفة افلاطون مثلًا فإنّها متشكّلة من مسائل طفيفة في أبواب الالهيّات ومسائل في الطبيعيّات ومسائل اخرى في الفلكيّات ومباحث في سياسة المدن اندرج جميعها في علم واحد وكتاب واحد، ثمّ بعد توسّعها واحتياجها إلى تجزئة بعضها عن بعض قصد موسّعوها ومدوّنوها في الأدوار اللّاحقة إلى تدوين المسائل التي توجد علاقة خاصّة بينها علماً على حدة وتأليفها بعنوان علم مستقلّ، وكان المعيار في هذه العلاقة:

تارةً: وحدة الموضوع، كعلم معرفة الأرض في الطبيعيّات الذي يكون الموضوع في جميع مسائله شيئاً واحداً وهو الأرض وحالاتها مع أنّ الأغراض المترتّبة على مسائله مختلفة فإنّ له تأثيراً في مقاصد شتّى كما لا يخفى. أو كعلم النجوم الذي يكون الموضوع فيه أمراً واحداً وهو النجوم، ولا يخفى أيضاً أنّ الأغراض فيه متعدّدة تظهر في باب التوحيد والعبادات ونظام المجتمع الإنساني وغيرها، أو كعلم الكيمياء وهو علم تراكيب الأشياء وتجزئتها، وموضوعها هو الأجسام من حيث التجزئة والتركيب، مع أنّ فائدته تظهر في علم الطبّ والصنائع المختلفة.

واخرى: وحدة المحمول كعلم الفقه لأنّ المحمول في جميع مسائله سواء كانت تكليفيّة أو وضعية هو حكم من الأحكام الشرعيّة وليس المعيار فيه وحدة الموضوع لأنّ الموضوع فيه ليس شيئاً واحداً فإنّ الموضوع لعلم الفقه ليس خصوص أفعال المكلّفين لعدم شمولها للأحكام الوضعيّة، وارجاعها إلى أفعال المكلّفين بالواسطة لا يخلو من التكلّف.

وثالثة: وحدة الغرض خاصّة، كعلم المنطق لأنّ الغرض الحاصل من مسائله هو الحصول على التفكّر الصحيح والصيانة عن الخطأ، ولعلّ من هذا القسم علم الاصول لوحدة الغرض في جميع قضاياه، وهو تحصيل القدرة على استنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها.

ويمكن أن يكون ملاك الوحدة اثنين من هذه الامور الثلاثة أو جميعها كما لا يخفى.

فقد ظهر

من جميع ما ذكرنا أنّه لا دليل على أنّ لكلّ علم موضوعاً واحداً حتّى نحتاج إلى البحث عن حدوده وخصوصّياته، كما ظهر ضمناً أنّ الملاك في تمايز العلوم ليس أمراً واحداً بل إنّه يختلف باختلاف أنواعها كما سيأتي بيانه في محلّه تفصيلًا إن شاء اللَّه تعالى.

ثمّ إنّه لو سلّمنا حاجة كلّ علم إلى موضوع خاصّ فما هو الموضوع وما تعريفه؟

ذكر كثير منهم أنّ موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة كما حكيناه عن انوار الأصول، ج 1، ص: 38

المحقّق الخراساني رحمه الله، ولتوضيح العوارض الذاتيّة نقول: إنّ المعروف في محلّه عند القدماء أنّ العوارض على قسمين: ذاتيّة وغير ذاتيّة (غريبة)، لأنّها إمّا أن تعرض للشي ء بلا واسطة كالحرارة بالنسبة إلى النار، أو تعرضه بواسطة أمر داخلي وهو على قسمين: أمر داخلي مساوٍ للمعروض كعروض الإدراك على الإنسان بواسطة الناطقية، أو أمر داخلي أعمّ من المعروض كعروض الحركة على الإنسان بواسطة الحيوانيّة، (ولا يخفى أنّ الأمر الداخلي لا يمكن أن يكون مبايناً لمعروضه كما لا يمكن أن يكون أخصّ منه)، أو تعرّضه بواسطة أمر خارجي، وهو على أربعة أقسام: أمر خارجي مباين للمعروض كعروض الحرارة على الماء بواسطة النار، وأمر خارجي مساوٍ للمعروض كعروض الإدراك على الضاحك بواسطة الناطقية، وأمر خارجي أخصّ من المعروض كعروض الإدراك على الحيوان بواسطة الناطقية، وأمر خارجي أعمّ من المعروض كعروض المشي على الناطق بواسطة الحيوانيّة، فصارت الأقسام سبعة.

كما أنّ المعروف أنّ الأوّلين منها من العوارض الذاتيّة وهما العارض بلا واسطة والعارض بأمر داخلي مساوٍ، كما أنّه لا إشكال في كون الخامس والسابع منها (وهما العارض بواسطة الخارجي الأعمّ والعارض بأمر خارجي مباين) من العوارض الغريبة، وأمّا الثلاثة الباقية فقد

وقعت معركة للبحث والآراء ومحلّ الكلام منها هو المنطق أو الفلسفة.

أقول: أوّلًا: ما الدليل على هذا التقسيم؟ وما هو الملاك فيه؟ وما المعيار في كون العرض ذاتياً أو غير ذاتي. فإن كان هناك مصطلح خاصّ فالأمر فيه سهل ولكن التفاوت الحقيقي بين العلوم لا يدور مداره، وإن كان أمراً وراءه فلابدّ من بيانه.

وثانياً: لا دليل على أنّ مصنّفي العلوم قصدوا من العوارض الذاتيّة المعنى المذكور.

هذا- وقد أجاد بعضهم حيث اتّخذ طريقاً آخر وملاكاً جديداً للعرض الذاتي والعرض الغريب، فقال: الذاتي ما يعرض الشي ء بلا واسطة في العروض، أي بدون الواسطة مطلقاً أو مع الواسطة في الثبوت (كعروض الحرارة على الماء بواسطة النار).

والمقصود من كون الواسطة واسطة في الثبوت إنّما هو العروض حقيقة فإنّ الماء يصير بواسطة النار حارّاً حقيقة لا مجازاً وعناية، فيكون من قبيل إسناد شي ء إلى ما هو له الذي لا يصحّ سلبه عنه «1».

انوار الأصول، ج 1، ص: 39

مع أنّه بناءً على تفسير القوم داخل في العرض الغريب لأنّ النار مباينة للماء، والغريب ما يعرض الشي ء مع واسطة في العروض، أي بالعناية والمجاز، نحو عروض الحركة على الجالس في السفينة في جملة «زيد متحرّك» حيث إنّ المتحرّك الحقيقي إنّما هو نفس السفينة.

ثمّ قال: المبحوث عنه في العلوم ما يعرض الموضوع إمّا بلا واسطة في العروض أو مع واسطة في الثبوت، أي ما يعرض على الموضوع حقيقة لا عناية ومجازاً.

أقول: دليل كلامه واضح فإنّه من القضايا التي قياساتها معها لوضوح إنّه لا يبحث في العلوم عن العوارض المجازيّة. اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ مسائل العلوم لا تنحصر في العوارض الذاتيّة بهذا المعنى فحسب بل قد تشمل العوارض مع الواسطة في العروض أيضاً، فمثلًا في البحث

عن السير والتاريخ وحالات الأشخاص ينضمّ إليها البحث عن حالات آبائهم وأبنائهم وأصحابهم مع أنّه يكون من قبيل «زيد قائم أبوه» والمجاز في الإسناد.

كما أنّ قول بعضهم (وهو المحقّق الخراساني رحمه الله): «إنّ موضوع كلّ علم ... هو نفس موضوعات مسائله عيناً ... وإن كان يغايرها مفهوماً تغاير الكلّي ومصاديقه والطبيعي وأفراده» ينقتض ببعض العلوم الدارجة كعلمي الجغرافيا والهيئة وما شابههما ممّا تكون النسبة بين موضوعها وموضوعات مسائلها نسبة الكلّ إلى أجزائه ولا إشكال في أنّ عوارض الجزء لا تعدّ من العوارض الذاتيّة للكلّ (بناءً على كلا التفسيرين المذكورين للعارض الذاتي) إلّا بنحو من التكلّف، ضرورة أنّ عارض الجزء وخاصّته عارض لنفس الجزء لا للكلّ الذي تركّب منه ومن غيره إلّاعلى نحو المجاز في الإسناد الذي مرّ ذكره آنفاً.

هذا كلّه بالنسبة إلى المسألة الاولى من المسائل الأربعة في الأمر الأوّل.

المسألة الثانيّة: في تمايز العلوم

ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى أنّ تمايز العلوم بتمايز الأغراض واستدلّ عليه بوجهين:

الأوّل: إنّه لو لم يكن بالأغراض فليكن بالموضوعات وهو يستلزم أن يكون كلّ باب بل كلّ مسألة من كلّ علم علماً على حدة لشموله على موضوع على حدة.

الثاني: أنّ التمايز بالموضوعات يلزم منه تداخل العلوم بعضها في بعض لأنّه قد يكون شي ء واحد موضوعاً لمسألة يبحث عنها في علوم عديدة (كموضوع «التوبة» فإنّها يبحث عنها في انوار الأصول، ج 1، ص: 40

علم الفقه في باب العدالة وفي علم الكلام والتفسير والأخلاق لارتباطها ببعض مسائل كلّ منها كما لا يخفى).

لكنّ المشهور أنّ تمايز العلوم بالموضوعات كما هو الظاهر من تعريفهم لموضوع كلّ علم بأنّه ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة.

وحيث إنّ بعضهم لاحظ اشتراك بعض العلوم مع بعض آخر في الموضوع كاشتراك علم الصرف

مع علم النحو واللّغة والبلاغة فيه (حيث إنّ الموضوع في جميعها هو الكلمة فيلزم منه اندراجها في علم واحد) فقد أضاف إلى تعريف المشهور قيداً آخر وهو قيد الحيثيّة، وقال إنّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات مقيّدة بقيد الحيثيّات، فإنّ موضوع علم الصرف مثلًا هو الكلمة من حيث تصريفها، وموضوع علم النحو هو الكلمة من حيث الاعراب والبناء، وموضوع علم اللّغة الكلمة من حيث المعنى وهكذا ...

وعلّق عليه المحقّق الإصفهاني رحمه الله بأنّه «ليس الغرض من تحيّث الموضوع كالكلمة والكلام بحيثيّة الاعراب والبناء في النحو وبحيثيّة الصحّة والاعتلال في الصرف أن تكون الحيثيات المزبورة حيثية تقييديّة لموضوع العلم، إذ مبدأ محمول المسألة لا يعقل أن يكون حيثية تقييديّة لموضوعها ولا لموضوع العلم وإلّا لزم عروض الشي ء لنفسه، ولا يجدي جعل التحيّث داخلًا والحيثية خارجة لوضوح أنّ التحيّث والتقييد لا يكونان إلّابملاحظة الحيثية والقيد، فيعود المحذور، بل الغرض من أخذ الحيثيات كما عن جملة من المحقّقين من أهل المعقول هو حيثية استعداد ذات الموضوع لورود المحمول عليه، مثلًا الموضوع في الطبيعيّات هو الجسم الطبيعي لا من حيث الحركة والسكون الفعليين كيف ويبحث عنهما فيها بل من حيث استعداده لورودهما عليه ... وفي النحو والصرف الموضوع هي الكلمة مثلًا من حيث الفاعلية المصحّحة لورود الرفع عليها ومن حيث المفعوليّة المعدّة لورود النصب عليه ...» «1».

وهذا يمكن أن يكون قولًا ثالثاً في المسألة.

وهيهنا قول رابع وهو ما أفاده في تهذيب الاصول من أنّ تمايز العلوم يكون بذواتها فإنّه قال: «كما أنّ منشأ وحدة العلوم إنّما هو تسانخ القضايا المتشتّة التي يناسب بعضها بعضاً ...

انوار الأصول، ج 1، ص: 41

كذلك تمايز العلوم واختلاف بعضها يكون بذاتها فقضايا كلّ علم مختلفة ومتميّزة

بذواتها عن قضايا علم آخر» «1».

أقول: الإنصاف أنّ جميع هذه الأقوال لا يخلو من الإشكال، والأولى أن يقال: إنّ تمايز العلوم كوحدتها قد يكون بالموضوعات واخرى بالمحمولات وثالثة بالأغراض وذلك لما مرّ في البحث عن ملاك الوحدة من تحليل تاريخي لتدوين العلوم وتأليفها، فقد ذكرنا فيه أنّ ملاك وضع كلّ علم على حدة وتمييزه عن سائر العلوم هو وجود التناسب والتناسخ بين مسائله ودخولها تحت عنوان جامع، ولا إشكال في أنّ تناسب المسائل قد يكون بوحدة الموضوع واخرى بوحدة المحمول وثالثة بوحدة الغرض فليكن التمايز أيضاً كذلك كما لا يخفى.

وأمّا مقالة المشهور فلا يتصوّر لها دليل إلّاتوهّم احتياج كلّ علم إلى موضوع لقاعدة الواحد، وقد مرّت المناقشة فيها. ومنه يظهر إشكال القول الثالث حيث إنّه مبني على قبول أن يكون تمايز العلوم بتمايز الموضوعات.

وأمّا ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله فيرد على دليله الثاني أنّ تداخل علمين في عدّة من مسائلهما لا يضرّ بتمايز أحدهما عن الآخر إذا كانت النسبة بين مسائلهما العموم من وجه، لأنّ التمايز حينئذٍ يحصل بموضع الافتراق كما لا يخفى.

كما يرد على دليله الأوّل أنّ القائل بكون التمايز بالموضوعات يدّعي أنّ تمايز العلوم يكون بتمايز الموضوعات لا العكس (وهو أنّ كلّ متمايز بموضوعه يكون علماً على حدة).

وأمّا ما أفاده في تهذيب الاصول فيرد عليه أنّ ذوات العلوم ليست أمراً خارجاً عن مسائلها لأنّه لا ريب في أنّ مسائلها عبارة عن القضايا المبحوثة عنها فيها، والقضايا ليست أمراً وراء الموضوعات والمحمولات والنسب بينهما، فذوات العلوم عين موضوعاتها ومحمولاتها ونسبها، فلابدّ أن يكون التمايز بأحد هذه الامور أو بالأغراض.

المسألة الثالثة: في موضوع علم الاصول
اشارة

وهو عند جماعة من الأصحاب (منهم صاحب القوانين) الأدلّة الأربعة، والظاهر من انوار

الأصول، ج 1، ص: 42

كلماتهم أنّ الموضوع هو الأدلّة الأربعة بوصف كونها أدلّة.

وقد أورد عليه بأنّ لازمه خروج جلّ مباحث علم الاصول عن مسائله ودخولها في المبادي ء، لأنّه حينئذٍ يكون البحث عن حجّية الأدلّة الأربعة ودليليّتا بحثاً عن نفس الموضوع لا عن عوارضه، فإنّ المفروض أنّ الدليليّة قيد للموضوع، والبحث عن قيود الموضوع يكون من المبادي ء التصوّريّة للعلم.

وقد تفطّن لهذا صاحب الفصول رحمه الله وقال في مقام دفعه: إنّ موضوع علم الاصول عبارة عن الأدلّة بذواتها لا بوصف دليليتها، أي الأدلّة بما هي هي.

ولكن أورد عليه المحقّق الخراساني رحمه الله (بعد أن اختار أنّ موضوع علم الاصول هو الكلّي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتّة) بما حاصله أنّ المراد من السنّة مثلًا إن كان هو السنّة الواقعيّة فلازم هذا القول أن يكون البحث عن السنّة في علم الاصول بحثاً عن ثبوت كلام المعصوم ووجوده بمفاد كان التامّة، والحال أنّ المسائل تبحث عن عوارض الموضوع بمفاد كان الناقصة، ثمّ قال:

إن قلت: البحث عن السنّة في علم الاصول بحث عن ثبوت الكلام الواقعي للمعصوم بخبر الواحد تعبّداً وعدمه فيقال: هل السنّة الواقعيّة تثبت بخبر الواحد تعبّداً أو لا؟ والثبوت التعبّدي (أي وجوب العمل على طبق الخبر) إنّما هو من العوارض.

قلنا: هو كذلك ولكنّه من عوارض الخبر (أي السنّة الظاهريّة) لا من عوارض السنّة الواقعيّة (قول المعصوم وفعله وتقريره واقعاً).

هذا كلّه إذا كان المراد من السنّة السنّة الواقعيّة.

وإن كان المراد من السنّة مطلق السنّة الأعمّ من الواقعيّة والظاهريّة فهو وإن كان لازمه كون المسائل المطروحة حول البحث عن حجّية الأدلّة الأربعة داخلة في علم الاصول إلّاأنّه لا يكون بعدُ جامعاً لجميع المسائل، لخروج مباحث الألفاظ وجملة من غيرها «1» عنها

بل الداخل فيها إنّما هو مباحث حجّية خبر الواحد والتعادل والتراجيح، (انتهى كلامه بتوضيح منّا).

انوار الأصول، ج 1، ص: 43

أقول: أضف إلى ذلك كلّه أنّ القول بأنّ الموضوع هو الأدلّة الأربعة بذواتها وهكذا القول الأوّل (وهو أنّ الموضوع الأدلّة الأربعة بوصف كونها أدلّة) ينافي ما التزموا به من لزوم وحدة الموضوع لأنّه لا جامع بين الأدلّة الأربعة.

وأمّا ما اختاره المحقّق الخراساني رحمه الله من «أنّ موضوع علم الاصول هو الكلّي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتّة» من دون أن يذكر له عنواناً خاصّاً واسماً مخصوصاً بإعتذاره بعدم دخل ذلك في موضوعيّته أصلًا- ففيه إشكال ظاهر لأنّه في الحقيقة فرار عن الإشكال، وليس بحلّ له، لأنّه لقائل أن يقول: أي دليل على وجود جامع واحد بين موضوعات المسائل بعد ما مرّ من المناقشة في التمسّك بقاعدة الواحد في هذا المجال؟ مضافاً إلى أنّه تعريف بأمر مبهم لا فائدة فيه، ولا يناسب ما يراد من بيان موضوع العلم لا سيّما للمبتدي ء.

وهاهنا قول رابع، وهو ما أفاده المحقّق البروجردي رحمه الله من أنّ موضوع علم الاصول هو «الحجّة في الفقه»، ولا يخفى أنّه أقلّ اشكالًا من الأقوال السابقة لأنّ عنوان «الحجّة في الفقه» عنوان جامع واحد لجميع الأدلّة فلا يرد عليه ما أُورد على القول الأوّل والثاني، مضافاً إلى وضوحه وعدم ابهامه، فيكون سالماً عمّا أوردناه على مقالة المحقّق الخراساني رحمه الله، ومضافاً إلى شموله للُاصول العمليّة بأسرها لشموله للاستصحاب مثلًا، لأنّه لا ريب في إنّه حجّة وإن لم يكن دليلًا، كما يشمل أيضاً الظنّ الانسدادي حتّى على الحكومة لكونه حجّة ومعذّراً عن العقاب، والاحتياط العقلي والبراءة العقليّة لأنّ الأوّل حجّة ومنجّز، والثاني حجّة ومعذّر، وحينئذ لا يرد على قوله

ما اورد على مقالة صاحب الفصول كما لا يخفى.

نعم يمكن الإيراد عليه من طريقين:

الأوّل: إنّه لا يعمّ المباحث اللّفظيّة لأنّها لا تعدّ حجّة في الفقه لعدم اختصاصها بالألفاظ المستعملة في خصوص لسان الشارع بل إنّها قواعد عامّة تجري في جميع الألفاظ واللغات، فإنّ قضيّة «صيغة الأمر تدلّ على الوجوب» مثلًا قاعدة لفظيّة عامّة تجري في جميع الأوامر شرعيّة كانت أو عرفيّة.

ولكن يمكن الجواب عنه بأنّ دلالة الأمر على الوجوب مثلًا تكون بمنزلة عرض عامّ يعرض الأوامر الشرعيّة أيضاً، فيمكن أن تعدّ الأوامر الشرعيّة بهذا اللحاظ مصداقاً من انوار الأصول، ج 1، ص: 44

مصاديق «الحجّة في الفقه» كما أنّ كتاب اللَّه تعالى أو العقل حجّة في الفقه وغيره معاً.

الثاني: أنّه يرد على عنوان الحجّة في الفقه بوصف كونها حجّة نفس ما أورده على عنوان الأدلّة الأربعة بوصف كونها أدلّة إلّاأن يقال أنّ الموضوع إنّما هو ذات الحجّة لا هي بوصف الحجّية كما هو المختار.

وبهذا اندفع جميع الإشكالات الواردة على هذا القول، وظهر أنّ ما ذكره المحقّق المذكور هو الذي ينبغي أن يركن إليه في هذا الباب، غير إنّه يبقى عليه أنّه في الواقع راجع إلى وحدة الغرض، وإنّما اشير إلى وحدة الموضوع من هذه الجهة، فكأنّه قيل: إنّ موضوع اصول الفقه هو كلّ شي ء ينفع في استنباط الأحكام الشرعيّة، فلا جامع بين الكتاب والسنّة ودليل العقل والإجماع والاصول الأربعة العمليّة والشهرة الفتوائيّة (على القول بحجّيتها) وغيرها من أشباهها إلّاأنّها تفيد الفقيه في استنباطاته.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّه لا يخفى إنّا في فسحة من ناحية إشكال عدم وحدة الموضوع لما اخترناه سابقاً من عدم توقّف وحدة العلم واستقلاله عليها بل يكفي فيه وحدة المحمول أو الغرض، ولا إشكال في أنّ الغرض في المسائل

الاصوليّة واحد وهو حصول القدرة على استنباط الحكم الشرعي.

المسألة الرابعة: تعريف علم الاصول

وقد ذكرت له تعاريف عديدة:

الأوّل: ما ذهب إليه المشهور وهو أنّه «العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيلية».

وقد أورد عليه بعدم شموله للُاصول العقليّة (وهي الاحتياط العقلي والبراءة والتخيير العقليين) لأنّها تدلّ على وجود العذر أو عدمه، ولا يستنبط منها الحكم الشرعي، وهكذا الظنّ الانسدادي على الحكومة.

نعم يمكن أن يقال: إنّ المراد من الحكم هو الأعمّ من الواقعي والظاهري، ولا إشكال في أنّ مفاداة الاصول العمليّة أحكام شرعيّة ظاهريّة فإنّ البراءة الشرعيّة مثلًا تدلّ على الإباحة في انوار الأصول، ج 1، ص: 45

مقام الظاهر، لكن هذا يفيد في الاصول الشرعيّة، ويبقى الكلام بعدُ في البراءة العقليّة والظنّ الانسدادي بناءً على الحكومة، لأنّهما يكشفان عن عدم العقاب فحسب ولا يدلّان على ثبوت الحكم، وكذا الاحتياط العقلي، نعم لا مانع من الاستطّراد في هاتين المسألتين.

الثاني: ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية وهو «أنّه صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن أن تقع في طريق استنباط الأحكام أو التي ينتهي إليها في مقام العمل».

ولا يخفى أنّ قوله «يمكن أن تقع ...» عوضاً عن تعبير المشهور «الممهّدة» إنّما تكون لأجل شمول التعريف للمباحث اللّفظيّة لأنّها وإن لم تكن ممهّدة لاستنباط الحكم الشرعي ومخصوصة به بل يستفاد منها في استنباط غيره أيضاً، إلّا إنّه لا إشكال في أنّها يمكن أن تقع في طريق الاستنباط.

كما أنّ تعريفه يشمل الاصول العقليّة والظنّ الانسدادي على الحكومة أيضاً لدخولهما تحت عنوان «أو التي ينتهي إليها في مقام العمل» الوارد في ذيل التعريف.

نعم يرد عليه: أوّلًا: أنّ تعبيره بأنّ علم الاصول «صناعة» بدل كلمة «العلم» تعبير غير مناسب عرفاً، لأنّ الصناعة تطلق في

العرف على العمل لا العلم إلّامجازاً.

وثانياً: أنّه ليس مانعاً عن دخول القواعد الفقهيّة لكونها أيضاً قواعد تقع في طريق الاستنباط.

الثالث: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله وهو «إنّه علم بالكبريات التي لو انضمّت إليها صغرياتها يستنتج منها حكم فرعي» «1».

ويرد عليه: أنّه لا يعمّ البراءة العقليّة وشبهها والظنّ الانسدادي على الحكومة لأنّ مدلول كلّ واحد منها المعذّريّة عن العقاب ولا يستنبط منها الحكم الشرعي، لا الواقعي ولا الظاهري كما أشرنا إليه آنفاً.

الرابع: ما في تهذيب الاصول من أنّه «هو القواعد الآليّة التي يمكن أن تقع في كبرى استنتاج الأحكام الكلّية الفرعيّة الإلهيّة أو الوظيفة العمليّة».

فأخرج بقيد «الآليّة» القواعد الفقهيّة لأنّها ينظر فيها لا بها فتكون استقلاليّة لا آليّة، كما

انوار الأصول، ج 1، ص: 46

أدخل بقوله «يمكن أن تقع» نحو القياس والشهرة والاستحسان التي ليست حجّة عندنا ولكنّها يمكن أن تقع حجّة عند القائلين بها، وبقوله «تقع كبرى» أخرج مباحث سائر العلوم، ولم يقيّد الأحكام بالعمليّة، لعدم كون جميع الأحكام عمليّة كالوضعيّات وكثير من مباحث الطهارة وغيرها، وإضافة قيد «الوظيفة» لادخال مثل الظنّ على الحكومة، وأمّا عدم اكتفائه بأنّه «ما يمكن أن تقع كبرى استنتاج الوظيفة» فهو لعدم كون النتيجة وظيفة دائماً، وانتهائها إلى الوظيفة غير كونها وظيفة «1».

أقول: هذا التعريف مع سلامته عمّا أُورد على غيره يرد عليه: أنّ قيد الآليّة لا يكفي لإخراج القواعد الفقهيّة بل لا بدّ من جعل قيد «التي لا تشمل على حكم شرعي» مكانه لما حقّقناه في محلّه من أنّ القواعد الفقهيّة تشتمل دائماً على حكم كلّي شرعي، تكليفي أو وضعي، وجودي أو عدمي تقع في طريق استنباط الأحكام الفرعيّة العمليّة، ومجرّد كونها تطبيقية لا يضرّ بكونها آليّة كما لا يخفى.

فظهر ممّا ذكرنا عدم تماميّة كلّ واحد من التعاريف الأربعة.

والأولى أن يقال: «إنّه القواعد التي لا تشتمل على حكم شرعي وتقع في طريق استنتاج الأحكام الكلّية والفرعيّة الإلهيّة أو الوظيفة العمليّة» والاحتراز بكلّ من هذه القيود ممّا يجب إخراجه عن التعريف أو ادخاله يظهر ممّا ذكرناه.

انوار الأصول، ج 1، ص: 47

الأمر الثاني: الوضع وأحكامه

1- حقيقة الوضع

ووجه الحاجة إلى البحث عنها ارتباط غير واحد من الأدلّة الأربعة بباب الألفاظ، فلابدّ حينئذٍ من معرفة بعض قوانينها والقواعد الموضوعة لها.

قد يتوهّم أنّ دلالة الألفاظ على معانيها ليست من ناحية الوضع بل إنّها ذاتيّة فلا حاجة إلى البحث عنه.

ولكنّه خلاف ما نجده بوجداننا إلّافي باب أسماء الأصوات، فيوجد فيها ربط ذاتي بين المعاني والألفاظ كما هو ظاهر.

وكيف كان فبناءً على عدم ذاتيتها وكونها ناشئة من ناحية الوضع يقع البحث في حقيقة الوضع وأنّها هل هي بمعنى الجعل، أو بمعنى الالتزام، أو بمعنى الانس الذهني؟

القول الأوّل: ما اختاره المحقّق الخراساني رحمه الله: «إنّه نحو اختصاص للفظ بالمعنى وارتباط خاصّ بينهما ناشٍ من تخصيصه به تارةً ومن كثرة استعماله فيه اخرى».

ولا يخفى ما فيه من الابهام الذي لا يغتفر مثله في مقام التعريف نظير ما مرّ منه في تعريفه لعلم الاصول.

القول الثّاني: إنّه نوع استيناس ذهني يحصل بين اللفظ والمعنى بحيث ينتقل الذهن من أحدهما إلى الآخر.

وهذا مقبول في الوضع التعيّني، أمّا في التعييني فلا معنى محصّل له، لأنّ الانس والعلاقة الذهنيّة أمر متأخّر عن الوضع يحصل من كثرة الاستعمال الحاصلة بعد الوضع.

القول الثالث: أنّه التزام وتعهّد من ناحية أهل اللّغة بأنّه كلّما استعمل هذا اللفظ اريد منه هذا المعنى، إن قلت: الالتزام يتصوّر بالنسبة إلى الوضع فقط، وتعهّد الواضع لا يلازم تعهّد غيره مع أنّ

غيره أيضاً يستعمل اللفظ الموضوع كإستعماله.

انوار الأصول، ج 1، ص: 48

قلت: إنّه إذا تولّد الإنسان بين أهل لغة خاصّة وعاش فيهم كان ذلك في الواقع تعهّداً ضمنيّاً على الالتزام بجميع ما كان بينهم من الآداب والسنن والالتزامات ومنها الالتزام بمعاني الألفاظ وأوضاعها.

ويرد عليه: أنّ الوجدان حاكم على أنّ جملة «وضعت هذا اللفظ لهذا المعنى» ليس بمعنى «تعهّدت إنّي كلّما ذكرت هذا اللفظ أردت منه هذا المعنى» بل هو من قبيل جعل علامة للمعنى كما يشهد به كلمة «الوضع» فإنّه بمعنى الجعل والنصب.

القول الرابع: ما أفاده جمع من المحقّقين وهو أنّ حقيقة الوضع أمر اعتباري وهو جعل اللفظ علامة للمعنى في عالم الاعتبار.

توضيحه: إنّه تارةً يوضع شي ء علامة لشي ء آخر في عالم الخارج كوضع علامات الفراسخ في الطرق، والعمامة السوداء مثلًا لكون الشخص هاشميّاً، وقد يوسم بعض الحيوانات ويجعل له علامة كي يعرفه صاحبه، واخرى يجعل شي ء علامة لشي ء آخر في عالم الاعتبار وفقاً للعلامات الخارجيّة، ومن هذا القسم جميع المفاهيم الإنشائيّة التي تكون اموراً اعتباريّة مشابهة لمصاديقها الخارجيّة من بعض الجهات، فإنّ ملكيّة الإنسان وسلطنته على ماله عند العقلاء في عالم الاعتبار مثلًا أمر ذهني يشبه ملكيته وسلطنته على نفسه تكويناً، والزوجيّة بين الزوج والزوجة تجعل في عالم الاعتبار وفقاً للزوجيّة التكوينيّة بين الأشياء الخارجيّة، وكذلك الألفاظ بالنسبة إلى معانيها في ما نحن فيه، فإنّ حقيقة الوضع جعل اللفظ علامة للمعنى في عالم الاعتبار وفقاً للعلامات التي توضع على الأشياء الخارجيّة.

أقول: وهذا أحسن ما يمكن أن يقال في المقام، إلّاأنّه يتصوّر في خصوص الوضع التعييني، أمّا في التعيّني فلا، لعدم جعل ولا إنشاء فيه.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ علينا اختيار قول خامس يشمل ويعمّ كلا نوعي الوضع،

وهو أن يلتزم بالتفكيك بين النوعين في حقيقتهما ويقال: إنّ الوضع التعييني حقيقته جعل اللفظ علامة للمعنى كما مرّ في القول الرابع، وامّا التعيّني فحقيقته هو الانس الذي يحصل من كثرة استعمال اللفظ التي توجب تبادر المعنى إلى الذهن من سماع اللفظ كما مرّ في القول الثاني، فلابدّ من الجمع بين تعريفين من التعاريف السابقة كيما يكون التعريف تامّاً وجامعاً لجميع أنواع الوضع.

2- من الواضع؟

الكلام في تعيين شخص الواضع وإنّه مَن هو؟ فهل هو اللَّه تعالى أو إنسان خاصّ، أو جماعة خاصّة من أبناء البشر، أو أفراد غير معروفين؟

من الواضح أنّ الأنبياء كانوا يتكلّمون بلسان قومهم كما قال تبارك وتعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ» «1»

، ومنه يعلم عدم نزول الألفاظ عليهم من ناحية اللَّه تعالى، كما أنّ الظاهر عدم دلالة شي ء من النصوص أيضاً على كون الواضع هو سبحانه أو أنبيائه عليهم السلام ولو فرض قبول ذلك في خصوص اللسان الذي كان يتكلّم به آدم عليه السلام فلا شكّ في أنّه غير مقبول بالنسبة إلى اللغات الاخر التي هي كثيرة جدّاً.

أمّا أن يكون الواضع شخصاً خاصّاً أو جماعة معينة فهو أيضاً لا دليل عليه من التاريخ على ما بأيدينا، بل الوجدان حاكم على خلافه، لأنّا نجد بوجداننا إبداع ألفاظ جديدة ولغات حديثة على أساس الحاجات اليوميّة الاجتماعيّة، على مدى القرون والأعصار من دون وجود واضع خاصّ معروف في البين، فيتعيّن حينئذٍ كون الواضع عدّة أفراد مختلفين في كلّ عصر من الأعصار وفي كلّ زمان ومكان.

وأمّا منشأ اختلاف اللغات فالظاهر أنّ السبب الوحيد هو انتشار الأقوام المختلفة في أقطار الأرض وتباعد كلّ قوم عن سائر الأقوام، خصوصاً بعد ملاحظة عدم وجود وسائل الاعلام الموجودة

في يومنا هذا بينهم حتّى تنتقل لغة خاصّة من قوم إلى قوم، وحينئذٍ لا بدّ لكلّ قوم من اتخاذ لغة خاصّة وفقاً لحاجاتهم وبتبعه تتعدّد اللغات ويختلف بعضها عن بعض.

3- الكلام في أقسام الوضع

لا بدّ في كلّ وضع من موضوع وموضوع له، وحيث إنّ الواضع يحتاج إلى تصوّر اللفظ والمعنى ينقسم الوضع إلى أقسام ويتنوّع إلى أنواع بلحاظ اختلاف المعنى من حيث الكليّة والجزئيّة، وباعتبار أنّ المعنى الموضوع له تارةً يتّحد مع ما يتصوّره الواضع، واخرى يختلف،

انوار الأصول، ج 1، ص: 50

فالأقسام الحاصلة أربعة.

الأوّل: أن يكون المعنى المتصوّر مفهوماً عامّاً، أي معنىً كلّياً، ويوضع اللفظ بإزاء نفس ذلك المفهوم، فيكون الوضع عامّاً والموضوع له أيضاً عامّاً (ونعني بالوضع هنا المعنى المتصوّر).

الثاني: هو أن يتصوّر معنىً عامّاً ويضع اللفظ لمصاديقه، فيكون الوضع عامّاً والموضوع له خاصّاً.

الثالث: أن يكون الوضع والموضوع له كلاهما خاصّين.

ولا كلام في إمكان جميع هذه الوجوه الثلاثة، إنّما الكلام في قسم رابع وهو أن يتصوّر معنىً جزئيّاً ويضع اللفظ لكلّيه، كأن يتصوّر زيداً مثلًا ويضع اللفظ للإنسان.

فالمشهور ذهبوا إلى استحالة هذا القسم وتبعهم المحقّق الخراساني رحمه الله، ولكن المحقّق الإصفهاني رحمه الله نقل عن بعض طريقاً لإمكانه، واستدلّ المحقّق الحائري رحمه الله أيضاً لإمكانه بوجه آخر.

أمّا المشهور فاستدلّوا للإستحالة بأنّ الخاصّ من حيث كونه خاصّاً لا يكون مرآة للعام وعنواناً له بخلاف العكس، فإنّ العامّ شامل لأفراده ووجه لها.

واستدلّ بعض القائلين بالجواز (على ما حكاه المحقّق الإصفهاني رحمه الله في نهايته: «بأنّه كالمنصوص العلّة، فإنّ الموضوع للحكم فيه شخصي ومع ذلك يسري إلى كلّ ما فيه العلّة وكذلك إذا وضع لفظ لمعنى باعتبار ما فيه من فائدة، فإنّ الوضع يسري إلى كلّ ما فيه تلك الفائدة، فيكون

الموضوع له عامّاً مع كون آلة الملاحظة خاصّاً» «1».

ويرد عليه: أنّ العلّة في منصوص العلّة تكشف في الواقع عن إنشاء حكم عامّ فتكون جملة «لأنّه مسكر» مثلًا جملة خبريّة تخبر عن ذلك الحكم الكلّي، وليست جملة إنشائيّة، وبعبارة اخرى: أنّ هنا قضيّتين: قضيّة «لأنّه مسكر» وقضيّة تقع كبرى للقياس وهي «كلّ مسكر حرام»، والمنشأ الحقيقي هو القضيّة الثانيّة التي أنشأ فيها حكم عامّ، وأمّا القضيّة الاولى فتكون كاشفة عنها، وهكذا في ما نحن فيه، فإنّ تصوّر الجزء لأجل خصوصيّة فيه يكشف عن تصوّر

انوار الأصول، ج 1، ص: 51

كلّي سابق عليه، فيكون من قبيل الوضع العامّ والموضوع له العامّ لا من قبيل الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ.

وقال المحقّق الحائري رحمه الله في هذا المقام ما إليك نصّه: «يمكن أن يتصوّر هذا القسم فيما إذا تصوّر شخصاً وجزئيّاً خارجياً من دون أن يعلم تفصيلًا بالقدر المشترك بينه وبين سائر الأفراد مثله كما إذا رأى جسماً من بعيد ولم يعلم بأنّه حيوان أو جماد، فلم يعلم إنّه داخل في أيّ نوع من الأنواع، فوضع لفظاً بإزاء ما هو متّحد مع هذا الشخص في الواقع، فالموضوع له لوحظ إجمالًا وبالوجه، وليس الوجه عند هذا الشخص إلّاالجزئي، لأنّ المفروض أنّ الجامع ليس متعقّلًا عنده إلّابعنوان ما هو متّحد مع هذا الشخص» «1».

ويرد عليه أيضاً: أنّ الجزئي المذكور في المثال ليس عنواناً لكلّيه بل ينتقل الإنسان فيه بحسب الواقع من الشخص الجزئي إلى مفهوم عامّ إجمالًا وهو عنوان «ما هو متّحد مع هذا الشخص» (كما اعترف به في ذيل كلامه) فيلاحظه ويتصوّره ثمّ يضع اللفظ بإزائه، فيكون الوضع عامّاً والموضوع له أيضاً عامّاً.

ثمّ إنّ لبعض الأعاظم في المقام كلاماً لا يخلو عن

نظر وإن كان جديراً بالقبول في النظر الأوّل، وإليك نصّه: «الحقّ إنّهما (الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ وعكسه) مشتركان في الامتناع على وجه والاكان على وجه آخر، إذ كلّ مفهوم لا يحكي إلّاعمّا هو بحذائه ويمتنع أن يكون حاكياً عن نفسه وغيره، والخصوصيّات وإن اتّحدت مع العام وجوداً إلّاأنّها تغايره عنواناً وماهية، فحينئذٍ إن كان المراد من الموضوع له في الأقسام هو لحاظه بما هو حاكٍ عنه ومرآة له فهما سيّان في الامتناع، إذ العنوان العامّ كالانسان لا يحكي إلّاعن حيثيّة الإنسانيّة دون ما يقارنها من الخصوصيّات لخروجها عن حريم المعنى اللابشرطي، والحكاية فرع الدخول في الموضوع له، وإن كان المراد من شرطيّة لحاظه هو وجود أمر يوجب الانتقال إليه فالانتقال من تصوّر العامّ إلى تصوّر مصاديقه أو بالعكس بمكان من الإمكان» «2».

ولكن يمكن الجواب عنه بأنّه من قبيل الخلط بين المفهوم والمصداق، فإنّ العامّ بمفهومه وإن كان لا يحكي عن الأفراد بخوصّياتهم، ولكن إذا لوحظ بقيد الوجود يكون إشارة إليها إجمالًا،

انوار الأصول، ج 1، ص: 52

بخلاف الخاصّ فإنّه مع قيد الوجود أيضاً لا يحكي إلّاعن بعض أفراد العامّ، فتأمّل جيّداً.

فظهر من جميع ما ذكر أنّ الصحيح إمكان الأقسام الثلاثة الاولى من الوضع دون الرابع.

4- المعاني الحرفيّة
اشارة

لا إشكال في وجود القسم الأوّل والثالث من الأقسام المذكورة للوضع (أي ما إذا كان الوضع عامّاً والموضوع له عامّاً، أو كان الوضع خاصّاً والموضوع له خاصّاً) في الخارج، فمن القسم الأوّل أسماء الأجناس، ومن الثالث الأعلام الشخصيّة.

أمّا القسم الثاني فقد وقع البحث في وقوعه خارجاً، والمشهور على ذلك، وعدّوا من مصاديقه المعاني الحرفيّة وما شابهها، فينبغي البحث والتحقيق في حقيقة المعاني الحرفيّة لما يترتّب عليه في أبواب الواجب المشروط وغيره

على قول بعض.

وهذا البحث يستدعي نظراً كلّياً إلى الأقوال المعروفة والآراء الموجودة فيه قبل الورود في تفصيله.

فنقول: هنا أقوال خمسة ننظر إليها إجمالًا ثمّ نتكلّم عن أدلّتها ونقدها تفصيلًا:

القول الأوّل: أنّ الحروف لا معاني لها بل هي علامات للمعاني الاسميّة كالاعراب في الكلمات المعربة، فكما أنّ الرفع مثلًا علامة للفاعل، والنصب علامة للمفعول، كذلك الحروف، فكلمة «من» مثلًا علامة لابتداء السير في جملة «سرت من البصرة إلى الكوفة» و «إلى» علامة لانتهائه، والقائل به «محمّد بن حسن الرضي» من أعلام القرن السابع في كتابه الموسوم بشرح الكافيّة (وإن كان المستفاد من بعض كلماته القول الثاني الآتي ذكره) والإنصاف أنّ صدر كلامه وإن كان يدلّ على القول الثاني فإنّه ذكر فيه «إنّ معنى «من» ومعنى «لفظ الابتداء» سواء، إلّاأنّ الفرق بينهما أنّ لفظ الابتداء ليس مدلوله مضمون لفظ آخر بل معناه الذي في نفسه مطابقة، ومعنى «من» مضمون لفظ آخر ينضاف ذلك المضمون إلى معنى ذلك اللفظ الأصلي» كما أنّ ذيل كلامه قد يشعر بالقول الأوّل فإنّه قال: «فالحرف وحده لا معنى له أصلًا إذ هو كالعلم المنصوب بجنب شي ء ليدلّ على أنّ في ذلك الشي ء فائدة ما» «1».

انوار الأصول، ج 1، ص: 53

ولكن المحصّل من مجموع كلامه كما لا يخفى على من راجعه ودقّق النظر فيه هو القول الخامس الذي ستأتي الإشارة إليه من أنّ الحروف تدلّ على معانٍ غير مستقلّة في الذهن والخارج.

القول الثاني: ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله وهو عكس الأوّل، وحاصله إنّه لا فرق بين الحروف والأسماء في كون معاني كليهما استقلاليّة، فلا فرق بين «من» مثلًا وكلمة «الابتداء» في دلالة كليهما على الابتداء.

إن قلت: فلماذا لا يمكن استعمال أحدهما في

موضع الآخر؟

قلت: إنّه ناشٍ من شرط الواضع لا إنّه مأخوذ في الموضوع له، فإنّ الواضع اعتبر لزوم استعمال «من» فيما إذا لم يكن معنى الابتداء ملحوظاً استقلاليّاً وشرط في كلمة الابتداء استعمالها فيما إذا لم يكن المعنى آلياً.

القول الثالث: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله وحاصله: إنّ معاني الحروف كلّها إيجاديّة يوجد بها الربط بين أجزاء الكلام، فإنّ «من» في جملة «سرت من البصرة إلى الكوفة» مثلًا توجد الربط بين كلمتي «البصرة» و «سرت».

والظاهر من كلامه إنّها ليست حاكيات عن معانيها بل وضعت لإنشائها، فإنّ «في» مثلًا لا تحكي عن الظرفيّة بل توجدها في قولك «زيد في الدار».

القول الرابع: ما أفاده بعض الأعلام، وملخّصه: إنّ المعاني الحرفيّة وضعت لتضييق المعاني الاسمية ومع ذلك لا نظر لها إلى النسب الخارجيّة كما سيأتي توضيحه «1».

القول الخامس: قول كثير من المحقّقين. وهو أنّها وضعت للحكاية عن النسب الخارجيّة والمفاهيم غير المستقلّة وهو الأظهر من الجميع.

توضيحه: أنّ المفاهيم والمعاني على قسمين: مستقلّة وغير مستقلّة، فالمستقلّة نحو «مفهوم السير» وغير المستقلّة مثل ابتدائه وانتهائه، وكما نحتاج في بيان المعاني المستقلّة والحكاية عنها إلى ألفاظ، كذلك في المعاني غير المستقلّة، فمثلًا كما نحتاج في بيان معنى «زيد» و «قائم» إلى لفظ زيد قائم، كذلك نحتاج في بيان نسبة زيد إلى قائم وصدور القيام عن زيد إلى وضع لفظ، وهو

انوار الأصول، ج 1، ص: 54

هيئة «زيد قائم» ونحتاج في بيان كيفية السير من حيث الابتداء والانتهاء في قولك «سرت من البصرة إلى الكوفة» أيضاً إلى كلمتي «من» و «إلى»، هذا ملخّص الكلام في بيان الأقوال الخمسة في المقام.

أقول: أمّا القول الأوّل: فالأحسن في مقام الجواب عنه أن يقال: إنّه مخالف لما يتبادر من

الحروف إلى الذهن عند استعمالها، وقياسه بالاعراب قياس مع الفارق، لأنّه يتبادر من كلمة «في» مثلًا في جملة «زيد في الدار» معنى خاصّ، والحال أنّه لا يتبادر شي ء من علامة الرفع في «زيدٌ» في تلك الجملة.

أمّا القول الثاني: فغاية ما يقال في توضيحه: أنّ خصوصيّة كلّ واحد من الاسم والحرف نشأت من جانب الاستعمال لا الوضع، لأنّه إن كان الموضوع له خاصّاً فلا يخلو من أحد الأمرين، إمّا أن يكون المراد الخاصّ الجزئي الخارجي فإنّه خلاف الوجدان، لأنّ في نحو «في الدار» لا يكون المصداق واحداً جزئيّاً بل إنّه كلّي لشموله لكل موضع من الدار، وإمّا أن يكون المراد جزئيّاً ذهنياً فيستلزم كون الموضوع له معنىً مقيّداً بوجوده في الذهن، لأنّ لحاظ المعنى قيد له وهو باطل لوجوه:

أحدها: لزوم تعدّد اللحاظين حين الوضع، لأنّ الوضع حينئذٍ يلاحظ المعنى الملحوظ في الذهن وهو خلاف الوجدان.

ثانيها: لزوم عدم إمكان انطباق المعنى الحرفي على الخارج لأنّه مقيّد بكونه في الذهن.

ثالثها: لزوم كون الموضوع له في جميع الأسماء حتّى في أسماء الأجناس خاصّاً لأنّه إذا كان «كونه ملحوظاً في غيره» جزءً لمعنى الحرف، يكون «اللحاظ في نفسه» أيضاً جزءً للمعنى الاسمي لأنّ المفروض كونهما موضوعين على منهاج واحد، فيكون معنى الاسم جزئيّاً حقيقيّاً ذهنيّاً أيضاً، وهو خلاف ما هو المتّفق عليه في أسماء الأجناس من كون الموضوع له فيها عامّاً.

فثبت ممّا ذكرنا أنّ هذا القيد إنّما يكون عند الاستعمال لا في الموضوع له.

إن قلت: فلا فرق حينئذٍ بين الاسم والحرف، وهو يستلزم إمكان استعمال أحدهما موضع الآخر.

قلنا: الفرق بينهما منحصر في غاية الوضع، فوضع الاسم لأن يراد في نفسه، ووضع الحرف لأن يراد في غيره، وهي تمنع عن استعمال

أحدهما موضع الآخر (انتهى).

انوار الأصول، ج 1، ص: 55

أقول يرد عليه: أنّ هذا في الحقيقة شرط من ناحية الواضع لو قلنا به، وهو لا يوجب إلزاماً لغيره من المستعملين، فيستلزم أن يكون الاسم والحرف مترادفين، إلّاأن يقال: إنّ شرط الواضع يوجب محدوديّة في الموضوع له التي تعبّر عنها في بعض الكلمات بالتضييق الذاتي، وفي كلام المحقّق العراقي رحمه الله بالحصّة التوأمة، ولكن هذا يرجع في الحقيقة إلى تغاير الموضوع له فيهما فلا تكون الحروف متّحدة مع الأسماء في الموضوع له.

وبعبارة اخرى: الذي يوجب قبوله من الواضع إنّما هو ما يكون في دائرة الوضع فإن كان هناك شي ء خارج عنها وكان الموضوع له مطلقاً بالنسبة إليه فلا مانع حينئذ في استعمال تلك اللّفظة على نحو عامّ، فلو شرط الواضع عدم استعماله بدون ذاك القيد لم يقبل منه لأنّه بما هو واضع لم يأخذه قيداً فكيف يجب قبول هذا الشرط؟

أمّا القول الثالث: وهو ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله «1» فيرد عليه أمران لا محيص عنهما:

الأوّل: (وهو العمدة) إنّه لا معنى لأن توجد النسبة بلفظ لا معنى له، ولا يدلّ على مفهوم، فإن لم يكن لكلمة «في» مثلًا معنى الظرفيّة فلا يمكن إيجادها بها في الكلام كما لا يخفى، فاللازم دلالة الحروف أوّلًا وبالذات على معنى وحكايتها عنه ثمّ إيجاد النسبة الكلاميّة بها في ضوء تلك الحكاية.

الثاني: أنّه لو كانت معاني الحروف إيجاديّة فلا سبيل للصدق والكذب إليها كما هو كذلك في جميع الإنشائيات فلا معنى لكون قضيّة «زيد في الدار» صادقة أو كاذبة، وهذا كما ترى.

نعم لا إشكال في إيجاديّة معاني بعض الحروف نحو حروف النداء وحروف التمنّي والترجّي والقسم والتأكيد التي تشكّل قسماً خاصّاً من الحروف

كما ستأتي الإشارة إليه إن شاء اللَّه.

أمّا القول الرابع: فقد مرّت الإشارة إليه وإليك توضيحه من ملخّص كلامه:

قال في هامش أجود التقريرات: «والتحقيق أن يقال: إنّ الحروف بأجمعها وضعت لتضييقات المعاني الاسمية وتقييداتها بقيود خارجة عن حقائقها، ومع ذلك لا نظر لها إلى النسب الخارجيّة بل التضييق إنّما هو في عالم المفهوميّة ... توضيح ذلك: إنّ كلّ مفهوم اسمي له سعة وإطلاق بالإضافة إلى الحصص التي تحته سواء كان الإطلاق بالقياس إلى الخصوصيّات انوار الأصول، ج 1، ص: 56

المنوّعة أو المصنّفة أو المشخّصة أو بالقياس إلى حالات شخص واحد، ومن الضروري أنّ غرض المتكلّم كما يتعلّق بإفادة المفهوم على إطلاقه وسعته كذلك قد يتعلّق بإفادة حصّة خاصّة منه كما في قولك «الصّلاة في المسجد حكمها كذا»، وحيث إنّ حصص المعنى الواحد فضلًا عن المعاني الكثيرة غير متناهية، فلابدّ للواضع الحكيم من وضع ما يوجب تخصيص المعنى وتقييده، وليس ذلك إلّاالحروف والهيئات ... وبذلك يظهر أنّ إيجاد الحروف لمعانيها إنّما هو باعتبار حدوث الضيق في مرحلة الإثبات والدلالة، وإلّا لكان المفهوم متّصفاً بالاطلاق والسعة ... وإمّا باعتبار مقام الثبوت فالكاشف عن تعلّق القصد بإفادة المعنى الضيّق إنّما هو الحرف» «1».

أقول: يرد عليه امور:

أحدها: إنّ هناك قسماً ثالثاً من الحروف لا يجري فيه شي ء ممّا ذكره كالحروف العاطفة فإنّها ليست إنشائيّة كما أنّها ليست لبيان الحصص الخاصّة من المعاني الاسميّة وغيرها.

ثانيها: إنّه قد تكون الحروف لتضييق النسب الموجودة في الكلام التي هي بنفسها من المعاني الحرفيّة كقولك «عليك بإكرام زيد في دارك» فإنّ كلمة «في» هنا إنّما هي لتضييق نسبة الإكرام إلى زيد لا تقييد الإكرام ولا تقييد نفس زيد كما لا يخفى على المتأمّل.

ثالثها: وهو العمدة ما

أوردناه سابقاً على مذهب المحقّق النائيني رحمه الله وهو أنّ التضييق لا يخلو من أحد أمرين: إمّا أن يكون مع الحكاية والدلالة على الخارج أو بدونها، فإن لم يكن مع الدلالة فلا معنى له، وإن كان مع الحكاية والدلالة فيكون دور الحروف أوّلًا هو الدلالة على معنى والحكاية عن الخارج، ثمّ تضييق المعاني الاسميّة بواسطتها.

أمّا القول الخامس: فقد مرّ بيانه ويزيدك توضيحاً: إنّ الموجودات الممكنة على ثلاثة أقسام:

الأوّل: وجود في نفسه لنفسه، أي وجود مستقلّ في الذهن والخارج وهو الجوهر، نحو الروح والجسم.

الثاني: وجود في نفسه لغيره فيكون مستقلًا في المفهوم فقط ولكن إذا وجد وجد في انوار الأصول، ج 1، ص: 57

الموضوع وهو العرض، نحو البياض والسواد.

الثالث: وجود في غيره لغيره فلا استقلال له لا في المفهوم ولا في الخارج.

ولكلّ من هذه الأقسام في عالم اللفظ كلمات تدلّ عليها وما يدلّ على القسم الثالث منها هو الحروف: فهي تدلّ على مفاهيم غير مستقلّة في الذهن والخارج وتكون حاكيات عنها كما يظهر بمراجعة الوجدان ولا تدلّ على الإيجاد أو التضييق إلّابسبب دلالتها على ما ذكرنا كما مرّ.

ولقد أجاد بعض الأعاظم حيث قال: إنّ معاني الحروف غير مستقلّة في أربع جهات: في الوجود الخارجي، والوجود الذهني وفي الدلالة، بمعنى إنّ دلالتها على المعاني ليست بمستقلّة فلا يكون لكلمة «في» مجرّداً عن الاسم أو الفعل مدلولًا، وفي كيفية الدلالة، فلا استقلال لها في الإفراد والتثنية والجمع مثلًا بل تكون تابعة لموردها، فإن كان المورد مفرداً تكون دلالتها على النسبة أيضاً مفردة وهكذا.

هذا ولكن مع ذلك كلّه فهنا سؤالان نذكرهما ونجيب عنهما:

1- ما هو الدليل على أنّ الحروف وضعت للقسم الثالث من هذه المفاهيم؟ فإنّ ما ذكر هو مجرّد

دعوى.

الجواب: هو بأنّه مقتضى حكمة الوضع، لأنّا نشاهد في الجمل الخبريّة وغيرها اموراً لا يحكي الاسم عنها ولا الفعل، فالحكمة تقتضي أن توضع بإزائها أيضاً كلمة كما وضعت للمعاني الاسميّة والفعليّة، وليست هي إلّاالحروف، ويدلّ عليه التبادر أيضاً.

2- ما هو الوجه فيما إذا استعملنا الحروف في الواجب تعالى أو الممتنع، وقلنا مثلًا: «هو الذي في السماء إله» أو «اجتماع النقيضين في محلّ واحد محال»، فكيف تدلّ كلمة «في» في الجملة الاولى على وجود نسبة حقيقية بين الواجب والسماء، وفي الثانيّة على وجود نسبة بين «اجتماع النقيضين» الذي لا وجود له، و «محلّ واحد»؟ أليس هذا من المجاز؟

الجواب: هو أنّ حكمة الوضع في الألفاظ هي رفع الحاجات اليوميّة، وبالطبع يكون المقياس هو المعاني الممكنة الاعتياديّة، بل ربّما لم يكن الواضع معتقداً بالواجب، أو لا يتحقّق له تصوّر للممتنع، وحينئذٍ يكون الموضوع له للألفاظ هو خصوص الممكنات أوّلًا وبالذات، فإذا استعمل في الواجب أو الممتنع يوسّع المعنى أو يضيق، وسيأتي بيانه وتوضيحه إن شاء اللَّه تعالى في مبحث المشتقّ.

انوار الأصول، ج 1، ص: 58

هذا ولكن هذا القول وإن كان قويّاً من بعض الجهات لكن لا يشمل تمام أقسام الحروف كما يظهر ذلك عند بيان القول المختار.

المختار في المعاني الحرفيّة

الحقّ أنّ الحروف على أقسام مختلفة لا يمكن جعلها تحت عنوان واحد، فقسم منها حاكيات عن النسب والحالات القائمة بغيرها على المنهج الذي مرّ في القول الخامس، وقسم آخر إيجادي إنشائي نحو «ليت» و «لعلّ» و «حروف النداء» وما أشبهها لا تحكي عن شي ء بل ينشأ بها معانيها، وقسم ثالث منها علامات لربط الكلام مثل حروف الاستئناف والعطف في الكلام، وقسم رابع يكون لها معنى اسمي نحو كاف التشبيه التي تكون بمعنى

«مثل»، كلّ ذلك يعلم ممّا ذكرناه في نقل الأقوال السابقة ونقدها مع ما يعلم بالتبادر منها فلا يمكن سوق جميع الحروف سياقاً واحداً.

إن قلت: فلا جامع بين المعاني الحرفيّة، فيكون الحرف مشتركاً لفظيّاً يطلق على أربعة معان.

قلنا: أوّلًا: إنّا لا نأبى عن ذلك.

وثانياً: يمكن أن يتصوّر للثلاثة الاولى جامعاً وهو «ما ليس له معنى مستقلّ» لا في الذهن ولا في الخارج أعمّ من أن يكون على نحو السالبة بانتفاء الموضوع كالقسم الثالث، أو كان له معنى غير مستقلّ وهو القسم الأوّل والثاني، أمّا القسم الرابع فإنّه وإن كان له معنى مستقلّ إلّا أنّه يلحق بالثلاثة لشباهته بها لفظاً، بل ومن حيث المعنى من بعض الجهات يكون التشبيه الذي هو مفاد الكاف قائماً بالطرفين، وهما المشبه والمشبه به، فيمكن ادخاله تحت ذلك الجامع ببعض الملاحظات، ولكن العمدة إنّه لا دليل على لزوم أخذ الجامع بينهما كما عرفت.

إن قلت: يمكن أن يقال: إنّ كاف التشبيه تحكي وتدلّ على المماثلة الخارجيّة الواقعيّة بين زيد والأسد مثلًا في جملة «زيد كالأسد» فلا فرق حينئذٍ بينهما وبين معنى الابتداء، فكما إنّ معنى الابتداء قائم في حرف «من» كذلك المماثلة تكون قائمة بالمشبه والمشبه به، وعليه يكون معنى الكاف غير مستقلّ كسائر المعاني الحرفيّة.

قلنا: هذا في الحقيقة خلط بين عدم الاستقلال في الوجود الخارجي والوجود الذهني، فإنّ انوار الأصول، ج 1، ص: 59

المماثلة وإن لم تكن مستقلة في الوجود الخارجي كجميع العوارض لا سيّما ما كانت ذات إضافة، ولكنّها معنى مستقل في الذهن، ولذلك يمكن جعل كلمة «مثل» محلّه، بخلاف معنى «من» و «في» فإنّهما غير مستقلّين في افق الذهن كما هما كذلك في الخارج، ولا يمكن جعل «الابتداء» و «الظرفيّة» محلّهما.

و

بقي هنا امور:

1- إنّ الوضع في الحروف عامّ والموضوع له خاصّ، لأنّ «من» مثلًا لم توضع للابتداء الكلّي المتصوّر في الذهن حين الوضع، بل وضعت لمصاديقه الجزئيّة في الخارج، لأنّها تحكي عن الابتداء الذي تكون حالة لغيره في مثل «سرت من البصرة إلى الكوفة» فيكون الموضوع له خاصّاً لجزئيّة المصداق، والوضع عامّاً لعدم إمكان إحصاء هذه المصاديق لكثرتها، فنحتاج في تصوّرها إلى تصوّر جامع وعنوان مشير إليها، ولولا ذلك لم يكن فرق بينه وبين لفظ الابتداء.

هذا كلّه بالنسبة إلى القسم الأوّل من الحروف.

أمّا القسم الثاني وهي التي تدلّ على المعاني الإيجاديّة فيكون الموضوع له فيها جزئيّاً حقيقيّاً خارجياً لأنّها وضعت للإنشاء الذي هو إيجاد، ومن المعلوم أنّ ما يوجد بكلمة «يا» مثلًا في جملة «يازيد» هو النداء الجزئي الخارجي لا تعدّد ولا تكثّر فيه.

أمّا القسم الثالث الذي يكون من قبيل العلامة فلا يتصوّر فيه الوضع والموضوع له المعهودان في باب الألفاظ اللّذين هما محلّ الكلام (لعدم دلالته على معنى).

وأمّا القسم الرابع فلا نأبى فيه من كون الوضع فيه عاماً والموضوع له أيضاً عامّاً كأسماء الأجناس، ولكنّه قليل جدّاً.

2- إنّ معاني الحروف وإن كانت غير مستقلّة لا تلاحظ في أنفسها بل تلاحظ في غيرها لكن ليس هذا بمعنى الغفلة عنها وعدم النظر إليها كما قيل، بل ربّما تكون هي المقصود بالبيان فقط، كما يقال: «هذا عليك لا لك» فيكون قصد المتكلّم فيها معنى «على» و «اللام»، ولا يكون غيرهما مقصوداً بالذات، وسيأتي في باب الواجب المشروط ثمرة هذه النكتة بالنسبة إلى القيود الواردة في الجملة وأنّها هل ترجع إلى المادّة أو الهيئة؟ فقال بعض استحالة رجوعها إلى انوار الأصول، ج 1، ص: 60

الهيئة لكونها من المعاني الحرفيّة،

وهي مغفول عنها لا ينظر إليها، ولكن ظهر ممّا ذكرنا في المقام أنّ عدم استقلال معاني الحروف لا يساوق عدم النظر إليها وصيرورتها مغفولًا عنها، بل المراد قيامها بالطرفين في الذهن والخارج، فلا إشكال في جواز تقييدها بالقيود الواردة في الجملة.

3- إنّه لا يمكن المساعدة على ما أفاده شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله في الواجب المشروط (من رجوع القيد إلى المادّة بدليل أنّ المعنى الحرفي جزئي حقيقي لا يقبل التقييد، وأنّ الهيئة الدالّة على الوجوب في الواجب المشروط من المعاني الحرفيّة) لما ظهر من أنّ الموضوع له في الحروف كثيراً ما يكون جزئيّاً إضافياً ذا أفراد كثيرة، يقبل التقييد، بل يكون غيره فيها نادراً جدّاً، نعم في الحروف الإيجاديّة الإنشائيّة الموضوع له جزئي حقيقي لأنّ الإنشاء من قبيل الإيجاد، والإيجاد والوجود لا يكونان إلّاجزئيّاً حقيقيّاً.

4- إنّ الفرق بين المعاني الحرفيّة والأسماء المرادفة لها نحو كلمة «الظرفيّة» بالنسبة إلى معنى «في» هو أنّ الظرفيّة الحرفيّة قائمة بخصوص الظرف والمظروف حتّى في الذهن بخلاف الظرفيّة الاسميّة فإنّها مجرّدة عن الطرفين في الذهن، وإن كانت قائمة بهما في الخارج، فالفرق بينهما فرق جوهري ليس منحصراً في مجرّد اشتراط الواضع كما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله.

5- إنّ معنى ما روى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سلام اللَّه عليه وهو: «الكلمة اسم وفعل وحرف، والاسم ما أنبأ عن المسمّى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمّى والحرف ما أوجد معنى في غيره ليس ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله فانه لحفظ ظاهر الحديث وقوله في ذيله:

«والحرف ما أوجد معنىً في غيره» ذهب إلى أنّ معنى الحرف إيجادي، وكأنّ هذا هو منشأ ما ذهب إليه بعض آخر من الأكابر

من أنّ معنى الحرف عبارة عن تضييق المعاني الاسميّة.

بل إنّ لهذا الحديث مضافاً إلى كونه ظنّياً من ناحية السند (لكونه خبراً واحداً فلا ينتقض به الأمر القطعي) تفسيراً آخر.

فنقول: أمّا الفقرة الاولى منها (الاسم) فمعناها واضح لا إشكال فيه.

وأمّا الفقرة الثانيّة (الفعل) فيحتمل فيها معنيان:

الأوّل: أنّ مادّة الفعل مثل «الضرب» مفهوم اسمي لا دلالة له على الزمان لكن يدلّ عليه هيئة الفعل، فهيئة «ضرب» مثلًا تدلّ على زمان وقوع الضرب ويكون بهذا المعنى منبأً عن حركة المسمّى، فالمراد من الحركة حينئذٍ هو الزمان.

انوار الأصول، ج 1، ص: 61

الثاني: أن يكون المراد أنّ الأفعال تدلّ على حدوث الاسم، والحدوث هو الحركة التي تلازم الزمان، وبعبارة اخرى: الأسماء تدلّ على مجرّد الوجود والتحقق والأفعال تدلّ على الحركة في الوجود، أي الصيرورة.

أمّا الفقرة الثالثة (الحرف) فلها أيضاً تفسيران:

أحدهما: ما هو ظاهرها وهو إيجاديّة معنى الحرف أو كونه للتضييق.

ثانيهما: أن يكون المراد أنّ الحرف لدلالته على معنى وحكايته عنه يوجد معنىً وربطاً في غيره. فلا يوجد به الربط ابتداء وبدون الحكاية كما مرّ، بل الربط ناشٍ عن حكايتها لمعانيها الخاصّة.

والأولى في تفسير الرّواية هو التفسير الثاني كما يساعده الاعتبار.

هذا كلّه من ناحية الدلالة، وأمّا من ناحية السند فالظاهر أنّه لم ينقل بطرق صحيحة عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام ولكنّه مرويّ في كتب كثيرة حتّى ادّعي اشتهارها كإشتهار الشمس في رائعة النهار، وأحسن ما رأيت في جمع هذه الطرق للحديث هو ما كتبه العلّامة السيّد حسن الصدر رحمه الله في كتابه «تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام» من صفحة 55 إلى ما بعدها فقد نقلها رحمه الله عن عدّة من الأكابر.

وقال سيّدنا المرحوم آية اللَّه البهبهاني، في كتاب كتبه في شرح هذه

الرّواية الشريفة وسمّاها بالاشتقاق «إنّ اشتهارها بين أهل العربيّة يغني عن تحقيق إسنادها».

ولم يكتف هو رحمه الله بجبر إسنادها بسبب الشهرة بل قال: «بأنّ علوّ متنها أيضاً دليل على صحّة سندها» وقال في بعض كلماته «إنّ سطوع نورها ووقود نارها واشتمالها على نفائس أسرار قد خفى جلّها على الجلّ بل على الكلّ كما سيظهر لك إن شاء اللَّه ينادي بعدم صدورها إلّا من عين صافية فينبغي تصحيح إسنادها بمتنها لا متنها بإسنادها» «1».

أقول: ولكن الإشكال هو أنّ متن الرّواية مختلف ففي غير واحد منها روي كما عرفت تفسيره آنفاً، ولكن في طريق آخر الذي نقله الأمير سيّد شريف الجرجاني في شرح الإرشاد في النحو للتفتازاني هكذا: «... والحرف أداة بينهما» «2». وهذا لا يوافق كون الحروف إيجاديّة بل انوار الأصول، ج 1، ص: 62

يوافق ما ذكرنا وما ذكره المشهور في معنى الحروف وإنّها معانٍ غير مستقلّة.

6- إنّه لا فرق بين كاف التشبيه وكلمة «مثل» في المعنى وإن افترقا في بعض الاستعمالات، فيأتي فيها كلمة «مثل» دون «الكاف» وهذا لا ينافي كون معناها مفهوماً اسميّاً كما يكون كذلك في الضمائر المتّصلة والمنفصلة، فإنّه قد لا يمكن استعمال بعضها في مورد بعض وإن كان المعنى واحداً، والشاهد على عدم الفرق جواز استعمال أحدهما في موضع الآخر وإن كان لكلّ واحد منهما آثاره الخاصّة من حيث اللفظ من قبيل وقوع «مثل» مبتدأ دون «الكاف».

هذا تمام الكلام في المعاني الحرفيّة.

5- الكلام في الفرق بين الإنشاء والإخبار

قال صاحب الكفاية رحمه الله هنا ما حاصله: إنّه قد ظهر ممّا ذكرنا عدم الفرق بين الإخبار والإنشاء لا في الموضوع له ولا في المستعمل فيه، بل الفرق في كيفية الاستعمال وغايته، فالموضوع له والمستعمل فيه في جملة «بعت» حال

الإخبار والإنشاء واحد، إلّاأنّ «بعت» الخبريّة وضعت لأن يراد منها الحكاية عن الخارج و «بعت» الإنشائيّة وضعت لأن يراد منها إيجاد البيع وإنشائه في عالم الاعتبار.

أقول: قد ظهر ممّا سبق ما هو الحقّ في المسألة أيضاً، وهو أنّ الإنشاء والإخبار أمران مختلفان، ذاتاً وجوهراً كما هو مقتضى حكمة الوضع، أمّا الإخبار فهو في الواقع بمنزلة التصوير من الخارج بآلة التصوير من دون تصرّف من ناحية المصوّر. وأمّا الإنشاء فهو إيجاد معنى في عالم الاعتبار من دون أن يكون بإزائه في الخارج شي ء يحكى عنه، لأنّ يد الجعل لا تنال عالم التكوين بل هي مختصّة بالامور الاعتباريّة، ويأتي إن شاء اللَّه تعالى في مبحث الأمارات في مقام بيان حقيقة حجّية الأمارات أنّه لا معنى لكون الحجّية هناك بمعنى جعل صفة القطع كما قال به المحقّق النائيني رحمه الله، لأنّ القطع أمر تكويني لا يقبل الجعل التشريعي وبالنتيجة لا شباهة بين ماهيّة الإنشاء وماهية الإخبار، والفرق بينهما هو نفس الفرق بين الامور التكوينيّة والاعتباريّة، وأمّا نحو جملة «بعت» التي تستعمل في الإخبار والإنشاء كليهما فإنّها من قبيل الألفاظ المشتركة التي وضعت لمعنيين مختلفين ولا بأس بالالتزام به.

تكملة: في ما أفاده بعض الأعلام في المقام. وحاصله: إنّ ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله مبني انوار الأصول، ج 1، ص: 63

على ما هو المشهور بينهم بل المتسالم عليه من أنّ الجمل الخبريّة موضوعة لثبوت النسبة في الخارج أو عدم ثبوتها فيه، وإنّ الجمل الإنشائيّة موضوعة لايجاد المعنى في الخارج الذي يعبّر عنه بالوجود الإنشائي. والصحيح أنّ الجملة الخبريّة موضوعة للدلالة على قصد الحكاية والإخبار عن الثبوت أو النفي في الخارج، ولم توضع للدلالة على ثبوت النسبة في الواقع أو نفيها

عنه وذلك لسببين:

أحدهما: إنّها لا تدلّ ولو ظنّاً على ثبوت النسبة أو عدمه مع قطع النظر عن حال المخبر (من حيث الوثاقة) وعن القرائن الخارجيّة مع أنّ دلالة اللفظ لا تنفكّ عن مدلوله الوضعي بقانون الوضع وإلّا لم يبق للوضع فائدة، فإذا فرضنا أنّ الجملة بما هي هي لا تدلّ على تحقّق النسبة في الواقع ولا كاشفية لها عنه أصلًا ولو ظنّاً، فما معنى كون الهيئة موضوعاً لها؟ بل يصبح ذلك لغواً فلا يصدر من الواضع الحكيم.

ثانيهما: إنّ الوضع عبارة عن التعهّد والالتزام النفساني، ومن الواضح أنّ التعهّد والالتزام لا يتعلّقان إلّابالفعل الاختياري، إذ لا معنى للتعهّد بالإضافة إلى أمر غير اختياري، وبما أنّ ثبوت النسبة أو نفيها في الواقع خارج عن الاختيار فلا يعقل تعلّق الالتزام، به فالذي يمكن أن يتعلّق الالتزام به هو إبراز قصد الحكاية في الإخبار.

والنتيجة: أنّ الجملة الخبريّة وضعت لإبراز قصد الحكاية والإخبار عن الواقع ونفس الأمر.

وأمّا الجملة الإنشائيّة فهي موضوعة لإبراز أمر نفساني غير قصد الحكاية، ولم توضع لايجاد المعنى في الخارج، والوجه في ذلك هو إنّهم لو أرادوا بالإيجاد الإيجاد التكويني فبطلانه من الضروريات. وإن أرادوا به الإيجاد الاعتباري كإيجاد الوجوب والحرمة أو الملكيّة والزوجيّة وغير ذلك، فيردّه إنّه يكفي في ذلك نفس الاعتبار النفساني من دون حاجة إلى اللفظ والتكلّم به. نعم اللفظ مبرز له في الخارج لا إنّه موجد له.

ومن هنا يعلم إنّه لا فرق بينها وبين الجملة الخبريّة في الدلالة الوضعيّة والإبراز الخارجي:

وإنّما الفرق بينهما في ما يتعلّق به الإبراز، فإنّه في الجملة الإنشائيّة أمر نفساني لا تعلّق له بالخارج، ولذا لا يتّصف بالصدق أو الكذب، بل يتّصف بالوجود أو العدم، وفي الجملة الخبريّة

انوار الأصول،

ج 1، ص: 64

أمر يتعلّق بالخارج فإن طابقه فصادق وإلّا فكاذب «1» (انتهى ملخّصاً).

لكن يرد عليه امور:

الأمر الأوّل: إنّه يستلزم كون جملة «بعت» الإنشائيّة والجملة المعادلة لها (بناءً على ما ذهب إليه) وهي «اعتبرت في نفسي ملكيّة هذا لزيد مثلًا» كالمترادفين فيصحّ حينئذٍ جعل إحديهما موضع الاخرى، مع أنّه خلاف الوجدان، لأنّا نجد بوجداننا إيجاد الملكيّة أو الزوجيّة مثلًا بجملة «بعت» أو «زوّجت» ولا نجده في جملة «اعتبرت في نفسي ملكيّة هذا» (بعنوان الحكاية عمّا في ضميره).

الأمر الثاني: إنّه لو كان حقيقة الإخبار إبراز قصد الحكاية فانه يستلزم أن لا تكون الجمل الخبريّة بنفسها مصاديق للحكاية عن الخارج، وهو خلاف الوجدان، لأنّا ندرك بصريح وجداننا إنّها حاكيات عن الخارج، وأمّا ما ذكره من أنّها لا تدلّ على ثبوت النسبة في الخارج ولو ظنّاً إلّابعد وثاقة المخبر والقرائن الخارجيّة فهو من قبيل الخلط بين الدلالة التكوينيّة كدلالة الدخّان على وجود النار، والدلالة الوضعيّة الالتزاميّة كدلالة الألفاظ على معانيها، والمنفي هو الثاني لا الأوّل.

وإن شئت قلت: الألفاظ كالصور المرتسمة، فإنّها بأجمعها تحكي عن الخارج سواء كان هناك إنسان قصد الحكاية أم لا، ومع ذلك هذه الصور قد تكون مطابقة للواقع واخرى مخالفة له.

الأمر ثالث: إنّ لازم كلامه قبول الإنشاء للصدق والكذب، فإنّ من قال: «بعت داري» يحكي عن أمر نفساني خاصّ بناءً على ما ذكره من أنّه لإبراز ما في النفس، وهذا قد يكون مطابقاً للواقع وقد يكون مخالفاً إذا لم يكن في نفسه من هذا الأمر الاعتباري عين ولا أثر.

الأمر الرابع: (وهو العمدة) إنّ الإنصاف كون حقيقة الإنشاء إيجاد أمر اعتباري بأسبابه المعتبرة عند العقلاء، وبعبارة اخرى: حقائق هذه الامور (الملكيّة والزوجيّة وغيرهما) اعتبارات عقلائيّة وقد جعلوا

للوصول إليها أسباباً، ومن توسّل بهذه الأسباب فقد أوجدها

انوار الأصول، ج 1، ص: 65

في وعائها، ولا ينافي ذلك أن يكون له شرائط مختلفة ممّا يعتبر في البائع والمشتري والعوضين، فمن تعدّاها لم يصل إلى هذه الاعتبارات. وهو نظير إمضائه في دفتر الأسناد فيما إذا أراد انتقال ملكه إلى الغير، فإنّ إمضاءه هذا يوجب اعتبار العقلاء الملكيّة للمشتري ويترتّب عليه آثار خاصّة عندهم، وبه يوجد مصداق من مصاديق سبب الملكيّة الذي اعتبره العقلاء سبباً.

وعلى هذا فيصحّ أن نقول: إنّ حقيقة الإنشاء إيجاد الامور الاعتباريّة لا إبراز الاعتبارات النفسانيّة، والاعتبارات النفسانيّة الشخصيّة بمجرّدها غير كافية في حصول هذه العناوين عند العقلاء إلّاأن يكون بأسباب خاصّة عندهم.

هذا تمام الكلام في الفرق بين الإنشاء والإخبار.

6- الكلام في معاني أسماء الإشارة

وفيه ثلاثة أقوال:

القول الأوّل: ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله وإليك نصّه: «ثمّ إنّه قد إنقدح ممّا حقّقناه إنّه يمكن أن يقال إنّ المستعمل في مثل أسماء الإشارة والضمائر أيضاً عام وإن تشخّصه إنّما نشأ من قبل طور استعمالها، حيث إنّ أسماء الإشارة وضعت ليشار بها إلى معانيها وكذا بعض الضمائر، وبعضها ليخاطب بها المعنى، والإشارة والتخاطب يستدعيان التشخّص كما لا يخفى».

وفيه: أنّ كلامه هذا نشأ من ما مرّ من المبنى الذي بنى عليه في المعاني الحرفيّة فالجواب هو الجواب ولا حاجة إلى التكرار.

القول الثاني: ما قال به المحقّق الإصفهاني رحمه الله وإليك نصّ كلامه: «التحقيق أنّ أسماء الإشارة والضمائر موضوعة لنفس المعنى عند تعلّق الإشارة به خارجاً أو ذهناً بنحو من الأنحاء، فقولك «هذا» لا يصدق على زيد مثلًا إلّاإذا صار مشاراً إليه باليد أو بالعين مثلًا، فالفرق بين مفهوم لفظ المشار إليه ولفظ «هذا» هو الفرق بين العنوان والحقيقة نظير الفرق بين لفظ

الربط والنسبة، ولفظ «من» و «في» وغيرهما، وحينئذٍ فعموم الموضوع له لا وجه له بل الوضع حينئذٍ عام والموضوع له خاصّ كما عرفت في الحروف» «1».

ووافقه على ذلك المحقّق النائيني رحمه الله إلّاأنّه اكتفى بأنّها وضعت لمعانيها المقيّدة بالإشارة إليها

انوار الأصول، ج 1، ص: 66

من غير تقييد بكونها خارجيّة أو ذهنية.

إن قيل: ينتقض كلامهما بقولك: «اصلّي في هذا المسجد» إذا كنت جالساً فيه لأنّه في مثل هذه الحالة لا حاجة إلى ضمّ الإشارة بالحسّ أو الذهن بل يكتفي بلفظ «هذا المسجد» فحسب.

ولكن يمكن الجواب عنه بأنّ المسجد في هذا المثال حاضر في الذهن فيشار إليه أيضاً بالإشارة الذهنيّة، نعم يرد عليهما ما سيتّضح لك في بيان المختار في المقام فانتظر.

القول الثالث: ما في تهذيب الاصول وحاصله: إنّ ألفاظ الإشارة وضعت لايجاد الإشارة فقط.

وبعبارة اخرى: إنّ ألفاظ الإشارة تقوم مقام الإشارة بالاصبع وإشارة الأخرس، فكما أنّه بإشارة الاصبع توجد الإشارة كذلك بلفظ «هذا» مثلًا، ولذلك يقوم أحدهما مقام الآخر، فالموضوع له في كلّ واحد منهما نفس الإشارة، وعلى هذا فيندرج تلك الألفاظ في باب الحروف ولا استقلال لها لا في الذهن ولا في الخارج، فكما لا تدلّ كلمة «من» أو «إلى» على معنى مستقلّ، كذلك كلمة «هذا» فلا تدلّ على معنى كذلك، فألفاظ الإشارة في الحقيقة حروف لا أسماء، ثمّ أورد على نفسه إنّه كيف تترتّب عليها الآثار الاسميّة نحو وقوعها مبتدأ أو فاعلًا أو مفعولًا؟ وأجاب عنه بأنّ المبتدأ وشبهه في هذه الموارد ليس لفظ «هذا» مثلًا، بل هو في الواقع المشار إليه الموجود في الذهن، فيكون من القضايا التي تركّبت من أمر ذهني وأمر خارجي «1». (انتهى).

ويرد عليه ما سيأتي في مقام بيان المختار أيضاً.

المختار

في معنى أسماء الإشارة وبيانه يحتاج إلى تقديم امور:

الأوّل: أنّ حقيقة الإشارة تعيين شي ء من بين الأشياء المتشابهة في الخارج كما لا يخفى.

الثاني: أنّ لكلّ من الإشارة الحسّية والإشارة اللّفظيّة نقصاً لا يكون للآخر، فالإشارة الحسّية لا تدلّ على الإفراد والتثنية والجمع والتذكير والتأنيث بخلاف الإشارة اللّفظيّة، كما أنّ اللّفظيّة لا يتعيّن ولا يتشخّص بها المشار إليه بخلاف الحسّية، ولذا تضمّ إلى الإشارة اللّفظيّة

انوار الأصول، ج 1، ص: 67

الإشارة الحسّية لتعيين المشار إليه.

الثالث: أنّه لا ينبغي الشكّ في كون ألفاظ الإشارة أسماء كما عليه اتّفاق النحويين، وهو موافق لما نجده بالتبادر عند ذكرها. فإنّا نفهم وجداناً من إطلاق لفظ «هذا» وشبهه معنىً مستقلًا لا يشابه المعاني الحرفيّة وإن كان مجملًا أو مبهماً من بعض الجهات، وإنكار هذا مكابرة.

إذا عرفت هذا فاعلم: أنّ هناك ما يدلّ على الإشارة تكويناً قبل وضع الألفاظ كالإشارة باليد والعين والرأس والحصى والعصا وغيرها، وهي كلّها تدلّ على معنى معيّن في الخارج، ثمّ وضعت لها ألفاظ يقوم مقامها من جميع الجهات أو من بعضها، وهذه الألفاظ أتمّ دلالة منها من جهة دلالتها على الإفراد والتثنية والجمع والمذكّر والمؤنّث وعلى الإشارة إلى القريب والبعيد ولكنّها قاصرة من ناحية تعيين المشار إليه أحياناً، فحينئذٍ لا تتمّ دلالتها إلّابأن ينضمّ إليها الإشارة الحسّية أو الذهنيّة.

وإن شئت قلت: مدلولات أسماء الإشارات مفاهيم اسمية وإن كانت فيها رائحة الحروف فلها من حيث دلالتها على المفرد والتثنية والجمع والمذكّر والمؤنّث معانٍ اسمية، ومن حيث اشتمالها على إيجاد الإشارة- لها رائحة الحروف.

وممّا ذكرنا ظهر ضعف القول بأنّها من قبيل الحروف كما ظهر أنّه ليس مفادها مجرّد المعنى عند تعلّق الإشارة بها خارجاً أو ذهناً بل فيها إنشاء الإشارة بنفس

ألفاظها وإن كانت قاصرة من بعض الجهات، فالإشارة مأخوذة في حاق معانيها لا أمر خارج عنها.

وأمّا ما أفاده في التهذيب من أنّ الحقّ في قضيّة «هذا قائم» إنّه من قبيل التركيب بين الموضوع الخارجي واللّفظي (فالمبتدأ أمر خارجي بنفسه والخبر محكي عنه بلفظ «قائم») فهو خلاف الوجدان أيضاً، لأنّ المتبادر من هذه الجملة أنّ المبتدأ هو ما يستفاد من معنى «هذا» كما يظهر بمراجعة علماء العربيّة أيضاً، فإنّ اتّفاقهم على أنّ نفس «هذا وأشباهه» هي المبتدأ شاهد على المقصود. هذا تمام الكلام في أسماء الإشارة.

7- الكلام في الضمائر

وقع الاختلاف في تعيين مفهومها بين الاصوليين.

انوار الأصول، ج 1، ص: 68

فقال المحقّق الخراساني رحمه الله: إنّها على قسمين: فبعضها وضع ليشار به إلى معنى، وهي الضمائر الغائبة، وبعض آخر وضع لأن يخاطب به المعنى، ثمّ قال: والإشارة والتخاطب حين الاستعمال يستدعيان التشخّص فلا يكونان جزئين من الموضوع له بل الموضوع له هو المفرد المذكّر الكلّي المتصوّر حين الوضع، وعلى هذا فالوضع والموضوع له فيها عامّ.

قد يقال: إنّ الضمائر كلّها إيجاديّة، أمّا الغائب منها فيوجد بالإشارة كأسماء الإشارة، فوزانها وزان أسماء الإشارة، وأمّا المخاطبة منها فيوجد بها الخطاب.

أقول: الحقّ فيها هو التفصيل بين ضمائر الغيبة والخطاب والتكلّم، أمّا الغائب منها فلا دلالة لها على الإشارة، ويشهد عليه قيامها مقام تكرار الاسم، فيقال بدل جملة: «جاء زيد وجلس زيد» «جاء زيد وجلس» (والضمير مستتر فيه)، وأمّا ضمير المخاطب أو المتكلّم فيدلّ على نوع من الإشارة، ويشهد عليه عدم قيام اسم الظاهر مقامهما، فلا يمكن أن يقال بدل «أنا قائم» أو «أنت قائم» «زيد قائم» كما يشهد عليه أيضاً انضمام الإشارة باليد أو الرأس ونحوهما حين إطلاقهما كما في أسماء الإشارة.

إن قلت: فما

الفرق بين اسم الإشارة وضمير المتكلّم والمخاطب؟

قلنا: الفرق بينهما أنّ اسم الإشارة يدلّ على الإشارة وتعيين المشار إليه فقط، وأمّا ضمير المخاطب والمتكلّم فمضافاً إلى دلالتهما على الإشارة، يدلّان على كون المشار إليه مخاطباً (في المخاطب) ومتكلّماً (في المتكلّم). هذا كلّه في الضمائر.

8- الموصولات

ففي تهذيب الاصول ما حاصله: إنّ في الموصولات أيضاً نوعاً من الإشارة فمعانيها معاني إيجاديّة، وضعت لايجاد الإشارة إلى مبهم يتوقّع رفع ابهامه بالصلة «1».

أقول: الموصولات يكون وزانها وزان ضمائر الغيبة ولا تدلّ على الإشارة أصلًا، والشاهد عليه قيام اسم الظاهر مقامها فيقال بدل: «جاء الذي قتل عمراً» «جاء قاتل عمرو» وهي بذواتها مبهمة من جميع الجهات إلّامن ناحية الصلة والإفراد والتثنية والجمع والتذكير

انوار الأصول، ج 1، ص: 69

والتأنيث، فالمعلوم عندنا من «الذي» في المثال هو ذات مبهمة من جميع الجهات إلّامن ناحية اتّصافها بأنّها قاتل عمرو، ولذلك يقوم وصف «القاتل» مقامها.

هذا تمام الكلام في الموصولات، وبه انتهى البحث عن الأمر الثاني من الامور المبحوث عنها بعنوان المقدّمة.

وملخّص ما اخترناه فيه:

أوّلًا: أنّ الحروف المصطلحة يكون الوضع فيها عامّاً والموضوع له خاصّاً.

وثانياً: أنّ معاني أسماء الإشارة مركّبة من معنى اسمي ومعنى حرفي، فباعتبار إنّها متضمّنة للمعنى الحرفي يكون الوضع فيها عامّاً والموضوع له خاصّاً أيضاً كما في الحروف.

وثالثاً: ضمائر الخطاب والتكلّم وزانها وزان أسماء الإشارة لتضمنها معنى الإشارة، فتلحق بالحروف فيكون الوضع فيها عامّاً والموضوع له خاصّاً، وضمائر الغيبة معانيها اسمية لا تدلّ على نوع من الإشارة ولكن الموضوع له فيها عام لأنّ معانيها مبهمة إلّامن ناحية مرجعها، لا كلّي المرجع بل اشخاصه.

ورابعاً: أنّ الموصولات وزانها وزان ضمائر الغائب لا إشارة في معانيها أصلًا بل وضعت لمعان مبهمة من جميع الجهات إلّامن جهة الصلة،

لكن الظاهر أنّ الموضوع له فيها أيضاً خاصّ لأنّ قيدها ليس هو الصلة بمعنى كلّي عام بل أفراده الخاصّة، فتدبّر جيّداً.

الأمر الثالث: هل المجاز بالطبع أو بالوضع؟

اشارة

إنّ صحّة استعمال الألفاظ في المعاني المجازيّة هل هي بالوضع أو بالطبع؟ (والمراد بالوضع ليس خصوصّيات المجازات لأنّها غير محصورة بل المراد نوع العلائق).

قال المحقّق الخراساني رحمه الله: «الأظهر إنّها بالطبع بشهادة الوجدان بحسن الاستعمال فيه إذا كان مناسباً ولو مع منع الواضع عنه وبإستهجان الاستعمال فيما لا يناسبه ولو مع ترخيصه ولا معنى لصحّته إلّاحسنه».

أقول: إنّ ما اختاره هو الحقّ الحقيق بالتصديق ويمكن أن يستدلّ له بوجوه ثلاثة أشار إلى بعضها في كلامه:

الوجه الأوّل: أنّ الوجدان شاهد على أنّ الناس لا ينتظرون إذن الواضع في المجازات بل يستعملون كلّ لفظ في ما شابه المعنى الحقيقي من جهة من الجهات بعد ما يجدون حسنه في ارتكازهم.

الوجه الثاني: أنّه لو فرض أنّ الواضع منع من بعض الاستعمالات المجازيّة مع كونه مقبولًا عند الطبع لا يعتني أحد به، بل يعدّ استعماله في مثل هذا صحيحاً عند أبناء المحاورة.

الوجه الثالث: تسانخ المجازات وتشابهها في جميع الألسنة واللغات، مع أنّه لو كان الاستعمال المجازي متوقّفاً على إذن الواضع كانت وحدة المجازات في الألسنة المختلفة بعيدة جدّاً لعدم إمكان التواطؤ من ناحية الواضعين عادة. خصوصاً إذا لم يكن الواضع فرداً خاصّاً كما هو الغالب.

تتميم في الحقيقة والمجاز

هل المجاز استعمال اللفظ في غير ما وضع له كما هو المعروف والمشهور في معنى المجاز، أو استعماله في نفس الموضوع له، وملاك المجازيّة أمر آخر؟ فيه أقوال ثلاثة:

انوار الأصول، ج 1، ص: 72

أحدها: ما ذهب إليه المشهور وهو أنّ المجاز استعمال اللفظ في غير ما وضع له بالعلاقة.

ثانيها: قول السكّاكي وهو التفصيل بين مجاز الاستعارة وغيرها، ففي الأوّل قال يكون المجاز استعمالًا للفظ في نفس الموضوع له لكنّه في مصداقه الادّعائي، فيكون المجاز حينئذ تصرّفاً في

أمر عقلي لا في الكلمة (والمراد من التصرّف في الأمر العقلي جعل ما ليس بفرد فرداً له ادّعاءً) وفي الثاني ذهب إلى مثل ما اختاره المشهور.

ثالثها: ما أفاده بعض المحقّقين ممّن قارب عصرنا وهو الشّيخ محمّد رضا الإصفهاني في كتابه الموسوم بوقاية الأذهان. فإنّه ذهب إلى كون المجاز استعمالًا للفظ في الموضوع له مطلقاً سواء كان من قبيل مجاز الاستعارة أو المرسل وسواء كان مفرداً أو مركّباً وسواء كان في الكنايات أو غيرها.

أقول: الظاهر أنّ هذا المحقّق رحمه الله قد وسّع مقالة السكّاكي وإن قال في تهذيب الاصول إنّهما مذهبان متباينان.

وكيف كان، فقد استدلّ السكّاكي على مختاره بأشعار من العرب نظير قوله: «قامت تظلّلني ومن عجب- شمس تظلّلني من الشمس» حيث إنّه لولا ما ذكره لما صحّ التعجّب كما لا يخفى.

ولكن أُورد عليه بأمرين:

الأوّل: أنّه إذا كان استعمال اللفظ الكلّي نحو «أسد» في خصوص أحد مصاديقه الحقيقة بقيد الخصوصيّة استعمالًا مجازيّاً في غير الموضوع له (لأنّه لم يوضع لخصوص ذلك المصداق بل وضع للماهيّة اللابشرط معرّاة عن جميع القيود الفرديّة) فليكن استعماله في خصوص الفرد الادّعائي أيضاً مجازاً بالأولويّة القطعيّة.

الثاني: أنّ كلامه لا يصدق في الأعلام الشخصيّة مثل «حاتم» في قولك «زيد حاتم» لأنّ العلم الشخصي جزئي حقيقي لا يمكن ادّعاء مصداق آخر له، وحينئذٍ يكون استعمال لفظ «حاتم» في جملة «زيد حاتم» استعمالًا للفظ في غير الموضوع، له وهو كما ترى.

أقول: يمكن الجواب عن كلّ واحد منهما، أمّا عن الأوّل فبأنّ ظاهر كلام السكّاكي أنّ مراده من استعمال اللفظ في المصداق الادّعائي تطبيق مفهوم كلّي نحو «الأسد» على فرده الادّعائي نظير تطبيق الرجل الكلّي على بعض أفراده الحقيقيّة في قولك «هذا رجل» فهو من

باب تطبيق انوار الأصول، ج 1، ص: 73

كلّي الموضوع له اللفظ على فرد من أفراده لا من باب استعمال اللفظ الموضوع في خصوص ذلك الفرد حتّى يقاس باستعمال اللفظ الكلّي في خصوص أحد مصاديقه الحقيقيّة ويكون مجازاً.

وأمّا عن الثاني فبأنّ المدّعى في الأعلام الشخصيّة هو العينية لا التشبيه والاستعارة فيدّعى مثلًا إنّ زيداً في قولك «زيد حاتم» عين الحاتم الطائي المعروف فيكون من باب تطبيق معنى جزئي للموضوع له اللفظ على مصداق جزئي ادّعائي فاستعمل اللفظ حينئذ في معناه الموضوع له (ولكن بضميمة ادّعاء العينية) لا في غير الموضوع له حتّى يكون مجازاً.

أمّا المسلك الثالث فتوضيحه: إنّ الإرادة في استعمال الألفاظ على قسمين: إرادة استعماليّة وإرادة جدّية، وهما تارةً تتّحدان واخرى تفترقان كما في الأوامر الامتحانيّة فإنّ الإرادة فيها إرادة استعماليّة فقط لم تتعلّق بمتعلّق الأمر جدّاً، ومن موارد افتراقهما المجازات فإنّ الإرادة الاستعماليّة فيها تعلّقت على المعنى الحقيقي الموضوع له اللفظ وأمّا الإرادة الجدّية فتعلّقت على المعنى المجازي، وكذلك في الكنايات نحو «زيد كثير الرماد» فاستعمل لفظ «زيد» و «كثير الرماد» في معناهما الموضوع له اللفظ وتعلّق به الإرادة الاستعماليّة، وأمّا الإرادة الجدّيّة فتعلّقت ببيان سخاوة زيد، وهذا تعبير آخر من أنّ المجاز في أمر عقلي وإنّ التطبيق على فرد ادّعائي.

أقول: إنّ هذا هو المختار والدليل عليه أوّلًا: أنّه مقتضى البداعة واللطافة المجازيّة فإنّ البداعة وجمال البيان يتحقّق فيما إذا استعمل اللفظ في معناه الحقيقي كما في قوله: «هذا الذي تعرف البطحاء وطأته- والبيت يعرفه والحلّ والحرم» فإنّ حسن الكلام في هذا البيت مبني على كون نفس البيت أو الحرم عارفاً بمن هو المقصود فيه لا خصوص أهل البيت وأهل الحرم أو ربّ البيت وربّ

الحرم، وهذا لا يكون إلّابعد ادّعاء وجود قوّة مدركة عاقلة للبيت والحرم وكذا في سائر المجازات.

وثانياً: أنّه أيضاً مقتضى القرابة الشديدة بين المجاز والكناية، فإذا كان استعمال اللفظ في الكنايات في نفس الموضوع له فليكن كذلك في المجازات، ولا إشكال ولا خلاف في أنّ اللفظ في الكنايات يستعمل في الموضوع له لأنّ الكناية عبارة عن ذكر اللازم وإرادة الملزوم (أو بالعكس)، وتكون الإرادة الاستعماليّة فيها غير الإرادة الجدّية، ففي مثال «زيد كثير الرماد»

انوار الأصول، ج 1، ص: 74

تعلّقت الإرادة الاستعماليّة بأنّ الرماد كثير في دار زيد، ولكن الإرادة الجدّيّة تعلّقت بسخاوة زيد، وإذا كان الأمر فيها كذلك وكان المجاز والكناية في غاية القرابة بل يمكن ادخالهما تحت عنوان واحد (وهو استعمال اللفظ وإرادة غير الموضوع له في الإرادة الجدّية) فلا منع ولا بأس في أن يكون الأمر في المجازات أيضاً كذلك.

وثالثاً: إنّ الوجدان حاكم بأنّ ما استدلّ به السكّاكي في خصوص مجاز الاستعارة جارٍ في المجاز المرسل أيضاً (وهو ما تكون العلاقة فيه غير علاقة التشبيه من سائر العلاقات) فإنّ اللفظ فيه أيضاً لم يستعمل إلّافيما وضع له، فيدعى في مثل قوله «جرى الميزاب» أنّ الميزاب هو نفس المطر، وفي إطلاق الميّت على من يكون مشرفاً على الموت يدعى كونه ميّتاً بالفعل، وفي إطلاق القرية على أهلها في قوله تعالى: «فاسأل القرية» ادّعى أنّ القرية من مصاديق أهل القرية وإنّها أيضاً قابلة للسؤال عنها، مع أنّ العلاقة في هذه الموارد ليست من علاقة التشبيه، ومع إنّا نشاهد فيها نفس المبالغة التي نشاهدها فيما تمسّك به من بعض الأبيات كما لا يخفى.

وبالجملة، لطف المجاز وحسنه وبلاغته لا تتمّ إلّاعلى هذا القول كما هو ظاهر للخبير بفنون الكلام

وبدائعه «1». هذا تمام الكلام في الأمر الثالث.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني رحمه الله عنون في ذيل هذا الأمر بحثاً تحت عنوان استعمال اللفظ وإرادة النوع أو المثل أو الصنف، منه وهذا البحث قليل الفائدة جدّاً علماً وعملًا فالأولى تركه وصرف النظر عنه.

انوار الأصول، ج 1، ص: 75

الأمر الرابع: الدلالة تابعة للارادة أو لا؟

هل الإرادة دخيلة فيما وضع له اللفظ، أو لا؟ ومآله إلى أنّ مثل لفظ «زيد» هل وضع لمجرّد المعنى فقط، أو وضع للمعنى المقيّد بكونه مراداً؟ ذهب بعضهم إلى عدمه وأنّ الموضوع له هو المعنى من حيث هو هو، كما يستفاد هذا من تهذيب الاصول أيضاً. ولكن المحقّق الحائري رحمه الله في درره ذهب إلى الثاني وأنّ الإرادة داخلة في الموضوع له وتبعه بعض أعاظم العصر.

واستدلّ المحقّق الخراساني رحمه الله للعدم بامور ثلاثة:

الأمر الأوّل: ما مرّ منه من أنّ قصد المعنى على أنحائه من مقوّمات الاستعمال ويكون خارجاً عن الموضوع له والمستعمل فيه، ولا يخفى أنّ إرادة اللافظ في المقام ليست شيئاً وراء لحاظ المعنى.

الأمر الثاني: إنّه يستلزم التجريد ولزوم التصرّف في عامّة الألفاظ لأنّ المتّصف بالقيام في «زيد قائم»، مثلًا هو زيد الخارجي لا زيد المراد الذهني، والمتّصف بالثقل في «الحجر ثقيل» إنّما هو الحجر الخارجي لا الذهني، فلابدّ من تصرّف في معنى زيد والحجر وتجريدهما عن قيد الإرادة حتّى يصحّ حمل القيام والثقل وإسنادهما إليهما.

الأمر الثالث: إنّه يلزم كون وضع عامّة الألفاظ عامّاً والموضوع له خاصّاً، لأنّ إرادة اللافظ لو كانت جزء الموضوع له أو كان قيده كان الموضوع له جزئيّاً ذهنيّاً وخاصّاً لأنّه لا مجال لتوهّم أخذ مفهوم الإرادة فيه بل المدّعى أخذ مصاديقها.

أقول: الإنصاف أنّ هذه المسألة ترجع بحسب الحقيقة إلى المبنى الذي اختاروه في

البحث عن حقيقة الوضع، فمن ذهب هناك إلى أنّ حقيقة الوضع التعهّد والالتزام فيمكن له القول بكون الإرادة دخيلة في الموضوع له، لأنّ التعهّد ملازم للارادة، ومن ذهب إلى أنّ حقيقة الوضع تخصيص اللفظ بإزاء المعنى كما هو المختار فلازم كلامه القول بعدم أخذها فيه.

ولكن قد يقال: إنّ هنا طريقاً آخر لإثبات كون الإرادة دخيلة في الموضوع له، وهو أنّ انوار الأصول، ج 1، ص: 76

العلّة الغائيّة من وضع الألفاظ هو انتقال المرادات، والعلّة تضيّق المعلول وتحدّده ويكون هذا التضييق من قبيل القضيّة الحينيّة لا الشرطيّة، فيكون قيد «حين الإرادة» دخيلًا في معنى اللفظ، أي اللفظ وضع للمعنى حين كون مراداً.

واستشكل عليه في التهذيب بأنّا لا نسلّم الصغرى، وهي أنّ غاية وضع الألفاظ انتقال المرادات، لأنّ الغاية في الوضع هو بيان الواقعيات الخارجيّة، وإرادة المعنى تكون مرآة للخارج وآلة للنيل إلى الواقع «1».

أقول: التحقيق أنّ النزاع في المسألة أشبه شي ء بالنزاع اللّفظي لأنّه إن كان المراد من دخالة الإرادة دخالتها في الموضوع له فلا يقول بها أحد حتّى تصل النوبة إلى البحث والنزاع، وإن كان المراد أنّ المقصود من وضع الألفاظ هو تبيين المرادات، والإرادة دخيلة في غاية الوضع ولو مرآة إلى الخارج، فهذا ممّا لا مجال لانكاره.

إن قلت: إنّ مقتضى تضييق المعلول بالعلّة دخالة الإرادة في الموضوع له. قلنا: العلّة المضيّقة للمعلول ليست هي العلّة الغائيّة بل هي العلّة التامّة ... فيوجد المعلول بتأثير علّته التامّة، وأمّا العلّة الغائيّة فهي من المعدّات، ولهذا لا يوجب تضييق المعلول في الكثير من الموارد، نظير ما إذا قصدت المسجد والدخول فيه للصّلاة ولكن بعد الدخول تلوت القرآن أو استمعت إلى الخطيب مثلًا، كما أنّه كذلك في الصنائع المخترعة،

فتكون المعلولات المخترعات فيها أعمّ من عللها الغائيّة الابتدائيّة لمخترعيها فتترتّب عليها آثار اخرى غير ما قصدها المخترعون كما هو ظاهر على الخبير، كما أنّه كذلك في كثير من المباحث الاصوليّة، فتكون الغاية فيها تبيين الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة ولكن تترتّب عليها آثار اخرى في الألفاظ الواردة في الوصايا والأوقاف الخاصّة والعامّة وغيرها.

بقي هنا شي ء:

وهو بيان المراد من الكلام المنقول عن الشّيخ الرئيس والمحقّق الطوسي رحمه الله من «أنّ الدلالة تابعة للإرادة».

انوار الأصول، ج 1، ص: 77

وقال المحقّق الخراساني رحمه الله في توضيح كلامهما: إنّ الدلالة على قسمين: تصوّريّة وتصديقيّة، فإنّه تارةً يكون إطلاق اللفظ موجباً للانتقال إلى المعنى اللغوي، واخرى للانتقال إلى مراد المتكلّم، ثمّ قال: الدلالة التصديقيّة تابعة للإرادة، فلا ينتقل السامع إلى المراد إذا صدر اللفظ من المتكلّم سهواً كما إذا صدر من وقوع حجر على حجر، فدلالة اللفظ على المعنى التصديقي تابعة للإرادة تبعيّة مقام الإثبات للثبوت. ثمّ قال: وعليه يحمل كلام العلمين.

أقول: أوّلًا: كيف يمكن أن تتوقّف دلالة اللفظ على مراد المتكلّم على كشف إرادة المتكلّم، مع أنّه لا حاجة إلى اللفظ بعد كشف الإرادة فإنّه تحصيل للحاصل؟

ثانياً: إنّا نحتاج في الدلالة التصديقيّة إلى امور أربع، ومع تحقّقها تتحقّق الدلالة التصديقيّة، ولا حاجة إلى كشف إرادة المتكلّم بالخصوص:

أوّلها: كون المتكلّم في مقام البيان.

ثانيها: عدم نصب القرينة على الخلاف.

ثالثها: كون المتكلّم عاقلًا شاعراً.

رابعها: ثبوت الأصل العقلائي، وهو تطابق الإرادة الاستعماليّة مع الإرادة الجدّية، ومع اجتماع الثلاثة الاولى تتحقّق الدلالة التصديقيّة الاستعماليّة، وبعد انضمام الأمر الرابع إليها تتحقّق الدلالة التصديقية الجدّية، وعليه فلا حاجة إلى كشف كون المتكلّم مريداً.

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ مرادهما من كون الدلالة تابعة للإرادة ليس شيئاً وراء ذلك،

والمراد أنّ دلالة اللفظ على مراد المتكلّم تفصيلًا فرع العلم الإجمالي بكونه في مقام بيان مراده، فالدلالة تتبع الإرادة بهذا المعنى، ولكن هذا يتفاوت مع ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله كما لا يخفى، وعلى كلّ حال فهو أمر معقول.

انوار الأصول، ج 1، ص: 79

الأمر الخامس: في وضع المركّبات والهيئات

والظاهر أنّ المراد منه إنّه هل للمركّبات وضع خاصّ مضافاً إلى وضع مفرداتها وهيئاتها، أو لا؟ مثلًا في جملة «زيد قائم» مضافاً إلى وضع كلّ واحد من «زيد» و «قائم» لمعنى خاصّ، ومضافاً إلى وضع هيئة جملة المبتدأ والخبر لمعنى إخباري، هل وضعت هذه الجملة بمجموع موادّها الخاصّة وهيئتها الخاصّة لمعنى إخباري خاصّ، أو لا؟

فإن كان المقصود من العنوان هذا المعنى فلم يعرف له قائل، مضافاً إلى ورود إشكالات كثيرة عليه.

الأوّل: إنّه يستلزم أوضاعاً غير متناهية في المركّبات لأنّه لا حصر ولا حدّ للجمل التركيبية، ففي الجملة المركّبة من المبتدأ والخبر فقط يمكن تصوير مليون هيئة بتصوير الف مبتدأ تارةً والف خبر اخرى، والعدد الحاصل من ضرب الألف في الألف هو المليون!

الثاني: أنّه يستلزم اللغويّة لأنّ وضعها بموادّها وهيئاتها وافٍ بتمام المقصود منها، فلا حاجة إلى وضع آخر لها بجملتها كما لا يخفى.

الثالث: أنّه لا سبيل لنا إلى معرفة المعاني الموضوع لها في هذا القسم من الوضع ولا مرجع لنا حتّى نرجع إليه في سبيل تحصيلها كما نرجع لمعرفة معاني هيئات المفردات إلى علم الصرف، ولمعرفة معاني مواد المفردات إلى كتب اللّغة، ولمعرفة معاني هيئات الجمل إلى علم النحو.

الرابع: أنّه خلاف الوجدان، حيث إنّا نكتفي في تشكيل قوالب جديدة من الجمل بخصوص وضع المفردات والهيئات ولا ننتظر وضعاً جديداً لهذا التركيب الجديد مضافاً إلى وضع مفرداته وهيئاته.

الخامس: ما أفاده في المحاضرات

وغيره وهو أنّ هذا الوضع يستلزم منه انتقال معنى الجملة

انوار الأصول، ج 1، ص: 80

إلى الذهن مرّتين: مرّة بملاحظة وضع مفرداتها ومرّة بملاحظة وضع نفسها «1».

فتلخّص ممّا ذكرنا إنّه لا وضع لآحاد الجمل المركّبة بخصوصها ولا يتصوّر له صورة معقولة بل لا ينبغي التفوّه به.

نعم يمكن تصويره على نهج قضيّة الموجبة الجزئيّة في خصوص الأمثال المركّبة المستعملة في كلّ لغة، فيقال إنّ جملة «أراك تقدّم رجلًا وتأخّر اخرى» مثلًا وضعت من حيث المجموع لبيان التحيّر والتردّد، وهكذا غيرها من سائر الأمثال التركيبية وإن كان هذا المعنى أيضاً مخالفاً للوجدان، فإنّها كنايات متّخذة من وضع مفرداتها مع وضع هيئاتها.

ثمّ إنّ حاصل ما يمكن أن يقال في وضع الهيئات أنّ لنا أربع أنحاء من الهيئة: أوّلها: هيئات المفردات نحو هيئات الصفات مثل هيئة اسم الفاعل وهيئة اسم المفعول.

ثانيها: هيئات النسب الناقصة كهيئة المضاف والمضاف إليه.

ثالثها: هيئات النسب التامّة كهيئة جملة «زيد قائم».

رابعها: هيئات وضعت لخصوصّيات النسب كهيئة «تقديم ما حقّه التأخير» مثلًا التي تدلّ على الحصر كما هو المعروف.

والجامع بين هذه الأنحاء أنّ الوضع في جميعها نوعي، والمقصود من الوضع النوعي أنّ المعنى فيها لا يتبدّل ولا يتغيّر بتبدّل المفردات والمواد الموجودة فيها، ولا يدور مدار مادّة خاصّة، بخلاف الوضع في المفردات فإنّه فيها شخصي يدور المعنى فيها مدار خصوصيّة المواد، ومع تغيّرها يتغيّر المعنى أيضاً، ولا ينافي ذلك كون الموضوع فيها كلّياً، ولا ينقضي تعجّبي عن المحاضرات حيث أتعب نفسه الزكيّة في بيان المقصود من الوضع النوعي والشخصي مع أنّه ظاهر لا غبار عليه.

ثمّ إنّه قد يقوم بعض الكلمات المفردة مقام الهيئة في دلالتها على النسبة في بعض اللغات، فإنّ كلمة «است» في اللّغة الفارسيّة تدلّ على

النسبة في الجمل التامّة مع أنّها في اللّغة العربيّة تفهم من هيئة الجملة، ولا مانع من ذلك كما لا يخفى.

الأمر السادس: في علائم الحقيقة والمجاز

اشارة

ذكروا لتشخيص الحقيقة عن المجاز علائم يحتاج الفقيه إليها في معرفة ظواهر الألفاظ، وهذا البحث من أهمّ مباحث الألفاظ وأكثرها فائدة وأتمّها آثاراً في الفقه والتفسير والحديث وغيرها ومن المباحث التي تسمّى بالمباحث الرئيسيّة، فإنّها المدار في فهم معاني الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة، وهي امور:

1- التبادر:

وقد قيل في تعريفه إنّه انسباق المعنى إلى الذهن من حاق اللفظ، ويراد من حاق اللفظ ما يقابل الانسباق الحاصل من وجود القرينة.

وقيل أيضاً إنّه خطور المعنى في الذهن من حاق اللفظ. كما قيل: إنّه انفهام المعنى، لكن العبارات شتّى والمقصود واحد.

وقبل الشروع في البحث لا بدّ من ذكر مقدّمة، وهي أنّ التبادر علامة يعوّل عليها كلّ مستعلم في اللّغة صغيراً كان أو كبيراً، بل أهل اللّغة أيضاً في كثير من الموارد حتّى الصبي عند تعلّمه من امّه وأبيه، فإنّ الصبي إذا رأى انسباق معنى إلى أذهان والديه ومن هو أكبر منه سنّاً فيما إذا أطلق لفظ يستنتج أنّ هذا اللفظ وضع لذلك المعنى، مثلًا إذا سمع لفظ الماء من واحد منهم ثمّ رأى إتيانه هذه المادّة السيّالة وتكرّر هذا منهم يعلم الصبي أنّ معنى الماء ليس إلّاهذا، وعلى هذا الطريق يعتمد في فهم معاني الألفاظ غالباً، بل يكون هذا هو السبيل للذين يتعلّمون لغة جديدة بالمعاشرة مع أهلها، فالتبادر من أهمّ علائم الحقيقة والمجاز وله مكانة عظيمة بينها، فإنّه المدرك الوحيد في الغالب لفهم اللغات من أهلها.

إذا عرفت هذا.

فنقول: إنّ هيهنا اموراً تنبغي الإشارة إليها:

انوار الأصول، ج 1، ص: 82

الأمر الأوّل في منشأ دلالة التبادر على الوضع.

وهو أمر واضح، لأنّ منشأ ظهور لفظ في معنى ومنشأ تبادر ذلك المعنى من ذلك اللفظ لا يخلو من أحد الأمرين: إمّا الوضع

أو القرينة، فإذا انتفت القرينة وعلم أنّ المعنى فهم من حاق اللفظ كما هو المفروض في المقام يستكشف منه وضع ذلك اللفظ لذلك المعنى.

الأمر الثاني: فيما قد يقال من أنّ كون التبادر علامة للحقيقة يستلزم الدور المحال، لأنّ التبادر يتوقّف على العلم بالوضع، والمفروض أنّ العلم بالوضع أيضاً يتوقّف على التبادر وهذا دور واضح.

واجيب عن هذا بوجوه عديدة:

أوّلها: قضيّة الإجمال والتفصيل. وتوضيحها: إنّ العلم الذي يتوقّف عليه التبادر هو العلم الإجمالي الارتكازي، والعلم المتوقّف على التبادر هو العلم التفصيلي، وبعبارة اخرى: يوجد في حاق ذهن الإنسان ومرتكز أهل اللّغة معنى إجمالي يتبدّل إلى العلم التفصيلي بالتبادر.

ثمّ إنّ هذه القضيّة (الإجمال والتفصيل) قضيّة ينحلّ بها كثير من المعضلات، منها إشكال الدور المعروف الذي أُورد على الشكل الأوّل في المنطق من ناحية منكري الاستدلال والبرهان، وهو أنّه (القياس والبرهان) لا يوجب لنا علماً جديداً لأنّ جميع اشكاله ترجع إلى الشكل الأوّل، وهو دوري، لأنّ من شرائطه كلّية الكبرى، وهي تتوقّف على شمول الكبرى للنتيجة وكونها معلومة ضمن الكبرى، والحال أنّ العلم بالنتيجة أيضاً يتوقّف على كلّية الكبرى، وهذا دور ظاهر.

وقد أجاب عنه الشّيخ الرئيس بعين ما ذكرناه في التبادر وبيانه: إنّ كلّية الكبرى تتوقّف على العلم الإجمالي بالنتيجة، وأمّا ما يتوقّف على القياس فهو عبارة عن العلم التفصيلي بالنتيجة.

ثانيها: سلّمنا، ولكنّه مختصّ بما إذا إتّحد العالم والمستعلم ولا يتصوّر بالنسبة إلى الجاهل باللغة المستعلم من التبادر عند أهلها، لأنّه يصير عالماً بالوضع بتبادر المعنى من اللفظ إلى ذهن العالم بالوضع، فعلمه بالوضع يتوقّف على التبادر إلى ذهن العالم، وأمّا التبادر إلى ذهن العالم فلا يتوقّف على علم الجاهل بل يتوقّف على علم نفسه، وقد عرفت أنّ موارد

التبادر في الغالب هو من هذا القبيل أي تعدّد العالم والمستعلم.

انوار الأصول، ج 1، ص: 83

ثالثها: ما حكي عن بعض المحقّقين، وحاصله إنّه لا مانع من كون كلا العلمين (المتوقّف على التبادر والمتوقّف عليه التبادر) تفصيلياً، ولا دور في البين، لأنّهما فردان متشخّصان من العلم لحصولهما في زمانين، ويكفي في ارتفاع الدور تغاير العلمين في التشخّص «1».

ولنعم ما اتجيب عنه من أنّه مع وجود العلم التفصيلي بالوضع قبل التبادر يكون تحصيل علم تفصيلي آخر تحصيلًا للحاصل، إلّاأن يعرض عليه النسيان ومع عروض النسيان يصير العلم مجملًا ومرتكزاً ونحتاج في تبديله بالعلم التفصيلي إلى التبادر.

الأمر الثالث: أنّه يفهم استناد التبادر إلى حاق اللفظ من كثرة استعمال اللفظ في المعنى وكثرة تبادره منه (وإن لم يبلغ حدّ الاطّراد) حتّى يعلم إنّه لا تعتمد الدلالة على القرينة، ولا يمكن الاعتماد على أصل عدم القرينة لكونه من الاصول العقلائيّة التي تجري لتعيين مراد المتكلّم بعد العلم بالوضع وبعد العلم بالمعنى الحقيقي والمجازي، لا عند الشكّ في الموضوع له.

الأمر الرابع: قال المحقّق العراقي رحمه الله في المقام ما حاصله: إنّ هذا البحث إنّما يكون منتجاً بناءً على كون مدار حجّية اللفظ على أصالة الحقيقة أو أصالة عدم القرينة تعبّداً وأنّ اللفظ حجّة في المعنى الحقيقي ولو لم ينعقد للفظ ظهور فيه، لأصالة الحقيقة أو لأصالة عدم القرينة، إذ حينئذٍ نحتاج إلى معرفة الموضوع له والمعنى الحقيقي بالتبادر وأمثاله، وأمّا إذا قلنا أنّ اللفظ حجّة في المعنى الظاهر ولو كان ظهوره من جهة القرينة الحافّة به كما هو التحقيق فلا نحتاج إلى معرفة المعنى الموضوع له والحقيقي بالتبادر وأمثاله، ولا فائدة لهذا البحث «2».

أقول: يمكن الجواب عنه بأنّه كثيراً ما يكون منشأ

الظهور العرفي هو الوضع. أي ينعقد عند العرف للفظ ظهور في معناه الحقيقي، فإنّا وإن قلنا بكون مدار حجّية اللفظ هو أصالة الظهور لكن حيث إنّ سبب الظهور هو العلم بالوضع فنحتاج في معرفته إلى التبادر وأمثاله، وبعبارة اخرى: الظهور العرفي لا يكون بلا سبب بل إمّا أن ينشأ من الوضع أو من القرائن، ومعرفة الموضوع له أحد أسباب الظهور، فإذا علم الفقيه بالموضوع له يحصل له العلم بما هو الظاهر عند العرف.

الأمر الخامس: «إنّ التبادر- كما ذكره بعض الأعلام- يثبت كون المعنى حقيقيّاً للفظ وكونه انوار الأصول، ج 1، ص: 84

موضوعاً له في زمان تبادره منه، وأمّا وضع اللفظ لذلك المعنى في زمان نزول الوحي فلا يثبت بالتبادر المتأخّر، فلابدّ في إثبات ذلك من التشبّث بالاستصحاب القهقري الثابت حجّيته في خصوص باب الظهورات بقيام سيرة العقلاء وبناء أهل المحاورة عليه، فإنّهم يتمسّكون بذلك في موارد الحاجة ما لم تقم حجّة أقوى على خلافه، بل على ذلك الأصل يدور استنباط الأحكام الشرعيّة من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة، ضرورة إنّه لولا اعتباره لا يثبت لنا أنّ هذه الألفاظ كانت ظاهرة في تلك الأزمنة في المعاني التي هي ظاهرة فيها في زماننا» وهكذا الكلام في استنباط المسائل من جميع الكتب العمليّة أو التاريخية أو الأشعار أو أسناد الأوقاف والوصايا.

هذا كلّه في العلامة الاولى للحقيقة والمجاز، وهي التبادر.

2- عدم صحّة السلب وصحّته (صحّة الحمل وعدم صحّته):

والمراد منهما أنّ صحّة سلب لفظ بما له من المعنى من لفظ آخر بما له من المعنى تكون علامة لكونه مجازاً فيه، وبالعكس فإن صحّة حمل لفظ بما له من المعنى على لفظ آخر بما له من المعنى تكون علامة لكونه حقيقة فيه، فإذا قلنا «الغيث هو المطر» مثلًا واستحسنه

الطبع (إذا كان معنى المطر معلوماً لنا وواضحاً ولم يكن معنى الغيث معلوماً إلّاإجمالًا) فنحكم حينئذٍ أنّ الغيث وضع لمعنى المطر وأنّ معناهما واحد، كما أنّه إذا قلنا «الرجل الشجاع ليس بأسد حقيقة» واستحسنه الطبع أيضاً، نعلم أنّ استعمال الرجل الشجاع في الأسد يكون مجازاً.

ولكن المحقّق الخراساني رحمه الله وغيره ممّن تبعه ذكروا هنا تفصيلًا حاصله: إنّ الحمل على قسمين حمل أولى ذاتي وحمل شائع صناعي، والملاك في الحمل الاولى هو اتّحاد المفهوم فقط، وأمّا الملاك في الحمل الشائع فهو الاتّحاد في الوجود والافتراق في المفهوم (ويسمّى شائعاً لكونه هو الشائع بين الناس، وصناعياً لكونه هو المستعمل في الصناعات) ثمّ إنّ صحّة الحمل الاولى الذاتي يدلّ على كون الموضوع له في الموضوع والمحمول واحداً، وأمّا الصناعي فيستفاد منه كون الموضوع أحد مصاديق المحمول الحقيقية في قبال المصاديق المجازيّة، ولا يدلّ على الوضع، فالعلامة على المعنى الموضوع له هي الحمل الاولي لا الحمل الشائع، بل إنّه علامة على كون الموضوع مصداقاً حقيقيّاً للموضوع له في قبال المصداق المجازي.

انوار الأصول، ج 1، ص: 85

أقول: إنّ كلامه جيّد مقبول عندنا، ولكن هيهنا امور تجب الإشارة إليها لتتميم هذا البحث:

الأمر الأوّل: ما هو السرّ في كون صحّة الحمل علامة للمعنى الحقيقي؟ وجوابه ما مرّ نظيره في التبادر (من أنّ صحّة الحمل تنشأ إمّا من القرينة أو من ناحية الوضع وحيث إنّ المفروض عدم وجود القرينة يعلم أنّها ناشئة من الوضع) فصحّة سلب معنى عن لفظ علامة عدم وضعه له وإلّا لم يكن السلب صحيحاً.

الأمر الثاني: أنّ إشكال الدور الذي مرّ في مبحث التبادر يأتي هنا أيضاً، وبيانه: إنّ صحّة الحمل يتوقّف على العلم بالموضوع له في موضوع القضيّة ومحمولها (لأنّ

صحّة الحمل فرع تصوّر الموضوع والمحمول وهو فرع العلم بهما) بينما العلم بالوضع أيضاً يتوقّف على صحّة الحمل وهذا دور واضح.

ولكن يأتي هنا أيضاً الجوابان المذكوران في التبادر:

أحدهما: إن علمنا بالوضع يكون بالإجمال والارتكاز، وأمّا العلم المتوقّف على صحّة الحمل علم تفصيلي، فالمتوقّف غير المتوقّف عليه بالإجمال والتفصيل.

ثانيهما: سلّمنا، ولكنّه يختصّ بما إذا كان المستعلم من أهل اللسان، أمّا إذا كان أجنبياً عنه فإنّه يحصل له العلم بالوضع بصحّة الحمل في استعمالات أهل اللسان فلا دور.

الأمر الثالث: أنّ لبعض الأعلام هنا اشكالًا وحاصله: إنّ صحّة الحمل وصحّة السلب يكونان مسبوقين بالتبادر، فالعلامة في الحقيقة هو التبادر، وتوضيحه: إذا قلنا «الغيث هو المطر» فحيث إنّ الحمل هذا يحتاج إلى تصوّر «الغيث» و «المطر» وتصوّرهما يحتاج إلى العلم بمعناهما واتّحادهما في الخارج، والعلم هذا لا طريق لنا إليه إلّاالتبادر، فنحن عالمون بالوضع بالتبادر قبل تحقّق الحمل، فالعلامة منحصرة في التبادر هذا كلّه إذا كان المستعلم من أهل اللسان، أي كان المراد من صحّة الحمل والسلب صحّتهما عند نفسه، وأمّا إذا كان المستعلم من غيره وكان جاهلًا باللسان وأراد أن يصل إلى الوضع من طريق استعمال أهل اللسان، فإنّ هذا الحمل بالنسبة إليه يرجع إلى تنصيص أهل اللّغة، والتنصيص غير صحّة الحمل، فتلخّص أنّ صحّة الحمل إمّا أن يرجع إلى التبادر أو إلى تنصيص أهل اللّغة، وليست هي نفسها من علائم الحقيقة والمجاز «1».

انوار الأصول، ج 1، ص: 86

أقول: يمكن دفع هذا الإشكال بأنّه يكفي في صحّة الحمل قضيّة الإجمال والتفصيل، فما يتوقّف عليه صحّة الحمل هو العلم الإجمالي والارتكازي بالوضع، فلا حاجة إلى التبادر لمعرفة الوضع تفصيلًا. هذا مضافاً إلى أنّ الحمل هنا ليس حملًا خارجيّاً لفظيّاً بل

المراد منه تقريب المحمول إلى الموضوع في الذهن، فقبل تحقيق الحمل في التلفّظ والخارج نقرّب «الغيث» مثلًا بما له من المعنى الارتكازي إلى «المطر» بما له من المعنى التفصيلي، ونمارس حمله عليه حتّى نرى أيستحسنه الطبع أم لا؟ من دون أن يكون تبادر في البين، فإن استحسنه الطبع ورأى تلائم المعنيين وتناسبهما فيعلم أنّ الموضوع له فيهما واحد.

هذا كلّه في الحمل الاولى الذاتي، وكذلك في الحمل الشائع (حمل الكلّي على المصداق) فنحتاج في معرفة المصداق الحقيقي أيضاً إلى التقريب الذهني.

وإن شئت قلت: إنّ التبادر هو الرجوع إلى الارتكاز من طريق التصوّر، وأمّا صحّة الحمل فهي الرجوع إلى الارتكاز من طريق أخذ الجملة والتصديق بمفادها فأحد الطريقين في عرض الآخر، ولا يتوقّف أحدهما على الآخر.

الأمر الرابع: في بيان الإشكال الذي ذكره بعض الأعلام في المسألة، وحاصله: إنّ الحمل الذاتي لا يكشف إلّاعن اتّحاد الموضوع والمحمول ذاتاً ومغايرتهما اعتباراً، ولا نظر في ذلك إلى حال الاستعمال وإنّه حقيقي أو مجازي، وبكلمة اخرى: إنّ صحّة الحمل وعدم صحّته يرجعان إلى عالم المعنى والمدلول، فمع اتّحاد المفهومين ذاتاً يصحّ الحمل وإلّا فلا، وأمّا الحقيقة والمجاز فهما يرجعان إلى عالم اللفظ والدالّ، وبين الأمرين مسافة بعيدة، نعم لو فرض في القضيّة الحمليّة أنّ المعنى قد استفيد من نفس اللفظ من دون قرينة كان ذلك علامة الحقيقة، إلّاأنّه مستند إلى التبادر لا إلى صحّة الحمل، نعم بناءً على أنّ الأصل في كلّ استعمال أن يكون حقيقيّاً كما نسب إلى السيّد المرتضى رحمه الله يمكن إثبات الحقيقة، إلّاأنّه لم يثبت في نفسه، مضافاً إلى أنّه لو ثبت فهو أجنبي عن صحّة الحمل وعدمها «1».

أقول: قد مرّ أنّ صحّة الحمل والاستعمال إمّا أن

تكون حاصلة من القرينة أو تنشأ من حاقّ اللفظ والوضع، فإذا لم تكن قرينة في البين وكانت القضيّة عارية من أيّة قرينة نعلم بأنّ انوار الأصول، ج 1، ص: 87

صحّة الاستعمال نشأت من الوضع ومن حاقّ اللفظ (والعلم بكونه من حاق اللفظ يحصل من تكراره في مواضع متعدّدة وإن لم يبلغ حدّ الاطّراد) فلا يرد على هذه العلامة ما ذكره فتدبّر جيّداً.

الأمر الخامس: هناك فرق بين المراد من الحمل الاولى والحمل الشائع في ما نحن فيه، وبين ما يكون مصطلحاً في المعقول، لأنّ الحمل الاولى في المعقول ملاكه الاتّحاد الماهوي، سواء اتّحدا في المفهوم أيضاً ولم يتّحدا، ولكن المراد منه في ما نحن فيه حمل أحد المترادفين على الآخر، فملاكه الاتّحاد مفهوماً من دون نظر إلى الماهية والاتّحاد فيها، لأنّ عالم اللّغة عالم المفاهيم والألفاظ لا الحقائق والماهيات، نعم الاتّحاد المفهومي ملازم للإتّحاد الماهوي لا العكس كما لا يخفى. وكذلك الحمل الشائع، لأنّه في المعقول هو اتّحاد المفهومين في الوجود مع عدم ملاحظة الاتّحاد في الماهية، ولكنّه هنا بمعنى حمل الكلّي على المصداق، وملاكه كون الموضوع أحد مصاديق المحمول.

نعم، الفرد مع النظر إلى تشخّصاته الفرديّة يفترق عن الكلّي في الماهية، فيكون الفرد متّحداً للكلّي في الوجود ومفترقاً عنه في الماهية. لكن الحمل الشائع في المعقول يكون أعمّ ممّا ذكر، لأنّه أعمّ من حمل الكلّي على أفراده كما في قولنا «الإنسان كاتب» حيث لا إشكال في أنّه ليس من قبيل حمل الكلّي على أفراده.

هذا كلّه في العلامة الثانيّة من علائم الحقيقة والمجاز.

3- الاطّراد وعدمه:

المعروف أنّ الّاطراد علامة للحقيقة وعدمه علامة للمجاز، واستشكل فيه المحقّق الخراساني رحمه الله بما حاصله: إنّ ما ذكروه من كون الّاطراد علامة للحقيقة وعدمه

علامة للمجاز لعلّه بملاحظة نوع العلائق المذكورة في المجازات حيث إنّه لا يطرد صحّة استعمال اللفظ في نوع العلائق وإلّا ففي خصوص العلاقة التي يصحّ معها الاستعمال يكون المجاز مطرداً كالحقيقة، مثلًا استعمال لفظ الأسد في الرجل الشجاع مطرد، ولكن في نوع الحيوانات المشابهة له ليس مطرداً، فلا يستعمل في الرجل الأبخر، مع أنّ كلّا من الرجل الأبخر والرجل الشجاع مشابه له، وهكذا إسناد السؤال إلى قرية ذوي العقول مطرد، ولكن إلى نوع المحلّ والمقرّ لهم ليس مطرداً،

انوار الأصول، ج 1، ص: 88

فيصحّ أن يقال: «واسأل القرية» ولا يصحّ أن يقال «واسأل الشارع أو البساط» مع كون كلّ من القرية والشارع محلًا لذوي العقول أو معبّراً لهم، فكلام المشهور إذا كان بملاحظة الصنف الخاص من العلاقة الذي يصحّ معه الاستعمال كالشجاعة من بين أصناف الشباهة أو المسكن من بين أصناف المحلّ والمقرّ فهو ليس بصحيح، لأنّ استعمال اللفظ في المعنى المجازي أيضاً مطرد كالحقيقة، ويكون الّاطراد مشتركاً بين الحقيقة والمجاز لا مختصّاً بالمعنى الحقيقي، وإذا كان كلامهم بملاحظة نوع العلائق فهو تامّ في محلّه.

هذا حاصل ما ذكره في المقام.

ولكن هيهنا قول آخر ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله ونقله في تهذيب الاصول وفي المحاضرات، وهو كون الاطّراد من علائم الحقيقة في خصوص الكلّي بالنسبة إلى أفراده، وحاصل بيانه: إنّه إذا صحّ استعمال كلّي في عدّة من أفراده بحيث أطرد استعماله فيها نستنتج من مجموع هذه الاستعمالات إنّ معنى هذا الكلّي هو المعنى الجامع بين تلك الأفراد، وهو الموضوع لذلك المعنى، فإذا استعمل مثلًا لفظ الرجل في زيد، ثمّ استعمل أيضاً في عمرو، وثالثاً في بكر، ورابعاً في خالد نستكشف من هذا الاطّراد أنّ معنى الرجل حقيقة

هو المفرد المذكّر، وإذا لم يكن استعمال الكلّي مطرداً في الأفراد كما أنّ استعمال الأسد لا يكون مطرداً بالنسبة إلى كلّ فرد شجاع نستكشف من عدم الاطّراد هذا كون استعمال الأسد في الشجاع مجازاً «1».

واجيب عنه بأمرين:

الأمر الأوّل: إنّ استعمال الكلّي في فرده مع الخصوصيّات الفرديّة مجاز قطعاً لأنّ التشخصّات الفرديّة لا تكون جزءاً لما وضع له الكلّي، فإستعماله فيه حينئذٍ يكون استعمالًا في غير الموضوع له:

إن قلت: إنّه يكون من باب التطبيق الكلّي على فرده أو تطبيق العامّ على الخاصّ بلا إرادة الخصوصيّة.

قلنا: فالعلامة حينئذ صحّة التطبيق لا اطّراد استعمال الكلّي في الأفراد، لأنّه لم يلاحظ الخصوصيّات الفرديّة، فلم يلاحظ تعدّد الأفراد لأنّ تعدّدها يتحقّق بتشخّصها، فلا يكون الاطّراد علامة بل العلامة صحّة التطبيق، وهي ليست إلّاصحّة الحمل، وقد مرّ أنّ صحّة

انوار الأصول، ج 1، ص: 89

الحمل ترجع إلى التبادر فإنحصرت العلامة في التبادر.

الأمر الثاني: إنّ تطبيق الكلّي على فرده أمر عقلي لا يرتبط بعالم الاستعمال والألفاظ، فلا يمكن أن يكون علامة لكون الاستعمال حقيقة «1».

أقول: ليت شعري كيف نسوا ما يسلكونه عملًا في الفقه في مقام كشف المعاني الحقيقية للألفاظ المستعملة في الأبواب المختلفة من الفقه؟ أو لسنا هناك فيما إذا أردنا فهم معنى الغنيمة مثلًا في قوله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ...» وإنّه هل يعمّ كلّ فائدة، ولو كانت في غير حروب أو تختصّ بما تؤخذ في معركة الحرب؟ نتمسّك بذيل الاستعمالات المختلفة للفظ الغنيمة في الآيات والرّوايات ونهج البلاغة وأشعار العرب ونستدلّ بها على الخصم، ونقول إنّ اطّراد استعمالها في الرّوايات وغيرها في مطلق الفوائد أو في غير غنائم الحرب يدلّنا على كونها موضوعة لمطلق الفائدة

ولو لم تحصل من ناحية القتال، أو إذا أردنا أن نعيّن معنى في «الكنز» في كتاب الزّكاة وإنّه هل يختصّ بما يخرج من تحت الأرض أو يعمّ كلّ مال مذخور مستور ذي قيمة؟ نتمسّك بمثل قوله تعالى: «وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا» (في قضيّة خضر وموسى) وأشباهه ونظائره ثمّ نستدلّ بإطراده في هذا المعنى في استعمالات العرب على كونه حقيقة في مطلق الأشياء الغالية المستورة عن النظر ولو لم يكن تحت الأرض، وهذا هو المحقّق النحرير الطبرسي رحمه الله في مجمع بيانه وغيره من المفسرين لا يزالون يتمسّكون لفهم معاني الألفاظ الواردة في القرآن بأشعار العرب وسائر موارد استعمالاتها كما لا يخفى على من راجع كلماتهم، كما إنّك ترى أيضاً رجوع كثير من أرباب اللّغة إلى استعمالات العرب في نظمهم ونثرهم، ولذلك كانوا يستأنسون بأهل البوادي ويعاشرونهم، فإذا رأوا اطّراد استعمال لفظ في معنى في محاوراتهم يحكمون بأنّه وضع لذلك المعنى، كما أنّ هذا أيضاً منهج العلماء في مناظراتهم فهم يقنعون بأبيات من أشعار العرب وغيرها إذا عرض عليهم في موارد مختلفة لإثبات معاني الألفاظ فيما إذا أطرد استعمال لفظ في معنى، وسيأتي الفرق بين هذه العلامة وبين ما هو منقول عن علم الهدى رحمه الله.

ثمّ إنّ هيهنا اموراً لا بدّ من الإشارة إليها:

الأمر الأوّل: إنّه كيف يدلّ الاطّراد على الحقيقة؟

انوار الأصول، ج 1، ص: 90

وجوابه: إنّ كثرة استعمال لفظ في معنى وصحّة ذلك الاستعمال مع كثرته دليل على أنّ هذا الاستعمال لا يعتمد على القرينة ولا يضرّ احتمال وجود بعض القرائن الحاليّة وغيرها أحياناً لأنّه يتصوّر في استعمال واحد أو بالنسبة إلى موارد معدودة من الاستعمال لا بالنسبة إلى الكثير منه، فإذا ثبت أنّ صحّة الاستعمال

في هذه الموارد لم يعتمد على القرينة نعلم بأنّها نشأت من الوضع.

فالإنصاف أنّ الاطّراد وعدمه من أحسن علائم الحقيقة والمجاز، وعليه العمل في كشف معاني الألفاظ، واعراض جمع من الأعلام عنه هنا قولًا، مع التزامهم به في الكتب الفقهيّة عملًا، غير ضارّ.

الأمر الثاني: أنّه لا يجري في الاطّراد أيضاً ما مرّ من إشكال الدور، لأنّ المستعلم هنا يستعلم الوضع من كثرة استعمالات أهل اللسان ويكون جاهلًا بالوضع ولا يكون المستعلم والعالم واحداً.

الأمر الثالث: أنكر المحقّق العراقي رحمه الله كون الاطّراد من العلائم وحاصل كلامه: إنّه إمّا أن يكون المراد من الاطّراد الاطّراد في التبادر، أو الاطّراد في الاستعمال، فإن كان المراد هو الاطّراد في التبادر فمعناه تبادر معنى خاصّ من لفظ خاصّ في موارد كثيرة، ومرجع هذا إنّه يعتبر في دلالة التبادر على الوضع عدم إتّكائه على القرينة، وهو يحرز بإطراد التبادر، فيكون الاطّراد حينئذٍ شرطاً من شرائط كون التبادر علامة وليس علامة مستقلّة، وإن كان المراد هو الثاني فهو ليس منحصراً بالمعنى الحقيقي لوجوده في المجازات أيضاً فلا يمكن أن يكون علامة «1».

أقول: نختار الشقّ الثاني من كلامه. وأنّ المراد من الاطّراد هو الاطّراد في الاستعمال، لكّنا نقول في جوابه: إنّ أدنى تأمّل في محاوراتنا اليوميّة يدلّنا على أنّ الاستعمالات الحقيقيّة أكثر من الاستعمالات المجازيّة بمراتب، وما قيل من أنّ أكثر كلمات العرب مجازات قول زور، ولا أساس له، نعم يمكن أن يقال: إنّ المجاز في الأشعار والخطب كثير مطّرد، ولكنّه أيضاً لا يكون بمرتبة كثرة الحقيقة فيهما، وحينئذٍ يكون اطّراد الاستعمال سبباً للاطمئنان بأنّه مستعمل في المعنى الحقيقي، وأمّا في الكلمات المتعارفة فالأمر أوضح، وإن شئت اختبر نفسك في يوم واحد

انوار الأصول، ج 1،

ص: 91

وما تتكلّم به من الكلمات، فترى أنّ أكثرها استعمالات حقيقيّة، والمجاز فيها قليل جدّاً.

الأمر الرابع: قال المحقّق الحائري رحمه الله ما نصّه: «إنّ المراد من الاطّراد حُسن استعمال اللفظ في كلّ موقع من غير اختصاص له بمواقع خاصّة كالخطب والأشعار ممّا يطلب فيها أعمال محاسن الكلام ورعاية الفصاحة والبلاغة، بخلاف المجاز فإنّه إنّما يحسن في تلك المواقع خاصّة» «1» انتهى.

وفيه: أنّه مشعر بأنّ الاطّراد في الخطب والأشعار ليس دليلًا على الوضع، ولكنّك قد عرفت أنّ المجاز فيهما أيضاً ليس مطرداً وإن كان فيهما أكثر من الكلمات اليوميّة، فالاطراد فيهما أيضاً دليل على الحقيقة (فتأمّل).

الأمر الخامس: قد ظهر ممّا ذكرناه أنّه فرق بين مختارنا في المقام وما نسب إلى السيّد المرتضى رحمه الله من أنّ الاستعمال علامة الحقيقة وأنّ الأصل في الاستعمال هو الحقيقة، لأنّا لا نقول بأنّ احتمال القرينة واحتمال المجاز ينتفي بمجرّد الاستعمال ولو في كلام واحد، بل نقول إنّ اطّراد الاستعمال يكون نافياً ورادّاً للمجاز ووجود القرينة، وفرق بين اطّراد الاستعمال ومجرّد الاستعمال، وما ذكره ممّا لا دليل عليه كما أشار إليه المحقّقون من الأصحاب.

4- من علائم الحقيقة والمجاز نصّ أهل اللّغة:

قد ذكر من العلامات نصّ أهل اللّغة، ولكن ليس هنا محلّ البحث عنه بل يبحث عنه في باب حجّية ظواهر الألفاظ وحجّية قول اللغوي، فسوف يأتي إن شاء اللَّه تعالى في محلّه أنّه هل يكون تنصيص أهل اللّغة حجّة أو لا؟ فانتظر.

وفيه: بحث كبروي وأنّه هل يكون تنصيصهم حجّة وإن لم يحصل منه العلم بل حصل الظنّ من قول الخبرة؟ وبحث صغروي وهو أنّ كلمات اللغويين من هذا الباب، أو بيان لموارد الاستعمال؟

الأمر السابع: الحقيقة الشرعيّة

اشارة

وينبغي التنبيه على مقدّمة قبل الشروع في أصل البحث، وهي أنّ الألفاظ تارةً توضع لفهم عموم الناس وهي أكثر الألفاظ المتداولة بينهم، وتسمّى بالحقائق اللغويّة أو العرفيّة، واخرى توضع لصنف خاصّ منهم وتسمّى بالمصطلحات نظير لفظ «الاصول العمليّة» فإنّه وضع في علم الاصول للُاصول الأربعة العمليّة المعهودة، وأمّا في اللّغة فوضع لفظ «الأصل» و «العمل» لما هو أوسع من ذلك كما هو واضح، والفرق بين القسمين أنّ الحقائق اللغويّة تفيد معانيها اللغويّة كيفما استعملت، من دون أن تكون مقيّدة بكلام خاصّ، وأمّا المصطلحات فإفادتها المعاني المصطلحة متوقّفة على استعمالها في مواردها الخاصّة.

إذا عرفت هذا فنقول: إنّ لنا في الشرع ماهيّات مخترعة نحو الصّلاة والحجّ والزّكاة، واموراً اخرى مشابهة لها، نحو عنوان «التكبير» الذي في اللّغة بمعنى مطلق التعظيم، في الشرع وضع لصيغة «اللَّه اكبر» ولكنّه ليس ماهية مخترعة مستقلّة تتركّب من أجزاء وأعمال كماهيّة الصّلاة، ولا إشكال في أنّ الألفاظ الدالّة على هذه الماهيات المخترعة في زماننا هذا حقيقة في المعاني الشرعيّة، ولكن لا بدّ من البحث في أنّها هل صارت حقيقة فيها في عصر الشارع حتّى تحمل على تلك المعاني في لسانه (وتسمّى حينئذٍ بالحقائق الشرعيّة) أو صارت حقيقة في الأزمنة

اللّاحقة بأيدي المتشرّعين، وحينئذٍ تحمل الألفاظ الواردة في لسان الشارع على معانيها اللغويّة عند فقد القرينة، وعلى معانيها الشرعيّة عند وجودها (وتسمّى حينئذٍ بالحقائق المتشرّعيّة) فيه قولان:

أحدهما: ثبوت الحقيقة الشرعيّة والثاني: عدمه. وتوضيح الحال يستدعي البحث في امور أربع:

الأوّل: في أدلّة القولين.

الثاني: في حدود هذه الماهيّات وعددها، فهل تكون محدودة بمثل الصّلاة والصّوم والحجّ،

انوار الأصول، ج 1، ص: 93

أو أنّ دائرتها أوسع منها.

الثالث: في بيان ثمرة المسألة.

الرابع: في تعيين الوظيفة حين الشكّ في بعض الاستعمالات إذا شكّ في أنّ الألفاظ المستعملة فيها هل استعملت في هذه الموارد قبل صيرورتها حقيقة في المعاني الشرعيّة، أو بعدها؟

الأمر الأوّل: في أدلّة القولين:

فاستدلّ النافون بأصالة عدم النقل، حيث إنّه أصل من الاصول العقلائيّة في باب الألفاظ التي تكون بحكم الأمارات وليست من الاصول التعبّديّة الشرعيّة لأنّ بناء العقلاء استقرّ على حمل الألفاظ على معانيها الأوّليّة إلّاإذا ثبت نقلها بدليل.

واستدلّ المثبتون بوجوه عمدتها التبادر، والمراد منه تبادر المعاني الخاصّة من تلك الألفاظ إلى أذهان معاصري النبي صلى الله عليه و آله عند استعمالها من دون قرينة، والتبادر علامة الحقيقة.

توضيحه: أنّ فهم الأصحاب المعاني الجديدة من هذه الألفاظ المستعملة في كلمات الرسول صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام ممّا لا ريب فيه، وذلك لا يخلو من أحد وجوه ثلاثة: فإمّا أن يكون لوجود قرائن لفظيّة في البين، أو لوجود قرائن حاليّة، أو أنّه ناشٍ من ناحية الوضع، ولا إشكال في أنّ لازم الأوّلين القول بأنّ القرائن ضاعت فلم تصل إلينا وهذا أمر مستبعد جدّاً، فيتعيّن الأخير وهو المطلوب.

نعم هاهنا «سؤال» وهو أنّ منشأ هذا التبادر ما هو؟ فهل هو الوضع التعييني أو التعيّني؟

وجوابه: إنّ الوضع التعييني يستلزم الالتزام بأنّ النبي صلى الله عليه

و آله كان يصرّح وينصّ بأنّي وضعت هذا لهذا، وذاك لذاك، وهذا أيضاً أمر مستبعد جدّاً، لأنّه لو كان لبان، ونقل إلينا، لتوفّر الدواعي على نقله، فيتعيّن تكون المنشأ الوضع التعيّني، وحينئذٍ يقع البحث في زمان تحقّق هذا الوضع، أي زمان صيرورة المعنى المجازي حقيقيّاً لأنّه يحتاج إلى كثرة الاستعمال، فيقع السؤال عن إنّه هل يكفي عصر الرسول صلى الله عليه و آله لهذه الكثرة حتّى نلتزم بكونه زمان الوضع، أو لا يكفي حتّى نلتزم بأنّ الوضع والتعيّن حصل في عصر المعصومين عليهم السلام؟

هذا إذا كان نوع الوضع منحصراً في القسمين المذكورين (التعيّني والتعييني)، لكن المحقّق انوار الأصول، ج 1، ص: 94

الخراساني رحمه الله أبدع هنا قسماً ثالثاً يمكن تسميته بالوضع التعييني العملي فإنّه قال: ربّما يكون الإنسان بصدد الوضع من دون أن يصرّح به فلا يقول: «وضعت هذا لهذا» بل يستعمل اللفظ عملًا في معناه فيقول مثلًا: «ايتني بالحسن» وهو يريد به وضع لفظ الحسن لهذا المولود، من دون أن ينصب قرينة على المجاز بل إنّما ينصب القرينة على كونه بصدد الوضع (ولعلّه من هذا القبيل قول الرسول صلى الله عليه و آله «صلّوا كما رأيتموني اصلّي»)، ثمّ قال: لا يبعد كون هذا النوع من الوضع هو منشأ التبادر في الحقائق الشرعيّة، لكن أورد عليه جماعة ممّن تأخّر عنه منهم المحقّق النائيني رحمه الله «بأنّ حقيقة الاستعمال كما بيّناه إلقاء المعنى في الخارج بحيث يكون الألفاظ مغفولًا عنها فالاستعمال يستدعي كون الألفاظ مغفولًا عنها وتوجّه النظر إليه بتبع المعنى بخلاف الوضع فإنّه يستدعي كون اللفظ منظوراً إليه باستقلاله، ومن الواضح إنّه لا يمكن الجمع بينهما في آن واحد» «1».

ثمّ وقع الأعاظم بعده في حيص وبيص

في مقام دفع هذا الإشكال وأجاب كلٌّ بجواب، فأجاب بعض من تأخّر عنه بما حاصله: إنّ المستحيل هو اجتماع اللحاظين في ملحوظ واحد، وفي ما نحن فيه متعلّق أحد اللحاظين غير متعلّق الآخر، لأنّ اللحاظ الآلي متعلّقه شخص اللفظ، واللحاظ الاستقلالي متعلّقه نوع اللفظ من أي متكلّم كان «2».

ولكن يرد عليه: أنّ المفروض استعمال لفظ الحسن مثلًا مرّة واحدة لا مرّتين، فيكون النوع والشخص موجودين بوجود واحد، فيبقى محذور اجتماع اللحاظين على حاله.

وأجاب بعض الأعلام في تعليقته على أجود التقريرات بما حاصله: إنّ هذا الإشكال وارد على مبنى كون حقيقة الوضع إنشاء، لأنّ الوضع حينئذٍ يتحقّق بنفس التلفّظ والإنشاء، وأمّا بناءً على مختارنا من كونه هو التعهّد والالتزام فيقع الوضع قبل الاستعمال بطبيعة الحال، لأنّ الالتزام يتحقّق قبل التكلّم، فلا يكون في نفس الاستعمال لحاظان «3».

وفيه: أوّلًا: ما مرّ من الإشكال في أصل مبناه في حقيقة الوضع.

وثانياً: سلّمنا- إلّاأنّ التعهّد المحض من دون الإبراز والإظهار لا أثر له لعدم إيجابه التفاهم انوار الأصول، ج 1، ص: 95

في الألفاظ الذي هو الغاية في الوضع، ولا إشكال في أنّ الالتزام مع الإبراز يحتاج إلى اللحاظ الاستقلالي مضافاً إلى اللحاظ الآلي، لأنّ إبراز الالتزام باللفظ يحتاج إلى النظر إليه مستقلًا، فيبقى الإشكال على حاله.

وأجاب عنه: في تهذيب الاصول بأنّه «يمكن أن يكون من باب جعل ملزوم بجعل لازمه ويكون الاستعمال كناية عن الوضع من غير توجّه إلى الجعل حين الاستعمال وإن التفت إليه سابقاً أو سيلتفت إليه بنظرة ثانيّة، وهذا المقدار كافٍ في الوضع» «1».

أقول: كلامه هنا منافٍ لما صرّح به في باب حقيقة الوضع، لأنّه قال هناك: إنّ الوضع نوع من الإنشاء، وإليك نصّ كلامه: «الوضع هو جعل

اللفظ للمعنى وتعيينه للدلالة عليه» «2».

ووجه التنافي إنّ الإنشاء والجعل يحتاج إلى تصوّر المجعول والمجعول له والنظر الاستقلالي إليهما، فكيف يمكن أن يكون الاستعمال الموجب للوضع كناية بحيث يصير اللفظ الموضوع مغفولًا عنه؟

فظهر ممّا ذكرناه عدم تماميّة شي ء من هذه الأجوبة الثلاثة، والتحقيق في الجواب أن يقال:

إنّ الإشكال في المقام متوقّف على كون اللفظ آلة ومرآة للمعنى وفانياً فيه، وهو ممنوع جدّاً لأنّ كلّ مستعمل للكلمات والألفاظ ينظر أوّلًا إلى كلّ واحد من اللفظ والمعنى نظراً استقلالياً، ثمّ يستعمل اللفظ في المعنى كما هو واضح بالنسبة إلى من هو حديث العهد بلغة، فإنّه إذا أراد مثلًا استعمال لفظ «الخبز» في معناه باللغة العربيّة يتفحّص ابتداءً في ذاكرته الحافظة، ويختار من بين الألفاظ المخزونة فيها لفظ «الخبز» فينظر إليه بالطبع نظراً استقلاليّاً كما ينظر إلى معناه أيضاً كذلك ثمّ يستعمل اللفظ في معناه بعد ذلك ويقول: «هل عندك خبز؟». نعم يحصل له الغفلة عن اللفظ بعد استعمالات كثيرة وحصول السلطة على الاستعمال ولكن هذه الغفلة المترتّبة على تلك السلطة ليس معناها دخلها واعتبارها في حقيقة الاستعمال وفناء اللفظ في المعنى حين الاستعمال.

أضف إلى ذلك أنّ الاستعمال ليس من الامور الآنيّة بالدقّة العقليّة بل يمكن إحضار معانٍ متعدّدة في الذهنّ أوّلًا ثمّ ذكر اللفظ لإفادتها كما ذكرناه في مبحث جواز استعمال اللفظ المشترك انوار الأصول، ج 1، ص: 96

في المعاني المتعدّدة، فظهر من جميع ذلك أنّ هذا النوع من الوضع ممّا لا غبار عليه.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ هذا الاستعمال هل يكون حقيقة أو مجازاً؟

ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى أنّه نوع ثالث من الاستعمال (لا حقيقة ولا مجاز) والميزان في صحّته استحسان الطبع، وقال: «دلالة اللفظ على المعنى

في هذا الاستعمال بنفسه لا بالقرينة وإن كان لا بدّ حينئذٍ من نصب قرينة إلّاأنّه للدلالة على ذلك (على كونه في مقام الوضع) لا على إرادة المعنى كما في المجاز» «1».

أقول: الظاهر أنّه لا بدّ في هذا الاستعمال من نصب قرينتين: قرينة على كون المستعمل في مقام الوضع، وهذا ما اعترف به المحقّق الخراساني رحمه الله أيضاً، وقرينة على استعمال اللفظ في المعنى الجديد كالإشارة إلى المولود مثلًا عند قوله: «ائتني بالحسن» لأنّه مع عدم نصب هذه القرينة لا يفهم المعنى من اللفظ كما هو واضح، وحينئذٍ إمّا أن لم يكن اللفظ قبل هذا الوضع موضوعاً لمعنى آخر، فيكون الحقّ عندئذٍ مع المحقّق المذكور من أنّه ليس حقيقة ولا مجازاً، أو كان قبل هذا موضوعاً لمعنى آخر فيكون استعماله في المعنى الجديد استعمالًا في غير الموضوع له فيكون مجازاً، فكلام المحقّق بإطلاقه غير مرضيّ.

ثمّ يبقى الكلام في أنّ الألفاظ الدائرة في لسان الشرع للُامور المستحدثة هل وضعت لها بالوضع التعييني بأحد نوعيه، أو التعيّني؟

ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى الأوّل وقال: «دعوى الوضع التعييني في الألفاظ المتداولة في لسان الشارع هكذا قريبة جدّاً ومدّعى القطع به غير مجازف قطعاً» «2».

ولكنّه دعوى بلا بيّنة وقول بلا برهان، والصحيح حصوله من طريق خصوص الوضع التعيّني فإنّ هذا هو ما نجده بوجداننا العرفي، فاختبر نفسك في الأوضاع الجديدة في حياتنا الاعتياديّة فإنّك تشاهد عندك ألفاظاً وضعت لمعان جديدة بكثرة الاستعمال كلفظ «الشيطان الأكبر» و «المستضعف» و «المستكبر» و «الطاغوت» إلى غير ذلك من الألفاظ المتداولة اليوم انوار الأصول، ج 1، ص: 97

في معانٍ خاصّة غير معانيها اللغويّة، بل يمكن أن يقال بتحقّق الوضع في المعاني الشرعيّة من هذا الطريق

بكثرة الاستعمال حتّى في خصوص عصر النبي صلى الله عليه و آله أيضاً، بل في سنة أو أقلّ، وكذا بالنسبة إلى عصر الأئمّة عليهم السلام في ألفاظ اخر، وإصرار المحقّق الخراساني رحمه الله على المنع من حصوله في خصوص لسان الشارع ممّا لا وجه له.

وهنا مذهب آخر وهو أنّه يمكن أن يقال: إنّ بعض الألفاظ المعهودة المعروفة بعنوان الحقائق الشرعيّة ليست في الواقع بحقائق شرعيّة بل إنّها حقائق لغويّة لاستعمالها في الشرائع السابقة كما تشهد عليه جملة من الآيات:

منها قوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» «1».

وقوله تعالى: «وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً» «2».

وقوله تعالى: «وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ» «3».

فإنّ هذه الآيات تشهد على أنّ الصّيام والصّلاة والحجّ كانت موجودة بمعانيها الشرعيّة في الشرائع السابقة أيضاً، كما اعترف به جمع من المحقّقين.

نعم قد يرد على هذا بأنّ غاية ما يستفاد من هذه الآيات أنّ معاني هذه الألفاظ كانت موجودة قبل الإسلام ولا تدلّ على كون هذه الألفاظ أسماء لها فتدلّ آية الحجّ مثلًا على أنّ أعمال الحجّ وجملة من مناسكه كانت معمولة من عصر إبراهيم خليل اللَّه عليه السلام، ولا تدلّ على أنّه كان يعبّر عنها بلفظ الحجّ في اللّغة العربيّة.

ولكن يمكن دفعه بأنّ العرب في عصر الجاهلية كانوا يتكلّمون فيما بينهم عن عبادات اليهود والنصارى قطعاً خصوصاً إذا لاحظنا وجود طائفة منهم في المدينة وإنّهم يتكلّمون بما يتكلّم به غيرهم من قبائل العرب، ومن البعيد جدّاً كون الألفاظ التي كان العرب يتكلّمون بها عن عبادات اليهود والنصارى وصومهم وصلاتهم غير الألفاظ المستعملة في لسان القرآن، لأنّ لازمه وضع ألفاظ جديدة عربيّة لتلك المعاني مع عدم الحاجة إليها بل هو

أشبه شي ء بتحصيل الحاصل.

انوار الأصول، ج 1، ص: 98

ويؤيّد ذلك أنّ كلمة «الصّلاة» بهذه اللّفظة موجودة في إنجيل برنابا الموجود في زماننا هذا لا بلفظة اخرى عبرانيّة أو سريانيّة، وهذا يشهد على أنّه كما أنّ المعاني لم تكن مستحدثة، كذلك الألفاظ التي يعبّر عنها (وإن كانت صحّة هذا الانجيل محلّ الكلام).

والذي يسهّل الخطب إنّ إثبات المعاني اللغويّة لهذه الألفاظ بهذا الدليل لا أثر له في الثمرة المعروفة لهذه المسألة بل يؤكّد حملها على المعاني المعروفة الشرعيّة بطريق أولى، فإنّ لازم هذا الكلام كون الصّلاة مثلًا حقيقة في الأركان المخصوصة حتّى قبل ظهور الإسلام فلا تحمل على معنى الدعاء إذا وردت في لسان الشارع بلا قرينة.

الأمر الثاني: في دائرة الحقائق الشرعيّة

وقد أشرنا سابقاً إلى أنّ دائرتها أوسع من الألفاظ المتداولة في ألسنة الاصوليين، والدليل عليه أنّ الحقيقة الشرعيّة التي ينبغي البحث عن ثبوتها وعدمه على أقسام:

1- ما وضعت للعبادات المخترعة في الشرع مثل «الصّلاة» و «الزّكاة» و «الحجّ» وغيرها.

2- ما وضعت لأقسام هذه العبادات وهو بالنسبة إلى الصّلاة ك «صلاة الآيات» و «صلاة الليل» و «صلاة الفطر» و «صلاة القضاء» و «صلاة الأداء» و «صلاة الفريضة» و «صلاة النافلة» وهكذا بالنسبة إلى الصّوم والزّكاة والحجّ.

3- ما وضعت لأجزاء هذه العبادات مثل عنوان «الطواف» و «السعي» و «الوقوف» و «التقصير» في الحجّ، و «الركوع» و «السجود» و «التشهّد» و «القنوت» في الصّلاة.

4- ما وضعت في غير العبادات، مثل عنوان «الحدّ» و «التعزير» و «الكرّ» و «الماء القليل» وغيرها.

والظاهر أنّ جميع هذه الألفاظ محلّ الكلام في المقام، فهل الحقيقة الشرعيّة ثابتة في جميعها أو في بعضها؟ والإنصاف أنّه يشكل دعوى ثبوتها في جميع ما ذكرنا، فاللازم الأخذ بالقدر المتيقّن منها.

نعم توجد هنا ألفاظ

نعلم بعدم كونها حقائق شرعيّة، أي لم توضع لمعانيها الخاصّة في لسان الشارع بل كانت موجودة في العرف العامّ وإنّما اضيف إليها من جانب الشارع شرائط وخصوصّيات فحسب بحيث لم تتبدّل إلى معانٍ جديدة غير ما في العرف العامّ، مثل لفظ

انوار الأصول، ج 1، ص: 99

النكاح والطلاق والبيع، ولذلك يصحّ التمسّك في الموارد المشكوكة بإطلاق قوله تعالى: «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ» وقوله تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» مثلًا، ومن هذا القسم كلمة «الذبح» وأمثاله، فإنّها باقية على معانيها التي كانت قبل ظهور الإسلام في العرف العامّ وإن أضاف الشارع إليها شرائط وقرّر لها حدوداً، لأنّ هذه قيود حكميّة لا دخل لها في المعنى الموضوع له.

هذا كلّه في سعة دائرة النزاع، وسيأتي دخلها في ترتّب الثمرة العمليّة على البحث في الأمر الآتي.

الأمر الثالث: في ثمرة المسألة

المعروف في ثمرة المسألة حمل الألفاظ المستعملة في لسان الشارع والرّوايات على معانيها الشرعيّة عند فقدان القرينة إن قلنا بثبوت الحقيقة الشرعيّة، وإلّا تحمل على معانيها اللغويّة، فإذا قال الشارع المقدّس مثلًا: «صلّوا عند رؤية الهلال» ولم ينصب قرينة على مراده، حملت الصّلاة على معناها الشرعيّة وهو الأركان المخصوصة بناءً على ثبوت الحقيقة الشرعيّة، وعلى معناها اللغويّة وهو الدعاء بناءً على عدمه.

لكن قد أورد على هذه الثمرة في تهذيب الاصول والمحاضرات بأنّه لا طائل تحتها (مع اختلافهما في التعبير).

فقال في المحاضرات: «إنّ الرّوايات التي وصلت عن المعصومين عليهم السلام إلينا المشتملة على هذه الألفاظ كان المراد منها معلوماً فلا ثمرة، بل لا داعي لهذا البحث بعد ذلك» «1».

وقال في تهذيب الاصول: «وعلى كلّ حال الثمرة المعروفة أو الفرضيّة النادرة الفائدة ممّا لا طائل تحتها عند التأمّل حيث إنّا نقطع بأنّ الاستعمالات الواردة في مدارك فقهنا إنّما يراد منها

هذه المعاني التي عندنا فراجع وتدبّر» «2».

أقول: إنّما يصحّ الإشكال لو كان النزاع في خصوص لفظ الصّلاة والصّيام وشبهها، أمّا لو كانت دائرته أوسع ممّا ذكر، كما هو المختار وقد مرّ بيانه آنفاً فالثمرة لهذا البحث كثيرة، وما أكثر الألفاظ التي وردت في روايات المعصومين عليهم السلام ولا يعلم أنّ المراد منها معانيها الشرعيّة أو اللغويّة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 100

توضيح ذلك: أنّ هذه الألفاظ على أقسام:

الأوّل: صارت حقيقة في معانيها في زمان الرسول صلى الله عليه و آله بلا إشكال.

الثاني: (وهي أسماء أجزاء العبادات وأقسامها) لا دليل على صيرورتها كذلك في زمن الرسول بل لا يبعد أنّها صارت حقيقة في زمان الصادقين عليهما السلام.

الثالث: لا دليل ولا شاهد أيضاً على صيرورتها حقيقة إلى زمان الصادقين مثل ألفاظ الأحكام الخمسة، فلا نعلم المراد من صيغة «يكره ذلك» مثلًا (إذا استعملت في رواية) هل يكون المراد منها الحرمة، أو الكراهة المصطلحة في الفقه.

ولا يخفى أنّ البحث عن ثبوت الحقيقة الشرعيّة وعدمه يكون له ثمرة عمليّة بالنسبة إلى كثير من هذه الألفاظ، والظاهر أنّ الشبهة إنّما نشأت من تحديد البحث في ألفاظ معدودة محدودة.

بقي هنا شي ء:

وهو ما يستظهر من بعض الكلمات من أنّ الأحاديث النبويّة ليست من المنابع الفقهيّة عند الإماميّة، حتّى تكون الألفاظ الواردة فيها داخلة في نطاق البحث.

ولكنّه يرد عليه: أوّلًا: بوجود الخبر المتواتر فيها كحديث الغدير (فإنّه وإن لم يكن حديثاً فقهيّاً ولكنّه يشتمل على مسألة اصوليّة وهي حجّية قول أمير المؤمنين عليه السلام فتدبّر).

وثانياً: كم من حديث نبوي اشتهر الاستدلال به في الفقه مثل «الناس مسلّطون على أموالهم» و «المؤمنون عند شروطهم»، وفي الاصول مثل «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه» و «إذا

أمرتكم بشي ء فأتوا منه ما استطعتم» سواء قلنا بحجّية هذه المرسلات وأشباهها بسبب اشتهارها بين العلماء كما هو كذلك في الجملة، أو جعلناها مؤيّدة لإثبات بعض المسائل، فإنّ التأييد أيضاً نوع من الأثر.

ثالثاً: قد تجعل الأحاديث النبويّة مؤيّدة لبعض الأدلّة، فهي وإن لم تكن حينئذٍ أدلّة على إثبات المقاصد ولكنّها كجزء دليل.

الأمر الرابع: فيما إذا شكّكنا في تاريخ الاستعمال وتاريخ النقل

يعني إذا وردت كلمة مثل الصّلاة في حديث، ولم نعلم أنّ الحديث ورد قبل نقل هذه اللّفظة

انوار الأصول، ج 1، ص: 101

إلى المعنى الشرعي أو بعد نقلها إليه، فإن كان الأوّل لا بدّ من حملها على معناها اللغوي، وإن كان الثاني وجب حملها على المعنى الشرعي.

وحاصل الكلام هنا: إنّه تارةً يكون تاريخ الاستعمال وتاريخ النقل كلاهما معلومين واخرى يكون تاريخ الاستعمال معلوماً وتاريخ النقل مجهولًا أو بالعكس، وثالثاً يكون كلاهما مجهولين.

لا كلام في الصورة الاولى والثالثة فإنّ حكمهما واضح كما لا يخفى، إنّما البحث والإشكال في الصورة الثانيّة، فهل يجري فيها أصل من الاصول العمليّة أو لا؟

لا شكّ في عدم جريان استصحاب عدم المجهول إلى زمان المعلوم في كلا شقّيها، لأنّ الاستصحاب يجري في الأحكام الشرعيّة وموضوعاتها، فإنّه من الاصول التعبّديّة التي وضعها الشارع فيها، ولذلك لا بدّ في جريانها من أثر شرعي بلا واسطة، ولا ريب في أنّ عدم الاستعمال أو عدم النقل في ما نحن فيه ليس له أثر شرعي بلا واسطة.

نعم تجري أصالة عدم النقل التي هي من الاصول اللّفظيّة العقلائيّة، وتكون من الأمارات في صورة الجهل بالنقل والعلم بالاستعمال لا العكس.

لكن يرد عليه: بأنّ أصل عدم النقل يجري فيما إذا شكّكنا في أصل النقل لا ما إذا كان أصل النقل معلوماً وكان تاريخه مجهولًا، فإنّ بناء العقلاء ثابت في الأوّل

دون الثاني، وعلى هذا فلا أصل عملي يجري في المقام.

الأمر الثامن: الصحيح والأعم

اشارة

وهو من أهمّ المباحث الاصوليّة لما فيها من آثار عمليّة، ولا بدّ فيه من تقديم امور قبل الورود في أصل البحث:

الأمر الأوّل: في عنوان البحث فقد عنونه المحقّق الخراساني رحمه الله هكذا: «وقع الخلاف في أنّ ألفاظ العبادات أسام لخصوص الصحيحة أو للأعمّ منها».

ولكن يرد عليه: أوّلًا: أنّ موضوع الصحيح والأعمّ لا يختصّ بالعبادات بل يشمل ألفاظ المعاملات أيضاً مثل لفظ النكاح والطلاق والبيع، بل ويشمل غيرهما كالألفاظ الموضوعة لموضوعات الأحكام نظير لفظ الدينار والحلّة في باب الديّة، فيقع النزاع في أنّ الدينار مثلًا هل وضع للصحيح منه أو للأعمّ؟

وثانياً: يستشمّ من تعبيره بالأسامي من أنّ النزاع يدور مدار القول بالحقيقة الشرعيّة مع أنّ من المعلوم عدم اختصاصه به.

وعنونه بعض الأعلام بأنّ «ألفاظ العبادات والمعاملات هل تكون أسامى للصحيحة أو للأعمّ».

ويرد عليه: أيضاً الإشكال الثاني ممّا أُورد على المحقّق الخراساني رحمه الله، وكذلك الأوّل بالنسبة إلى غير العبادات والمعاملات كما لا يخفى.

وقال بعض الأعاظم في مقام بيان عنوان البحث: «الأصل في استعمالات الشارع لألفاظ العبادات ماذا؟».

ويرد عليه: 1- بعض ما مرّ كما هو ظاهر، 2- أنّ لازم قوله «استعمالات الشارع» تحديد دائرة النزاع بالألفاظ المستعملة في لسان الشارع مع أنّ النزاع كلّي يجري بالنسبة إلى مطلق الألفاظ سواء كانت مستعملة في لسان الشارع أم لا، وإن كان الغرض من هذا البحث الحصول انوار الأصول، ج 1، ص: 104

على كيفية استعمالات الشارع فحسب نظير البحث في سائر المباحث اللّفظيّة كمبحث الأوامر والنواهي فإنّ النزاع فيها يكون في مطلق صيغة الأمر أو صيغة النهي مثلًا، من أي مولى صدرت، ولكن الغرض منه هو الحصول على كيفية دلالة صيغة

الأوامر والنواهي الصادرة من ناحية الشارع.

وثالثاً: إنّ قوله «ماذا؟» كلمة مبهمة لا تبيّن المراد من البحث وإنّه من جهة الصحيح والأعم أو الحقيقة والمجاز أو جهات اخرى.

فالأولى أن يقال: «إنّ ألفاظ العبادات والمعاملات وغيرهما بمقتضى الوضع الشرعي أو اللغوي أو القرينة العامّة هل هي للصحيح أو للأعمّ منه؟» فإنّه لا يرد عليه شي ء ممّا ذكر كما لا يخفى.

الأمر الثاني: في أنّه لا فرق في جريان النزاع بين القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة وعدمه وبين أن تكون الألفاظ مجازات في المعاني الشرعيّة أو حقائق لغويّة فيها (كما قال بعض بعض) أو حقائق لغويّة في المعاني واللغويّة كما يحكى عن الباقلاني.

وذلك لأنّ المعنى الحقيقي أو المجازي هنا يشتمل على أجزاء وشرائط على كلّ حال ويتصوّر فيها الصحيح والفاسد فيجري النزاع فيها حتّى على القول بأنّ الصّلاة في استعمالات الشرع مثلًا يراد منها الدعاء فإنّه لا إشكال في أنّ هذا الدعاء في هذه الاستعمالات مقيّد بقيود خاصّة فيتصوّر فيها الصحيح والأعمّ، والجامع للشرائط والأجزاء أو الفاقد لبعضها.

الأمر الثالث: في معنى الصحّة والفساد وإنّه ما هو المقصود منهما؟ ونكتفي ببيان معنى الصحّة حتّى يعرف معنى الفساد أيضاً فإنّ الأشياء تعرف بأضدادها.

وقد ذكر لها معانٍ مختلفة، فقال بعض أنّها بمعنى اسقاط الإعادة والقضاء، وهذا منسوب إلى الفقهاء، وقال بعض آخر أنّها بمعنى موافقة الأمر، وهو منسوب إلى المتكلّمين، ولا يخفى عدم تماميّة شي ء منهما بل كلّ من الفقيه والمتكلّم فسّر الصحّة وفقاً لمسلكه الخاصّ، فالفقيه حيث يبحث عن الإعادة والقضاء في باب العبادات فسّرها بإسقاطها مع أنّه لا يصدق في أبواب المعاملات، والمتكلّم حيث إنّه يبحث في علم الكلام عن مسائل المعاد وعن الثواب والعقاب، وهما يترتّبان على موافقة الأمر ومخالفته،

فقد فسّر الصحّة بالموافقة، وفي الواقع أنّهم أخذوا بلوازم الصحة المطلوبة لهم. والمحقّق الخراساني رحمه الله فسّرها بالتماميّة وهو أيضاً غير تامّ لأنّه انوار الأصول، ج 1، ص: 105

مبهم لم يعيّن فيه حيثيّة التماميّة وجهتها، فهل المراد التماميّة من ناحية الأجزاء أو من جهة الأجزاء والشرائط، أو من جهات اخرى؟

والتعريف الرابع ما هو المعروف بين من تأخّر عن المحقّق المذكور، وهو تعريفها بالجامعية للأجزاء والشرائط.

ولنا تعريف خامس يكون أقرب إلى الواقع وهو أن يقال: إنّ الصحيح ما يترتّب عليه جميع الآثار المطلوبة منه (أي الآثار الكاملة) وبتعبير آخر الشي ء الصحيح هو ما يكون واجداً للخاصّية المترقّبة منه، والفاسد هو ما يكون فاقداً لها.

بيان ذلك: إنّ المركّبات على قسمين: حقيقة واعتباريّة، فالمركّب الحقيقي ما يكون بين أجزائه ربط خارجي حقيقي كبدن الإنسان وجسم الشجر، والمركّب الاعتباري ما لا يكون كذلك بل اعتبر نحو ربط بين أجزائه المتشتّة في الخارج كالصّلاة والعقود، وحيث إنّ مدار البحث في الصحيح والأعمّ هو المركّبات الاعتباريّة في الغالب فلابدّ لنا من تعيين معيار الوحدة وسبب الارتباط فيها، ولا إشكال في أنّ عامل الوحدة في المركّبات الاعتباريّة إنّما هو تأثير الأجزاء المختلفة المتشتّة في أثر واحد أو آثار معيّنة.

إذاً ينبغي لنا أن نأخذ هذا المعنى في تفسير الصحّة حتّى يكون التعريف تعريفاً مطابقاً لما في الواقع ومساعداً للاعتبار وطبيعة الحال، ولذلك نقول: الصحيح ما يترتّب على تركيب أجزائه وانسجامها الأثر المطلوب المترتّب منه فالصلاة المركّبة من الركوع والسجود والتكبير والتسليم مع الطهارة واستقبال القبلة أمر وحداني في نظر الشارع المقدّس يراد منه تحقيق أثر خاص عند اجتماعها سواء كان النهي عن الفحشاء والمنكر أو غيره، وهكذا الصّيام وغيره.

إن قلت: من أين نفهم أنّ

هذا المركّب يحقق الأثر المطلوب منه؟ فلا سبيل إليه إلّامن طريق جامعيّته للأجزاء والشرائط فمآل الأمر إلى ما جاء في التعريف الرابع.

قلنا: محلّ البحث في المقام إنّما هو مقام الثبوت، والمعيار فيه هو ترتّب الأثر المرغوب، نعم في مقام الإثبات قد لا نعلم بذلك ولا طريق لنا إليه إلّامن ناحية الجامعية للأجزاء والشرائط.

وهذا شي ء آخر لا دخل له بأصل المعنى.

ثمّ إنّه ينبغي أن يعلم أنّ الصحّة والفساد أمران إضافيّان، فيختلف شي ء واحد صحّة وفساداً بحسب الحالات المختلفة الطارئة عليه، فيكون تامّاً بحسب حالة وفاسداً بالنسبة إلى انوار الأصول، ج 1، ص: 106

حالة اخرى كالصّلاة الرباعيّة، فإنّها صحيحة بالنسبة إلى الحاضر وفاسدة للمسافر إلى غير ذلك من الأمثلة.

الأمر الرابع: بناءً على تعريف الصحّة بالجامعيّة هل تكون الشرائط أيضاً داخلة في المسمّى عند الصحيحي أو لا؟

لا إشكال في دخول الأجزاء في المسمّى عنده، وأمّا الشرائط فهي على ثلاثة أقسام:

أحدها: ما أخذ في المأمور به كالطهارة والاستقبال.

ثانيها: ما لم يؤخذ في المأمور به ولكن نفهمه من الخارج من دليل العقل وإن كان أخذه في المأمور به شرعاً أيضاً ممكناً ولكنّه لم يؤخذ، فلا يلزم من أخذه محذور، مثل شرط عدم ورود النهي وعدم الابتلاء بالضدّ.

ثالثها: ما لا يمكن أخذه في المأمور به شرعاً نحو قصد القربة على قول المشهور من استلزام أخذه الدور المحال (وسيأتي في مبحث التوصّلي والتعبّدي إن شاء اللَّه أنّ المختار إمكان أخذه بلا محذور فانتظر) وقد ذهب شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله (بناءً على ما حكي عن تقريراته) إلى عدم أخذ جميع هذه الأقسام في المأمور به عند الصحيحي، فصحيح هو ما كان تامّ الأجزاء، ولا يلاحظ الشرائط مطلقاً وذلك لتأخّرها عن الأجزاء رتبة فإنّ

الأجزاء بمنزلة المقتضي للأثر، والشرائط معدّات لها فلا يمكن أخذها في المسمّى في عرض الأجزاء.

لكنّه ممّا لا يمكن المساعدة عليه، لأنّ تأخّر الشرائط عن الأجزاء بحسب الوجود لا ربط له بمقام التسمية، فإنّه لا مانع في هذا المقام من الجمع بين لحاظ المتقدّم في الوجود ولحاظ المتأخّر فيه ثمّ وضع الاسم عليهما معاً كما لا يخفى.

وهذا بالنسبة إلى القسم الأوّل من الشرائط أمر واضح، أمّا القسم الثاني فقد يقال أنّه حيث لم يؤخذ في المأمور به في لسان الشارع فلا يصحّ أخذه في المسمّى أيضاً، لأنّ أخذه في المسمّى مع عدم كونه مأموراً به يستلزم تعلّق أمر الشارع بما ليس مأموراً به.

ولكن يرد عليه أنّ عدم الأخذ في المأمور به وإطلاقه بحسب الظاهر لا يلازم عدم الأخذ في المسمّى والمأمور به بحسب الواقع، لأنّ إطلاقه الظاهري مقيّد في الواقع بدليل العقل، فالمأمور به واقعاً مقيّد بعدم ورود النهي عنه مثلًا، لعدم جواز اجتماع الأمر والنهي على الفرض بحكم العقل، فالقسم الثاني يرجع إلى القسم الأوّل بحسب الواقع، وعليه فلا وجه لما ورد في انوار الأصول، ج 1، ص: 107

المحاضرات من أنّ دخل هذا القسم في المسمّى واضح البطلان.

كما يظهر منه ضعف ما أفاده في تهذيب الاصول حيث قال: «بعد ما عرفت من أنّ الموضوع له ليس عنواني الصحيح والأعمّ يمكن أن يقال إنّ الشرائط ليست على نسخ واحد بل بعضها من قيود المسمّى بحيث ينحلّ المسمّى إلى أجزاء وتقيّدات، وبعضها الآخر من شروط تحقّق المسمّى خارجاً، ولا دخالة له في الماهيّة، أو من موانع تحقّقه في الخارج من دون أن يكون عدمه دخيلًا في الماهيّة أيضاً، ولا يبعد أن يكون ما يأتي من قبل الأمر من

شروط التحقّق، كما أنّ الشرائط العقليّة مثل عدم ابتلائه بالضدّ وعدم كونه منهيّاً عنه من قبيل نفي موانع التحقّق فهما غير داخلين في الماهيّة وخارجان عن محلّ البحث والنزاع ... والمسألة بعد لا تخلو عن غموض وإشكال» «1».

أقول: الظاهر أنّه لا فرق بين هذه الأقسام أيضاً (قيود الماهية وشروط تحقّقها في الخارج) لا سيّما بعد ما عرفت من أنّ الموضوع له على القول بالصحيح هو المؤثّر للآثار المطلوبة، ومن الواضح أنّ انعدام كلّ واحد من هذه الشرائط يوجب نفي الأثر فلا يكون مصداقاً للصحيح، فالصلاة الفاقدة لقصد القربة أو المنهي عنها لبعض الجهات لا يترتّب عليها ما هو المقصود منها، فلا تسمّى صلاة شرعاً فلا يبقى وجه للفرق بين شروط الوجود والماهيّة، بل قصد القربة من مقدّمات العبادة، فأخذها فيها أظهر من كلّ شرط وجزء.

وإن شئت قلت: إنّ القسم الثاني والثالث في الحقيقة يرجعان إلى القسم الأوّل، مثلًا إن قصد القربة في القسم الثالث وإن كان لا يمكن أخذه في المأمور به شرعاً على مذاق القائلين به إلّا أنّه لا إشكال في أنّه متبادر من العبادة وبه قوامها، فكيف لا يكون داخلًا في مسمّاها؟ كما أنّ عدم الابتلاء بالمزاحم وعدم ورود النهي عنها (وبعنوان كلّي عدم المانع) في القسم الثاني يرجعان إلى قصد القربة ومحكومان بحكمه.

نعم يمكن أن يقال إنّ الشرائط مختلفة بحسب دخلها في التأثير بالقوّة أو بالفعل، مثلًا إذا صنع الطبيب معجوناً من عشرة أجزاء وسمّاها بالسقمونيا، فكان من شرائط تأثيره بالقوّة أن يكون مائعاً مثلًا، فإذا يبس بطل تأثيره فيقال إنّه فاسد، فالأجزاء العشرة كلّها داخلة في انوار الأصول، ج 1، ص: 108

المسمّى على قول القائلين بالصحّة، كما أنّ اشتراط كونه بحال الميعان

أيضاً داخل في مسمّى الصحيح لعدم الأثر في جامده.

ولكن هناك شرائط لفعليّة تأثيره مثل لزوم شربه قبل الغذاء أو بعده، كما أنّ هناك موانع من تأثيره بالفعل مثل الاجتناب عن بعض الأغذيّة كالملح والدسوم واللحوم مثلًا، ولا شكّ أنّ أمثال هذه الامور من الشرائط والموانع خارجة عن مسمّى ذاك المعجون وإن كانت دخلية في فعليّة تأثيره.

ولكن الظاهر أنّ الطهارة والاستقبال وقصد القربة وعدم الابتلاء بالضدّ وأمثال ذلك كلّها من القسم الأوّل، ولا نجد في العبادات مصداقاً للقسم الثاني، اللهمّ إلّاأن يقال إنّ الإيمان شرط لصحّة العمل ولكن ليس دخيلًا في مسمّى الصّلاة والصّيام والحجّ، فتدبّر جيّداً.

الأمر الخامس: تصوير القدر الجامع من أهمّ المقدّمات وله دور رئيسي في حلّ مشكلة مبحث الصحيح والأعمّ.

لا إشكال في أنّ ألفاظ العبادات والمعاملات كالصّلاة والبيع ليست من المشترك اللّفظي بالنسبة إلى أفرادها ومصاديقها الكثيرة بل إنّها من قبيل المشترك المعنوي، وحينئذٍ لا يخفى لزوم تصوّر قدر جامع لافرادها ومصاديقها حتّى يوضع اللّفظ بإزائه، كما لا إشكال في أنّ الصحيحي والأعمّي فيه سيّان، ولذلك وقع كلّ منهما في حيص وبيص لوجود إشكالين في بيان القدر الجامع:

الإشكال الأوّل: كثرة أفراد العبادات والمعاملات واختلافها من حيث أجزائها وشرائطها.

الإشكال الثاني: صحّة صدق كلّ واحد من أسامي العبادات والمعاملات على كلّ فرد منها، فيصحّ إطلاق اسم الصّلاة مثلًا على فاقد كلّ جزء وعلى واجده، وهو يستلزم كون كلّ جزء جزءً عند وجوده، وعدم كونه جزءً عند فقدانه، فيستلزم كونه مقوّماً للصّلاة عند وجوده، غير مقوّم لها عند عدمه، ولازم هذا تبدّل الماهية، أي تفاوت الأفراد في الماهية، وهو مانع عن تصوير جامع بينها كما لا يخفى، وبعبارة اخرى: الصّلاة التي يؤتى بها عن قيام أو

مع الركوع والسجود يكون القيام والركوع والسجود أجزاءً لها، ولكن إذا أتى بها عن جلوس ومع الايماء أو بلا إيماء عند عدم القدرة عليه لا تكون هذه الامور جزءً لها، وهذا ممّا لا يقبله العقل انوار الأصول، ج 1، ص: 109

ولا يمكن معه أخذ الجامع بين هذه الأفراد.

وسيوافيك إنّ كلّ واحد من الصحيحي والأعمى يتّهم صاحبه بعدم تصويره ووجدانه قدراً جامعاً مع أنّ له دوراً رئيسيّاً في حلّ المسألة كما أشرنا إليه.

إذا عرفت هذا.

فنقول: قد ذكر في كلمات الصحيحيين عناوين مختلفة للقدر الجامع فنذكرها أوّلًا ثمّ نبحث عمّا ذكره الأعمّي:

أحدها: ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله قال: «لا إشكال في وجوده (القدر الجامع) بين الأفراد الصحيحة وإمكان الإشارة إليه بخواصّه وآثاره، فإنّ الاشتراك في الأثر كاشف عن الاشتراك في جامع واحد يؤثّر الكلّ فيه بذاك الجامع، فيصحّ تصوير المسمّى بلفظ الصّلاة مثلًا بالناهية عن الفحشاء وما هو معراج المؤمن ونحوهما- ثمّ قال- في جواب بعض الإشكالات إنّ الجامع إنّما هو مفهوم واحد (بسيط) منتزع عن هذه المركّبات المختلفة زيادة ونقيصة بحسب اختلاف الحالات».

أقول: يرد عليه:

أوّلًا: أنّ أساس كلامه في المقام قاعدة الواحد، وفيها ما مرّ من اختصاصها عند القائلين بها بالواحد الحقيقي البسيط من جميع الجهات، فلا تجري في الماهيّات الاعتباريّة مثل الصّلاة والصّوم التي تكون وحدتها اعتباريّة.

ثانياً: أنّه خلاف الوجدان والمتبادر العرفي، لأنّه إذا اطلقت الصّلاة لا ينسبق إلى الذهن إلّا تلك الأركان أو الأعمال المخصوصة والمركّب الخارجي من الأجزاء، لا الأمر البسيط المذكور في كلامه.

ثانيها: ما ذكره المحقّق النائيني رحمه الله بعد اشكاله على جميع ما ذكره الأعمّي والصحيحي وحاصله: إنّ القدر الجامع في الصّلاة مثلًا هو المرتبة العليا من مراتبها، وأمّا إطلاقها

على المراتب الدانيّة فإمّا أن يكون بنوع من الادّعاء والتنزيل، أي تنزيل الفاقد منزلة الواجد، فإطلاق الصّلاة على صلاة من يأتي بها جالساً يكون بتنزيلها منزلة صلاة القائم، أو لاكتفاء الشارع بها عن الصّلاة الكاملة كما في صلاة الغريق، وهذا لا يختصّ بالصحيحي بل هو عند الأعمّي كذلك، فإنّ القدر الجامع عنده أيضاً هو المرتبة العليا من الصّلاة وإطلاقها على الفاسد

انوار الأصول، ج 1، ص: 110

منها يكون بتنزيله منزلة الصحيح «1». (انتهى).

ويرد عليه: أوّلًا: أنّ المرتبة العليا أمر مجهول مبهم، فهل هي الصّلاة الرباعيّة أو الثلاثيّة أو الثنائيّة؟ فإنّ المرتبة العليا في كلّ واحد منها غيرها في الآخر.

وثانياً: أنّه أيضاً خلاف الوجدان والمتبادر العرفي، لأنّ إطلاق الصّلاة على المأتي بها جالساً إطلاق حقيقي، فهي صلاة حقيقة لا مجازاً وادّعاءً.

وثالثاً: إنّه يستلزم عدم ترتّب ثمرة إمكان التمسّك بالإطلاق وعدمه على النزاع بين الصحيحي والأعمى، وهذا ممّا لا يلتزم به المشهور، فتأمّل.

ثالثها: ما ذكره بعض الأعلام من أنّ الجامع هو مرتبة من الوجود، المحدود من طرف القلّة بكونه جامعاً للأركان كلّها، والملحوظ من طرف الزيادة بنحو اللابشرط بحيث يشمل الأقلّ والأكثر.

توضيح كلامه: إنّ الجامع بين الأفراد الصحيحة ليس جامعاً مقوليّاً ولا جامعاً عنوانيّاً بل هو جامع وجودي، أمّا عدم كونه جامعاً مقوليّاً فلكون الصّلاة مثلًا من مقولات مختلفة، فإنّ بعض أجزائها نحو الأذكار من مقولة الكيف المسموع، وبعضها الآخر نحو الركوع والسجود من مقولة الوضع وهكذا، وحيث إنّ المقولات من الأجناس العالية لا جنس فوقها فلا يمكن تصوّر جامع بينها، وأمّا عدم كونه جامعاً عنوانيّاً نحو عنوان «الناهي عن الفحشاء والمنكر» فلأنّه خلاف الوجدان حيث إنّ الوجدان حاكم على أنّ الصّلاة اسم لنفس الأجزاء لا لعنوان الناهي فلابدّ

من جامع وجودي وهو في الصّلاة مثلًا مرتبة من الوجود شاملة لأركان الصّلاة من جانب القلّة وتكون بنحو اللابشرط من جانب الكثرة.

ثمّ أورد على نفسه:

أوّلًا: بأنّ لازم هذا وجود قدر جامع في الأركان مع أنّه لا جامع فيها أيضاً فإنّه لا جامع مثلًا بين الانحناء من حال القيام والايماء بالنسبة إلى الركوع.

وثانياً بأنّ لازم كون الجامع المذكور لا بشرط في جانب الكثرة صدق الصّلاة على الصّلاة الفاسدة من ناحية غير الأركان أيضاً، وهو مخالف للقول بالصحيح.

انوار الأصول، ج 1، ص: 111

وتخلّص عن الأوّل بأنّ المراد من الأركان نفس الأركان وأبدالها، وعن الثاني بإضافة قيد «مع كونه مقروناً بالخصوصّيات والإضافات من جانب الشارع».

هذا تمام ما أفاده قدّس سرّه الشريف في هذا المقام.

لكن يرد عليه:

أوّلًا: أنّ الجامع هذا يستلزم عدم كون الصّلاة مثلًا من الماهيّات المتساوية نسبتها إلى الوجود والعدم (لكونها مقيّدة بالوجود على الفرض) فلا يصحّ قولك: «لم يتحقّق اليوم صلاة» مع أنّه واضح البطلان فتأمّل.

وثانياً: أنّ معنى اللابشرط في كلامه أن يكون الجزء عند وجوده داخلًا في المسمّى وعند عدمه خارجاً عنه، وهو خلاف ما قرّر في محلّه من أنّ معنى اللابشرط في ماهيّة بالنسبة إلى أمر عدم مزاحمته في صدق تلك الماهية لا كونها جزءً للماهية عند وجوده، مثلًا إذا قلنا: «صدق مفهوم زيد على مصداقه يكون لا بشرط من حيث كون عمرو معه وعدمه» ليس معناه إنّه إذا كان عمرو معه صدق اسم زيد على كليهما بل معناه إنّه لا يزاحم صدق زيد على ذاك الشخص بعينه، مع أنّ من الواضح أنّ غير الأركان إذا وجدت كان من أجزاء الصّلاة وداخلًا في مصداقه.

وثالثاً: سلّمنا، ولكنّه مختصّ بالماهيات التي تعلّقت على خصوصيّاتها ومزاياها أوامر من

جانب الشارع وصدر من جانبه بيان فيها، فلا يجري في أبواب المعاملات والموضوعات المخترعة العرفيّة مع أنّه لا إشكال في أنّ النزاع بين الصحيحي والأعمى جارٍ فيها أيضاً.

رابعها: ما ذهب إليه في تهذيب الاصول وإليك نصّ كلامه: «إنّها (أي المركّبات الاعتباريّة) وضعت لهيئة خاصّة مأخوذة على نحو اللابشرط فانيّة فيها موادّها الخاصّة من ذكر وقرآن وركوع وسجود تصدق على الميسور من كلّ واحد، وهيئتها صورة إتّصالية خاصّة حافظة لمادّتها أُخذت لا بشرط في بعض الجهات» «1».

ويرد عليه أيضاً:

أوّلًا: أنّ هذا الجامع مبهم جدّاً، بل مبهم في مبهم كما لا يخفى فكيف يمكن تصوّره ووضع اللفظ له؟

وثانياً: ما مرّ آنفاً بالنسبة إلى قيد اللابشرط في مقام ردّ كلام بعض الأعلام من أنّ حيثية

انوار الأصول، ج 1، ص: 112

لا بشرط في ماهية بالنسبة إلى أمر معناها عدم مزاحمته في صدق تلك الماهية لا كونها جزءً لها كما مرّ بيانه.

خامسها: ما ذكره في هامش أجود التقريرات وحاصله: إنّه لا بدّ في تسميّة كلّ شي ء من الرجوع إلى مخترعه، وهو في ما نحن فيه الشارع المقدّس الذي قال: «الصّلاة أوّلها التكبير وآخرها التسليم» وقال أيضاً: «الصّلاة ثلثها الركوع وثلثها السجود وثلثها الطهور» فما اعتبره الشارع في هذه الرّوايات يكون من أجزاء المسمّى وأمّا غير ذلك من الأجزاء والشرائط فيكون المسمّى بالنسبة إليها على نحو اللابشرط «1».

أقول: قد ظهر ممّا ذكرنا كلّه ضعف كلامه أيضاً، حيث يرد عليه أوّلًا: ما مرّ في تفسير حيثية لا بشرط.

وثانياً: أنّ هذا الجامع أيضاً لا يتصوّر في المخترعات العرفيّة التي ليس لها مخترع خاصّ حتّى نرجع إليه في التسمية.

وثالثاً: أنّ لازم كلامه بطلان صلاة من لم يأت بالتسليم سهواً لأنّ المفروض في كلامه إنّ التسليم

جزء للمسمّى فلا تكون صلاة من لم يأت بالتسليم صلاة وهو أوّل الكلام، وبعكسه من ترك القيام مطلقاً حتّى القيام المتّصل بالركوع، إلّاأنّ صلاته باطلة وإن كان ساهياً.

المختار في الجامع الصحيحي:

إذا عرفت إنّه لا يمكن الموافقة لما ذكره الأعلام في المقام فنقول: الصحيح في تشخيص القدر الجامع إنّما هو الرجوع إلى الآثار المترتّبة على الماهيات فإنّها قطب الرحى الذي يدور عليه مدار التسمية في العرف والشرع.

توضيحه: أنّ المركّبات الشرعيّة تكون على وزان المخترعات العرفيّة، فلابدّ لمعرفتها من تشريح المخترعات العرفيّة وتفسيرها، ولا ريب أنّ المخترعات العرفيّة تدور غالباً مدار الأثر، فالساعة مثلًا من مخترعات العرف والأثر المطلوب منها إنّما هو تعيين الأوقات ولا دخل لمادّة

انوار الأصول، ج 1، ص: 113

خاصّة بل لهيئة خاصّة في الحصول على هذا الأثر، ولذلك نرى تغييرها من مادّة إلى مادّة وهيئة إلى هيئة (فتبدّلت الساعة الرملية مثلًا إلى المائيّة ثمّ إلى الرقّاصيّة ثمّ إلى الكهربائيّة) مع ثبوت الأثر المرغوب منها (وهو تعيين الوقت) وثبوت الاسم الموضوع عليها أوّلًا وهو اسم «الساعة»، وهكذا بالنسبة إلى سائر المخترعات نظير المصباح والسيارة والبناء، فإنّ ثبات هذه الأسامي مع التغيير الكثير في المادّة والهيئة من جميع الجهات يوحي إلينا أنّ ملاك التسمية في هذه المخترعات إنّما هو الآثار والخواصّ المطلوبة منها، وحيث إنّ الأثر كان ثابتاً وباقياً على حاله بقى الاسم كذلك.

وإن شئت قلت: كما أنّ منشأ الاختراع والمحرّك نحوه يكون هو الأثر المطلوب منه والمترتّب عليه، كذلك في التسمية، فيلاحظ فيها ذلك الأثر من دون دخل لمادّة أو هيئة خاصّة.

إذا عرفت هذا فنقول: إنّ وزان المخترعات الشرعيّة وزان المخترعات العرفيّة، فإنّ الشارع مع ملاحظته الآثار والخواصّ وضع الأسماء لمعانيها ففي الصّلاة مثلًا نظر إلى أثر النهي

عن الفحشاء والمنكر مثلًا أو شي ء آخر وجعل لفظة الصّلاة لكلّ مجموعة توجب هذا الأثر، سواء كانت صلاة المريض أو الصحيح أو كانت صلاة المسافر أو الحاضر أو صلاة الغريق أو غيرها، فلا مانع من إطلاق الصّلاة حتّى على صلاة الغريق إذا تحقّق بها ذلك الأثر، كما أنّه لا دخل للمعرفة بهذا الأثر بعينه والعلم به تفصيلًا بل يكفي العلم إجمالًا بأنّ صدور هذه المجموعة العباديّة من الشارع كان لأثر خاصّ ومصلحة خاصّة، فالفرق بينها وبين المركّبات العرفيّة أنّ الأثر الذي يدور عليه رحى التسمية معلوم مشهور ولكن أثر العبادات غير معروف لنا إلّا بمقدار ما بيّنه الشارع، فهو العالم بترتّبه على أفرادها بعرضها العريض.

نعم يمكن أن يكون لهذا الأثر مراتب مختلفة بعدد مصاديق للصّلاة مختلفة نظير مراتب النور في الأفراد المختلفة للمصباح، ولكن هذا التفاوت الرتبي لا يضرّ بالاطلاق والتسمية، فلو كان كلّ صلاة صحيحة من كلّ إنسان يترتّب عليها بعض مراتب النهي عن الفحشاء بنظر الشارع المقدّس كفى في إجرائه التسمية على جميعها. فقد ظهر إنّ القدر الجامع في المقام يدور على أساس وحدة الأثر، فهو في كلّ عبادة مجموعة من الأجزاء والشرائط التي توجب الأثر المترقّب منها بنظر الشارع المقدّس.

انوار الأصول، ج 1، ص: 114

هذا هو المختار في المسألة ولكن يرد عليه في بدو النظر أربع إشكالات لا بدّ من الجواب عنها:

1- في الفرق بينه وبين مختار المحقّق الخراساني رحمه الله فلقائل أن يقول: إنّه لا فرق بينهما فإنّه رحمه الله أيضاً جعل القدر الجامع ما يوجب النهي عن الفحشاء.

أقول: إننا لا نأبى عن الاقتداء بهؤلاء الأعاظم فيما لو كان المراد واحداً، ولكن بينهما بوناً بعيداً، لأنّ المحقّق رحمه الله جعل المسمّى أمراً

بسيطاً تمسّكاً بقاعدة الواحد بينما نحن نقول: إنّ المسمّى أمر مركّب من مجموعة من الأجزاء توجب ذلك الأثر، كما في مثال السراج وغيره.

2- في الفرق بينه وبين ما أفاده في تهذيب الاصول المذكور سابقاً.

وجوابه إنّه صرّح بأنّ المسمّى هيئة خاصّة فانيّة في الموادّ مأخوذة على نحو اللابشرط، مع أنّ المختار إنّ الهيئة أيضاً لا خصوصيّة لها كالمادّة، وإنّما الخصوصيّة للآثار، وبعبارة اخرى: إنّ مدار التسمية (على المختار) إنّما هو الأثر، ولا أثر منه في كلامه.

3- ما يمكن أن يقال: بأنّ هذا مبنيّ على ما إذا كان لجميع أنواع الصّلاة أثر واحد لا ما إذا كان لكلّ واحد منها أثر يخصّه.

وجوابه: أنّ تفاوت آثار الصّلاة دعوى بلا برهان وقول بلا دليل، نعم يمكن أن يكون من قبيل تفاوت أنوار المصابيح شدّة وضعفاً ولوناً وهيئة مع أنّ جميعها تشترك في نفي الظلمة.

4- إنّ لازمه القول بالاشتغال في موارد الأقلّ والأكثر الارتباطيين لأنّ الشكّ فيه (بناءً على دخالة الأثر في المسمّى) يرجع إلى الشكّ في المحصّل.

والجواب عنه: أنّ الأسباب الشرعيّة على قسمين: قسم منها ما نعلم بمسبّباتها ويمكن لنا تحصيلها والوصول إليها ولذلك نكون مكلّفين بإيجادها، فلا إشكال في أنّ الأصل فيها هو الاشتغال، لأنّ الذمّة اشتغلت بالمسبّبات قطعاً وهو يقتضي البراءة اليقينية، وقسم لا يمكن فيه تحصيل المسبّبات لكونها محجوبة عنّا، فالقرينة العرفيّة قائمة هنا على أنّا غير مكلّفين بها بل نكون مأمورين بإتيان الأسباب فقط، ومن المعلوم أنّ بيان الأسباب حينئذٍ على عهدة الشارع وأنّ الواجب على المكلّف إتيانها بمقدار ذلك البيان، فإذا شككنا في جزئيّة شي ء مثلًا تجري أصالة البراءة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وإن كان المأمور به من قبيل الأقلّ والأكثر الارتباطيين، مثلًا

إذا كان المولى طبيباً فإخترع معجوناً لدفع بعض الأمراض وسمّاه بإسم انوار الأصول، ج 1، ص: 115

خاصّ بملاحظة ذاك الأثر، ولم يكن للعبد خبرة بأمر الطب أصلًا فحينئذٍ لا معنى لأمره بتحصيل ذاك الأثر، بل العرف يرون بيان أجزاء المعجون وشرائطه من وظائف المولى، وعند عدم البيان يحكمون بالبراءة، وسوف يأتي في محلّه مزيد توضيح لهذا فإنتظر.

هذا تمام الكلام في تصوير القدر الجامع بناءً على مسلك الصحيحي.

تصوير الجامع للأعمّي:

وأمّا تصويره على مسلك الأعمّي فقد ذكر له وجوه خمسة:

الوجه الأوّل: أن يكون عبارة عن الأركان، فالصلاة مثلًا وضعت لما اشتملت على الأركان.

ويرد عليه:

أوّلًا: أنّه خلاف الوجدان في مثل الصّلاة، لأنّ التسمية بالصّلاة لا يدور مدار الأركان بل قد يكون تمام الأركان موجودة، ومعه لا يصحّ إطلاق الصّلاة كما إذا أخلّ بسائر الأجزاء والشرائط مثل القبلة والطهارة والتشهّد والسلام، كما أنّه قد لا يكون تمام الأركان موجودة ولكن يطلق على المأتي به عنوان الصّلاة (بالمعنى الأعمّ) كما إذا أخلّ مثلًا بالركوع فقط.

وثانياً: أنّه يستلزم كون إطلاق الصّلاة على ما اشتملت على جميع الأجزاء والشرائط مجازاً من باب استعمال ما وضع للجزء في الكلّ.

إن قلت: يمكن دفعه بأنّ الأركان أخذت في المسمّى لا بشرط بالنسبة إلى سائر الأجزاء، فلا يكون إطلاق الصّلاة على ما اجتمعت فيها الأركان مجازاً.

قلنا: قد مرّ أنّ معنى لا بشرط أنّ سائر الأجزاء لا يضرّ بصدق الصّلاة على المسمّى وجوداً وعدماً وليس معناه إنّها جزء للمسمّى على فرض وجودها، مع أنّ من الواضح صدق الصّلاة على جميع الأجزاء على فرض وجودها.

إن قلت: إنّ غير الأركان الداخلة في المأمور به خارجة عن المسمّى.

قلت: هذا أمر عجيب لعدم الشكّ لأحد في صدق الاشتغال بالصّلاة إذا كان مشتغلًا بالقراءة

أو التشهّد مثلًا.

انوار الأصول، ج 1، ص: 116

كما أنّ قول بعض الأعلام، في ما نحن فيه بأنّه «لا استحالة في دخول شي ء في مركّب اعتباري عند وجوده وخروجه عند عدمه إذا كان ما أخذ مقوّماً للمركّب مأخوذاً فيه لا بشرط» «1» لا يخلو من نوع من التناقض لأنّ تركّب المسمّى من خصوص سبعة أجزاء ضمن عشرة أجزاء مثلًا وكونه لا بشرط بالنسبة إلى ثلاثة أجزاء اخرى معناه أنّ الأجزاء في مثل الصّلاة سبعة وأنّ الثلاثة الاخرى ليست بجزء، وكون الثلاثة جزءً للصّلاة حال وجودها وخارجة عنها حال عدمها معناه أنّ أجزاء المسمّى ليست بسبعة بل إنّها عشرة، وهذا هو التناقض، وما يظهر من كلام المحاضرات «2» (كما أشار إليه فيما نقلناه عنه من تعليقته على أجود التقريرات) من أنّ هذا ممكن في الامور الاعتباريّة دون الامور الحقيقيّة (ومثّل له بالدار فإنّ قوامها هو الحيطان والساحة والغرفة، وأمّا السرداب فيكون جزءً عند وجوده ولا يكون جزءً عند عدمه) أيضاً عجيب، فإنّ التناقض غير ممكن لا في الامور الحقيقيّة ولا في الاعتباريّة، والمسمّى الواحد يحتاج إلى قدر جامع بحيث يكون غيره خارجاً عنه زائداً عليه، وأمّا كون الشي ء داخلًا فيه عند وجوده وخارجاً عنه عند عدمه معناه أنّه جزء وليس بجزء وأنّ القدر المشترك واحد وليس بواحد، أمّا مثال الدار والسرداب فهو من قبيل المصادرة بالمطلوب، وأمّا تعيين السعر حين الدعوى، فإنّ الكلام هنا في حلّ هذه المشكلة وأنّه كيف يكون السرداب جزءاً لمسمّى الدار حين وجوده ولا يكون جزءً حين عدمه؟

وثالثاً: بأنّه أخصّ من المدّعى لعدم تصوّر الأركان في بعض العبادات كالصوم.

ورابعاً: بأنّ اصطلاح الأركان اصطلاح مستحدث في الفقه ولا يوجد في لسان الشرع شي ء بهذا الاسم

وأنّها أربعة أو خمسة، نعم قد ورد في جملة من الأخبار: «إنّ الصّلاة لا تعاد من خمسة، الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود» «3»

و «إنّ فرائض الصّلاة سبع: الوقت والطهور والتوجّه والقبلة والركوع والسجود» «4»

و «إنّ حدود الصّلاة أربعة: معرفة

انوار الأصول، ج 1، ص: 117

الوقت والتوجّه إلى القبلة والركوع والسجود» «1»

. ولا يخفى أنّ بعضها غير الأركان المصطلحة عند الفقهاء.

اللهمّ إلّاأن يقال: ليس الكلام في اسم الأركان، وإنّما الكلام في مسمّاها وهو ما تبطل الصّلاة بزيادته ونقيصته وهو موجود في روايات الباب.

الوجه الثاني: أن يكون الجامع عبارة عن معظم الأجزاء التي تدور مدارها التسمية عرفاً، ولا يخفى أنّ صدق الاسم عرفاً يكشف عن وجود المسمّى كما أنّ عدم صدقه عرفاً يكشف عن عدم وجود المسمّى.

وأورد عليه:

أوّلًا: بأنّه يستلزم كون الاستعمال في المجموع مجازاً، وهو ممّا لا يرضى به الأعمّي، وأمّا قضيّة اللابشرطيّة بالنسبة إلى الأكثر فقد مرّ ما فيها من المناقشة.

وثانياً: بأنّه يستلزم أن يتبادل ما هو المعتبر في المسمّى من أجزاء إلى أجزاء فيكون شي ء واحد داخلًا فيه تارةً وخارجاً عنه اخرى، لأنّ معظم الأجزاء ليست أمراً ثابتاً في جميع أنواع الصّلاة كما لا يخفى.

هذا إذا كان المراد من معظم الأجزاء مصداقه، ولو كان المراد مفهومه وعنوانه فيرد عليه أنّه خلاف الوجدان، فإنّه لا يتبادر من الصّلاة عنوان معظم الأجزاء بل مصداقها، أعني الأركان والأفعال.

الوجه الثالث: أن يكون وضعها (الصّلاة) كوضع الأعلام الشخصيّة كزيد، فكما لا يضرّ تبادل الحالات المختلفة من الصغر والكبر ونقص بعض الأجزاء وزيادته في صدق لفظ زيد على معناه، كذلك في مثل الصّلاة.

أقول: لا بدّ من البحث أوّلًا في كيفية الوضع في الأعلام الشخصيّة، وثانياً في صحّة قياس الوضع في المقام على

الوضع فيها.

فنقول: قد وقع النزاع بين الأعلام في ما وضع له الأعلام الشخصيّة، فقد يقال بأنّها وضعت للنفس الناطقة المتشخّصة بتشخّصٍ مّا، مثل كونها الابن الأوّل لزيد، أي أنّها وضعت للنفس انوار الأصول، ج 1، ص: 118

الناطقة المتعلّقة بالبدن، وحيث إنّ النفس باقية مع تبادل الحالات البدنيّة يكون صدق العلم أيضاً باقياً على حاله.

ويرد عليه:

أوّلًا: أنّ الأعلام ليست منحصرة في الإنسان حتّى يقال إنّها وضعت للنفس الناطقة بل إنّها تتصوّر في غيره من الأبنية والحيوانات أيضاً ك «المسجد الأعظم» و «مدرسة الإمام أمير المؤمنين» و «ذو الفقار» و «ذو الجناح».

وثانياً: الواضح في الأعلام هو العرف العامّ وهم لا يفهمون من النفس الناطقة شيئاً.

هذا- مضافاً إلى أنّ كثيراً من المادّيين منكرون لوجود النفس في الإنسان ويعتقدون بأنّ الإنسان ليس إلّاهذا البدن المادّي مع أنّهم أيضاً يضعون لأبنائهم أسماء ويجعلونها أعلاماً لهم، ولا يخفى أنّ هذا أيضاً من ثمرات خلط المسائل العرفيّة بالمسائل الفلسفية!

وقال بعض: أنّها وضعت للوجود الخاصّ المتشخّص، فزيد مثلًا وضع لحصّة من الوجود الذي تولّد من أب خاصّ وامّ خاصّة في مكان معيّن وزمان مشخّص، ولا إشكال في أنّ هذا المعنى من الوجود لا يتغيّر أبداً على مرّ الدهور ومضي الأعصار، هذا في الإنسان، وكذلك في سائر الأعلام فإنّ الكوفة مثلًا وضعت لمّا بنى في قطعة خاصّة من الأرض ويكون متشخّصاً بتشخّص تلك القطعة، وهذا هو المختار.

إن قلت: إنّ لازمه كون الموضوع في الأعلام حصّة خاصّة من الوجود لا الماهية بينما هي وضعت للماهيات المتشخّصة، ولذلك يحمل عليها الوجود تارةً والعدم اخرى ويقال مثلًا: لم يكن زيد موجوداً فصار موجوداً.

قلنا: سيأتي إن شاء اللَّه من أننا نعتقد بأنّ الموضوع له في جميع الألفاظ المستعملة في

لسان العرف هو الوجود (وما مرّ منّا سابقاً من أنّها وضعت للماهية كان مبنيّاً على مذاق المشهور) ويكون إطلاقها على المعدوم بضرب من التوسّع في المفهوم نظير إطلاق «العالِم» على ذات الباري تعالى (الذي علمه عين ذاته) مع أنّه وضع لذات ثبت لها العلم، ونظير اعتباره تعالى مفرداً مذكّراً في الكلام مع أنّ التذكير والتأنيث من خصوصّيات الممكن، ويشهد لما ذكرنا كونه مقتضى حكمة الوضع، لأنّ مراد الواضع من وضعه رفع الحاجات الاعتياديّة اليوميّة التي ترتفع بالوجودات الخارجيّة (لأنّه منشأ كلّ أثر) فإنّه يرى في حياته الاعتياديّة الشمس مثلًا

انوار الأصول، ج 1، ص: 119

ويحتاج إلى لفظ يشير به إليها، فيضع لفظ الشمس لمّا رآها من وجودها في الخارج، وكذلك بالنسبة إلى البحر والشجر والماء والخبز وغيرها.

نعم بين الأعلام الشخصيّة وغيرها فرق، وهو أنّ الأعلام وضعت لشخص المعنى الخارجي، وأمّا غيرها كلفظ الشجر والبحر فقد وضعت لوجوده الواسع، ومن هذا القسم ألفاظ العبادات والمعاملات.

وإذا عرفت هذا يظهر لك أنّ قياس الألفاظ الموضوعة للأشخاص بألفاظ العبادات قياس مع الفارق، لأنّ الأعلام وضعت للأشخاص، والشخص لا يتغيّر، بينما الصّوم والصّلاة ونظائرهما من أعلام الأجناس فإنّها تتغيّر بتغيّر الحالات.

الوجه الرابع: أنّها وضعت ابتداءً للكامل الواجد لجميع الأجزاء والشرائط إلّاأنّها تطلق على الناقص تنزيلًا للفاقد منزلة الواجد على نحو المجاز في الأمر العقلي، أو المجاز في الكلمة، أو لصيرورتها حقيقة فيه لكثرة الاستعمال كما في أسامي المعاجين حيث إنّها وضعت للواجد لجميع الأجزاء والشرائط لكن ربّما تطلق على الناقص من ناحية فقدان جزء من الأجزاء أو تبدّله إلى الآخر لأحد هذه الوجوه الثلاثة، والعمدة على مذهب الأعمى هو الثالث.

ويرد عليه: بأنّه يتمّ في مثل أسامي المعاجين وسائر المركّبات الخارجيّة لا في

ما نحن فيه، لأنّه لا يتصوّر حدّ كامل مشخّص للصّلاة مثلًا، لأنّه في بعض الصّلوات ركعتان، وفي بعض آخر ثلاث ركعات، وفي بعضها أربع ركعات.

ولكن يمكن دفعه:

اوّلًا: بأنّ الصّلاة ابتداءً وضعت لصلاة الحاضر المختار اليوميّة المركّبة من أربع ركعات، ثمّ استعمل في الركعتين أو ثلاث ركعات مجازاً، فتأمّل، فإنّ الالتزام بكونها مجازاً في صلاة الصبح أو المغرب مشكل جدّاً.

والعمدة في الإشكال على هذا القول أنّ استعمالها في الناقص إمّا يكون على نحو المجاز أو على نحو الحقيقة، والمجاز ممّا لا يرضى به الأعمى سواء كان مجازاً في الكلمة أو في الأمر العقلي، لأنّه قائل بالحقيقة، وأمّا الحقيقة فهي لا تخلو من نحوين: إمّا على نحو الاشتراك اللّفظي أو الاشتراك المعنوي، والأوّل لا يقول به أحد، والثاني يحتاج إلى وجود قدر جامع بين الكامل والناقص (لأنّ كلّ واحد منهما حينئذ مصداق للمعنى المشترك) فيعود الإشكال.

انوار الأصول، ج 1، ص: 120

وثانياً: يلزم منه عدم جواز إجراء أصل البراءة، وهكذا عدم جواز التمسّك بالاطلاق للأعمّي، أمّا الأوّل فلأنّ المطلوب من المكلّف بناءً على هذا القول هو الحدّ الكامل، والشكّ في وجوب الأكثر يسري إلى تحقّق ذلك الحدّ وهو يقتضي الاشتغال كما لا يخفى، وأمّا الثاني فلأنّ الدليل اللّفظي الآمر بالصّلاة مع وضعها لخصوص الحدّ الكامل ليس له إطلاق، لأنّ المفروض عدم صدق الصّلاة على غير الكامل حقيقة، ويكون مثل «أقيموا الصّلاة» ناظراً إلى الفرد الكامل ومستعملًا فيه، فلا يتصوّر في البين قدر جامع يتعلّق به الأمر بالصّلاة حتّى يتحقّق الإطلاق.

الوجه الخامس: أن يكون حالها حال أسامي المقادير والأوزان، مثل المثقال والحقّة والوزنة والكيلو غرام، فكما أنّ مقياس الكيلو مثلًا حقيقة في الزائد والناقص، والواضع وإن لاحظ الف غرام حين

الوضع إلّاأنّه لم يضع له بخصوصه بل للأعمّ منه ومن الزائد والناقص، أو أنّه وإن خصّ به أوّلًا إلّاأنّه بكثرة الاستعمال فيهما بعناية إنّهما منه عرفاً قد صار حقيقة في الأعمّ ثانياً.

يرد عليه: واستشكل فيه أيضاً بما مرّ في الوجه السابق:

أوّلًا: بأنّ هذا القياس قياس مع الفارق، لأنّ الصحيح في العبادات كالصّلاة ونحوها ليس أمراً واحداً مضبوطاً كي يتّخذ مقياساً ويكون هو الملحوظ أوّلًا عند الواضع ثمّ يوضع اللفظ بإزاء الأعمّ منه ومن الزائد والناقص، بل هو مختلف بحسب اختلاف الحالات والأوقات كما مرّ.

ثانياً: أنّ التسامح في الأوزان يتصوّر في النقصان القليل والزيادة القليلة، فلا يقاس به الصّلاة التي يكون بين صحيحها وفاسدها تفاوت كثير وبون بعيد.

مضافاً إلى أنّ إطلاق لفظ «الكيلو» مثلًا في الأوزان على الزائد والناقص يكون من باب المجاز والتسامح كما يظهر بمراجعة الوجدان، فلا يكون 950 غرام مثلًا مصداقاً لألف غرام، أي الكيلو حقيقة، ولذا إذا اريد توزين الذهب وشراء هذا المقدار، لا يتسامح فيه شي ء ويصحّ سلب اسم الكيلو عمّا يكون أقلّ منه، وهذا ممّا لا يرضى به الأعمّي في مثل الصّلاة، وذلك لأنّ الصّلاة تستعمل عنده في الناقص حقيقة لا تسامحاً ومجازاً.

فتبيّن من جميع ذلك إنّه ليس للقول بالأعمّ جامع يمكن وضع اللفظ له، وهذا من أهمّ انوار الأصول، ج 1، ص: 121

الإشكالات الواردة على هذا القول كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى.

الأمر السادس: في أنّ الوضع في ألفاظ العبادات والمعاملات هل هو من قبيل الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، أو الوضع العامّ والموضوع له العامّ؟

ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى «أنّ الظاهر أن يكون الوضع والموضوع له في ألفاظ العبادات عامين واحتمال كون الموضوع له خاصّاً بعيد جدّاً لاستلزامه

كون استعمالها في الجامع في مثل «الصّلاة تنهى عن الفحشاء» أو «الصّلاة معراج المؤمن» أو «عمود الدين» و «الصّوم جنّة من النار» مجازاً، أو نمنع استعمالها في الجامع في الأمثلة المذكورة، وكلّ منهما بعيد إلى الغاية».

والأولى أن يقال: إنّ طبيعة الوضع في أمثال هذه الألفاظ والمفاهيم يقتضي وضع اللفظ لنفس المعنى الذي تصوّر إلّاأن يمنع عنه مانع، وإلّا فلا داعي لوضع اللفظ لغير ذلك المعنى المتصوّر.

وإن شئت قلت: العدول من الوضع العامّ والموضوع له العامّ إلى الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ إنّما يكون لموانع تمنع عنه وإلّا لم يكن داعٍ إليه كما لا يخفى بالرجوع إلى موارده، وحيث إنّ في أسماء الأجناس مثل لفظ الشجر والحجر لا مانع لوضع اللفظ لنفس المعنى الجامع المتصوّر فيكون الوضع والموضوع له عامين.

وأمّا في مثل أسماء الإشارة فحيث إنّ في معانيها نوع من الإيجاد والإنشاء ويكون الإيجاد جزئيّاً حقيقيّاً فلا يمكن أن يوضع اللفظ للجامع، فيحتاج إلى قنطرة بين اللفظ والمعنى وأخذ مرآة للمصاديق الجزئيّة، فيكون الوضع عامّاً والموضوع له خاصّاً.

وبعبارة اخرى: لا إشكال في أنّ المحتاج إليه في مثل أسماء الإشارة إنّما هو المصداق الخارجي للإشارة، وإذا وضعت للمعنى الكلّي كما إذا وضع لفظ «هذا» مثلًا لكلّي «المفرد المذكّر» المشار إليه لا يمكن استعمالها في المصداق الخارجي، ويصير الوضع للكلّي غير مفيد، فلابدّ من وضعه لمصاديق ذلك الكلّي، ولا يخفى أنّ ألفاظ العبادات والمعاملات من قبيل الأوّل، فالصلاة مثلًا اسم جنس تستعمل في جنس الصّلاة لا في المصاديق (بأن تكون الخصوصيّة جزءً للمفهوم) فيكون وضعها للمصداق لغواً، فيستنتج أنّ الوضع في ألفاظ العبادات والمعاملات عام والموضوع له أيضاً عام.

الأمر السابع: في ثمرة المسألة

ذكر الأعلام للمسألة ثمرتين:

الثمرة الاولى: إنّه لا يمكن للصحيحي

التمسّك بالاطلاق في صورة الشكّ في جزئيّة شي ء، لأنّ المسمّى بناءً على مسلكه بسيط تحتمل دخالة الجزء المشكوك فيه، فلا يحرز صدق المسمّى على المأتي به من دون إتيان ذلك الجزء، خلافاً للأعمى لأنّ الصّلاة مثلًا تصدق على مسلكه وإن لم يأت ببعض الأجزاء والشرائط.

ولكن أورد عليه أمران:

الأمر الأوّل: إنّها مجرّد فرض فحسب لا مصداق له في الفقه، لعدم وجود لفظ مطلق في باب العبادات يكون في مقام البيان ويمكن التمسّك به عند الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة، وأمّا مثل «أقيموا الصّلاة» و «آتوا الزّكاة» فهو في مقام بيان أصل وجوب الصّلاة والزّكاة في الشريعة المقدّسة لا في مقام بيان حدودهما وأحكامهما.

واجيب عنه بجوابين:

أحدهما: أنّه من البعيد جدّاً عدم وجود مطلق في باب العبادات كما أفاده في تهذيب الاصول حيث قال: «كيف ينكر الفقيه المتتبّع في الأبواب وجود الإطلاق فيها».

ثانيهما: أنّه يكفي في المسألة الاصوليّة وجود الثمرة الفرضيّة، فإنّها عبارة عن ما تكون ممهّدة لاستنباط الأحكام، فإنّ الملاك فيها صرف التمهيد للاستنباط وإن لم يصل إلى حدّ العمل.

أقول: أوّلًا: لنا أن نطالبهم بالمثال لما ادّعوه من وجود إطلاقات في مقام البيان، فلقائل أن يقول: إنّه لو كان في باب العبادات إطلاق، لتمسّك به الفقهاء في محلّه كما تمسّكوا بمطلقات نظير «اوفوا بالعقود» و «أحلّ اللَّه البيع» في باب المعاملات.

وثانياً: أنّه لا يكفي مجرّد فرض الثمرة في المسألة الاصوليّة مع عدم وجود مصداق له في الفقه للزومه اللغويّة حينئذٍ كما لا يخفى.

إن قلت: كيف لا يلتفت في المقام إلى الإطلاقات الواردة في أبواب المعاملات مع أنّها أيضاً داخلة في محلّ النزاع.

قلنا: لخصوصيّة فيها توجب إمكان التمسّك بها للصحيحي أيضاً، وهي أنّ الإطلاقات الواردة في باب المعاملات منصرفة

إلى الصحيح عند العرف لا الصحيح عند الشرع لعدم انوار الأصول، ج 1، ص: 123

تأسيس فيها للشارع المقدّس، وحينئذٍ إذا شكّ الصحيحي في اعتبار قيد عند الشارع زائداً على القيود المعتبرة عند العرف والعقلاء يمكن له أن يتمسّك لدفعه بإطلاق «اوفوا بالعقود» مثلًا.

نعم ربّما يتمسّك لإثبات وجود الإطلاق في أبواب العبادات برواية حمّاد المعروفة الواردة في أبواب أفعال الصّلاة «1» حيث إنّ الإمام فيها يكون في مقام بيان تمام ما له دخل في ماهيّة الصّلاة كما لا يخفى على المتأمّل فيها.

ولكن الإنصاف أنّها لا ربط لها بالمقام أصلًا، وتوضيحه: أنّ الإطلاق على نحوين: لفظي ومقامي، والإطلاق اللّفظي هو ما يكون الحكم فيه معتمداً على لفظ وكان ذاك اللفظ في معرض التقييد من بعض الجهات كما في قولنا «اعتق رقبة» بالنسبة إلى احتمال تقييده بقيد الأيمان ثمّ يتمسّك بالاطلاق لنفي هذا القيد.

أمّا الإطلاق المقامي فهو ما ليس الحكم فيه معتمداً على لفظ في معرض التقييد بل الإطلاق مستفاد من كون المتكلّم في مقام بيان قيود شي ء أو أجزائه وشرائطه من طريق العمل، فإذا علم منه ذلك ولم يصرّح ببعض القيود أو الأجزاء أو الشرائط يعلم عدم اعتباره، كما إذا علمنا أنّه بصدد بيان أجزاء الصّلاة وشرائطها، وعدّ الحمد والركوع والسجود ولم يذكر السورة، أو أتى بها في مقام العمل ولم يأت بالسورة فيعلم منه عدم كونه جزءً.

هذا- وبينهما فرق آخر وهو أنّ كون المتكلّم في مقام البيان في الإطلاق المقامي يعلم بالقرائن بينما هو في الإطلاق اللّفظي يحرز بأصل عقلائي يدلّ على أنّ كلّ متكلّم في مقام البيان إلّا أن يثبت خلافه.

إذا عرفت هذا فنقول: إنّ محلّ النزاع في ما نحن فيه هو القسم الأوّل (الإطلاق اللّفظي)

فإنّ البحث عن الصحيح والأعمّ بحث لغوي لفظي وأمّا الإطلاق المقامي فلا فرق فيه بين الصحيحي والأعمّي في إمكان التمسّك به لأنّ الصحيحي أيضاً يتمسّك به (على فرض وجوده)، ولا إشكال في أنّ الإطلاق الموجود في حديث حمّاد إنّما هو الإطلاق المقامي لا اللّفظي.

انوار الأصول، ج 1، ص: 124

هذا كلّه في الإشكال الأوّل على الثمرة الاولى.

الأمر الثاني: أنّه لا يمكن للأعمّي أيضاً التمسّك بالاطلاق، لأنّ الأوامر الشرعيّة بنفسها قرينة على كون المأمور به، والمتعلّق فيها هو العبادة الصحيحة لأنّها هي المطلوب للشارع، وعليه لا إطلاق لها حتّى يمكن التمسّك به، فلا يمكن للأعمى أن يقول في مقام الشكّ: «إنّ الشارع أمرني بالصّلاة، والمأتي به من دون الجزء المشكوك صلاة» لأنّ الشارع لم يأمره بمطلق الصّلاة بل أمره بالصّلاة الصحيحة.

ويمكن الجواب عنه: إنّ الصحّة قيد ينتزع بعد انطباق المأمور به على المأتي به فيكون في الرتبة المتأخّرة عن الأمر، لأنّ الصحّة عند الأعمى هنا بمعنى موافقة الأمر وبعد أن علّق الشارع أوامره على الأجزاء وكان المأتي به مطابقاً لجميع الأجزاء والشرائط المأمور بها يقال:

إنّه صحيح، وينتزع عنوان الصحّة منه، وعلى هذا فلا يمكن أخذها في المتعلّق.

إلى هنا تمّ البحث عن الثمرة الاولى في المسألة، وقد ظهر منه عدم ترتّب هذه الثمرة عليها.

الثمرة الثانيّة: جواز التمسّك بالبراءة وعدمه.

وأوّل من ذكرها هو المحقّق القمّي رحمه الله وبيانها: إنّه إذا شكّ في جزئيّة السورة مثلًا للصّلاة ولم يكن في البين إطلاق يمكن التمسّك به لدفعها أمكن للأعمّي الرجوع إلى أصل البراءة، لأنّ المفروض عنده أنّ الصّلاة تصدق على فاقد الجزء أيضاً، وأمّا الصحيحي فلا يمكن له التمسّك به لأنّ شكّه هذا يسري إلى مسمّى الصّلاة وأنّ المسمّى هل صدق أو

لا؟ ولا إشكال في أنّ المرجع حينئذ إنّما هو أصالة الاشتغال.

والمعروف في الجواب عن هذه الثمرة أنّ البراءة والاشتغال لا ربط لهما بالصحيح والأعمّ بل أنّ جريانهما مبني على الانحلال وعدم الانحلال في الأقلّ والأكثر الارتباطيين، فإن قلنا هناك أنّ العلم الإجمالي بوجوب الأقلّ أو الأكثر الارتباطيين ينحلّ إلى العلم التفصيلي والشكّ البدوي، فالمرجع إنّما هو البراءة عن الأكثر المشكوك، وإن قلنا بعدم الانحلال فالمرجع هو أصالة الاشتغال، ولا يخفى أنّه لا فرق في هذه الجهة بين الأعمّي والصحيحي.

وقال المحقّق النائيني رحمه الله ما حاصله: «إنّ الحقّ هو ترتّب هذه الثمرة لما عرفت من أنّه بناءً على الصحيح وأخذ الجامع بالمعنى المتقدّم (أي كونه بسيطاً خارجاً عن نفس الأجزاء

انوار الأصول، ج 1، ص: 125

والشرائط) لا محيص عن القول بالاشتغال لرجوع الشكّ فيه إلى الشكّ في المحصّل» «1».

ولكن يرد عليه:

أوّلًا: أنّ القول بالصحيح لا يلازم القوم ببساطة القدر الجامع بل ذهب كثير من الصحيحيين إلى تركّبه.

وثانياً: سلّمنا كونه بسيطاً ولكن يأتي فيه ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله، ونعم ما أفاد من أنّ العنوان البسيط ليس أمراً مسبّباً عن الأجزاء بحيث لا يمكن انطباقه عليها بل أنّه عين الأجزاء والشرائط ومنطبق عليها، وحينئذ لا يرجع الشكّ إلى الشكّ في المحصّل.

وبعبارة اخرى: أنّ نسبة القدر الجامع البسيط إلى الأجزاء والشرائط نسبة الطبيعي إلى أفراده أو نسبة العنوان إلى معنونه ومعه لا يكون المأمور به مغايراً في الوجود للأجزاء والشرائط.

أقول: الحقّ في المسألة هو التفصيل بين المباني المختلفة في القدر الجامع للصحيح، وأنّ الثمرة إنّما تظهر على بعض تلك المباني.

وتوضيحه: أنّه إن قلنا بأنّ القدر الجامع أمر مركّب (كما ذهب إليه كثير من الأعلام وهم اللّذين صرّحوا بأنّه عبارة

عن مجموع من الأجزاء على نحو اللابشرط من جانب الزيادة) فلا تترتّب هذه الثمرة لإمكان إجراء البراءة حينئذٍ للصحيحي أيضاً كما لا يخفى، وإن قلنا بأنّه أمر بسيط انتزاعي ينطبق على الأجزاء كما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله، فكذلك لا تترتّب الثمرة المذكورة، لما مرّ آنفاً من البيان، وإن قلنا أنّه أمر بسيط خارجي لا ينطبق على الأجزاء (لأنّ الانطباق عليها يتصوّر في العنوان أو الطبيعة بالنسبة إلى المعنون أو الأفراد) أو قلنا بأنّه مجموعة من الأجزاء والشرائط التي تؤثّر الأثر المطلوب (كما هو المختار) فيمكن ظهور الثمرة كما لا يخفى أيضاً، ولكن قد مرّ أنّه على المبنى المختار أيضاً يمكن الأخذ بالبراءة لما مرّ من أنّ الآثار المرغوبة من العبادات امور خفيّة عنّا، وبطبيعة الحال لم نؤمر بها بل اللازم على المولى بيان الأجزاء والشرائط المؤثّرة في هذا الأثر الخفي، فإذا لم يثبت أمره ببعض الأجزاء أو الشرائط فيمكن الأخذ بالبراءة.

فقد تحصّل من جميع ما ذكرنا عدم ترتّب هذه الثمرة أيضاً على المسألة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 126

بقي هنا امور:

الأوّل: قد يقال بأنّ المسألة ليست اصوليّة لأنّ ملاكها وقوع المسألة كبرى الاستنباط مستقلّة من دون ضمّ مسألة اصوليّة اخرى، ومسألة الصحيح والأعمّ لا يتمّ الاستنباط بها إلّا بعد ضمّ مسألة الأقلّ والأكثر الارتباطيين إليها كما لا يخفى.

ولكن فيه: أنّ لازم هذا خروج أكثر المسائل الاصوليّة عن علم الاصول لعدم وقوعه كبرى في الاستنباط مستقلّة، فإنّ حجّية خبر الواحد (التي هي من أهمّها) مثلًا لا تقع كبرى الاستنباط إلّابضميمة حجّية الظواهر إليها.

نعم الحقّ خروج مسألة الصحيح والأعمّ من مسائل الاصول من جهة اخرى، وهي أنّ البحث فيها يكون في أنّ الألفاظ الشرعيّة هل وضعت للصحيح

فقط أو للأعمّ منه ومن الفاسد، أي أنّ الصّلاة مثلًا ظاهرة في الصحيح أو في الأعمّ؟ ولا إشكال في أنّ هذا بحث صغرى لمسألة حجّية الظواهر.

الثاني: ربّما يقال بأنّ ثمرة النزاع في المقام تظهر في النذر، فإنّه إذا نذر أن يعطي ديناراً لمصلّي ركعتين مثلًا فبناءً على القول بالأعمّ- يجزي اعطائه لمصلّيهما ولو كانت صلاته فاسدة، وعلى القول بالصحيح لا يجزي ذلك.

وفيه: إنّ لازم هذه الثمرة رجوع البحث في الصحيح والأعمّ إلى تشخيص موضوع النذر فيما إذا تعلّق بماهية من الماهيات الشرعيّة، ولا يخفى أنّه ليس حكماً فرعيّاً كلّياً لكي تكون المسألة من المسائل الاصوليّة التي ثمرتها استنباط الحكم الكلّي الفرعي، بل ليست من المسائل الفقهيّة أيضاً لأنّها بحث في أنّ هذه الصّلاة مثلًا صلاة، أم لا؟ وهو بحث موضوعي خارج عن شؤون الفقيه كما هو المعروف، كما إذا تعلّق النذر مثلًا بوقوع الصّلاة في مسجد الكوفة، وشككنا في أنّ هذا المسجد هل هو مسجد الكوفة أو لا؟ وهذا أمر جارٍ في جميع موارد النذر، أضف إلى ذلك أنّه يعتبر في صحّة النذر إحراز رجحان المتعلّق ولا رجحان للصّلاة الفاسدة.

الثالث: ربّما قيل بأنّ ثمرة المسألة تظهر في مسألة محاذات المرأة للرجل حال الصّلاة، فبناءً على القول بالأعمّ تصير صلاة الرجل منهيّاً عنها وإن علمنا بفساد صلاة المرأة المحاذية للرجل أو المتقدّمة عليه، لصدق عنوان الصّلاة حينئذٍ على ما أتت بها المرأة، فيصدق «أنّه صلّى وبحذائه امرأة تصلّي» بينما لا يصدق هذا بناءً على القول بالصحيح فيما إذا علمنا بفساد صلاة المرأة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 127

ولكنّه يردّ بأنّ الأدلّة الناهية عن المحاذات منصرفة إلى الصّلاة الصحيحة وإنّ المنهيّ عنها هي محاذات المرأة حين إتيانها بها كذلك.

أدلّة القول بالصحيح:
اشارة

قد مرّ أنّ الحقّ في المسألة وضع الألفاظ للصحيح، ويستدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل: التبادر

إنّ المتبادر من الألفاظ عند إطلاقها هو الصحيح، فيكون إطلاقها على الفاسد بنوع من المجاز والعناية.

ولكن هيهنا مشكلتان لا بدّ من حلّهما لكي يتمّ هذا الوجه:

الاولى أنّ التبادر فرع وجود معنى مبيّن للألفاظ، مع أنّ الألفاظ على القول بالصحيح مجملات (في مثل العبادات) إذ من الواضح وقوع الشكّ في جملة من أجزاء الصّلاة وشروطها، فعلى هذا القول يكون معناها مجملًا مردّداً بين الأقلّ والأكثر، فكيف يدّعي الصحيحي تبادر الصحيح التامّ من ألفاظها؟

وقد إلتفت المحقّق الخراساني رحمه الله إلى هذه العويصة وأشار إليها في كلماته وأجاب عنها بأنّ معاني الألفاظ وإن كانت على هذا القول مجملات ولكنّها مبيّنات في الجملة من ناحية بعض الخواصّ والآثار، فتكون الصّلاة مثلًا هي التي تنهى عن الفحشاء، أو تكون معراجاً للمؤمن، أو عمود الدين ونحو ذلك. وهذا المقدار من البيان الإجمالي يكفي في صحّة التبادر.

وقد أشار في تهذيب الاصول إلى هذا الجواب وأورد عليه بأنّ «للماهية في وعاء تقرّرها تقدّماً على لوازمها وعلى الوجود الذي هو مظهر لها، كما أنّها متقدّمة على لوازم الوجود بمرتبتين، لتوسّط الوجود بينها وبين لوازم الوجود، وإذ أضفت ذلك إلى ما قد علمت سابقاً من- أنّ النهي عن الفحشاء وكونها معراج المؤمن وما أشبهها من لوازم الوجود لا من آثار الماهيّة لعدم كونها منشأً لتلك الآثار في حدّ نفسها- تعرف أنّه لا وجه لهذا التبادر أصلًا، لأنّ تلك العناوين في مرتبة متأخّرة عن نفس المعنى الماهوي الموضوع له، بل لو قلنا أنّها من عوارض انوار الأصول، ج 1، ص: 128

الماهية أو لوازمها كانت أيضاً متأخّرة عنه، فمع ذلك كيف يمكن دعوى تبادرها من

لفظ الصّلاة مثلًا؟» «1».

أقول: ولكن يمكن دفعه بما اخترناه في مبحث الوضع، وهو أنّ أكثر الألفاظ المستعملة عند أهل اللّغة موضوعة للوجود (كما أنّه مقتضى حكمة الوضع) لا للماهية، وإذاً لا إشكال في تبادر المعنى إلى الذهن بتبادر الآثار، لوجود الملازمة بين الوجود وآثاره، لأنّ الآثار من لوازم الوجود، والإنصاف أنّ الخلط بين المصطلحات الفلسفية والمفاهيم العرفيّة هو الذي أوجب هذه المفاسد الكثيرة في علم الاصول كما مرّ سابقاً.

الثانيّة: أنّ الوجدان حاكم على صحّة إطلاق الألفاظ في المركّبات الخارجيّة على بعض الأفراد الناقصة من دون وجود عناية وتسامح في البين (نظير إطلاق لفظ الإنسان على الفاقد لعضو من الأعضاء من اليد أو الرجل مثلًا) مع أنّ لازم دعوى تبادر المعنى الصحيح إلى الذهن كون هذا القبيل من الاستعمالات مجازاً.

والجواب: واضح بناءً على مختارنا في حقيقة الوضع أيضاً، فإنّا قلنا هناك أنّ الموضوع له إنّما هو المؤثّر، للأثر ولا إشكال في أنّ الأثر قد يكون أمراً ذا مراتب، مرتبة واجدة لتمام الأثر، ومرتبة واجدة لمعظمه، ومرتبة واجدة لضعيفه ونازله، والإطلاق حقيقي بشهادة التبادر وصحّة السلب فيما إذا كان العمل واجداً لمعظم الأثر، ومجاز في ما يكون فاقداً له، ولا يخفى أنّه كلّما كان إطلاق اللفظ على الفاقد لجزء من الأجزاء أو لشرط من الشرائط حقيقيّاً بلا عناية ومجاز كشفنا منه وجود معظم الأثر، كما أنّه لا إشكال في أنّ الأثر المترتّب على الصّلاة في ما نحن فيه من هذا القبيل أي ممّا يكون ذا مراتب عديدة، وحينئذٍ نقول: إنّ إطلاق الصّلاة على صلاة المريض مثلًا حقيقي لتحقّق معظم أثر الصّلاة بها وذلك لحكم الشارع بصحّتها فإنّ حكمه بالصحّة في كلّ مورد يكون كاشفاً عن وجود معظم

الآثار كما أنّ حكمه بالفساد كاشف عن عدم وجودها كما لا يخفى.

وبهذا تنحلّ العويصتان المذكورتان بالنسبة إلى دليل التبادر.

الوجه الثاني: صحّة السلب عن الفاسد

وهو وجه تامّ إلّامن ناحية تانك العويصتين اللّتين اجيب عنهما فإنّ الإشكال هو الإشكال والجواب هو الجواب.

الوجه الثالث: وجود روايات تلائم مذهب الصحيحي فقط

وهي الرّوايات الدالّة على آثار الصّلاة نحو قوله عليه السلام «الصّلاة عمود الدين» وقوله عليه السلام:

«الصّلاة معراج المؤمن» وكذلك الرّوايات الدالّة على نفي ماهيّة الصّلاة عن فاقد بعض الأجزاء، نظير قوله عليه السلام: «لا صلاة إلّابالطهور» وقوله «لا صلاة إلّابفاتحة الكتاب» فإنّ القول بالأعمّ يستلزم تقييد لفظة الصّلاة في هذه الرّوايات بقيد «الصحيحة» وهو خلاف ظواهرها فإنّ ظاهرها ترتّب هذه الآثار على نفس الصّلاة بما لها من المعنى من دون أي قيد، وحيث إنّها لا تترتّب على الفاسد منها نستكشف أنّ الصّلاة في لسان الشارع وضعت للصحيح وما تترتّب عليه هذه الآثار.

هذا بالنسبة إلى الطائفة الاولى من الرّوايات وكذلك بالنسبة إلى الطائفة الثانيّة فإنّ ظاهرها إنّ فاقدة الطهور أو فاقدة الفاتحة ليست بصلاة أصلًا لا أنّها ليست صلاة صحيحة.

أقول: صحّة الاستدلال بهذه الرّوايات تتوقّف على أمرين:

الأوّل: ترتّب الآثار المذكورة على خصوص الصّلاة الصحيحة (كما أنّه كذلك).

الثاني: كون استعمال لفظ في معنى دليلًا على كونه معنىً حقيقيّاً له كما هو مذهب السيّد المرتضى رحمه الله، ومن المعلوم أنّ المشهور من العلماء لم يوافقوا على الأمر الثاني فإنّ الاستعمال عندهم أعمّ من الحقيقة والمجاز.

هذا- مضافاً إلى أنّ المدّعى في المقام أسوأ حالًا من مقالة السيّد المرتضى رحمه الله حيث إنّ المدّعى في ما نحن فيه أنّ المستعمل فيه تمام الموضوع له، ومذهب السيّد رحمه الله إنّما هو مجرّد كون المستعمل فيه المعنى الحقيقي فحسب.

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ ظاهر هذه الرّوايات استعمال لفظ الصّلاة في معناها من دون عناية ومجاز ومن دون قيد وقرينة خاصّة، فالاستدال متوقّف على هذا الظهور لا

على قبول مذهب السيّد رحمه الله.

انوار الأصول، ج 1، ص: 130

إن قلت: لماذا لم يتمسّك بذيل أصالة الحقيقة لإثبات أنّ الموضوع له خصوص الصحيح (بعد ما علمنا أنّ المراد من الصّلاة في هذه الأخبار هو خصوص الصحيح) مع أنّها من الاصول المعتبرة اللّفظيّة؟

قلنا: إنّ أصالة الحقيقة من الاصول اللّفظيّة المراديّة تجري في خصوص ما إذا كان المراد مشكوكاً لا ما إذا علمنا بالمراد كما في المقام (حيث إنّ المفروض كون المراد هو خصوص الصحيح والشكّ إنّما وقع في كون الاستعمال حقيقة أو مجازاً).

إن قلت: إنّ لازم وضع الصّلاة للأعمّ خروج الصّلاة الفاسدة من هذه الأخبار بالتخصيص، ولازم وضعها للصحيحة خروجها بالتخصّص، ومقتضى أصالة عدم التخصيص (أصالة العموم) خروجها بالتخصّص، وهو يستلزم كون اللفظ موضوعاً للصحيح.

قلنا: إنّ وزان أصالة العموم وزان أصالة الحقيقة في أنّها من الاصول المراديّة فيكون الجواب هو الجواب.

فظهر ممّا ذكر عدم إمكان التمسّك بهذه الرّوايات لإثبات القول بالصحيح، إلّاأن يقال: إنّ ظاهرها كون استعمال الصّلاة فيها استعمالًا حقيقيّاً وأنّ الآثار آثار لماهية الصّلاة لا لمصداق من مصاديقها لعدم وجود قيد ولا قرينة فيها بل الظاهر كون هذه الألفاظ بما لها من المعنى عند الشرع واجدة لهذه الآثار وفاقدة لتلك الموانع وهذه الدعوى ليست ببعيدة، نعم يمكن أن يستدلّ أيضاً بإطّراد استعمال لفظة الصّلاة في هذه الأخبار في الصحيح، والاطّراد من علائم الحقيقة على المختار، ولا يخفى أنّ الاطّراد في الاستعمال غير مجرّد الاستعمال.

الوجه الرابع: أنّه مقتضى حكمة الوضع، لأنّ مورد الحاجة إنّما هو المعنى الصحيح.

وأورد عليه: أنّ الفاسد أيضاً محلّ للحاجة، فإنّ الحاجة إلى الفاسد لو لم تكن أكثر من الحاجة إلى الصحيح لم تكن أقلّ منها.

أقول: الأولى في تقريب هذا الوجه هو

الرجوع إلى المخترعات العرفيّة، فلا ريب أنّ المقصود في كلّ مخترع من المخترعات العرفيّة أوّلًا وبالذات هو الوصول إلى الآثار التي تترتّب عليها والإنسان المخترع يلاحظ حين التسمية تلك الآثار ويضع اللفظ لمنشئها، ولا إشكال في أنّ منشأها إنّما هو الفرد الصحيح فيصير هو المسمّى للفظ، نعم يستعمل اللفظ بعد ذلك في انوار الأصول، ج 1، ص: 131

الفرد الفاسد مجازاً، هذا في المخترعات العرفيّة، وكذلك في المخترعات الشرعيّة فإنّ المستفاد من قوله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ» أنّ الشارع اختار في أوضاعه سيرة العقلاء لأنّها أقرب إلى التفهيم الذي يراد من وضع الألفاظ.

إن قلت: إنّ المخترع جزئي حقيقي يستلزم وضع اللفظ بإزائه كون إطلاقه على سائر الأفراد المصنوعة بعده مجازاً، وهذا كاشف عن أنّ الواضع المخترع لا يضع اللفظ لخصوص هذا الفرد الذي بين يديه بل ينتقل من تصوّره إلى تصوّر الجامع الارتكازي المعرّى عن الخصوصيّات الفرديّة من الصحّة والفساد وغيرهما ثمّ يضع اللفظ لذلك الجامع الأعمّ من الصحيح والفاسد.

قلنا: إذا كان الجزئي عبارة عن الفرد الصحيح كان المنتقل إليه أيضاً هو الجامع للأفراد الصحيحة فإنّه يقول مثلًا: «وضعت هذا اللفظ للجامع بين هذه السيارة وكلّ ما كان مثلها» فيكون وصف الصحّة ملحوظاً في الجامع أيضاً.

هذا تمام الكلام في أدلّة القول بالصحيح وقد عرفت صحّة بعضها وإن كان بعضها الآخر قابلًا للمناقشة.

أدلّة القول بالأعمّ:
اشارة

واستدلّ له أيضاً بامور:

الأمر الأوّل والثاني: التبادر وعدم صحّة السلب عن الفاسد

فإن كلًا من الصحيحي والأعمّي استدلّ بهما.

والجواب عنهما أنّهما فرع تصوّر القدر الجامع وقد مرّ أنّه لا جامع للأعمّي، هذا- مضافاً إلى ما مرّ من أنّ الوجدان حاكم على أنّ المتبادر إنّما هو الصحيح من الألفاظ لا الأعمّ.

الأمر الثالث: صحّة تقسيم الصّلاة إلى صحيحها وفاسدها

فيقال: الصّلاة إمّا صحيحة أو فاسدة، والتقسيم يتوقّف على وضع الصّلاة للأعمّ كما لا يخفى.

انوار الأصول، ج 1، ص: 132

وفيه: أنّ استعمال الصّلاة في الأعمّ عند ذكر المقسّم أعمّ من الحقيقة والمجاز ولا يكون دليلًا على الحقيقة إلّاعلى مختار السيّد المرتضى فيما حكي عنه وقد عرفت ضعفه.

الأمر الرابع: الرّوايات الواردة

وقد أطلقت الرّوايات لفظة الصّلاة على الفاسد منها من دون نصب قرينة على نحو قوله عليه السلام: «دع الصّلاة أيّام اقرائك» فإنّ المراد من الصّلاة فيه هو الصّلاة الفاسدة قطعاً، لعدم كون إتيان الصّلاة الصحيحة مقدوراً لها، فيلزم عدم صحّة النهي عنها بناءً على الصحيح، ونحو قوله عليه السلام «بني الإسلام على خمس الصّلاة والزّكاة والحجّ والصّوم والولاية ولم ينادِ أحد بشي ء كما نودي بالولاية فأخذ الناس بالأربع وتركوا هذه فلو أنّ أحداً صام نهاره وقام ليله ومات بغير ولاية لم يقبل له صوم ولا صلاة» فإنّه بناءً على بطلان صلاة تاركي الولاية لا يمكن أخذ الناس بالأربع إلّاإذا كانت هذه الأسامي للأعمّ لأنّهم أخذوا بالصّلاة الفاسدة وكذا غيرها.

واجيب عنه بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّه يمكن أن يقال (بالنسبة إلى حديث الولاية) أنّ الولاية إنّما تكون شرطاً للقبول لا للصحّة كما تشهد عليه الرّوايات الواردة في أبواب مقدّمات العبادات «1» فقد ورد بعضها «أنّ عملهم لا يقبل» وفي بعضها الآخر «لا عمل له» وفي ثالث «أكبّه اللَّه على منخريه في النار» فبملاحظة هذه الأخبار يمكن أن يقال: إنّ العمل صحيح وغير مقبول، وأمّا العقاب فهو يترتّب على عدم قبولهم للولاية لا على عدم صحّة الصّلاة خصوصاً إذا لاحظنا رواية في باب الزّكاة بالنسبة إلى من استبصر بالولاية حيث إنّ الإمام عليه السلام استثنى فيها من الأعمال خصوص الزّكاة فحكم بوجوب قضائها

لأنّها وقعت في غير محلّها، ولا إشكال في أنّ ظاهرها حينئذٍ وقوع غير الزّكاة من سائر الأعمال في محلّها فيكون عدم القضاء من جهة صحّتها.

ومسألة اشتراط العبادات بالولاية محتاجة إلى البحث والتأمّل وفيها كلام في محلّها.

وبالنسبة إلى رواية «دعِ الصّلاة أيّام اقرائك» نقول: إنّ النهي الوارد فيها ليست نهياً

انوار الأصول، ج 1، ص: 133

تشريعيّاً بل إنّه إرشاد إلى عدم وقوعها صحيحة وأنّ الحيض مانع عن وقوع الصّلاة صحيحة، فكأنّها تقول: «لا تصلّ لأنّك لا تقدرين عليها» ومن المعلوم أنّ حدث الحيض مانع عن الصّلاة الصحيحة لا الفاسدة.

الوجه الثاني: سلّمنا أنّها استعملت في مثل هذه الرّوايات في الأعمّ ولكنّه لا يكون دليلًا على الحقيقة لأنّه لم يصل إلى حدّ الاطّراد.

الوجه الثالث: أنّ المستعمل فيه في هذه الأخبار ليس هو المعنى الأعمّ بل هو المعنى الصحيح، لكن الصحيح بحسب اعتقادهم (في رواية الولاية) والصحيح لولا الحيض (في رواية الحائض) فتكون هذه الأخبار حينئذٍ على خلاف المقصود أدلّ.

الأمر الخامس: أنّه لا ريب في صحّة تعلّق النذر أو الحلف بترك الصّلاة في مكان تكره فيه كالحمام وغيره، ولا ريب أيضاً في حصول الحنث بفعلها في ذلك المكان بعد النذر أو الحلف، وحينئذ يقال: أنّ الألفاظ لو كانت موضوعة للصحيح وكان النذر أو الحلف قد تعلّق بترك الصحيح لم يحصل الحنث بفعل الصّلاة في ذلك المكان المكروه، لأنّها بعد تعلّق النذر أو الحلف بتركها فيه تحرم فتفسد، وبالصّلاة الفاسدة لا يكاد يحصل الحنث لأنّه خلاف ما تعلّق النذر بتركه، مع أنّ حصول الحنث به أمر مفروغ عنه، بل يلزم منه (من تعلّق النذر بترك الصحيح) محال، لأنّه يلزم من فرض الصحّة تحقّق النذر، ومن تحقّق النذر عدم الصحّة، فيلزم من فرض

الصحّة عدم الصحّة وهو محال.

ويرد عليه امور:

الأمر الأوّل: أنّه لا ربط لهذه المسألة بمسألة الصحيح والأعمّ، لأنّ مفادها عدم إمكان تعلّق النذر بترك الصّلاة الصحيحة في مكان تكره فيه بل اللازم تعلّقه بالأعمّ من الصحيح والفاسد، فهي مسألة فقهيّة مخصوصة بباب النذر ترشد كلّ واحد من الصحيحي والأعمّي إلى عدم صحّة تعلّق النذر على الصّلاة الصحيحة، فهما سيّان فيها ولا ربط له بالمسائل اللغويّة وأنّ الألفاظ هل وضعت للصحيح منها أو للأعمّ لأنّها تقتضي عدم صحّة تعلّق النذر بالصحيح ولا تقتضي عدم وضع اللفظ له شرعاً.

الأمر الثاني: أنّه يمكن أن يقال بأنّ المراد فيها أيضاً الصّلاة الصحيحة ولكن الصحيحة لولا النذر كما تقتضيه طبيعة الحال، ومرّ نظيره في خبر «دع الصّلاة أيّام اقرائك».

انوار الأصول، ج 1، ص: 134

ومن المعلوم أنّ الفساد الناشي ء من قبل النذر لا ينافي الصحّة لولا النذر فإنّ صدق الموضوع إنّما هو مع قطع النظر عن ورود الحكم عليه.

الأمر الثالث: أنّه لا بدّ من تعلّق النذر بالصحيح لأنّ تعلّقه بالأعمّ يستلزم عدم انعقاده لعدم كون ترك الأعمّ من الصحيح والفاسد راجحاً.

هذا مضافاً إلى ما بني عليه المشهور في تحرير محلّ النزاع من خروج الشرائط عن المسمّى خصوصاً الشرائط المتأخّرة عن الأمر، وفي ما نحن فيه تكون علّة بطلان الصّلاة عدم تحقّق قصد القربة وهو من الشرائط المتأخّرة.

لكن قد عرفت أنّ المختار كون الشرائط برمّتها داخلة في محلّ البحث كما يشهد عليه هذا الاستدلال وما أشبهه.

إلى هنا تمّ الكلام في استدلالات القائلين بالأعمّ، وقد عرفت عدم تماميّة شي ء منها.

تنبيهات (في مسألة الصحيح والأعمّ)
التنبيه الأوّل: في دخول أسامي المعاملات في محلّ النزاع

وقد ذهب المحقّق الخراساني إلى التفصيل بين ما إذا كانت أسامي المعاملات موضوعة للمسبّبات فلا مجال للنزاع في كونها موضوعة للصحيحة، أو للأعمّ وما إذا

كانت موضوعة للأسباب فيكون للنزاع فيه مجال، وحاصل كلامه: أنّه إذا كانت الأسامي موضوعة للمسبّبات فلا إشكال في أنّها حينئذٍ امور بسيطة لا تتّصف بالصحّة والفساد بل أمرها دائر بين الوجود والعدم، فجريان نزاع الصحيحي والأعمّي في ألفاظ المعاملات متوقّف على كونها موضوعة للأسباب، ثمّ ذهب إلى أنّه لا يبعد دعوى كونها موضوعة للصحيحة أيضاً وأنّ الموضوع هو العقد المؤثّر لأثر كذا شرعاً وعرفاً، واختلاف الشرع والعرف فيما يعتبر في تأثير العقد لا يوجب الاختلاف في المعنى.

وبعده أتعب المحقّق العراقي رحمه الله نفسه الزكيّة حيث أراد إثبات جريان النزاع ولو قلنا بوضع الألفاظ للمسبّبات فإنّه قال: يمكن تصوير جريان النزاع في المسبّبات على ثلاثة أنحاء:

انوار الأصول، ج 1، ص: 135

الأوّل: أن يكون المسبّب أمراً واحداً وله مفهوم واحد والمصاديق واحدة، ولا يكون نزاع بين العرف والشرع فيه، وأمّا ردع الشارع في بعض الموارد فإنّه من باب تخطئة العرف في المصداق لا من باب الاختلاف في المفهوم.

الثاني: أن نقول إنّ للمسبّب مفهومين وبالنتيجة له مصداقان، فقبل الشارع أحدهما وردّ الآخر فقال مثلًا: بأنّ المعاطاة عندي ليست بيعاً.

الثالث: أن نقول أنّ للمسبّب مفهوماً واحداً وله مصاديق كثيرة ولكن ردع الشارع بعض المصاديق ليس من باب التخطئة في المصداق بل من باب الإستثناء في الحكم، فيقول مثلًا: إنّ المعاملة الربوية وإن كانت من مصاديق البيع لكنّها حرام حكماً.

ثمّ قال: فإن قلنا بالأوّل فلا يتصوّر فيه النزاع بين الصحيحي والأعمّي لدوران أمره بين الوجود والعدم دائماً، وأمّا إذا قلنا بالثاني فيمكن تصوير النزاع في أنّ الألفاظ وضعت لخصوص المفهوم المقبول للشارع أو وضعت للأعمّ منه، وكذلك إن قلنا بالثالث فيمكن تصوير النزاع فيه بأنّ الألفاظ وضعت لخصوص المصداق الذي لم

يستثن الشارع حكمه، أو وضعت للأعمّ منه ومن المستثنى في الحكم «1» (انتهى).

أقول: يرد عليه أنّ المفروض في باب المعاملات عدم وجود الحقيقة الشرعيّة بينما الصورة الثانيّة والثالثة في كلامه تستلزمانها كما لا يخفى، لأنّه يبحث فيهما في أنّ الألفاظ في لسان الشرع وضعت لأي مصداق؟

ثمّ إنّ هيهنا كلاماً آخر للمحاضرات ذهب فيه أيضاً بجريان النزاع حتّى بناءً على وضع الألفاظ للمسبّبات، واستدلّ له بأنّ المسبّب في باب المعاملات اعتبار قائم بنفس المعتبر، فإنّ البيع مثلًا ملكيّة يعتبرها البائع في نفسه وهو ممّا يتصوّر فيه الصحّة والفساد لأنّه إن أمضاه العقلاء والشرع كان صحيحاً وإلّا ففاسد «2».

أقول: إنّ المسبّب في المعاملات ليس الاعتبار القائم بالنفس فإنّه ليس أمراً شخصيّاً فحسب بل إنّه نفس الاعتبار العقلائي الدائر بينهم كما لا يخفى، ويكون اعتبارها بيد العقلاء، وأهل العرف، فإذا صدرت صيغة عقد مثلًا من بايع واعتبر العقلاء الملكيّة في موردها تتحقّق انوار الأصول، ج 1، ص: 136

الملكيّة، وإن لم يعتبروها فلا تتحقّق فيكون أمرها حينئذٍ دائراً مدار الوجود والعدم عندهم وفي اعتبارهم فلا تتّصف بالصحّة والفساد.

فظهر إلى هنا أنّ تفصيل المحقّق الخراساني رحمه الله متين لا غبار عليه، نعم أنّه مربوط بمقام الثبوت.

وأمّا مقام الإثبات ومن ناحية الموضوع فهل المراد من أسامي المعاملات الأسباب أو المسبّبات؟

يمكن أن يقال إنّه إذا استعملت الألفاظ في المعنى المصدري فلا إشكال في أنّ المراد منها الأسباب فإنّها التي تعلّق بها الإيجاد أوّلًا وبالذات، وأمّا إذا استعملت في المعنى اسم المصدري فيكون المراد منها المسبّبات، لأنّ المسبّبات هي النتائج الحاصلة من الأسباب وتناسب المعنى اسم المصدري، فلابدّ حينئذ من ملاحظة كيفية الاستعمال، فتختلف أسامي المعاملات بحسب اختلاف كيفية استعمالاتها في لسان الشارع، فالتي استعملت

في الأسباب داخلة في محلّ النزاع، والتي استعملت في المسبّبات خارجة عنه، اللهمّ إلّاأن يقال أنّها ظاهرة في المسبّبات دائماً لترتّب الآثار عليها بلا واسطة، وفي موارد استعمالها بالمعنى المصدري يكون النظر إلى إيجادها من طريق التوسّل بالأسباب كما في قولك «أحرقته» فإنّه بمعنى نفس الإحراق ولو بالتوسّل بأسبابه لا نفس الأسباب والفرق بينهما واضح.

التنبيه الثاني: التمسك باطلاقات المعاملات

بناءً على جريان النزاع في باب المعاملات فهل تترتّب عليه أيضاً الثمرة المتقدّمة في العبادات فيمكن التمسّك بإطلاقات المعاملات بناءً على الوضع للأعمّ دون الوضع للأخصّ أو لا تترتّب؟

قد يقال: بعدم ترتّبها لجواز التمسّك بالاطلاقات حتّى على القول بالصحيح لما مرّ من أنّ الصحيح في باب المعاملات هو الصحيح عند العقلاء، وأنّ المعاملات امور عرفيّة عقلائيّة وليست من الماهيات المخترعة من قبل الشارع المقدّس، إذاً تكون تلك الإطلاقات مسوقة لإمضاء المعاملات العرفيّة العقلائيّة، فالصحيحي أيضاً إذا شكّ في دخالة قيد من جانب الشارع في عقد من العقود، وكان ذلك العقد صحيحاً عند العرف والعقلاء بدون ذلك القيد يمكن له أن يتمسّك بإطلاق «اوفوا بالعقود» مثلًا لنفي ذلك القيد ويثبت به عدم اعتباره شرعاً.

انوار الأصول، ج 1، ص: 137

وذهب المحقّق النائيني رحمه الله إلى تفصيل في المقام وقال: «لو قلنا بأنّ ألفاظ المعاملات موضوعة بإزاء الأسباب فلا ينبغي الإشكال في صحّة التمسّك بالمطلقات ولو قلنا بأنّها موضوعة للصحيحة، لأنّ الإطلاق يكون منزلًا على ما يراه العرف صحيحاً، وأمّا إذا قلنا بأنّها موضوعة للمسبّبات فيشكل الأمر لأنّ إمضاء المسبّب لا يلازم إمضاء السبب.

وما يقال في حلّه من أنّ إمضاء المسبّب يلازم عرفاً إمضاء السبب إذ لولا إمضاء السبب كان إمضاء المسبّب لغواً، فليس بشي ء، إذ لا ملازمة عرفاً في ذلك، واللغويّة إنّما تكون

إذا لم يجعل الشارع سبباً أو لم يمض سبباً أصلًا إذ لا لغويّة لو جعل سبباً أو أمضى سبباً في الجملة، غايته أنّه يلزم حينئذ الأخذ بالمتيقّن (والاحتياط في الباقي) فلزوم اللغويّة لا يقتضي إمضاء كلّ سبب بل يقتضي إمضاء سبب في الجملة».

ثمّ إنّه لمّا رأى نتيجة كلامه- وهي عدم إمكان التمسّك بشي ء من الإطلاقات الواردة في باب المعاملات- خلاف سيرة الفقهاء، تصدّى من طريق آخر لحلّ الإشكال وقال:

«فالتحقيق في حلّ الإشكال هو أنّ باب العقود والايقاعات ليست من باب الأسباب والمسبّبات، وإن اطلق عليها ذلك بل إنّما هي من باب الإيجاد بالآلة، والفرق بين باب الأسباب والمسبّبات وبين باب الإيجاد بالآلة هو أنّ المسبّب في باب الأسباب ليس فعلًا اختياريّاً للفاعل بحيث تتعلّق به إرادته أوّلًا وبالذات بل الفعل الاختياري وما تتعلّق به الإرادة هو السبب ويلزمه حصول المسبّب قهراً، وهذا بخلاف باب الإيجاد بالآلة فإنّ ما يوجد بالآلة كالكتابة هو بنفسه فعل اختياري للفاعل ومتعلّق لارادته ويصدر عنه أوّلًا وبالذات فإنّ الكتابة ليست إلّاعبارة عن حركة القلم على القرطاس بوضع مخصوص وهذا بنفسه فعل اختياري صادر عن المكلّف أوّلًا وبالذات بخلاف الإحراق فإنّ الصادر من المكلّف هو الإلقاء في النار لا الإحراق، وباب العقود والايقاعات كلّها من قبيل الإيجاد بالآلة فإنّ هذه الألفاظ كلّها آلة لايجاد الملكيّة والزوجيّة والفرقة وغير ذلك، وليس البيع مثلًا مسبّباً توليديّاً لهذه الألفاظ بل البيع بنفسه فعل اختياري للفاعل متعلّق لارادته أوّلًا وبالذات، ويكون إيجاده بيده، فمعنى حلّية البيع هو حلّية إيجاده، فكلّ ما يكون إيجاداً للبيع بنظر العرف فهو مندرج تحت إطلاق قوله تعالى: «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ» والمفروض أنّ العقد بالفارسيّة مثلًا يكون مصداقاً لايجاد البيع بنظر

العرف، فيشمله إطلاق حلّية البيع، وكذا الكلام في سائر الأدلّة وسائر الأبواب، فيرتفع موضوع الإشكال، إذ مبنى الإشكال هو تخيّل أنّ المنشئات بالعقود من قبيل انوار الأصول، ج 1، ص: 138

المسبّبات التوليديّة فيستشكل فيه من جهة أنّ أمضاء المسبّب لا يلازم إمضاء السبب، والحال أنّ الأمر ليس كذلك، فتأمّل في المقام جيّداً» (انتهى مع تلخيص في بعض كلماته) «1».

وفيما ذكره إشكال من جهتين:

الجهة الاولى: ما ذكره من عدم كون الأفعال التوليديّة فعلًا للإنسان أوّ: وبالذات ...- إن أراد أنّه لا يمكن تعلّق الحكم أو إرادة المولى به فهو ممنوع قطعاً، لأنّ المقدور بالواسطة مقدور واقعاً ويمكن تعلّق الإرادة التكوينيّة والتشريعيّة به، وإن أراد غير ذلك فهو غير مضرّ بالمقصود.

الجهة الثانيّة: ما ذكره من كون الإنشاء والعقد من قبيل الآلة لا من قبيل الأسباب التوليديّة فهو أيضاً ممنوع أشدّ المنع، فإنّ الآلة إنّما تكون في موارد يكون للمكلّف فعل بنفسه سوى ما يتحقّق بالآلة كما في الكتابة، فإنّ للكاتب هناك فعلًا، وهو حركة اليد، وللآلة أثراً وهو ترسيم السطور، ولكن في باب المعاملات ليس كذلك، فليس للبائع فعل سوى إنشاء البيع (والمراد بالإنشاء ليس مجرّد ذكر الألفاظ بل الألفاظ مع القصد) وأمّا الملكيّة العقلائيّة أو الشرعيّة فهي من آثار الإنشاء الجامع للشرائط، وإن هو إلّاكالإحراق الذي يتوسّل به الإنسان من طريق الإلقاء في النار وليس للمحرق فعل مباشرة إلّاالإلقاء كما أنّه ليس هنا للبائع فعل مباشرة إلّاالإنشاء.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ التمسّك بالاطلاقات في أبواب المعاملات لا مانع منه، سواء قلنا بوضع الألفاظ للأسباب أو للمسبّبات، وسواء قلنا بوضعها للصحيح أو للأعمّ.

بقي هنا أمران:

الأوّل: أنّه لو فرض عدم وجود إطلاقات لفظيّة في البين أمكن التمسّك بالاطلاق المقامي، لأنّ

الشارع المقنّن الذي يكون في مقام التقنين والتشريع قد لاحظ المعاملات الرائجة بين العرف والعقلاء ثمّ شرع أحكامه وحينئذٍ لو كان لشي ء دخل فيها بعنوان الجزء أو الشرط كان انوار الأصول، ج 1، ص: 139

عليه بيانه ولوصل إلينا، وحيث إنّه لم يصل إلينا شي ء نستكشف عدم دخل ذلك الشي ء.

الثاني: أنّه لو فرض عدم وجود إطلاق لا لفظي ولا مقامي أمكن التمسّك بالسيرة العقلائيّة الجارية على اعتبارهم للمعاملات الرائجة بينهم التي كانت بمرأى ومسمع من الشارع ويستكشف إمضاؤه لها من سكوته وعدم ردعه.

التنبيه الثالث: في دخول الشرائط في محلّ النزاع وعدمه

وقد مرّ البحث عنه في الأمر الرابع من الامور المبحوثة عنه بعنوان المقدّمة ولكن نكرّره هنا على شكل أوسع تأسّياً بالأعاظم.

قال المحقّق الخراساني رحمه الله ما حاصله: إن دخل شي ء في المأمور به على أربعة أقسام:

فتارةً يكون بعنوان الجزئيّة فيكون دخيلًا في قوام الماهية كالركوع والسجود بالنسبة إلى الصّلاة.

واخرى بعنوان الشرطيّة فيكون التقيّد داخلًا في الماهية والقيد خارجاً نحو الطهارة بالنسبة إلى الصّلاة.

وثالثة يكون دخيلًا بعنوان الجزئيّة في فرد من أفراد الماهيّة نحو القنوت الذي يكون جزء للفرد الأفضل من الصّلاة.

ورابعة يكون شرطاً للفرد، نحو إتيان الصّلاة مع الجماعة الذي يكون شرطاً للفرد الأفضل (انتهى).

ويمكن تصوير قسم خامس وإن لم يكن محلًا للبحث، وهو ليس من باب دخل شي ء في شي ء بل من باب وقوع واجب في واجب أو واجب في مستحبّ نحو السجدة الواجبة لتلاوة آية السجدة في أثناء الصّلاة على القول بجوازها حين الصّلاة، واجبة كانت الصّلاة أم مستحبّة، فإن كانت واجبة فيكون وجوب السجدة من باب وقوع واجب في واجب، وإن كانت مستحبّة فيكون من باب وقوع واجب في مستحبّ.

ثمّ إنّه لا شكّ في عدم دخول القسم الثالث والرابع في محلّ

النزاع لصدق الصّلاة وصحّتها بدونهما، فتصحّ الصّلاة بدون الجماعة أو بدون القنوت مثلًا، كما لا إشكال في دخول القسم الأوّل (وهو الأجزاء) عند الصحيحي والأعمّي معاً، والفرق بينهما أنّ الصحيحي يقول:

انوار الأصول، ج 1، ص: 140

بدخول جميع الأجزاء في الماهية، والأعمّي يقول: بدخالة بعضها.

أمّا القسم الثاني وهو الشرائط، فقال المحقّق الخراساني رحمه الله في بدو كلامه بأنّه يمكن أن يقال بعدمه، ولكن صرّح في آخره بأنّها داخلة فيه، وظاهره دخولها مطلقاً، وقد يقال بعدم دخولها مطلقاً، وقد يفصل فيها بتفاصيل عديدة: تفصيل للمحقّق النائيني، وتفصيل ثاني للمحقّق العراقي، وتفصيل ثالث لتهذيب الاصول، ورابع يكون هو المختار.

أمّا القول الأوّل، وهو دخل الشرائط مطلقاً فيمكن الاستدلال له بوجهين:

الأوّل: أنّ الجامع الذي لا بدّ من تصويره قد استكشفناه من ناحية الآثار كالنهي عن الفحشاء وغيره، ومن المعلوم أنّها مترتّبة على الصحيح التامّ جزءً وشرطاً لا على الصحيح في الجملة، أي من حيث الجزء فقط دون الشرط.

الثاني: أنّ الأدلّة التي أقمناها على الصحيح من التبادر، وصحّة السلب عن الفاسد، والأخبار المثبتة لبعض الآثار للمسمّيات، والنافيّة للطبيعة بفقد جزء أو شرط، وهكذا دعوى استقرار طريقة الواضعين على الوضع للمركّبات التامّة- كلّها ممّا تساعد الوضع للصحيح التامّ جزءً وشرطاً لا الصحيح في الجملة.

وهذان الوجهان تامّان لا غبار عليهما ولكن لا ينافيان ما سنذكره إن شاء اللَّه من التفصيل.

ويمكن أن يستدلّ للقول الثاني وهو القول بعدم الدخالة مطلقاً بأمرين:

الأوّل: أنّ الأجزاء بمنزلة المقتضي، والشرائط بمنزلة شرط تأثير المقتضي فتكون رتبتها متأخّرة عن رتبة الأجزاء ولا يمكن أخذها في المسمّى في عرض الأجزاء كما حكي عن شيخنا العلّامة الأنصاري رحمه الله في تقريراته.

الثاني: أنّ الصّلاة من الامور القصديّة، وكثير من الشرائط لا يعتبر فيه

القصد نحو طهارة الثوب وطهارة البدن (بل يمكن أن يقال أنّ الوضوء أيضاً من هذا القبيل لأنّه من الشرائط المقارنة للصّلاة ولا يعتبر قصدها حين الصّلاة) ودخل الشرائط في المسمّى تستلزم تركيب الصّلاة من الامور القصديّة وغير القصديّة والمفروض أنّها برمّتها من الامور القصديّة.

أقول: ويرد على الأوّل أنّ التأخّر في الوجود بحسب المرتبة لا دخل له بالتأخّر في التسمية، وعلى الثاني أنّا لا نسلّم كون الصّلاة أمراً قصديّاً لجميع شراشرها بل يعتبر القصد في خصوص أجزائها لا شرائطها.

انوار الأصول، ج 1، ص: 141

أمّا القول الثالث، وهو القول بالتفصيل فقد مرّ أنّ هناك ثلاثة أنواع من التفصيل وبتعبير أصحّ ثلاث بيانات مختلفة لتفصيل واحد:

البيان الأوّل: ما أفاده المحقّق العراقي رحمه الله على ما في بدائع الأفكار فإنّه قال: الشرائط على ثلاثة أقسام: قسم أخذ في المأمور به، نحو شرط القبلة بالنسبة إلى دليل «صلّ إلى القبلة» وشرط الوقت بالنسبة إلى دليل «صلّ في الوقت» والطهارة بالنسبة إلى دليل «صلّ مع الطهارة»، وقسم لم يؤخذ فيه من ناحية الشرع بل الدالّ عليه هو العقل ولكن يمكن أخذه في المأمور به نحو عدم المزاحمة بالأهمّ وعدم تعلّق النهي، وقسم يستحيل أخذه في المأمور به والكاشف عنه هو العقل أيضاً، نحو قصد الأمر بناءً على ما هو المشهور من استحالة أخذه في متعلّق الأمر لاستلزامه الدور.

ثمّ ذهب إلى دخول القسم الأوّل في المسمّى، وأمّا الإشكالان المذكوران من جانب القائلين بالعدم فالمهمّ منهما عنده هو الإشكال الأوّل، وأجاب عنه بقضيّة الحصّة التوأمة فقال: المعتبر في الصّلاة هو الركوع والسجود وسائر الأجزاء المحصّصة بالحصّة المقارنة مع القسم الأوّل من الشرائط والتوأمة معها من دون أن تكون مقيّدة بها أو مطلقة بالنسبة إليها.

أمّا

القسم الثاني والثالث فقال بأنّهما خارجان عن حريم النزاع للإجماع والاتّفاق على صدق مسمّى الصّلاة في صورة التزاحم مع الأهمّ وصورة فقدان قصد الأمر فيقال الصّلاة المتزاحمة مع الأهمّ والصّلاة الفاقدة لقصد الأمر. هذا ملخّص كلامه رحمه الله «1».

ويرد عليه:

أوّلًا: أنّه لا معنى محصّل للحصّة التوأمة لأنّ الواقع ليس خالياً من أحد الأمرين، فإمّا أن تكون القضيّة في مرحلة الواقع مشروطة أو تكون مطلقة بنحو القضيّة الحينيّة، فإن كانت مشروطة فمعناه دخل الشرائط في المسمّى وكونه مقيّداً بها وإن كانت مطلقة بنحو القضيّة الحينية فمعناه عدم تقيّده بها، وليس في الواقع أمر ثالث، كما أنّه لا معنى للاهمال في مرحلة الثبوت والواقع.

وثانياً: أنّ الإجمال المدّعى قيامه على صدق الصّلاة في صورة عدم القسم الثاني والثالث في انوار الأصول، ج 1، ص: 142

الشرائط غير ثابت، لما مرّ من أنّ الصّلاة وضعت لما ينشأ منه الأثر، ولا شكّ في دخل قصد القربة كركن في تأثيرها في الآثار المطلوبة منها، وقد عرفت أنّ مسألة نفي المزاحم أو النهي ترجع في النهاية إلى قصد القربة، فيكون القسم الثاني والثالث أيضاً داخلين في محلّ النزاع، مضافاً إلى عدم حجّية الإجماع في إثبات حقيقة لغويّة أو حقيقة شرعيّة التي لا بدّ فيها من الرجوع إلى التبادر وصحّة السلب ونحوهما، وليست من المسائل التعبّديّة.

البيان الثاني: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله في المقام، وهو نفس ما ذهب إليه المحقّق العراقي رحمه الله إلّاأنّ دليل أحدهما غير دليل الآخر، ودليل المحقّق النائيني رحمه الله على خروج القسم الثاني والثالث: أنّ صدق المزاحمة أو ورود النهي فرع وجود المسمّى وإلّا لا يصدق مزاحمة شي ء لشي ء ولا عنوان المنهي عنه، وعلى هذا تكون التسمية قبل الابتلاء

بالمزاحم وقبل ورود النهي، هذا هو الوجه في خروج القسم الثاني عن محلّ النزاع، وأمّا القسم الثالث فالوجه في خروجه عنده تأخّره عن المسمّى برتبتين، لأنّ قصد القربة أو قصد الأمر متأخّر عن الأمر، والأمر متأخّر عن موضوعه وهو الصّلاة مثلًا. (انتهى ملخّص كلامه «1»).

أقول: يرد عليه أنّا لا نسلّم كون المزاحمة أو ورود النهي متفرّعاً على التسمية (المسمّى بما أنّه مسمّى) بل يمكن أن يتعلّق النهي لبعض المسمّى إرشاداً إلى دخل شي ء في تمام المسمّى كما في قوله عليه السلام «دع الصّلاة أيّام اقرائك» فالأمر متأخّر عن ذات المسمّى لا عن التسمية، وهكذا بالنسبة إلى قصد الأمر، فيمكن أن يقول الشارع: «كبّر، اركع، اسجد، مع قصد الأمر المتعلّق بها» فيكون قصد الأمر متأخّراً عن متعلّق الأمر، وهو وجود المسمّى لا عن تسميته بالصّلاة مثلًا.

ويجاب عن الثاني بأنّ المختار جواز أخذ ما لا يتأتّى إلّامن قبل الأمر في المأمور به، لأنّ الأمر فرع تصوّر موضوعه، وتصوّر المتأخّر وجوداً ممكن جدّاً، فقد وقع الخلط بين تأخّر الوجود برتبتين وتأخّر التصوّر، والذي يعتبر في الأمر هو الثاني لا الأوّل، وحينئذٍ يمكن أخذه في التسمية أيضاً على نحو ما مرّ في القسم السّابق، فتدبّر جيّداً.

البيان الثالث: ما أفاده بعض الأعاظم في تهذيب الاصول فإنّه قال في صدر كلامه بدخول انوار الأصول، ج 1، ص: 143

جميع الأقسام في المسمّى، وأجاب عن إشكال تقدّم التسمية على الطلب وقال بإمكان تأخّرها عنه لإمكان تعلّق الطلب على عناوين اخرى غير عنوان الصّلاة ووقوع التسمية بعده، ثمّ قال: إن قلت: وقوع التسمية بعد الطلب لغو لا فائدة فيه.

قلت: كان النزاع في الإمكان وعدمه وفي مقام الثبوت لا في مقام الإثبات، واللغويّة غير الاستحالة وداخل

في مقام الإثبات، ولكن عدل عنه في ذيل كلامه وقال: الشرائط على قسمين: شرائط «المسمّى» (شرائط الماهية) وشرائط «وجود المسمّى» وتحقّقه، والقسم الأوّل من الشرائط لا يبعد أن يكون من شرائط الماهية فيكون داخلًا في محلّ النزاع، وأمّا القسم الثاني والثالث فهما من شرائط الوجود فليسا داخلين في محلّ البحث، لأنّ البحث في الصحيح والأعمّ يكون في تعيين ما به مسمّى الألفاظ لا تشخيص شرائط وجوده. (انتهى ملخّص كلامه «1»).

أقول: يلاحظ على بيانه بأمرين:

الأوّل: أنّ ما ذهب إليه من التفصيل بين الشرائط وتقسيمها بشرط الماهية وشرط الوجود مبني على القول بأنّ الألفاظ وضعت للماهيات، وأمّا بناءً على مختارنا في المقام من أنّ جميع الألفاظ (إلّا ما شذّ) وضعت للوجودات الخارجيّة فهو في غير محلّه كما لا يخفى.

الثاني: أنّه يمكن أن يقال بدخول القسم الثاني والثالث في محلّ النزاع أيضاً لأنّ مقوّم ماهية العبادة هو العبوديّة والمقربيّة، ولا ريب في أنّ مقوّم العبوديّة إنّما هو قصد القربة بل هو أهمّ ما يكون داخلًا في ماهية الصّلاة، لأنّ خروجه عنها يستلزم خروج العبادة عن كونها عبادة، فكيف لا يكون داخلًا في ماهيّة المسمّى؟ ولا إشكال في أنّ الصّلاة والحجّ ونحوهما من مصاديق العبادة، والعجب منه ومن العلمين (المحقّق العراقي والنائيني رحمهما الله) حيث ذهبوا إلى أنّ قصد القربة خارج عن ماهيّة مسمّى العبادة حتّى على مبنى الصحيحي، مع أنّها بدون القربة لا تكون عبادة.

والمختار في المسألة هو ما ننتهي إليه بعد الرجوع إلى الاصول الموجودة في تسمية المخترعات العرفيّة كما مرّ، فإنّا قد قلنا بأنّ السيارة مثلًا وضعت لما يكون منشأً للأثر المرغوب انوار الأصول، ج 1، ص: 144

منها، ثمّ نقول: إنّ تأثيرها في الأثر له نوعان من

الشرائط: فنوع منها يكون شرطاً لفعلية المقتضي، كوجود النفط في المصباح مثلًا بالنسبة إلى تأثيرها في الإضاءة، وكشرب الدواء في صباحاً قبل الطعام، ونوع منها يكون شرطاً لاقتضاء المقتضي نحو كميّة الأجزاء وكيفيتها في المعاجين، ومن الواضح عدم دخالة النوع الأوّل في المسمّى كما يحكم به الوجدان، فإنّه لا يقول أحد بأنّ النفط داخل في مسمّى المصباح، وشرب الدواء قبل الطعام مثلًا داخل في مسمّى الأدوية بخلاف النوع الثاني.

هذا في المخترعات العرفيّة، وكذلك في المخترعات الشرعيّة فإنّ شرائط الصّلاة مثلًا على قسمين، قسم منها يكون من شرائط اقتضاء الصّلاة للأثر، فيكون داخلًا في مسمّاها كالطهارة وقصد القربة، وقسم منها يكون من شرائط فعلية تأثير الصّلاة مثل كون المصلّي مؤمناً (على القول باشتراط الإيمان في الصحّة لا في القبول فقط) ومثل الموافاة على الإيمان فيكون خارجاً عن مسمّاها، ولا بدّ من ملاحظة الأدلّة في باب شرائط العبادات وغيرها وملاحظة تناسب الحكم والموضوع حتّى يعلم أنّ هذا الشرط أو ذاك من القسم الأوّل أو القسم الأخير.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ عدم الابتلاء بالمزاحم وعدم ورود النهي يرجعان إلى قصد القربة كما مرّ في الأمر الرابع من الامور المذكورة في المقدّمة.

نعم إنّه سيأتي في مبحث الترتّب أنّ عدم الابتلاء بالمزاحم ليس من الشرائط (أي إن الابتلاء بالمزاحم ليس من الموانع) كما هو المعروف والجاري في ألسنة جمع من الأعلام، وإنّ كونه من الشرائط مبني على إنكار الترتّب.

وبهذا يتمّ الكلام في مبحث الصحيح والأعمّ والحمد للَّه.

انوار الأصول، ج 1، ص: 145

الأمر التاسع: في الاشتراك واستعمال اللفظ المشترك في أكثر من معنى

اشارة

ولا بدّ فيه من تقديم امور:

الأمر الأوّل: في إمكان وضع الألفاظ المشتركة وعدمه، ثمّ في وقوعه بعد ثبوت إمكانه.

ففيه ثلاث مذاهب: مذهب القائلين بالإمكان، ومذهب القائلين بالاستحالة، ومذهب القائلين بالوجوب.

المذهب الأوّل: فاستدلّ له بوجوه أحسنها وقوع الاشتراك في اللّغة، وأدلّ دليل على إمكان شي ء وقوعه، ووقوعه أمر وجداني ثابت بمثل التبادر ونحوه من سائر علائم الحقيقة، مضافاً إلى أنّ الإمكان يثبت بنفي أدلّة القائلين بالامتناع والوجوب كما سيأتي.

أمّا القائلين بالامتناع: فاستدلّوا له بدليلين:

الدليل الأوّل: ما ذكره غير واحد من أنّ الاشتراك مخالف لحكمة الوضع لأنّ به لا يحصل التفهيم والتفهّم.

وفيه: أوّلًا: أنّه يمكن حصول التفهّم بالقرينة ولا حاجة إلى كونها لفظيّة حتّى يستشكل بأنّه تطويل بلا طائل بل يمكن كونها مقاميّة أو حاليّة، مضافاً إلى أنّه ليس من قبيل التطويل بل قد يكون موافقاً للفصاحة والبلاغة.

وثانياً: أنّه قد تقتضي الحكمة إطلاق الكلام مجملًا مبهماً، والتكلّم من وراء الحجاب وغائباً عن الأغيار، ولا إشكال حينئذ في ثبوت الحاجة.

الدليل الثاني: (وهو مبني على كون الوضع بمعنى التعهّد والالتزام وكون الوضع تعييناً) استحالة أن يتعهّد الإنسان أوّلًا على أن يستعمل اللفظ في أحد المعنيين للفظ كلّما استعمله في انوار الأصول، ج 1، ص: 146

كلامه، ثمّ يتعهّد ثانياً كذلك بالنسبة إلى المعنى الآخر، لأنّ أحد التعهّدين مناقض للآخر.

أقول: يمكن التعهّد والالتزام بأنّه كلّما استعمل هذا اللفظ أراد أحد هذين المعنيين، وأمّا تعيين أحدهما بعينه فهو إنّما يكون بالقرينة فلا يلزم حينئذٍ محذور التناقض.

وأمّا القائلين بالوجوب: (وهو في المقام بمعنى اللابدّية) فاستدلّوا له بأنّ الألفاظ محدودة والمعاني غير متناهية ولولا الألفاظ المشتركة لوقعنا في ضيق وحرج بالنسبة إلى المعاني التي لم توضع بإزائها ألفاظ، فلابدّ لنا من المصير إلى الاشتراك.

والجواب عنه:

أوّلًا: إن كان المراد من عدم التناهي، عدم التناهي حقيقة فلا ترتفع الحاجة

إلى غير المتناهي بالمتناهي ولو زيد عليه ألف مرّة كما لا يخفى، وإن كان المراد منه الكثرة.

ففيه: أنّ الألفاظ أيضاً كثيرة بل تتجاوز مئات الملايين كما يظهر لنا بمحاسبة ساذجة، بملاحظة ثلاثين حرفاً من الحروف الهجائيّة (لو فرضنا كونها ثلاثين حرفاً) وضربها في نفسها (30* 30: 900) ليحصل منه التراكيب الثنائيّة، ثمّ ضرب العدد الحاصل في الثلاثين أيضاً ليحصل به الكلمات الثلاثيّة (900* 30: 27000)، ثمّ ضرب العدد الحاصل في الثلاث لإمكان تغيير موضع الحروف الثلاثة وإمكان تصوير كلّ كلمة ثلاثيّة على ثلاث صور، (27000* 30: 810000) وهكذا إلى آخره فيضرب العدد الحاصل في الثلاثين أيضاً ليتشكّل منه الكلمات الرباعيّة، ثمّ ضربه في الأربع، ثمّ ضربه في اثني عشر، ثمّ في الثلاثين أيضاً، ثمّ في خمسة وعشرين ثمّ ملاحظة كيفية الحركات الثلاثة (810000* 30: 2430000* 4: 9720000* 12* 30* 25* ...) وعليه فلا إشكال في كفاية الألفاظ عن المعاني بل أنّها أكثر من المعاني، أي تكون القضيّة على العكس، فيمكن أن يقال: إنّ الألفاظ غير متناهية عرفاً، والمعاني التي نحتاج إليها في حياتنا متناهية.

ثانياً: سلّمنا كون المعاني غير متناهية وكون الألفاظ متناهية إلّاأنّ كلّية كثير من الألفاظ بل أكثرها توجب رفع المشكلة لأنّ مورد الحاجة كثيراً ما يكون هو الكلّي وأمّا الجزئيات والمصاديق فترتفع الحاجة إليها بتطبيق الكلّي على الفرد كما لا يخفى، فإنّا نحتاج إلى وضع اسم لكلّي الحجر أو الشجر أو الدار مثلًا ولا نحتاج إلى وضع لفظ لافرادها بل نتكلّم عنها بتطبيق كلّياتها عليها.

انوار الأصول، ج 1، ص: 147

وثالثاً: لا ينحصر طريق حلّ المشكل في الاشتراك بل إنّ باب المجاز واسع.

فظهر: أنّ الحقّ إمكان الاشتراك لا وجوبه ولا امتناعه، كما أنّ الحقّ إمكان

الترادف أيضاً لكونه مقتضى حكمة الوضع، فربّما تقتضي الفصاحة استعمال ألفاظ مترادفة في معنى واحد للتأكيد أو غيره.

الأمر الثاني: في علّة الاشتراك ومنشئه

لا إشكال في أنّه من البعيد جدّاً أن يكون منشأ اشتراك بعض الألفاظ وضع واضع واحد، فيضع لفظاً واحداً تارةً لمعنى واخرى لمعنى آخر، بل يحتمل فيه وجهان آخران:

الوجه الأوّل: أن يكون المنشأ تعدّد الوضع التعييني بسبب تعدّد القبائل والطوائف في لغة واحدة كأن تضع قبيلة لفظاً في معنى، وتضع قبيلة اخرى من نفس تلك اللّغة ذلك اللفظ في معنى آخر.

الوجه الثاني: الوضع التعيّني، فوضع لفظ العين مثلًا في بدو الأمر للعين الباكية ثمّ استعمل في الجارية مجازاً بعلاقة الجريان، وصار بعد كثرة الاستعمال حقيقة، وكذلك بالنسبة إلى المتجسّس بعلاقة النظر وكونه بمنزلة البصر على الخصم، وهكذا بالنسبة إلى سائر معانيه.

أضف إلى ذلك ما يقع في الأعلام الشخصيّة، فإنّه كثيراً ما يختارون اسم «محمّد» لأفراد كثيرة، أو اسم فاطمة لعدّة بنات تبرّكاً بإسم النبي صلى الله عليه و آله وبنته الزهراء سلام اللَّه عليها، فيكون هذا من أسباب الاشتراك في الأعلام، أو يسمّون مسجداً باسم أمير المؤمنين عليه السلام في بعض البلاد، ومسجداً آخر بإسمه عليه السلام في بلدة اخرى وهكذا.

لكن هنا أمر ينبغي التنبيه عليه، وهو أنّا وإن قلنا بإمكان المشترك ووقوعه لا سيّما في باب الأعلام إلّاأنّ كثيراً من الألفاظ التي يتوهّم كونها مشتركاً لفظيّاً، مشترك معنوي أو من قبيل الحقيقة والمجاز، نحو «القرء» فإنّ المعروف كونه مشتركاً لفظياً وإنّه وضع للطهر تارةً وللحيض اخرى، مع أنّه مشترك معنوي وضع لمعنى انتقال المرأة من حال إلى حال، والانتقال له فردان: الانتقال من الطهر إلى الحيض وبالعكس، ويشهد عليه استعماله في مطلق الانتقال في لسان القرآن وكلمات

بعض أهل اللّغة، ولعلّ لفظ «العين» بالنسبة إلى معانيها الكثيرة أيضاً كذلك، كما يشهد له عبارات المفردات للراغب في ذيل البحث عن كلمة «عين» وإليك نصّها

انوار الأصول، ج 1، ص: 148

بالحرف: عين: العين الجارحة ... ويستعار العين لمعانٍ هي موجودة في الجارحة بنظرات مختلفة، ويستعار للثُقب في المِزادة تشبيهاً بها في الهيئة وفي سيلان الماء منها، فاشتقّ منها سقاءٌ عيِّن ... والمتجسّس عين تشبيهاً بها في نظرها، وقيل للذهب عين تشبيهاً بها في كونها أفضل الجواهر، كما أنّ هذه الجارحة أفضل الجوارح، ومنه قيل: أعيان القوم لأفاضلهم، وأعيان الاخوّة لبني أب وام ... ويقال لمنبع الماء عين تشبيهاً بها لما فيها من الماء، وعن عين الماء اشتقّ «ماء معين» أي ظاهر للعيون ... ويقال لبقر الوحش «أعين» و «عيناء» لحسن عينيه. (انتهى).

ولا يخفى أنّ هذه العبارة تنادي بأعلى صوته أنّ العين ليس مشتركاً لفظيّاً، والظاهر عدم اختصاص هذا المعنى بهذه اللّفظة، بل يجري في كثير من الألفاظ التي يدّعي اشتراكها.

اللهمّ إلّاأن يقال في خصوص لفظ «العين» إنّ ما ذكره الراغب في المفردات إنّما هو بيان لوجه استعمال العين في غير الجارحة المعروفة، والعلاقة الموجودة بينهما، ولكن بعد كثرة الاستعمال صار حقيقة فيها كما هو حقيقة في الجارحة المعروفة، فحصل الاشتراك اللّفظي.

وعلى كلّ حال نحن وإن قلنا بأنّ كثيراً من الألفاظ التي يتصوّر اشتراكها لفظاً تكون من المشترك المعنوي واقعاً، ولكن ما قد يظهر من بعض (مثل صاحب كتاب: «التحقيق في كلمات القرآن الكريم») من إرجاع جميع الكلمات المشتركة الواردة في القرآن الكريم إلى أصل واحد ممّا لا دليل عليه، ولا داعي له، ومن أقوى الأدلّة على نفي هذا القول بعض التكلّفات التي ارتكبها في كثير من

اللغات المشتركة بداعي ارجاعها إلى أصل واحد.

الأمر الثالث: في إمكان وقوعه في كلام اللَّه تعالى

ويدلّ عليه أوّلًا: أنّه مقتضى بلاغة الكلام لأنّها تقتضي أحياناً إطلاق الكلام مجملًا مردّداً، ولا إشكال في أنّ كلام اللَّه تعالى أبلغ الكلمات.

وثانياً: ما قد يقال: إنّ أدلّ الدليل على إمكان شي ء وقوعه، ولقد وقع استعمال المشترك في القرآن نحو لفظ العين فإنّه تارةً استعمل في العين الجارية في قوله تعالى «إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ» واخرى في العين الباكيّة في قوله تعالى: «وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ» ولكن قد عرفت الإشكال في كون لفظ العين من المشتركات اللّفظيّة.

هذا تمام الكلام فيما أردناه من الامور الثلاثة بعنوان المقدّمة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 149

ولنرجع إلى البحث في استعمال المشترك في أكثر من معنى، الذي له أثرات مهمّة في الفقه والتفسير، وليس محل النزاع استعمال اللفظ المشترك في القدر الجامع بين المعنيين فإنّه لا مانع منه ولا خلاف فيه، بل البحث في استعمال لفظ واحد في آنٍ واحد في كلّ من المعنيين في عرض واحد، كما أنّ النزاع يعمّ الحقيقة والمجاز أو الحقيقة والكناية أي استعمال لفظ واحد في معناه الحقيقي والمجازي أو في معناه الحقيقي والكنائي في عرض واحد، لعدم كون النزاع مختصّاً بالألفاظ المشتركة، ولتداخل الجميع في كثير من الأدلّة، وعليه فعنوان البحث «هل يجوز استعمال لفظ واحد في أكثر من معنى سواء كان من باب الاشتراك، أو الحقيقة والمجاز أو الحقيقة والكناية؟».

الأقوال في مسألة استعمال المشترك في أكثر من معنى

والأقوال فيها كثيرة يمكن جمعها في ثلاثة:

الأوّل: الجواز مطلقاً، الثاني: الاستحالة مطلقاً، الثالث: التفصيل تارةً بين المفرد والتثنية والجمع، واخرى بين النفي والإثبات.

وقد ذهب كثير من الأعاظم إلى الاستحالة عقلًا، بل هو المشهور بين المتأخّرين مثل المحقّق الخراساني والمحقّق النائيني رحمهما الله وغيرهما، وذهب إلى الجواز في التهذيب والمحاضرات وهو المحقّق المختار.

واستدلّ القائلون بالاستحالة

بما حاصله: أنّ استعمال لفظ واحد في المعنيين يستلزم الجمع بين اللحاظين في آنٍ واحد وهو محال.

توضيحه: أنّ حقيقة الاستعمال ليست عبارة عن جعل اللفظ علامة للمعنى حتّى يقال أنّه لا مانع من جعل لفظ واحد علامة لمعنيين أو الأكثر، بل هو فناء اللفظ في المعنى وجعله وجهاً ومرآة وعنواناً للمعنى، كأنّ ما يجري على اللسان هو نفس المعنى لا اللفظ، كما يشهد عليه سراية قبح المعنى إلى اللفظ وبالعكس، إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ استعمال لفظ واحد في معنيين يستلزم كونه فانياً في كلّ واحد مستقلًا، ومن المعلوم أنّ لحاظه كذلك في معنى ينافي لحاظه في معنى آخر فلا يكون وجهاً لمعنيين وفانياً في اثنين إلّاأن يكون اللاحظ أحول العينين.

انوار الأصول، ج 1، ص: 150

ويرد عليه:

أوّلًا: أنّ القول بكون حقيقة الاستعمال فناء اللفظ في المعنى كلام شعري لا دليل عليه، بل هي عبارة عن جعل اللفظ علامة للمعنى كما عرفت بيانه في محلّه، وأمّا قضيّة سراية القبح والحسن فليست من جهة الفناء بل هي ناشئة من كثرة الاستعمال وحصول الانس أو المنافرة بالنسبة إلى المعنى، ولذا لا يحسّ متعلّم اللّغة الجديدة قبحاً ولا حسناً في الألفاظ لعدم حصول كثرة الاستعمال والانس بالنسبة إليه.

ثانياً: سلّمنا كون اللفظ فانياً في المعنى لكن إنّما يستلزم المحال فيما إذا تحقّق اللحاظان في آن واحد، وأمّا ملاحظة المعنيين بلحاظين مستقلّين في آنين مختلفين قبل وقوع الاستعمال ثمّ استعمال اللفظ فيهما ثانياً فلا مانع منه ولا يلزم منه محذور ولا حاجة إلى لحاظ المعنيين في آنٍ واحد، أي لا دليل على لزوم وحدة آن اللحاظ في الاستعمال.

وثالثاً: أنّ أدلّ دليل على إمكان شي ء وقوعه، ولا ينبغي الإشكال في وقوع استعمال اللفظ

في أكثر من معنى واحد في كلمات الفصحاء والبلغاء، كما يقال في جواب من شكى وجعاً في عينه الباكية وجفاف عينه الجارية: «أصلح اللَّه عينك» ويراد منه كلا المعنيين، بل لا يخفى لطفه وأنّه يستحسنه الطبع والوجدان اللغوي، كما لا إشكال في أن يقول من دخل على زيد في داره ورأى جوده وسخائه مضافاً إلى كثرة رماده: «أنت كثير الرماد» بمعنيين فيريد المعنى الحقيقي والمعنى الكنائي معاً في استعمال واحد، وكقول الشارع في مدح النبي الأعظم صلى الله عليه و آله في شعر لطيف له:

المرتمى في الدجى والمبتلى بعمى والمشتكى ظمئاً والمبتغى ديناً

يأتون سدّته من كلّ ناحية ويستفيدون من نعمائه عيناً

فاستعمل لفظ العين في معانٍ أربعة: الشمس والعين الباكية والعين الجارية والذهب «1».

انوار الأصول، ج 1، ص: 151

لا يقال: إنّه استعمل حينئذٍ في الجامع بينهما وهو المسمّى بالعين فيكون من باب المشترك المعنوي، لأنّ استعماله في جامع من هذا القبيل في غاية الغرابة وخارج عن المحسنات الذوقيّة بل يوجب خروج تلك الأبيات عن جمالها ولطافتها إلى أمر مبتذل كما لا يخفى. مضافاً إلى كونه خلاف الوجدان، ولا فرق في ذلك بين كون العين مشتركاً لفظيّاً أو حقيقة في الجارحة ومجازاً في غيرها.

ورابعاً: الرّوايات الكثيره الواردة في بيان أنّ للقرآن بطناً أو سبعة أبطن أو أكثر من ذلك ظاهرة في أنّ اللفظ الواحد استعمل في معانٍ متعدّدة.

وقد جمعها العلّامة المحقّق المجلسي رحمه الله في المجلّد 89 في كتاب القرآن في الباب 8 «أنّ للقرآن ظهراً وبطناً ...» وقد أورد فيها أكثر من ثمانين رواية كثير منها دليل على المطلوب.

منها: ما رواه عن المحاسن عن جابر بن يزيد الجعفي قال «سألت أبا جعفر عليه السلام عن شي ء من

التفسير فأجابني ثمّ سألته عنه ثانيّة فأجابني بجواب آخر، فقلت: جعلت فداك كنت أجبتني في هذه المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم، فقال: ياجابر، إنّ للقرآن بطناً وللبطن بطن وله ظهر وللظهر ظهر» «1».

ومنها: ما رواه عن تفسير العياشي عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن هذه الرّواية «ما في القرآن آية إلّاولها ظهر وبطن ... ما يعني بقوله «لها ظهر وبطن» قال: ظهره تنزيله وبطنه تأويله، منه ما مضى ومنه ما لم يكن بعد، يجري كماتجري الشمس والقمر ...» «2».

وقد رويت هذه الرّواية في الوسائل بعبارة أوضح عن فضيل بن يسار قال سألت أبا جعفر عليه السلام عن هذه الرّواية: «ما من القرآن آية إلّاولها ظهر وبطن» فقال: ظهره تنزيله وبطنه تأويله منه ما قد مضى ومنه ما لم يكن يجري كما يجري الشمس والقمر- إلى أن قال- وما يعلم انوار الأصول، ج 1، ص: 152

تأويله إلّااللَّه والراسخون في العلم» «1».

إلى غير ذلك ممّا ورد في هذا المعنى، هذا من جانب.

ومن جانب آخر هناك روايات كثيرة وردت في تفسير آيات القرآن ممّا لا يحتمله ظاهره أو يعلم أنّه ليس بمراد من ظاهره، مثل تفسير «البحرين» في قوله تعالى «مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ» بأمير المؤمنين وفاطمة عليهما السلام، وتفسير «اللؤلؤ والمرجان» في قوله تعالى «يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ» بالحسنين عليهما السلام وكذلك تفسير «الماء المعين» في قوله تعالى: «أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ» بظهور الحجّة عليه السلام وتفسير قوله تعالى: «ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ» (التفث بمعنى الوسخ) بلقاء الإمام عليه السلام حيث سأل عنه عبداللَّه بن سنان عن الصادق عليه السلام فقال: أخذ الشارب وقصّ الأظفار وما أشبه ذلك، قال:

جعلت فداك فإنّ ذريحاً المحاربي حدّثني أنّك قلت: ثمّ ليقضوا تفثهم لقى الإمام ... فقال: صدق ذريح وصدقت، إنّ للقرآن ظاهراً وباطناً ومن يحتمل ما يحتمل ذريح» «2» إلى غير ذلك من أشباهه.

ولا ريب أنّ الحسنين عليهما السلام ليسا معنىً حقيقيّاً للؤلؤ والمرجان، وكذلك المهدي (أنفسنا لنفسه الوقاء) ليس مصداقاً حقيقيّاً للماء المعين بل معناه الحقيقي هو المادّة السيّالة المخصوصة حتّى أنّ الماء المضاف من معانيه المجازيّة فكيف بغيره؟ فلا يبقى هنا مجال إلّاالاستعمال في أكثر من معنى، كلّ واحد مستقلّ عن الآخر، معنى حقيقي ومعنى مجازي (وإن كان المجاز هنا أرقى من الحقيقة من حيث الجمال الأدبي وروعة البيان).

إن قلت: لِمَ لا يجوز استعماله في القدر الجامع المشترك بين المعنيين اشتراكاً معنويّاً كأن يقال: إنّ المراد بالماء المعين هو الذي يكون سبباً للحياة، والمراد باللؤلؤ والمرجان هو الشي ء النفيس مادّياً كان أو معنويّاً، وكذلك «التفث» أعمّ من الوسخ الظاهري والباطني، فالأوّل يزول بقصّ الأظفار وأخذ الشارب وغيرهما، والثاني بملاقاة الإمام عليه السلام؟

قلنا: أوّلًا: لازم ذلك أن تكون الآيات القرآنيّة محمولة على المجازات كلّها أو جلّها لأنّ جميعها يشتمل على البطون، ومن الواضح أنّ البطن معنى مجازي (كاستعمال الماء المعين في انوار الأصول، ج 1، ص: 153

المهدي أرواحنا فداه) واستعمال اللفظ في القدر الجامع بين المعنى الحقيقي والمجازي استعمال مجازي (لأنّ النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمتين) ولا يمكن الالتزام بذلك.

وثانياً: لازم ذلك أن يكون قوله تعالى: «يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ» (مثلًا) عامّاً شاملًا لكلّ شي ء نفيس، فلا ينحصر بوجود الحسنين عليهما السلام بل يشمل كلّ ما كان ثميناً معنويّاً، ولا يمكن الالتزام بذلك أيضاً، وكذلك الماء المعين يشمل جميع ما كان سبباً للحياة المعنويّة من العلم والتقوى

والمعرفة، وكلّ إنسان له حظّ من المعنويات، وهل يلتزم القائل بذلك؟

وإن شئت قلت: الجامع بين خصوص «اللؤلؤ والمرجان» الظاهريين اللّذين هما المعنى الحقيقي لهذين اللّفظين بحسب المتبادر ونصّ أهل اللّغة، وبين وجود الحسنين عليهما السلام بحيث لا يشمل غيرهما، غير موجود، والموجود من القدر الجامع يشمل كلّ موجود له نفاسة وقيمة.

وثالثاً: حمل اللفظ على القدر الجامع بين المصاديق المادّية والمعنويّة (الحقيقيّة والمجازيّة وإن كان المجاز ما فوق الحقيقة) أمر يعرفه كلّ من له خبرة بمعنى الكلمات ولا يختصّ ذلك بالراسخين في العلم من الأئمّة المعصومين عليهم السلام.

ويستفاد من جميع ذلك أنّ البطون ليست سوى معانٍ مستقلّة اريدت من الكلام إلى جنب المعنى الظاهري، وعلمها عند أهلها، فيكون من باب استعمال اللفظ في أكثر من معنى، وإن لم يكن كلّها معانٍ حقيقيّة (فإنّ محلّ الكلام أعمّ).

إن قلت: أو لست تقول: إنّ استعمال اللفظ في أكثر من معنى وإن كان جائزاً ولكنّه يحتاج إلى القرينة، ولا نرى قرينة للبطون.

قلنا: نعم، ولكن اقيمت القرينة لمن قصد افهامه من اللفظ وهم الأئمّة المعصومون الراسخون في العلم، وإرادة معنى من اللفظ في خطاب جميع الناس وإرادة معنى آخر (مضافاً إلى المعنى الأوّل) لأوحدي منهم مع إقامة القرائن له فقط- لا يعدّ أمراً مستنكراً كما لا يخفى.

وممّا ذكرنا يظهر أنّ ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله لتوجيه روايات البطون غير مرضي عندنا فإنه قال:

1- إنّ المراد من البطون معانٍ اخرى قد اريدت في أنفسها في حال الاستعمال لا من اللفظ.

2- يمكن أن يكون المراد لوازم المعنى المستعمل فيه اللفظ وإن كانت أفهامنا قاصرة عن ادراكها.

ولكن الجواب الأوّل عجيب منه، فإنّ لازمه أنّ المراد من بطون القرآن معانٍ كانت انوار الأصول، ج 1،

ص: 154

موجودة في ذهن المتكلّم فأرادها مقارناً للمعنى المستعمل فيه اللفظ من دون أي ربط بينهما ومن دون استعمال اللفظ في تلك المعاني، وهذا عجيب منه ومعلوم بطلانه.

وأمّا الجواب الثاني ففيه أنّه ينتقض بما يعدّ من بطون القرآن ولا يكون من لوازم المعنى الموضوع له، نحو كلمة «الجوار الخنّس» في الآية التي فسّرت في الرّواية بالامام الغائب (أنفسنا له الفداء) مع كونه في اللّغة بمعنى الكواكب المتحرّكة التي تغرب وتحتجب عن النظر، ولا ملازمة بين المعنيين كما لا يخفى.

وأمّا القول بأنّه استعمل في معنى جامع- و يرد عليه ما سبق آنفاً من الإيرادات الثلاثة.

وممّا ذكرنا ظهر أمران:

الأوّل: أنّ استعمال اللفظ في أكثر من معنى وإن كان ممكناً إلّاأنّه حيث كان مخالفاً لظاهر الكلام فيحتاج إلى القرينة المعيّنة للمعاني المرادة لا القرينة على المجاز كما في الأبيات المذكورة آنفاً، وبدونها لا يصحّ حمل اللفظ على المعنيين أو أكثر، بل يحمل على معنى واحد من معانيه، فإن كان هناك قرينة معيّنة فيها فهو وإلّا كان مجملًا.

نعم لا فرق بين أن تكون القرينة داخلية أو خارجيّة، فالداخلية مثل ما مرّ في ما مضت من الأبيات، فإنّ كلمة «في الدجى» وكلمة «ظمئاً» مثلًا قرينتان على استعمال العين في الشمس والعين الجارحة، والخارجيّة نظير ما مرّ من تفسير الإمام عليه السلام في الآيات الثلاث.

الثاني: قد ظهر ممّا ذكرنا هنا أنّه لا فرق من ناحية العقل بين استعمال اللفظ في المعنيين الحقيقيين، أو المعنى الحقيقي والمجازي، أو الحقيقي والكنائي نفياً واثباتاً، لأنّ دليل الاستحالة المذكورة سابقاً كان منحصراً في امتناع اجتماع اللحاظين، وهو يتصوّر في كلّ واحد من التقادير، فبمنعه يثبت الجواز أيضاً في جميعها.

إلى هنا تمّ الدليل الأوّل للامتناع، وقد تبيّن ممّا

ذكر في جوابه دليل المختار من جواز الاستعمال في أكثر من معنى.

وأمّا الدليل الثاني فهو ما قد يقال من أنّ الألفاظ وجودات تنزيلية للمعاني وكأنّ المعنى يوجد بإيجاد اللفظ، ولذلك قالوا بأنّ للوجود أنواعاً أربعة: وجوداً خارجياً، ووجوداً ذهنياً، ووجوداً كتبيّاً، ووجوداً لفظيّاً، فعدّ اللفظ أيضاً من أنواع الوجود، وحيث لا يكون لحقيقة

انوار الأصول، ج 1، ص: 155

واحدة وجودان خارجيان، فكذلك لا يكون للفظ واحد معنيان.

والجواب عنه: إنّ المراد من كون الألفاظ وجودات تنزيلية للمعاني تشبيه للألفاظ بالوجودات الخارجيّة، ويكون المقصود هيهنا أنّ وجود اللفظ علامة لوجود المعنى، وإلّا لا إشكال في أنّ اللفظ ودلالته على معناه أمر اعتباري عقلائي ولا يقاس بالوجودات الحقيقيّة الخارجيّة، فإنّ هذا أيضاً من الموارد التي وقع فيها الخلط بين المسائل اللغويّة والمسائل الفلسفية، وعليه لا مانع من استعمال لفظ وإرادة معنيين.

وإن شئت قلت: سلّمنا كون اللفظ وجوداً تنزيليّاً للمعنى، ولكن أي مانع من تنزيل شي ء واحد منزلة الشيئين، فإنّ التنزيل أمر اعتباري ولا مانع من اجتماع امور اعتباريّة عند استعمال لفظ واحد.

الثالث: إنّه باللفظ يوجد المعنى، واللفظ يكون علّة للمعنى ولا يصدر من العلّة الواحدة إلّا معلول واحد.

وفيه: أنّ هذا أيضاً من أوضح مصاديق الخلط بين المسائل الفلسفية والحقائق الاعتباريّة، فإنّ قاعدة الواحد (على القول بها) مختصّة بالواحد البسيط الحقيقي التكويني كما مرّ غير مرّة، وأمّا وضع الألفاظ فأمر اعتباري محض ولا يجري فيه قانون العلّية فضلًا عن قاعدة الواحد.

هذا أوّلًا.

وثانياً: سلّمنا- لكن ليس اللفظ في استعماله في أكثر من معنى تمام العلّة لايجاد المعنى بل هو جزء للعلّة التامّة، والجزء الآخر هو القرينة ولا إشكال في أن يصير لفظ واحد بضمّ قرينة علّة لايجاد معنى، وبضمّ قرينة اخرى علّة

لايجاد معنى آخر فتأمّل «1».

هذا كلّه في أدلّة القائلين بالاستحالة العقليّة.

أمّا القائلون بعدم الجواز لغة وعرفاً فهم طائفتان: طائفة قالوا بعدم الجواز حقيقة والجواز مجازاً، وطائفة اخرى قالوا بعدم الجواز حقيقة ومجازاً، والإنصاف أنّ طريق هاتين الطائفتين أسلم اشكالًا من طريق القائلين بالاستحالة العقليّة وإن كانت مقالتهم أيضاً لا تخلو من الضعف والإشكال كما سيأتي.

انوار الأصول، ج 1، ص: 156

واستدلّ الطائفة الاولى بوجهين:

الأوّل: أنّ الوحدة جزء للموضوع له لأنّ اللفظ وضع للمعنى الواحد، فإذا استعمل في المعنيين استعمل في غير ما وضع له فيصير مجازاً.

الثاني: أنّ اللفظ وضع للمعنى في حال الوحدة، فكأنّ الواضع اشترط أن يستعمل اللفظ حال الوحدة، حيث إنّ اللغات توقيفيّة، فلابدّ لاستعمال اللفظ في المتعدّد إلى إذن من الواضع.

وأمّا الطائفة الثانيّة: فاستدلّوا لعدم الجواز حقيقة بنفس ما استدلّ به الطائفة الاولى، ولعدم الجواز مجازاً بعدم وجود علاقة بين الواحد والمتعدّد لأنّهما ضدّان، لكون أحدهما مأخوذاً بشرط شي ء والآخر بشرط لا، ولا إشكال في أنّهما متباينان، وأمّا علاقة الكلّ والجزء فلا تتصوّر هنا لأنّ الوحدة شرط للموضوع له وليست بجزء له.

والجواب: عن كلتا الطائفتين: إن كان المراد من قيد الوحدة أنّ اللفظ وضع لمعناه لأن يستعمل فيه باللحاظ الاستقلالي فإنّه حاصل في ما نحن فيه، لأنّ المراد من استعمال لفظ في أكثر من معنى استعماله في كلّ واحد بلحاظ مستقلّ لا في المجموع من حيث المجموع.

وإن كان المراد منها أنّ اللفظ وضع لأن يراد منه معنى واحد لا معنيان وإن كان يلاحظ كلّ واحد منهما مستقلًا فهو دعوى بلا دليل.

وإن كان المراد أنّ اللفظ يستعمل في الاستعمالات المتعارفة في معنى واحد وهذا يوجب ظهور اللفظ في معنى واحد، فهو حقّ ولكنّه ظهور انصرافي،

أي ينصرف اللفظ إلى الوحدة لا ظهور حقيقي بحيث يكون في غيره مجازاً، لأنّ منشأ الظهور هنا كثرة الاستعمال في العرف لا التبادر الذي يكون من علائم الوضع، فليست الوحدة جزءاً للموضوع له بل اللفظ ظاهر في معنى واحد ولا بدّ لاستعماله في الأكثر من قرينة معيّنة للأكثر وصارفة عن المعنى الواحد.

وأمّا القائلون بالتفصيل بين التثنية والجمع والمفرد فتمسّكوا لعدم الجواز في المفرد بما مرّ من اعتبار الوحدة أيضاً فقالوا: إنّ التثنية أو الجمع في حكم تكرار اللفظ فلا ينافيان قيد الوحدة فإنّ «العينين» مثلًا بمعنى عين وعين.

والجواب عنه: أنّه لا إشكال في أنّ معنى التثنية هو الفردان من معنى واحد، وكذلك الجمع فإنّه أفراد من كلّي واحد كما أنّ المفرد فرد واحد من ذلك المعنى فالتثنية والجمع في حكم تكرار الفرد لا تكرار اللفظ.

انوار الأصول، ج 1، ص: 157

إن قلت: فما تقول في «زيدان» مع أنّ المفرد فيه جزئي لا يتصوّر فيه الأفراد؟

قلت: الوجدان حاكم على أنّ المراد من «زيدان» فردان من كلّي «المسمّى بزيد».

وأمّا القائلون بالتفصيل بين النفي والإثبات فاستدلّوا بأنّ ما وقع في حيّز النفي يفيد معنى الجمع فدليلهم هو الدليل، والجواب أيضاً هو الجواب.

انوار الأصول، ج 1، ص: 159

الأمر العاشر: في المشتق

اشارة

قد وقع النزاع في أنّ المشتقّ هل يكون حقيقة في خصوص ما يتلبّس بالمبدأ في الحال (حال النسبة) أو في الأعمّ منه وممّا مضى منه التلبّس بعد الاتّفاق على كونه مجازاً في ما يتلبّس بالمبدأ في المستقبل؟ فلفظ الصائم مثلًا هل يكون حقيقة فيمن يكون صائماً في زمان الحال فقط، أو يطلق حقيقة أيضاً على من كان صائماً؟ بعد الاتّفاق على مجازيته في من يصوم في الاستقبال.

ولنقدّم قبل الورود في أصل البحث اموراً:

الأمر الأوّل: في تعيين حدود محلّ النزاع

هل النزاع يختصّ بالمشتقّ الصرفي فحسب؟ وبعبارة اخرى: هل المشتقّ في الاصول هو المشتقّ في علم الصرف، أو له اصطلاح خاصّ؟

الظاهر أنّ له اصطلاحاً جديداً في الاصول وأنّ النسبة بين المشتقّ الاصولي والمشتقّ الصرفي عموم من وجه، والمهمّ في المشتق الاصولي أن يحوى امورزاً اربعة:

الأوّل: الذات المتلبّسة بالمبدأ.

الثاني: مبدأ الاشتقاق.

الثالث: تحقّق التلبّس في زمان من الأزمنة الثلاثة.

الرابع: انقضاء التلبّس. فالملاك في دخول شي ء في محلّ النزاع اجتماع هذه الامور فيه، وحيث إنّ بعض المشتقّات الصرفيّة لا يكون واجداً لتمامها فيكون خارجاً عن محلّ البحث كالفعل الماضي أو المستقبل (فإنّ ذات الفاعل فيهما ليست جزءً) وإن كانا مشتقّين في اصطلاح الصرفيين، بل أنّه نفس الحدث الواقع في زمان من الأزمنة، وكذلك الأوصاف التي لا يتصوّر فيها انقضاء المبدأ نحو المولد حينما يقال: «مولد النبي صلى الله عليه و آله مكّة» لأنّ وصف التولّد يتحقّق في انوار الأصول، ج 1، ص: 160

زمان ومكان، ولا يكون له بقاء حتّى يتصوّر انقضائه أو عدمه، وكذلك الأوصاف التي تكون من ذاتيات الشي ء كالمحرقيّة بالنسبة إلى النار، وبالعكس يدخل بعض الجوامد الصرفيّة في محلّ النزاع لاجتماع الامور الأربعة المذكورة فيه كالزوج والزوجة، ولذلك قلنا بأنّ النسبة بين المشتقّ في

علم الاصول والمشتقّ في علم الصرف هي العموم من وجه، فموضع اجتماعهما نظير اسم الفاعل والمفعول، وموضع الافتراق هو الأفعال والجوامد.

بقي هنا شيئان:

1- قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ ثمانيّة أقسام من المشتقّات الصرفيّة (اسم الفاعل، اسم المفعول، الصفة المشبهة، صيغة المبالغة، اسم الزمان، اسم المكان، اسم التفضيل واسم الآلة) والجوامد الواجدة للمعيار المذكور تكون داخلة في محلّ النزاع، فلا وجه لتخصيص صاحب الفصول محلّ النزاع باسم الفاعل وما بمعناه من الصفات المشبهة وإخراج سائر المشتقّات، وهي اسم المفعول وصيغة المبالغة واسمي الزمان والمكان واسم الآلة، واستدلاله للخروج بأنّ من اسم المفعول ما يطلق على الأعمّ كقولك: «هذا مقتول زيد» أو «مصنوعه» أو «مكتوبه» ومنه ما يطلق على خصوص المتلبّس نحو «هذا مملوك زيد» أو «مسكونه» أو «مقدوره» ولم نقف فيه على ضابطة كلّية، وهكذا اسم المكان نحو المسجد، واسم الزمان نحو المقتل، واسم الآلة نحو المفتاح، بل يصدق المسجد على مكان السجدة ولو لم يسجد فيه بالفعل، ويصدق المقتل على زمان القتل والمفتاح على آلة فتح الباب سواء حصل المبدأ أو لم يحصل بعدُ.

لأنّه يرد عليه ما مرّ من أنّ الأوصاف التي لا يتكرّر الوصف فيها تكون خارجة عن محلّ النزاع، ومنها مثال المقتول المذكور في كلامه، ولا يوجب خروج مصداق من مصاديق اسم المفعول عن محلّ النزاع (لعدم تكرّره) خروج اسم المفعول بجميع مصاديقه، وأمّا سائر الأمثلة في كلامه فسيأتي أنّ للتلبّس بالمبدأ أنحاء منها: التلبّس بالفعل ومنها: التلبّس بالملكة ومنها:

التلبّس بالحرفة ومنها: التلبّس بالشأنيّة أو الاستعداد والقابلية، والانقضاء في كلّ منها بحسبه، ففي مثل المسجد والمفتاح يكون التلبّس بالملكة والاستعداد لأنّ المسجد مكان يكون مستعدّاً للسجدة، والمفتاح ما يكون مستعدّاً لفتح الباب به،

وإذا انقضى هذا الاستعداد يقع البحث في أنّهما حقيقتان في خصوص ما تلبّس بمبدأ الاستعداد في الحال، أو في الأعمّ منه والمنقضي عنه انوار الأصول، ج 1، ص: 161

التلبّس بالاستعداد؟ وأمّا اسم الزمان فسيأتي الكلام فيه فانتظر.

2- إنّه يمكن الاستدلال لدخول بعض الجوامد في محلّ النزاع بثلاثة وجوه:

منها: صدق عنوان البحث عليه وهو «ما مضى عنه المبدأ» ولا إشكال في صدق هذا العنوان على مثل الزوج والزوجة.

ومنها: أنّه سلّمنا عدم اتّخاذ الاصولي مصطلحاً جديداً وكان العنوان هو المشتقّ الصرفي لكن يجري النزاع في بعض الجوامد لوجود الملاك فيه وهو اجتماع الامور الأربعة المذكورة فيها.

ومنها: استدلالات الأعلام في الفقه، فإنّهم بنوا أدلّتهم لبعض المسائل على عناوين ليست بمشتقّ صرفي كعنوان الزوج والزوجة مع أنّ مبنى استدلالهم بها كون هذه العناوين مشتقّات بل أرسلوه إرسال المسلّمات وهذا يكشف عن وجود اصطلاح خاصّ للمشتقّ الاصولي أيضاً، ومن تلك المسائل مسألة «من كانت له زوجتان كبيرتان وزوجة صغيرة وأرضعت الكبيرتان الصغيرة» وسيأتي الكلام فيها في محلّه وإنّهم بنوا حكم هذه المسألة على مسألة المشتقّ.

الأمر الثاني: في خروج اسم الزمان عن محلّ النزاع وعدمه

ووجه الإشكال فيه عدم وجود بعض الأركان الأربعة فيه، وهو بقاء ذات تتلبّس بالمبدأ، أي يكون للذات المتلبّس فردان فرد متلبّس في الحال وفرد تلبّس بها وانقضى عنه المبدأ، وهذا غير متصوّر في اسم الزمان، لأنّ الذات فيه وهي الزمان ممّا ينقضي بإنقضاء نفس المبدأ، وعليه فكيف يجري النزاع في كون اسم الزمان حقيقة في خصوص المتلبّس في الحال، أو في الأعمّ منه وما انقضى عنه المبدأ، مع عدم وجود ما انقضى عنه في الخارج؟، فوقع الأعلام لدفع هذا الإشكال في حيص وبيص وأجابوا عنه بوجوه:

الوجه الأوّل: ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله فإنّه قال: يمكن

أن يضع الواضع اللفظ لمعنى كلّي وإن كان له في الخارج فرد واحد فقط، فإسم الزمان وضع لكلّي ما تلبّس بالمبدأ سواء تلبّس به في الحال أو في الماضي مثلًا وإن كان منحصراً في الخارج في فرد واحد وهو المتلبّس انوار الأصول، ج 1، ص: 162

بالمبدأ في الحال، وهو أمر ممكن نظير النزاع في اسم الجلالة (اللَّه) في أنّه وضع لكلّي واجب الوجود، أو وضع لشخص الباري تعالى مع أنّه منحصر في فرد واحد خارجاً، مضافاً إلى أنّه لا إشكال في أنّ لفظ واجب الوجود وضع لكلّي الواجب مع انحصار مصداقه في ذات الباري.

أقول يرد عليه:

أوّلًا: أنّ وضع اسم الزمان للكلّي مع انحصاره في فرد واحد يستلزم اللغويّة لعدم الحاجة إليه، وبعبارة اخرى: إنّ حكمة الوضع تقتضي عدمه فإنّ الحكمة فيه إنّما هي الحاجات الاعتياديّة اليوميّة، ومع انحصار الكلّي في فرد واحد لا حاجة إلى الوضع لنفس الكلّي.

وثانياً: أنّه لا يصحّ النقض بلفظ الجلالة، لكونه مستعملًا عند غير الموحّدين أيضاً، ولعلّ واضعه من الوثنيين مثلًا الذين لا يعتقدون بإنحصاره في فرد واحد، وأمّا واجب الوجود فليس لفظاً خاصّاً معيّناً لمعنى خاصّ، بل هو مركّب من كلمتين ولكلّ واحد منهما معناه الخاصّ ولا ربط له بالمقام.

الوجه الثاني: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله وهو «أنّ المقتل عبارة عن الزمان الذي وقع فيه القتل وهو اليوم العاشر من المحرّم، واليوم العاشر لم يوضع بإزاء خصوص ذلك اليوم الذي وقع فيه القتل بل وضع لمعنى كلّي متكرّر في كلّ سنة وكان ذلك اليوم الذي وقع فيه القتل فرداً من أفراد ذلك المعنى العامّ المتجدّد في كلّ سنة، فالذات في اسم الزمان إنّما هو ذلك المعنى العامّ وهو باقٍ حسب

بقاء الحركة الفلكية، وقد انقضى عنها المبدأ الذي هو عبارة عن القتل، فلا فرق بين الضارب وبين المقتل ... نعم لو كان الزمان في اسم الزمان موضوعاً لخصوص تلك القطعة الخاصّة من الحركة الفلكية التي وقع فيها القتل، لكانت متصرّمة كتصرّم نفس المبدأ، إلّاأنّه لا موجب للحاظ الزمان كذلك» «1».

أقول: يمكن أن يستشكل فيه بأنّ أخذ كلّي يوم العاشر من المحرّم بعنوان ما وضع له لفظ مقتل الحسين يستلزم عدم انقضاء تلبّس مبدأ القتل عنه إلى الأبد، لأنّ له في كلّ عاشوراء من كلّ سنة فرد إلى الأبد يكون متلبّساً بمبدأ القتل، فيقال في كلّ عاشوراء من كلّ سنة «اليوم مقتل الحسين عليه السلام» ولازمه عدم فرض مصداق انقضى عنه المبدأ فيه، فيعود الإشكال بنحو آخر.

انوار الأصول، ج 1، ص: 163

الوجه الثالث: ما يستفاد من بعض الأعاظم، وهو أنّ الوضع في اسم الزمان والمكان واحد، ويكون الموضوع له فيهما جامعاً يطلق على الزمان تارةً وعلى المكان اخرى، وهو عبارة عن ظرف الفعل الأعمّ من كونه زماناً أو مكاناً، وعليه فيمكن وضع هيئة «مفعل» مثلًا لخصوص المتلبّس فعلًا، أو للأعمّ منه والمنقضي عنه المبدأ، غاية الأمر أنّه لا يتصوّر فيه الانقضاء بالنسبة إلى أحد مصداقيه، وهو اسم الزمان، ولكن يكفي في صحّة الوضع للكلّي تصوّر بقاء الذات بعد انقضاء المبدأ بالنسبة إلى مصداق واحد.

أقول: أنّه جيّد فيما إذا كانت هيئة «مفعل مشترك معنوي ولكنّها مشترك لفظيي» ويدلّ على أنّا لم نجد مورداً استعمل اللفظ فيه في القدر الجامع مع أنّه مقتضى حكمة الوضع فإنّها تقتضي استعمال الموضوع في الموضوع له ولو أحياناً وفي بعض الموارد.

الوجه الرابع: ما أفاده المحقّق العراقي رحمه الله من أنّ الأشياء على قسمين:

امور تدريجيّة غير قارّة، وامور فيها ذات ممتدّة قارّة، والقسم الأوّل لما لم يكن فيه ذات قابلة للتلبّس بالمبدأ تارةً والخلو عنه اخرى لامتدادها وعدم قرار لذاتها يستشكل فيه بأنّه خارج عن محلّ النزاع، وما نحن فيه وهو اسم الزمان من هذا القبيل، ولكن يندفع الإشكال بأنّ الأزمنة والآنات وإن كانت وجودات متعدّدة متعاقبة ولكنّه حيثما لا يتخلّل بينها سكون وتكون الآنات متّصلة يعدّ أمراً قارّاً وحدانياً يتصوّر فيه الانقضاء، وتكون مجموع الآنات إلى انقضاء الدهر موجوداً واحداً شخصيّاً مستمرّاً.

ثمّ أورد على نفسه بأنّه يستلزم بقاء جميع أسماء الأزمنة إلى الأبد وأن يكون كلّ آن مولد عيسى عليه السلام مثلًا.

وأجاب عنه: بأنّه كذلك ولكنّه فيما إذا لم يكن هناك تجزئة للزمان من ناحية العرف بأجزاء مثل السنة والشهر واليوم والساعة، وإلّا فلابدّ من لحاظ جهة الوحدانيّة في خصوص ما عنون بعنوان خاصّ، فيلاحظ جهة المقتلية مثلًا في السنة أو الشهر أو اليوم أو الساعة بجعل مجموع الآنات التي فيما بين طلوع الشمس مثلًا وغروبها أمراً واحداً مستمرّاً، فيضاف القتل إلى اليوم أو الشهر أو السنة ويقال «هذا اليوم مقتل الحسين عليه السلام» وإن وقع القتل في ساعة خاصّة منه فيمكن إطلاق الزمان مع انقضاء حدثه وعارضه ما لم يصل إلى الجزء العرفي اللاحق وهو اليوم الحادي عشر من المحرّم في المثال، وكذلك يقال هذا الشهر مقتل الحسين عليه السلام انوار الأصول، ج 1، ص: 164

ما لم يصل إلى الشهر اللاحق (انتهى ملخّص كلامه) «1».

أقول: ولقد أجاد فيما أفاد، فإنّه يندفع به الإشكال على الأقلّ بالنسبة إلى الأزمنة والآنات المتقاربة، فإذا قال الشارع «لا تصلّ عند مطلع الشمس» يصدق المطلع عرفاً في الدقائق اللّاحقة لطلوع الشمس ما

لم يمض زمان طويل يخرج عن هذا الحدّ العرفي.

فتلخّص ممّا ذكرناه: أنّ جريان النزاع في اسم الزمان غير ممكن بالدقّة العقليّة لعدم بقاء له ولكن يجري فيه بنظر العرف، لأنّهم يرون للزمان بقاءً بحسب الحدود التي يجعلونها له، ومن المعلوم أنّ الإطلاقات إنّما هي بنظر العرف.

الأمر الثالث: في خروج اسم المفعول واسم الآلة عن حريم النزاع وعدمه

وقد مرّ أن صاحب الفصول ذهب إلى خروج اسم المفعول عن محلّ النزاع لصدقه على من وقع عليه الفعل إلى الأبد بمجرّد تحقّق الفعل مرّة واحدة فلا معنى للانقضاء فيه.

وكذلك في اسم الآلة لصدقها على الذات وإن لم يتحقّق منها فعل كالمفتاح فأنّه يصدق على آلة الفتح وإن لم يفتح بها شي ء.

أقول: أمّا بالنسبة إلى اسم المفعول، فالجواب عنه: إنّ الأفعال المتصوّرة في اسم المفعول على قسمين: فقسم منها يكون آنيّ الوجود والتحقّق أو شبيهاً له كالقتل والضرب، وقسم لا يكون كذلك كالعلم والجهل، وقد وقع الخلط في كلامه رحمه الله بين هذين القسمين، لأنّه وإن كان لا يتصوّر الانقضاء في القسم الأوّل لكنّه يصدق في القسم الثاني، فلا إشكال في انقضاء المعلوميّة والمجهوليّة مع بقاء الذات فيهما، مضافاً إلى انتقاض كلامه بإسم الفاعل لجريان هذين القسمين بعينهما فيه أيضاً فكما أنّه لا معنى للانقضاء في مثل صفة المقتوليّة لا معنى كذلك للانقضاء في القاتلية، فإن كان وجود هذا القسم في اسم المفعول موجباً لخروجه فليكن في اسم الفاعل أيضاً كذلك.

هذا مضافاً إلى ما مرّ من أنّ التلبّس بالمبدأ على أنحاء: التلبّس بالفعل والتلبّس بالحرفة

انوار الأصول، ج 1، ص: 165

والصناعة، والتلبّس بالملكة والتلبّس بالشأنيّة، فيتعدّد به أنحاء الانقضاء أيضاً، وحيث إنّ التلبّس في اسم الآلة هو التلبّس بالشأنيّة فيعتبر في جريان النزاع فيه انقضاء الشأنيّة والاستعداد كما في المفتاح المكسور،

فيقع النزاع في أنّه يصدق عليه المفتاح حينئذ أم لا؟

الأمر الرابع: في خروج الأفعال والمصادر عن محلّ النزاع وعدمه
اشارة

الحقّ كما قال بعض المحقّقين خروج مطلق الأفعال عن محلّ النزاع سواء كانت حلوليّة نحو «أبيض» أو صدوريّة نحو «ضرب» لدلالتها على المعنى الحدثي فقط، وهو المبدأ، أي أحد الأركان الأربعة المعتبرة في المشتقّ، وأمّا الفاعل فيها فليس جزءً لمدلول الأفعال كما قرّر في محلّه، وأمّا المصادر فإنّها على قسمين: مجرّدة ومزيدة، أمّا المجرّدة فهي خارجة عن محلّ النزاع لعدم اشتقاقها كما سيأتي في محلّه، وأمّا المزيد فإنّها وإن كانت من المشتقّات الصرفيّة إلّاأنّها ليست مشتقّاً اصولياً لدلالتها على المعنى الحدثي فقط أيضاً.

تنبيه: هل الزمان داخل في معاني الأفعال أم لا؟

قد قام المحقّق الخراساني رحمه الله للرّدّ مقام الردّ على جمهور الصرفيين والنحويين في قولهم إنّ الفعل هو ما دلّ على صدور حدث في زمان من الأزمنة فقال: إنّ الزمان ليس داخلًا في معنى الفعل واستدلّ له بوجوه أربعة:

الأوّل: أنّه ينتقض بالأمر والنهي فإنّهما فعلان من الأفعال مع عدم دلالتهما على الزمان.

الثاني: أنّه يستلزم كون استناد الأفعال إلى اللَّه تعالى والإسناد في مثل قولك «مضى الزمان» مجازاً، وهو خلاف الوجدان.

الثالث: أنّه يحتاج إلى تصوّر قدر جامع بالنسبة إلى الفعل المضارع لعدم كونه مشتركاً لفظيّاً، ولا يتصوّر قدر جامع بين الحال والاستقبال.

الرابع: أنّه ينافي كون استعمال الماضي في المضارع وبالعكس في مثل «يجي ء زيد بعد سنة وقد ضرب عمراً قبل شهر» ومثل «جاءني زيد وهو يبكي» مجازاً لعدم دلالة المضارع في انوار الأصول، ج 1، ص: 166

الثاني على زمان الحال والاستقبال، وعدم دلالة الماضي في الأوّل على زمان الماضي.

إن قلت: إنّ عدم دلالة الفعل على الزمان يستلزم إمكان استعمال كلّ فعل موضع فعل آخر وهو ممّا لم يقل به أحد.

قلت: إنّ عدم إمكان استعمال كلّ فعل مكان الآخر ينشأ من وجود خصوصيّة في كلّ

من الماضي والمضارع يوجب امتيازه عن غيره وليست تلك الخصوصيّة هي الزمان بل إنّما هي خصوصيّة «التحقّق» بالنسبة إلى فعل الماضي و «الترقّب» في المضارع (بناءً على نقل بعض تلاميذه) فأنّ خصوصيّة الدلالة على التحقّق في الماضي والترقّب في المضارع توجب امتياز أحدهما عن الآخر وعدم إمكان استعمال أحدهما مكان الآخر. (انتهى حاصل كلامه رحمه الله).

أقول: في كلامه مواقع للنظر ...

أوّلًا: إنّا إذا تدبّرنا في معنى الماضي والمضارع وجدنا أنّه يتبادر منهما الزمان فيتبادر من «ذهب» وقوع الذهاب في زمان الماضي، ومن «يذهب» وقوعه في المستقبل.

وثانياً: (بالنسبة إلى إسناد الأفعال إلى اللَّه وإلى نفس الزمان) أنّه ينتقض بسائر الامور المختصّة بالممكنات التي تنسب إلى اللَّه كإسناد الأفراد والتذكير إليه مع أنّه لا معنى لهما بالنسبة إليه، هذا من ناحية النقض.

وأمّا من جهة الحلّ فإنّ المجاز على قسمين: قسم في مقابل الحقيقة، وقسم يكون بمعنى التجريد، ولا إشكال ولا قبح في القسم الثاني بالنسبة إلى الباري تعالى لأنّه فوق الحقيقة، فإنّ السميع مثلًا حقيقة فيمن له السمع والاذن، ومجاز بالنسبة إلى ما لم يكن له الاذن، وأمّا بالنسبة إلى من يكون فوق المعنى الحقيقي كذات الباري فيكون تجريداً لا مجازاً بالمعنى المعروف، وإن كان مجازاً كان مجازاً فوق الحقيقة لا دونها.

والقول بأنّ مثل لفظ «السميع» وضع للمعنى الأعمّ من المادّي والمجرّد فلا يكون مجازاً في المجرّدات- نشأ من الغفلة عن حكمة الوضع حيث إنّها كانت عبارة عن رفع الحاجات العاديّة الماديّة، فوضعت الألفاظ للمعاني الماديّة ثمّ احتجنا إلى تجريدها من الخصوصيّات الماديّة بالنسبة إلى المجرّدات كذات الباري تعالى، وهذه قضيّة قياسها معها ولا ينبغي الاستيحاش منها.

هذا كلّه بالنسبة إلى استعمال الألفاظ في المجرّدات، وكذلك بالنسبة إلى

استعمال الماضي انوار الأصول، ج 1، ص: 167

والمضارع في الإسناد إلى نفس الزمان لكونه أيضاً من قبيل التجريد لا المجاز.

وبالجملة لا يمكن الفرار من ارتكاب المجاز على كلّ حال (إمّا على نحو المجاز المصطلح أو على نحو التجريد) في الألفاظ المستعملة في ذات الباري تعالى ولا تصلح الأجوبة المذكورة لحلّ المشكلة.

ثالثاً: إنّ ما ذكره من عدم تصوّر جامع بين الحال والمستقبل ففيه: أنّه يمكن أن يقال: إنّ الجامع بينهما هو «كلّ زمان كان بين الحدّين» أي حدّ الآن إلى اللأبد فيصير المضارع مشتركاً معنويّاً.

وإن أبيت عن ذلك وقلت: إنّ عدم استعمال المضارع في هذا الجامع ولو لمرّة واحدة يكشف عن عدم وضعه له فنختار كونه مشتركاً لفظيّاً ولا نأبى عن ذلك.

مضافاً إلى أنّ استعمال المضارع في ما بين الحدّين المذكورين- أي القدر الجامع- ليس بقليل كما في مبحث الأوامر، يقال: «تعيد أو تقضي صلاتك» والمطلوب أعمّ من الحال والاستقبال.

وبالجملة، إمّا أن نلتزم بكون المضارع مشتركاً معنويّاً، وهذا فرع جواز استعماله في القدر الجامع كما هو الحقّ، أو نقول بكونه مشتركاً لفظيّاً ولا بأس به أيضاً.

رابعاً: أنّه قال بأنّ استعمال الماضي في غير الماضي الحقيقي واستعمال المضارع في غير المضارع الحقيقي كاشف عن عدم كون الزمان جزءً لهما.

وفيه: إنّ الموضوع له في كلّ واحد منهما هو الأعمّ من الحقيقي والنسبي (أي بالمقايسة إلى فعل آخر كما في الأمثلة السابقة) لا خصوص الحقيقي.

خامساً: إنّ تبديل الزمان الماضي والزمان المضارع بعنوان التحقّق والترقّب ليس سوى تلاعباً بالألفاظ والكلمات ولا تحلّ به المشكلة، لأنّ عنوان التحقّق يستلزم الزمان الماضي وعنوان الترقّب يستلزم الزمان المضارع، مضافاً إلى أنّ المضارع قد يكون للحال فلا يكون فيه ترقّب بل الموجود هو التحقّق.

سادساً: إنّ

قياس الماضي والمضارع بالأمر والنهي قياس مع الفارق، لأنّ الأوّلين من باب الخبر، والأخيرين من باب الإنشائيات، والمحتاج إلى التحقّق في زمان من الأزمنة هو الخبر (لأنّه إخبار عن التحقّق الخارجي الواقع في أحد الأزمنة) لا الإنشاء.

انوار الأصول، ج 1، ص: 168

ثمّ إنّ المحقّق العراقي رحمه الله وكذلك صاحب المحاضرات تبعا المحقّق الخراساني رحمه الله في عدم دخل الزمان في معنى الفعل، أمّا المحاضرات فلا نجد فيه بياناً أكثر ممّا أفاده، وأمّا المحقّق العراقي رحمه الله فقال (مضافاً إلى بيان المحقّق الخراساني رحمه الله المذكور) إنّ للفعل هيئة ومادّة، والزمان لا يستفاد من المادّة لكونها اسماً، والاسم لا يدلّ على الزمان، وكذلك لا يستفاد من الهيئة لكونها من المعاني الحرفيّة والمعنى الحرفي لا يدلّ على الزمان.

وبعبارة اخرى: إنّ دخل الزمان في الفعل إمّا يكون على نهج الجزئيّة، أو يكون على نحو الشرطيّة، أو على نحو الحصّة التوأمة، أمّا عدم كونه جزءً فلما مرّ آنفاً، وأمّا الأخيرتان فللزوم المجاز في أفعال اللَّه تعالى ونفس الزمان «1». (انتهى ملخّص كلامه).

والجواب عنه: إنّا نختار من الصور الثلاثة الصورة الثانيّة وهي الشرطيّة ونقول: إنّ المادّة تدلّ على المبدأ، وأمّا الهيئة فإنّها تحكي عن النسبة المقيّدة بزمان الماضي أو الحال أو الاستقبال بحيث يكون القيد خارجاً والتقيّد داخلًا، والجواب عن الأفعال المسندة إلى اللَّه تعالى هو ما مرّ في الجواب عن كلام المحقّق الخراساني رحمه الله بعينه، مضافاً إلى ما مرّ سابقاً من أنّه لا معنى محصّل للحصّة التوأمة، فإنّ الإهمال في مقام الثبوت غير ممكن، فالمعنى إمّا مقيّد أو مطلق ولا ثالث له.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ أفعال اللَّه تعالى على قسمين: قسم يرجع إلى صفات الذات فيكون خالية عن الزمان

نحو «كان اللَّه» أو «علم اللَّه»، وقسم يرجع إلى صفات الفعل فيكون الزمان داخلًا فيها قطعاً، نحو «إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً» أو «رزقني اللَّه ولداً في يوم كذا» فأخذ الزمان فيهما باعتبار وقوع الفتح في السنة السادسة من الهجرة مثلًا، ووقوع التولّد في يوم كذا، وكلاهما من الزمانيات فقد أخذ هنا باعتبارهما لا باعتبار ذاته، وأكثر أفعال اللَّه تعالى من هذا القسم، والنتيجة أنّ الالتزام بدخالة الزمان في ما وضع له الفعل لا يستلزم كثرة المجاز في الأفعال المنسوبة إلى الباري تعالى (لو كانت هذه الأفعال مجازاً في حقّه تعالى) ولا يتحمّل مؤونة كثيرة.

الأمر الخامس: اختلاف المبادى ء في المشتق

(وهو من أهمّ الامور وتترتّب عليه ثمرات كثيرة في الفقه).

إنّ للمشتقّ مبدأ وتلبّساً بذلك المبدأ، ويختلف أنحاء التلبّس بالمبدأ باختلاف المبادى ء، ونذكر هنا ستّة أنواع منه:

النوع الأوّل: التلبّس بمجرّد الفعل كالجالس والقائم، فإنّ الجالس مثلًا يطلق على من تلبّس بالجلوس ولو مرّة واحدة.

النوع الثاني: التلبّس على نحو الحرفة كالتاجر والكاسب، فإنّ التاجر مثلًا يطلق على من تلبّس بحرفة التجارة ولا يكفي فيه مجرّد تجارة واحدة اتّفاقاً.

النوع الثالث: التلبّس على نحو الصنعة كالحائك والنسّاج، ففي النسّاج مثلًا تكون الذات متلبّسة بصنعة النسج.

النوع الرابع: التلبّس على نحو المنصب كالقاضي والوالي، فإنّهما يطلقان على من تصدّى الولاية والقضاء.

النوع الخامس: التلبّس على نحو الملكة كالمجتهد، فإنّه لا يطلق إلّاعلى من كان عنده ملكة الاستنباط.

النوع السادس: التلبّس على نحو الشأنيّة نحو «القاتل» في قولنا «السمّ القاتل»، فإنّ القتل لم يصدر منه فعلًا بل إنّما يكون فيه شأن القتل.

ثمّ إنّه لا إشكال في وجود هذه الأنحاء المختلفة في الواقع والخارج، و إنّما الإشكال في منشأ اختلافها، فهل الاختلاف في نفس المبادى ء والموادّ، أو في الهيئة، أو

في مرحلة الجري والنسبة الموجودة في الجملة؟

ظاهر المحقّق الخراساني رحمه الله هو الأوّل، وظاهر عبارات غير واحد من المتأخّرين هو الثاني وحيث تفهّم الشأنيّة من هيئة لفظ «المفتاح» مثلًا، وظاهر بعض إنّه يستفاد من الجري والنسبة الكلاميّة.

والحقّ هو التفصيل وأنّ كلّ واحد منها صحيح في مورد خاصّ، فمثلًا «التاجر» يكون التلبّس فيه على نحو الحرفة وكذلك «الزارع»، ويستفاد هذا من مادّة التجارة والزراعة كما لا يخفى، وأمّا أسماء الآلة فيستفاد التلبّس بالشأنيّة فيها من الهيئة لا المادّة، لأنّ هيئة اسم الآلة في انوار الأصول، ج 1، ص: 170

مثل المفتاح وهي المفعال إنّما وضعت للشأنيّة والاستعداد القريب، وأمّا مثل القاتل فإنّما يستفاد كيفية تلبّسها من كيفية استعمالها، لأنّا إذا قلنا «اجتنب عن السمّ القاتل» يدلّ المشتقّ فيه على الشأنيّة، بخلاف ما إذا قلنا «زيد قاتل» لأنّه يدلّ على التلبّس بالفعل لا على التلبّس بالشأنيّة كما لا يخفى.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ الانقضاء والتلبّس في كلّ مورد بحسبه، فإذا كان التلبّس بالشأنيّة مثلًا فليكن الانقضاء أيضاً كذلك، كالمفتاح المكسور الذي خرج من شأنيّة الفتح.

ولعلّ هذا الاختلاف والتفصيل في أنحاء التلبّس وأنحاء المبادى ء صار منشأً للخلط والاشتباه في كثير من كلمات القوم، والأقوال الموجودة في المسألة نشأت منها.

الأمر السادس: إنّ كلمة «الحال» في عنوان البحث

(هل المشتقّ حقيقة في خصوص المتلبّس بالمبدأ في الحال أو فيما يعمّه وما انقضى عنه المبدأ) يحتمل ثلاث احتمالات:

الأوّل: أن يكون المراد منه حال التلبّس، الثاني: حال الجري والنسبة، الثالث: زمان النطق.

أمّا الاحتمال الأوّل: فلا يمكن تصويره إلّاعلى نحو سيأتي بيانه في مقالة المحقّق العراقي رحمه الله ممّا توجب تغيير عنوان البحث فانتظر، لأنّه لا معنى لقولنا: هل المشتقّ حقيقة فيما تلبّس بالمبدأ في حال التلبّس ...؟

وأمّا الاحتمال الثاني: فيمكن الاستدلال لكونه

هو مراد الأعلام بوجوه ثلاثة:

الوجه الأوّل: إنّه لا إشكال في كون الاستعمال في قولك «زيد كان ضارياً أمس» أو «زيد سيكون ضارباً غداً» مثلًا حقيقة لا مجازاً مع أنّ زمان التلبّس فيهما ليس هو زمان النطق، فلو كان المراد من الحال في العنوان هو حال النطق، كان المثال الأوّل داخلًا في محلّ الخلاف، والمثال الثاني مجازاً قطعاً.

الوجه الثاني: أنّ المشتقّ اسم من الأسماء ولا يدلّ الاسم على الزمان كما عليه اتّفاق أهل العربيّة، فلو كان المراد من الحال في عنوان المسألة هو حال النطق كان النزاع لا محالة في دلالة المشتقّ على زمان النطق وعدمه.

لا يقال: إنّ حال النسبة والجري أيضاً زمان فلا يدلّ عليه المشتقّ.

انوار الأصول، ج 1، ص: 171

لأنّا نقول: المراد من عدم دلالة المشتقّ على الزمان عدم دلالته على الزمان الخاصّ على نحو الجزئيّة، وأمّا مطلق الزمان إجمالًا فلا ننكر دخالته في معنى المشتقّ وتقييده به، لأنّه لا بدّ للنسبة الموجودة فيه من ظرف وهو مطلق الزمان لا خصوص زمان الحال والنطق، فالدخيل في المشتقّ هو كلّي الزمان سواء كان ماضياً أو حالًا أو مستقبلًا.

الوجه الثالث: لزوم المجاز في الموارد التي لا يكون فيها زمان كما في الصفات المنسوبة إلى اللَّه تعالى وفي ما ينسب إلى نفس الزمان نحو «اللَّه عالم» أو «الأمس ماضٍ».

أقول: لا تمكن المساعدة على الوجه الثالث لما مرّ من كون الاستعمال في الصفات المنسوبة إلى ذات الباري من باب التجريد وفوق المجاز، فالعمدة في الاستدلال هو الوجه الأوّل والثاني، وكلّ منهما تامّ في محلّه.

أمّا الاحتمال الثالث وهو كون المراد من كلمة الحال زمان النطق فيمكن أن يستدلّ له بوجهين:

أحدهما: الاتّفاق على أنّ مثل «زيد ضارب غداً» مجاز فهو دليل

على أخذ حال النطق في قولك «زيد ضارب» وإن قيّد «غداً» يوجب استعمالها في غير ما وضع له فيصير مجازاً.

ثانيهما: إنّ إطلاق الكلام في مثل «زيد ضارب» يتبادر منه حال النطق، والتبادر دليل على كونه مأخوذاً في الموضوع له.

أقول: يمكن الجواب عن الوجه الأوّل بأنّا لا نسلّم كونه مجازاً إذا اتّحد زمان التلبّس مع زمان النسبة، نعم إذا كان زمان الجري فيها هو زمان النطق، وزمان التلبّس هو الغد فلا إشكال في مجازيته، فإذا كان معنى الجملة إنّ زيداً متّصف بالضاربيّة الآن بملاحظة ضربه في الغد كان مجازاً، وإن كان المراد من جملة «زيد ضارب غداً» أنّ زيداً يضرب غداً، فيكون زمان النسبة والتلبّس كلاهما غداً، فهو حقيقة بلا إشكال.

ويمكن الجواب عن الوجه الثاني بأنّه سيأتي أنّا وإن قلنا بكون المشتقّ حقيقة في المتلبّس بالمبدأ في حال النسبة لا حال النطق إلّاأنّه لا كلام لنا في أنّ الظاهر في صورة عدم القرينة اتّحاد حال النسبة مع زمان النطق وانطباقه عليه.

ومنشأ الانصراف إلى زمان النطق اتّحاده غالباً مع زمان النسبة، وإلّا فإنّ المأخوذ في الموضوع له هو زمان النسبة، والشاهد عليه كون الاستعمال حقيقة في صورة افتراقها عن انوار الأصول، ج 1، ص: 172

زمان النطق، كما إذا قلنا «زيد كان قائماً» أو «سيكون قائماً».

إن قلت: إنّ تبادر زمان النسبة يتصوّر فيما إذا وجدت نسبة في الكلام كما توجد في «زيد ضارب»، وأمّا في مثل «أكرم العالم» فلا، لعدم وجود نسبة زمانيّة في الإنشائيات، فلا يصحّ أن يقال إنّ المنصرف إليه والمتبادر مطلقاً هو زمان النطق، وهذا يكشف عن كون المراد من الحال في العنوان هو زمان النطق لأنّ الإنشائيات أيضاً داخلة في محلّ النزاع، ويمكن أن يجعل

هذا دليلًا ثالثاً للقول بأنّ المراد من الحال حال النطق.

قلنا: إنّ النسبة المبحوث عنها في المقام هي الأعمّ من النسبة التامّة والنسبة الناقصة، وفي مثل «أكرم العالم» توجد الناقصة بين الإكرام والعالم، ويشهد عليه أنّ جملة «أكرم العالم» عبارة اخرى عن جملة «إكرام العالم واجب» ولا إشكال في أنّ نسبة الإكرام إلى العالم نسبة المضاف إلى المضاف إليه، وهي نسبة ناقصة فاللازم على القول باعتبار النسبة أن يكون من يقع عليه الإكرام موصوفاً بصفة العلم في حال الإكرام.

وهيهنا كلام للمحقّق العراقي رحمه الله وإليك نصّه: «التحقيق أنّ الزمان سواء اضيف إلى النطق أم إلى النسبة الحكمية أم إلى التلبّس أم إلى الجري خارج عن مفهوم المشتقّ، لأنّ المشتقّ كسائر الألفاظ موضوع للمعنى من حيث هو بلا تقييد بالوجود أو بالعدم فضلًا عن زمانهما، ويدلّ عليه أيضاً ما عرفت من أنّ المشتقّ مركّب من مادّة وهيئة وأنّ المادّة تدلّ على الحدث، والهيئة تدلّ على نسبة ذلك الحدث إلى ذات ما، فلم يبق في البين ما يمكن أن يدلّ على الزمان، مضافاً إلى أنّ أخذ التقيّد بحال النسبة والجري في المفهوم يستلزم أخذ ما هو متأخّر عن المفهوم برتبتين فيه، ضرورة تأخّر رتبة الجري والنسبة عن المفهوم» (انتهى) «1».

أقول: كأنّه قد وقع خلط في المقام، فإنّه لم يقل أحد بأنّ الزمان (بأي معنى كان) مأخوذ في مفهوم المشتقّ الذي هو مفهوم اسمي، بل الكلام في أنّه لا ريب في وجود نسبة ناقصة في المشتقّ، فإنّ العالم هو بمعنى «الذي ثبت له العلم» وحينئذ يأتي الكلام في أنّ هذه النسبة لا بدّ أن تقع في زمان مّا، فهل هذا الزمان الذي هو ظرف للنسبة الناقصة يجب أن يكون

مطابقاً لزمان النسبة الكلاميّة أم لا؟، فإذا قيل: «رأيت عالماً أمس» هل يجب أن يكون تلبّس الذات بالعلم (أي انوار الأصول، ج 1، ص: 173

النسبة الناقصة) أيضاً في أمس الذي هو في النسبة التامّة أم لا؟ فالقائل باعتبار حال التلبّس يقول: بوجوب مطابقة الزمانين زمان النسبة الناقصة وزمان النسبة التامّة، والقائل بالأعمّ يقول: بعدم وجوب التطابق.

وأمّا حديث تقدّم اللحاظ وتأخّره فقد ذكرنا مراراً أنّه لا مانع من لحاظ المراتب المتأخّرة في عالم التصوّر ثمّ وضع اللفظ للمطلق أو المقيّد، والتقدّم والتأخّر في الوجود الخارجي لا دخل له بالتقدّم والتأخّر في اللحاظ الذهني.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ ما مرّ من أنّ المشتقّ عند الإطلاق وعدم وجود القرينة منصرف إلى حال النطق مختصّ بما إذا وقع في الجملة الاسمية كقولك «زيد ضارب»، بل يمكن أن يقال: إنّ الجملة الاسمية وضعت لزمان النطق، ويشهد عليه أنّا إذا أردنا استعمالها لزمان الحال جرّدناها عن أي قيد وقلنا «زيد ضارب» مثلًا من دون إضافة قيد «الآن»، وأمّا إذا أردنا استعمالها لزمان الماضي كان اللازم إضافة «كان» إليها فيقال «زيد كان قائماً» ولزمان المستقبل يقال: «زيد يكون قائماً» كما يشهد عليه أيضاً أنّ جملة «زيد قائم» في حال كونها مجرّدة عن القيود تعادل قولك «زيد قائم است» في اللّغة الفارسيّة فيما إذا اريد استعمالها لزمان الحال من دون إضافة قيد «الآن» أي لا نقول: «زيد حالا قائم است» فيستفاد زمان الحال من كلمة «است»، وحيث لا إشكال في أنّه لا توجد في اللّغة العربيّة كلمة تعادل «است» نستكشف إنّ الدالّ على وقوع النسبة في زمان الحال في اللّغة العربيّة إنّما هو هيئة الجملة الاسمية المجرّدة عن أي قيد، فظهر أنّ انصراف كلمة المشتق

إلى زمان النطق لا يكون إلّامن جهة وقوعه في الجملة الاسمية، فالدالّ عليه إنّما هو هيئة الجملة الاسمية لا أنّه مأخوذ في معناه الموضوع له.

الأمر السابع: في تأسيس الأصل في المسألة

والغرض من هذا البحث تعيين من يكون قوله مخالفاً للأصل ويكون قائله مدّعياً في البحث حتّى يطالب هو بالدليل، لأنّ من كان قوله موافقاً للأصل يكفيه الأصل، مضافاً إلى تعيين الوظيفة العمليّة عند الشكّ لو كان الأصل من الاصول العمليّة فالبحث عن تأسيس الأصل يتضمّن فائدتين.

انوار الأصول، ج 1، ص: 174

فنقول ومنه سبحانه نستمدّ التوفيق والهداية: إنّ الاصول على نوعين: الاصول اللّفظيّة والاصول العمليّة:

أمّا الاصول اللّفظيّة: فليس هناك أصل لفظي يدلّ على خصوصيّة الموضوع له في المشتقّ أو عموميته، لأنّ الاصول اللّفظيّة معلومة محدودة متعيّنة كأصالة عدم القرينة، وعدم النقل، وأصالة الإطلاق، وأصالة الحقيقة، ولا يجري واحد منها في المقام، غاية ما يمكن أن يقال بجريانه إنّما هو أصلان:

الاصل الأوّل: ترجيح المشترك المعنوي على الحقيقة والمجاز إذا دار الأمر بينهما، وما نحن فيه من هذا القبيل، أي يدور الأمر فيه بين وضع المشتقّ للأعمّ من المتلبّس ومن انقضى عنه التلبّس فيكون المشتقّ مشتركاً معنويّاً، وبين وضعه لخصوص المتلبّس وكونه مجازاً فيمن انقضى عنه التلبّس فيكون حقيقة ومجازاً، وحيث إنّ الاشتراك المعنوي يغلب على الحقيقة والمجاز فيرجّح عليها لأنّ العقل يلحق الشي ء بالأعمّ الأغلب ولا يخفى أنّ النتيجة موافقة لرأي الأعمّي.

واجيب عنه: أوّلًا: بأنّ الغلبة ممنوعة من أصلها، وثانياً: لا حجّية لها على فرض ثبوتها.

الاصل الثاني: الاستصحاب، وهو أصالة عدم وضع المشتقّ للأعمّ فيما إذا شككنا في وضعه للأعمّ، وبعبارة اخرى: وضع المشتقّ للمتلبّس بالمبدأ في الحال ولمن انقضى عنه التلبّس مشكوك فيه، والأصل عدم وضعه له، وهو يرجع إلى استصحاب العدم

الأزلي كما لا يخفى، وهذا موافق لرأي الصحيحي.

ويرد عليه أمران:

الأوّل: أنّ استصحاب عدم الوضع للأعمّ معارض لاستصحاب عدم الوضع للأخصّ، لأنّ المفروض كون الاشتراك معنويّاً لا لفظيّاً، أي ليس في البين وضعان بل المفروض وحدة الوضع، أي يكون الموضوع له أمراً واحداً لا على نحو الأقلّ والأكثر، فإذا شككنا في كون الموضوع له هو الأعمّ أو الأخصّ فالأصل عدم كلّ واحد منهما.

الثاني: سلّمنا تعدّد الوضع ولكن هذا الاستصحاب مثبت، لعدم كون المستصحب فيه موضوعاً لأثر شرعي بلا واسطة لأنّك تقول: الأصل عدم وضعه للأعمّ، فوضع للأخصّ، فيكون اللفظ ظاهراً في الأخصّ، ثمّ يترتّب عليه الأثر الشرعي، وليس هذا إلّاأصلًا مثبتاً قد

انوار الأصول، ج 1، ص: 175

قرّر في محلّه عدم حجّيته، مضافاً إلى أنّ الاستدلال بالاستصحاب هنا كأصل لفظي إنّما يتمّ بناءً على كونه من الأمارات، وهذا خلاف التحقيق.

هذا كلّه بالنسبة إلى الاصول اللّفظيّة.

أمّا الاصول العمليّة: فإنّها تختلف باختلاف الموارد فتارةً: يكون الأصل البراءة واخرى: الاستصحاب وثالثة: الاشتغال ورابعة: التخيير.

أمّا الأوّل البراءة: كما إذا قال المولى «أكرم العالم» وشككنا في شموله لمن قضى عنه العلم.

وأمّا الثاني الاستصحاب: كما في نفس المثال إذا صدر الأمر حين تلبّس زيد مثلًا بالعلم، ثمّ خرج عن التلبّس بالنسيان ونحوه، فصار الحكم شاملًا، ثمّ شككنا في بقائه بعد الانقضاء فيجري استصحاب وجوب الإكرام (بناءً على كون العلم من الحالات لا مقوّماً للموضوع) ومثل استصحاب النجاسة في الكرّ المتغيّر بالنجاسة بعد زوال تغيّره بنفسه، ولكنّه مبنيّ على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية، وسوف يأتي في محلّه عدم جريانه فيها.

وأمّا الثالث الاشتغال: فكما إذا قال المولى «أكرم عالماً» فمقتضى الاشتغال اليقيني عدم حصول البراءة بإكرام من قضى عنه العلم، لأنّه تقتضي البراءة اليقينية، فلابدّ

من إكرام من تكون متلبّساً بالعلم (ولنفرض الكلام فيما إذا ورد الحكم بعد زمان الانقضاء فلم يمكن الاستصحاب).

وأمّا الرابع التخيير: فكما إذا قال المولى «أكرم العالم» و «لا تكرم الجاهل» واشتبه حال زيد مثلًا من حيث العلم والجهل فعلًا، ولم يعلم الحالة السابقة لتوارد الحالات المختلفة عليه.

فظهر ممّا ذكرنا أنّه لا وجه لحصر المحقّق الخراساني رحمه الله الاصول العمليّة الجارية في المقام في البراءة والاستصحاب، بل إنّها تختلف باختلاف الموارد ويجري كلّ واحد من الاصول الأربعة في مورده الخاصّ به.

ثمّ إنّ بعض الأعلام قال في المقام ما حاصله:

إنّه لا فرق بين موارد الشكّ في الحدوث وموارد الشكّ في البقاء، ففي كلا الموردين المرجع هو أصالة البراءة دون الاستصحاب، أمّا في موارد الشكّ في الحدوث فالأمر واضح، وأمّا في موارد الشكّ في البقاء فبناءً على مسلكنا في باب الاستصحاب من عدم جريانه في الشبهات الحكمية خلافاً للمشهور فالأمر أيضاً واضح، وأمّا على المسلك المشهور فإنّه لا يجري في انوار الأصول، ج 1، ص: 176

المقام أيضاً لاختصاص جريانه بما إذا كان المفهوم متعيّناً وكان الشكّ متمحّضاً في سعة المجعول وضيقه كما لو شككنا في بقاء نجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره، فالمرجع هو استصحاب بقاء النجاسة، وأمّا فيما لا يتعيّن فيه مفهوم اللفظ ومعناه وهو المعبّر عنه بالشبهة المفهوميّة فلا يجري الاستصحاب فيه لا حكماً ولا موضوعاً «1».

أقول: ما ذكره إنّما يتمّ في الاستصحاب الموضوعي لا الحكمي فإنّ الاستصحاب الحكمي يجري عند تغيّر الأوصاف إلّاإذا كان الوصف من المقوّمات كالعلم في المجتهد، فلا يجوز استصحاب جواز تقليده عند زواله، ففي المثال المعروف في باب الشكّ في المغرب بعد استتار القرص وقبل زوال الحمرة لا يمكن استصحاب عدم حصول

المغرب، لأنّه من قبيل الشبهة المفهوميّة (الاستتار حاصل والحمرة لم تزل والشكّ في معنى لفظ المغرب ولا معنى للاستصحاب فيه) أمّا استصحاب حرمة الإفطار مثلًا أو عدم جواز صلاة المغرب فهو جائز بناءً على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة، والقول بأنّ الموضوع فيه قد تبدّل كما ترى، لعدم التفاوت بينه وبين مثل التغيّر في الماء المتغيّر كما لا يخفى.

الأقوال في مسألة المشتقّ وأدلّتها:

وهي كثيرة يمكن تلخيصها في ثلاثة أقوال:

القول: بوضع المشتقّ لخصوص المتلبّس بالمبدأ، والقول: بوضعه للأعمّ منه ومن انقضى عنه التلبّس، والقول: بالتفصيل.

أمّا القول الأوّل: حكي عن الأشاعرة وعليه المتأخّرون من الأصحاب.

وأمّا القول الثاني: نقل عن المعتزلة وعليه المتقدّمون من الأصحاب.

وأمّا القول الثالث: فله أقسام، فبعضهم فصل بين ما اشتقّ من المتعدّي وما اشتقّ من اللازم، فالأوّل: وضع للأعمّ نحو السارق والقاتل، الثاني: وضع للأخصّ كالجالس والذاهب، وبعض آخر فصل بين المحكوم عليه والمحكوم به، فالمحكوم عليه وضع للأعمّ نحو «السارق» في قوله تعالى: «السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا» والمحكوم به وضع للأخصّ نحو جالس في انوار الأصول، ج 1، ص: 177

«زيد جالس» إلى غير ذلك، وسيأتي أنّ منشأ خطأ القائلين بالتفصيل اختلاف المبادى ء أو وجود قرائن في الكلام.

والمختار وضع المشتقّ للأخصّ، والوجوه التي استدلّ بها على وضعه للأخصّ على دليلين:

«لفظيّة» و «عقليّة».

أمّا الأدلّة اللّفظيّة: «التبادر» فالمتبادر من كلمة «العالم» مثلًا عند إطلاقه هو المتلبّس بمبدأ العلم في الحال، توضيح ذلك (الذي يرتفع به بعض الإشكالات الواردة على هذا الوجه): إنّ المبادى ء في المشتقّات على أربعة أقسام:

الأول: تكون ذات المبدأ قرينة على أنّ إطلاق المشتقّ منه في جميع الموارد يكون بلحاظ الانقضاء نحو مبدأ التولّد، فإنّ كلمة «المتولّد» المشتقّ منه يكون إطلاقه بلحاظ انقضاء التولّد، ونفس مادّة التولّد قرينة

عليه، والسرّ فيه إنّه لا بقاء ولا تكرّر فيه، فلا معنى لتبادر خصوص المتلبّس منه بل يكون هذا القسم خارجاً عن محلّ النزاع كما مرّ.

الثاني: تكون القضيّة بالعكس، فنفس المبدأ قرينة على كون إطلاق المشتقّ بلحاظ التلبّس في الحال في جميع الموارد نحو الإمكان والوجوب، فإنّ المشتقّ منهما وهو «الممكن» و «الواجب» يطلق في جميع الإطلاقات على المتلبّس الفعلي، لأنّ المبدأ فيهما ممّا لا يزول بل يبقى بدوام الذات، فلا معنى لتبادر خصوص المتلبّس في هذا القسم أيضاً.

الثالث: ما يمكن فيه الاستمرار والتكرار لكن لا يكون فيه الدوام والبقاء غالباً، نحو السرقة والقتل، فحيث إنّ الغالب في هذا القسم عدم دوام المبدأ يصير هذا قرينة على كون التلبّس بلحاظ الانقضاء وموجباً لانصراف الذهن إلى من انقضى عنه المبدأ فإنّ «السارق» مثلًا أو «القاتل» إنّما يتلبّس بالسرقة والقتل في ساعة معيّنة، وبعد ذلك يبقى عليه هذا العنوان وهذا الوصف وإن لم يكن متلبّساً.

الرابع: ما يتصوّر فيه الدوام والانقضاء معاً، نحو العدالة والفسق والجلوس والقيام والاجتهاد والاستطاعة، وليس ذات المبدأ قرينة على أحدهما، وهذا هو محلّ النزاع ومصبّ دعوى التبادر.

والإنصاف أنّ عدم إلتفات كثير من المفصّلين إلى اختلاف هذه الأقسام أوجب إنكارهم للتبادر في القسم الأخير مع أنّ خصوص هذا القسم داخل في محلّ النزاع وغيره خارج عنه،

انوار الأصول، ج 1، ص: 178

أي إنّا لا ندّعي وجود التبادر في الأقسام الثلاثة الاولى بل نعتقد بوجود القرينة فيها.

ثمّ إنّ هذه القرينة هل هي قرينة المجاز، أو قرينة على كون الجري فيها بلحاظ حال الانقضاء، فلا فرق بينها وبين «كان زيد قائماً» وإن كان مخالفاً لما هو الظاهر من إطلاقها (لأنّ الظاهر كما قلنا سابقاً اتّحاد زمان الجري وحال النطق)؟

الحقّ

هو الثاني، فإذا قلنا «هذا سارق» يكون نفس مبدأ السرقة قرينة على أنّ السارق بمعنى «من سرق من قبل» أي «هذا هو الذي سرق من قبل» ومبدأ القتل على أنّ القاتل بمعنى «من قتل من قبل» فمعنى «هذا قاتل» «هذا هو الذي قتل من قبل» فاستعمل السارق والقاتل في المنقضي عنه التلبّس بلحاظ حال التلبّس فيما قبل، وعلى هذا فلا يلزم مجاز.

فتلخّص من جميع ما ذكرناه: أنّ شرط التبادر عدم وجود القرينة، وعلى هذا فلا تصل النوبة إلى ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله من لزوم كثرة المجاز بناءً على كون المشتقّ حقيقة فيمن تلبّس في الحال، لأنّه ظهر ممّا ذكر أنّ الاستعمال في الأقسام الثلاثة الاول ليس مجازاً بل يكون حقيقة بلحاظ حال التلبّس فيما قبل، والمفروض أنّ القرينة من ناحية المبدأ قائمة هنا.

هذا كلّه هو الدليل الأوّل على كون المشتقّ حقيقة في خصوص من تلبّس بالمبدأ في الحال.

وأمّا الدليل الثاني فهو قضيّة الصفات المتضادّة.

وتوضيحه: إنّا لا نشكّ في وجود صفات متضادّة فيما بين الصفات نحو القائم بالنسبة إلى القاعد، والعالم في مقابل الجاهل، والنائم في مقابل المستيقظ، والقول بالأعمّ يوجب عدم التضادّ بين هذه الصفات لأنّه حينئذ يصدق على القائم فعلًا مثلًا إنّه قاعد أيضاً حقيقة بلحاظ ما انقضى عنه، وعلى العالم فعلًا إنّه جاهل حقيقة بلحاظ ما انقضى عنه، وهو خلاف الارتكاز والوجدان.

والإنصاف أنّ هذا الوجه في الحقيقة يرجع إلى الوجه الأوّل، أي التبادر، لابتنائه على الوجدان والارتكاز وهو ليس إلّاتقريباً آخر للتبادر.

وأمّا الدليل الثالث: صحّة السلب عمّن انقضى عنه التلبّس، فإنّه يمكن لنا الحكم قطعاً وجزماً بأنّ القاعد فعلًا ليس بقائم.

إن قلت: لا يصحّ السلب في مثل السارق والقاتل.

قلت: إنّه خارج

عن محلّ البحث كما مرّ آنفاً.

انوار الأصول، ج 1، ص: 179

إن قلت: إمّا أن يكون المسلوب هو مطلق الأفراد والمصاديق الأعمّ من المتلبّس في الحال والمتلبّس في الماضي، أو خصوص المتلبّس في الحال، فإن كان المسلوب مطلق الأفراد فهو ممنوع، لعدم صحّة القول بأنّ هذا ليس بقائم لا في الحال ولا في الماضي، وإن كان المسلوب خصوص فرد الحال، فإنّ السلب صحيح إلّاأنّه ليس علامة المجازيّة لأنّه مجرّد نفي مصداق من المصاديق، والدليل على المجازيّة هو نفي مطلق المصاديق كما لا يخفى.

قلت: وقع الخلط بين رجوع قيد «الآن» في «زيد ليس بقائم الآن» أو «في الحال» إلى النسبة الموجودة في الجملة وبين رجوعه إلى المحمول أعني المشتقّ، فإن قلنا برجوعه إلى المشتقّ فالحقّ كما ذكره، وأمّا إذا قلنا برجوعه إلى النسبة فتكون المسلوب هو القيام الموجود في الأعمّ من الحال والماضي، ويكون المعنى «إنّ زيداً ليس إلّاقائماً» لا «إنّ زيداً ليس القائم المقيّد بالحال».

وأمّا الدليل الرابع: ما يظهر من كلام شيخنا المحقّق الحائري رحمه الله في الدرر وحاصله: إنّا نعلم بعدم دخالة الزمان في الأسماء ومنها المشتقّات فبناءً على دخالة الذات في معنى المشتقّ يكون معناه الذات المتقيّدة بالمبدأ، وهي لا تصدق إلّاإذا حصل المبدأ وتكون الذات واجدة له ومتلبّسة به، كما أنّ العناوين المأخوذة من الذاتيات في الجوامد لا تصدق إلّاعلى ما كان واجداً لها كالانسان والحجر والماء من دون اعتبار المضيّ والاستقبال، وإلّا كان من الممكن أن يوضع لفظ الإنسان لمفهوم يصدق حتّى بعد صيرورته تراباً، فكذلك العناوين التي تحقّق بواسطة عروض العوارض من دون اعتبار المضيّ والاستقبال، ولعلّ هذا بمكان من الوضوح (انتهى كلامه) «1».

أقول: أمّا قوله بعدم دخل الزمان في الأسماء فقد

عرفت الكلام فيه عند ذكر كلام المحقّق العراقي رحمه الله في البحث عن المراد من الحال في المسألة، وأمّا إثبات المقصود في المقام بمجرّد تشبيه «المشتقّ» بالجوامد كالانسان والماء، فهو لا يعدّ دليلًا في مثل هذه المسألة اللّفظيّة إلّاأن يرجع إلى التبادر أو صحّة السلب، فهو قياس ذوقي بين المسألتين من دون أن يكون دليلًا.

أمّا الأدلّة العقليّة: فمنها: إنّ حمل صفة على ذات لا يكون إلّالغرض عقلائي، ويحصل هذا

انوار الأصول، ج 1، ص: 180

الغرض إذا وجدت تلك الصفة في الخارج وتلبّست الذات بها، وأمّا إذا انقضت فهي كالمعدوم، فكأنّ الذات لم تتّصف بها أصلًا، فإطلاق العالم على زيد يصحّ فيما إذا كان العلم موجوداً فيه، لأنّه مع وجود العلم يحصل ذلك الغرض العقلائي، أمّا إذا زال العلم عنه فلا فرق بينه وبين من لم يتّصف بصفة العلم من أوّل الأمر ولا يتعلّق به غرض عقلائي.

وبعبارة اخرى: إن حمل المشتقّ على من انقضى عنه التلبّس يكون نقضاً للغرض الذي وضع المشتقّ لأجله.

الجواب: إنّ الغرض كما يتعلّق بالذات لكونها متّصفة ومتلبّسة بالوصف في الحال كذلك يتعلّق بها لكونها كانت متّصفة به أحياناً كما يتعلّق الغرض بزيد مثلًا لأنّه كان مجاهداً في سبيل اللَّه.

وبعبارة اخرى: يمكن أن يتعلّق الغرض بذات لصرف اتّصافها بالوصف في زمان ما سواء في زمان الحال أو في الماضي، وحينئذٍ لا يلزم نقض الغرض إذا وضع المشتقّ للأعمّ من المتلبّس والمنقضي عنه.

هذا مضافاً إلى أنّه لا يصحّ الاستدلال بهذه الوجوه العقليّة في الأبحاث اللّفظيّة.

ومنها: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله فإنّه بنى هذه المسألة على المسألة الآتية من أنّه هل يكون المشتقّ مركّباً من الذات والمبدأ، أو يكون هو خصوص المبدأ، وقال: أمّا أن يكون

مفهوم المشتقّ المبدأ اللابشرط في قبال المصدر الذي يكون بشرط لا، أو يكون مركّباً من الذات والمبدأ، فعلى الأوّل يكون المشتقّ موضوعاً للأعمّ من المتلبّس والمنقضي، لأنّ الأساس والركن الركين في المشتقّ حينئذٍ هو الذات، وانتساب المبدأ إليها يكفي فيه التلبّس في الجملة، فلا محالة يكون المشتقّ حينئذٍ موضوعاً للأعمّ، وعلى القول بالبساطة يكون المشتقّ موضوعاً للأخصّ، لأنّ مفهوم المشتقّ حينئذٍ ليس إلّانفس المبدأ المأخوذ لا بشرط، فيكون صدق المشتقّ ملازماً لصدق نفس المبدأ، ومع انتفائه ينتفي العنوان الاشتقاقي لا محالة، ويكون حاله حينئذٍ حال الجوامد في كون المدار في صدق العنوان فعلية المبدأ.

ثمّ عدل رحمه الله عنه في ذيل كلامه وقال: الحقّ هو وضع المشتقّ لخصوص المتلبّس مطلقاً سواء قلنا بالبساطة أم بالتركّب، أمّا على البساطة فواضح، وأمّا على التركّب فلأنّ وضع المشتقّ متوقّف على تصوير جامع بين المنقضي عنه والمتلبّس في الواقع، ومع عدمه فلا مجال لدعوى انوار الأصول، ج 1، ص: 181

كون المشتقّ موضوعاً للأعمّ اثباتاً «1» (انتهى ملخّص كلامه).

أقول: يرد عليه امور:

الأوّل: أنّه سيأتي أنّ المشتقّ أمر مركّب، ومنشأ القول بالبساطة هو الخلط بين المسائل الفلسفيّة واللّفظيّة فانتظر (هذا إشكال في المبنى).

الثاني: أنّ قوله في صدر كلامه «إنّا إن قلنا بالتركّب يكون الركن الركين في المشتقّ هو الذات ويكفي في انتساب المبدأ التلبّس في الجملة» دعوى بلا دليل بل معنى تركيب المشتقّ من الذات والمبدأ دخل كلّ واحد منهما في قوام المشتقّ في الجملة، وأمّا كون أحدهما ركناً والآخر غير ركن فهو أوّل الكلام.

الثالث: أنّ تصوّر قدر جامع بين المتلبّس والمنقضي عنه التلبّس أمر سهل جدّاً، نظير عنوان «من تلبّس بالمبدأ في الجملة» وهو أعمّ ممّن تلبّس بالمبدأ في الحال ومن تلبّس

به في الماضي وانقضى عنه التلبّس.

أدلّة القول بالأعمّ وهي امور:

1- التبادر، أي تبادر الأعمّ من المتلبّس والمنقضي عنه التلبّس فيما إذا أطلق المشتقّ، كما يتبادر من «المضروب» المضروب في الآن والمضروب في ما قبل، وهكذا بالإضافة إلى «القاتل» و «الزاني» و «السارق» فيتبادر من كلّ واحد منهما المعنى الأعمّ.

الجواب: إنّ تبادر المعنى الأعمّ من هذه الألفاظ لم ينشأ من حاقّ اللفظ بل نشأ من قرينية المبدأ كما مرّ في تحرير محلّ النزاع، ومرّ أيضاً إنّ محلّ البحث ما يكون مبدأه قابلًا للدوام والاستمرار وإن كان قابلًا للتكرار، والأمثلة المذكورة ليست من هذا القبيل كما لا يخفى.

2- عدم صحّة سلب المشتقّ عمّن انقضى عنه المبدأ كما في «القاتل» و «المضروب» ونحوهما أيضاً، فلا يصحّ القول بأنّ «شمراً ليس بقاتل الحسين عليه السلام» مثلًا، وعدم صحّة السلب دليل على الحقيقة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 182

أوّلًا: ويرد عليه ما أوردناه على الوجه الأوّل ولا حاجة إلى التكرار.

وثانياً: ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله من أنّ عدم صحّة السلب في مثلهما إنّما هو لأجل إنّه قد اريد من المبدأ معنى يكون التلبّس به باقياً فعلًا وهو أثر الضرب أو القتل كالتألّم وازهاق الروح ونحو ذلك فإرادة هذا المعنى من المبدأ وإن كان مجازاً قطعاً لأنّه خلاف معناه الحقيقي وهو الضرب أو القتل كالتألّم وازهاق الروح ونحو ذلك، فإرادة هذا المعنى من المبدأ وإن كان مجازاً قطعاً لأنّه خلاف معناه الحقيقي وهو الضرب أو القتل ولكن بعد ما اريد منه ذلك يكون المشتقّ لا محالة مستعملًا في معناه الحقيقي، وهو المتلبّس بالمبدأ في الحال، وقد عرفت في الأمر الرابع إنّ اختلاف المشتقّات في المبادى ء ممّا لا يوجب اختلافاً في المهمّ المبحوث عنه، نعم هذا

الكلام لا يجري في جميع الأمثلة التي تمسّك بها القائل بالأعمّ كالمضروب إذا لم يكن ضرباً يبقى أثره، فالحقّ في الجواب في مثله هو الأمر الأوّل، وهو أنّ خصوصيّة المبدأ قرينة على المجاز، بل يمكن أن يقال: إنّ المبدأ في الأمثلة المذكورة يكون قرينة على كون الاستعمال فيها بلحاظ حال التلبّس فتكون مانعة من انصراف الإطلاق إلى اتّحاد حال النسبة بحال النطق، فلا يلزم مجازاً ولا يثبت وضع المشتقّ للأعمّ.

3- إنّ الوضع لخصوص المتلبّس يستلزم كثرة المجازات، لأنّ الغالب في استعمال المشتقّات استعمالها في من قضى عنه المبدأ، وهي بعيدة في نفسها مخالفة لحكمة الوضع.

وأجاب عنه في المحاضرات بأنّه مجرّد استبعاد ولا مانع من أن يكون الاستعمال في المعنى المجازي أكثر من الاستعمال في المعنى الحقيقي مع القرينة ولا محذور في ذلك أبداً، كيف فإنّ باب المجاز أوسع وأبلغ من الاستعمال في المعنى الحقيقي ومن هنا تستعمل أنواع المجازات و «الكناية» و «الاستعارة» و «المبالغة» (التي هي من أقسام المجاز) في كلمات الفصحاء والبلغاء أكثر من استعمالها في كلمات غيرهم» «1».

أقول: يمكن المناقشة فيه بأنّه ليس جواباً عن إشكال المخالفة لحكمة الوضع، لأنّ الكلام في أنّ الوضع كيف وضع المشتقّ في المعنى الأخصّ مع كون أكثر الحاجات في المعنى الأعمّ، اللهمّ إلّا أن يقال إنّ الغرض لا يحصل إلّابالعدول عن الحقيقة إلى المجاز فتدبّر جيّداً فإنّه لطيف.

والحقّ في الجواب أن يقال أنّا لا نقبل كون الاستعمال في المعنى المجازي في المشتقّات أكثر

انوار الأصول، ج 1، ص: 183

من استعمال في المعنى الحقيقي لإمكان أن يكون الإسناد فيه بلحاظ حال التلبّس كما مرّ.

4- قوله تعالى: «لَايَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» «1»

الدالّ على أنّ الظالم لا يليق لمنصب الولاية بضميمة استدلالّ

الإمام عليه السلام بها لعدم لياقة من عبد الأوثان لأمر الامامة، وحيث إنّ استدلاله يكون بظاهر الآية على من لا يكون متلبّساً بمبدأ الظلم في الحال بل كان ظالماً في الماضي فلا يكون تامّاً إلّاإذا كان عنوان الظالم حقيقة في الأعمّ من المتلبّس ومن انقضى عنه المبدأ.

و «من الرّوايات» ما رواه هشام بن سالم في حديث قال: قد كان إبراهيم نبيّاً ليس بإمام حتّى قال اللَّه تبارك وتعالى: «إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَايَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» من عبد صنماً أو وثناً أو مثالًا لا يكون إماماً «2».

و «منها» ما رواه عبداللَّه بن مسعود قال قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنا دعوة أبي إبراهيم، قلت:

يارسول اللَّه وكيف صرت دعوة إبراهيم أبيك؟ (إلى أن قال) فإنتهت الدعوة إليّ وإلى علي عليه السلام لم يسجد أحدنا لصنم قطّ فاتّخذني نبيّاً وإتّخذ عليّاً وصيّاً» «3». (ونحوهما ح 13 من نفس الباب).

ويمكن الجواب عنه:

الجواب أوّل: بما قاله المحقّق الخراساني رحمه الله وتبعه غيره بعبارات متفاوتة مع اشتمال جميعها على روح واحد، وينبغي قبل ذكره أن نشير إلى حقيقة معنى الامامة المذكورة في الآية.

فنقول: يستفاد من الآية المذكورة والرّوايات الواردة في ذيلها أنّ مقام الامامة فوق مقام النبوّة لأنّها وسيلة لتحقّق أهداف النبوّة في ناحية «التشريع» و «التكوين» ودورها «الإيصال إلى المطلوب» بعد ما كان دور النبوّة «ارائة الطريق».

وبعبارة اخرى: إنّ هدف الرسالة هو ابلاغ الأحكام، وهدف الامامة هو إجرائها وتحقّقها في الواقع الخارجي في بُعد التشريع والظاهر (بتشكيل الحكومة الإلهيّة كما أنّ الرسول صلى الله عليه و آله وضع الحجر الأساسي لها في المدينة وقد كان صلى الله عليه و آله رسولًا وإماماً كجدّه

إبراهيم عليه السلام) وكذلك في المحتوى الداخلي للأشخاص كما يدلّ عليه كثير من الرّوايات الدالّة على نفوذ الإمام عليه السلام في النفوس المستعدّة وتربيته لها، وإيصاله إيّاها إلى جوار قرب اللَّه تعالى، فمنها ما شبه الإمام انوار الأصول، ج 1، ص: 184

الغائب فيها بالشمس وراء السحاب التي لا تؤثّر في الأشياء من جهة الظاهر والعيان بل تؤثّر من ناحية الباطن والمعنى، ومنها: ما يشير إلى ارتباط قلوب المؤمنين بقلوب النبي صلى الله عليه و آله والأئمّة الهادين من بعده فتحزن بحزنهم وتفرح بفرحهم «1»، ويدلّ عليه قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ» «2»

حيث إنّها تدلّ على إخراج الملائكة المؤمنين من الظلمات إلى النور من طريق المعنى والباطن ولا إشكال في أنّ الأئمّة مختلف الملائكة، وهم أولى بذلك من الملائكة، وأيضاً قوله تعالى: «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا» «3»

لأنّ إطلاقها يشمل الهداية التشريعيّة والتكوينيّة معاً وإلّا فمجرّد الهداية التشريعيّة من آثار النبوّة لا الامامة، ولا يخفى أنّ نفوذ الإمام عليه السلام في نفوس المؤمنين وولايته على قلوبهم شأن من شؤون الولاية التكوينيّة.

ويظهر ممّا ذكرنا امور:

الأوّل: أنّ الامامة عهد اللَّه إلى خلقه، لا انتصاب ولا انتخاب فيها من ناحية العباد، كما يدلّ عليه نسبته تعالى إيّاها إلى نفسه في قوله تعالى: «إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً».

الثاني: إنّها تحتاج إلى المعرفة والعلم، كما يدلّ عليه قوله تعالى: «وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ» «4»

وتحتاج من ناحية العمل إلى جهد وسيع وتوفيق ونجاح في الابتلائات والامتحانات الإلهيّة، كما يدلّ عليه قوله تعالى: «وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ» «5».

الثالث: أنّها مرتبة لا يعرفها ولا يعلمها إلّااللَّه، فهو يعلم حيث يجعل رسالته.

الرابع: أنّ الظالم ليس

لائقاً بهذا المقام ولو سبق منه الظلم في زمن بعيد من الأزمنة السابقة لعلوّ شأن الامامة وعظمة مقام الإمام.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه ذكر صاحب الكفاية في مقام الجواب عن الاستدلال بقوله انوار الأصول، ج 1، ص: 185

تعالى: «لَايَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» إنّه لا يتوقّف الاستدلال بهذه الآية في مسألة الامامة على كون المشتقّ موضوعاً للأعمّ، بل يتمّ الاستدلال ولو كان موضوعاً لخصوص المتلبّس.

توضيح ذلك: إنّ الوصف العنواني الذي يؤخذ موضوعاً للحكم في لسان الدليل على أقسام ثلاثة: فقد يكون لمجرّد الإشارة إلى المعنون من دون دخل للعنوان في الحكم أصلًا كقول الإمام عليه السلام في جواب من سأله عن عالم يرجع إليه في مسائله الشرعيّة: «عليك بهذا الجالس» مشيراً إلى بعض أصحابه الذي كان يستحقّ هذه المنزلة لعلمه ووثاقته، ومن الواضح أنّه ليس لعنوان الجلوس دخل في هذا الحكم إلّابعنوان الإشارة إلى موضوعه الواقعي.

وقد يكون لأجل علّية العنوان للحكم لكن حدوثاً لا بقاءً بحيث إذا صدق عليه العنوان ولو آناً مّا ثبت الحكم ولو بعد زوال العنوان كما في قوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ» «1».

وقد يكون لأجل علّية العنوان للحكم حدوثاً وبقاء بحيث يدور الحكم مدار صدق العنوان فمهما صدق العنوان كان الحكم ثابتاً، ومهما لم يصدق لم يثبت، كما في الاجتناب عن النجس أو وجوب تقليد الأعلم ونحو ذلك.

والمشتقّ في الآية الشريفة لو كان من القسم الثالث فاستدلاله عليه السلام بالآية ممّا يبتني على كون الظالم فيها حقيقة في الأعمّ، إذ لو لم يكن حقيقة في الأعمّ لم يكن العنوان باقياً حين التصدّي.

أمّا لو كان من القسم الثاني فاستدلاله بالآية لا يبتنى على كون الظالم حقيقة في الأعمّ بل الاستدلال

إنّما هو لأجل كفاية صدق عنوان الظالم ولو آناً مّا لعدم النيل إلى منصب الولاية إلى الأبد كما أنّه كذلك في الزاني والسارق، ولا دليل على كون الآية من قبيل القسم الثالث بل جلالة قدر الامامة قرينة جليّة على كونها من قبيل القسم الثاني.

أقول: ونزيدك وضوحاً إنّ القرائن هنا كثيرة:

منها: ما مرّ من أنّ الآية الشريفة في مقام بيان عظمة مقام الامامة والخلافة الالهيّة ورفعة محلّها وأنّ لها خصوصيّة من بين المناصب الإلهيّة، ومن المعلوم أنّ المناسب لذلك هو أن لا

انوار الأصول، ج 1، ص: 186

يكون المتقمّص بها متلبّساً بالظلم أصلًا كما لا يخفى.

ومنها: ما ثبت في محلّه في مسألة عصمة الأنبياء أنّه يعتبر في النبوّة والامامة أن يكون النبي أو الإمام معصوماً حتّى قبل نبوّته أو امامته ولا يكون لهما سابقة سيّئة ممّا تتنفّر النفوس به وإلّا لا يمكن أن يكون قدوة واسوة، ولا تطمئن النفوس إليه.

ومنها: ما أفاده بعض الأعلام وهو أنّه قد ورد في عدّة من الرّوايات النهي عن الصّلاة (تحريماً أو تنزيهاً) خلف المحدود بالحدّ الشرعي في زمانٍ مّا والمجذوم والأبرص وولد الزنا والأعرابي، فتدلّ على أنّ المتلبّس بهذا لا يليق أن يتصدّى منصب الامامة للجماعة، فتدلّ بالأولوية القطعيّة على أنّ المتلبّس بالظلم (أي عبادة الأوثان) أولى بعدم اللياقة للجلوس على كرسي الخلافة «1».

منها: أنّ حمل الآية على القسم الثالث يستلزم أن تكون من قبيل توضيح الواضح لوضوح عدم لياقة المتلبّس بالظلم وعبادة الأوثان لمنصب الخلافة حين تلبّسه بذلك.

فتخلّص من جميع ما ذكرنا أنّ القرائن الخارجيّة والداخليّة هي التي أوجبت حمل الآية على الأعمّ فلا يجوز الاستدلال بها في المقام.

الجواب الثاني: أنّه لا شكّ في تلبّس بعض الخلفاء في زمان مّا بعبادة

الأوثان فإذا كان متلبّساً به في زمان كان محكوماً في ذاك الزمان بقوله تعالى: «لَايَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» في خطابه لإبراهيم عليه السلام ومن الواضح أنّه مطلق، أي لا ينال عهدي هذا الظالم في هذا الحال وفي المستقبل، ففي الحقيقة نتمسّك بإطلاق قوله تعالى: «لا ينال» في نفس زمان تلبّسه بالظلم، فلا يتفاوت الحال في الاستدلال بالآية بين القول بالأعمّ والقول بالأخصّ.

بقي هنا شي ء:

وهو ما أفاده بعض الأعلام من عدم ترتّب ثمرة على النزاع في المشتقّ أصلًا.

توضيحه: أنّ الظاهر من العناوين الاشتقاقيّة المأخوذة في موضوعات الأحكام أو متعلّقاتها (بنحو القضايا الحقيقيّة) هو أنّ فعلية الأحكام تدور مدار فعليتها حدوثاً وبقاءً،

انوار الأصول، ج 1، ص: 187

وبزوالها تزول لا محالة وإن قلنا بأنّ المشتقّ موضوع للأعمّ، فمن هذه الجهة لا فرق بينها وبين العناوين الذاتيّة، نعم قد ثبت في بعض الموارد بمناسبة داخلية أو خارجيّة كون العنوان علّة محدثة ومبقية معاً، وكيف كان فلا أثر للقول بأنّ المشتقّ وضع للأعمّ أو للأخصّ «1».

أقول: إنّ هذا الكلام عجيب لأنّ النزاع في المشتقّ لا مساس له بمسألة كون الأحكام على نهج القضيّة الحقيقيّة أو الخارجيّة أصلًا، بل يجري النزاع وإن كانت على نهج القضايا الحقيقيّة، لأنّه وإن كان الظاهر من العناوين الاشتقاقيّة المأخوذة في موضوعات الأحكام على نهج القضيّة الحقيقيّة دوران فعليّة الأحكام مدار فعليّة الموضوعات حدوثاً وبقاءً، لكن الكلام في أنّ مدار الفعليّة ماذا؟ فالقائلون بالأعمّ يقولون: بأنّ عنوان الفاسق فعلي حتّى بعد انقضاء المبدأ، بينما القائل بالأخصّ يعتقد إنّه ليس كذلك، فليس الكلام في اعتبار فعليّة العنوان المأخوذ في الحكم، إنّما الكلام في أنّ مدار الفعليّة ماذا؟ وكأنّ وضوح كون المشتقّ حقيقة فيمن تلبّس بالمبدأ في حال النسبة صار

سبباً لهذا الاشتباه.

تنبيهات:

الأوّل: في بساطة مفهوم المشتقّ وتركّبه
اشارة

وهو مهمّ من جهه ابتناء النزاع في المشتقّ عليه في كلمات بعض الأعاظم كالمحقّق النائيني رحمه الله كما مرّ بيانه (وإن عدل عنه في ذيل كلامه) ولهذا ذكره بمنزلة إحدى المقدّمات في أوّل البحث.

فكيف كان ينبغي تقديم مقدّمتين قبل الورود في أصل البحث وبيان الأقوال فيه:

المقدمة الاولى: في تحرير محلّ النزاع

فنقول: يتصوّر للبساطة والتركيب ثلاثة معان:

الأوّل: البساطة والتركّب التصوّري، فالمركّب ما يتبادر منه إلى الذهن معنيان مستقلّان انوار الأصول، ج 1، ص: 188

كما في كلمة «غلام زيد» والبسيط ما يتصوّر منه معنى واحد كما في مثل «زيد».

الثاني: البساطة والتركّب عند التحليل العقلي الفلسفي كتحليل الإنسان لدى العقل إلى الحيوان والناطق.

الثالث: البساطة والتركّب عند التحليل المفهومي، فالمركّب ما يكون مفهومه مشتملًا على أجزاء بعد تحليل مفهومه، وإن كان قبل ذلك وحدانياً في بدء النظر ك «العلماء».

أمّا المعنى الأوّل: فليس داخلًا في محلّ النزاع قطعاً، لأنّه لا يقول أحد بإنسباق معنيين مستقلّين من إطلاق «القائم» مثلًا إلى الذهن من دون وجود وحدة بينهما.

وأمّا الثاني: فكذلك يكون خارجاً عن محلّ النزاع، لأنّ الكلام في المقام لفظي لا دخل لتحليلات العقليّة فيه، لأنّه لا مدخل للعقل في تعيين مفاهيم الألفاظ وفي تعيين الموضوع له، فيتعيّن المعنى الثالث، فيقع البحث في أنّ مفهوم المشتقّ هل يكون مركّباً من ذات ومبدأ مع تصوّر صورة واحدة له فكأن المشتقّ ذات ثبت له المبدأ، أو يكون عبارة عن المبدأ لا بشرط؟

وبعبارة اخرى: هل المشتقّ في الحقيقة مفهومان مندمجان، أو أنّه مفهوم واحد من دون وجود اندماج فيه؟

وبعبارة ثالثة: إنّ للمشتقّ هيئةً ومادّةً، فهل يبدو للذهن من الهيئة والمادّة شيئان، أو يبدو شي ء واحد؟

المقدمة الثانيّة: في الأقوال في المسألة فإنّها خمسة

أحدها: أنّ المشتقّ مركّب من ثلاثة امور: الذات والمبدأ والنسبة.

ثانيها: أنّه مركّب من أمرين، المبدأ والنسبة، فالمشتقّ هو الحدث المقيّد بالنسبة أو الحدث المنتسب (فيفهم الذات من المشتقّ حينئذٍ بالدلالة الالتزاميّة لعدم تصوّر النسبة بدون الذات لكونها قائمة بطرفيها).

ثالثها: أنّه بسيط فوضع لمجرّد المبدأ لكن للحصّة التوأمة مع النسبة، أي الحدث حين النسبة أو التوأم مع النسبة (لا مقيّدة بالذات ولا

مقيّدة بالنسبة) فيستفاد الذات والنسبة بالدلالة الالتزاميّة أيضاً.

رابعها: أنّه وضع للمبدأ الّابشرط عن الحمل فيكون أيضاً بسيطاً.

انوار الأصول، ج 1، ص: 189

خامسها: أنّه مركّب من الذات والمبدأ من دون وجود نسبة في البين.

أمّا الأوّل: فهو المشهور بين القدماء فيما حكي عنهم.

وأمّا الرابع: فهو المشهور بين المتأخّرين من الاصوليين والفلاسفة، ويستفاد من كلمات المحقّق الخراساني رحمه الله في بدء النظر إنّه قائل بالبساطة لكنّه ذهب إلى التركّب في أواخر البحث.

والمختار هو القول الأوّل (ولا يخفى أنّ هذه المسألة أيضاً من المسائل التي وقع الخلط فيها بين المباحث اللّفظيّة والعقليّة).

فإذا عرفت هذا فنقول: استدلّ للقول ببساطة المشتقّ بوجوه:

الوجه الأوّل: ما أفاده السيّد مير شريف في حاشيته على شرح كتاب المطالع بعد أن انتهى صاحب المطالع إلى تعريف الفكر وقال في تعريفه: إنّ جمعاً من المحقّقين عرّفوا الفكر بأنّه ترتيب امور معلومة للوصول إلى أمر مجهول، ثمّ نقل عن بعض أنّه أورد على هذا التعريف بأنّه ينتقض بكون الفكر في بعض الموارد أمراً واحداً كالناطق في جواب السؤال عن حقيقة الإنسان فلا يصحّ تعريفه بأنّه ترتيب امور، ثمّ أجاب عنه بأنّه ليس ناقضاً لكون الناطق مركّباً لأنّه شي ء ثبت له النطق فلا يكون أمراً واحداً فقال: ليس الناطق مركّباً وإلّا يستلزم أحد الإشكالين على سبيل منع الخلو:

أحدهما: دخول العرض العامّ في الذاتي لو كان المراد من الشي ء في تعريف الناطق مفهوم الشي ء لكون الناطق فصلًا، من الذاتيات، ومفهوم الشي ء عرض عامّ لشموله جميع الكائنات ودخول العرض العامّ الخارج عن الذات في أمر ذاتي محال.

ثانيهما: انقلاب الممكنة إلى الضروريّة لو كان المراد من الشي ء مصداق الشي ء، لأنّ مصداق الشي ء في مثل الكاتب هو الإنسان فمعنى الكاتب «إنسان ثبت له الكتابة»

فإنقلبت قضيّة «الإنسان كاتب» إلى قضيّة «الإنسان إنسان ثبت له الكتابة» وهي قضيّة ضروريّة، فيتعيّن أن يكون المشتقّ بسيطاً (انتهى كلامه) «1».

وأجاب عنه صاحب الفصول بأنّه يمكن أن يختار الوجه الأوّل (أي كون المأخوذ مفهوم الشي ء) ويدفع الإشكال بأنّ كون الناطق فصلًا مبني على عرف المنطقيين حيث اعتبروه انوار الأصول، ج 1، ص: 190

مجرّداً عن مفهوم الذات وذلك لا يوجب أن يكون وضعه لغة كذلك (انتهى).

وأورد المحقّق الخراساني رحمه الله على كلام صاحب الفصول بأنّ من المقطوع إنّ المنطقيين قد اعتبروا مثل الناطق فصلًا بلا تصرّف في معناه أصلًا بل بما له من المعنى لغة.

ثمّ قال: الحقّ في الجواب أن يقال: ليس الناطق فصلًا حقيقيّاً بل أنّه فصل مشهوري فيكون من العوارض الخاصّة كالضاحك، فلا يستلزم دخول العرض العامّ في الذاتي (والظاهر أنّ مراده كون النطق من مقولة الكيف المسموع إن كان بمعنى النطق باللسان وكونه من مقولة الكيف النفساني إن كان بمعنى إدراك الكلّيات، فلا يكون من الذاتيات على كلا التقديرين) ثمّ استشهد لكلامه وقال: ولذا ربّما يجعل عرضان مكان الفصل الحقيقي إذا كانا متساوي النسبة إليه كالحسّاس والمتحرّك بالإرادة في تعريف الحيوان فيقال: «إنّه نامٍ حسّاس متحرّك بالإرادة» والحسّاس والمتحرّك بالإرادة عرضان من عوارض الحيوان والزمان قد وضعا مكان الفصل الحقيقي، وليسا بفصلين حقيقيين للحيوان لوضوح امتناع أن يكون للشي ء فصلان.

أقول: ويشهد له أيضاً أنّه يقال في تعريف الفرس: «حيوان صاهل» مع أنّ الصهل هو صوت الفرس وهو كيف مسموع وكذلك في تعريف الحمار إنّه «حيوان ناهق» وغيره من الفصول المذكورة بعنوان المثال في المنطق.

واستشكل المحقّق النائيني رحمه الله على المحقّق الخراساني رحمه الله بأنّ «هذا الإيراد مبني على جعل الناطق بمعنى المدرك للكلّيات

فإنّ إدراك الكلّيات يكون من خواصّ الإنسان وعوارضه وأمّا لو كان الناطق عبارة عمّا يكون له النفس الناطقة التي بها يكون الإنسان إنساناً فهو فصل حقيقي للإنسان وليس من العوارض» «1».

وقال في المحاضرات (بعد نقل كلام استاذه هذا): «وغير خفي أنّ هذا من غرائب ما صدر عنه فإنّ صاحب النفس الناطقة هو الإنسان وهو نوع لا فصل» «2».

أقول: ليس مراد المحقّق من صاحب النفس الناطقة الإنسان بل إنّه يريد بذلك سبب النطق وهو النفس الإنساني الذي ينشأ منها النطق.

انوار الأصول، ج 1، ص: 191

والصحيح في المسألة أن يقال:

أوّلًا: أنّ المراد من مبدأ النطق الخصوصيّة الموجودة في نفس الإنسان الموجبة للنطق اللّفظي أو المعنوي فهو فصل حقيقة ويشار إليه بالنطق اللّفظي أو المعنوي أي إدراك الكلّيات فيرتفع الإشكال.

وثانياً: لا يجوز قبول الشقّ الأوّل من كلام السيّد الشريف (وهو كون المراد من الشي ء مفهوم الشي ء) لأنّ الشي ء هنا كناية عن الذات، فليكن المراد مصداق الشي ء.

ثالثاً: الخطأ الأساس يكمن في منهج البحث، فالبحث هنا بحث لغوي، والمعيار فيه هو التبادر، ولا يدخل فيه مثل هذه الاستدلالات العقليّة الدقّية.

هذا كلّه في الشقّ الأوّل من كلام السيّد مير شريف.

أمّا الشقّ الثاني: منه وهو لزوم انقلاب الممكنة الخاصّة إلى الضروريّة، فإستشكل فيه صاحب الفصول أيضاً بأنّ المحمول في القضيّة ليس مجرّد مفهوم الإنسان فحسب حتّى يلزم انقلابها إلى الضروريّة بل المحمول الإنسان المقيّد بالكتابة ولا يكون ضروريّاً للإنسان (انتهى).

وإستشكل عليه المحقّق الخراساني رحمه الله بأنّ الكتابة إمّا شرط أو جزء فإن كانت شرطاً فيكون خارجاً عن المحمول فيصدق «الإنسان إنسان» بدون القيد وهي ضروريّة، وإن كان جزءً فينحلّ القضيّة إلى قضيّتين: احديهما «الإنسان إنسان» والثانيّة «الإنسان له الكتابة»، والاولى ضروريّة والثانيّة ممكنة،

فيصدق انقلاب الممكنة إلى الضروريّة على كلّ حال.

أقول: الإنصاف أنّ ما ذكره صاحب الفصول كلام جيّد ويمكن الدفاع عنه بامور:

الأمر الأوّل: أنّه لو كانت الكتابة شرطاً كان الشرط خارجاً عن المشروط إلّاأنّ الاشتراط والتقيّد داخل، وفرق بين «الإنسان المقيّد بالكتابة» و «الإنسان المطلق منها» حيث إنّ الأوّل ضروري للإنسان بخلاف الثاني.

الأمر الثاني: أنّه لو فرض كون الكتابة جزءً لم تنحلّ القضيّة إلى قضيتين، لأنّ التركيب بينهما أيضاً قيد للمحمول، فليس المحمول كلّ من الذات والكتابة باستقلاله بل هما مركّباً محمول واحد للإنسان، فلا يصحّ عندئذ حمل كلّ منهما مستقلًا على الموضوع، وهو نظير الماء الذي تركّب من عنصري هيدروجين واوكسجين ويقال «الماء هو هذا وهذا» فيحمل انوار الأصول، ج 1، ص: 192

العنصران عليه معاً في حال التركّب لكن لا يصحّ حمل أحدهما مستقلًا على الماء.

نعم إن قلنا بكون المبدأ (وهو الكتابة في المثال) من قبيل الخبر بعد الخبر، تنحلّ القضيّة إلى قضيتين لكن لا يقول به أحد.

ولقد أجاد بعض الأعلام حيث قال: إن قلنا بكون المشتقّ مركّباً لا يكون مركّباً تفصيلًا بل إنّه مركّب انحلالي فلا يكون من قبيل الخبر بعد الخبر «1».

فظهر إلى هنا أنّ الحقّ مع صاحب الفصول الذي قال بعدم لزوم انقلاب الممكنة إلى الضروريّة.

الأمر الثالث: أنّه قد مرّ كراراً بأنّ جرّ الأبحاث الاصوليّة إلى المسائل الفلسفية خروج عن محور البحث لأنّه لا يرجع في كشف المعنى اللغوي للمشتقّ إلى الفلسفة وما يصل إليه العلماء المتبحّرون في هذا الفنّ، فما قد يقال من رجوع هذا الدليل إلى التبادر في ذهن المنطقيين لا يرجع إلى محصّل.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ صاحب الفصول قد رجع عن مقالته في خاتمة كلامه تحت عنوان «فيه نظر» (وليته لم

يرجع) فقال: «إنّ الإنسان الذي يكون موضوعاً في القضيّة، إمّا أن يكون كاتباً في الواقع والخارج، أو لا، فعلى الأوّل يلزم الانقلاب إلى الضروريّة الموجبة، لأنّ الموضوع هو الإنسان الكاتب واقعاً فيصير القضيّة «الإنسان الكاتب كاتب» وهي ضروريّة، وعلى الثاني يلزم الانقلاب إلى الضروريّة السالبة كما لا يخفى، ثمّ قال بجريان نفس هذا البيان في الشقّ الأوّل أيضاً فقال: لأنّ لحوق مفهوم الذات أو الشي ء لمصاديقهما أيضاً ضروري ولا وجه لتخصيصه بالوجه الثاني» (إنتهى كلامه).

أقول: لقد أجاد من أجاب عنه بأنّ واقعية المحمول وخارجيته غير دخيلة في الموضوع، وإلّا يستلزم رجوع جميع القضايا إلى الضروريّة، بل الموضوع هو الإنسان مثلًا مع قطع النظر عن اتّصافه الخارجي بالكتابة أو عدمها.

انوار الأصول، ج 1، ص: 193

هذا كلّه في الدليل الأوّل على البساطة.

الوجه الثاني: ما استدلّ به المحقّق النائيني رحمه الله وحاصله أنّ المشتقّ لو كان مركّباً من الذات والمبدأ والنسبة يستلزم كون المشتقّات مبنيات لأنّ النسبة معنى حرفي فيوجب شباهة المشتقّات بالحروف، ولكن كونها من المعربات دليل على عدم دخالة النسبة في معنى المشتقّ، ويستكشف منه عدم دخول الذات أيضاً في المشتقّ لأنّ النسبة تلازم الذات لكونها قائمة بطرفيها «1».

أقول: أوّلًا: إنّ المشتقّ مادّة وهيئة، والمادّة هي المعنى الاسمي، ويمكن أن يكون معرباً لأجلها.

ثانياً: أنّ البناء أو الاعراب أمر سماعي لا قياسي، والقياس على الحرف ممنوع وليس هناك قاعدة كلّية يرجع إليها في جميع مواردها وفي معرفة كون المشتقّ معرباً أو مبنياً، بل علينا أن نرجع إلى أهل اللّغة واستعمالاتهم فيها.

الوجه الثالث: من الأدلّة على البساطة ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله أيضاً وحاصله: لغويّة أخذ الذات في المشتقّ (لكفاية أخذ المبدأ لا بشرط عن الحمل في صحّة

الحمل) وهو خلاف حكمة الواضع الحكيم، وإليك نصّ كلامه: «إنّ كلّ محمول جامداً أو مشتقّاً لا بدّ وأن يؤخذ لا بشرط حتّى يكون قابلًا للحمل، فأخذ الذات فيه خلف لأنّه ملازم لأخذه بشرط شي ء، وهو ينافي المحموليّة الصرفة، مع أنّه يلزم من أخذ الذات فيه محاذير أُخر منها: إنّ الواضع الحكيم لا بدّ وأن يلاحظ في أوضاعه فائدة مترتّبة عليها ولا يترتّب فائدة على أخذ الذات أصلًا» «2».

أقول: أوّلًا: لا يكفي أخذ المبدأ لا بشرط في صحّة الحمل لأنّه يحتاج إلى نوع من الاتّحاد بين الموضوع والمحمول، ولا اتّحاد بين الذات الذي يكون جوهراً والمبدأ الذي يكون عرضاً وإن أخذ لا بشرط.

إن قلت: المراد من اللابشرط هنا هو اللابشرط بالنسبة إلى الحمل، فلا مانع من حمل المبدأ حينئذ على الذات.

قلت: إنّ اللابشرط بالنسبة إلى الحمل لا معنى محصّل له، فإنّ الحمل تابع للمفهوم، فلو كان انوار الأصول، ج 1، ص: 194

المبدأ متّحداً معه الذات كان الحمل صحيحاً، وإلّا كان باطلًا.

وبعبارة اخرى: الحمل أو عدمه ليس من قيود المعنى بل من آثاره الناشئة من وحدة الموضوع والمحمول وعدمها، وهما ناشئان عن مفهومهما الخاصّ، فالضرب وذات زيد ليسا متّحدين بطبيعتهما فلا معنى للقول بأنّه يؤخذ الضرب لا بشرط الحمل.

وثانياً: يكفي في ارتفاع اللغويّة التصريح بما يكون سبباً للوحدة وعدم الاكتفاء باللوازم.

الوجه الرابع: أنّ أخذ الذات يستلزم أن يكون هناك نسبتان في قضيّة واحدة في عرض واحد، احديهما نسبة تامّة بين الموضوع والمحمول، وثانيهما نسبة ناقصة في خصوص المحمول.

ويرد عليه: أنّه ليس كذلك، بل احديهما في طول الاخرى، لأنّ النسبة في المحمول ناقصة تشكّل الخبر فقط، فتكون رتبته مقدّمة على النسبة التامّة بين المبتدأ والخبر.

الوجه الخامس: إنّ أخذ الذات

في المشتقّ يستلزم التكرار في الموصوف فجملة «زيد قائم» تكون بمعنى: زيد زيد له القيام، وهو كما ترى.

وفيه: إنّه ينتقض بمثل «زيد رجل عالم فاضل» الذي تكرّر فيه المبتدأ الموصوف بالصراحة، ولا كلام في صحّته وحسنه.

مضافاً إلى أنّ المأخوذ في المشتقّ هو ذات مبهم من جميع الجهات التي تنطبق على المبتدأ ولا يكون نفس المبتدأ بعينه فلا يلزم حينئذ تكرار.

الوجه السادس: أنّه يستلزم دخول المعروض في العرض في مثل «الضارب»، والجنس في الفصل في مثال «الناطق»، لأنّ الضارب مثلًا عرض، والذات معروض، فيلزم من أخذها فيه دخول المعروض في العرض، كما أنّ الذات في الناطق، جنس يتميّز بوصف النطق فيكون الوصف فصلًا لها، وأخذها في الوصف يستلزم دخول الجنس في الفصل.

أقول: أوّلًا: إنّ «الضارب» عرضي لا عرض، خلافاً للضرب الذي يكون من مقولة الفعل إحدى المقولات التسعة العرضيّة، وعرضي الشي ء غير عرضه.

وثانياً: أنّ قياس الذات في ما نحن فيه بالجنس المنطقي قياس مع الفارق لما تقرّر في محلّه من أنّ الجنس هوية غير متحصّلة، ولا تحصّل ولا تحقّق له في الخارج إلّابفصله، بينما الذات فيما نحن فيه له معنا متحصّلًا لما مرّ من أنّ المأخوذ في المشتقّ هو مصداق الشي ء لا مفهومه.

وما ذكرنا سابقاً- من أنّ الذات المأخوذة في المشتقّ مبهمة من جميع الجهات إلّامن جهة

انوار الأصول، ج 1، ص: 195

المبدأ- لا ينافي ذلك، فإنّ الابهام في الجنس ابهام وجودي فلا تحصّل له إلّابالفصل، ولكن الابهام في المقام ليس من ناحية الوجود بل من ناحية المفهوم من الجهات العرضيّة فقط.

ثالثاً: سلّمنا، إلّاأنّ اللازم دخول الجنس في الفصل فيما إذا قلنا بدخول الذات في الوصف المنطقي أيضاً لا ما إذا قلنا بتجريد المنطقيين الناطق والضارب عن الذات،

والقول بأنّ المتبادر إلى ذهن أهل اللّغة هو المتبادر إلى ذهن المنطقي كما ترى.

وذكر المحقّق العراقي رحمه الله في وجه بساطة المشتقّ عن الذات مع القول بتركّبه من المبدأ والنسبة على نحو تقييده بها، وجهين:

الأوّل: التبادر وأنّ المتبادر من المشتقّ هو المبدأ والنسبة ولا يتبادر منه الذات.

الثاني: أنّ للمشتقّ هيئة ومادّة فالمادّة، تدلّ على المبدأ فقط والهيئة تدلّ على النسبة، كذلك وليس هناك دالّ آخر يدلّ على الذات.

ثمّ قال: إن قلت: إنّ النسبة قائمة بطرفيها، فكيف تتصوّر وتستفاد من المشتقّ بدون الذات؟

قلت: نفهم الذات بالدلالة الالتزاميّة لأنّ النسبة قائمة بطرفيها، إحداهما، هو الذات في الموضوع وثانيهما، هو المبدأ المحمول كما نقول به أيضاً في جواب ما يقال: «من أنّ المشتقّ لا يخلو من أن يقع أحد الأمرين، إمّا أن يقع موضوعاً أو محمولًا، وفي كلا الحالين لا بدّ من وجود الذات، أمّا إذا وقع موضوعاً فلأنّ المبدأ مع النسبة بدون الذات لا يبتدأ به، وأمّا إذا وقع محمولًا فلأنّ الحمل يحتاج إلى اتّحاد بين الموضوع والمحمول، وبدون أخذ الذات في المحمول لا يحصل الاتّحاد» فنقول في جوابه أيضاً إنّ المشتقّ يدلّ على الذات بالدلالة الالتزاميّة لا المطابقية حتّى تكون الذات جزءً من مفهوم المشتقّ (انتهى ملخّص كلامه) «1».

أقول: وفي كلامه مواقع للنظر:

الأوّل: أنّ الوجدان حاكم على تبادر الذات في المشتقّ عند إطلاقه فيتبادر من «السارق» من يسرق، فتكون الذات جزء من معناه المطابقي لا الالتزامي.

الثاني: أنّ الوجدان حاكم أيضاً على أنّ الوحدة التي تكون بين المبتدأ والخبر هي الوحدة بين ذاتين تكونان مدلولين لهما بالدلالة المطابقية لا الوحدة بين المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي.

انوار الأصول، ج 1، ص: 196

الثالث: أنّ لازم كلامه عدم دخول نفس الزمان والمكان

في معنى اسم الزمان والمكان، وكذا عدم دخول الآلة في معنى اسم الآلة (لأنّ الذات في هذه الأسماء عبارة عن نفس الزمان والمكان والآلة) مع أنّ الزمان هو القوام والأساس في اسم الزمان، وكذا المكان والآلة في اسم المكان واسم الآلة بل لا معنى لهذه الأسماء بدون تلك الأشياء، وحيث إنّه لم يقل أحد بالفرق بين هذه الثلاثة وسائر المشتقّات فنستكشف منه أنّه وزان الجميع واحد.

وأمّا انحصار مدلول الهيئة في النسبة فهو دعوى بلا دليل.

هذا كلّه ما استدلّ به على عدم أخذ الذات في المشتقّ، وقد ظهر ضمن المناقشات الواردة أنّ المختار في المقام هو التركّب من الذات والمبدأ والنسبة معاً، وظهر أيضاً بعض ما يدلّ عليه، وملخّص الكلام أنّه يمكن أن يستدلّ للتركّب بصور:

الاولى: التبادر في أذهان أهل العرف فإنّهم إذا سُئِلوا عن معنى الضارب مثلًا يقولون: معناه «الذي يضرب»، والقاتل هو «الذي يقتل».

الثانيّة: صحّة حمل المشتقّ على الذات، وهي كاشفة عن أخذ الذات فيه، لأنّ الحمل يحتاج إلى اتّحاد بين الموضوع والمحمول كما مرّ.

الثالثة: عدم تصوّر عدم أخذها في بعض المشتقّات، وهو اسم الزمان والمكان واسم الآلة كما مرّ آنفاً.

الرابعة: (وقد يكون مجرّد مؤيّد في المسألة لا دليلًا مستقلًا على المدّعى) عروض الصفات المختصّة بالذات على المشتقّ مثل «التأنيث والتذكير والإفراد والتثنية والجمع» فيثنّى الضارب مثلًا حينما تثنّى الذات، ويؤنّث حينما يكون الذات مؤنّثاً.

إن قلت: إنّه ينتقض بعروض التثنية والجمع على الفعل أيضاً.

قلت: ما يثنّى أو يجمع في الفعل أيضاً هو الضمير الفاعلي لا نفس الفعل.

بقي هنا أمران:

الأمر الأوّل: ما أفاده بعض الأعلام في مقام إثبات مختاره في المقام (وهو تركّب المشتقّ من المبدأ والذات بدون النسبة) فإنّه قال بعد الإشارة إلى أنّ

الذات هنا مبهم من جميع الجهات إلّإ

انوار الأصول، ج 1، ص: 197

من ناحية وصف كذا: إنّ المراد من التركّب من الذات والمبدأ هو التركّب التحليلي لا التفصيلي.

توضيحه: أنّ المفاهيم على ثلاثة أنواع:

الأوّل: ما يكون بسيطاً من ناحية الدالّ والمدلول والدلالة جميعاً كمفهوم الجسم.

الثاني: ما يكون متعدّداً تفصيلًا كذلك كمفهوم «له القيام».

الثالث: ما يكون متعدّداً في الجهات الثلاثة عند التحليل لا تفصيلًا كمفهوم «القائم» الذي يكون مصداقاً من مصاديق المشتقّ، وبالنتيجة تكون المشتقّات كالبرازخ بين الجمل التفصيلية والجوامد.

أقول: كلامه جيّد حيث أوضح المراد من التركّب والبساطة في المشتقّ إلّاأنّ فيه: إنّ المشتقّ مركّب من الذات والمبدأ والنسبة جميعاً لا من الأوّلين فقط، لأنّ تلبّس الذات بالمبدأ لا يتصوّر بدون النسبة الناقصة كما مرّ.

الأمر الثاني: ما أفاده المحقّق الإصفهاني رحمه الله في بعض عباراته، وحاصله: إنّ المشتقّ قد أخذ في مفهومه ما يصحّ به الحمل ولكن ليس هذا من مفهوم الذات وإلّا لم يصحّ القول بأنّ «الوجود موجود» أو «البياض أبيض» لعدم تصوّر ذات في «الموجود» و «الأبيض» هنا، نعم يوجد فيهما شي ء إجمالًا يصحّ بذلك الحمل «1».

أقول: أوّلًا: إنّا لا نريد من الذات أكثر من ذلك الشي ء الذي يصحّ به الحمل كما اعترف به.

ثانياً: لا ينتقض القول بأخذ الذات في المشتقّ بهذين المثالين لأنّهما ليست من الإطلاقات العرفيّة التي يثبت بها المعنى الموضوع له حتّى تكون معياراً في تعيين مداليل الألفاظ، فلا يصحّ عرفاً إطلاق الأبيض على البياض.

إلى هنا تمّ التنبيه الأوّل وظهر أنّ الحقّ فيه تركّب المشتقّ من الذات والمبدأ والنسبة جميعاً.

التنبيه الثاني: في الفرق بين المشتقّ ومبدئه

إن قلنا بأنّ الذات مأخوذ في المشتقّ فالفرق بينه وبين مبدئه واضح، فلا تصل النوبة حينئذ إلى البحث عنه، وأمّا إذا قلنا بعدم أخذها

فيه فيقع البحث في الفرق بين المشتقّ ومبدئه،

انوار الأصول، ج 1، ص: 198

وحيث إنّ المحقّق الخراساني رحمه الله قائل بعدم أخذ الذات في المشتقّ عنون هذا البحث في الكفاية وقال: الفرق بين المشتقّ ومبدئه أنّ المشتقّ يكون لا بشرط عن الحمل، والمبدأ يكون بشرط لا، وبعبارة اخرى: إنّ المشتقّ لا يكون آبياً عن الحمل خلافاً للمبدأ.

ثمّ نقل عن صاحب الفصول اشكالًا وهو أنّ اعتبار لا بشرط أو بشرط لا لا يوجب تغييراً في حقيقة المفهوم فلا يوجب فرقاً بين حقيقة المفهومين.

ثمّ أجاب عنه: بأنّه توهّم أنّ مرادهم من هذين الاعتبارين إنّما هو بلحاظ الطوارى ء والعوارض الخارجيّة مع الغفلة من أنّ المراد منهما الاباء عن الحمل وعدم الاباء عنه مفهوماً (انتهى كلامه).

أقول: قد مرّ آنفاً أنّ اعتبار اللابشرطيّة لا يوجب صحّة الحمل ما لم يكن في المعنى ما يوجب الوحدة بين الموضوع والمحمول، بل الملاك هو التغاير من جهة، والاتّحاد من جهة اخرى، ولا يخفى أنّ الاتّحاد لا يمكن بدون أخذ الذات في المحمول.

ولكن يستفاد من بعض الكلمات أنّ هنا نوعين من الاعتبار في معنى اللابشرط والبشرط لا، أحدهما لا يوجب تغييراً في المفهوم وهو اعتبارها بلحاظ العوارض الخارجيّة، والآخر يوجب تغيير المفهوم وهو اعتبارهما بلحاظ الحمل، بل يدلّ عليه صريح عبارة الكفاية، حيث قال: «وصاحب الفصول حيث توهّم أنّ مرادهم إنّما هو بيان التفرقة بهذين الاعتبارين بلحاظ الطوارى ء والعوارض الخارجيّة مع حفظ مفهوم واحد، أورد عليهم بعدم استقامة الفرق بذلك».

أقول: إذا قلنا بتعدّد المفهوم لا بدّ وأن يكون الفارق بينهما هو الذات لأنّ صرف الاعتبار لا يوجب تعدّد المفهوم، وعلى هذا يكون النزاع في أخذ الذات في المشتقّ وعدمه لفظيّاً لأنّ الجميع ملتزمون بدخوله فيه (وإن

أنكره بعضهم باللسان وقلبه مطمئن بالايمان) حيث إنّهم قالوا بتعدّد المفهوم كما يشهد عليه تنظيرهم المقام بالجنس بالنسبة إلى المادّة، والفصل بالنسبة إلى الصورة، ولا إشكال في أنّ مفهوم الجنس غير مفهوم المادّة ومفهوم الفصل غير مفهوم الصورة.

إن قلت: الفارق بين مفهوم الجنس والمادّة أو بين مفهوم الفصل والصورة هو اعتبار إلّا بشرطيّة في أحدهما والبشرط لائيّة في الآخر كما قرّر في محلّه، فليكن كذلك في الممثّل أيضاً

انوار الأصول، ج 1، ص: 199

وهو المشتقّ والمبدأ في ما نحن فيه.

قلنا: هو كذلك، أي يكون الفارق بين المشتقّ والمبدأ اعتبار اللابشرطيّة والبشرط لائيّة ولكن هذا الاختلاف ناشٍ عن اختلاف المفهومين لا بدونه.

التنبيه الثالث: في صفات الباري تعالى

هناك صفات ومشتقّات تجري على ذات اللَّه تعالى في الكتاب العزيز والسنّة وكلمات العلماء، ولكن قد يبدو فيها إشكالات أو أسئلة:

أوّلها: كون المبدأ فيها عين الذات مع تغايرهما في سائر المشتقّات.

ثانيها: إنّ المبدأ قائم بالذات وعارض عليها مع أنّه لا قيام ولا عروض في صفات اللَّه تعالى.

ثالثها: أنّ الصفات المنسوبة إلى الممكنات كلّ واحدة منها غير الاخرى مفهوماً ومصداقاً مع أنّ جميع الصفات المنسوبة إليه تعالى واحدة في عين كثرتها ويكون كلّ واحد منها عين الآخر فهو عالم بقدرته وقادر بعلمه وهكذا.

وبعبارة اخرى: اللَّه تعالى وجود كلّه علم، وكلّه قدرة، إلى غير ذلك من الصفات.

والعمدة من هذه الثلاثة هنا هو الأوّل، وقد اجيب عن الإشكال بوجوه:

منها: ما إلتزم به صاحب الفصول من كونها مجازات فإنه قال: يعتبر في صدق المشتقّ على شي ء حقيقة قيام مبدأ الاشتقاق به، فيكون استعمال الصفات في اللَّه استعمال للمشتقّ في غير ما وضع له.

وأجاب عنه المحقّق النائيني رحمه الله بما حاصله: أنّ القول بالمجاز يستلزم تعطيل تلك الصفات وعدم حصول المعرفة

بالنسبة إليها لأنّ العرف يجري هذه الصفات عليه تعالى كما يجريها على غيره فيفهم من «العالم» المنسوب إليه تعالى ما يفهم من «العالم» المنسوب إلى غيره، لا مجرّد عدم كونه جاهلًا فحسب «1».

وأورد عليه بأنّ مراد صاحب الفصول من التجوّز أنّ العالم مثلًا إذا استعمل في ذات الباري انوار الأصول، ج 1، ص: 200

كان بمعنى العلم، فجملة «اللَّه عالم» بمعنى «اللَّه عين العلم».

وأجاب المحقّق الخراساني رحمه الله على صاحب الفصول بأنّ المبدأ في صفاته تعالى وإن كان عين ذاته المقدّسة إلّاأنّ هذا الاتّحاد والعينية يكون في الخارج لا في المفهوم، والتغاير المفهومي كافٍ في صحّة الحمل.

واستشكل على كلامه: بأنّ المتبادر من تغاير المبدأ للذات في المشتقّات هو التغاير الخارجي مضافاً إلى التغاير المفهومي.

وأجاب المحقّق العراقي رحمه الله عن الإشكال بجواب ثالث وإليك نصّ ما ورد في تقريراته:

«التحقيق في الجواب أن يقال: إنّ أهل العرف لغفلتهم عن اتّحاد ذاته تعالى مع مبادى ء صفاته الحسنى التي نطق بها البرهان الصادق، يحملون عليه تعالى هذه العناوين المشتقّة بما لها من المفاهيم، ويتخيّلون أنّ مطابقها في ذاته المقدّسة كما هو مطابقها في ذات غيره، وليس ذلك إلّا لإفادته المعاني التي تحصل من حمل هذه العناوين المشتقّة على ذاتٍ ما، من الاتّصاف بمبادئها من العلم والقدرة والوجود، فيقولون: أنّه تعالى عالم موجود كما يقولون زيد عالم موجود، مع أنّهم يعتقدون أنّه تعالى لا موجود له ...» «1».

أقول: لا يخفى أنّ الإشكال بعد باقٍ على حاله بالإضافة إلى الاستعمالات الجارية على ألسنة الأنبياء والأولياء والجارية على لسان القرآن الكريم.

والجواب الرابع: ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله «2» وهو أنّه لا يعتبر في صحّة الحمل والجري تغاير المبدأ للذات، وليس للتغاير دخل

في مفهوم المشتقّ بل معنى العالم مثلًا من له العلم سواء كان هو غير العلم أو كان عينه، وقد صرّح في المحاضرات «3» باتّحاد هذا الجواب مع ما أفاده المحقّق الخراساني وهو كذلك لرجوعه إلى كفاية التغاير المفهومي وعدم اعتبار التغاير الخارجي في صحّة الحمل.

فيرد عليه أيضاً ما مرّ من أنّ هذا خلاف ما يتبادر منه، لأنّ المتبادر من مفهوم المشتقّ تغاير الذات للمبدأ خارجاً.

انوار الأصول، ج 1، ص: 201

الخامس: (وهو المختار) أن يجاب عنه بطرق ثلاثة كلّ واحد يجري في قسم من الصفات (على سبيل منع الخلو).

الطريق الأوّل: ما مرّ في مبحث الصحيح والأعمّ في بيان القدر الجامع للصحيحي، من أنّ اللفظ وضع لما يكون منشأً للأثر المرغوب منه، فالساعة مثلًا وضعت لما يقدّر به الأوقات، والسراج وضع لما ينشأ منه الضياء لدفع الظلمة، وهما يصدقان على كلّ ما يكون سبباً لهذين الأثرين ولو اختلفت الموادّ والهيئات كما يرى في الساعات المائيّة والرمليّة والكهربائيّة فلا شكّ في أنّ كلّها ساعة، وهذا المعنى صادق في قسم من صفات الباري كالسميع والبصير، فإنّ السميع مثلًا وضع لمن يكون محيطاً بالمسموعات، والبصير وضع لمن يكون محيطاً بالمبصرات، سواء كان ذلك بالآلة أو بدونها (فتأمّل).

الطريق الثاني: أن تكون مجازاً ولكنّه مجاز فوق الحقيقة بحيث تكون الحقيقة فيها قنطرة المجاز على عكس ما هو المعروف من أنّ المجاز قنطرة الحقيقة فإنّ استعمال العالم في اللَّه تبارك وتعالى وإن فرض مجازاً، ولكنّه مجاز أعلى من الحقيقة فإنّ العلم هنا عين الذات، لا أمر عارض عليه، فيكون المعنى المجازي أعلى وأشرف وأتمّ من المعنى الحقيقي، ولا ضير في الالتزام بذلك مع وجود القرينة، ووضوح المفهوم وهكذا الحال في ما يشبه العالم من

الصفات كالقادر وغيره.

الطريق الثالث: النقل، بأن يقال بانتقال المعنى المحدود إلى المعنى الوسيع بعد كثرة استعماله في ذات الباري تعالى، فكان العالم مثلًا موضوعاً لما يكون المبدأ فيه غير الذات، لكن لكثرة استعماله في اللَّه عزّوجلّ وضع تعييناً أو تعيّناً للأعمّ منه، وهذا أيضاً يجري في مثال العالم والقادر وما أشبههما فتأمّل جيّداً.

التنبيه الرابع: في قيام المبدأ بالذات

لا إشكال في أنّ الوصف والاتّصاف يحتاج إلى قيام المبدأ بذات لأنّه لو لم يكن المبدأ قائماً بالذات لا يتحقّق اتّصاف لذات دون ذات، بل يلزم اتّصاف كلّ ذات بكلّ وصف، وهذا واضح لا إشكال فيه، ولكن هيهنا أمثلة صارت منشأً للنزاع والإشكال، ففي قسم منها مثل الضارب والمؤلم بالكسر، ليس المبدأ فيه وهو الضرب والألم قائماً بذات الضارب والمؤلم، بل إنّهما قائمان انوار الأصول، ج 1، ص: 202

بالمضروب والمؤلَم (بالفتح)، كما لا يخفى، وفي قسم آخر منها نحو اللابن والتامر ممّا يكون المشتقّ فيه من الجوامد لا معنى لقيام المبدأ (وهو اللبن والتمر في المثال) بذات اللابن والتامر، وفي قسم ثالث منها وهو الصفات التي تنسب إلى ذات الباري تعالى أيضاً كذلك فليس المبدأ فيها قائماً بالذات لأنّها عينه.

أقول: وحيث إنّ بعضهم لم يظفر على جواب مناسب لهذه الأمثلة أنكر من الأساس اعتبار قيام المبدأ بالذات في جميع المشتقّات، ولكن يمكن الجواب عن الجميع:

أمّا القسم الأوّل: فيمكن أن يقال: إنّ الإشكال فيه حصر القيام في نوع واحد، وهو القيام الحلولي، مع أنّ للقيام أنواعاً متفاوتة:

منها: القيام الحلولي كما هو كذلك في الصفات المشبّهة وأسماء الفاعل المشتقّة من الفعل اللازم.

ومنها: القيام الصدوري، كما في مثل الضارب والقاتل وغيرهما.

ومنها: القيام بمعنى الوقوع فيه، كما في اسمي الزمان والمكان.

ومنها: القيام بمعنى الوقوع به في مثل

اسم الآلة.

ومنها: القيام الانتزاعي كما في مثل الصفات الانتزاعي، نحو صفة الممكن الذي تنتزع من تساوي الوجود والعدم بالنسبة إلى الذوات الممكنة، فإنّ مبدأ الإمكان فيه قائم بذات الممكن انتزاعاً، فالقيام في جميع المشتقّات حاصل ولكن كلّ واحد بنوع من القيام.

هذا كلّه بالنسبة إلى القسم الأوّل من الأمثلة.

أمّا القسم الثاني: مثل اللابن والتامر فالجواب عنه إنّه لا يشتقّ من الجامد وصف إلّابعد اشراب معنى وصفي فيه، فاشرب في اللبن والتمر مثلًا معنى البيع ويكون اللابن والتامر مشتقّين في الواقع من مادّة بيع اللبن ومادّة بيع التمر، وهما قائمان بفاعلهما قياماً صدوريّاً.

أمّا القسم الثالث: فالطريق الصحيح في حلّه ما اخترناه سابقاً من كونها مجازات فوق الحقيقة.

ففي مثل العالم نقول: إنّ اللَّه منزّه من أن يكون العلم قائماً به، بل ذاته تعالى عين العلم، فيكون فوق الحقيقة، ولا غرابة ولا استهجان فيه، وعلى هذا فلا يرد علينا إشكال تعطيل الصفات، أو كونه تعالى جاهلًا بالمقايسة إلى الممكنات تعالى اللَّه عن ذلك.

انوار الأصول، ج 1، ص: 203

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني رحمه الله قد سلك في المسألة طريقة اخرى وتبعه المحقّق النائيني رحمه الله وهو أنّ العرف مرجع في تعيين المفهوم لا المصداق، فيمكن أن يكون هناك مصاديق لم يدركها العرف وفي ما نحن فيه: كذلك، فإنّ مفهوم المشتقّ هنا عرفاً هو المبدأ القائم بالذات لكن من مصاديق القيام وأعلى مراتبه هو القيام على نحو العينية وإن لم يدركه العرف!

ويرد عليه:

أوّلًا: أنّ العرف قد يكون مرجعاً في المصاديق أيضاً، كما في تطهير الثوب المتنجّس بالدم فيما إذا بقي فيه لون من الدم، ففي مثله وإن كان العقل يحكم ببقاء عين الدم، لاستحالة انتقال العرض (على القول به) إلّاأنّه حيث إنّ

العرف لا يعدّه من مصاديق الدم يحكم بعدم وجوده وبطهارة الثوب، نعم المرجع في المصاديق هو العرف الدقّي لا التسامحي، فلا يرجع إلى المسامحات العرفيّة كما إذا حكم على تسعة وتسعين مثقالًا أنّه مائة مثقال مسامحة.

وثانياً: أنّ القيام يلازم الاثنينية ولا توجد اثنينية فيما إذا كان المبدأ عين الذات، وأمّا كون الاتّحاد من أعلى مصاديق القيام فهو كلام شعري لا محصّل له بعد ما عرفت من وجود الاثنينية في معنى القيام.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ ما مرّ من البيان في صفات الباري يختصّ بصفات ذاته تعالى ولا يشمل صفات الفعل، لأنّ المبدأ في الصفات الفعليّة غير الذات وليست عينها قطعاً بل ينتزعها العقل من الأفعال الصادرة منه تعالى فينتزع مثلًا عنوان «الرازق» بعد صدور فعل «الرزق» منه تعالى، وكذلك في عنوان «الخالق» وغيره من صفات الفعل ولهذا يقال بحدوث صفات الفعل بمعنى أنّ الانتزاع العقلي لهذه الصفات من الأفعال حادث بحدوث الفعل فلا يرد إشكال من ناحية قدم الذات مع حدوث الصفات كما لا يخفى.

نعم القدرة على فعل الخلق أو الرزق قديم، إلّاأنّ مفهوم القادر غير مفهوم الخالق والرازق، ومحلّ النزاع في المقام إنّما هو الصفات المنتزعة من نفس هذه الأفعال، لا صفة القدرة عليها.

التنبيه الخامس: في أنّ ثبوت المبدأ للذات لا بدّ أن يكون ثبوتاً حقيقيّا

هل يكون كلمة «الجاري» في مثل جملة «الميزاب جارٍ» حقيقة ولو كان وصفاً للميزاب، أو مجازاً لأنّه وصف للماء واقعاً لا للميزاب؟

وقع الخلاف فيه بين المحقّق الخراساني وصاحب الفصول رحمهما الله، لأنّ صاحب الفصول رحمه الله ذهب إلى اعتبار كون ثبوت المبدأ للذات في استعمال المشتقّ ثبوتاً حقيقيّاً، فكلمة «جارٍ» في الجملة المذكورة مجاز لا حقيقة، واستشكل عليه المحقّق الخراساني رحمه الله وقال: إنّه خلط بين المجاز في الكلمة والمجاز في

الإسناد، والمثال من قبيل الثاني لا الأوّل.

أقول: الإنصاف أنّ الخلط إنّما هو في كلام المحقّق الخراساني رحمه الله، لأنّ الذات المبحوث عنها في المقام هي الذات الموجود في المشتقّ لا المبتدأ أو الموصوف في الجملة الخبريّة، والمتبادر من المشتقّ إنّما هو اتّصاف الذات الموجود فيه بالمبدأ حقيقةً، وأمّا مثل «جار» في المثال المذكور فيمكن أن يكون من باب المجاز في الكلمة لا المجاز في الإسناد.

وبعبارة اخرى: المراد من الجاري هنا الجاري مجازاً لا حقيقة، ومن المعلوم أنّ إسناد هذا المعنى إلى الميزاب حقيقي كما أنّ إسناد الأسد بمعنى الرجل الشجاع إلى زيد في قولنا «زيد أسد» ليس إسناداً مجازيّاً بل هو إسناد حقيقي وإن كان الأسد استعمل في معناه المجازي.

نعم لو اريد من الجاري معناه الحقيقي كان إسناده إلى الميزاب إسناداً مجازيّاً فتدبّر جيّداً.

فتلخّص: أنّ ما مرّ في مفهوم المشتقّ من لزوم كون المبدأ قائماً بالذات، لا بدّ أن يكون القيام فيه حقيقياً لا مجازيّاً.

التنبيه السادس: في تعيين مبدأ المشتقّات

وقع الخلاف بين الأعلام في أنّ المبدأ للمشتقّات هل هو «المصدر» كما قال به الكوفيون أو «الفعل» كما نقل عن البصريين أو «المادّة الهيولائيّة التي لا خصوصيّة فيها من جهة الهيئة والنسبة» كما عليه المحقّق النائيني رحمه الله في بعض تقريراته؟ وجوه:

وقد أورد على القول الأوّل: بأنّ «المصدر مشتمل على مادّة وصورة من حيث لفظه، وحدث ونسبة من حيث المعنى، ويستحيل أن يكون مثله مبدأ لبقيّة المشتقّات إذ لا بدّ وأن انوار الأصول، ج 1، ص: 205

يكون المشتقّ مشتملًا على المبدأ، والمصدر مباين مع بقيّة المشتقّات لفظاً ومعنى» «1».

ولكن يرد عليه:

أوّلًا: أنّ المراد من الأصل هو أوّل ما وضع في المشتقّات ثمّ أخذ منه الباقي، ولا يخفى أنّ اللفظ يحتاج إلى

هيئة ما لا يمكن وضعه بدونها لأنّ الوضع لا محالة يتعلّق بصيغة خاصّة وتركيب خاصّ لا بحروف مقطّعة منثورة.

وثانياً: لقائل أن يقول: أنّه لا دلالة للهيئة في المصدر على معنى خاصّ بل إنّها لمجرّد إمكان التلفّظ به، فلا تفيد الهيئة فيه معنى خاصّاً غير ما تفيده مادّته وإن كان اللازم علينا عند التكلّم به الاحتفاظ بتلك الهيئة لأنّه أمر سماعي لا يجوز التخلّف عنه، كما أنّه لا نسبة في المصدر إلى شي ء (والمراد المصدر من الثلاثي).

وأمّا القول الثاني: وهو كون المبدأ الفعل ففيه: أنّه يستلزم زيادة الأصل على الفرع لأنّ في الفعل زيادة على المصدر من حيث الزمان والنسبة، لأنّ المصدر مجرّد حدث لا زمان فيه ولا نسبة، بينما الفعل واجد لكليهما.

نعم يفهم من المصدر النسبة بالدلالة الالتزاميّة، فإنّ الحدث إذا أخبر عنه يحتاج في وقوعه إلى نسبة خارجيّة، ولكن لا يكون هذا في معناه المطابقي.

ولعلّ منشأ هذا القول أنّ علّة الحاجة إلى اللّغة أوّلًا إنّما هي بيان الفعل، والحاجة إلى بيان المصدر والصفات ناشئة من الحاجة إلى فهم الأفعال، لأنّ الضارب مثلًا لا يكون ضارباً ولا يتّصف بهذا الوصف إلّابعد أن صدر منه فعل الضرب، ولكن مجرّد هذا لا يكون دليلًا على كون الفعل أصلًا بعد وجود زيادات فيه ليست في المصدر.

فتبيّن وتحصّل ممّا ذكرناه أنّ المتعيّن كون المصدر هو الأصل.

وما مرّ من أنّ للمصدر هيئة لا تكون ثابتة في سائر المشتقّات قد عرفت الجواب عنه كما عرفت الجواب عن قول القائل بأنّ في المصدر نسبة لا توجد في سائر المشتقّات (لكن هذا كلّه في المصدر الثلاثي المجرّد).

انوار الأصول، ج 1، ص: 206

إلى هنا قد فرغنا من مقدّمات المباحث الاصوليّة فلنرجع إلى البحث عن نفس

مسائلها، والكلام يقع في مقاصد ثمانيّة:

1- الأوامر.

2- النواهي.

3- المفاهيم.

4- العامّ والخاصّ.

5- المطلق والمقيّد.

6- الأمارات المعتبرة عقلًا أو شرعاً.

7- الاصول العمليّة.

8- تعارض الأدلّة والأمارات.

والخاتمة في الاجتهاد والتقليد.

المقصد الأوّل: الأوامر ويقع البحث فيها في فصول عديدة

الفصل الأوّل معنى الأمر

وهو يستدعي بنفسه وقوع البحث في مقامين:

المقام الأوّل: في مادّة الأمر (امَرَ)

المقام الثاني: في صيغة الأمر (صيغة افعل).

ولا يخفى لزوم التفكيك بين المقامين، ومع الأسف وقع الخلط بينهما في كلمات القدماء من أصحابنا الاصوليين، ولذا ترى صاحب المعالم رحمه الله استدلّ لدلالة صيغة الأمر على الوجوب بقوله تعالى: «فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ...» مع أنّ مدلوله إنّما هو دلالة مادّة الأمر على الوجوب، (على فرض دلالتها).

المقام الأوّل: في مادّة الأمر

اشارة

ولا بدّ قبل الورود في أصل البحث تقديم مقدّمة في معنى المادّة، فنقول: قد ذكر لكلمة الأمر معانٍ كثيرة:

1- الطلب كما يقال: «أمره بكذا» أي طلب منه كذا.

2- الشأن كقولك: «هذا الأمر شغلني».

3- الفعل كقوله تعالى: «وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ» أي وما فعل فرعون برشيد.

4- الفعل العجيب كقوله تعالى: «فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا» (في قصّة لوط).

5- الشي ء، كقولك: رأيت اليوم أمراً عجيباً.

6- الحادثة كقولك: هل حدث أمر؟

7- الغرض كقولك: جاء بأمر كذا.

وقد اضيف إليها معانٍ تصل إلى خمسة عشر معنىً.

انوار الأصول، ج 1، ص: 210

ولكن المهمّ هنا إنّما هو كشف مبدأ هذه المعاني ومرجعها، والبحث في أنّها هل ترجع إلى أصل واحد، أو أصلين، أو أكثر؟ وبعبارة اخرى: هل تكون مادّة الأمر من قبيل المشترك اللّفظي أو من المشترك المعنوي؟

ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى أنّ عدّ بعض هذه المعاني من معاني مادّة الأمر يكون من قبيل اشتباه المصداق بالمفهوم وأنّه لا يبعد دعوى كونه حقيقة في الطلب في الجملة والشي ء، ثمّ عدل عنه في ذيل كلامه، وقال: لا يبعد أن يكون ظاهراً في المعنى الأوّل فحسب أي الطلب، واختار صاحب الفصول أنّه حقيقة في المعنيين الأوّلين، أي الطلب والشأن، وذهب المحقّق النائيني رحمه الله إلى أنّه

«لا إشكال في كون الطلب المنشأ بإحدى الصيغ الموضوعة معنى له وإنّ استعماله فيه بلا عناية، وأمّا بقية المعاني فالظاهر أنّ كلّها راجعة إلى معنى واحد وهو الواقعة التي لها أهميّة في الجملة، وهذا المعنى قد ينطبق على الحادثة وقد ينطبق على الغرض وقد يكون غير ذلك» ثمّ عدل عنه في ذيل كلامه وقال: «بل يمكن أن يقال: إنّ الأمر بمعنى الطلب أيضاً من مصاديق هذا المعنى الواحد فإنّه أيضاً من الامور التي لها أهميّة» «1».

أقول: في مثل هذا الموارد لا بدّ من الرجوع إلى أمرين: منابع اللّغة، والتبادر.

أمّا اللّغة: فقد ذكر في منابعها لمادّة الأمر أصلان:

الأصل الأوّل: أنّه ضدّ النهي.

الأصل الثاني: الشي ء كما اشير إليه في بعض الكلمات، وأمّا الطلب فهو أعمّ من الأمر لشموله الطلب النفساني أيضاً كقولك «اطلب ضالّتي» أو «اطلب العلم» مع أنّه لا يمكن وضع الأمر موضعه فلا يقال: «آمر ضالّتي» أو «آمر العلم»، اللهمّ إلّاأن يقال أنّ معناه مساوق لمعنى «الطلب من الغير» ولكنّه أيضاً ممنوع لأنّه قد يقال «طلب منه شيئاً» ولا يمكن تبديله بالأمر فيقال «أمره بكذا».

وكيف كان فالمعنى الأوّل لمادّة الأمر هو، الأمر ضدّ النهي كما قال به في لسان العرب، والمعنى الثاني: الشي ء، فإنّه قد يقال: «هذا أمر لا يعبأ به» أو «هذا أمر لا يعتنى بشأنه» أي هذا شي ء لا يعبأ به أو لا يعتنى بشأنه، فهو مشترك لفظي بين المعنيين من دون أن يكون قدر

انوار الأصول، ج 1، ص: 211

جامع بينهما حتّى يصير مشتركاً معنويّاً، والدليل على كونه مشتركاً لفظيّاً (وإنّه لا جامع بينهما).

أوّلًا: قول أرباب اللّغة (فراجع).

وثانياً: التبادر فإنّ المتبادر من قولك «جئت لهذا الأمر» أو «رأيت اليوم أمراً عجيباً» إنّما هو الشي ء

ولا يمكن تأويلها إلى الطلب لوجود التباين بينهما.

وثالثاً: ما صرّح به غير واحد منهم من أنّ الأوّل يجمع على فواعل (أوامر) والثاني على فعول (امور).

ورابعاً: كون أحدهما (وهو المعنى الأوّل) مصدراً ومبدأً للاشتقاق، والثاني اسم لا يشتقّ منه شي ء.

ومن هنا يظهر وقوع الخلط بين المفهوم والمصداق بالنسبة إلى سائر المعاني وإنّها ترجع في الواقع إلى هذين المعنيين كالمعنى الثالث وهو الفعل، فإنّ الأمر في قوله تعالى: «وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ» ليس بمعنى الفعل بل إنّه عبارة عن أوامر فرعون وأحكامه فينطبق على المعنى الأوّل، وهكذا المعنى الرابع فإنّ الأمر في قوله تعالى: «فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا» أيضاً بمعنى الأمر التكويني للَّه تعالى بالعذاب نظير قوله تعالى: «أَتَى أَمْرُ اللَّهِ» أي أتى أمره التكويني بالعذاب.

ثمّ إنّه ذكر في تهذيب الاصول أنّ ما هو المعروف بين الاصوليين من أنّ لفظ الأمر مشترك لفظي بين ما هو أمر حدثي وبين غيره غير صحيح إذ الموضوع للحدث هو المادّة الساريّة في فروعها التي لم تتحصّل بهيئة خاصّة، والموضوع لمعانٍ اخر هو لفظ الأمر جامداً» «1».

ولا يخفى ما فيه، فإنّ النزاع في مادّة المشتقّات لا دخل له بما نحن فيه، بل الكلام في أنّ كلمة الأمر بهذه الهيئة لفظ واحد له معنيان مختلفان:

أحدهما: المعنى المصدري الحدثي.

والثاني: المعنى غير الحدثي الجامد وليس المشترك اللّفظي إلّاهذا، سواء كان الأصل في المشتقّات هو المصدر أو المادّة الساريّة في فروعها.

إذا عرفت هذا فنقول: لا بدّ من التكلّم حول مادّة الأمر بالمعنى الأوّل في عدّة امور:

الأمر الأوّل: في اعتبار العلوّ أو الاستعلاء في هذا المعنى

والأقوال فيه خمسة: اعتبار العلوّ فقط، اعتبار الاستعلاء فقط، اعتبار العلوّ والاستعلاء معاً، كفاية أحدهما، عدم اعتبار شي ء منهما.

وتنبغي الإشارة أوّلًا إلى معنى العلوّ والاستعلاء فنقول: أمّا العلوّ فهو أن

يكون المتكلّم الآمر في مقام عالٍ إمّا ظاهريّاً كما في أوامر فرعون، أو معنويّاً كما في أوامر الأنبياء، وأمّا الاستعلاء فهو التكلّم عن مقام عالٍ، والأمر أو النهي عن منصب عالٍ (وليس بمعنى التجبّر والتكبّر) لا عن موضع شافع أو ناصح أو صديق سواء كان له مقام عالٍ خارجاً أو لم يكن، ولا يخفى أنّ أحدهما غير الآخر، فقد يأمر الإنسان عن موضع منصب عالٍ وليس بعالٍ وبالعكس كما ورد في الحديث النبوي صلى الله عليه و آله «قال: أتأمرني به يارسول اللَّه (أي أتطلب منّي الصلح عن مقام منصب الولاية) قال: إنّما أنا شافع» هنا يكون فيه العلوّ (لعلوّ مقام النبي صلى الله عليه و آله ومولويته) دون الاستعلاء.

إذا عرفت هذا فنقول: الحقّ أنّ كليهما مأخوذان في المعنى في بدو النظر بمقتضى التبادر أوّلًا: (ولذلك يقال لمن أمر من دون أن يكون له علوّ: ما شأنك حتّى تأمرني» أو «ما لك من حقّ الأمر بي» فيستحقّ التوبيخ والملامة) وصحّة السلب.

ثانياً: فيقال: ليس هذا أمراً بل هو استدعاء كما وقع في الحديث المزبور.

لكن مع ذلك كلّه قد نشكّ في ذلك عند ما نلاحظ موارد استعمالات مادّة الأمر في القرآن الكريم فنحتمل حدوث هذين القيدين في الأزمنة الأخيرة وعدم وجودهما في عصر النزول وصدور الرّوايات (من باب أنّ الاطّراد من علامات الحقيقة).

فمثلًا في قوله تعالى: «يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ» «1»

لا إشكال في عدم علوّ لأصحاب فرعون عليه، اللهمّ إلّاأن يحمل على المجاز، أو يأوّل بأنّه لم يكن لفرعون علوّ ولا استعلاء حين صدور هذا القول بل كانا لملأه من باب أنّ الطواغيت إذا انهزموا أو وقعوا في شدّة وبلاء صاروا أذلّين وخاشعين

فيرون الداني عالياً.

وهكذا في قوله تعالى: «قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونَنِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ» من باب أنّ انوار الأصول، ج 1، ص: 213

قومه صلى الله عليه و آله كانوا دانين بالنسبة إليه لا سيّما بملاحظة قوله صلى الله عليه و آله «أيّها الجاهلون» الدالّ على تحقير شديد.

ويشهد له ما ورد من الآيات والرّوايات في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووجوبها على جميع المكلّفين لأنّه لا إشكال في أنّه ليس لكلّ واحد منهم علوّ على باقي الناس، كما يشهد له أيضاً قياس الأمر بالنهي حيث إنّ الظاهر عدم اعتبار واحد منهما في النهي.

اللهمّ إلّاأن يقال: إنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة والمجاز وأنّه في ما نحن فيه لم يصل إلى حدّ الاطّراد فنرجع إلى أصالة عدم النقل.

والتحقيق في المسألة أن يقال أنّ المتبادر من الأمر إنّما هو نوع من الإلزام (في مقابل الاستدعاء الذي ليس فيه إلزام) وهو يتصوّر فيمن كان مطاعاً بنحو من الأنحاء، أي يصدر الإلزام ممّن هو مطاع إمّا شرعاً أو عرفاً أو عقلًا، وحيث إنّ لزوم الطاعة يلازم غالباً العلو والاستعلاء فتوهّم من ذلك اعتبارهما في المعنى الموضوع له الأمر.

وبعبارة اخرى: المتبادر من الأمر إنّما هو الإلزام، وأمّا العلو والاستعلاء فهما من اللوازم الغالبية له.

الأمر الثاني: في دلالة المادّة على الوجوب

واستدلّ لها بوجوه:

الوجه الأوّل: التبادر والظهور العرفي، فإنّ المتبادر عرفاً من لفظ الأمر فيما إذا كان مجرّداً عن قرينة على الاستحباب هو الطلب الإلزامي.

وإن شئت قلت: أنّ مفاده البعث كما عرفت، والبعث يستدعي الانبعاث كما هو الحال في البعث الفعلي بأن يأخذ بيده ويبعثه نحو العمل، فكما أنّ البعث الفعلي ظاهر في الوجوب، فكذا البعث القولي يتبادر منه الوجوب، بل سيأتي إن شاء اللَّه تبادر الفوريّة منه أيضاً.

لا نقول

إنّ استعماله في المستحبّ مجاز كما سيأتي، بل نقول: المتبادر من الإطلاق هو الوجوب، والانصراف إلى بعض أفراد المطلق ليس بمعنى كونه مجازاً في غيره.

الوجه الثاني: قوله تعالى: «فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ انوار الأصول، ج 1، ص: 214

عَذَابٌ أَلِيمٌ» «1»

من باب إنّه مشتمل على مذمّة من يخالف الأمر وتهديده بالعذاب.

الوجه الثالث: قوله صلى الله عليه و آله: «لولا أن أشقّ على امّتي لأمرتهم بالسواك عند وضوء كلّ صلاة» «2» حيث إنّه صلى الله عليه و آله نفى الأمر مع ثبوت الاستحباب.

الوجه الرابع: ما نقل «أنّ بريرة لمّا طلب النبي صلى الله عليه و آله منها الرجوع إلى زوجها قالت: تأمرني يارسول اللَّه؟ فقال: لا بل إنّما أنا شافع» «3» فنفي الأمر أيضاً مع ثبوت استحباب إصلاح أمر الزوجة.

الوجه الخامس: قوله تعالى: «مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ» «4»

لشموله على التوبيخ والمذمّة لمن خالف أمره تعالى بالسجدة (وهو ابليس).

ولكن يمكن نقض جميع هذه الموارد للأمر غير الأمر الأوّل بموارد استعمال الأمر في القدر الجامع بين الوجوب والاستحباب:

منها: قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ» «5»

لثبوت استحباب الاحسان.

ومنها: قوله تعالى: «لَاخَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ» «6»

فإنّه لا ريب أيضاً في استحباب هذه الموارد الثلاثة.

ومنها: قوله عليه السلام في كتابه لمالك: «هذا ما أمر به عبداللَّه علي أمير المؤمنين ... ثمّ قال: أمره بتقوى اللَّه ... أمره أن يكسر نفسه عند الشهوات» فلا إشكال في استعماله أيضاً في خصوص الاستحباب أو في القدر الجامع بين الوجوب والاستحباب.

إلى غير ذلك من الأمثلة التي تبلغ حدّ الاطّراد، والاطّراد دليل الحقيقة كما مرّ في محلّه، وأمّا

استعماله في خصوص أحدهما فإنّما هو من باب تطبيق الكلّي على الفرد، وهذا لا ينافي انصراف انوار الأصول، ج 1، ص: 215

الإطلاق إلى خصوص الوجوب، فظهر أنّ الدليل الوحيد على دلالة مادّة الأمر على الوجوب إنّما هو الوجه الأوّل، أي التبادر والظهور العرفي، وأمّا سائر الوجوه فهي على حدّ التأييد للمدّعى لا أكثر، لأنّها استعمالات لهذه المادّة في خصوص الوجوب، ومجرّد الاستعمال غير دالّ على الحقيقة ما لم يبلغ حدّ الاطّراد.

وعلى أيّ حال: لا كلام في ظهوره في الوجوب، إنّما الكلام في منشأ هذا الظهور، فهل هو الوضع بحيث يكون الأمر بمادّته موضوعاً للطلب الوجوبي، أو منشأه غلبة استعماله في الوجوب، أو أنّه قضيّة الإطلاق ومقدّمات الحكمة كما ذهب إليه المحقّق العراقي رحمه الله، أو المنشأ إنّما هو حكم العقل بوجوب طاعة المولى الآمر قضاءً لحقّ المولويّة والعبوديّة كما ذهب إليه بعض المعاصرين «1»؟

قال المحقّق العراقي رحمه الله بعد أن نفى الوجه الأوّل (لصحّة التقسيم وصحّة الإطلاق على الطلب غير الإلزامي) والوجه الثاني (بدعوى وضوح كثرة استعماله في الاستحباب أيضاً مع نقله كلام صاحب المعالم رحمه الله وأنّه بعد أن اختار كون الأمر حقيقة في خصوص الوجوب قال: «إنّه يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المرويّة عن الأئمّة عليهم السلام أنّ استعمال الأمر في الندب كان شائعاً في عرفهم بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي احتمالها من اللفظ لاحتمال الحقيقة عند انتفاء المرجّح الخارجي» مع أنّ كلامه رحمه الله هذا مرتبط بصيغة الأمر لا بمادّته فراجع): «وحينئذٍ فلابدّ وأن يكون الوجه في ذلك هو قضيّة الإطلاق ومقدّمات الحكمة، ثمّ قرّبه بوجهين:

الأوّل: أنّ الطلب الوجوبي لمّا كان أكمل بالنسبة إلى الطلب الاستحبابي لما في الثاني من جهة نقص لا

يقتضي المنع من الترك، فلا جرم عند الدوران يكون مقتضى الإطلاق هو الحمل على الطلب الوجوبي، إذ الطلب الاستحبابي باعتبار ما فيه من النقص يحتاج إلى نحو تحديد وتقييد، بخلاف الطلب الوجوبي، فإنّه لا تحديد فيه حتّى يحتاج إلى التقييد، وحينئذ فكان مقتضى الإطلاق بعد كون الآمر بصدد البيان هو كون طلبه طلباً وجوبياً لا استحبابياً.

الثاني: أنّ الأمر بعد أن كان فيه اقتضاء لوجود متعلّقه في مرحلة الخارج (ولو باعتبار منشئيته لحكم العقل بلزوم الإطاعة والامتثال) يكون اقتضائه- تارةً- بنحو يوجب مجرّد

انوار الأصول، ج 1، ص: 216

خروج العمل عن اللااقتضائيّة، بحيث كان حكم العقل بالإيجاد من جهة الرغبة لما يترتّب عليه من الأجر والثواب فحسب، واخرى يكون اقتضاؤه لتحريك العبد بالإيجاد بنحو أتمّ بحيث يوجب سدّ باب عدمه حتّى من طرف العقوبة على المخالفة علاوة عمّا يترتّب على إيجاده من المثوبة الموعودة، وفي مثل ذلك نقول: بأنّ قضيّة إطلاق الأمر يقتضي كونه على النحو الثاني لعدم تقيّده بشي ء (انتهى ملخّصاً) «1».

أقول: الأولى في المقام أن يقال: إنّ منشأ الانصراف أنّ طبيعة الطلب ليس فيها عدم الطلب وإذن في الترك، فإنّ الطلب بعث إلى الشي ء، والبعث يقتضي الانبعاث فلا سبيل لعدم الانبعاث في ماهيته، فالإلزام والوجوب لازم لطبيعة الطلب وماهيته، فما لم يصرّح المولى بالترخيص ولم يأذن بالترك ينصرف الطلب إلى الوجوب ويتبادر منه اللزوم، والشاهد على ذلك أنّه إذا لم يمتثل العبد أمر المولى اعتذاراً بأنّي كنت أحتمل الندب لم يقبل عذره ويقال له «إذا قيل لك افعل فأفعل».

نعم، إذا قامت قرينة على الاستحباب والترخيص لم يكن مجازاً لأنّ الموضوع له عامّ يشمل الوجوب والاستحباب وإن كان إطلاقه منصرفاً إلى الوجوب.

نعم أُورد على المحقّق العراقي رحمه

الله في تهذيب الاصول بأنّ «ما ذكره صاحب المعالم إنّما هو في صيغة الأمر دون مادّته كما أنّ مورد التمسّك بالاطلاق هو صيغة الأمر دون مادّته» «2».

لكن الإنصاف عدم ورود اشكاله بالنسبة إلى التمسّك بالاطلاق (وإن كان وارداً بالنسبة إلى نقل كلام صاحب المعالم كما أشرنا إليه ضمن نقل كلام هذا العلم) وذلك لأنّه لا فرق في هذه الجهة بين صيغة الأمر ومادّته، فكما تجري مقدّمات الحكمة ويمكن التمسّك بالاطلاق في صيغة الأمر، تجري أيضاً في مادّته من دون فرق بين ما يكون المولى فيه في مقام الإنشاء كما في قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ» وقوله عليه السلام: هذا ما أمر به عبداللَّه ... (في كتاب علي عليه السلام لمالك) وما يكون المولى فيه في مقام الإخبار كقوله عليه السلام: «أمر رسول اللَّه بالزكاة في تسعة أشياء» فإنّه يمكن أن يقال فيها أيضاً (كما يمكن أن يقال في صيغة الأمر) أنّ المولى كان في مقام البيان فأمر بشي ء من دون تقييد وبيان زائد يستفاد منه الاستحباب، فيستفاد منه الوجوب انوار الأصول، ج 1، ص: 217

من باب وجود نقيصة في الطلب الاستحبابي يحتاج رفعها إلى مؤونة زائدة من البيان.

إن قلت: يتمسّك بالاطلاق غالباً لادخال جميع الأفراد وشمول اللفظ لها جميعاً بينما التمسّك به هنا يكون لأجل تعيين أحد الفردين.

قلنا: المطلوب في التمسّك بالاطلاق إنّما هو نفي القيد لا تكثير الفرد وتجميع الأفراد، نعم نفي القيد يلازم غالباً في الخارج شمول الأفراد، كما أنّ التقييد يلازم غالباً إخراج الفرد وإلّا قد يستلزم من نفي القيد تعيين أحد الفردين كما إذا كان لعنوان كلّي فردان: أحدهما مع القيد، والآخر بدون القيد، فينفى باجراء أصالة الإطلاق القيد ويثبت

تعيين الفرد المطلق كما فعله المحقّق الخراساني رحمه الله (وتبعه الآخرون) في دوران الأمر بين الواجب التعييني والواجب التخييري، فإذا شككنا في أنّ التسبيحات الأربعة في الركعتين الأخيرتين مثلًا واجب تعييني أو يكون المكلّف مخيّراً بينها وبين قراءة الحمد، نتمسّك بإطلاق أدلّة التسبيحات ونقول: أمر الشارع بها وطلبها من المكلّف مطلقاً سواء قرأ سورة الحمد أو لم يقرأها.

ولكن التمسّك بالاطلاق لا يخلو عن إشكال، لأنّ الوجوب والاستحباب هما من مراتب الطلب ليس وأحدهما مطلقاً، والآخر مقيّداً، كما لا يخفى على الخبير.

فقد تلخّص من جميع ما ذكرنا:

أوّلًا: أنّ مادّة الأمر مشترك معنوي بين الوجوب والندب في اللّغة، والدليل هو ما مرّ من الاطّراد وعدم صحّة السلب عن مورد الاستحباب.

وثانياً: أنّها مع اشتراكها معنويّاً بحسب اللّغة تنصرف إلى الوجوب بمقتضى طبيعة الوجوب.

الأمر الثالث: في اتّحاد الطلب والإرادة

وهي مسألة كلاميّة قبل أن تكون مسألة اصوليّة وقد ذكرت ببعض المناسبات في الاصول، وعنوانها أنّه هل تكون الإرادة والطلب متّحدين في المعنى، أي هل يكون مفهوم الإرادة متّحداً مع مفهوم الطلب أو لا؟

ذهبت الأشاعرة وفئة قليلة من الإماميّة إلى اختلاف الإرادة والطلب مفهوماً ومصداقاً، وهو المستفاد هو أيضاً من بعض كلمات المحقّق النائيني رحمه الله، ولكن المعتزلة وأكثر الإماميّة على انوار الأصول، ج 1، ص: 218

اتّحادهما، وهم طائفتان: طائفة ذهبوا إلى اتّحادهما مفهوماً ومصداقاً، واخرى إلى اتّحادهما في خصوص المصداق.

ولا بدّ أوّلًا من تبيين أساس النزاع والجذور التاريخية للمسألة لكي يتّضح موضع النزاع ومحلّ الخلاف، ولكن المحقّق الخراساني رحمه الله حيث ورد في المسألة من أواسطها ولم يتعرّض لمنشأ الاختلاف وقع في بعض الإشكالات كما سيأتي.

فنقول: إن أصل هذه المسألة متفرّع من مسألة اخرى مطروحة في علم الكلام، وهي البحث عن وجود الكلام النفسي للباري

تعالى المتفرع بدوره من البحث في كلام اللَّه وأنّه هل هو قديم كسائر صفاته الذاتيّة أو حادث كسائر صفاته الفعليّة؟

توضيح ذلك: لا شكّ في أنّ اللَّه تبارك وتعالى متكلّم كما تكلّم مع أنبيائه وملائكته كما نطق به الأنبياء والكتاب الكريم في قوله تعالى مثلًا: «وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً» فمن صفاته جلّ وعزِ صفة «المتكلّم»، فوقع البحث حينئذ في أنّ هذه الصفة قديمة أو حادثة (أي أنّها من صفاته الذاتيّة أو الفعليّة كالخلق والرزق) وهذه المسألة من المسائل التي ازدحمت فيها الآراء وكثر فيها الخلاف واريقت بسببها الدماء في القرون الأوّلى للإسلام، بل إنّه هو الوجه في تسمية علم الكلام بإسم الكلام، فإنّ أكثر النزاع بين الأشاعرة والمعتزلة كان في الكلام النفسي- الأمر الذي صار من أسباب التفرقة الشديدة بين فرق المسلمين وآلة بأيدي طالبي الرئاسة والحكومة من بني العبّاس ومثاراً لايجاد التنازع والاختلاف من جانبهم تحكيماً لمباني حكومتهم وادامة لرئاستهم وتحقيقاً لميولهم النفسانيّة الخبيثة، فذهب الأشاعرة إلى أنّ كلام اللَّه قديم، والمعتزلة وجماعة الإماميّة إلى حدوثه لأنّ صفات الباري تعالى عندهم تقسّم إلى قسمين: صفات الذات وصفات الفعل، والقسم الأوّل قديم بقدم الذات والقسم الثاني حادث بحدوث أفعاله تعالى، فإنّ صفات الفعل عبارة عمّا ينتزعه الذهن بعد وقوع الفعل من ناحيته كصفة الخالق والرازق من دون أن تقوم بذاته تعالى، وحكي عن الحنابلة أنّهم قالوا بأنّ كلام اللَّه صفة حادثة قائمة بالذات القديم، حتّى نقل في المحاضرات عن كتاب المواقف عن بعضهم القول بأنّ جلد كلام اللَّه حادث قائم بالذات القديم فضلًا عن النقوش والخطوط، ولكنّه كما ترى غير لائق بالبحث.

وكيف كان: لا إشكال في صحّة قول المعتزلة وجماعة الإماميّة، لأنّ من الواضح أنّ كلام

انوار الأصول، ج 1، ص: 219

الباري تعالى مع موسى عليه السلام مثلًا عبارة عن أمواج صوتيّة خلقها اللَّه تعالى فظهرت على طور سيناء عن جانب الشجرة وسمعها موسى باذنيه، أو عبارة عن النقوش المكتوبة في كتابه الكريم بعد أن أوحى إليه صلى الله عليه و آله جبرئيل. فكلّ من تلك الأصوات وهذه النقوش مخلوق من مخلوقاته وفعل من أفعاله الحادثة.

وأمّا الأشاعرة فوقعوا في حيص وبيص في تفسير قولهم وبيان مرادهم من كلام اللَّه، لأنّه لو كان المراد منه النقوش فلا ريب في حدوثها، ولذلك ذهبوا إلى أنّ للكلام معنيين كلام لفظي وكلام نفسي، والكلام اللّفظي عبارة عمّا يجري على اللسان أو القلم وهو حادث، والكلام النفسي عبارة عن المعنى الموجود في فؤاد المتكلّم (إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما- جعل اللسان على الفؤاد دليلًا) وبالنسبة إلى الباري تعالى عبارة عمّا هو موجود في ذاته فيكون قديماً بتبع قدم ذاته، وحينئذ أورد عليهم من جانب الإماميّة والمعتزلة هذا السؤال: هل يكون الكلام النفسي بهذا المعنى غير علمه تعالى بالمفاهيم الكلّية وغير قدرته على إيجاد الأصوات (كما أنّ المراد بالسميع والبصير عبارة عن علمه بالمسموعات والمبصرات) فإن كان هو عينهما فلم تأتوا بشي ء جديد، وإن كان غيرهما فما هو؟ فوقعوا في حرج ولم يأتوا بجواب واضح بل ادّعوا أنّ للَّه تعالى صفة اخرى غير القدرة والعلم تسمّى بالكلام النفسي.

هذا كلّه في الأخبار والجمل الخبريّة.

وأمّا في الإنشاءات الواردة في القرآن الكريم كقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا» فقال المعتزلة أيضاً أنّ هذه النقوش أو الأصوات حادثة وحقيقتها هي إرادته تعالى والإرادة من الصفات المعروفة، فلا يكون في البين أيضاً صفة جديدة قائمة بالذات غير الصفات المعروفة.

وأمّا

الأشاعرة فادّعوا أنّ هنا صفة اخرى غير الإرادة تسمّى بالطلب، وهو من الصفات القديمة للباري تعالى قائمة بذاته.

فاجيب عنهم بأنّ الطلب هو نفس الإرادة ومتّحد معها، ومن هنا وقع النزاع بينهم في اتّحاد الطلب والإرادة.

فظهر أنّ النزاع في ما نحن فيه نزاع ميتافيزيقي، له جذور في المباحث الكلاميّة والمشاجرات الاعتقاديّة بين الأشاعرة والمعتزلة، فلا يمكن أن يقال: «إنّ النزاع لفظي وإنّ من انوار الأصول، ج 1، ص: 220

قال باختلافهما أراد من الإرادة الإرادة الحقيقيّة ومن الطلب الطلب الإنشائي ولا إشكال في اختلافهما، ومن قال باتّحادهما إرادة من الإرادة الإرادة الحقيقيّة ومن الطلب أيضاً الطلب الحقيقي ولا إشكال في اتّحادهما» فإنّ هذا بعيد عمّا ذكروه ومخالف لما أودعوا في كتبهم كما عرفت.

هذا أوّلًا، وثانياً: ليس النزاع في لفظ الطلب والإرادة والمعنى اللغوي لهما حتّى يقال: بأنّ ما نفهم من لفظ الطلب عرفاً ولغة غير ما نفهمه من لفظ الإرادة كذلك فيمكن حلّ المسألة بالرجوع إلى العرف واللّغة، بل النزاع في الواقع في مصطلح اخترعه الأشاعرة في باب صفات الباري باسم الطلب وادّعوا أنّه غير الإرادة في باب الإنشائيات والأوامر الإنشائيّة الموجودة في القرآن، كما ادّعوا في إخباره تعالى والجمل الخبريّة الموجوة في الكتاب الكريم وجود صفة اخرى له تعالى باسم الكلام النفسي وادّعوا أنّه غير علمه وقدرته.

دلائل الأشاعرة:
اشارة

ثمّ إنّ الأشاعرة استدلّوا لمقالتهم في باب الإنشائيات بامور:

الأوّل: الأوامر الامتحانيّة

حيث إنّها أوامر تصدر منه تعالى بداعي البعث والطلب فحسب ولا يكون وراءها جدّ ولا إرادة وهي تدلّ على وجود الطلب دون الإرادة وانفكاكها عنه في هذا الموارد، فهو يدلّ على تعدّدهما.

والجواب: عنه أنّه مبني على انحصار الإرادة في الإرادة الحقيقيّة مع أنّها على قسمين: إرادة إنشائيّة، وإرادة جدّية حقيقيّة، كما أنّ الطلب أيضاً ينقسم إلى الإنشائي والحقيقي، والموجود في الأوامر الامتحانيّة إنّما هو الإرادة الإنشائيّة والطلب الإنشائي وهو لا ينافي اتّحادهما.

ولتوضيح البحث ينبغي بيان حقيقة الامتحان: فنقول: فرق بين امتحان المخلوق للمخلوق وامتحان الخالق للمخلوق فإنّ حقيقة الأوّل إنّما هو كشف المجهول كما لا يخفى، وأمّا حقيقة الثاني إنّما هو إظهار الأعمال التي يستحقّ بها الثواب والعقاب (كما ورد في نهج البلاغة

انوار الأصول، ج 1، ص: 221

لأمير المؤمنين علي عليه السلام: «... لكن لتظهر الأفعال التي يستحقّ بها الثواب والعقاب» «1») وبالنتيجة إبراز الملكات النفسانيّة في صور الأعمال لأن يستعدّ الإنسان بذلك للرشد والتكامل.

وإن شئت قلت: إنّ حقيقة الأوامر الامتحانيّة مطلقاً سواء في الخالق والمخلوق عبارة عن مجرّد إنشاءات ليست ورائها إرادة حقيقيّة، تصدر من المنشى ء الآمر لاظهار الصفات النفسانيّة والسريرة الباطنية في مقام العمل بداعي كشف المجهول في امتحان المخلوق، وظهور الأفعال واستحقاق الثواب والعقاب في امتحان الخالق، فنتعلّق الإرادة الإنشائيّة والطلب الإنشائي هو العمل، وأمّا الإرادة الجدّية والطلب الحقيقي فلا يتعلّقان بنفس العمل، بل بكشف المجهول (في المخلوق) واستحقاق الثواب والعقاب (في الخالق).

ومن هنا يعلم أنّ الموجود في الأوامر الامتحانيّة إنّما هو الأمر الإنشائي المتّحد مع الإرادة الإنشائيّة لا الأمر الجدّي ولا الطلب الواقعي ..

الثاني: تكليف العصاة

وبيانه أنّه لا شكّ في أنّ التكاليف الإلهيّة تشمل المطيع والعاصي كما تشمل المؤمن والكافر، كما لا شكّ

في أنّ حقيقة التكليف هي طلب الفعل أو طلب الترك، فهو تبارك وتعالى طلب من العصاة أيضاً إتيان المكلّف به مع أنّه لو كان الطلب هو عين الإرادة لم يمكن عصيان العصاة لأنّ لازمه تخلّف إرادته تعالى عن مراده وهو محال كما قال في كتابه الكريم: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» «2»

فلابدّ من التفكيك بين الإرادة والطلب، وهو المطلوب.

والجواب عنه: أنّ للَّه تعالى إرادتين: إرادة تكوينيّة وإرادة تشريعيّة، وقد وقع الخلط بينهما هنا، فإنّ عدم إمكان تخلّف الإرادة عن المراد إنّما هو في الاولى لا الثانيّة، فإنّ الثانيّة أي الإرادة الإنشائيّة في الباري تعالى متعلّقها هو إتيان العبد العمل باختياره وبإرادته، فإنّ المفروض أنّ العبد أيضاً مختار ومريد، تارةً يريد الفعل واخرى يريد الترك.

وبالجملة الموجود في تكاليف العصاة إنّما هو الإرادة التشريعيّة والطلب التشريعي لا

انوار الأصول، ج 1، ص: 222

الإرادة التكوينيّة والطلب التكويني، وبعبارة اخرى: المتعلّق لامتثال العبد وإتيان العمل هو إرادته التشريعيّة وطلبه التشريعي وأمّا إرادته التكوينيّة وطلبه التكويني فإنّما تعلّق باختيار العبد وكونه مختاراً، فوقع الخلط في الواقع في كلام الأشاعرة بين الإرادة التكوينيّة والإرادة التشريعيّة، والاختلاف إنّما هو بين الإرادة التكوينيّة والطلب التشريعي وهو لا يلازم اختلاف الإرادة والطلب التشريعيين أو التكوينيين.

الثالث: تكليف المطيعين
اشارة

وبيانه على مبناهم في مسألة الجبر؛ إنّ فيها أيضاً يوجد الطلب دون الإرادة لأنّ الإرادة تتعلّق بالمقدور، والمقدور للإنسان عبارة عن ما ليس فيه مجبوراً، وحيث إنّه مجبور في تكاليفه فليست مقدورة له فلا تتعلّق بها الإرادة، وحينئذٍ تنفكّ عن الطلب.

والجواب عنه: أنّه لو كان المراد إرادة الإنسان وطلبه فكما لا إرادة له في غير المقدور له بناءً على كونه مجبوراً لا طلب له أيضاً، وبعبارة اخرى:

الطلب والإرادة إمّا يتعلّقان معاً بغير المقدور أو لا يتعلّقان معاً، ولا معنى لتعلّق أحدهما دون الآخر.

ولو كان المراد إرادة اللَّه تعالى فإنّه كما طلب تشريعاً أراد أيضاً تشريعاً، ولا يمكن التفكيك بينهما كما مرّ بيانه آنفاً في الجواب عن الدليل الثاني، وبالجملة قد وقع الخلط في هذا الدليل أيضاً بين الإرادة التكوينيّة والإرادة التشريعيّة وبين إرادة الخالق وإرادة المخلوق.

هذا- مضافاً إلى فساد المبنى وهو كون الإنسان مجبوراً كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى ومضافاً الى أنّه لا يناسب مبناهم من إنكار الحسن والقبح بالنسبة إلى أفعال الباري تعالى. وأنّ تكليفه تعالى العباد بما لا يكون مقدوراً لهم غير قبيح.

الرابع: أنّ للمحقّق النائيني رحمه الله هنا كلاماً يكون بمنزلة دليل رابع لاختلاف الإرادة مع الطلب وإليك نصّ كلامه: «إنّ الكلام في اتّحاد الطلب والإرادة يقع في موضعين:

الأوّل: في اتّحاد مفهومهما وعدمه.

والثاني: في أنّ الموجود في النفس المترتّب عليه حركة العضلات هل هو امور ثلاثة:

التصوّر والتصديق بالفائدة والشوق المؤكّد المعبّر عنه غالباً بالإرادة كما هو المعروف، أو هناك أمر آخر متوسّط بين الإرادة والحركة، ونسبته إلى النفس نسبة الفعل إلى فاعله لا نسبة

انوار الأصول، ج 1، ص: 223

الكيف إلى موضوعه (كما ذهب إليه جماعة من محقّقي المتأخّرين).

أمّا الكلام في الموضع الأوّل: فحاصله أنّ المدّعي للوحدة وجداناً إن أراد أنّ المفهوم من أحدهما هو عين المفهوم من الآخر بأن يكون لفظا الطلب والإرادة مترادفين فالإنصاف أنّ الوجدان على خلاف ما ادّعوه، فإنّ الإرادة باتّفاق الجميع عبارة عن الكيف النفساني القائم بالنفس، وأمّا الطلب فهو عبارة عن التصدّي لتحصيل الشي ء في الخارج فلا يقال: طالب الضالّة، إلّالمن تصدّى لتحصيلها في الخارج دون من يشتاق إلى تحصيلها فقط وإن لم

يتصدّ لتحصيلها في الخارج، وإطلاقه على الفعل النفساني بناءً على ثبوت مرتبة اخرى غير الإرادة فإنّما هو من باب أخذ الغايات وترك المبادى ء كما في إطلاق الأكل على مجرّد البلع دون مضغ، وإن أراد أنّهما مفهومان متغايران غاية الأمر أنّهما يصدقان على أمر واحد باعتبارين فهو وإن كان وجيهاً بالنسبة إلى الدعوى الاولى إلّاأنّه أيضاً فاسد في حدّ ذاته، فإنّ الإرادة كما عرفت من مقولة الكيف والطلب من مقولة الفعل، ويستحيل صدق المقولتين على أمر واحد باعتبارين لتباينهما.

وأمّا الموضع الثاني: فالحقّ فيه أيضاً أنّ هناك مرتبة اخرى بعد الإرادة تسمّى بالطلب وهو نفس الاختيار وتأثير النفس في حركة العضلات وفاقاً لجماعة من محقّقي المتأخّرين، ومنهم المحقّق صاحب الحاشية رحمه الله، والبرهان عليه أنّ الصفات القائمة بالنفس من الإرادة والتصوّر والتصديق كلّها غير اختياريّة فإن كانت حركة العضلات مترتّبة عليها من غير تأثير النفس فيها وبلا اختيارها فيلزم أن لا تكون العضلات منقادة للنفس في حركاتها وهو باطل وجداناً، وللزم أن تصدق شبهة أمام المشكّكين في عدم جواز العقاب بأنّ الفعل معلول للإرادة، والإرادة غير اختياريّة وأن لا يمكن الجواب عنها ولو تظاهر الثقلان كما ادّعاه، وأمّا الجواب عنها بأنّ استحقاق العقاب مترتّب على الفعل الاختياري أي الفعل الصادر عن الإرادة وإن كانت الإرادة غير اختياريّة فهو لا يسمن ولا يغني من جوع بداهة أنّ المعلول لأمر غير اختياري غير اختياري.

والحاصل: أنّ علّية الإرادة للفعل هادم لأساس الاختيار ومؤسّس لمذهب الجبر بخلاف ما إذا أنكرنا علّية الصفات النفسانيّة من الإرادة وغيرها للفعل، وقلنا: بأنّ النفس مؤثّرة بنفسها في حركات العضلات من غير محرّك خارجي، وتأثيرها المسمّى بالطلب إنّما هو من انوار الأصول، ج 1، ص: 224

قبل ذاتها

فلا يلزم محذور أصلًا ويثبت الأمر بين الأمرين.

إن قلت: إنّ الأمر الرابع الذي بنيت عليه ثبوت الأمر بين الأمرين هل هو ممكن أو واجب؟ لا سبيل إلى الثاني وعلى الأوّل فهل علّته التامّة اختياريّة أو غير اختياريّة وعلى الأوّل يلزم التسلسل، وعلى الثاني يتمّ مذهب الجبر.

قلنا: لا إشكال في كونه حادثاً وممكناً إلّاأنّه نفس الاختيار الذي هو فعل النفس وهي بنفسها، تؤثّر في وجوده فلا يحتاج إلى علّة موجبة لا ينفكّ عنها أثرها، إذ العلّية بنحو الإيجاب إنّما هي في غير الأفعال الاختياريّة، نعم لا بدّ في وجوده من فاعل، وهو النفس، ومرجّح وهي الصفات النفسانيّة، والاحتياج إلى المرجّح إنّما هو من جهة خروج الفعل عن العبثية، وإلّا فيمكن للإنسان إيجاد ما هو منافر لطبعه فضلًا عن إيجاد ما لا يشتاقه لعدم فائدة فيه، ثمّ إنّ المرجّح المخرج للفعل عن العبثية هي الفائدة الموجودة في نوعه دون شخصه بداهة أنّ الهارب والجائع يختار أحد الطريقين وأحد القرصين مع عدم وجود مرجّح في واحد بالخصوص» «1» (انتهى ملخّص كلامه).

وهناك عدّة ملاحظات في كلامه:

الاولى: أنّه قد ظهر بملاحظة تاريخ المسألة أنّها ليست مسألة لفظيّة لغويّة حتّى نتكلّم عن معنى الإرادة والطلب في اللّغة، فلا يمكن أن يكون النزاع في اتّحادهما مفهوماً ولغويّاً بل أنّه بحث كلامي وقع في اتّحادهما أو اختلافهما خارجاً بحسب ما اختاروه في بحث صفات الباري.

الثانيّة: أنّ الإرادة في تعريفهم ليست هي الشوق المؤكّد النفساني كما قال، كما أنّ دعوى كونه معروفاً ليست بثابتة، وإنّما الإرادة في تعريفاتهم عبارة عن الشوق المؤكّد المحرّك للعضلات، فهي في الواقع عبارة عن تلك المرحلة الرابعة المحرّكة للعضلات، وهي نفس الطلب أو الاختيار أو تأثير النفس على ما جاء في كلامه،

فكلّ من الطلب والإرادة يطلق على تلك المرتبة، فاللازم هو اتّحاد الإرادة والطلب فتأمّل.

الثالثة: أنّ ما ذكره من المراحل الأربعة في إرادة الإنسان خارج عن محلّ النزاع بأسره،

انوار الأصول، ج 1، ص: 225

لأنّ النزاع في إرادة اللَّه تعالى وطلبه لا إرادة الإنسان وطلبه، وفي الباري تعالى لا تتصوّر هذه المراحل، بل طلبه عين إرادته، وإرادته عين علمه على ما هو المعروف.

الرابعة: مع غضّ النظر عمّا ذكر، فلا ريب في أنّ الكلام في الطلب التسبيبي لا المباشري، فإنّ النزاع إنّما هو في الأوامر، وهي ما تتعلّق بفعل العباد، فتكون عبارة عن طلب الفعل بواسطة العبد، ولو سلّمنا لزوم الجبر من عدم الالتزام بالمراحل الأربعة المزبورة فهو إنّما في الطلب النفساني المباشري لا التسبيبي والإنشاء الخارجي، لأنّ انتفاء المرحلة الرابعة في طلب الآمر لا يلازم الجبر في أفعال العبد المأمور.

الخامسة: أنّ التصوّر والتصديق والشوق كثيراً ما تكون اختياريّة فلا يمكن أن يقال أنّها دائماً غير اختياريّة.

وأمّا ما ورد في كلامه ممّا يتعلّق بمسألة الجبر والاختيار من الإشكال والجواب فسنتكلّم عنها إن شاء اللَّه عن قريب عاجل، كما سنتكلّم أنّ الإرادة عين الاختيار فهي فعل إرادي بذاتها لا بإرادة اخرى، وعلى كلّ حال فهذا مرتبط بحلّ مشكلة الجبر لا مسألة اتّحاد الطلب والإرادة.

ثمّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا ما في كلام المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية حيث قال: الحقّ (كما عليه أهله وفاقاً للمعتزلة وخلافاً للأشاعرة) هو اتّحاد الطلب والإرادة بمعنى أنّ لفظيهما موضوعان بإزاء مفهوم واحد، وما بإزاء أحدهما في الخارج يكون بإزاء الآخر، والطلب المنشأ بلفظه أو بغيره عين الإرادة الإنشائيّة فهما متّحدان مفهماً وإنشاءً وخارجاً، وفي مراجعة الوجدان عند طلب شي ء والأمر به حقيقة كفاية فلا

يحتاج إلى مزيد بيان وإقامة برهان، ولو أبيت إلّاعن كونه موضوعاً للطلب مطلقاً سواء كان حقيقيّاً أو إنشائيّاً فلا أقلّ من كونه منصرفاً إلى الإنشائي منه عند إطلاقه لكثرة الاستعمال في الطلب الإنشائي، كما أنّ الأمر في لفظ الإرادة على عكس ذلك، فإنّ المنصرف عنها عند إطلاقها هو الإرادة الحقيقيّة واختلافهما في المعنى المنصرف إليه اللفظ ألجأ بعض أصحابنا إلى الميل إلى ما ذهب إليه الأشاعرة من المغايرة بين الطلب والإرادة.

ثمّ قال في ذيل كلامه: أنّه يمكن ممّا حقّقناه أن يقع الصلح بين الطرفين ولم يكن نزاع في البين بأن يكون المراد بحديث الاتّحاد ما عرفت من العينية مفهوماً ووجوداً، حقيقيّاً وإنشائيّاً،

انوار الأصول، ج 1، ص: 226

ويكون المراد بالمغايرة هو اثنينية الطلب الإنشائي والإرادة الحقيقيّة فيرجع النزاع لفظيّاً (انتهى ملخّص كلامه).

وقد ظهر ممّا ذكرنا ما يرد عليه:

أوّلًا: من أنّ النزاع ليس لفظيّاً لغويّاً بل هو نزاع متأصل موجود في علم الكلام من قديم الأيّام، كما مرّ بيانه.

وثانياً: ما ادّعاه من انصراف الطلب إلى الطلب الإنشائي عند إطلاقه دعوى بلا شاهد ودليل، كما أنّ دعوى كثرة استعماله في الإنشائي ليست بثابتة، والشاهد على ذلك موارد استعماله في الكتاب الكريم حيث إنّه استعمل فيه في أربعة موارد واريد منه في جميعها الطلب الحقيقي، كما أنّ التعبيرات الرائجة بيننا كطالب العلم وطلبة وطالب المال وطالب الضالّة يراد من جميعها الطلب الحقيقي، نعم الطلب من الغير ظاهر في الإنشائي كما لا يخفى.

ثمّ إنّ هنا كلاماً للمحقّق العراقي رحمه الله في توجيه مذهب القائلين بالتعدّد، وحاصله: أنّ هنا معنى آخر للطلب غير العلم والإرادة والحبّ والبغض، وهو البناء والقصد المعبّر عنه بعقد القلب في باب الاعتقادات حيث إنّه من جملة أفعال

النفس، ولذا قد يؤمر به كالبناء في باب الاستصحاب وفي الشكوك المعتبرة في الصّلاة، وقد ينهى عنه كما في التشريع المحرّم، ويكون كالإرادة في كونه ذا إضافة وإن خالفها في أنّها من مقولة الكيف وهذا من مقولة الفعل للنفس، فيمكن توجيه كلمات القائلين بالتعدّد بحمل الطلب في كلماتهم على مثل هذا البناء والقصد، والإرادة على تلك الكيفية النفسانيّة «1».

ولكن يرد عليه أيضاً أنّه إن كان المراد من البناء النفساني هو الاعتقاد الجازم بشي ء فهذا ليس من الطلب في شي ء، وإن كان المراد ما هو المحرّك للعضلات نحو العمل فليس إلّاالإرادة، وإن كان المراد البناء الذي يوجد مثله في باب التشريع وشبهه كما يظهر من كلماته فهذا وإن كان من أفعال النفس وكان مبايناً للإرادة ولكنّه ليس من الطلب في شي ء أيضاً، وتسميته طلباً لا يغيّر الواقع الذي هو عليه.

هذا تمام الكلام في أدلّة القائلين بالتعدّد.

انوار الأصول، ج 1، ص: 227

وأمّا القائلون باتّحادهما فاستدلّوا لها بوجوه:

أحسنها التمسّك بالوجدان حيث إنّا إذا راجعنا إلى أنفسها لا نجد أمرين: أحدهما: الطلب، والثاني: الإرادة، بل الإرادة من الغير إنّما هي البعث نحو العمل وتسمّى طلباً أيضاً، هذا في الإنشائيات، وكذلك في الإخباريات فلا نجد في أنفسنا شيئين: أحدهما: العلم، والثاني: الكلام النفسي، بل الموجود في النفس شي ء واحد، تارةً يسمّى بالعلم (وهو التصوّر والتصديق) واخرى يسمّى بالكلام النفسي.

هذا بالنسبة إلى أنفسنا، وكذلك بالنسبة إلى الباري تعالى، فإنّا بوجداننا لا نتصوّر ما وراء علمه وقدرته شيئاً يسمّى بالكلام النفسي حتّى نصدّقه، والتصديق فرع التصوّر وكذلك لا نتصوّر وراء الإرادة (وإرادته عين علمه) شيئاً باسم الطلب النفساني، وإذا لم يمكن تصوّره لم يمكن تصديقه، وهذا أمر ظاهر لا سترة عليه.

بقي هنا أمران:

الأمر

الأوّل: ذهب بعض الأعلام تبعاً لُاستاذه المحقّق النائيني رحمه الله إلى اختلاف الإرادة والطلب ببيان آخر يقرب ممّا مرّ، وهو أنّ الإرادة بواقعها الموضوعي من الصفات النفسانيّة، ومن مقولة الكيف القائم بالنفس، وأمّا الطلب فهو من الأفعال الاختياريّة الصادرة عن الإنسان بالإرادة والاختيار حيث إنّه عبارة عن التصدّي نحو تحصيل شي ء في الخارج، ومن هنا لا يقال: طالب الضالّة أو طالب العلم إلّالمن تصدّى خارجاً لتحصيلهما.

وبكلمة اخرى: أنّ الطلب عنوان للفعل سواء أكان الفعل نفسانياً أم خارجياً، فلا يصدق على مجرّد الشوق والإرادة النفسانيّة.

ويظهر ذلك بوضوح من مثل قولنا: «طلبت زيداً فما وجدته» أو «طلبت من فلان كتاباً مثلًا فلم يعطني» وهكذا، ضرورة أنّ الطلب في أمثال ذلك عنوان للفعل الخارجي وليس إخباراً عن الإرادة والشوق النفساني فحسب من دون الفرق بين أن يكون متعلّقاً بفعل نفس انوار الأصول، ج 1، ص: 228

الإنسان وأن يكون متعلّقاً بفعل غيره، فتحصّل أنّ الطلب مباين للإرادة مفهوماً ومصداقاً «1». (انتهى ملخّصاً).

أقول: يرد عليه أيضاً:

أوّلًا: ما مرّ كراراً من أنّ النزاع ليس لغويّاً بل النزاع في ما اصطلح عليه الأشاعرة بالنسبة إلى الباري تعالى وإلتزموا بوجود صفتين له تعالى، أحدهما يسمّى بالطلب والآخر يسمّى بالإرادة، ونتيجته أنّ الطلب غير الإرادة، لا أن يكون النزاع في أنّ مفهوم الطلب في اللّغة هل هو عين مفهوم الإرادة أو لا؟

ثانياً: لو سلّمنا كون النزاع لغويّاً فالصحيح أنّ للطلب في اللّغة قسماً واحداً يتعلّق بالفعل الخارجي فحسب ولا يكون له قسم آخر يسمّى بالطلب النفساني فقوله «إنّ الطلب عنوان للفعل سواء أكان الفعل نفسانياً أم خارجياً» لا محصّل له، كما أنّ ما ذكره من الأمثلة تشهد لذلك، فإنّ الطلب في جميعها متعلّق بأفعال خارجيّة

كما لا يخفى.

فتحصّل ممّا ذكرنا أنّه لو كان النزاع نزاعاً لغويّاً فالحقّ مع القائلين بالتعدّد لأنّ الطلب فعل خارجي والإرادة أمر نفساني، وأمّا إذا كان النزاع نزاعاً اصطلاحياً فلا شكّ في اتّحادهما بل لم يقل بالاختلاف أحد من الإماميّة، وأمّا ما مرّ من المحقّق النائيني رحمه الله وتلميذه في المحاضرات فهو مبني على جعلهما النزاع لفظيّاً لغويّاً كما مرّ.

الأمر الثاني: فيما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله تحت عنوان «وهم ودفع» من أنّه ليس غرض الأصحاب والمعتزلة من قولهم: «أنّه ليس في النفس غير العلم في الجمل الخبريّة، وغير الإرادة والتمنّي والترجّي والاستفهام في الجمل الإنشائيّة صفة اخرى قائمة بالنفس كانت كلاماً نفسياً ومدلولًا للكلام اللّفظي» إنّ تلك الصفات القائمة بالنفس هي المدلولات للكلام اللّفظي فيكون مدلول جملة «زيد قائم» «أعلم بقيام زيد» كما توهّمه القوشجي في شرح التجريد، بل المدلول للكلام اللّفظي هو غير تلك الصفات، فمدلول الجمل الخبريّة هو النسب الخبريّة المتحقّقة في الخارج، وأمّا مدلول الجمل الإنشائيّة فهو ما ينشأ بالصيغ المخصوصة في انوار الأصول، ج 1، ص: 229

عالم نفس الأمر من قصد ثبوت معانيها وتحقّقها، نعم لا مضايقة عن كونها مدلولات له بالالتزام، فالجمل الإنشائيّة تدلّ بالالتزام على ثبوت تلك الصفات في النفس، (انتهى ملخّصاً).

أقول: إنّ ما ذكره من التوجيه لكلام الأصحاب خروج عن ظاهر كلماتهم، فإذا رجعنا إلى الجذور التاريخية للمسألة فسوف نجد أنّ مراد الأشاعرة من قدم كلام اللَّه ووجود صفة اخرى غير الصفات المشهورة في ذات اللَّه- أنّ مدلول هذه الألفاظ كان موجوداً في ذاته منذ القديم مع عدم كونه عين علمه وقدرته، ومراد الأصحاب من الانكار عليهم أنّه ليس في البين صفة اخرى غير العلم والقدرة، فليس النزاع في

ما وضع له لفظ الطلب والإرادة حتّى يكون مراد الأشاعرة أنّ ما وضع له لفظ الطلب ليس هو العلم والقدرة بل هو صفة اخرى، ويكون مفهوم قول من ينكره أنّ ما وضع له لفظ الطلب هو نفس العلم، إمّا بالمطابقة كما نسب إلى القوشجي، أو بالالتزام كما إلتزمه المحقّق الخراساني رحمه الله في ذيل كلامه، بل النزاع في أنّه إذا كان كلامه تعالى قديماً فما المقصود بالقديم؟ هل هو نفس العلم أو القدرة أو صفة اخرى؟ فيدّعي الأشاعرة أنّه صفة اخرى غيرهما، ويقول الإماميّة والمعتزلة: أنّه نفس العلم أو القدرة، وحينئذٍ لا يبقى مجال لما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله في قوله: «وهم ودفع».

هذا تمام الكلام في الطلب والإرادة.

الرابع: في الجبر والاختيار
اشارة

وحيث انتهى كلام بعضهم في مسألة اتّحاد الطلب والإرادة إلى مسألة الجبر والاختيار حتّى أنّ بعضهم صرّح بأنّ لازم القول باتّحادهما هو القول بالجبر، وأنّه لا مناصّ عن القول بتعدّدهما على مذهب الاختيار فلابدّ لنا أن نتعرّض لهذه المسألة تتميماً لما اخترناه من مسألة الاتّحاد، مضافاً إلى ما في نفس المسألة من الأهميّة الكبيرة في جميع الأبواب من العقائد والاصول والفروع والأخلاق والتفسير والحديث، فنقول (ومن اللَّه نستمدّ التوفيق والهداية):

ذهب جماعة إلى أنّ العبد مجبور في أعماله، وهم على طائفتين، طائفة من الالهيين، وطائفة اخرى من المادّيين.

والالهييون ذهبوا إلى أنّ أفعال العباد تتحقّق بإرادة اللَّه، أي عند إرادة العبد لفعل معين تؤثّر إرادة اللَّه في تحقّقه ولا أثر لإرادة العبد نفسه، بل إنّما هو مكتسب في البين، أي الفاعل إنّما

انوار الأصول، ج 1، ص: 230

هو اللَّه تعالى فقط وأمّا العبد فهو يوجد الفعل عند إرادته.

وكلامهم هذا لا يختصّ بالأفعال الاختياريّة للإنسان بل يأتي في جميع العلل والمعلولات،

فكلّ علّة تؤثّر في معلولها بإرادة اللَّه تعالى، فالنار مثلًا لا تحرق بل إرادته محرقة مقارنة لإلقاء شي ء في النار.

وبعبارة اخرى: عادة اللَّه جرت على إيجاد كلّ معلول عند وجود علّته، وبعبارة ثالثة: صدور الفعل من اللَّه يقترن دائماً بإرادة الإنسان، فالإحراق هو فعل اللَّه مباشرةً ولكنّه يفترن بنحو الصدفة الدائمية بالنار.

والمادّيون يقولون: أنّ فعل الإنسان معلول كسائر المعلولات في عالم الطبيعة يتحقّق في الخارج جبراً وقهراً من دون أن يكون اختياريّاً، والاختيار مجرّد توهّم وخيال يرجع في الواقع إلى عدم تشخيص العلل الخفيّة المؤثّرة في وجود الفعل كالمحيط والوراثة والغريزة.

وهذه مسألة لها جذور تاريخية قديمة بل هي من أقدم المسائل التاريخية، تمتد إلى حيث بداية الإنسان، فإنّ الإنسان من بدو وجوده كان يرى نفسه متردّداً بين الأمرين، فمن جانب كان يرى عدّة من العوامل الخارجيّة تؤثّر في أفعاله وإرادته، ومن جانب اخرى يرى فرقاً بينه وبين الحجر الذي يسقط من الفوق على الأرض، فقال قوم بالاختيار، وقال قوم بالجبر.

استدلّ الطائفة الاولى من الجبريين على مذهبهم بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّه لا شكّ في أنّ اللَّه تعالى مريد، وإرادته نافذة في كلّ الأشياء، ولا حدّ لارادته، ولا يوجد شي ء في عالم الوجود من دون إرادته، ومن جملة الأشياء جميع أفعال العباد، فهي أيضاً تحت نفوذ إرادته، وإلّا يلزم تخلّف إرادته عن مراده أو خروج أفعال العباد عن سلطانه، فإذا تعلّقت إرادته بعصيان العبد أو اطاعته لا يمكن للعبد التخلّف عنه فإنّه إذا أراد اللَّه شيئاً فإنّما يقول له كن فيكون، ولا يقال أنّ هذه إرادة تشريعيّة له، بل إرادته التكوينيّة نافذة في كلّ شي ء ومحيطة على كلّ شي ء ولا يوجد شي ء في هذا العالم إلّابهذه الإرادة.

هذا ملخّص

كلامهم في الدليل الأوّل الذي يمكن تمسيته بإسم توحيد الإرادة وشمولها.

والجواب عنه: أنّا ننكر نفوذ إرادته تعالى في جميع الأشياء، بل نقول أنّ من الأشياء التي انوار الأصول، ج 1، ص: 231

تعلّقت مشيئته وإرادته بها هو كون العبد مختاراً في أفعاله، فهو أراد واختار أن يكون العبد مريداً ومختاراً، وحينئذٍ لازم عدم كون الإنسان مختاراً تخلّف إرادته عن مراده وعدم نفوذ إرادته ومشيّته في جميع الأشياء، وهو خلف.

وبعبارة اخرى: المؤثّر في تحقّق الأفعال في الخارج ارادتان: إرادة العبد وإرادة اللَّه، ولكن إرادة العبد في طول إرادة اللَّه، فلا تنافي إطلاق سلطنته ونفوذ مشيّته في جميع الأشياء، فاللَّه يريد كون العبد مختاراً في أفعاله، والعبد يريد الفعل باختياره وإرادته.

الوجه الثاني: ما يشبه الدليل الأوّل، ولكنّه من طريق آخر وهو وصف الخالقية، ببيان إنّ اللَّه تعالى خالق لكلّ شي ء، ولا شريك له في خالقيته لجميع الأشياء التي فاللَّه أفعال العباد هو الخالق لأفعال الإنسان لا أنّ الإنسان هو خالق لها (وهذا دليل عموم الخلقة وتوحيدها).

والجواب عنه: يشبه الجواب عن الوجه السابق، وهو أنّ خلق العبد أفعاله أيضاً يكون ناشئاً من إرادته وخالقيته، فإنّه تعالى خلق للعبد إرادة خالقة وجعله قادراً على الخلق والإيجاد في أفعاله، فخلق العبد في طول خلق اللَّه، وقدرته على الخلق في طول قدرته، فاللَّه تبارك وتعالى خالق بالذات ومستقلًا، والعبد خالق بالغير وفي طول خلقه، وخلقه مستند إلى خلقه، وهذا لا يعدّ شركاً بل هو عين التوحيد.

الوجه الثالث: دليل العلم، وبيانه أنّ اللَّه تعالى كان عالماً بأفعال العباد خيرها وشرّها وطاعتها ومعصيتها بتمام خصوصّياتها من الأزل ولا بدّ من وقوعها مطابقة لعلمه (سواء كان علمه علّة لها أو كاشفاً عنها) وإلّا يلزم أن يصير

علمه جهلًا، فنحن مجبورون في أفعالنا حتّى لا يلزم هذا المحذور الفاسد (وهذا ممّا ظهر في لسان بعض الأشعار كقول الشاعر الفارسي: «گر مى نخورم علم خدا جهل شود» أي لو لم أشرب الخمر لكان علمه تعالى جهلًا لأنّه كان يعلم من الأزل أنّي أشرب الخمر!

والجواب عنه أيضاً واضح، لأنّه تعالى كان يعلم من الأزل أنّ العبد يصدر منه الفعل باختياره وإرادته (أي إرادة العبد) فلو صدر منه الفعل جبراً لزم صيرورة علمه تعالى جهلًا، لأنّه كان يعلم بصدوره عن اختياره، ولذا قال الشاعر الفارسي العالم الخبير في الجواب عن الشعر السابق «علم ازلى علت عصيان گشتن- نزد عقلا ز غايت جهل بود»، وهذا نظير نسخة المريض التي يكتبها الطبيب لرفع مرضه مع أمره باجتنابه عن بعض المأكول أو

انوار الأصول، ج 1، ص: 232

المشروب، فلو فرضنا أنّ الطبيب علم من بعض القرائن عدم امتثاله وارتكابه لما نهى عنه وبالنتيجة دوام مرضه وموته، فهل يمكن حينئذٍ أن يستند موت المريض إلى علم الطبيب؟

وهكذا إذا علم الاستاذ الممتحن عدم نجاح تلميذه في الامتحان من بعض القرائن من قبل، فهل يصحّ أن يستند عدم نجاحه إلى علم الاستاذ؟ أو فرضنا اختراع آلة ينعكس فيها جميع أفعال العباد والحوادث الآتية فهل يجوز استناد جميع تلك الحوادث إلى تلك الآلة؟ كلّا، فإنّ علم الباري تعالى بأفعال عباده من هذا الباب.

والإنصاف أنّ هذا الدليل أشبه شي ء بالمغالطة، وسيأتي أنّ الميل إلى مذهب الجبر ليس له دليل فلسفي برهاني، بل له جذور أخلاقيّة أو اجتماعيّة أو نفسانيّة، وأنّ الإنسان يميل إليه ويلتزم به لأن يكون مستريحاً في المعاصي في مقابل وجدانه القاضي بعصيانه والحاكم باستحقاقه للمذمّة والعقاب، وقد قال اللَّه تعالى في حقّ

منكري القيامة: «بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ» «1»

وهكذا حال منكري الاختيار المتمسّكين بمذهب الجبر.

هذا كلّه ما استدلّ به الجبريون المعتقدون باللَّه.

وهناك وجوه اخرى للقول بالجبر يشترك فيها كلتا الطائفتين الالهيّون والمادّيون:

الوجه الأوّل: برهان التكرار

وهو أنّه لو كنّا مختارين في أعمالنا لوجب القدرة على تكرار الأعمال بعينها، فإذا ألقينا حجراً في موضع خاصّ وكان هو معلولًا لاختيارنا وإرادتنا فلنكن قادرين على إلقائه في نفس ذلك الموضع في المرّة الثانيّة مع أنّه نتخلّف عنه غالباً، بل قد يقع على نفس الموضع السابق صدفة.

وأجاب عنه المحقّق الطوسي رحمه الله: بوجهين ولنا جواب ثالث لعلّه أدقّ منهما:

الأوّل: فهو النقض بأنّه قد يصدر عنّا أعمال تكراريّة متشابهة كحركة اليد والأصابع.

انوار الأصول، ج 1، ص: 233

الثاني: (هو جواب حلّي منه رحمه الله) فهو إنّا غير عالمين بتفاصيل العمل وإلّا لو علمنا به تفصيلًا لكنّا قادرين على تكراره بعينه، فمثلًا لو علمنا بمقدار الماء في الاغتراف الأوّل لأستطعنا أن نغترف منه بنفس ذلك المقدار في المرّة اللّاحقة.

وأمّا الجواب الثالث فهو أن نقول: إنّ الاختياري من العمل في المثال المزبور إنّما هو أصل إلقاء الحجر فحسب، وهو ممّا يمكن تكراره بعينه بلا إشكال، وأمّا خصوصّياته وجزئياته فلا بأس بكونها خارجة عن الاختيار.

وبعبارة اخرى: ههنا عدّة من العوامل الجبريّة تكون دخيلة في عمل الإلقاء كبعض ارتعاشات اليد ومقدار القوّة الموجودة في اليد في كلّ مرّة ولكنّها لا تنافي اختياريّة أصل العمل كما لا يخفى.

الوجه الثاني: برهان العلم بالتفاصيل

وبيانه أنّ اختياريّة العمل تستلزم العلم بتفاصيله وهو مفقود بالوجدان كما في حركة الساهي أو النائم وانقلابه من جنب إلى جنب وفي الأعمال الاعتياديّة، فلا يعلم الإنسان بكميّة عمله وكيفيته (في المثال الأوّل) كما لا يعلم بعدد خطواته وكيفيتها (في المثال الثاني وفي الأعمال الاعتياديّة) فإن كانت هذه الأعمال اختياريّة له فكيف لا يكون عالماً بتفاصيلها؟

وأجاب عنه المحقّق الطوسي رحمه الله: بما يخصّ بالمثال الأوّل بأنّ ملاك اختياريّة العمل إنّما هو صدوره عن علم

وإلتفات، وهما منفيان في حال النوم أو السهو، فلا يكون العمل في هذا الحال اختياريّاً.

وأمّا في المثال الثاني وهو الأعمال الاعتياديّة فيمكن أن يقال: أنّها معلومة إجمالًا لأنّها قبل أن تصير اعتياديّة كانت تصدر من الإنسان عن علم وإلتفات تفصيلي، وبعد تحقّق العادة أيضاً تصدر عن علم وإلتفات، ولكن على نحو الإجمال، ولا دليل على اعتبار العلم التفصيلي في اختياريّة الأعمال.

الوجه الثالث: برهان العلّية

أي «قاعدة الشي ء ما لم يجب لم يوجد»

انوار الأصول، ج 1، ص: 234

بيانه: أنّه لا إشكال في أنّ كلّ معلول ما لم تتحقّق علّته التامّة لم يوجد، بل يمتنع وجوده، فإذا تحقّقت علّته التامّة فلابدّ من تحقّق المعلول، ولا يمكن تخلّفه عنها، فكلّ فعل عند تحقّق علّته واجب وجوده، وعند عدم تحقّق علّته ممتنع وجوده، فأمره دائماً دائر بين الوجوب والامتناع، أي أنّه إمّا ضروري الوجود، أو ضروري العدم، وهذا هو معنى الجبر، فلا اختيار في البين.

والجواب عنه: أنّ الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار كما أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافيه أيضاً

وتوضيحه: إنّا نقبل قاعدة «إنّ الشي ء ما لم يجب لم يوجد» ولكن نقول أيضاً: إنّ الجزء الأخير للعلّة التامّة في الأفعال الاختياريّة هو الإرادة والاختيار، ولا إشكال في أنّ الوجوب الذي ينشأ من العلّة التي يكون جزؤها الأخير الاختيار لا ينافي الاختيار، بل يؤكّد الاختيار.

الوجه الرابع: برهان الإرادة

(الذي أدرجه بعض في برهان العلّية ولكن ينبغي إفراده عنه لما فيه من خصوصيّة التبيين) وهو عبارة عن «أنّ اختياريّة العمل إنّما تكون بالإرادة، فننقل الكلام إلى الإرادة ونقول: هل الإرادة أيضاً إراديّة واختياريّة، أو لا؟ فإن لم تكن إراديّة لزم، كون الفعل الذي ينتهي إليها غير ارادي أيضاً، وإن كانت إراديّة فلابدّ أن تكون تلك بإرادة اخرى، ثمّ ننقل الكلام إلى تلك الإرادة، فإن كانت إراديّة فيلزم التسلسل وإلّا لزم الجبر، فيدور الأمر بين قبول التسلسل وقبول مذهب الجبر، وحيث إنّ الأوّل باطل فيتعيّن الثاني.

وهذا هو من أهمّ أدلّتهم، وهو الذي بالغ فيه أمام المشكّكين حتّى توهّم أنّه لو اجتمع الثقلان لم يأتوا بجوابه.

ولكن اجيب عنه بوجوه عديدة:

الوجه الأوّل: ما أجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه الله وحاصله: أنّ الثواب والعقاب

يترتّبان على الإطاعة والمعصية، وهما تنشئان من الإرادة، والإرادة أيضاً تنشأ من مقدّماتها الناشئة من الشقاوة والسعادة الذاتيتين، والذاتي لا يعلّل، والسعيد سعيد في بطن امّه والشقي شقي في بطن امّه والناس معادن كمعادن الذهب والفضّة كما في الخبر.

انوار الأصول، ج 1، ص: 235

وقد نقل عنه رحمه الله أنّه عدل عن هذه المقالة بعد ذلك.

وكيف كان، يرد عليه:

أوّلًا: أنّ كلامه هذا يوجب إراديّة الفعل في مقام التسمية فحسب لا الواقع، وهو لا يوافق مذهب الاختيار والأمر بين الأمرين حقيقة كما هو ظاهر.

ثانياً: إذا كانت الشقاوة ذاتيّة وتكون هي المنشأ الأصلي للعصيان فكيف يؤاخذ اللَّه العاصي بما هو ذاتي له؟ فهل هو إلّاظلم فاحش (تعالى اللَّه عنه علوّاً كبيراً)؟

وأمّا ما استشهد به من الرّوايتين فالحقّ أنّ الثاني منهما (وهو قوله صلى الله عليه و آله الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة) على خلاف مقصوده أدلّ، لأنّه يقول: أنّ جميع الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة، فهم على تفاوتهم واختلاف درجاتهم (كتفاوت درجات معادن الذهب والفضّة) حسن السريرة بحسب ذواتهم وسعداء بحسب فطرتهم الأوّليّة فلا شقاوة ذاتيّة لهم.

الأوّل: منهما وهو قوله صلى الله عليه و آله: «السعيد سعيد في بطن امّه والشقي شقي في بطن امّه» فقد فسّر بتفسيرين:

أحدهما: أنّ اللَّه تبارك وتعالى يعلم أنّ المولود الفلاني يصير سعيداً أو شقيّاً. (كما في الخبر).

وثانيهما: حمله على المقتضيات الذاتيّة، فيكون المراد منه أنّ بعض الناس أقرب إلى السعادة بحسب اقتضائه الذاتي واستعداده الفطري، وبعض آخر أقرب إلى الشقاوة كذلك من دون أن يكون هذا القرب أو البعد علّة تامّة للطاعة أو العصيان، بل الجزء الأخير هو إرادة واختيار الإنسان نفسه.

إن قلت: هذا وإن كان يرفع الجبر ولكن أليس هو تبعيض قبيح

عند العقل؟

قلنا: أنّه كذلك إذا كانت مجازاتهما بنسبة واحدة، مع أنّه ليس كذلك، لأنّ كلّ إنسان يجازى على عمله بملاحظة الشرائط والمساعدات الذاتيّة والعائلية والوراثيّة والاجتماعيّة، فيكون الميزان في الثواب والعقاب نسبة العمل مع مقدار الإمكانات والعلم والاستعداد، فمن كانت قدرته ومكنته أكثر، ينتظر منه سعي أكثر وعمل أوفر، ومن هذا الباب يقال حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين، وقوله تعالى لنساء النبي صلى الله عليه و آله: «يَا نِسَاءَ النَّبِىِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ

انوار الأصول، ج 1، ص: 236

يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ...» «1»

وقوله تعالى للحواريين بعد طلبهم نزول المائدة من السماء: «إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لَاأُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنْ الْعَالَمِينَ» «2».

الوجه الثاني: ما مرّ من المحقّق النائيني رحمه الله في البحث عن اتّحاد الطلب والإرادة (واستحسنه بعض أعاظم تلامذته في هامش تقريراته وزاده توضيحاً ومثالًا وقال: ما أفاد شيخنا الاستاذ هو محض الحقّ الذي لا ريب فيه) وقد وعدنا أن نجيب عن ما يرتبط من كلامه بمبحث الجبر والاختيار في هذا المقام.

فنقول: كان كلامه ذاك مركّباً من خمس مقدّمات:

الاولى: إنّ الإرادة عبارة عن الشوق المؤكّد، ولكن هناك أمر آخر متوسّط بين الإرادة وحركة العضلات يسمّى بالطلب، وهو عبارة عن نفس الاختيار وتأثير النفس في الحركة.

الثانيّة: إنّ النفس مؤثّرة بنفسها في حركات العضلات من غير سبب خارجي وواسطة في البين.

الثالثة: إنّ قاعدة «الشي ء ما لم يجب لم يوجد» مختصّة بالأفعال غير الاختياريّة.

الرابعة: إنّ الاحتياج إلى المرجّح في وجود الفعل من ناحية فاعله (وهو النفس) إنّما هو من جهة خروج الفعل عن العبثية وإلّا فيمكن للإنسان إيجاد ما هو منافر لطبعه فضلًا عن إيجاد ما لا يشتاقّه لعدم فائدة فيه.

الخامسة: إنّ المرجّح

المخرج للفعل عن العبثية هي الفائدة الموجودة في نوعه، دون شخصه بداهة أنّ الهارب والجائع يختار أحد الطريقين وأحد القرصين مع عدم وجود مرجّح في واحد بالخصوص، ويعلم من ذلك عدم وجود أمر إلزامي إجباري يوجب صدور الفعل حتّى يهدم أساس الاختيار، وأمّا الاختيار فهو فعل النفس وهي بذاتها تؤثّر في وجوده، والمرجّحات التي تلاحظها النفس إنّما هي لخروج الفعل عن كونه عبثاً لا أنّها موجبة للاختيار.

أقول: يرد على الاولى: مناقشة لفظيّة وهي أنّ الإرادة عند المشهور ليست عبارة عن مجرّد الشوق المؤكّد فحسب بل إنّما هي الشوق المؤكّد المحرّك للعضلات.

انوار الأصول، ج 1، ص: 237

وعلى الثانيّة: أنّ كون النفس علّة تامّة للفعل أو الترك ينافي تسويتها بالنسبة إلى كلّ من الفعل والترك وأنّها إن شاءت فعلت وإن شاءت تركت، أي ينافي حالة اختيارها، لأنّ كونها علّة تامّة للفعل أو الترك يستلزم دوران الأمر بين الوجوب والامتناع بمقتضى قاعدة «الشي ء ما لم يجب لم يوجد»، وإنكاره جريان هذه القاعدة في الأفعال الاختياريّة (وهي المقدّمة الثالثة) يساوق إنكار قانون العلّية والتسليم بالصدفة كما لا يخفى.

وعلى الرابعة والخامسة: أنّ كفاية المرجّح النوعي إنّما هي في رفع العبثية، وأمّا إذا كان المرجّح مؤثّراً في تكوّن العلّة التامّة وتحقّقها فلا يكفي بل لا بدّ من المرجّح الشخصي، لأنّ المرجّح النوعي قد تكون نسبته إلى الفعل والترك على السواء، نعم إنّ كلامه صحيح بناءً على مبناه من عدم جريان قاعدة «الشي ء ما لم يجب لم يوجد» في الأفعال الاختياريّة.

وأمّا مثال الهارب والعطشان فإنّا ننكر عدم وجود مرجّح شخصي فيهما بل ندّعي وجود مرجّح خاصّ فيهما قطعاً كقرب أحد الإنائين أو سبق النظر إلى أحدهما من الآخر، وإلّا لو لم يلتفت إلى

مرجّح خاصّ لتوقّف في المشي أو الشرب، ولكن هذا مجرّد فرض، فتلخّص أنّ حلّ مشكلة الإرادة من هذا الطريق غير ممكن وإن كان بعض ما ذكره من المقدّمات صحيح، وعمدة ما يرد عليه هو ما ذكره في إستثناء الأفعال الاختياريّة من قاعدة: الشي ء ما لم يجب لم يوجد، فإنّه مساوق لانكار قانون العلّية كما لا يخفى.

الوجه الثالث: ما أفاده المحقّق العراقي رحمه الله في المقام وإليك نصّ كلامه: «إنّ عوارض الشي ء على أقسام ثلاثة:

أحدها: ما يعرض على الشي ء وليس بلازم لوجوده ولا لماهيته كالبياض للجسم مثلًا.

ثانيها: ما يعرض الشي ء ويكون لازماً لماهيته (كزوجيّة الأربعة).

ثالثها: ما يعرض الشي ء ويكون لازماً لوجوده كالحرارة للنار، أمّا القسم الأوّل فلا ريب في أنّ جعل المعروض (بمعنى إيجاده) لا يستلزم جعل عارضه، بل يحتاج العارض إلى جعل مستقلّ، وأمّا القسمان الأخيران فما هو قابل لتعلّق الجعل به هو المعروض وهو المجعول بالذات، وأمّا لازم كلّ من القسمين المذكورين فيحقّق قهراً بجعل نفس ملزومه ومعروضه بلا حاجة إلى جعل مستقلّ، فإرادة المعروض تكفي في تحقّقه عن تعلّق إرادة أزليّة اخرى به.

ثمّ قال: إذا عرفت ذلك: فاعلم أنّ أوصاف الإنسان على قسمين:

أحدهما: إنّه يكون من عوارض وجوده وليس بلازم لوجوده أو ماهيته كالعلم والضحك انوار الأصول، ج 1، ص: 238

ونحوهما، وقد عرفت أنّ هذا النحو من العوارض يحتاج إلى جعل مستقلّ يتعلّق به.

ثانيهما: أنّ يكون الوصف من لوازم وجوده كصفة الاختيار للإنسان، فإنّه من لوازم وجوده ولو في بعض مراتبه، وقد عرفت أنّ هذا النحو من الأوصاف لا يحتاج في تحقّقه إلى جعل مستقلّ غير جعل معروضه، فالانسان ولو في بعض مراتب وجوده مقهور بالاتّصاف بصفة الاختيار، ويكفي في تحقّق صفة الاختيار للإنسان

تعلّق الإرادة الأزليّة بوجود نفس الإنسان.

ثمّ قال: لا ريب في أنّ كلّ فعل صادر من الإنسان بإرادته، له مبادى ء كعلم بفائدته وكشوق إليه وقدرة عليه واختياره في أن يفعله وأن لا يفعله وإرادته المحرّكة نحوه، وعليه يكون للفعل الصادر من الإنسان نسبتان:

إحداهما: إليه باعتبار تعلّق اختياره به الذي هو من لوازم وجود الإنسان المجعولة بجعله لا بجعل مستقلّ.

والاخرى: إلى اللَّه تعالى باعتبار إيجاد العلم بفائدة ذلك الفعل في نفس فاعله وإيجاد قدرته عليه وشوقه إليه إلى غير ذلك من المبادى ء التي ليست من لوازم وجود الإنسان، وحينئذٍ لا يكون الفعل الصادر من الإنسان بإرادته مفوّضاً إليه بقول مطلق ولا مستنداً إليه تعالى كذلك ليكون العبد مقهوراً عليه، ومعه يصحّ أن يقال: لا جبر في البين لكون أحد مبادى ء الفعل هو اختيار الإنسان المنتهى إلى ذاته، ولا تفويض بملاحظة كون مبادئه الاخرى مستندة إليه تعالى ولا مانع من أن يكون ما ذكرنا هو المقصود بقوله عليه السلام: لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين» «1».

ويمكن تلخيص مجموع كلامه هذا في ثلاث مقدّمات:

الاولى: أنّ الاختيار من لوازم وجود الإنسان وذاته ولا يحتاج إلى جعل مستقلّ عن جعل ذاته.

الثانيّة: أنّ الاختيار غير الإرادة فإنّه صفة كامنة في النفس وموجود فيها بالفعل وعند تحقّق الفعل يصير بالفعل.

انوار الأصول، ج 1، ص: 239

الثالثة: أنّ الفاعل للفعل هو الإنسان بوصف كونه مختاراً والباقي شروط ومعدّات.

ولكن يرد على المقدّمة الاولى: أنّه لا حاجة إليها لأنّه وإن كان الاختيار مجعولًا بجعل مستقلّ فمع ذلك لا يضرّ بكون العمل اختياريّاً، لأنّه على أيّ حال: خلق مختاراً، أي تكون أصل قوّة الاختيار جبريّاً وقهريّاً، وهذا لا ينافي أن يكون الفعل المستند إلى هذه القوّة اختياريّاً

كما لا يخفى.

وعلى الثانيّة: أنّها مبهمة من جهة أنّه لا يعلم أنّ مراده ما ذكره المحقّق النائيني؛ من أنّ الاختيار نفس الطلب والطلب غير الإرادة، أو غير ذلك، فإن كان الأوّل فقد عرفت الكلام فيه، وإن كان غير ذلك فليبيّن حتّى يبحث عنه.

وأمّا الثالثة: فلا مانع من المساعدة عليها، لكن يبقى الكلام في أنّ الإنسان المختار متساوي النسبة إلى وجود الفعل وعدمه فكيف يصدر الفعل منه دون عدمه فإن كان هو من جهة تخصيص قاعدة الوجوب فيعود الإشكال الذي ذكرناه في كلام المحقّق النائيني رحمه الله أو شي ء آخر فما هو؟

المختار في حلّ مشكلة الإرادة على مذهب الاختيار
اشارة

الحقّ في المسألة أن يقال: إنّ هناك أمرين:

1- صفة الاختيار وقوّته التي تكون ذاتيّة للإنسان، ومقتضى هذه الصفة هي كون الإنسان بالنسبة إلى أفعاله على نحو سواء بحيث إنّ شاء فعل وإن شاء ترك.

2- الاختيار الفعلي، وهو نفس الإرادة والانتخاب في الخارج والتصدّي للعمل.

فإنّه بعد تصوّر الإنسان لفعل وتصديق الفائدة فيه وحصول الشوق المؤكّد له ترد صفة الاختيار في ميدان العمل وتنتخب الفعل أو الترك.

وإن شئت قلت: ترد النفس في ميدان العمل بصفة الاختيار وقوّته التي تكون من شؤونها وذاتياتها فتريد الفعل أو الترك وتنتخب أحدهما.

ولازم هذا أن تكون الإرادة نفس الاختيار، ولكن- الاختيار الفعلي لا صفة الاختيار أي الاختيار بالقوّة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 240

توضيح ذلك: أنّ الإنسان يكون بفطرته وذاته طالباً للمنفعة ودافعاً للضرر، أي من غرائزه الفطريّة الجبلية غريزة طلب المنفعة ودفع الضرر، وبمقتضى هذه الغريزة إذا لاحظ شيئاً والتفت إلى منفعة أو ضرر، أي إذا تصوّر أحدهما وصدّقه يحصل في نفسه شوق إلى تحصيل المنفعة أو دفع الضرر، ومع ذلك يرى نفسه قادراً على الجلب وعدمه، أو على الدفع وعدمه، وأنّ

له أن يتحرّك ويجلب المنفعة أو يدفع الضرر، وله أن يجلس ويتحمّل الضرر أو يحرم نفسه عن المنفعة ويشتري المذمّة والملامة، فإذا اختار الفعل وانتخبه وأراده ورجّحه على الترك تتحرّك عضلاته نحو العمل فيفعله ويحقّقه في الخارج.

وبهذا يظهر أنّ التصوّر والتصديق والشوق كثيراً ما تكون جبريّة غير اختياريّة، فإنّ التصوّر كثيراً ما يحصل للإنسان جبراً بمعونة حواسّه وادراكاته، ويترتّب عليه التصديق فيكون التصديق أيضاً جبريّاً غالباً ويترتّب على التصديق الشوق أو الكراهة بمقتضى غريزة جبريّة وهي غريزة جلب المنفعة ودفع الضرر.

ثمّ تصل النوبة بعد هذه إلى أعمال النفس واختيارها وارادتها بمقتضى سلطانه الذاتي وقوّة الاختيار وقدرة الانتخاب التي جعلها اللَّه تعالى لذاتها، فلها أن تختار وتنتخب، ولها أن لا تختار ولا تنتخب.

ثمّ إذا اختارت وانتخبت تصل النوبة إلى حركة العضلات نحو العمل، والإرادة عين هذا الاختيار الفعلي والانتخاب الخارجي، هذا أوّلًا.

وثانياً: ظهر أنّ الإرادة ليست في طول الشوق المؤكّد بلا تخلّل شي ء، بل صفة الاختيار متخلّلة بينهما، والشاهد على ذلك أنّ الإنسان كثيراً ما يتصوّر شيئاً ذا منفعة وفائدة ويصدّق فائدته ويشتاق إليه، ولكن مع ذلك لا يتصدّى له في الخارج ولا تترشّح من النفس إرادة العمل لما يكون لها من صفة الاختيار وقوّته، وحينئذ نشاهد تخلّل صفة الاختيار بين الشوق والإرادة.

وبهذا تنحلّ مشكلة عدم اختياريّة الإرادة، فإنّه إذا كانت الإرادة عبارة عن الاختيار الخارجي الفعلي والتصدّي في الخارج بمقتضى صفة الاختيار الذاتيّة للإنسان كانت إراديّة، وإراديتها إنّما تكون بذاتها لا بقوّة اختياريّة اخرى حتّى يتسلسل.

وإن شئت قلت: إنّ إراديّة كلّ فعل إنّما هي بالإرادة، وإراديّة الإرادة إنّما هي بصفة

انوار الأصول، ج 1، ص: 241

الاختيار الكامنة في النفس، وإراديّة صفة الاختيار واختياريتها إنّما هي بذاتها فإنّ

كلّ ما بالعرض ينتهي إلى ما بالذات، وذلك مثل أنّ المعلوم يكون معلوماً بتعلّق العلم به، والعلم معلوم بذاته لا يتعلّق علم آخر به.

يبقى الكلام في توضيح نكتة أنّ الإرادة كيف تترشّح وتنشأ من صفة الاختيار الكامنة في النفس وأنّ النفس تخلقها وتوجدها بذاتها وبلا وسائط اخرى خارجيّة، فنذكر في هذا المجال ما أفاده في رسالة الطلب والإرادة، ونعم ما أفاد، فإنّه جدير بالدقّة والتأمّل وإليك نصّ كلامه:

«اعلم أنّ الأفعال الاختياريّة الصادرة من النفس على نوعين:

النوع الاوّل: ما يصدر منها بتوسّط الآلات الجرمانيّة كالكتابة والصياغة والبناء ففي مثلها تكون النفس فاعلة الحركة أوّلًا وللأثر الحاصل منها ثانياً وبالعرض، فالبنّاء، إنّما يحرّك الأحجار والأخشاب من محلّ إلى محلّ ويضعها على نظم خاصّ وتحصل منه هيئة خاصّة بنائيّة وليست الهيئة والنظم من فعل الإنسان إلّابالعرض، وما هو فعله هو الحركة القائمة بالعضلات أوّلًا وبتوسّطها بالأجسام، وفي هذا الفعل تكون بين النفس المجرّدة والفعل وسائط ومبادٍ من التصوّر إلى العزم وتحريك العضلات.

النوع الثاني: ما يصدر منها بلا وسط أو بوسط غير جسماني كبعض التصوّرات التي يكون تحقّقها بفعّاليّة النفس وإيجادها لو لم نقل جميعها كذلك، مثل كون النفس خلّاقة للتفاصيل، ومثل اختراع نفس المهندس صورة بديعة هندسيّة، فإنّ النفس مع كونها فعّالة لها بالعلم والإرادة والاختيار لم تكن تلك المبادى ء حاصلة بنحو التفصيل كالمبادى ء للأفعال التي بالآلات الجسمانيّة، ضرورة أنّ خلق الصور في النفس لا يحتاج إلى تصوّرها والتصديق بفائدتها والشوق والعزم وتحريم العضلات، بل لا يمكن توسيط تلك الوسائط بينها وبين النفس بداهة عدم إمكان كون التصوّر مبدئاً للتصوّر بل نفسه حاصل بخلّاقيّة النفس، وهي بالنسبة إليه فاعلة بالعناية بل بالتجلّي لأنّها مجرّدة، والمجرّد واجد لفعليات ما

هو معلول له في مرتبة ذاته، فخلّاقيته لا تحتاج إلى تصوّر زائد بل الواجدية الذاتيّة في مرتبة تجرّدها الذاتي الوجودي تكفي للخلّاقيّة، كما أنّه لا يحتاج إلى إرادة وعزم وقصد زائد على نفسه.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ العزم والإرادة والتصميم والقصد من أفعال النفس، ولم يكن سبيلها سبيل الشوق والمحبّة من الامور الانفعاليّة، فالنفس مبدأ الإرادة والتصميم، ولم تكن انوار الأصول، ج 1، ص: 242

مبدئيتها بالآلات الجرمائيّة بل هي موجدة لها بلا وسط جسماني، وما كان حاله كذلك في صدوره من النفس لا يكون بل لا يمكن أن يكون بينه وبينها إرادة زائدة متعلّقة، به بل هي موجدة له بالعلم والاستشعار الذي في مرتبة ذاتها، لأنّ النفس فاعل إلهي واجد لأثره بنحو أعلى وأشرف» «1» (انتهى).

إن قلت: إن كانت النفس علّة تامّة وفاعلة للفعل باختيارها من دون دخالة شي ء آخر من الخارج فلماذا صدر الفعل الفلاني منها في اليوم دون الأمس مع أنّ المعلول لا ينفكّ عن علّته التامّة؟

قلنا: المفروض أنّ النفس بما لها من صفة الاختيار تكون علّة تامّة للفعل، ولا إشكال في أنّ هذه الصفة تقتضي بذاتها تخصيص الفعل بوقت دون وقت، وهذا نظير ما يقال به في باب صفات الباري من أنّه تعالى مختار واختياره عين ذاته، ولازمه تخصيص فعله (وهو خلق حادثة فلانيّة كخلق الشمس والقمر) بزمن خاصّ لا من الأزل.

والحاصل: أنّه يمكن قياس فعل العبد من هذه الجهة على فعل اللَّه، فهل العالم قديم؟ لا إشكال في حدوثه، فهل العلّة التامّة لوجوده هو ذات الباري بما له من الإرادة والاختيار بل الإرادة والاختيار عين ذاته، فلماذا حصل الخلق وحدث بعد أن لم يكن؟ فهل كانت هناك علّة من الخارج؟ والمفروض أنّه

لم يكن هناك شي ء فما العلّة في تخصيص حدوثه بوقت دون وقت؟

والجواب: أنّ ذاته تعالى بما له من الاختيار كان سبباً وعلّة، وهكذا الكلام في أفعال العباد من هذه الجهة وإن كان يتفاوت مع أفعاله تعالى من جهات اخرى.

ثمّ إنّ لبعض المعاصرين (قدّس سرّهم الشريف) هنا كلاماً لا يخلو ذكره عن فائدة، فإنّه قال في حلّ مشكلة الإرادة وقاعدة «إنّ الشي ء ما لم يجب لم يوجد» إنّ هذه القاعدة لو كانت قاعدة عقليّة لم يكن هناك معنى للالتزام بالتخصيص فيها، لكن الصحيح أنّها ليست قاعدة عقليّة مبرهنة بل هي قاعدة وجدانيّة، إذن فلابدّ من الرجوع في هذه القاعدة إلى الفطرة السليمة، والفطرة السليمة تحكم أنّ هناك صفة في النفس وهي السلطنة، وينتزع منها مفهوم الاختيار، ومعناها إنّه حينما يتمّ الشوق المؤكّد في أنفسنا نحو عمل لا نقدم عليه قهراً ولا يدفعنا إليه أحد بل نقدم عليه بالسلطنة، ونسبتها إلى الوجود والعدم وإن كانت متساوية لكنّها كافية

انوار الأصول، ج 1، ص: 243

في إيجاد المطلوب بلا حاجة إلى ضمّ شي ء آخر إليها لأجل تحقّق أحد الطرفين، فلا يجري فيه قاعدة «إنّ الشي ء ما لم يجب لم يوجد» وإلّا لزم الخلف، لأنّ السلطنة لو وجدت لا بدّ من الالتزام بكفايتها «1». (انتهى ملخّصاً).

وفيه: إنّا لا نجد فرقاً بين مفهوم السلطنة والاختيار، وما ذكره ليس أمراً جديداً فقد عبّر بالسلطنة بدل الاختيار كما عبّر بعض آخر بهجوم النفس (فإنّه عبارة اخرى عن إعمال الاختيار أي الاختيار الفعلي) أو الطلب الموجود في النفس فلو لم يكن وجود الاختيار كافياً في حلّ هذه المشكلة فالتعبير عنه بعبارة اخرى لا يفيد في حلّها أيضاً فإنّه يبقى السؤال في أنّ هذه السلطنة متساوية النسبة

إلى الوجود والعدم فترجيح أحد الطرفين يحتاج إلى مرجّح.

وإن شئت قلت: إنّ السلطنة كانت موجودة في النفس من الأوّل، فلو كانت كافية بذاتها للوجود بلا ضمّ شي ء إليها فلابدّ أن توجد الأفعال كلّها من قبل ولا معنى لتخصيص فعل بزمان دون زمان، فلا يبقى طريق لحلّ هذه المشكلة إلّاما عرفت سابقاً.

أدلّة القائلين بالاختيار:

وأمّا القائلون بالاختيار فاستدلّوا لمقالتهم بوجوه أيضاً:

الوجه الأوّل: ما هو مشترك بين الإلهيين والمادّيين وهو الرجوع إلى الوجدان، فإنّ الضرورة قاضية باستناد أفعالنا إلينا على تعبير المحقّق الطوسي رحمه الله (والمراد من الضرورة في كلامه ضرورة الوجدان لا ضرورة دليل العقل).

وتوضيحه: أنّ الوجدان على نوعين: الوجدان الفردي والوجدان العمومي، أمّا الوجدان الفردي فهو قاضٍ بوجود الفرق الواضح بين أفعالنا نظير ضربان القلب وجريان الدم في العروق وحركة يد المرتعش، وبين أفعال اخرى لا تصدر من الإنسان إلّابعد التصوّر والتصديق والإرادة سواء صدرت من الإنسان بلا تأمّل ومشقّة وبمجرّد تعلّق الإرادة والمشيّة عليه كحركة اليد غير المرتعش فإنّها تتحقّق بمجرّد الإرادة، أو لا تتحقّق بمجرّد الإرادة بل تحتاج إلى حصول مقدّمات ومبادٍ كسيلان الدموع، فلا إشكال في أنّ الوجدان حاكم على عدم انوار الأصول، ج 1، ص: 244

اختياريّة القسم الأوّل كما لا إشكال في أنّه يقضي باختياريّة القسم الثاني والثالث، بل لو اقيمت صورة الف برهان على العكس نعلم إجمالًا بوجود اختلال في بعض مقدّماته، لأنّه لا يقاوم الوجدان.

وأمّا الوجدان العمومي فلا إشكال أيضاً في أنّ جميع العقلاء من الإلهي والمادّي حتّى القائلين بمذهب الجبر يحكمون بأنّ المسؤول في الجرائم والتخلّفات والجنايات إنّما هو الإنسان نفسه، فيذمّونه ويجعلون لشخص المتخلّف غرامة معيّنة، والقول بالجبر يستلزم كون جميع المحاكم القضائيّة ظالمة ويستلزم أن يكون جميع المجازات ظلماً.

وبعبارة اخرى: أنّ

أصل المجازاة واستحقاق الظالم لها وجداني وإن كانت كيفيتها وخصوصّياتها اعتباريّة ومجعولة من قبل المقنّن المشرّع.

وهذا ممّا يقضي به الجبريون أيضاً بوجدانهم، والمنكر إنّما ينكره باللسان وقلبه مطمئن بالايمان، نظير إنكار السوفسطائي لأصل الوجود والمثالي للوجود الخارجي، فلا إشكال في أنّ القائلين بهذه المقالات يعترفون في مقام العمل بوجود الأعيان الخارجيّة كالنار والماء والهواء والسيارات والطيّارات فيطلبونها ويركبونها كسائر الناس من دون أي فرق.

كذلك العالم الجبري إذا قام في ميدان العمل ورأى نفسه في المجتمع البشري يلوم من غصبه حقّه ويشكو منه ويرى تعزيره وسجنه عدلًا بينما تكون جميع هذه الامور على اعتقاده ظلماً وجوراً.

ويؤيّد ما ذكرنا من قضاء الوجدان بالاختيار ما رواه في اصول الكافي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه كان جالساً بالكوفة منصرفة من صفّين إذ أقبل شيخ فجثا بين يديه، ثمّ قال له: ياأمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام أبقضاء من اللَّه وقدر؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: «أجل ياشيخ، ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن وادٍ إلّابقضاء من اللَّه وقدر» فقال له الشّيخ:

عند اللَّه أحتسب عنائي ياأمير المؤمنين؟ فقال له: «مه ياشيخ فواللَّه لقد عظّم اللَّه الأجر في مسيركم وأنتم سائرون وفي مقامكم وأنتم مقيمون وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ولم تكونوا في شي ء من حالاتكم مكرهين ولا إليه مضطرّين» فقال له الشّيخ: وكيف لم نكن في شي ء من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرّين وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا؟ فقال له: «وتظنّ أنّه كان قضاء حتماً وقدراً لازماً؟ إنّه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر

انوار الأصول، ج 1، ص: 245

والنهي والزجر من اللَّه وسقط معنى الوعد والوعيد فلم تكن لائمة للمذنب ولا محمدة للمحسن ولكان المذنب أولى بالاحسان

من المحسن ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب، تلك مقالة اخوان عبدة الأوثان وخصماء الرحمن وحزب الشيطان، وقدريّة هذه الامّة مجوسها، إنّ اللَّه تبارك وتعالى كلّف تخييراً ونهى تحذيراً وأعطى على القليل كثيراً ولم يُعص مغلوباً ولم يطع مكرهاً ولم يملّك مفوّضاً ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلًا، ولم يبعث النبيين مبشّرين ومنذرين عبثاً، ذلك ظنّ الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار».

فأنشأ الشّيخ يقول:

أنت الإمام الذي نرجو بطاعته يوم النجاة من الرحمن غفرانا

أوضحت من أمرنا ما كان ملتبساً جزاك ربّك بالاحسان احسانا «1»

وفي نقل آخر «2» رواه العلّامة المجلسي في البحار بعد ذكر ما مرّ: ثمّ تلا عليهم «وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ» وفي نقل ثالث في البحار «3» أيضاً بعد عدّه عليه السلام الموارد العشرة من قضاء اللَّه تعالى وقدره قال: «كلّ ذلك قضاء اللَّه في أفعالنا وقدره لأعمالنا».

وهذا الحديث الذي هو من غرر الأحاديث ومحكمات الأخبار المأثورة عن المعصومين عليهم السلام الذي تلوح عليه آثار الصدق ناظر إلى تفسير القضاء والقدر بالقضاء والقدر التشريعيين (كما ورد في ذيله) ثمّ تمسّك لإثبات بطلان مقالة الجبريين والقدريين بالوجدان الصريح من عشرة وجوه: أحدها: الثواب والآخر: العقاب والثالث: الأمر الرابع: النهي ... إلى آخر ما ذكره عليه السلام فإنّه لا يجتمع الثواب مع الجبر على الطاعة ولا العقاب مع الجبر على المعصية كما أنّه لا معنى للأمر على فرض الجبر على الطاعة لأنّه تحصيل للحاصل، ولا في فرض الجبر على المعصية فإنّه تكليف بما لا يطاق، وهكذا مسألة اللائمة والمحمدة والسؤال والعتاب كلّ ذلك لغو أو ظلم على القول بالجبر، وهو أمر واضح لكلّ أحد.

الوجه الثاني: ما يختصّ بالالهيين وهو «دليل العدالة» وهو

أنّ الجبر ينافي عدله تعالى كما أنّ القول بالتفويض ينافي التوحيد ويلزم منه خروجه تعالى عن سلطنته، وقد نصّ على هذا

انوار الأصول، ج 1، ص: 246

المعنى أبو الحسن الرضا في عبارة وجيزة لطيفة وقد سأل عنه الراوي وقال: اللَّه فوّض الأمر إلى العباد؟ قال: اللَّه أعزّ من ذلك. قلت: فجبرهم على المعاصي؟ قال: «اللَّه أعدل وأحكم من ذلك» «1».

وقد أجاب عنه الأشاعرة بوجهين:

أحدهما: من طريق إنكار الحسن والقبح العقليين وإنّ الظلم ليس قبيحاً على الباري تعالى.

ثانيهما: أنّه لو سلّمنا وقبلنا الحسن والقبح عند العقل إلّاأنّه لا يصدق الظلم على أفعاله تعالى حتّى يحكم العقل بقبحه لأنّها تصرّفات في ملك نفسه وله أن يتصرّف في ملكه بما يشاء كيف يشاء لا يسأل عمّا يفعل.

ويجاب عن الوجه الأوّل: بأنّه سفسطة مخالفة للوجدان، مضافاً إلى أنّه مستلزم لانهدام أساس المذهب وهو معرفة الباري لأنّها مبنية على قبول وجوب التحقيق عن وجوده تعالى، وهو مبني على وجوب شكر المنعم ووجوب دفع الضرر المحتمل وقبح تركهما، وكذلك معرفة النبي صلى الله عليه و آله لأنّها أيضاً متوقّفة على قبح اعطاء اللَّه تعالى المعجزة بغير النبي الصادق الصالح لمقام النبوّة وإلّا لو لم يكن اعطائه بالشيطان مثلًا قبيحاً لم تثبت النبوّة والرسالة ولم يحكم العقل بوجوب النظر إلى دعوى من يدّعي النبوّة ومعجزته.

وعن الوجه الثاني: بأنّه لا دليل على جواز تصرّف الإنسان مثلًا في مملوكاته مطلقاً بما شاء وكيف يشاء، فلا يجوز له مثلًا إحراق أمواله بل العقل يحكم بخلافه وبجواز التصرّفات غير القبيحة، كذلك بالنسبة إلى أفعال الباري تعالى فإنّ تصرّفاته لا تكون إلّاعن مصلحة، ومن المعلوم أنّ ما ذكر قبيح مخالف للمصلحة.

الوجه الثالث: «دليل الحكمة» فإنّ القول بالجبر يلازم كون

بعث الرسل وانزال الكتب لغواً، لأنّه أمّا أن اللَّه تعالى أراد طاعة عبده وأنّ ذات العبد مقتضية للطاعة فبعثه وزجره تحصيل للحاصل، وإمّا أن لا تكون ذاته مقتضية للطاعة بل لها اقتضاء العصيان فيكون بعثه أو زجره تكليفاً بما لا يطاق وكلاهما ينافيان حكمة الباري تعالى.

وهذا الوجه تامّ حتّى بناءً على إنكار الحسن والقبح العقليين، لأنّ كونه تعالى حكيماً ثابت بالنقل.

انوار الأصول، ج 1، ص: 247

نعم أنّه وارد على مقالة من يقول: بأنّ الجبر في أفعال الإنسان ينشأ من إرادة اللَّه تعالى ومشيّته الأزليّة، ولا تدفع قول من يرى أنّه ناشٍ من عوامل اخرى أمّا نفسانيّة ذاتيّة للإنسان كعامل الوراثة، أو خارجيّة عن ذاته كعامل الطبيعة والمجتمع إذا كانت قابلة للتغيير ولو جبراً.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني رحمه الله أورد مسألة الجبر والاختيار في مبحث التجرّي أيضاً، ثمّ ذكر هذا الوجه تحت عنوان «إن قلت» وأنّه ما فائدة انزال الكتب وإرسال الرسل؟ وأجاب عنه بأنّ فائدة انزال الكتب وإرسال الرسل هو انتفاع من حسنت سريرته منها وتكامله بها، وإتمام الحجّة بالنسبة إلى من خبثت سريرته.

أقول: هذا البيان مثله من مثله بعيد جدّاً لأنّه لا معنى للانتفاع أو إتمام الحجّة بناءً على العلّية التامّة في مقام الذات، اللهمّ إلّاأن يقال إنّ مقصوده من العلّية إنّما هو الاقتضاء لا العلّية التامّة، ولكن هذا عدول عن ظاهر كلامه ومن يقول بمقالته ويحذو حذوه. هذا تمام الكلام في الأدلّة العقليّة لمذهبي الجبر والاختيار.

الأدلّة النقليّة على القول بالاختيار:

وأمّا الأدلّة النقليّة: من الآيات والرّوايات فهي كثيرة لكلّ من الطرفين، فالجبريّون استدلّوا بطوائف خمسة من الآيات التي تدلّ بظاهرها على أنّ الفاعل إنّما هو الباري تعالى فقط (ولعلّ من مناشى ء القول بالجبر هو ظاهر هذا القبيل من

الآيات مع الجمود على ظواهرها من دون ملاحظة سائر الآيات والقرائن العقليّة):

الطائفة الاولى: ما تدلّ على أنّه تعالى خالق لكلّ شي ء كقوله تعالى: «ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ فَاعْبُدُوهُ» «1»

وقوله تعالى: «أَمْ جَعَلُوا للَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ» «2»

وقوله تعالى: «فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ» «3».

انوار الأصول، ج 1، ص: 248

والجواب عنها: أمّا الآيتان الأوّليان فالمراد من «كلّ شي ء» فيهما إنّما هو الذوات والأعيان الخارجيّة بقرينة أنّ الكلام فيهما وفيما قبلهما من الآيات إنّما هو في خلق السموات والأرض وبقرينة أوائل الآية الثانيّة وهو قوله تعالى: «قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَايَمْلِكُونَ لِانفُسِهِمْ نَفْعاً وَلَا ضَرّاً» فإنّه وارد في ما اتّخذوه شركاء للَّه تعالى وليست ناظرة إلى أفعال الإنسان كما لا يخفى.

وأمّا الآية الثالثة فهي أيضاً ناظرة إلى أوثانهم بما هي أوثان وذوات خارجيّة لا بما هي أعمال، والشاهد على ذلك قوله تعالى «ما تنحتون» فإنّ كلمة «ما» هنا موصولة لا مصدريّة، وبالجملة يستفاد من مجموع هذه القرائن أنّ هذا القبيل من الآيات منصرفة إلى الأعيان والذوات الخارجيّة، كما يشهد على ذلك كلمة «شي ء» حيث إنّها أيضاً تنصرف إلى خصوص الأعيان غالباً ولا يطلق على العمل.

هذا- ولو سلّمنا عموم هذه الآيات بالنسبة إلى الأفعال أيضاً، لكن قد عرفت أنّ إسناد العمل إلى اللَّه تعالى لا يمنع عن إسناده إلى الإنسان نفسه، لأنّ أحدهما في طول الآخر، وهو معنى الأمر بين الأمرين كما سيأتي تفصيلًا إن شاء اللَّه.

الطائفة الثانيّة: الآيات التي تدلّ على نفي المشيّة عن العبد نحو قوله تعالى: «وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ» «1».

والجواب عنها: أنّ مقتضى

مذهب الأمر بين الأمرين عدم استقلال مشيّة العبد عن مشيّة اللَّه تعالى وإن كانت إرادة العبد واختياره في طول ارادته وإنّ اللَّه أراد أن يختار العبد ويريد الفعل الفلاني كما سيأتي في توضيح الأمر بين الأمرين مزيد بحث لذلك، فمشيّة العبد حينئذ لا تنفكّ عن مشيّة اللَّه أبداً، وهذا لا ينافي الاختيار كما لا يخفى.

الطائفة الثالثة: الآيات التي تدلّ على نفي الفعل عن العباد كقوله تعالى: «فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى» «2».

ويمكن الجواب عنها بوجهين:

الجواب الأوّل: أنّ المراد منه نفي استقلال العبد في التأثير وكون الفاعل المستقلّ هو اللَّه انوار الأصول، ج 1، ص: 249

تعالى. وبعبارة اخرى: كما أنّ الوجود بالأصالة مختصّ بذاته تعالى، وغيره موجود بإرادته، فكذلك الأفعال الإنسانيّة منسوبة إلى اللَّه تعالى بالأصالة ومنسوبة إلى العباد بسبب أنّ اللَّه تعالى أعطاهم القدرة والاختيار والقوّة.

الجواب الثاني: أنّ هذا التعبير وارد في شأن غزوة بدر التي تختصّ بالامدادات الغيبية ونزول الملائكة حيث إنّ القتل إمّا أن يكون قد تحقق بأيدي الملائكة، فسلب القتل عن المقاتلين لا بأس به، وإمّا أن يكون قد صدر من المقاتلين مع نصرة من الملائكة فكذلك يمكن سلب القتل عنهم بهذا الاعتبار، أي لولا الامداد الغيبي ونصرة الملائكة لم تقدروا على شي ء، وحينئذ يصدق قوله تعالى: «وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ».

هذا بالنسبة إلى الفقرة الاولى، وأمّا الفقرة الثانيّة فالمراد منها أنّ تأثير الرمي كان من اللَّه تعالى، أي وما رميت إذ رميت رمياً مؤثّراً، والشاهد على هذا وجود إسنادين في الآية، فكما أنّه تعالى يسند الرمي إلى نفسه يسنده إلى رسوله أيضاً، وهذا يشهد على أنّ المقصود من الرمي الأوّل إنّما هو رمي التراب أو الحصى

ومن الرمي الثاني تأثيرها في قبض عيون الناظرين كما في الرّوايات «1»، وبالجملة الفقرتين كلتيهما تفسّران بالقرينة المقاميّة الموجودة في الآية.

الطائفة الرابعة: ما تدلّ على أنّ الإيمان والعمل بجعل اللَّه تعالى وبمساعدته نحو قوله تعالى:

«رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ» «2»

وقوله تعالى: «أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ» «3».

والجواب عنها أوضح من الجواب عن الطائفة السابقة عليها، فإنّها من قبيل التعبير الرائج بيننا من أنّ التوفيق بيد اللَّه، والتوفيق عبارة عن تهيئة أسباب الخير ومقدّمات العمل الصالح على حدّ الاقتضاء والاعداد لا العلّية التامّة كما لا يخفى، وأمّا المراد من كتابة الإيمان فهو إثبات انوار الأصول، ج 1، ص: 250

الإيمان واستقراره في القلب، والمستفاد من الآية بقرينة الآيات السابقة عليها أنّ الحبّ في اللَّه والبغض في اللَّه يوجب ثبوت الإيمان ورسوخه في القلب، فهو بمنزلة الجزاء والنتيجة لعمل اختياري صالح للإنسان، أي التولّي والتبرّي في اللَّه، فلا ينافي كونه اختياريّاً، فإنّ ما يكون بعض مقدّماته اختياريّاً اختياري.

الطائفة الخامسة: آيات الهداية والضلالة والتي تسندهما إلى اللَّه تعالى وهي كثيرة:

منها: قوله تعالى: «فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» «1».

ومنها: قوله تعالى: «وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ» «2».

ومنها: قوله تعالى: «مَنْ يَشَأْ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» «3».

ومنها: «إِنَّكَ لَاتَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ» «4».

ومنها: «فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً» «5».

والجواب عنها أيضاً واضح، ولكن قبل بيان الجواب الأصلي والمختار ننقل هنا ما قاله بعض الأعلام في مقام الجواب عنها، وهو أنّ الهداية على معانٍ ثلاثة:

المعنى الأوّل: أنّ الهداية بمعنى إرائة

الطريق ومنه قوله تعالى: «وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» «6».

المعنى الثاني: أنّها بمعنى الإيصال إلى المطلوب، ومنه ما مرّ آنفاً من قوله تعالى: «إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ» فإنّ ما على النبي صلى الله عليه و آله إنّما هو إرائة الطريق فقط لا الإيصال إلى المطلوب (والمراد من الإيصال اعداد المقدّمات والتوفيق الموصل إلى المقصود).

انوار الأصول، ج 1، ص: 251

الثالث أنّها بمعنى ترتّب الثواب على العمل، وتقابلها الضلالة بمعنى حبط الأعمال، ومنه قوله تعالى: «وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ» «1».

أقول: إن كان مراده تفسير الضلالة بالمعنى الأخير كما يظهر من بعض كلماته فهو واضح الإشكال، فإنّ كثيراً من آيات الضلالة لا تلائم هذا المعنى ولا دخل لها بمسألة الثواب والعقاب، وإن كان المراد إنّ كلًا من هذه المعاني الثلاثة للهداية تقابله الضلالة فهو حقّ لا ريب فيه، فإنّ كثيراً من آيات الضلالة بمعنى سلب التوفيق وعدم اعداد المقدّمات نحو المطلوب كما ذكره كثير من المحقّقين، وهذا أيضاً أمر اختياري، لأنّ التوفيق وكذا سلبه من قبل اللَّه لا يكون بلا دليل بل هو ناشٍ عن بعض أعمال الإنسان الحسنة أو السيّئة أو نيّاته وصفاته الحسنة والخبيثة.

والمختار في الجواب- عن مسألة الهداية والضلالة في القرآن- هو ما يستفاد من نفس الآيات الكريمة، تارةً: على نحو الإجمال واخرى: على نحو التفصيل:

فالجواب الإجمالي: ما جاء في ذيل بعض الآيات المزبورة (وهو قوله تعالى: «فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ») فإنّ قوله «وهو العزيز الحكيم» إشارة إجماليّة إلى أنّ مشيّة اللَّه وإرادته ضلالة بعض العباد وهداية بعض آخر تنشأ من حكمته وعزّته، فإنّ قدرته وعزّته متقاربة مع حكمته ومندرجة فيها، ومشيّته

ناشئة من كلتيهما معاً لا من القدرة فقط، فإذا علمنا بأنّ إرادته تنشأ من الحكمة فإضلاله أو هدايته مبنية على ما يصدر من العباد أنفسهم من الأعمال السيّئة أو الحسنة، وعلى أساس ما اكتسبوه من الاستحقاق أو عدم الاستحقاق للهداية والضلالة.

وأمّا الجواب التفصيلي: فهو ما تصرّح به كثير من الآيات من أنّ الهداية أو الضلالة تنشأ ممّا كسبته أيدي العباد وقدّمته أيديهم، فبالنسبة إلى الهداية نظير قوله تعالى:

1- «وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا» «2».

2- «وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ» «3».

انوار الأصول، ج 1، ص: 252

3- «إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ» «1».

4- «قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ» «2».

5- «ذَلِكَ الْكِتَابُ لَارَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» «3».

والمراد من التقوى هنا ظاهراً هو حالة قبول الحقّ وعدم اللجاج.

وبالنسبة إلى الضلالة نظير قوله تعالى:

1- «يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ» «4».

2- «فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَايَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» «5».

3- «إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ» «6».

4- «إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ» «7».

5- «كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ» «8».

6- «إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ» «9».

فالمستفاد من الطائفة الأخيرة من الآيات أنّ أسباب الضلالة عبارة عن الفسق والظلم والكذب والكفر والاسراف والريب والاصرار على الكفر، وهي بأجمعها امور اختياريّة تصدر من الإنسان وتوجب سلب توفيقه وقدرته على الهداية، فيضلّ عن طريق الحقّ بسوء اختياره، ولا إشكال في أنّ الآيات المطلقة التي تسند الهداية أو الضلالة إلى اللَّه تعالى مطلقاً تقيّد بهذه الآيات طبقاً لقاعدة الإطلاق والتقييد وتفسّر بها، ويستنتج أنّ هدايته فيض من انوار الأصول، ج 1، ص:

253

جانبه يفاض على النفوس المستعدّة والقلوب المطهّرة بالأعمال الصالحة، كما أنّ الضلالة عبارة عن قطع الفيض والاستعداد والتوفيق عن النفوس غير المساعدة وذلك بسبب الأعمال السيّئة والنيّات الخبيثة الصادرة عنهم، فهذه الآيات مضافاً إلى أنّها غير دالّة على مذهب الجبر، ظاهرة بل كالصريحة في مذهب الاختيار، لأنّها بعد ضمّ بعضها إلى بعض تدلّ على أنّ الهداية والضلالة ناشئتان من الإنسان نفسه وإن كان ذلك بتسبيب إلهي من باب أنّ الأسباب تستمد قوتها من ساحته المقدّسة، ومن هنا تنسب المسبّبات إليه تعالى أيضاً حقيقة.

الآيات الدالّة بصراحتها على نفي الجبر:
اشارة

ثمّ إنّ هناك آيات كثيرة تدلّ على الاختيار بصراحتها أو ظهورها، وهي على طوائف عديدة:

الطائفة الاولى: ما ينطق بمذهب الاختيار بالصراحة: نحو قوله تعالى «إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً» «1»

فإنّه يدلّ بوضوح على الاختيار خصوصاً بملاحظة ما قبله من الآية: «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً» «2»

(والمشيج بمعنى الخليط) فإنّه يستفاد منه أنّ الإنسان بحسب الفطرة مخلوط ومعجون من أسباب الهداية والضلالة ولذلك يكون في موقف الابتلاء والامتحان بإرائة الطريق وهداية السبيل، فهو إمّا يشكر فيهتدي، وإمّا يكفر فيضلّ. وهو مجموع ما يستفاد من الآيتين، ونحو قوله تعالى: «وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» «3».

وقوله تعالى: «إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا» «4».

وقوله تعالى: «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ» «5».

الطائفة الثانيّة: ما يدلّ على أنّ الإنسان رهين لأعماله، ولازمه كونه مختاراً وإلّا لا يكون مرتهناً بها:

انوار الأصول، ج 1، ص: 254

منها: قوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ» «1».

ومنها: قوله تعالى: «كُلُّ امْرِءٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ» «2».

ومنها: قوله تعالى: «لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ»

«3».

الطائفة الثالثة: ما يدلّ على حسرة أهل النار وتمنّيهم الرجوع إلى الدنيا لجبران ما فاتهم من الإيمان والأعمال الصالحة، فلو كانوا مضطرّين في أعمالهم لم ينفعهم الرجوع إلى الدنيا ولو ألف مرّة.

منها: قوله تعالى: «قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِي لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيَما تَرَكْتُ» «4».

ومنها قوله تعالى: «وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ» «5».

ومنها قوله تعالى: «لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الُمحْسِنِينَ» «6».

وكيف ينطق إنسان بذلك إذا لم ير نفسه مختارة؟

الطائفة الرابعة: جميع الآيات الدالّة على ترتّب الثواب والعقاب والمدح والذمّ والسؤال والعتاب على أعمال العباد، فإنّها مع القول بالجبر لا معنى لها ولا تكون مقبولة لدى العقل السليم بل تكون خطابات غير معقولة وكلمات مزوّرة باطلة (العياذ باللَّه).

الطائفة الخامسة: جميع الأوامر والنواهي الواردة في الكتاب الكريم الدالّة على تكليف الناس، فإنّ لازم مذهب الجبر خلوّها عن المغزى والمحتوى ولغويّة تبليغ الأنبياء وجميع معلّمي الأخلاق، لأنّها إمّا أن تكون تحصيلًا للحاصل أو تكليفاً بالمحال كما لا يخفى على أرباب النهى.

الطائفة السادسة: جميع الآيات الدالّة على الامتحان والاختيار كقوله تعالى: «أَحَسِبَ انوار الأصول، ج 1، ص: 255

النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَايُفْتَنُونَ» «1».

الطائفة السابعة: مجموع الآيات الدالّة على إسناد الأفعال إلى العباد حقيقة وهي كثيرة جدّاً كقوله تعالى: «الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ» فإنّ نسبة إيجاد الوسوسة في صدور الناس إلى الجنّ والانس دليل على أنّها مستندة إليهم حقيقة لا مجازاً، والقرآن مشحون بمثل هذه الآيات.

وبها نجيب عن طائفة من الجبريين الذين يقولون: بأنّ إسناد الأفعال إلى العباد في الآيات الكريمة إسناد مجازي وإنّ عادة الباري تعالى جرت على أعمال إرادته عند إرادة الإنسان وإنّ العلّة التامّة إنّما

هو إرادة اللَّه فقط، فإنّ هذا ينافي ظهور هذه الإسنادات بكثرتها في الحقيقة، فإنّ حملها كلّها على المجاز مجازفة جدّاً.

إلى هنا تمّ الكلام في الأدلّة النقليّة والعقليّة الدالّة على نفي الجبر والتفويض.

بقي هنا امور:

الأوّل: في مسألة الأمر بين الأمرين

وهو مذهب أهل بيت العصمة الذين لا يزالون يدعون إليه في مقابل مذهبي الجبر والتفويض، وقد وردت من جانبهم في هذا المجال روايات كثيرة في الجوامع المعتبرة للحديث، وحيث إنّ بعض القائلين بهذا المذهب انسحب بالمآل إلى مذهب الجبر كمن يقول: بأنّ العلّة النهائيّة في إرادات الإنسان إنّما هي حسن سريرته أو سوئها، كما أنّ بعضاً آخر انجرّ إلى مذهب التفويض كذلك، فلابدّ أوّلًا من تفسير الأمر بين الأمرين وبيان حقيقته ثمّ إيراد جملة من تلك الرّوايات المأثورة عنهم عليهم السلام.

فنقول: إنّ «الأمر بين الأمرين» عبارة عن الجمع بين الأصلين: التوحيد الأفعالي (أي فاعليته تعالى في الأفعال كلّها) والعدالة، فإنّ حقيقة هذا المذهب أنه لا يخرج الباري تعالى عن انوار الأصول، ج 1، ص: 256

سلطانه المطلق في جميع الأشياء حتّى في الأفعال الاختياريّة للإنسان، هذا من جانب، ومن جانب آخر لا يتّهمه بإجباره العباد على المعاصي ثمّ أخذهم بالعذاب.

وقد ورد عن أبي بصير عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «من زعم أنّ اللَّه يأمر بالفحشاء فقد كذب على اللَّه ومن زعم أنّ الخير والشرّ إليه فقد كذب على اللَّه» «1».

وعن هشام بن سالم عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «اللَّه أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقون واللَّه أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد» «2».

فلا يخفى أنّه جمع في هذين الخبرين بين عدالته تعالى وعدم ظلمه على العباد بإجبارهم وتكليفهم بما لا يطيقون ولا يقدرون على إتيانه أو

على تركه وبين سلطانه وتوحيده في جميع الأفعال.

وعن اسماعيل بن جابر قال: كان في مسجد المدينة رجل يتكلّم في القدر والناس مجتمعون قال: فقلت ياهذا أسألك؟ قال: سل قلت: قد يكون في ملك اللَّه تعالى ما لا يريد؟ قال: فأطرق طويلًا ثمّ رفع رأسه إليّ فقال: يا هذا لئن قلت أنّه يكون في ملكه ما لا يريد أنّه لمقهور، ولئن قلت لا يكون في ملكه إلّاما يريد أقررت لك بالمعاصي قال: فقلت لأبي عبداللَّه عليه السلام سألت هذا القدري فكان من جوابه كذا وكذا، فقال: «لنفسه نظر أمّا لو قال غير ما قال لهلك» «3»

، (والمراد منه أنّه بسبب هذا الجواب أنجى نفسه من هلكة الكفر والعذاب لأنّ كلّ واحد من الأمرين الجبر والتفويض ينتهي إلى الكفر أحدهما يوجب سلب العدالة عنه تعالى عن ذلك وثانيهما يوجب الشرك في الأفعال).

فقد ظهر لك أنّ معنى الأمر بين الأمرين أنّ أفعال العباد تكون باختيارهم وإرادتهم ولذلك يكونون مسؤولين ويجزون بالثواب أو العقاب في مقابل طاعتهم أو معصيتهم، ولكن في نفس الوقت ومن جانب آخر تستند أفعالهم إلى الباري تعالى حقيقة لأنّ اختيارهم من جانب اللَّه وتفاض إرادتهم من ناحيته تعالى إليهم في كلّ لحظة لحظة وهو القيّوم عليهم وعلى أفعالهم وجميع الأشياء، وليس شي ء منها خارجاً عن سلطانه وسطوته، فاختيار الإنسان وإرادته ينشأ من اختياره تعالى الذي أفاضه عليه وحيث إنّ أفعال الإنسان الاختياريّة ناشئة من انوار الأصول، ج 1، ص: 257

اختياره وإرادته تعالى فهي ناشئة حقيقة من اختيار اللَّه وإرادته، لأنّ إرادة الملزوم لا تنفكّ عن إرادة اللازم، فهذا هو الأمر بين الأمرين.

فهو كما ذكره بعض الأعلام نظير ما إذا فرضنا أنّ يد العبد مشلولة لا يتمكّن

من تحريكها إلّا مع إيصال الحرارة إليها بالقوّة الكهربائيّة، فأوصل المولى القوّة إليها بوساطة سلك الكهرباء الذي يكون زرّه بيد المولى فقام العبد باختياره بفعل حسن أو قبيح، والمولى كان يعلم بذلك فحينئذ يكون الفعل اختياريّاً للعبد ويستند إليه حقيقة لأنّه صدر منه باختياره، ويستند إلى مولاه أيضاً حقيقة لأنّ السلك بيد المولى وهو الذي يعطي القوّة للعبد آناً فآناً.

نعم ما يستند إلى العبد إنّما هو نسبة المسؤوليّة، وما يستند إلى المولى إنّما هو نسبة الخالقية كما لا يخفى.

الثاني: دوافع القول بالجبر

وهي على ثلاثة أنواع: فلسفية، روحية (نفسانيّة)، سياسيّة.

أمّا الأسباب الفلسفية فهي امور:

1- ملاحظة تفاوت الأشخاص من حيث الذاتيات والاستعدادات، فبعضهم ذو سريرة حسنة ولبعضهم الآخر سريرة سيّئة خبيثة من أوّل الأمر وقبل التأثّر بتربية مربّ وتعليم معلّم من الخارج.

2- ملاحظة تأثير المحيط والعائلة، فالذين تولّدوا في محيط طيّب وعائلة طيّبة لهم روحيات وصفات طيّبة أيضاً في الغالب، وبخلاف الذين تولّدوا ونشأوا في محيط سيّى ء أو عائلة غير أصيلة فلهم خلقيات وضيعة دنيئة غالباً.

3- الانغمار في مسألة التوحيد الأفعالي وتوهّم أنّه لا يلائم فاعلية غير اللَّه تعالى في أفعاله.

4- عدم القدرة على حلّ مشكلة الإرادة وكيفية جريان قاعدة «الشي ء ما لم يجب لم يوجد» مع القول بالاختيار وعدم الجبر، فهذه الامور جميعاً أو شتاتاً صوّرت أنّ الحقّ مع مذهب الجبر، غفلوا عن أنّ تأثير النفسانيات أو المحيط والمجتمع إنّما هي على حدّ الاقتضاء والعلّية الناقصة، فربّ إنسان له سريرة حسنة لكن بسوء اختياره يهوى إلى النار، وربّ إنسان له سريرة سيّئة ينجو بحسن اختياره ويعمل على تحسين سريرته وخلقياته ويكون من أهل الجنّة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 258

وكذلك الذين يعيشون في المجتمعات الصالحة أو الفاسدة، فليس شي ء من

ذلك علّة تامّة للسعادة والشقاوة والطاعة والمعصية بل الجزء الأخير هو إرادة الإنسان.

وكذلك قبول التوحيد بأقصى مراتبه لا ينافي القول بالاختيار كما عرفت تفصيل الكلام فيه ولا حاجة إلى مزيد توضيح أو تكرار.

وأمّا السبب الروحي والنفساني فهو ما يحاوله الإنسان عند الفشل والهزيمة من سلب المسؤوليّة عن نفسه وإسناد العلّة والسبب إلى أمر آخر جبري فيقول: «إنّي سيّى ء الحظّ» مثلًا أو يقول: «فلان حسن الحظّ» وهكذا الحال في تبريره لسلوكه الشائن وأفعاله الشريرة من أجل التخلّص من الضغط الروحي والملامات الوجدانيّة فيقول: «أراد اللَّه هكذا ولم يكن فعلي تحت اختياري وإرادتي، بل كان مقدّراً من قبل، ولا يمكن الفرار عن تقديره تعالى» أو «لا يمكن الفرار عن جبر المحيط والداوفع» إلى غير ذلك، كما يشاهد في كثير من المسجونين الذين سجنوا بما قدّمت أيديهم من المآثم والكبائر.

وأمّا الأسباب السياسيّة فهي ما ينطق به تاريخ البشريّة من الاساليب المضلّلة لحكومات الجور وقوى الانحراف في طرح مسألة الجبر والقضاء والقدر لتوجيه تحكّماتهم وجناياتهم وبغرض تسليم الناس في مقابل رغباتهم الشرّيرة ولتخدير أفكارهم والتقدّم في مقاصدهم الخبيثة، كما نسب في التاريخ إلى جنود المغول وكما جاء في كلمات بعض الأعاظم «أنّ الجبر والتشبيه امويان والعدل والتوحيد (أو التوحيد والتنزيه) علويّان» ومعناه أنّ بني اميّة كانوا ينشرون مذهب الجبر لتوجيه جناياتهم.

الثالث: في معنى السعيد سعيد في بطن امّه ...

أمّا ما استند به المحقّق الخراساني رحمه الله من الحديثين (حديث: «السعيد سعيد في بطن امّه والشقي شقي في بطن امّه» وحديث «الناس معادن كمعادن المذهب والفضّة»).

وهما ممّا ورد في منابع الفريقين، فأمّا الرّواية الاولى فقد رواها الكناني عن الصادق عليه السلام قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «الشقي من شقى في بطن امّه الخبر»

«1»

، ومن طريق العامّة «2» رواها

انوار الأصول، ج 1، ص: 259

عبداللَّه بن عمر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بنفس التعبير.

وأمّا الرّواية الثانيّة فقد رواها الكليني رحمه الله عن سهل عن بكر بن صالح رفعه عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة فمن كان له في الجاهلية أصل فله في الإسلام أصل» «1».

كما أنّها رويت أيضاً من طريق العامّة «2» عن أبي هريرة عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بتقديم الفضّة على الذهب. وكيف كان يمكن تفسير مجموع الحديثين بوجهين:

الوجه الأوّل: حمل قوله صلى الله عليه و آله «السعيد سعيد في بطن امّه والشقي شقي في بطن امّه» على علم الباري تعالى بأنّه سيكون كذلك كما فسّره المعصوم عليه السلام بذلك في رواية اخرى رواها ابن أبي عمير قال: سألت أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السلام عن معنى قول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «الشقي من شقى في بطن امّه والسعيد من سعد في بطن امّه» فقال: «الشقي من علم اللَّه وهو في بطن امّه أنّه سيعمل أعمال الأشقياء، والسعيد من علم اللَّه وهو في بطن امّه أنّه سيعمل أعمال السعداء ... الحديث» «3»

، فلا إشكال في أنّ الحديث بهذا المعنى يخرج عن ظاهره ولا ينافي اختيار الإنسان في أعماله كما لا يخفى.

الوجه الثاني: ما ينطبق على كلا الحديثين وهو الحمل على اختلاف الاستعدادات والمقتضيات الذاتيّة للأفراد، والروايتان كلتاهما تعبّران عن أنّ الناس يختلفون من ناحية الاستعداد الذاتي للطاعة أو العصيان، فبعضهم قريب إلى الطاعة في ذاته وبعض آخر قريب إلى المعصية كذلك، لكن لا على حدّ الإلزام والعلّة التامّة بل على حدّ الاقتضاء، نظير

ما نشاهده من اختلاف الأفراد في استعدادهم للصيام مثلًا فبعضهم يجد في نفسه استعداداً للصوم أكثر من الآخر، إلّاأنّ هذا لا يعنى أنّه مجبور على الصّيام وأنّ الآخر مجبور على تركه، وهكذا في الامور العارضة على الذات كالتفاوت الجغرافي واختلاف المناطق في الحرارة الجويّة في المناطق الحارّة أو الباردة أو لجهة شغلية كالتفاوت الموجود بين الخبّاز والبقّال بالنسبة إلى انوار الأصول، ج 1، ص: 260

الصّيام في شهر رمضان، والحاصل أنّ صاحب الاستعداد القوي للصيام وكذا من يعيش في المناطق الباردة مثلًا يكون أقرب إلى طاعة اللَّه من غيره وبهذه المناسبة يعدّ أقرب إلى السعادة من غيره من دون أن يكون ذلك علّة تامّة للطاعة أو المعصية.

إن قلت: سلّمنا، ولكن أليس هذا الاختلاف بهذا المقدار مخالفاً للعدالة؟

قلنا: قد اجيب عن هذه الشبهة في لسان الرّوايات الواردة عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام ببيان واضح وهو «إنّ أفضل الأعمال أحمزها». «1»

وتوضيحه: أنّ التفاوت هذا إنّما يستلزم عدم العدالة فيما إذا لم تلاحظ تلك الخصوصيّة الذاتيّة أو العرضيّة في ميزان الأعمال وترتّب الثواب والعقاب مع أنّه لا ريب في دخلها في ميزان الأعمال، فيكون أفضل الأعمال أحمزها وتلاحظ النسبة الموجودة بين الاستعداد والعمل، فمن كان له استعداد أكثر وفرض أفضل للطاعة والعمل الصالح يطلب منه عمل أوفر وحصيلة أكثر، ومن كان بعكس ذلك ولديه استعداد أشدّ للمعصية ينتظر منه عمل أقلّ وحصيلة أخفّ ولا ريب أنّ صلاة جار المسجد في المسجد لا تعادل في الفضيلة مع صلاة من يكون بعيداً منه، وعين هذا الكلام يجري في الاختلافات الذاتيّة وتفاوت الاستعدادات الخلقية.

الكلام في القضاء والقدر:

وحيث انتهى الكلام إلى مسألة الجبر والاختيار ينبغي أن نتكلّم بكلام موجز عن مسألة القضاء والقدر التي هي من

أهمّ المسائل كتاباً وسنّة وعقلًا لما بينهما من الصلة الوثيقة، وقد ورد الكلام في القضاء والقدر في الأخبار المأثورة عن أئمّتنا عليهم السلام «2».

ولا بدّ قبل بيان المختار في أصل المسألة من تقديم امور:

الأمر الأوّل: في أنّه ما الفرق بين المسألتين: مسألة الجبر والاختيار ومسألة القضاء والقدر؟

انوار الأصول، ج 1، ص: 261

تفترق مسألة القضاء والقدر عن مسألة الجبر والاختيار في أمرين:

أحدهما: أنّ الاولى أعمّ من الثانيّة من ناحية سعة شمولها لأعمال العباد وغيرهم فإنّ القضاء والقدر جاريان في جميع الكائنات بخلاف مسألة الجبر والاختيار فإنّها مطروحة في مجال أعمال الإنسان فقط.

ثانيهما: أنّ المسألة الاولى بلحاظ انتساب الأفعال إلى اللَّه تعالى والمسألة الثانيّة بلحاظ انتساب الأفعال إلى العباد أنفسهم كما لا يخفى. ولكن مع ذلك فإنّ بينهما قرابة شديدة وربط وثيق وإنّ أدلّة المسألتين متقاربة جدّاً.

الأمر الثاني: أنّ القضاء والقدر في لسان الفلاسفة يأتي على معنيين:

أحدهما: القضاء والقدر العلميين، بمعنى أنّ القضاء عبارة عن العلم الإجمالي للباري تعالى بجميع الموجودات وهو عين ذاته تعالى، وأمّا القدر فهو علمه التفصيلي بجميع الموجودات وهو عين ذات الموجودات نفسها.

ثانيهما: القضاء والقدر العمليين التكوينيين، بمعنى أنّ القضاء هو خلق الصادر الأوّل الذي يتضمّن جميع الموجودات واندرج فيه العالم بتمامه، والقدر عبارة عن إيجاد الموجودات المتكثّرة، ولا يخفى ما فيه من الإشكال في المباني.

الأمر الثالث: في معنى القضاء والقدر في اللّغة وفي لسان الآيات.

ففي مفردات الراغب: «القضاء فصل الأمر، قولًا كان ذلك (مثل قول القاضي) أو فعلًا (نحو قوله تعالى فقضاهنّ سبع سموات) وكلّ واحد منهما على وجهين: إلهي وبشري ... إلى أن قال في مقام بيان الفرق بين القضاء والقدر: والقضاء من اللَّه أخصّ من القدر لأنّه الفصل بعد التقدير، فالقدر

هو التقدير والقضاء هو الفصل بعد التقدير».

وأمّا المستفاد من موارد استعمالها في القرآن فهو أنّ القضاء هو الحكم القطعي الإلزامي تكوينياً كان أو تشريعيّاً، فالتكويني منه نظير ما جاء في قوله تعالى: «إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» «1»

والتشريعي ما جاء في قوله تعالى: «وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً» «2»

، وأمّا القدر فهو بمعنى تعيين المقدار إمّا تكويناً نحو قوله تعالى: «وَإِنْ انوار الأصول، ج 1، ص: 262

مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ» «1»

ونحو قوله تعالى: «وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ» «2»

، أو تشريعاً نحو قوله تعالى: «عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ» «3»

الذي ورد في تعيين وتحديد تكليف المعسر والموسع في متعة المطلّقات اللاتي لم يفرض لهنّ المهر.

والمختار في المقام الذي يلائم المعنى اللغوي وظواهر الآيات والرّوايات هو أنّ القضاء والقدر على نحوين: تشريعي وتكويني، والمراد من القضاء التشريعي هو مطلق الواجبات والمحرّمات التي أمر المكلّف بإتيانها أو نهى عن ارتكابها، ومن القدر التشريعي هو مقدار هذه الواجبات والمحرّمات وحدودها ومشخّصاتها، فمثلًا أصل وجوب الصّلاة قضاء اللَّه، ووجوب إتيانها سبع عشرة ركعات في الأوقات الخمسة قدره، وهكذا بالنسبة إلى الزّكاة والصّيام والحجّ وسائر التكاليف، ومن أوضح الشواهد على هذا المعنى وأتقنها ما مرّ من بيان المولى أمير المؤمنين عليه السلام حينما كان جالساً بالكوفة منصرفاً من صفّين وهو حديث طويل يشتمل على فوائد جمّة، وقد ورد في ذيله: «ثمّ تلا عليه: «وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ» ولا إشكال في أنّ المراد من القضاء في هذه الآية إنّما هو القضاء التشريعي.

وأمّا المراد من القضاء والقدر التكوينيين فهو نفس قانون العلّية وإنّ كلّ شي ء يوجد في عالم

الوجود وكلّ حادث يتحقّق في الخارج يحتاج إلى علّة في أصل وجوده (وهو القضاء)، وفي تقديره وتعيين خصوصّياته (وهو القدر) فمثلًا إذا انكسر زجاج بحجر فأصل الانكسار هو القضاء، أي عدم تحقّقه بدون العلّة، وأمّا مقدار الانكسار المناسب لقدر الحجر وشدّة الاصابة فهو القدر.

لا يقال: «لو كان الأمر كذلك أي كانت جميع الكائنات محكومة لقانون العلّية والقضاء والقدر التكوينيين لزم أن تكون أفعال العباد أيضاً محكومة لهذا القانون ويلزم منه الجبر» لأنّه قد مرّ سابقاً أنّ من قضاء اللَّه التكويني وقدره صدور أفعال العباد من محض اختيارهم وإرادتهم وأنّ الجزء الأخير للعلّة التامّة فيها إنّما هو اختيار الإنسان الذي قضى اللَّه عليه وقدره في وجوده، ولذلك قلنا: أنّ إسناد الفعل إلى الإنسان حقيقي كما أنّ إسناده إلى اللَّه تعالى في نفس الوقت حقيقي أيضاً.

انوار الأصول، ج 1، ص: 263

والشاهد على ذلك ما هو المعروف من رواية ابن نباتة قال: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر فقيل له: ياأمير المؤمنين، تفرّ من قضاء اللَّه؟ قال: «أفرّ من قضاء اللَّه إلى قدر اللَّه عزّوجلّ» «1».

فإنّه على كلا تفسيريه شاهد لما قلناه، فإن كان المراد منه القضاء والقدر التكوينيين فمعناه أنّي أفرّ من قضاء اللَّه التكويني (وهو أصل سقوط الحائط المائل على الإنسان الموجب للجرح أو القتل) إلى قدره التكويني وهو أنّ الحائط المائل يوجب قتل الإنسان أو جرحه فيما إذا لم يعمل الإنسان اختياره ولم يفرّ منه بإرادته، فإنّ أصل إيجاب الحائط المائل بعد سقوطه قتل الإنسان من قضاء اللَّه، ولكن هذا القضاء مقدّر ومشروط بعدم إعمال الإنسان اختياره وإرادته وبعدم عدوله وفراره منه إلى مكان آخر.

وإن كان المراد منه القضاء

التكويني والقدر التشريعي فمعناه أنّ موت الإنسان بالحائط المائل وإن كان بقضاء اللَّه وإرادته ولكنّه تعالى أمر الإنسان تشريعاً بالعدول والفرار، فكما أنّ موت الإنسان بالحائط من قضاء اللَّه التكويني يكون فرار الإنسان منه أيضاً من قدره التشريعي.

ولا يخفى أنّ الحديث على كلا المعنيين أصدق شاهد على أنّ شمول قانون العلّية لجميع الأشياء التي منها أفعال الإنسان الاختياريّة لا ينافي اختياره وإرادته.

إلى هنا تمّ الكلام في المقام الأوّل من «الجهة الاولى» من البحث في معنى الأمر.

المقام الثاني: في صيغة الأمر:
اشارة

ويبحث فيها في أمرين:

الأمر الأوّل: في مفادها في الجملة

لا إشكال في أنّها وضعت للطلب الإنشائي وبتعبير المحقّق الخراساني رحمه الله لانشاء الطلب،

انوار الأصول، ج 1، ص: 264

وعلى تعبير بعض الأعاظم لنفس البعث والاغراء (فإنّها تعابير مختلفة والمقصود واحد) فإنّه تارةً يطلب الإنسان شيئاً بنفسه مباشرة فيتحرّك نحو الماء مثلًا لرفع العطش بنفسه، واخرى يطلبه بالتسبيب، والثاني على قسمين: تارةً يحرّك الإنسان الشخص المأمور نحو المأمور به بحركة تكوينيّة فيبعثه نحو العمل بعثاً خارجياً ويدفعه بقوّة يده مثلًا، واخرى يحرّكه ويبعثه نحو العمل بإبراز إرادته وطلبه النفساني بلفظ خاصّ، ومن الألفاظ التي يستعملها الإنسان في القسم الثاني صيغة الأمر فإنّها لفظ ينشأ بها الطلب، ويتوسّل به إلى مطلوبه.

ثمّ إنّ دواعي هذا البعث والإنشاء مختلفة: فتارةً يكون الداعي فيه الإيجاد في الخارج جدّاً، فيكون الطلب طلباً جدّياً، واخرى لا يكون بداعي الجدّ بل بداعي الهزل أو التحقير أو التعجيز أو التهديد أو التمنّي أو الترجّي، ولكنّه لا يوجب الاختلاف في المستعمل فيه بل إنّه في جميع هذه الموارد واحد، وهو البعث والطلب، والتفاوت إنّما هو في الداعي فحسب.

فقولك: أقم الصّلاة، لا يختلف عن قولك «اعمل ما شئت»! في أنّ المستعمل في كليهما هو الطلب الإنشائي، والفرق بينهما إنّما هو في أنّ الداعي لقولك الأوّل إنّما هو الجدّ وإيجاد العمل في الخارج حقيقة، وفي الثاني التهديد وإيجاد الخوف الرادع العمل، وهذا ممّا يشهد عليه الوجدان ويعضده التبادر، وحينئذ يكون الاستعمال في جميعها حقيقيّاً ولا مجاز في البين أصلًا.

الأمر الثاني: في دلالتها على الوجوب

لا ينبغي الإشكال في أنّه إذا اجاءت صيغة الأمر مطلقة وبدون القرينة فانّه يفهم منها الوجوب كما عليه سيرة الفقهاء في الفقه في مقام العمل والاستنباط فإنّهم يعدّون صيغة الأمر حجّة على الوجوب إذا استعملت في الكلام مجرّدة عن

القرينة، وعليه بناء العقلاء عموماً في أوامر الموالي إلى من تحت حكمهم، إنّما الكلام والإشكال في منشأ هذا الظهور وهذه الدلالة، وفيه أربع احتمالات:

الاحتمال الأوّل: ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية، فإنّه أسندها إلى التبادر وقال: لا يبعد تبادر الوجوب عند استعمالها بلا قرينة.

ولكن اشكاله واضح فإنّه يستلزم المجاز عند استعمال الصيغة في الندب، مع أنّ الوجدان يحكم بخلافه، فإنّا لا نرى في استعمالها في الندب عناية ولا رعاية علاقة من علاقات المجاز

انوار الأصول، ج 1، ص: 265

(بناءً على القول بها) ففي قول المولى تعالى «أحسن كما أحسن اللَّه إليك» أو قوله تعالى:

«وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ» (بناءً على استحباب الكتابة في الدَين كما هو المشهور والمعروف) لا يصحّ سلب معنى الأمر منهما وجداناً، فلا يصحّ أن يقال أنّه ليس بأمر مع أنّ المجازيّة تستلزم صحّة السلب كما لا يخفى.

الاحتمال الثاني: ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله وهو «أنّ الوجوب إنّما يكون حكماً عقليّاً ومعناه أنّ العبد لا بدّ أن ينبعث عن بعث المولى إلّاأن يرد منه الترخيص بعد ما كان المولى قد أعمل ما كان من وظيفته وأظهر وبعث وقال مولويّاً «افعل» وليس وظيفة المولى أكثر من ذلك، وبعد إعمال المولى وظيفته تصل النوبة إلى حكم العقل من لزوم انبعاث العبد عن بعث المولى، ولا نعني بالوجوب سوى ذلك» «1».

والإنصاف عدم تماميته أيضاً، لأنّ حكم العقل بوجوب الانبعاث في مقابل مطلق بعث المولى أوّل الكلام، بل أنّ وجوبه أو استحبابه متفرّع على كيفية إرادته واستعماله لصيغة الأمر، فإن استعملها في الوجوب يحكم العقل بوجوب الانبعاث وإن استعملها في الندب يحكم العقل باستحباب الانبعاث، فوجوب الإطاعة والعمل على وفق مراد المولى مسلّم، إنّما

الكلام في مراد المولى من أمره.

الاحتمال الثالث: ما ذكر في تهذيب الاصول، وهو «أنّها كاشفة عن الإرادة الحتمية الوجوبيّة كشفاً عقلائيّاً ككاشفية الأمارات العقلائيّة، ويمكن أن يقال أنّها وإن لم تكن كاشفة عن الإرادة الحتمية إلّاأنّها حجّة بحكم العقل والعقلاء على الوجوب حتّى يظهر خلافه» «2».

أقول: كلا الوجهين قابلان للمناقشة جدّاً، لأنّه لا حجّة للعقلاء في باب الألفاظ إلّامن طريق الدلالة حيث إنّه لا معنى لأماريّة الألفاظ إلّامن ناحية دلالتها على معنى، والبناءات العقلائيّة والحجج المعتبرة عندهم في باب الألفاظ لها مجارٍ خاصّة، فهي إمّا أن تكون من باب الوضع أو من باب مقدّمات الحكمة أو القرينة، وإذاً لا بدّ من تعيين أحد هذه الطرق حتّى نعيّن كيفية الدلالة ومنشأها.

والحاصل: أنّ بناء العقلاء على الوجوب فرع دلالة هذا اللفظ عليه بأحد أنحاء الدلالة،

انوار الأصول، ج 1، ص: 266

وبدونها لا معنى لبنائهم على الوجوب.

الاحتمال الرابع: ما أفاده المحقّق العراقي رحمه الله وهو نفس ما ذهب إليه في المقام الأوّل، أي في مبحث مادّة الأمر من أنّ دلالتها على الوجوب إنّما تنشأ من قضيّة الإطلاق ومقدّمات الحكمة ببيانين:

أحدهما: أنّ الطلب الوجوبي لمّا كان أكمل بالنسبة إلى الطلب الاستحبابي فلا جرم أن كان مقتضى الإطلاق عند الدوران هو الحمل على الطلب الوجوبي إذ الطلب الاستحبابي باعتبار ما فيه من النقص يحتاج إلى نحو تحديد وتقييد.

ثانيهما: أنّ الأمر بعد أن كان فيه اقتضاء لوجود متعلّقه في الخارج (ولو باعتبار منشئيته للحكم بلزوم الإطاعة والامتثال) يكون اقتضاؤه تارةً بنحو يوجب مجرّد خروج العمل عن اللااقتضائيّة بحيث كان حكم العقل بالإيجاد من جهة الرغبة لما يترتّب عليه من الأجر والثواب فحسب، واخرى يكون اقتضاؤه لتحريك العبد بالإيجاد بنحو أتمّ بحيث يوجب سدّ

باب عدمه حتّى من طرف العقوبة على المخالفة علاوة عمّا يترتّب على إيجاده من المثوبة الموعودة، وفي مثل ذلك. نقول: إنّ قضيّة إطلاق الأمر يقتضي كونه على النحو الثاني لأنّ النحو الأوّل فيه جهة نقص فيحتاج إرادته إلى مؤونة بيان «1». (انتهى مع تلخيص في عبارته).

أقول: أمّا بيانه الأوّل ففيه: أنّ غاية ما يقتضيه هو كون الطلب ذا مراتب: خفيفة وهي الاستحباب، وشديدة وهي الوجوب، كما أنّ الوجوب أو الاستحباب أيضاً ذا مراتب كثيرة، ومجرّد ذلك لا يوجب انصراف الطلب إلى أحدها دون الآخر كما أنّ النور ذو مراتب مختلفة ولا يكون إطلاقه منصرفاً إلى بعض أفراده وهو النور الشديد، بل كلّ واحد يحتاج إلى البيان فإنّ كلّ واحد له حدّ.

وأمّا بيانه الثاني: فإن كان المراد منه الانصراف إلى الفرد الأكمل فهو أيضاً قابل للمناقشة، لأنّ الانصراف إلى الفرد الأكمل ممّا لا دليل عليه، فلذا لا ينصرف «العالم» إلى أعلم العلماء، وإن كان المراد ما ذكرناه في مادّة الأمر فهو حقّ لا ريب فيه.

توضيح ذلك: أنّ صيغة الأمر تدعو إلى إيجاد الفعل في الخارج من دون أن يتطرّق إليه انوار الأصول، ج 1، ص: 267

الترك، أي إن طبيعة الطلب لا يتطرّق إليها الاذن بالترك فهي بظاهرها تقتضي الانبعاث، ولا سبيل لعدم الانبعاث إليها ما لم يصرّح الآمر المولى بالترخيص فتنصرف حينئذٍ إلى الوجوب واللزوم، ويشهد على ذلك عدم قبول اعتذار العبد بأنّي كنت أحتمل الندب، بل يقال له «إذا قيل لك افعل فافعل».

فظهر أنّ منشأ انصراف صيغة الأمر إلى الوجوب ودلالتها عليه إنّما هو طبيعة الطلب الظاهرة في سدّ جميع أبواب العدم (عدم الطلب) فيها، وإن هو إلّانظير الدفع باليد نحو الخروج فإذا دفعت إنساناً بيدك

نحو الخروج لا مجال فيه لاحتمال استحبابه، وكذا البعث بصيغة الأمر (اخرج) فإنّه شبيه البعث التكويني، أي الدفع باليد، ولا فرق في هذا الظهور بين كون الطلب من العالي أو المساوي أو الداني، نعم بينها فرق في وجوب الإطاعة وعدمه، وهذا بحث كلامي لا دخل له بما نحن فيه من البحث اللّفظي.

إن قلت: أيّة ثمرة تترتّب على هذا البحث، مع العلم بأنّ المستفاد من صيغة الأمر هو الوجوب على جميع هذا الأقوال ومن أيّ منشأ كان.

قلنا: إنّ ثمرة هذا البحث تظهر فيما إذا علمنا بعدم كون المتكلّم في مقام البيان حيث تدلّ صيغة الأمر حينئذ على الوجوب بناءً على كونها من باب الوضع ولا تدلّ عليه بناءً على كونها من باب الإطلاق ومقدّمات الحكمة فإنّ من المقدّمات كون المتكلّم في مقام البيان، إلى غير ذلك.

هذا كلّه في الفصل الأوّل من الفصول التي يبحث عنها في مبحث الأوامر.

الفصل الثاني: الجمل الخبريّة

لا إشكال في أنّه كثيراً ما تستعمل الجملة الخبريّة موضع الإنشاء ويراد منها الطلب نحو قوله تعالى: «وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ» وقوله تعالى: «وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ» وقد ورد مثل هذا الطلب في روايات كثيرة أيضاً بل لعلّ أكثر الأوامر الواردة فيها يكون من هذا النوع نظير قوله عليه السلام «يعيد صلاته» مكان قوله: «ليعد صلاته» أو قوله عليه السلام «يغتسل» أو «يسجد سجدتي السهو» إلى غير ذلك، كما تستعمل في أكثر الموارد بصورة فعل المضارع والجملة الفعليّة، وقليلًا ما تكون على هيئة الجملة الاسمية، وكيف كان فالبحث يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في أنّه كيف يمكن استعمال الجملة الخبريّة وإرادة الإنشاء منها، فهل هو حقيقة أو مجاز أو كناية؟

المقام الثاني: في أنّها هل تدلّ على الوجوب أو لا؟

أمّا

المقام الأوّل فالأقوال فيه ثلاثة:

1- أنّه مجاز لاستعمال الجملة الخبريّة التي وضعت للأخبار في غير ما وضعت له.

ولكنّه بعيد جدّاً، لأنّ المجاز لا بدّ فيه من علاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي، ومن الواضح أنّه لا علاقة بين الإخبار والإنشاء.

2- ما مرّ من بعض الأعلام في المعاني الحرفيّة بالنسبة إلى الجمل الخبريّة من أنّها تدلّ على النسبة الايقاعيّة الإيجاديّة، إلّاأنّ إيجاد النسبة وايقاعها قد يكون بداعي الحكاية والإخبار كما في الجمل الخبريّة التي تصدر من المتكلّم للاخبار، وقد يكون بداعي البعث والطلب كما في ما نحن فيه، فالجملة حينئذٍ استعملت في ما وضعت له، فلا مجاز ولا حاجة إلى قرينة المجاز، إلّإ

انوار الأصول، ج 1، ص: 270

أنّ الدواعي حيث كانت مختلفة فتارةً يوقع المتكلم النسبة بداعي الإخبار والحكاية، واخرى يوقعها بداعي الطلب والإنشاء، أي أنّ لها فردين من النسبة فلابدّ من قيام قرينة لتعيين أحد الفردين.

وربّما يستشهد لكونها ايقاعيّة أنّها توجب السرور أو الكراهة في نفس المخاطب فإنّه يسرّ إذا قيل له «أنت بحر عميق» ويتأذّى وينزعج إذا قيل له «أنت فاسق جاهل» مثلًا.

ولكن قد مرّ أيضاً جوابه تفصيلًا فإنّا قلنا سابقاً أنّ الجملة الخبريّة بمبتدئها وخبرها ونسبتها أي بشراشرها تدلّ على الحكاية والإخبار عن الخارج، وأنّ النسبة أيضاً أمر تكويني خارجي تحكي عنها النسبة الخبريّة، وليست من الامور الاعتباريّة حتّى توجد في عالم الاعتبار فراجع.

3- أنّها كناية عن الطلب والإنشاء ببيان اللازم وإرادة الملزوم فإنّ المولى إذا رأى عبده مطيعاً لأوامره (إمّا من طريق أنّ العبد قدم إلى المولى للسؤال عن وظيفته وتكليفه أو من أي طريق آخر) يفترض أوّلًا امتثاله واطاعته في الخارج وأنّه يتصدّى للعمل في الخارج بمجرّد أنّ علم بطلب المولى وإرادته،

ثمّ يخبر عن امتثاله وتصدّيه كناية عن طلبه، أي يذكر اللازم وهو انبعاث العبد وحركته نحو العمل ويريد منه ملزومه وهو طلب المولى وإرادته لذلك العمل، وحينئذ لا فرق بين قوله «يغتسل» مثلًا في مقام الإخبار وقوله «يغتسل» في مقام الإنشاء في أنّ كلًا منهما استعمل في الإخبار والحكاية عن الخارج، إلّاأن الأوّل يكون بداعي الإخبار حقيقة، وأمّا الثاني فهو كناية عن الطلب النفساني للعمل.

إن قلت: يلزم من هذا الدور المحال لأنّ لازمه أن يتوقّف الانبعاث على الإخبار، ويتوقّف صحّة الإخبار على الانبعاث.

قلنا: أنّه كذلك فيما إذا كان الإخبار إخباراً حقيقة بينما هو في المقام كناية عن البعث والطلب، والمتوقّف على الانبعاث إنّما هو صحّة الإخبار الحقيقي لا ما يكون كناية عن الإنشاء.

إن قلت: إنّ لازمه الكذب كثيراً لكثرة عدم وقوع المطلوب في الخارج من العصاة، تعالى اللَّه وأولياؤه عن ذلك.

قلنا: الكذب في باب الكنايات متوقّف على عدم وجود المكنّى عنه في الخارج لا على عدم وجود المحكي للجملة الخبريّة التي استخدمت للكناية، ففي قولك «زيد كثير الرماد» (للكناية

انوار الأصول، ج 1، ص: 271

عن جود زيد) يلزم الكذب إذا لم يكن زيد جواداً لا ما إذا لم يكن كثير الرماد، بل قد لا يكون له رماد أصلًا.

هذا كلّه في المقام الأوّل.

وأمّا المقام الثاني: وهو دلالتها على الوجوب فالكلام فيه هو الكلام في صيغة الأمر من جهة الظهور عند العقلاء وأهل العرف، فلا إشكال هنا أيضاً في أصل الدلالة على الوجوب كما أنّ منشأها هنا أيضاً ما يرجع إلى طبيعة الطلب وما تقتضيه ماهية البعث، وأنّ جواز الترك قيد إضافي وتحتاج إلى البيان وذكر القرينة.

بقي هنا أمران:

الأمر الأوّل: المعروف والمشهور أنّ دلالة الجمل الخبريّة على الوجوب آكد

من دلالة صيغة الأمر، ببيان أنّها في الحقيقة إخبار عن تحقّق الفعل بإدّعاء أنّ وقوع الامتثال من المكلّف مفروغ عنه.

ولكن الإنصاف أنّه من المشهورات التي لا أصل لها، فإنّ الجملة الخبريّة حيث إنّها في مقام الكناية عن الطلب تكون أبلغ في الدلالة على الإنشاء كما في سائر الكنايات فإنّها أبلغ في بيان المقصود والدلالة على المطلوب من غيرها، لا أنّها آكد وأنّ الطلب المنشأ بها يكون أقوى وأشدّ، كما يشهد عليه الوجدان، فلا فرق بالوجدان بين قوله تعالى: «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ» وقولك «يغسلون وجوههم» من حيث شدّة الطلب وضعفه والأهمّية وعدمها إلّاأنّ الثاني أبلغ في الدلالة على وجوب الغسل من باب أنّ الكناية أبلغ من التصريح كما قرّر في محلّه.

الأمر الثاني: ما أشرنا إليه آنفاً من أنّ ملاك الصدق والكذب في باب الكنايات إنّما هو صدق المعنى المكنّى عنه وكذبه، لا المدلول المطابقي والمعنى الموضوع له اللفظ، وحينئذ لا بأس بكثرة عدم وقوع المطلوب في الخارج، وهي لا تلازم الكذب في قول اللَّه وأولياؤه (تعالى اللَّه وأولياؤه عن ذلك علواً كبيراً).

إلى هنا تمّ الكلام في الفصل الثاني من مبحث الأوامر.

انوار الأصول، ج 1، ص: 273

الفصل الثالث التعبّدي والتوصّلي
اشارة

ولا بدّ من تقديم امور قبل الورود في أصل البحث:

الأمر الأوّل: في تعريف التعبّدي والتوصّلي وبيان الميزان فيهما

فقد ذكر لهما تعاريف كثيرة التي لا حاجة إلى ذكر جميعها بل نذكر هنا أشهرها وما يرد عليه من الإيراد ثمّ نذكر التعريف المختار.

فالمشهور أنّ الواجب التوصّلي ما لا يتوقّف حصول الامتثال أو حصول الغرض فيه على قصد القربة نظير تطهير المسجد «1» فإنّ الغرض فيه يحصل وبتبعه يسقط الأمر بمجرّد التطهير من دون قصد القربة أو قصد الأمر وبأيّ طريق حصل التطهير، وأمّا الواجب التعبّدي فهو ما يتوقّف حصول الغرض والامتثال فيه على قصد القربة.

ولكن الإنصاف أنّه تعريف ببعض اللوازم وليس بياناً لماهية الواجب التعبّدي والتوصّلي، فإنّ اعتبار قصد القربة أو عدمه ينشأ من خصوصيّة في ماهية الواجب التعبّدي أو التوصّلي وإنّهما مع قطع النظر عن قصد القربة مفترقان ماهية وذاتاً.

توضيح ذلك: إنّ الأفعال الاختياريّة للإنسان على قسمين: الأفعال التي يأتي بها لرفع حاجاته اليوميّة كالتجارة والبيع والنكاح والطلاق وغيرها، والأفعال التي يأتي بها لاظهار عبوديته ونهاية خضوعه وتعظيمه في مقابل ربّه ومولاه، وهي بنفسها على قسمين أيضاً:

انوار الأصول، ج 1، ص: 274

الأوّل: ما يكون بذاته تعظيماً وتجليلًا ويعدّ خضوعاً وعبوديّة كالسجدة فإنّها تعدّ بذاتها عبوديّة ولو مع عدم قصد القربة ووقوعها في مقابل أي شخص أو أيْ شي ء، وهي عبادة ولو وقعت في مقابل صنم من الحجر والشجر.

الثاني: ما يكون عبادة ولكن لا بذاته وماهيته بل باعتبار المولى وجعله كعباديّة الصّيام (التي ترجع إلى عباديّة الامساك) والطواف والسعي في الصفا والمروة والهرولة في موضعها وغير ذلك من أشباهها من الواجبات التعبّديّة في الشرع المقدّس، فإنّها امور وضعت للخضوع والتعظيم في مقابل المولى الحكيم فإنّه جعلها للعبادة والعبوديّة ووسيلة للتقرّب إليه، ولا إشكال في أنّ

هذا القسم أيضاً يتشخّص بتشخّص العبادة ويتلوّن بلونها بالجعل والاعتبار مع قطع النظر عن قصد القربة والتعظيم وقصد العبادة، فإنّه نظير ما يعتبر للتعظيم ويوضع للاحترام بين الملل والأقوام، فعند بعضهم جعل رفع القلنسوة والبُرنيطة للاحترام فيعدّ وضعها إهانة وهتكاً مع أنّ عكسه يعدّ تعظيماً عندنا فيعتبر وضع العمامة مثلًا إحتراماً ورفعها هتكاً، وكذلك الحال في العبادات، فالعمدة فيها الجعل والاعتبار، نعم العبادة المطلوبة تتحقّق بقصد القربة لا بذات العبادة.

فتلخّص: أنّ الفرق بين التعبّدي والتوصّلي لا ينحصر في قصد القربة وعدمه فقط بل إنّهما تفترقان في الماهية أيضاً، فماهية العمل التعبّدي تفترق عن ماهية العمل التوصّلي، وبعبارة اخرى: أنّ للعبادة التي توجب التقرّب إلى المولى ركنين: حسن فاعلي وهو أن يكون العبد في مقام الإطاعة والتقرّب إلى المولى، وحسن فعلي وهو أن يكون ذات العمل مطلوباً للمولى.

ثمّ إنّ المقصود من التعظيم في الموالي العرفيّة إنّما هو تكريم المولى واعظامه ليكون أكرم وأعظم عند الناس، وأمّا بالنسبة إلى الباري تعالى الكامل بالكمال المطلق والغني الحميد بغناء لا نهاية له فالمقصود منه إنّما هو تقرّب العبد ورشده وقتباس شي ء من نوره وصفاته ولو كان كضوء الشمع في مقابل الشمس أو أقلّ من ذلك.

وفي تهذيب الاصول ذكر للواجب قسماً ثالثاً، فبدّل التقسيم الثنائي إلى الثلاثي حيث قسّم ما يعتبر فيه قصد القربة إلى قسمين:

أحدهما: ما ينطبق عليه عنوان العبوديّة للَّه تعالى، بحيث يعدّ العمل منه للربّ عبوديّة له كالصّلاة والاعتكاف والحجّ.

انوار الأصول، ج 1، ص: 275

وثانيهما: ما لا يعدّ نفس العمل تعبّداً أو عبوديّة وإن كان قربيّاً لا يسقط أمره إلّابقصد الطاعة كالزّكاة والخمس، ثمّ قال: وهذان الأخيران وإن كان يعتبر فيهما قصد التقرّب لكن لا يلزم أن يكونا عبادة

بالمعنى الكذكور إذ كلّ فعل قربى لا ينطبق عليه عنوان العبوديّة فإطاعة الولد لوالده والرعايا للملك لا تعدّ عبوديّة لهما بل طاعة، كما أنّ ستر العورة بقصد امتثال الأمر وانقاذ الغريق كذلك ليسا عبوديّة له تعالى بل طاعة لأمره وبعثه، وحينئذٍ يستبدل التقسيم الثنائي إلى الثلاثي فيقال: الواجب امّا توصّلي أو تقرّبي، والأخير إمّا تعبّدي أو غير تعبّدي ...

إلى أن قال: فالأولى دفعاً للالتباس حذف عنوان التعبّديّة وإقامة التقرّب موضعها «1». (انتهى).

أقول: قد قرّر في محلّه أنّ لبعض الأعمال القربيّة كالزّكاة والخمس حيثيتين: حيثيّة تسمّى بحقّ اللَّه وحيثية يعبّر عنها بحقّ الناس، أمّا الحيثية الثانيّة فهو ما يوجب تعلّق حقّ الفقراء بأموال المكلّفين وهو يؤخذ منهم ولو جبراً سواء قصد القربة بذلك أو لم يقصدها، وأمّا الحيثية الاولى فهي ما يوجب تلوّن العمل بلون قربى إلهي ويجعله كسائر الواجبات التعبّديّة كتحمّل الجوع في شهر رمضان أو الهدية والوقوف بمنى وعرفات أو السعي بين الصفا والمروة في أيّام الحجّ، فكما أنّ اشتراط قصد القربة هناك علامة لجعلها ووضعها للخضوع والعبوديّة بحيث لولاها فسد العمل كذلك هنا من دون أي فرق بينهما في هذه الجهة.

هذا بالنسبة إلى ما ذكره من مثال الخمس والزّكاة، وأمّا بالنسبة إلى سائر ما ذكره من الأمثلة كستر العورة امتثالًا لأمر اللَّه وانقاذ الغريق، كذلك، فمن الواضح أنّه لا يفسد أمثال هذه الامور بترك قصد القربة، فلو أنقذ الغريق من دون هذا القصد فقد أتى بما وجب عليه وإن لم يستحقّ الثواب، وهذا أي عدم الاشتراط بالقربة دليل على أنّه لم يجعل عبادة في الشرع المقدّس، وبعبارة اخرى: العبادة كما ذكره القوم على قسمين: العبادة بالمعنى الأخصّ وهي ما يشترط فيه قصد القربة

وبدونها تكون فاسدة، والعبادة بالمعنى الأعمّ وهي ما يؤتى بقصد القربة وإن لم يعتبر في صحّتها ذلك، فلو ترك القربة فيها لم يستحقّ الثواب وإن كان عمله صحيحاً بسبب كونه توصّلياً، والمراد من التعبّدي في المقام هو القسم الأوّل، أي ما يشترط فيه قصد القربة لا ما يؤتى بقصد القربة وإن لم يشترط بها.

انوار الأصول، ج 1، ص: 276

ثمّ إنّه قال في المحاضرات: إنّ الواجب التوصّلي يطلق على معنيين:

الأوّل: ما لا يعتبر فيه قصد القربة.

الثاني: ما لا تعتبر فيه المباشرة من المكلّف بل يسقط عن ذمّته بفعل الغير سواء أكان بالتبرّع أم بالاستنابة، بل ربّما لا يعتبر في سقوطه الالتفات والاختيار، بل ولا إتيانه في ضمن فرد سائغ، فلو تحقّق من دون إلتفات وبغير اختيار، أو في ضمن فرد محرم كفى.

وإن شئت قلت: إنّ الواجب التوصّلي مرّة يطلق ويراد به ما لا تعتبر فيه المباشرة من المكلّف، ومرّة اخرى يطلق ويراد به ما لا يعتبر فيه الالتفات والاختيار، ومرّة ثالثة يطلق ويراد به ما لا يعتبر فيه أن يكون في ضمن فرد سائغ (انتهى) «1».

أقول: إنّ ما أفاده جيّد في محلّه، ولكنّه لو كان في مقام بيان مصطلح القوم في الواجب التوصّلي فلم نتحقّقه في كلماتهم، وإن كان في مقام جعل اصطلاح جديد فلا مشاحّة في الاصطلاح، ولعلّه كان في مقام بيان آثار الواجب التوصّلي ولوازمه، ولكن وقع السهو في العبارة فجعل ذلك أقساماً للواجب التوصّلي، والحاصل أنّ الواجب التوصّلي شي ء واحد وكلّ ذلك من لوازمه وآثاره.

الأمر الثاني: في أنحاء قصد القربة

قد ذكر في بعض الكلمات أنحاء أربعة لقصد القربة وأشار إليها المحقّق الخراساني؛ أيضاً في بعض كلماته: أوّلها: التقرّب بقصد الأمر، ثانيها: التقرّب بقصد المحبوبيّة، ثالثها: التقرّب بقصد المصلحة،

ورابعها: التقرّب بقصد كونه للَّه وإنّ اللَّه أهل للعبادة.

أقول: أمّا التقرّب قصد الأمر: فهو يتصوّر في ما تكون عباديته بالجعل والاعتبار حيث إنّ هذا القبيل من الامور العباديّة تحتاج في تحديدها وتعيين نوعها وكيفيتها إلى أمر واعتبار من ناحية الشارع، وأمّا ما تكون عباديته ذاتيّة كالسجود فلا حاجة فيها إلى قصد الأمر ليكون عبادة لأنّها خضوع ذاتاً ولا تتصوّر فيه أشكال مختلفة فيكون في حالٍ خضوعاً للَّه تعالى وفي حال آخر غير خضوع، وقصد الأمر لا بدّ منه في ما إذا تصوّر لعمل واحد دواعٍ مختلفة وحالات متفاوتة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 277

وأمّا التقرّب بقصد المحبوبيّة: فلا إشكال في جوازه حيث إنّ قصد المحبوبيّة أيضاً يمكن أن يصير احترازاً عن سائر الدواعي وبياناً للقسم الذي يكون عبادة.

وأمّا التقرّب بقصد المصلحة: فإن كان المقصود من المصلحة ما يترتّب على العبادة من الخضوع والتكامل المعنوي (وهو ما نسمّيه بالمصلحة الأخلاقيّة) فهو يرجع إلى القسم السابق، أي قصد المحبوبيّة، وإن كان المراد منها المصالح الماديّة كالصحّة في الصّيام (كما ورد في الحديث: «صوموا تصحّوا») وكإصلاح أمر المعاش والامور الاقتصاديّة للمسلمين في الحجّ (فإنّ من أبعاد الحجّ بعده الاقتصادي كما اشير إليه في الحديث أيضاً) فلا إشكال في عدم إمكان التقرّب بقصدها كما لا يخفى، فإنّ هذه الامور ليست اموراً قربيّة إلّاإذا لوحظ كونها مقدّمة للعبادة والإطاعة بمعنى أنّه يريد صحّة جسمه مثلًا ليقوى على طاعة اللَّه.

وأمّا التقرّب بقصد كون العمل للَّه: لأنّ اللَّه أهل للعبادة فلا يصحّ أيضاً، لأنّ التقرّب بعمل خاصّ متفرّع على عباديته في الرتبة السابقة إمّا ذاتاً أو بالجعل والاعتبار، فإن كان عبادة ذاتاً فهو وإلّا فلابدّ لصيرورته عبادة من أن يقصد محبوبيته عند اللَّه أو كونه

مأموراً به حتّى يمتاز عن أشباهه ونظائره، وأمّا مجرّد إتيانه لأنّ اللَّه تعالى أهل للعبادة لا يوجب عباديته كما لا يخفى.

فظهر أنّ الصحيح من الأنحاء الأربعة في العبادات المجعولة الاعتباريّة من جانب الشارع إنّما هو القسم الأوّل والثاني فقط، وأمّا في العبادات الذاتيّة فلا حاجة إلى شي ء من ذلك، نعم إذا أتى بالسجدة بقصد كونها للَّه تكون عبادة للَّه، وإن اريد بها الصنم تكون عبادة للصنم، فهي عبادة على كلّ حال ذاتاً من دون حاجة إلى جعل واعتبار.

الأمر الثالث: في إمكان أخذ قصد الأمر في المأمور به
اشارة

فقد وقع الخلاف في أنّه هل يجوز أخذ قصد الأمر في متعلّقه شرعاً أو لا؟ ذهب جماعة من الأعلام إلى عدم الإمكان وإنّ قصد الأمر ممّا يعتبر في العبادات عقلًا لا شرعاً ولهم بيانات مختلفة في إثباته:

منها: ما أفاده المحقّق الخراساني؛ من لزوم الدور، وبيانه: إنّ قصد الأمر متأخّر عن الأمر، والأمر متأخّر عن متعلّقه فلو اعتبر قصد الأمر المتأخّر عن الأمر في المتعلّق السابق على الأمر لزم تقدّم الشي ء على نفسه برتبتين وهو محال.

انوار الأصول، ج 1، ص: 278

ثمّ أورد على نفسه:

أوّلًا: بما حاصله، إنّ قصد الأمر متأخّر عن الأمر خارجاً فما لم يتحقّق الأمر في الخارج لم يمكن قصده، وأمّا تأخّر الأمر عن متعلّقه (كتأخّر الأمر بالصّلاة عن وجود الصّلاة خارجاً) فهو باطل لأنّه تحصيل للحاصل، نعم الأمر متأخّر عن وجود متعلّقه ذهناً لأنّه ما لم يتصوّر الصّلاة لا يأمر به.

وأجاب عنه: بأنّ الإتيان بالصّلاة بداعي الأمر غير مقدور للمكلّف حتّى بعد الأمر إذ لا أمر للصّلاة كي يأتي بها بداعيه فإنّ الأمر حسب الفرض قد تعلّق بالمجموع أي بالصّلاة المقيّدة بداعي الأمر لا بنفس الصّلاة وحدها كي يمكن الإتيان بها بداعي أمرها، والأمر لا يدعو إلّا

إلى ما تعلّق به (وهو المجموع) لا إلى غيره (وهو الصّلاة وحدها).

ثانياً: بقوله، نعم إنّ الأمر تعلّق بالمجموع ولكن نفس الصّلاة أيضاً صارت مأموراً بها بالأمر بها مقيّدة (أي بالأمر الضمني).

وأجاب عنه بقوله: كلًا، لأنّ ذات المقيّد لا يكون مأموراً بها، فإنّ الجزء التحليلي العقلي (وهو ذات «المقيّد» و «التقيّد» حيث إنّهما بعد تعلّق الأمر بمجموع الصّلاة المقيّدة بداعي الأمر جزءان تحليليّان نظير الجنس والفصل) لا يتّصف بالوجوب أصلًا إذ لا وجود له في الخارج غير وجود الكلّ الواجب بالوجوب النفسي الاستقلالي كي يتّصف بالوجوب ضمناً كما هو الشأن في الجزء الخارجي.

ثالثاً: بقوله، نعم، لكنّه إذا أخذ قصد الأمر شرطاً وقيداً وأمّا إذا أخذ شطراً وجزءً فينبسط الأمر حينئذ على الأجزاء ويتّصف كلّ من الصّلاة وقصد الأمر بالوجوب النفسي الضمني أي يكون تعلّق الوجوب بكلّ جزءٍ بعين تعلّقه بالكلّ ويصحّ أن يؤتى به بداعي ذاك الوجوب، ضرورة صحّة الإتيان بكلّ جزء من أجزاء الواجب بداعي وجوبه.

وأجاب عنه:

أوّلًا: بأنّ تعلّق الأمر بإرادة الأمر وقصده ممتنع لأنّ اختياريّة الأفعال تكون بالإرادة وهي القصد، فلو كانت اختياريّة الإرادة بإرادة اخرى لتسلسلت.

وثانياً: بأنّ الإتيان بالجزء إنّما يمكن في ضمن الإتيان بالمجموع بداعي الأمر المتعلّق بالمجموع، وإتيان المجموع بداعي أمره لا يكاد يمكن في ما نحن فيه، لأنّه يلزم الإتيان بالمركّب انوار الأصول، ج 1، ص: 279

من قصد الأمر وغيره بقصد الأمر وهو محال. (انتهى كلامه بتوضيح منّا).

أقول: وفي كلامه مواقع للنظر:

الأوّل: أنّ جوابه عن الإشكال الأوّل بمنزلة تغيير لموضع البحث وقبول حلّ مسألة الدور والدخول في مسألة اخرى فكأنّه اعترف برفع إشكال الدور بمسألة اللحاظ فإنّ اعتباره في المتعلّق يحتاج إلى تصوّره ذهناً فقط لا إلى وجود الأمر خارجاً.

الثاني: أنّه

اعترف أيضاً ضمن الإشكالين الأخيرين بإمكان أن يكون قصد الأمر جزءً للمأمور به مع أنّ الجزء داخل في ذات المأمور به وفي قوامه كأحد الأجزاء في المعاجين وكالركوع والسجود في الصّلاة، بينما قصد الأمر ليس في عداد الأجزاء وإنّما هو يعرض الأجزاء ويكون من قبيل الحالات التي تعرض الشي ء فهو من سنخ الشرط لا الجزء، نظير الاستقبال أو الطهارة في الصّلاة.

الثالث: أنّه أنكر وجود الأمر الضمني النفسي بالنسبة إلى الشرائط وحصر وجوده في الأجزاء مع أنّه يمكن تصوّر الأمر الضمني في الشرائط أيضاً، غاية الأمر أنّ متعلّقه هو الأجزاء وتقيّدها بالقيد، حيث إنّ التقيّد أيضاً جزء كسائر الأجزاء المطلوبة وإن كان القيد خارجاً، فإنّ تقيّد الصّلاة بالطهارة أيضاً متعلّق للأمر النفسي الضمني وإن كانت نفس الطهارة خارجة عنها.

الرابع: أنّه أشار في مقام الجواب عن الإشكال الثالث إلى ما مرّ منه سابقاً من أنّ اختياريّة سائر الأفعال بالإرادة، وإراديّة الإرادة ليست بها للزوم التسلسل، وقد مرّ الجواب عنه في البحث عن اتّحاد الطلب والإرادة فراجع.

الخامس: الوجدان أصدق شاهد على إمكان أخذ قصد الأمر في المأمور به كأن يقول المولى: «كبّر واسجد واركع ... مع قصد هذا الأمر» وكلّ ما ذكر من الأشكال شبهة في مقابل الوجدان لا يعتنى به، فمثلًا اشكاله بأنّه «يلزم منه وجوب إتيان المأمور به المركّب من قصد الأمر بقصد الأمر، أي يلزم أن يتعلّق قصد الأمر بقصد الأمر وهو محال» يمكن الجواب عنه بأن لا إشكال في أنّ المحتاج إلى قصد القربة إنّما هو الأجزاء، وأمّا الشرائط فالذي يحتاج من بينها إلى قصد القربة إنّما هو الطهارة عن الحدث فقط حين تحصيلها لا حين تقيّدها وأمّا سائر الشرائط كالاستقبال والستر والطهارة عن

الخبث وقصد القربة نفسه فلا حاجة فيها إلى قصد

انوار الأصول، ج 1، ص: 280

القربة بل يكفي تحقّق ذواتها بأي نحو حصلت ولو بدون قصد القربة.

وحينئذ نقول: لو فرضنا كون الأجزاء في الصّلاة تسعة وتعلّق الأمر بها فيصير عشرة مع تقيّدها بقصد الأمر، فينبسط الأمر على الجميع فيأتي بها بقصد الأمر الضمني، وهو يرى أنّ الجزء العاشر يحصل بمجرّد ذلك، فيكون الأمر الضمني في ضمن الكلّ، والمحتاج إلى قصد الأمر هو الأجزاء لا الشرائط لعدم قيام دليل عليه.

السادس: سلّمنا إستحالة أخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر ولكن الطريق في جعل عباديّة العبادات وأخذ قصد التقرّب بها في المتعلّق ليس منحصراً في أخذ قصد الأمر فيه بل يمكن لذلك أخذ قصد المحبوبيّة أو قصد المصلحة المعنويّة في المتعلّق فيقال مثلًا «صلّ بقصد المحبوبيّة أو قصد المصلحة المعنويّة» فإذا لم يأخذه المولى في المتعلّق وأطلقه نتمسّك بإطلاقه لعدم اعتبار قصد القربة وعدم كون الواجب تعبّديّاً.

ثمّ إنّه قد ذُكر هيهنا طريق آخر لأخذ قصد الأمر في المأمور به، وهو ما أفاده الشّيخ الأعظم رحمه الله على ما في تقريراته، ثمّ ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله فيما أورده على نفسه رابعاً، وهو عبارة عن تصحيح اعتبار قصد الأمر في المأمور به من طريق أمرين: أحدهما: يتعلّق بذات العمل، والآخر: بإتيانه بداعي أمره، فلو لم يعتبر المولى قصد القربة بواسطة أمر ثانٍ وكان هو في مقام البيان نستكشف عدم اعتباره.

ثمّ أجاب المحقّق الخراساني رحمه الله عنه:

أوّلًا: بأنّا نقطع بأنّه ليس في العبادات إلّاأمر واحد كسائر الواجبات التوصّلية.

وثانياً (وهو العمدة) بأنّ الأمر الأوّل المتعلّق بأصل الفعل إن كان توصّلياً يسقط بمجرّد الإتيان بالفعل ولو بداعي أمره فلا يكاد يبقى مجال لموافقة الأمر الثاني،

لسقوط الأمر الأوّل بمجرّد الإتيان بالفعل لا بداعي أمره، وإن كان تعبّديّاً لا يسقط بمجرّد الإتيان بالفعل بغير داعي أمره، فلا وجه لعدم السقوط إلّاكون الواجب عباديّاً لا يحصل الغرض منه إلّامع الإتيان به بداعي أمره، ومع كون الواجب كذلك يستقلّ العقل لا محالة بوجوب إتيانه على نحو يحصل به الغرض أي بداعي أمره وعلى وجه التقرّب به من دون حاجة إلى أمر آخر بإتيانه كذلك.

أقول: يرد على جوابه الأوّل: بأنّه يوجد في باب العبادات أمران: أحدهما: متعلّق بذات انوار الأصول، ج 1، ص: 281

العمل وهو واضح، والآخر: بإتيانه بداعي أمره، وهو ما يستفاد من إجماع الفقهاء على اعتبار قصد القربة فإنّه كدليل منفصل وارد بعد الأوامر العباديّة.

فإنّ المقصود من الأمر إنّما هو الدليل الكاشف عن قول المعصوم عليه السلام ولا إشكال في أنّ الإجماع دليل شرعي يوجب القطع بصدور أمر من المعصوم عليه السلام يدلّ على اعتبار قصد القربة.

ويرد على جوابه الثاني: أنّا نختار الشقّ الثاني من كلامه وهو كون الأمر الأوّل تعبّديّاً لا يسقط بمجرّد الإتيان بالفعل بغير داعي أمره ولكن مع ذلك لا يكون الأمر الثاني لغواً، لأنّ الكاشف عن تعبّديّة الأمر الأوّل وعدم حصول الغرض منه إلّابداعي أمره إنّما هو الأمر الثاني، وليس هناك دليل آخر في مقام الإثبات إلّاالأمر الثاني.

ثمّ إنّه لو فرضنا استحالة أخذ قصد الأمر في المأمور به بأمر واحد وانحصار طريق أخذه في أمرين، فلا إشكال في أنّ الإطلاق الذي يتمسّك به في صورة عدم أخذ قصد الأمر بأمر ثانٍ ليس إطلاقاً لفظيّاً لأنّ المفروض عدم إمكان تقييد الأمر الأوّل بقصد الأمر حتّى يتصوّر فيه الإطلاق، بل هو إطلاق مقامي، وهو عبارة عن كون المولى في مقام بيان

حكم أفراد كثيرة من دون أن يصوغه في قالب لفظي شامل لجميع الأفراد بل يذكر حكم كلّ فرد فرد بصيغته الخاصّة فيقول مثلًا: «كبّر، اسجد، اركع ...» فحينئذٍ لو شككنا في وجوب جزء خاصّ أو قيد خاصّ فليس هنا لفظ كان من الممكن أن يقيّده بذلك الجزء، ومثل أن يقول السائل: «بيّن لي الأغسال الواجبة» وأجاب الإمام عليه السلام غسل الجنابة والحيض و ... من دون ذكر غسل الجمعة، فيعلم منه بمقتضى الإطلاق المقامي عدم وجوبه، أي أنّ المولى كان في مقام لو تعلّق غرضه بجزء آخر لذكره، وحيث إنّه لم يذكره فلم يقل مثلًا «اقنت» في عرض سائر الأجزاء نستكشف عدم وجوبه، وهذا نظير ما إذا قام الدائن في مقام تصفية الديون فأحصى كلّ مورد مورد من موارد الدين وترك المجلس بعنوان التصفية فلو شكّ المدين بعدئذٍ في وجود طلب آخر فله أن يتمسّك بإطلاق المقام ويقول: حيث إنّ الدائن كان في مقام التصفية ولم يذكر هذا المورد فهذا دليل على عدم بقاء مورد آخر لدينه، فهذا إطلاق مقامي من باب أنّه ليس في البين لفظ صدر من جانب الدائن كقوله «لا دين لي عليك» حتّى يتمسّك بإطلاقه.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّه يمكن أخذ قصد القربة في المأمور به بثلاثة طرق: 1- أخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر الأوّل، 2- أخذ قصد الأمر في الأمر الثاني، 3- أخذ مطلق قصد القربة في المتعلّق الأعمّ من قصد الأمر وقصد المحبوبيّة وغيرهما، وقد عرفت جواز الجميع.

هل الأصل في الأوامر هو التعبّديّة أو لا؟

إذا عرفت هذا المقدّمات فلنتكلم عن أصل البحث وهو مقتضى الأصل الأوّلي في الأوامر وأنّه هل هو التعبّديّة أو التوصّليّة؟

فنقول: فيه ثلاثة أقوال:

1- أنّ الأصل هو التوصّلية وهو المختار.

2-

أنّ الأصل هو التعبّديّة وهو المنقول من الكلباسي صاحب الإشارات.

3- فقدان الأصل اللّفظي فلابدّ من الرجوع إلى الاصول العمليّة وهو مختار المحقّق النائيني رحمه الله.

أمّا القول الأوّل: فقد ظهر بيانه ممّا ذكرنا من أنّه يمكن للمولى أخذ قصد الأمر ضمن أمر واحد أو أمرين فحيث لم يأخذه وكان في مقام البيان نتمسّك بإطلاق كلامه، ونثبت به عدم اعتباره عنده.

وأمّا القول الثاني: فاستدلّ له بامور:

الأمر الأوّل: أنّ غرض المولى من الأمر هو إيجاد الداعي في المكلّف للعمل وإخراجه من حالة عدم إحساس المسؤوليّة إلى حالة إحساس المسؤوليّة في قبال المولى، وكلّما حصل هذا الغرض حصل قصد القربة طبعاً لأنّه ليس إلّاإحساس المكلّف بالمسؤوليّة في مقابل المولى وانبعاثه من بعثه وتحرّكه من تحريكه، فالأصل الأوّلي في الأوامر أن تكون تعبّديّة، والتوصّلية تحتاج إلى دليل خاصّ.

ولكن يمكن الجواب عنه:

أوّلًا: أنّه لا دليل على أنّ غرض المولى في أوامره هو تحريك العبد مطلقاً، فإنّه أوّل الكلام حيث يمكن أن يكون غرضه تحريك العبد في ما إذا لم يكن متحرّكاً بنفسه، فلو علم المولى بتحرّك العبد بنفسه وحركته إلى الماء مثلًا لرفع عطش المولى لم يأمره بإتيان الماء، وهذا نظير ما ورد في بيان الإمام السجّاد عليه السلام حيث قال: «ولست اوصيكم بالدنيا فإنّكم بها مستوصون وعليها حريصون وبها مستمسكون» «1».

انوار الأصول، ج 1، ص: 283

ثانياً: أنّ وظيفة العبد إنّما هو تحصيل غرض المولى من المأمور به لا قصد التقرّب مثلًا حيث إنّ العقل يحكم بوجوب رفع عطش المولى مثلًا على أيّ حال: فلو اهرق الماء لا بدّ من إتيان ماء آخر مرّة اخرى وهكذا حتّى يرفع عطش المولى مع أنّه قد امتثل الأمر وأتى بالماء، فإنّ هذا هو مقتضى حقّ

الطاعة والعبوديّة.

وبعبارة اخرى: إنّ غرض المولى من أمره حصوله على ما هو موجود في المأمور به من المصلحة لا تحريك العبد إلى المأمور به بقصد امتثال أمره فحسب، إلّاإذا ثبت كون الغرض منه هو العبوديّة والتقرّب إليه.

الأمر الثاني قوله تعالى: «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ» «1»

ببيان أنّها تدلّ على أنّ جميع الأوامر صدرت من جانب الباري تعالى للعبادة مخلصاً والاخلاص عبارة عن قصد التقرّب في العمل، ولازمه أن تكون جميع الأوامر الشرعيّة تعبّديّة إلّاما خرج بالدليل.

والجواب عنه واضح: لأنّ الآية إنّما تكون في مقام نفي الشرك وإثبات التوحيد كما يشهد عليه بعض الآيات السابقة عليها وهو قوله تعالى: «لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ» «2»

، وكذلك بعض الآيات اللّاحقة وهي قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا» «3».

بل وهكذا ما ورد في نفس الآية من التعبير بالحنفاء حيث إنّ الحنيف هو المائل من الباطل إلى الحقّ، فيطلق على الإنسان الموحّد الذي لا يعبد إلّااللَّه، ولذلك وصفهم بعد ذلك بإقامة الصّلاة وإيتاء الزّكاة اللّذين هما من لوازم التوحيد باللَّه ومن أوصاف العباد الموحّدين، على أيّ حال: إنّ الآية في مقابل المشركين وأهل الكتاب تدلّ على انحصار العبادة باللَّه تعالى وأنّ الناس امروا لأن لا يعبدوا إلّااللَّه تعالى لا أنّ جميع الأوامر الشرعيّة الصادرة من جانب اللَّه تعالى تكون تعبّديّة، وأين هذا من ذاك.

ويشهد عليه أيضاً ذهاب المفسّرين ظاهراً على هذا المعنى، فهذا هو المحقّق الطبرسي رحمه الله في انوار الأصول، ج 1، ص: 284

ذيل هذه الآية يقول: «أي لم يأمرهم اللَّه تعالى إلّالأن

يعبدوا للَّه وحده لا يشركون بعبادة، فهذا ممّا لا يختلف فيه الامّة ولا يقع منه التغيير» وقال في ذيل قوله تعالى «مخلصين له الدين»:

«لا يخلطون بعبادته عبادة من سواه» وكذلك غيره.

أضف إلى ذلك أنّ المعنى المذكور للآية يستلزم منه التخصيص بالأكثر حيث إنّه لا ريب في أنّ أكثر الأوامر توصّلية.

مضافاً إلى أنّ لحن الآية آبية عن التخصيص لمكان التأكيدات العديدة الشديدة الواردة فيها كما لا يخفى.

الأمر الثالث: التمسّك بروايات تدلّ على أنّ الأعمال إنّما هي بالنيّات:

منها: ما رواه أبو حمزة عن علي بن الحسين عليه السلام قال: «لا عمل إلّابنيّة» «1».

ومنها: ما رواه اسحاق بن محمّد قال: حدّثني علي بن جعفر بن محمّد، وعلي بن موسى بن جعفر هذا عن أخيه وهذا عن أبيه موسى بن جعفر عليه السلام عن آبائه عليهم السلام عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في حديث. قال: «إنّما الأعمال بالنيّات، ولكل امرى ء ما نوى» «2»

وهكذا الرّواية الثانيّة والثالثة من نفس الباب.

وتقريب الاستدلال: إنّ هذه الرّوايات تدلّ على اعتبار نيّة القربة في جميع الأعمال بشهادة عموم التعبير ب «الأعمال» في الرّواية الاولى، والنكرة في سياق النفي في الرّواية الاولى، فلابدّ من قصد القربة في جميع الأعمال إلّاما خرج بالدليل.

والجواب عنه:

أوّلًا: أنّه لا دليل على كون المراد من النيّة في هذه الرّوايات نيّة القربة بل لعلّها نيّة عنوان العمل بالنسبة إلى العناوين القصديّة حيث إنّ كثيراً ما يكون لعمل واحد عناوين عديدة ووجوه متفاوتة يتميّز كلّ واحد منها عن غيرها بالنيّة، فمثلًا إذا أعطى زيد درهماً أمكن أن يكون من باب الأمانة أو الهبة أو الخمس أو الزّكاة أو أداء الدَين أو ردّ المظالم أو القبض، ولكنّه تتميّز وتتعيّن بالقصد والنيّة.

وإن

شئت قلت: لا بدّ في الرّواية من تقدير يدور أمره بين الاحتمالين: احتمال أن يكون انوار الأصول، ج 1، ص: 285

المقدّر الصحّة، أي إنّما صحّة الأعمال بالنيّات، واحتمال أن يكون المقدّر الأجر والثواب، أي إنّما أجر الأعمال بالنيّات، فعلى الأوّل يثبت مطلوب الخصم أي اعتبار قصد القربة في جميع الأعمال كما لا يخفى، وأمّا على الثاني فيكون معنى الرّواية أنّ ترتّب الثواب على الأعمال مشروط بقصد القربة فإزالة النجاسة عن المسجد يترتّب عليها الثواب إذا تحقّقت بنيّة القربة لا أنّ صحّتها تتوقّف عليها، واين هذا من تعبّديّة جميع الأعمال؟ وهذا الاحتمال الثاني هو المتعيّن في تفسير الرّواية بقرينة ما ورد في ذيل الرّواية الثانيّة من قوله عليه السلام: «ولكلّ امرى ء ما نوى، فمن غزى إبتغاء ما عند اللَّه فقد وقع أجره على اللَّه عزّوجلّ ومن غزى يريد عرض الدنيا أو نوى عقالًا لم يكن له إلّاما نوى»، والرّوايات يفسّر بعضها بعضاً.

وبعبارة اخرى: إنّ النزاع في ما نحن فيه إنّما هو في العبادة بالمعنى الأخصّ أي ما يشترط قصد القربة في صحّة العمل لا العبادة بالمعنى الأعمّ أي ما يعتبر في ترتّب الثواب عليه قصد القربة، ولا إشكال في أنّ الجهاد من القسم الثاني، فلو كانت الرّواية في مقام اعتبار قصد القربة في جميع الأعمال لزم خروج مورد الرّواية عنها.

ويشهد لهذا التفسير للرواية أيضاً ما رواه أبو عروة السلمي عن أبي عبداللَّه عليه السلام قال: «إنّ اللَّه يحشر الناس على نيّاتهم يوم القيامة» «1».

وما رواه أبو ذرّ عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في وصيّة له قال ياأبا ذر: «ليكن لك في كلّ شي ء نيّة حتّى في النوم والأكل» «2».

وثانياً: ما مرّ في الجواب عن

الدليل الثاني من قضيّة التخصيص بالأكثر كما لا يخفى.

فقد تلخّص من جميع ذلك عدم تماميّة جميع الوجوه التي استدلّ بها للقول الثاني.

وأمّا القول الثالث: وهو ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله من عدم وجود أصل لفظي في المقام فاستدلّ له بما حاصله «إنّ التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل العدم والملكة فيتصوّر الإطلاق فيما يتصوّر التقييد فيه، وحيث إنّ التقييد ممتنع هنا يكون الإطلاق أيضاً ممتنعاً، فيكون الحقّ حينئذٍ هو الإهمال وعدم الإطلاق مطلقاً، ووجه كون الإطلاق من قبيل عدم الملكة لا العدم المطلق أنّ الإطلاق وإن كان عدمياً إلّاأنّه موقوف على ورود الحكم على انوار الأصول، ج 1، ص: 286

المقسم وتماميّة مقدّمات الحكمة فالتقابل بينهما لا محالة يكون تقابل العدم والملكة، فإذا فرضنا في مورد عدم ورود الحكم على المقسم فلا معنى للتمسّك بالاطلاق قطعاً، وما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ انقسام المتعلّق بما إذا أتى به بقصد الأمر وعدمه يتوقّف على ورود الأمر فإنّه من الانقسامات الثانويّة، فليس قبل تعلّق الأمر وفي رتبة سابقة عليه مقسّم أصلًا، فالحكم لم يرد على المقسّم بل صحّة التقسيم نشأت من قبل الحكم فلا معنى للتمسّك بالاطلاق» «1».

والجواب عنه: ظهر ممّا سبق حيث إنّا لم نقبل عدم إمكان أخذ قصد الأمر في المتعلّق حتّى نلتزم بالإهمال بل قلنا بإمكانه من طرق ثلاثة: أخذ قصد الأمر في الأمر الأوّل، وأخذه في الأمر الثاني، وعدم انحصار التقرّب في قصد الأمر.

هذا كلّه بالنسبة إلى الأصل اللّفظي.

الأصل العملي في المقام:

لو أنكرنا وجود الأصل اللّفظي إمّا من طريق عدم إمكان أخذ قصد الأمر في المأمور به أو عدم كون المولى في مقام البيان، فما هو مقتضى الأصل العملي في المقام؟ فيه ثلاثة وجوه:

الوجه الأوّل:

أنّ الأصل هو البراءة بمقتضى العقل والنقل ونتيجته التوصّلية، وهذا هو المختار.

الوجه الثاني: عدم جريان البراءة لا عقلًا ولا شرعاً بل الأصل هو الاشتغال ونتيجته التعبّديّة وهذا ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله ومن تبعه.

الوجه الثالث: جريان البراءة الشرعيّة دون العقليّة.

أمّا القول الأوّل: فيظهر وجهه ممّا سنذكره في الجواب عن القول الثاني.

وأمّا القول الثاني: فاستدلّ لعدم جريان البراءة العقليّة فيه بما حاصله: إنّ الشكّ في المقام واقع في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم، والعقل يستقلّ بلزوم الخروج عن عهدته، فإذا علمنا أنّ شيئاً خاصّاً كالعتق مثلًا واجب قطعاً، ولم نعلم أنّه تعبّدي يعتبر فيه قصد القربة، أم انوار الأصول، ج 1، ص: 287

توصّلي لا يعتبر فيه ذلك، فما لم يؤت به بقصد القربة لم يعلم الخروج عن عهدة التكليف المعلوم تعلّقه به، فإذا لم يؤت به كذلك وقد صادف كونه تعبّديّاً يعبتر فيه قصد القربة فلا يكون العقاب حينئذ عقاباً بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان.

وببيان آخر: إنّ مردّ الشكّ في التعبّديّة والتوصّليّة إلى الشكّ في حصول الغرض من المأمور به بدون قصد القربة وعدمه، وحيث إنّ تحصيل غرض المولى أيضاً لازم بحكم العقل كإتيان المأمور به فلابدّ أن يقصد القربة حتّى يتيقّن بتحصيل الغرض وسقوط ما وجب عليه والخروج عن عهدة ما اشتغلت ذمّته به.

وهذا نظير الشكّ في وجوب قصد الوجه والتمييز، فإنّه إذا شكّ في اعتبار قصد الوجه والتمييز في العبادات وشكّ في دخلهما في الطاعة والغرض من المأمور به فلا مجال إلّالأصالة الاشتغال، نعم يمكن التخلّص عن الاحتياط وجريان أصالة الاشتغال فيهما بأنّهما ممّا يغفل عنه عامّة الناس ولا يلتفت إليه إلّاالأوحدي منهم، وفي مثله كان على الآمر بيان دخله في غرضه فحيث

لم يبيّن يقطع بعدم دخله فيه، فلا يجب الاحتياط حينئذٍ (وأمّا قصد القربة فليس بهذه المنزلة).

واستدلّ لعدم جريان البراءة الشرعيّة بأنّه لا بدّ في جريان أدلّة البراءة الشرعيّة كحديث الرفع وأخواته من شي ء قابل للرفع والوضع، وما نحن فيه ليس كذلك حيث إنّ دخل قصد القربة ونحوها في الغرض ليس بشرعي بل واقعي فلا يقبل الرفع.

إن قلت: إنّ دخل الجزء والشرط أيضاً واقعي، فكيف يرفع بحديث الرفع ونحوه في باب الأقلّ والأكثر الارتباطيين؟

قلنا: إنّ دخلهما وإن كان واقعياً إلّاأنّهما قابلان للرفع، فبدليل الرفع يكشف أنّه ليس هناك أمر فعلي بما يعتبر فيه المشكوك حتّى يجب الخروج عن عهدته عقلًا، بخلاف المقام فإنّه علم فيه بثبوت الأمر الفعلي. (انتهى ملخّص كلام المحقّق الخراساني رحمه الله ومن تبعه في الاستدلال على أنّ الأصل هو الاشتغال).

أقول: فيه مواقع للنظر:

الموقع الأوّل: للاشكال في المبنى، فقد مرّ إمكان أخذ قصد الأمر في المتعلّق بطرقه الثلاثة.

الموقع الثاني: (وهو العمدة) أنّه لا دليل على وجوب تحصيل غرض المولى، بل على العبد

انوار الأصول، ج 1، ص: 288

أن يؤتي بمتعلّقات التكاليف الموجّهة إليه فقط حتّى لو كانت نسبة المصالح والملاكات إلى متعلّقات التكاليف من قبيل المسبّبات التوليديّة إلى أسبابها أو من قبيل العلّة والمعلول التكوينيين، لأنّ الواجب في الحقيقة إنّما هو ذات المتعلّق لا بما أنّه سبب أو علّة، فالغسلتان والمسحتان في باب الوضوء مثلًا واجبتان بذاتهما لا بما إنّهما موجبتان للطهارة الباطنية، لأنّ هذا أمر خفي علينا لا بدّ للشارع من بيان أسبابه، فإذا شكّ في مدخلية شي ء في تماميّة علّيته أو سببيته ولم يكن دليل على أخذه في متعلّق التكليف فلا دليل على لزوم الإتيان به على العبد فيكون الشكّ شكّاً في ثبوت

التكليف وموجباً لجريان البراءة.

هذا كلّه بناءً على أن يكون حال متعلّقات التكاليف بالنسبة إلى ملاكاتها من قبيل الأسباب والمسبّبات التوليديّة أو من قبيل العلّة والمعلول التكوينيين، وأمّا إذا كان من قبيل المعدّ والمعدّ له كما هو الحقّ فعدم وجوب تحصيل الغرض أوضح لأنّه ليس حينئذٍ من فعل العبد، فاللازم عليه هو إتيان متعلّق التكاليف فقط.

وإن شئت قلت: إنّ العبد لا يفهم من أمر المولى بالصّلاة مثلًا إلّالزوم الإتيان بالقيام والركوع والسجود ونحوها، وأمّا كيفية الغرض وخصوصّياته وأنّه بأي طريق يحصل فهي من شؤون المولى، وعليه أن يبيّن للعبد الأسباب الموصلة إليه كالطبيب الذي عليه أن يبيّن للمريض مقدار الدواء وطريق استعماله، وأمّا كيفية تأثيره ومقداره فهو أمر مرتبط بالطبيب ولا يفهمه المريض وإلّا صار طبيباً، وحينئذٍ ليس على العبد إلّاالعمل بالمتعلّقات بمقدار ما وصل إليه من البيان.

نعم إذا علم العبد تفصيلًا بغرض المولى وبأنّه لا يحصل بمتعلّق الأمر فقط يجب عليه إتيان المشكوك أيضاً كما إذا أمره المولى بالإتيان بالماء وعلم أنّ الغرض منه رفع عطشه، فلو اهرق الماء بعد وصوله بيد المولى كان اللازم على العبد الإتيان به مرّة اخرى لعدم حصول الغرض، وأمّا في صورة الاحتمال أو العلم الإجمالي فلا يجب عليه إلّاالإتيان بمتعلّق الأمر بمقدار البيان وإلّا لم يبق مورد للبراءة مطلقاً بل يجري الاشتغال في جميع موارد الشكّ.

ثالثاً: سلّمنا بوجوب تحصيل الغرض على العبد لكن تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان بالنسبة إلى الغرض أيضاً كما تجري بالنسبة إلى المأمور به لأنّه يمكن للمولى أن يبيّن مقدار غرضه، فكما أنّ المأمور به أمره دائر بين الأقلّ والأكثر كذلك الغرض، فإنّه أيضاً مقول انوار الأصول، ج 1، ص: 289

بالتشكيك، نعم لو كان الغرض

أمراً بسيطاً وكان أمره دائراً بين الوجود والعدم فالأصل هو الاشتغال مع قطع النظر عن ما مرّ آنفاً.

إلى هنا تمّ الكلام عن التعبّدي والتوصّلي، أي الفصل الثالث من مبحث الأوامر.

الفصل الرابع وجوب المباشرة في الأوامر وعدمه

إذا دار الأمر بين المباشرة والتسبيب، أي شككنا في أنّ امتثال الأمر الفلاني مشروط بالمباشرة أو يكفي التسبيب أيضاً أو يسقط الأمر حتّى بإتيان العمل تبرّعاً فما هو مقتضى الأصل اللّفظي والعملي؟

توضيح ذلك: إنّ الأفعال على ثلاثة أقسام: قسم منها لا يقبل النيابة قطعاً ولا بدّ فيه من المباشرة كالصّلاة والصّيام في حياة المكلّف، وقسم منها يقبل النيابة والتسبيب قطعاً كأداء الدَين بل يسقط بالأداء تبرّعاً، وقسم منها يكون الأمر فيه دائراً بين الأمرين فلا نعلم هل تكفي فيه النيابة أو التبرّع أو لا؟ كوجوب قضاء صلوات الأب الميّت على ولده الأكبر، فهل يجب عليه القضاء بالمباشرة أو يكفي التسبيب بغيره أو التبرّع من ناحية متبرّع، ونظير بعض مناسك الحجّ كالطواف ورمي الجمرات، ففي هذه الموارد ما هو مقتضى الإطلاقات والعمومات أوّلًا؟ وما هو مقتضى الأصل العملي ثانياً؟ فيقع البحث في مقامين.

وقد تعرّض لهذه المسألة بعض الأكابر في ذيل البحث عن التعبّدي والتوصّلي وذكر له مقدّمة، وهي «أنّ خطاب المكلّف بالفعل الذي يسقط وجوبه عنه بفعل غيره لا يكون مشروطاً بعدم فعل الغير كما توهّم، بل هو خطاب توجّه إليه في حين عدم فعل الغير كما هو شأن الواجب التخييري، كما أنّ الخطاب في مثل هذا الواجب لم يتعلّق بالجامع بين فعل المكلّف وفعل غيره كما يتعلّق به في الواجب التخييري، وذلك لخروج فعل الغير عن قدرته واختياره، وكما أنّ الخطاب لم يتعلّق به بنحو التخيير بينه وبين التسبيب إلى فعل غيره لأنّ الجامع الذي

يحصل به الغرض ليس مشتركاً بين فعل المكلّف وبين التسبيب إلى فعل غيره بل بين فعل المكلّف وبين نفس فعل الغير، وإنّما العقل يرشد إلى المكلّف إلى ما يسقط به التكليف عنه وهو

انوار الأصول، ج 1، ص: 292

فعل الغير فيتسبّب إليه بما يراه سبباً لصدور الفعل من الغير» (فتكون القضيّة في الفعل الذي يسقط وجوبه عنه بفعل غيره حينية لا مشروطة ولا من قبيل الجامع).

ثمّ قال: «إذا عرفت هذه المقدّمة تعرف أنّ إطلاق الخطاب يقتضي كون الوجوب مطلقاً في جميع الأحوال وأزمنة الإمكان لا أنّه قضيّة حينية أي أنّه ثابت في حين دون حين وحال دون حال، ونتيجة ذلك هو عدم سقوط الوجوب عن المكلّف وعدم حصول الغرض بفعل غيره» «1».

أقول: الحقّ أنّ فعل الغير كثيراً ما يكون في الموارد التي يسقط وجود الفعل عنه بفعل غيره من قبيل إفناء الموضوع الذي يوجب إفناء الحكم، وهذه ليست قضيّة حينية ولا مشروطة ولا تخييريّة، حيث إنّ القضيّة الحينيّة أو المشروطة تكون من قيود الحكم ولا ربط لها ببقاء الموضوع.

نعم إذا خيّر المكلّف بين أن يأتي بالفعل بنفسه أو الاستنابة فهو من قبيل الواجب التخييري، فإذا شككنا في جواز التسبيب وانتفاء الموضوع بفعل الغير أو شككنا في تعيين الفعل عليه أو التخيير بين المباشرة والاستنابة، فالإنصاف أنّ الإطلاق يقتضي المباشرة لأنّه إذا تعلّق خطاب المولى بعبده فما لم يحصل له اليقين بإمكان التسبيب فلا يجوز له التسبيب بالغير لأنّ ظاهر الخطاب أنّ المأمور إنّما هو العبد نفسه، ومن هنا يعلم أنّ تمسّك بعض بإطلاق المادّة من «أنّ مقتضى إطلاق المادّة قيام المصلحة والغرض بها وإن صدرت من الغير ولو بتسبيب المخاطب» في غير محلّه لأنّ إطلاق المادّة يقيّد

بإطلاق الهيئة، أي ظاهر توجيه الخطاب الذي يقتضي حصره في فعل المأمور يمنع عن تماميّة إطلاق المادّة.

وإن شئت قلت: ما لم يثبت انتفاء موضوع الأمر أو حصول المطلوب كانت دعوته إلى الامتثال باقية، وما لم يثبت التخيير بين المباشرة والتسبيب كان مقتضى الإطلاق هو المباشرة، فعلى كلّ حال لا يجوز الاكتفاء بفعل الغير ما لم يقم عليه دليل.

أضف إلى ذلك أنّ القضيّة الحينية في أوامر الموالي إلى العبيد لا معنى لها، لأنّ الإهمال في مقام الثبوت غير ممكن بل أمره دائر بين الإطلاق والتقييد، والحينية لا بدّ أن ترجع إلى الواجب المشروط، فتدبّر جيّداً.

انوار الأصول، ج 1، ص: 293

ثمّ إنّه لو فرض عدم كون المولى في مقام البيان أو لم يكن في البين لفظ بل كان الدليل لبّياً تصل النوبة إلى الأصل العملي، والاحتمالات فيه ثلاثة:

1- إنّ الأصل هو البراءة ونتيجتها كفاية فعل الغير كما ذهب إليه المحقّق العراقي رحمه الله فإنّه قال: إنّ مقتضى الأصل العملي هو البراءة عن التكليف بالفعل المزبور حين صدوره من الغير ولو قلنا بالاحتياط في مقام الدوران المزبور هو وجود العلم الإجمالي باشتغال ذمّة المكلّف، وهذا العلم الإجمالي غير موجود في محلّ الكلام لأنّه يعلم تفصيلًا بأنّه مخاطب بهذا الفعل لخروج فعل غيره عن قدرته واختياره، فلا يكون عدلًا لفعله في مقام التكليف ليحتمل كونه مكلّفاً تخييراً بأحد الأمرين، وبما أنّ المكلّف يعلم أنّه مخاطب بالفعل المزبور في حال ترك غيره له يشكّ بوجوبه عليه في حال إتيان الغير به يصحّ له الرجوع إلى البراءة في مقام الشكّ المذكور» «1».

2- إنّ الأصل الاشتغال، وذلك ببيان أنّه من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير، والأصل فيه هو التعيين، ولازمه الاشتغال وعدم

سقوط الفعل بفعل غيره.

3- التفصيل بين ما إذا كان التكليف دائراً بين فعل نفسه وفعل غيره تبرّعاً فالحقّ حينئذٍ مع المحقّق العراقي رحمه الله من أنّ الأصل هو البراءة، لأنّ فعل الغير ليس عدلًا لفعل المكلّف حتّى يتصوّر التخيير ويكون المورد من قبيل دوران الأمر بين التعيين والتخيير كما مرّ، وفي ما إذا كان التكليف دائراً بين فعل نفسه والاستنابة فالأصل هو الاشتغال، حيث إنّ الاستنابة أيضاً تكون من فعل المكلّف، فيدور الأمر بين التعيين والتخيير، والأصل فيه هو التعيين الذي لازمه الاشتغال.

أقول: الصحيح هو القول الثالث أي التفصيل، أمّا إذا كان المحتمل من قبيل الواجب التخييري فلأنّه من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير بناءً على وجوب الاحتياط فيه، وأمّا إذا كان من قبيل افناء الموضوع فلأنّ الشكّ يرجع إلى الشكّ في انتفاء الموضوع وعدمه، والأصل حينئذٍ هو استصحاب بقاء الموضوع أو الاشتغال كما لا يخفى.

الفصل الخامس هل الأصل في الواجبات النفسيّة أو الغيريّة؟ والتعيينية أو التخييريّة؟ والعينية أو الكفائيّة؟

والمناسب ذكر هذه المسألة في البحث عن تقسيمات الواجبات في ذيل مبحث الأوامر كما لا يخفى.

وعلى كلّ حال البحث هنا أيضاً يقع في مقامين: في مقتضى الأصل اللّفظي، ومقتضى الأصل العملي، ولكن قبل الورود في أصل البحث لا بدّ أن نشير إجمالًا إلى ماهيّات هذه الامور.

فنقول: أمّا الواجب النفسي فهو عبارة عن ما يجب لنفسه وتكون مصلحته قائمة بنفسه بخلاف الواجب الغيري الذي يجب لغيره ويكون مطلوباً لكونه مقدّمة لغيره، ونتيجته أن يكون وجوبه تابعاً لوجوب غيره كنصب السلّم للصعود على السطح، والوضوء والاستقبال بالنسبة إلى الصّلاة.

وأمّا الواجب التعييني والتخييري فالاحتمالات فيهما كثيرة والجدير منها بالذكر هنا احتمالان:

الاحتمال الأوّل: أنّ الواجب التخييري عبارة عن وجوب عدّة امور يسقط، بإتيان بعضها بخلاف الواجب التعييني الذي هو عبارة عن وجوب

شي ء واحد فلا يسقط إلّابإتيان نفس ذلك الشي ء.

الاحتمال الثاني: أن يكون الواجب التخييري عنوان أحد الفعلين أو أحد الأفعال فالوجوب تعلّق بجامع انتزاعي وهو عنوان «أحدهما» أو «أحدها» بخلاف الواجب التعييني الذي يتعلّق الوجوب فيه بشخص الفعل لا بالجامع.

انوار الأصول، ج 1، ص: 296

ونحن نبحث هنا بناءً على كلا المبنيين، وأمّا أيّهما هو الصحيح فسنتكلّم عنه في ذيل مبحث الأوامر عند البحث عن تقسيمات الواجب.

وأمّا الواجب العيني والكفائي فيأتي فيه نظير ما مرّ في الواجب التعييني والتخييري ولكنّه بالنسبة إلى المكلّف لا المتعلّق، فالواجب الكفائي يحتمل أن يكون الوجوب فيه متعلّقاً بجميع المكلّفين على نحو العموم الاستغراقي مع سقوط الوجوب بإتيان من به الكفاية، ويحتمل أن يكون الوجوب فيه متعلّقاً بجامع أحد المكلّفين أو جماعة من المكلّفين.

إذا عرفت هذا فنقول: إذا شككنا في النفسيّة والغيريّة كما إذا شككنا في أنّ غسل الجنابة مثلًا واجب نفسي أو واجب غيري، أو شككنا في التخييري والتعييني كما إذا شككنا في أنّ صلاة الجمعة في عصر الغيبة هل هي واجب تعييني أو واجب تخييري يخيّر المكلّف بينها وبين صلاة الظهر، أو شككنا في العينية والكفائيّة كما إذا شككنا في أنّ الجهاد واجب كفائي أو عيني (ولا إشكال في أنّ الشكّ هذا من قبيل الشبهة الحكمية لا الموضوعيّة) فيقع البحث في مقامين:

الأوّل: في مقتضى الأصل اللّفظي، والثاني: في مقتضى الأصل العملي.

أمّا المقام الأوّل: فذهب المحقّق الخراساني رحمه الله وجماعة إلى أنّ مقتضى إطلاق الأوامر هو النفسيّة والعينية والتعيينيّة.

وهو واضح بالنسبة إلى النفسيّة والغيريّة، فإذا قال المولى لعبده «اغتسل للجنابة» من دون أن يقيّده بشي ء فلا إشكال في أنّ ظاهره وجوب غسل الجنابة مطلقاً سواء كانت الصّلاة أيضاً واجبة أو لا؟

وبعبارة اخرى:

إنّ إطلاقه يقتضي عدم تقيّد وجوب غسل الجنابة بوجوب شي ء آخر، ولازمه النفسيّة.

وقد تمسّك بعض الأعلام أيضاً بإطلاق الأمر بالصّلاة من أنّ مقتضاه عدم تقيّد وجوب الصّلاة بغسل الجنابة ولازمه العقلي كون غسل الجنابة واجباً نفسياً، وإليك نصّ كلامه: «لو كان لقوله تعالى «أقيموا الصّلاة» إطلاق فمقتضاه عدم تقييد الصّلاة بالطهارة أو نحوها فالتقييد يحتاج إلى دليل ومؤونة زائدة والإطلاق ينفيه، ولازم ذلك هو أنّ وجوب الطهارة المشكوك نفسي لا غيري» «1».

انوار الأصول، ج 1، ص: 297

وأمّا بالنسبة إلى التخييريّة والتعيينية فكذلك تمسّك المحقّق الخراساني رحمه الله بإطلاق الأمر لنفي التخييريّة وإثبات التعيينية وهو في محلّه لأنّ الواجب التخييري مقيّد بما إذا لم يأت بالبدل وإطلاق الصيغة ينفي هذا القيد.

نعم إنّه إنّما يكون تامّاً بالنسبة إلى مبنى وجوب جميع الأطراف مع سقوط وجوب كلّ من الأطراف بفعل أحدها حيث إنّه يرجع حينئذ إلى اشتراط وجوب كلّ منها بعدم الإتيان بالآخر، والاشتراط منفيّ بإطلاق الصيغة، وأمّا بناءً على مبنى كون الواجب عنوان أحد الأفعال أو أحد الفعلين فلا، لأنّا لا نعلم من أوّل الأمر أنّ صلاة الجمعة واجب بما هي صلاة الجمعة أو بما أنّها أحد الفعلين، أو أحد الأفعال، ولا معنى للأخذ بالاطلاق هنا، نعم ظهور العنوان في الخصوصيّة أعني خصوصيّة عنوان «الجمعة» ينفي عنوان «أحدهما» وهذا غير مسألة الإطلاق والتقييد، فتدبّر فإنّه دقيق.

وأمّا بالنسبة إلى العينية والكفائيّة فكذلك تمسّك المحقّق الخراساني رحمه الله بإطلاق صيغة الأمر لإثبات العينية في محلّه بناءً على مبنى من يقول في الواجب الكفائي: أنّ التكليف به متوجّه إلى عموم المكلّفين (على نحو العموم الاستغراقي) إلّاأنّ وجوبه على كلّ مشروط بترك الآخر لأنّ مقتضى إطلاق الصيغة عدم الاشتراط فيثبت كونه واجباً

عينياً.

وأمّا بناءً على مبنى من يقول: بأنّ التكليف في الواجب الكفائي متوجّه إلى أحد المكلّفين أو جماعة منهم لا بعينها فلا، حيث إنّ المكلّف حينئذٍ لا يعلم من أوّل الأمر أنّ التكليف توجّه إلى نفسه أو إلى عنوان أحد المكلّفين، كما إذا دقّ الباب فأمر المولى بفتح الباب ولا يعلم العبد من أوّل الأمر أنّه هل المولى وجّه الخطاب إلى شخصه وقال «افتح أنت الباب» أو وجّه الخطاب إلى أحد العبيد لا بعينه وقال «ليفتح أحدكم الباب»، فليس في البين لفظ مشخّص حتّى ينعقد له إطلاق فيتمسّك به، نعم يجري فيه ما مرّ سابقاً في الشكّ بين التخييريّة والتعيينيّة من أنّ ظاهر توجّه الخطاب إلى شخص أو صنف خاصّ أو أخذ عنوان معيّن في لسان الدليل هو اعتباره في الحكم ولازمه هو العينية.

ثمّ إنّه قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ لازم الإطلاق في جميع الموارد ليس هو التوسعة في الأفراد بل قد يكون لازمه التضييق والتحديد، حيث إنّ لازم التعيينية في ما نحن فيه هو تضييق الأفراد وحصرها في فرد واحد، كما أنّ لازم العينية هو توسعة أفراد المكلّفين وتعميم التكليف بالنسبة إلى جميعهم.

انوار الأصول، ج 1، ص: 298

هذا كلّه بالنسبة إلى المقام الأوّل وهو مقتضى الأصل اللّفظي.

وأمّا المقام الثاني: وهو مقتضى الأصل العملي فيبدو في أوّل النظر أنّ الأصل هو البراءة، وهي تقتضي الغيريّة والتخييريّة والكفائيّة فإنّ القدر المتيقّن من وجوب الوضوء مثلًا هو وجوبه بعد الوقت، وأمّا قبله فينتفي بأصل البراءة، ولازمه نفي النفسيّة وإثبات الغيريّة، وكذلك بالنسبة إلى التخييريّة والتعيينية، لأنّ ما تمّت الحجّة بالنسبة إليه هو وجوب أحد الفعلين، فإذا أتينا بالظهر مثلًا نشكّ في وجوب صلاة الجمعة وهو ينتفي بأصل البراءة، وكذلك

بالنسبة إلى الكفائيّة والعينية فإنّه بعد تصدّي الغير للعمل يشكّ المكلّف في الوجوب على نفسه، وهو أيضاً ينتفي بأصل البراءة.

وبالجملة: إنّ القدر المتيقّن من الخطاب هو التخييريّة والكفائيّة والغيريّة وأمّا الزائد عليها فهو منفي بأصل البراءة.

هذا ما يبدو للإنسان في أوّل النظر، ولكن عند التأمّل والدقّة يمكن التفصيل في التخييريّة والتعيينية والنفسيّة والكفائيّة على المباني المختلفة لأنّه بناءً على المبنى الأوّل في الواجب التخييري والكفائي (من أنّ الخطاب توجّه إلى جميع الأطراف أو جميع المكلّفين) فبعد إتيان أحد الأفراد أو أحد المكلّفين يقع الشكّ في سقوط البدل أو سقوط التكليف عن الآخرين، وحيث إنّ المفروض أنّ التكليف تعلّق بالجميع فمقتضى استصحاب بقاء التكليف أو أصالة الاشتغال هو عدم سقوط التكليف كما لا يخفى، فالبيان المزبور تامّ بناءً على أحد المبنيين فقط.

انوار الأصول، ج 1، ص: 299

الفصل السادس الأمر عقيب الحظر

إذا ورد أمر عقيب الحظر أو عقيب توهّم الحظر فهل يدلّ على الإباحة أو على الوجوب؟

كقوله تعالى: «... غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ» «1»

. مع ما ورد في قوله تعالى: «وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا» «2»

، فهل هو دليل على وجوب الصيد بعد الاستحلال أو يدلّ على جوازه فقط؟

وكقوله تعالى: «يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» «3»

وقوله تعالى: «فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ» «4».

وقوله تعالى: «يَسْأَلُونَكَ عَنْ الَمحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الَمحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ» «5»

فما هو مقتضى القاعدة عند الشكّ فيما إذا دار الأمر بين الجواز والوجوب؟

فيه أربعة أقوال:

1- دلالته على الإباحة، وهو المشهور عندنا.

2- دلالته على الوجوب كسائر الموارد، وهو المنقول عن كثير من العامّة.

3- التفصيل بين ما إذا كان

معلّقاً على زوال علّة الحرمة فيعود إلى ما قبله من الحكم، وبين ما إذا لم يكن معلّقاً عليه فيكون ظاهراً في الوجوب، ففي مثل قوله تعالى: «فَإِذَا انسَلَخَ انوار الأصول، ج 1، ص: 300

الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ» المرجع هو ما كان قبله من الحكم، وهو جواز قتل المشركين لأنّ الأمر فيه معلّق على زوال علّة الحرمة وهي وجود الأشهر الحرم (بخلاف قولنا لا تكرم زيداً يوم الجمعة وبعده أكرمه).

4- عدم دلالته على شي ء فليرجع إلى الاصول العمليّة.

والصحيح عندنا الأخير كما ذهب إليه جمع من المحقّقين لما قرّر في محلّه من أنّه إذا كان الكلام محفوفاً بما يحتمل القرينة فهو يوجب الإجمال، وما نحن فيه من هذا القبيل، لأنّ فيه أمر وهو قوله تعالى «فآتوهنّ» مثلًا وفي جنبه يوجد ما يحتمل القرينية وهو المنع والحظر السابق فيحتمل أن يكون قرينة على مطلق الجواز والإباحة، أي يوجب عدم انعقاد ظهور للأمر في الوجوب.

هذا إذا كان الأمر والحظر في كلام واحد كالمثال المذكور، وأمّا إذا كان في كلامين مثل الأمر بالصيد والحظر عنه الواردين في آيتين مختلفين فيمكن أن يقال أيضاً بأنّ العرف بعد ملاحظة النهي لا يرى ظهوراً للأمر في الوجوب، فيكون كالقرينة المنفصلة.

وإن شئت قلت: يرفع اليد عن ظهوره بعد ورود هذه القرينة.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّه إذا ورد نهي بعد الأمر كما إذا قيل «صم شهر رمضان ولا تصم بعده» فالإنصاف أنّ الكلام فيه هو الكلام في الأمر الوارد عقيب الحظر، وهو الإجمال والرجوع إلى الاصول العمليّة بنفس البيان.

انوار الأصول، ج 1، ص: 301

الفصل السابع في المرّة والتكرار

ولا بدّ قبل الورود في أصل البحث من تقديم أمرين:

الأمر الأوّل: في تعيين محلّ النزاع، فهل هو مادّة الأمر أو هيئته؟

ذهب بعض (وهو صاحب

الفصول) إلى أنّ النزاع في الهيئة فقط، لأنّ المادّة هي المصدر بدون الألف واللام وهي تدلّ على صرف الطبيعة فقط بالاتّفاق.

ولكن أورد عليه المحقّق الخراساني رحمه الله بأنّ الاتّفاق على أنّ المصدر المجرّد عن اللام والتنوين لا يدلّ إلّاعلى الماهية (على ما حكاه السكّاكي) لا يوجب كون النزاع هيهنا في الهيئة (فقط) كما في الفصول، فإنّه غفلة وذهول عن كون المصدر كذلك لا يوجب الاتّفاق على أنّ مادّة الصيغة لا تدلّ إلّاعلى الماهية، ضرورة أنّ المصدر ليس مادّة لسائر المشتقّات بل هو صيغة مثلها، كيف وقد عرفت في باب المشتقّ مباينة المصدر وسائر المشتقّات بحسب المعنى، فكيف يكون مادّة لها بمعناه؟ فعليه يمكن دعوى اعتبار المرّة أو التكرار في مادّته (أيضاً) كما لا يخفى.

أقول: نعم، يمكن حصر محلّ النزاع في الهيئة ولكن ببيان آخر، وهو أنّ المرّة والتكرار من خصوصّيات الطلب الذي هو مفاد للهيئة كما أنّ الوجوب والاستحباب والفور والتراخي أيضاً من شؤون الطلب وهو مفاد للهيئة.

الأمر الثاني: قد يقال بأنّ هذه المسألة مرتبطة بمسألة الإجزاء، فعلى القول بالاجزاء يدلّ الأمر على المرّة، وعلى القول بعدمه يدلّ على التكرار.

ولكن الحقّ أنّه لا ربط بين المسألتين، لأنّ الإجزاء عبارة عن إتيان المأمور به على وجهه، فلو كان المأمور به إتيان العمل مرّة فإتيانه كذلك يوجب الإجزاء، ولو كان المأمور

انوار الأصول، ج 1، ص: 302

به إتيانه مكرّراً فإتيانه مكرّراً يوجب الإجزاء، فمسألة الإجزاء تكون في طول هذه المسألة ومتأخّرة عنها، إذا عرفت هذين الأمرين فلنرد في أصل المسألة.

فنقول: المشهور بين المتأخّرين أنّ هيئة الأمر لا يدلّ على المرّة والتكرار بل يدلّ على صرف الطبيعة فقط غاية الأمر أنّها تحصل بفرد واحد.

والوجه في دلالتها على مجرّد الطبيعة هو

التبادر فالمتبادر من قوله: «اغتسل» إنّما هو طلب طبيعة الغسل التي تحصل بإتيان مصداق واحد ونتيجته هو المرّة.

هذا ما استحسنه القوم وتلقّوه بالقبول، ولكن الصحيح عندنا أنّها تدلّ على المرّة ولكن لا بالدلالة اللّفظيّة بل من باب مقدّمات الحكمة، لأنّ المولى كان في مقام البيان، فلو كان مطلوبه إتيان الطبيعة أكثر من مرّة واحدة لكان عليه البيان، لأنّ القدر المتيقّن من مدلول اللفظ إنّما هو المرّة، وإمّا التكرار فهو يحتاج إلى مؤونة زائدة، وحيث إنّ المفروض كون المولى في مقام البيان ولا إهمال في مقام الثبوت (لأنّ المولى إمّا أن أراد المرّة أو أراد التكرار) ومع ذلك لم يأت في مقام الإثبات بما يدلّ على التكرار فنستكشف أنّ مطلوبه إنّما هو إتيان العمل مرّة.

نعم، هيهنا امور لا بدّ من بيانها:

الأمر الأوّل: في ما نلاحظه من الفرق بين الأمر والنهي وإنّ الأمر يكفي في امتثاله إتيان فرد واحد بينما النهي لا بدّ لامتثاله من ترك جميع الأفراد مع أنّ المتعلّق في كليهما أمر واحد وهو الطبيعة، والطبيعي موجود بوجود أفراده، ونسبة الطبيعي إلى أفراده هي نسبة الآباء إلى الأبناء لا نسبة أب واحد إلى الأبناء، فكما أنّه يتحقّق بفرد واحد منه وبصرف وجوده في الأمر فليتحقّق تركه أيضاً بصرف تركه ولو بترك فرد واحد مع أنّه ليس كذلك بل لا بدّ في النهي من ترك جمع أفراد الطبيعي. فمن أين نشأ هذا الفرق؟

وقد اجيب عن هذا السؤال بوجوه عديدة:

الوجه الأوّل: أنّ الفرق يرجع في الحقيقة إلى خصوصيّة الوجود والعدم فإنّ وجود الطبيعة يتحقّق بوجود فرد واحد، وأمّا عدمها فلا يتحقّق إلّابترك الجميع.

ولكن يرد عليه: أنّ التحقيق كون العدم بديلًا للوجود فكما يتصوّر لوجود الطبيعة أفراد كثيرة

كذلك يتصوّر لعدم الطبيعة اعدام كثيرة، فإنّ نسبة الطبيعي إلى أفراده نسبة الآباء إلى الأبناء كما مرّ آنفاً من دون فرق بين الوجود والعدم، فكما أنّ وجود زيد يكون عين وجود

انوار الأصول، ج 1، ص: 303

طبيعي الإنسان- كذلك عدم زيد يكون عين عدم طبيعي الإنسان.

الوجه الثاني: أنّ متعلّق الأمر والنهي كليهما إنّما هو الطبيعة السارية في جميع الأفراد ولكن حيث إنّه لا يمكن الإتيان بجميع الأفراد (بينما يمكن ترك جميعها) وليس هناك قرينة على عدد معيّن فهذا بنفسه قرينة عقليّة على كفاية فرد واحد في الأمر دون النهي.

ويرد عليه أيضاً: أنّ غاية ما تقتضيه هذه القرينة العقليّة لزوم إتيان الطبيعة السارية في الأمر بقدر الإمكان لا كفاية فرد واحد منها كما لا يخفى.

الوجه الثالث: أنّ متعلّق الأمر والنهي هو الطبيعة المهملة، وهي في النهي يوجد بترك جميع الأفراد، ولكن في الأمر يدور أمرها بعد جريان مقدّمات الحكمة بين العام البدلي والعام الاستغراقي وحيث إنّ العام البدلي يكون أخفّ مؤونة من العام الاستغراقي من ناحية البيان، أي يحتاج العام الاستغراقي إلى بيان زائد، فمقتضى مقدّمات الحكمة كفاية فرد واحد على البدل.

وهذا أيضاً ممّا لا يمكن المساعدة عليه، لأنّه لا دليل على أن يكون الشيوع والإطلاق في ناحية الوجود على نحو العام البدلي وفي ناحية العدم على نحو العام الاستغراقي بل لو كان الإطلاق في ناحية الوجود على نحو العام البدلي فليكن كذلك في العدم أيضاً.

الوجه الرابع: (وهو المختار) أنّ هذا الفرق يرجع في الواقع إلى الفرق الموجود بين طبيعة المصلحة وطبيعة المفسدة، فإنّ تحصيل المصالح يقتضي الاكتفاء بالمرّة بخلاف دفع المفاسد فإنّه لا يتحقّق إلّابترك جميع الأفراد، فإنّ مفسدة الخمر أو السمّ مثلًا إنّما تترك فيما إذا

تركنا جميع أفراد الخمر أو السمّ مع أنّ المصلحة الموجودة في شرب دواء خاصّ يتحقّق بفرد واحد منه، وهذه قرينة عقليّة خارجيّة توجب أن يكون المتعلّق في الأوامر صرف وجود الطبيعة وفي النواهي ترك جميع الأفراد، فإنّ الأوامر كاشفة عن مصالح في المتعلّق، والنواهي كاشفة عن مفاسد فيه.

ولا إشكال في أنّ سيرة العقلاء في الموالي والعبيد أيضاً كذلك ومنشأها ما ذكرناه.

الأمر الثاني: في جواز التكرار وعدمه بعد ثبوت عدم دلالة الأمر على التكرار.

وقد ذكر فيه ثلاثة وجوه: 1- أنّه جائز مطلقاً. 2- عدم الجواز مطلقاً 3- ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله من التفصيل بين ما إذا كان الامتثال علّة تامّة لحصول الغرض الأقصى انوار الأصول، ج 1، ص: 304

(كما إذا أمر المولى بإهراق الماء في فمه لرفع عطشه فأهرقه العبد) فلا يجوز، وما إذا لم يكن الامتثال علّة تامّة لذلك (كما إذا أمر بالماء ليشربه فأتى به ولم يشربه) فعند ذلك له تبديل الامتثال، أي يأتي بفرد آخر أحسن من الأوّل على أن يكون به الامتثال أيضاً لا بخصوص الفرد الأوّل.

وأورد عليه في المحاضرات: «بأنّ الصحيح هو عدم جواز الامتثال بعد الامتثال، وذلك لأنّ مقتضى تعلّق الأمر بالطبيعة بدون تقييدها بشي ء (كالتكرار أو نحوه) حصول الامتثال بإيجادها في ضمن فرد ما في الخارج، لفرض انطباقها عليه قهراً، ولا نعني بالامتثال إلّاانطباق الطبيعة المأمور بها على الفرد المأتي به في الخارج، ومعه لا محالة يحصل الغرض ويسقط الأمر، فلا يبقى مجال للامتثال مرّة ثانيّة لفرض سقوط الأمر بالامتثال الأوّل وحصول الغرض به، فالإتيان بها بداعيه ثانياً خلف ... (إلى أن قال): ومن ضوء هذا البيان يظهر نقطة الخطأ في كلام صاحب الكفاية وهي الخلط بين

الغرض المترتّب على وجود المأمور به في الخارج من دون دخل شي ء آخر فيه وبين غرض الآمر، كرفع العطش مثلًا حيث إنّ حصوله يتوقّف على فعل نفسه وهو الشرب زائداً على الإتيان بالمأمور به، ومن الطبيعي أنّ المكلّف لا يكون مأموراً بإيجاده وامتثاله، لخروجه عن قدرته واختياره، فالواجب على المكلّف ليس إلّاتمكين المولى من الشرب وتهيئة المقدّمات له، فإنّه تحت اختياره وقدرته وهو يحصل بصرف الامتثال الأوّل» «1».

أقول: الحقّ هو جواز تبديل الامتثال وإنّ هذا البيان ليس جواباً عن ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله من مثال تبديل ماء بماء أحسن قبل شربه وإهراق الأوّل، فهل هذا تبديل للامتثال بآخر أو تكرار الامتثال فيما إذا أتى بماء أحسن من دون إهراق الماء الأوّل، أي وضع ماء آخر إلى جنب الماء الأوّل أم لا؟ لا إشكال في أنّه وإن حصل الغرض من فعل العبد ولكن حيث إنّ غرض الآمر لم يحصل بعدُ يجوز عند العرف والعقلاء إتيان فرد آخر وإنّهم يعدّونه امتثالًا آخر لأمر المولى بل يمدحونه عليه، ولعلّ جواز إتيان الصّلاة جماعة بعد إتيانها فرادى في الشرع من هذا الباب، فالصحيح هو إمكان تبديل الامتثال أو تكراره في مقام الثبوت، فلو

انوار الأصول، ج 1، ص: 305

دلّ دليل في مقام الإثبات على عدم حصول الغرض الأقصى للمولى نعمل به من دون محذور.

الأمر الثالث: في أنّه هل المراد من المرّة والتكرار هو الفرد والأفراد، أو الدفعة والدفعات؟

والفرق بينهما واضح حيث إنّه إذا كان المراد منهما هو الأوّل فبناءً على دلالة صيغة الأمر على المرّة لا بدّ في مقام الامتثال من إتيان فرد واحد ولا يجوز إتيان أكثر من الواحد ولو بدفعة واحدة، بينما إذا كان المراد هو الدفعة

والدفعات فبناءً على دلالة صيغة الأمر على المرّة يمكن إتيان أفراد عديدة دفعة واحدة.

وقد ذهب صاحب الفصول إلى الثاني، واستدلّ بأنّه لو كان المراد هو الأوّل كان الأنسب بل اللازم أن يجعل هذا المبحث تتمّة للمبحث الآتي، وهو البحث عن تعلّق الأوامر بالطبائع أو بالافراد، فإنّ المبحوث عنه هناك أنّ الأمر متعلّق بالطبيعة أو بالفرد وعلى القول بتعلّقه بالفرد هل يقتضي الفرد الواحد أو الأفراد؟ فيكون النزاع في ما نحن فيه جارياً على أحد القولين في تلك المسألة.

ولكن الحقّ أنّه لا ربط بين المسألتين، أي يجري النزاع هنا حتّى على القول بتعلّق الأمر بالطبيعة فإنّا نقول: ولو كان متعلّق الأمر هو الطبيعة مع ذلك لا يجب إتيان أكثر من فرد واحد ولو في دفعة واحدة بنفس البيان السابق من اقتضاء مقدّمات الحكمة ذلك، فلو قال المولى مثلًا «اعتق الرقبة» فلا يجوز عتق رقاب متعدّدة ولو في دفعة واحدة بعنوان امتثال واحد، نعم أنّه يجوز بناءً على ما مرّ آنفاً من جواز تبديل الامتثال أو تكراره في ما إذا لم يحصل الغرض الأقصى للمولى.

فتلخّص: أنّ المراد من المرّة والتكرار إنّما هو الفرد والأفراد لا الدفعة والدفعات.

الأمر الرابع: في أنّه إذا أتى دفعة واحدة بافراد كثيرة فبناءً على تعلّق الأمر بالطبيعة هل يعدّ هذا امتثالًا واحداً أو امتثالات متعدّدة؟

نقل عن المحقّق البروجردي رحمه الله في تهذيب الاصول بأنّه امتثالات متعدّدة محتجّاً بأنّ الطبيعة متكثّرة بتكثّر الأفراد ولا يكون فردان أو أفراد منها موجودة بوجود واحد، لأنّ المجموع ليس له وجود غير وجود الأفراد، فكلّ فرد محقّق للطبيعة، ولمّا كان المطلوب هو الطبيعة بلا تقيّد بالمرّة أو التكرار، فحينئذٍ إذا أتى المكلّف بافراد متعدّدة فقد أوجد المطلوب في

ضمن كلّ فرد مستقلًا، فيكون كلّ امتثالًا برأسه كما هو موجود بنفسه، ونظير ذلك الواجب انوار الأصول، ج 1، ص: 306

الكفائي حيث إنّ الأمر فيه متعلّق بنفس الطبيعة ويكون جميع المكلّفين مأمورين باتيانها فمع إتيان واحد منهم يسقط الوجوب عن الباقي، وأمّا لو أتى به عدّة منهم دفعة يعدّ كلّ واحد ممتثلًا ويحسب لكلٍ امتثال مستقلٍ لا أن يكون فعل الجميع امتثالًا واحداً (انتهى).

ثمّ أورد عليه: بأنّ وحدة الامتثال وكثرته بوحدة الطلب وكثرته لا بوحدة الطبيعة وكثرتها، ضرورة أنّه لولا البعث لم يكن معنى لصدق الامتثال وإن أوجد آلاف من أفراد الطبيعة ... إلى أن قال: وقياسه بالواجب الكفائي قياس مع الفارق لأنّ البعث في الواجب الكفائي يتوجّه إلى عامّة المكلّفين بحيث يصير كلّ مكلّف مخاطباً بالحكم، فهناك طلبات كثيرة وامتثالات عديدة لكن لو أتى واحد منهم سقط البعث عن الباقي لحصول الغرض وارتفاع الموضوع ... بخلاف المقام» «1».

أقول: يمكن المناقشة في إيراده:

أوّلًا: بأنّه لو لم يكن كلّ مصداق امتثالًا برأسه لزم منه أن يكون الامتثال بأحد المصاديق لا بعينه، ومن الواضح أنّ الواحد لا بعينه غير موجود في الخارج وإنّما هو من مخترعات الذهن، فتأمّل.

ثانياً: أنّ قياس ما نحن فيه بالواجب الكفائي ليس قياساً مع الفارق بناءً على القول بأنّ متعلّق الواجب الكفائي عنوان «أحد المكلّفين» أو «جماعة من المكلّفين» وأنّه ليس المتعلّق جميعهم وأنّه مثل قول المولى «ليقم واحد منكم ويفتح الباب» وعلى كلّ حال الحقّ ما أفاده المحقّق البروجردي رحمه الله.

توضيح ذلك: إنّ المسألة لا تخلو عن احتمالات:

إمّا أن لا يكون هناك امتثال في الأمثلة المذكورة، وفي مثل قوله: «أطعم فقيراً لكفّارة الصّيام»، فأطعم فقراء في مجلس واحد، مع عدم كون المطلوب بشرط

لا، فهذا ممّا لا مجال له قطعاً بل حصل الامتثال بطريق أكمل.

وإمّا أن يكون المطلوب الواحد لا بعينه، أو المجموع من حيث المجموع، ومن الواضح أنّ شيئاً من هذين العنوانين غير موجود في الخارج، فالواحد لا بعينه موجود ذهني كما أنّ انوار الأصول، ج 1، ص: 307

المجموع من حيث المجموع كذلك.

أو يقال أنّ المطلوب صرف الوجود، وقد حصل في المثال وشبهه ولكن الإنصاف أنّ صرف الوجود أيضاً لا يخرج عمّا ذكر.

فلا يبقى إلّاأن يقال أنّ كلّ واحد مصداق للامتثال.

إن قلت: الأمر الواحد كيف يكون له امتثالات متعدّدة؟

قلنا: لا مانع من ذلك، ولكن يكون الثواب والأجر واحداً، وإن هو إلّامثل الواجب الكفائي بأن يقول المولى مخاطباً لغلمانه: «ليقم واحد منكم ويأتيني بالماء»، فقام أكثر من واحد أو جميعهم فأتاه بماء في آنٍ واحد، فلا شكّ في أنّ كلّ واحد امتثل أمر المولى، ولكن لو كان هنا جزاء، كان لا محالة مقسّماً بينهم، وهكذا الأمر في باب الجعالة، فإذا قال واحد: «من يأتيني بالماء مثلًا فله كذا» فأتاه جمع بالماء، فلا شكّ أنّ كلّ واحد منهم عمل بمقتضى الجعالة، ولكن للجميع اجرة واحدة تقسّم بينهم.

انوار الأصول، ج 1، ص: 309

الفصل الثامن في الفور والتراخي

هل الأمر يدلّ على الفور، أو التراخي، أو لا يدلّ على واحد منهما بل يدلّ على الطبيعة المجرّدة؟

فيه ثلاثة وجوه، والصحيح عند المتأخّرين من الأصحاب هو الوجه الثالث لأنّ مفاد صيغة الأمر ومادّته بحكم التبادر ليس إلّاطلب إيجاد الطبيعة التي ليس فيها مرّة ولا تكرار ولا فور ولا تراخي أبداً، بل تستفاد هذه الخصوصيّات من دليل آخر.

لكن الصحيح عندنا أنّها تدلّ على الفور أيضاً كماتدلّ على المرّة، وذلك لأنّ العرف والعقلاء لا يعدّون العبد معذوراً إذا أخّر الامتثال.

هذا مضافاً

إلى أنّ البعث التشريعي يطلب الانبعاث فوراً عند العقل كما في البعث التكويني ولا معنى لأنّ يكون البعث في الحال والانبعاث في المستقبل، فإنّ البعث التشريعي بمنزلة دفع إنسان بيده لطلب خروجه من الدار مثلًا.

وإن شئت قلت: كما أن طبيعة الأمر والطلب تقتضي الوجوب كذلك تقتضي الفوريّة إلّاأن يثبت خلافه.

ومن هنا لا بدّ في باب القضاء من إقامة دليل من الخارج على أنّ وقت القضاء موسّع، وإلّا مقتضى البيان المذكور أنّ وقته مضيّق فلابدّ من القضاء فوراً.

ولعلّ ما ذكرنا هو مراد من استدلّ على دلالة الأمر على الفور بأنّه من قبيل العلّة التكوينيّة، فكما أنّ العلل التكوينيّة تقتضي معلولها فوراً فكذا العلل التشريعيّة مثل الأوامر فإنّه لا بدّ أن يحمل على ما ذكرناه، وإلّا فقد عرفت أنّ العلّة للتشريع هو نفس المولى، والأمر لا يكون علّة تامّة للامتثال فلا يقاس بالعلل التكوينيّة التامّة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 310

بقي هنا شي ء:

وهو أنّه لو لم يمتثل المكلّف المأمور به فوراً فهل يجب عليه الإتيان فوراً ففوراً بناءً على القول بالفوريّة، أو يسقط الحكم بالمرّة، أو تسقط فوريته؟

قال المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية: إنّ المسألة مبنية على أنّ مفاد الصيغة على القول بالفور هو وحدة المطلوب أو تعدّده؟ فإن كان على نحو تعدّد المطلوب بأن كان الإتيان بالمأمور به مطلوباً وإتيانه على الفور مطلوباً آخر، فالواجب الإتيان به لو عصى في الفور، وأمّا لو كان المجموع مطلوباً واحداً سقط الوجوب بعد عصيان الفوريّة، ثمّ أضاف إليه بأنّه لو قيل بدلالتها على الفوريّة لما كان لها دلالة على نحو المطلوب من وحدته أو تعدّده، ولازم ما ذكره كون الأمر ساكتاً عن الوحدة والتعدّد، وعند الابهام من هذه الناحية يجب

الرجوع إلى الاصول.

أقول: إن قلنا بأنّ الفوريّة مستفادة من البعث وإنّ بعث المولى مفهومه الانبعاث فوراً فهذا يدلّ على الانبعاث فوراً ففوراً، ولا يسقط الحكم إلّابإنعدام الموضوع أو الامتثال أو مضيّ الزمان إذا كان موقتاً وإلّا وجب الإتيان به فوراً ففوراً.

والحاصل: أنّ طبيعة البعث كما عرفت تقتضي الفوريّة بحيث لا يسقط المطلوب بعصيان الفوريّة في زمان، وظهر من ذلك أنّه لا ربط لها بمسألة تعدّد المطلوب كما يظهر من الأوامر في الموالي العرفيّة، إلّاأن يدلّ دليل خاصّ على سقوط الطلب عند عصيانه فوراً.

انوار الأصول، ج 1، ص: 311

الفصل التاسع الإجزاء في الأوامر
اشارة

الإتيان بالمأمور به على وجهه هل يقتضي الإجزاء، أم لا؟

وقبل الورود في أصل البحث لا بدّ من تقديم امور:

الأمر الأوّل: في أنّ المسألة عقليّة أو لفظيّة؟

مقتضى تعبير المحقّق الخراساني رحمه الله في عنوان البحث (كما نسب نفس التعبير إلى صاحب التقريرات ومن تأخّر عنهما أيضاً) أنّه بحث عقلي، حيث قال: «الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي الإجزاء في الجملة بلا شبهة» فإنّ الاقتضاء فيه يكون بمعنى العلّية لأنّه نسب إلى الإتيان دون صيغة الأمر فيبحث حينئذ في مبحث الإجزاء في أنّ العقل هل يحكم بالإجزاء بعد الإتيان بالمأمور به بتمام أجزائه وشرائطه أو لا؟ فيكون البحث عقليّاً.

ولكن مقتضى ما نسب إلى المحقّق القمّي وصاحب الفصول رحمهما الله ومن تقدّمهما من الاصوليين أنّ البحث لفظي حيث إنّهم قالوا في عنوان البحث: «أنّ الأمر بالشي ء يقتضي الإجزاء أم لا»؟

فنسبوا الاقتضاء إلى الأمر وهيئته.

ولا إشكال في أنّ لازم التعبير الأوّل بناءً على الاقتضاء المزبور لزوم إيقاع هذا البحث ضمن المباحث العقليّة مع أنّهم أوردوه في المباحث اللّفظيّة (وهو نفس ما يرد عليهم بالنسبة إلى مباحث «جواز اجتماع الأمر والنهي» و «دلالة النهي في العبادة على الفساد» و «مقدّمة الواجب» و «دلالة الأمر بالشي ء على النهي عن ضدّه» حيث إنّ جميعها مباحث عقليّة وردت ضمن المباحث اللّفظيّة).

ولكن هذا كلّه ما يقتضيه ظاهر التعبير في بدو النظر، والصحيح إمكان كون البحث لفظيّاً

انوار الأصول، ج 1، ص: 312

حتّى بناءً على ما اختاره المحقّق الخراساني رحمه الله من التعبير.

توضيحه: أنّ الأوامر على قسمين: واقعية وظاهريّة، والواقعيّة تنقسم أيضاً إلى قمسين:

واقعية اختياريّة وواقعية اضطراريّة (كالأمر بالتيمّم عند فقدان الماء) والظاهريّة نظير الأمر بالاستصحاب عند الشكّ في الطهارة مثلًا مع اليقين السابق بها، وسيأتي دخول كلا القسمين في محلّ النزاع، ولا

إشكال في أنّ النزاع يكون عقليّاً بالنسبة إلى الأوامر الواقعيّة الاختياريّة، وأمّا بالنسبة إلى الواقعيّة الاضطراريّة والأوامر الظاهريّة فيمكن أن يكون النزاع لفظيّاً لأنّ البحث فيهما يدور في الواقع مدار دلالة أدلّتهما اللّفظيّة (دليل التيمّم ودليل الاستصحاب مثلًا) على الإجزاء واستظهاره منها وعدمه فيبحث فيهما عن مفاد ظواهر الأدلّة وهو بحث لفظي كما لا يخفى.

هذا كما يمكن أن يكون البحث عقليّاً حتّى بناءً على التعبير الثاني وهو ما نقل عن قدماء الأصحاب ونسب الاقتضاء فيه إلى الأمر دون الإتيان، حيث إنّه يمكن أن يكون مرادهم من اقتضاء الأمر للإجزاء أنّ الأمر يدلّ على إرادة المولى للمتعلّق المأمور به، والإرادة تدلّ على وجود غرض للمولى في المتعلّق، وبعد إتيان المكلّف بالمأمور به يحصل الغرض عقلًا وبه تسقط الإرادة وبتبعه يسقط الأمر كذلك وهو معنى الإجزاء، ولا إشكال في أنّه بحث عقلي فحسب، وبهذا يندفع الإيراد المزبور الوارد على التعبير الأوّل بالنسبة إلى مبحث الإجزاء ويثبت أنّ مجرّد نسبة الاقتضاء إلى الإتيان ليس دليلًا على أنّ المسألة عقليّة، مضافاً إلى عدم كون هذا التعبير أمراً متّفقاً عليه عند القوم كي يستكشف منه كون الاقتضاء في عنوان البحث بمعنى العلّية والتأثر عقلًا.

الأمر الثاني: في المراد من لفظ «على وجهه» المأخوذ قيداً في عنوان البحث

والاحتمالات فيه ثلاثة:

1- أن يكون قيداً توضيحاً لكلمة «المأمور به» فيكون المعنى إتيان المأمور به مع جميع الشرائط المأخوذة فيه من ناحية الشرع.

2- أن يكون المراد منه نيّة الوجه وهو الوجوب والندب.

انوار الأصول، ج 1، ص: 313

3- أن يكون قيداً احترازيّاً فيكون المعنى إتيان المأمور به مع جميع قيوده وشرائطه الشرعيّة والعقليّة المعتبرة فيه، فيشمل الإتيان بالعبادات مع قصد القربة حتّى بناءً على مبنى القائلين بأنّ اعتباره بحكم العقل دون الشرع لعدم إمكان أخذه في المأمور به

في لسان الشارع.

ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى الوجه الثالث لا الوجه الثاني لأنّه لا خصوصيّة له من بين القيود والشرائط حتّى يختصّ بالذكر في عنوان البحث، مضافاً إلى عدم اعتباره عند معظم الأصحاب، ومضافاً إلى أنّ من قال باعتباره لم يقل به إلّافي خصوص العبادات، ومحلّ النزاع في ما نحن فيه أعمّ منها ومن غيرها، ولا الوجه الأوّل لأنّ ظاهر القيود الواردة في عنوان البحث أنّها قيود احترازيّة لا توضيحية، مضافاً إلى أنّه يستلزم خروج التعبّديات عن حريم النزاع بناءً على ما اختاره من كون اعتبار قصد القربة في العبادات هو بحكم العقل لا بحكم الشرع وذلك لوضوح عدم كون الإتيان بها على الكيفية المعتبرة فيها شرعاً، بلا مراعاة لما اعتبر فيها عقلًا- مجزياً قطعاً.

أقول: المختار هو الوجه الأوّل، وذلك لما اخترناه من إمكان أخذ قصد القربة في المأمور به، مع أنّ الوجه الثالث لازمه كون مبنى جميع من عنون النزاع بالعبارة المزبورة هو مبنى المحقّق الخراساني رحمه الله من عدم إمكان أخذ قصد القربة في المأمور به شرعاً وهو غير ثابت.

وبعبارة اخرى: إنّ شبهة عدم إمكان أخذ قصد القربة في المأمور به شبهة حادثة في الأزمنة المتأخّرة، فكيف يمكن أن يكون مبنى القدماء من الأصحاب عدم إمكان قصد القربة في المأمور به؟

الأمر الثالث: في معنى «الاقتضاء» الوارد في العنوان

فهل هو بمعنى العلّية والتأثير أو بمعنى الكشف والدلالة؟ ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله (كما مرّ آنفاً في الأمر الأوّل) إلى أنّه هو الاقتضاء بنحو العلّية، ولذا قد نسب إلى الإتيان، فلو كان المراد منه هو الدلالة والكشف كان الأنسب نسبته إلى الصيغة.

ثمّ قال: إن قلت: هذا إنّما يكون كذلك بالنسة إلى أمره لا بالنسبة إلى أمر آخر فلا يكون إتيان

المأمور به في الأمر الاضطراري أو الظاهري علّة لاسقاط الأمر الواقعي الاختياري لأنّ النزاع في الحقيقة في دلالة دليلهما (الأمر الاضطراري والأمر الظاهري) على نحو يفيد الإجزاء وعدمها.

انوار الأصول، ج 1، ص: 314

قلنا: نعم لكنّه لا ينافي كون النزاع فيهما أيضاً في الاقتضاء بمعنى العلّية لأنّ كاشفية الدليل فيهما تكون كاشفية عن حصول تمام المصلحة وهو يكون صغرى لعلّية الإجزاء، أي كلّما حصل تمام المصلحة حصل الإجزاء وحصول الإجزاء علّة لسقوط الأمر فيصحّ التعبير فيهما أيضاً بأنّ إتيان المأمور به علّة للإجزاء لأنّه كاشف عن صغرى علّية الإجزاء وهي حصول تمام المصلحة (انتهى بتوضيح منّا).

وقال في تهذيب الاصول ما حاصله: لا يتصوّر العلّية في ما نحن فيه بأيّ معنى فسّر به الإجزاء سواء فسّر بالكفاية أو بسقوط الأمر أو سقوط الإرادة، أمّا الأوّل فلأنّها معنى انتزاعي لا يقع مورد التأثير والتأثّر التكوينيين، وأمّا الثاني فلأنّ الإتيان ليس علّة مؤثّرة في سقوط الأمر كما أنّ السقوط والاسقاط ليسا من الامور القابلة للتأثير والتأثّر الذين هما من خصائص التكوين، وأمّا الثالث فلأنّ منشأ إرادة المولى تصوّره المراد بما له من المصلحة وهي علّة لأمره بإتيان المأمور به فيكون الإتيان معلولًا للإرادة، فكيف يصير المعلول علّة لانعدام علّته؟ فالأولى دفعاً لهذه التوهّمات أن يقال: إنّ الإتيان بالمأمور به هل هو مجزٍ أو لا؟ «1» (انتهى).

أقول: ولكن يرد عليه:

أوّلًا: أنّ الامور الانتزاعيّة وإن لم تقع مورداً للتأثير والتأثّر إلّاأنّ لها منشأً للانتزاع، وهو في ما نحن فيه تحقّق المصلحة وحصول الغرض، فيمكن أن يقال بأنّ الإتيان علّة للإجزاء والكفاية باعتبار علّيته لمنشأ انتزاع الكفاية وهو حصول الغرض.

ثانياً: أنّ منشأ الإرادة ليس خصوص تصوّر المراد بما له من المصلحة بل هو

بضميمة فقدان المراد كفقدان الماء في قولك «اسقني الماء» فيكون الفقدان موضوعاً للإرادة والطلب، وبعد الإتيان يتبدّل الفقدان إلى الوجدان، فينعدم موضوع الطلب بوجدان الماء مثلًا وبتبعه ينعدم نفس الطلب والأمر، وهو أمر وجداني غير قابل للانكار فصار إتيان المأمور به علّة لسقوط الأمر وانعدامه.

وثالثاً: لا يندفع الإشكال بتبديل العنوان المزبور إلى ما ذكره من العنوان وهو «أنّ الإتيان انوار الأصول، ج 1، ص: 315

بالمأمور به مجزٍ» لأنّ حمل الخبر (مجزٍ) على المبتدأ (الإتيان بالمأمور به) في هذا العنوان أيضاً لا يخلو من أحد الأمرين: فإمّا أن يكون المبتدأ فيه علّة للخبر، أو يكون كاشفاً عنه فيعود الإشكال.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّه لا مانع من كون الاقتضاء بمعنى العلّية إمّا لأنّ الإتيان علّة لمنشأ الإجزاء (إذا كان بمعنى الكفاية) أو لأنّه موجب لانعدام موضوع الأمر أو الإرادة (إذا كان بمعنى سقوط الأمر أو سقوط الإرادة) فما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله متين في محلّه.

الأمر الرابع: في معنى الإجزاء

ذهب بعض إلى أنّ لفظ الإجزاء المأخوذ في العنوان بمعنى الكفاية، أي معناه اللغوي، فلا يكون حقيقة شرعيّة، وذهب بعض آخر إلى أنّه حقيقة شرعيّة وضع في لسان الشرع لاسقاط الإعادة.

أقول: الإنصاف رجوع أحد المعنيين إلى الآخر، لأنّ من لوازم الكفاية الاسقاط فلا يكون حقيقة شرعيّة بل هو بمعناه اللغوي، وحيث إنّ من مصاديق الكفاية في الفقه اسقاط الإعادة استعمل فيه استعمال الكلّي في بعض مصاديقه.

الأمر الخامس: الفرق بين المسألتين
اشارة

أولًا: الفرق بين هذه المسألة ومسألة: المرّة والتكرار.

ثانياً: الفرق بينها وبين مسألة: أنّ القضاء هل هو بأمر جديد أو بالأمر الأوّل.

أمّا الأوّل: فربّما يتوهّم أنّه لا فرق بين المسألتين لأنّ لازم الإجزاء هو إتيان المأمور به مرّة واحدة، ولازم عدم الإجزاء هو إتيانه مكرّراً، وعليه فلا وجه لعقدهما مسألتين مستقلّتين.

لكن الفرق بينهما واضح جدّاً، لأنّ البحث في مسألة المرّة والتكرار يكون في مقدار دعوة الأمر ومقدار المأمور به، وأمّا في مسألة الإجزاء فيكون في كفاية إتيان المأمور به بما له من الدعوة سواء كان المأمور به واحداً أو أكثر، والفرق بينهما واضح جدّاً.

أمّا الثاني: فربّما يتوهّم أيضاً بأنّه لا فرق بين مسألة الإجزاء ومسألة القضاء بأمر جديد، لأنّ الإجزاء معناه كون القضاء بأمر جديد وعدم كونه تابعاً للأداء بل يكون الأمر باقياً في انوار الأصول، ج 1، ص: 316

خارج الوقت، وعدم الإجزاء معناه تبعيّة القضاء للأداء وكون القضاء بالأمر الأوّل المتعلّق بالأداء، فلا وجه أيضاً لعقدهما مسألتين مستقلّتين.

لكن هذا التوهّم أيضاً خاطى ء، لأنّ بينهما بون بعيد فإنّ القضاء يتصوّر فيما إذا لم يأت بالمأمور به أصلًا، وعدم الإجزاء يتصوّر فيما إذا أتى بالمأمور به إمّا بأمر اضطراري أو بأمر ظاهري ولكنّه لا يكون مجزياً، فالموضوع في إحدى المسألتين الإتيان مع

عدم الإجزاء، وفي الاخرى عدم الإتيان أصلًا، وفرقهما واضح أيضاً.

إذا عرفت هذا كلّه فاعلم أنّ البحث يقع في مقامات أربع:

1- في إجزاء الإتيان بالمأمور به مطلقاً سواء كان واقعياً أو ظاهريّاً أو اضطراريّاً عن أمر نفسه.

2- في إجزاء الإتيان بالمأمور به الاضطراري عن الواقعي الاختياري.

3- في إجزاء الإتيان بالمأمور به الظاهري الشرعي عن الواقعي.

4- في إجزاء الإتيان بالمأمور به الظاهري العقلي (كحكم العقل بجواز الإفطار فيما إذا قطع بغروب الشمس مع عدم غروبها في الواقع، ويعبّر عنها بتعبير أدقّ الأوامر الخياليّة لأنّ فيها يتخيّل بوجود الأمر في الواقع مع عدمه واقعاً) عن الواقعي.

المقام الأوّل- إجزاء الإتيان بالمأمور به مطلقاً عن أمر نفسه

والحقّ أنّه لا إشكال في كون إتيان المأمور به فيها مجزياً عنها، والدليل عليه هو العقل لأنّ الامتثال بعد الامتثال مع حصول الغرض تحصيل للحاصل.

ولكن قد خالف فيه أبو هاشم وعبدالجبّار من قدماء المتكلّمين من أهل السنّة فقالا: بأنّه يمكن القول بعدم الإجزاء فيها، ومنشأ خطأهما وجود بعض الأمثلة في الفقه قد أمر فيها بإتمام العمل مع الأمر بإعادته كالحجّ الفاسد الذي أمر الشارع بإتمام مناسكه مع إيجابه الإعادة في السنة القابلة.

والمسألة عندنا لا إشكال فيها ولا غبار عليها لما مرّ من حكم العقل بالإجزاء وأمّا ما أشار إليه من مثال الحجّ ونحوه فالمستفاد من جملة من الرّوايات الواردة عن طريق أئمّة أهل البيت عليهم السلام أنّها ليست من قبيل الامتثال بعد الامتثال بالنسبة إلى أمر واحد، بل هناك أمران انوار الأصول، ج 1، ص: 317

يطلب كلّ واحد منهما من المكلّف امتثالًا يخصّ به، ومن جملتها ما رواه زرارة قال: سألته عن مُحرمٍ غشى امرأته وهي محرمة قال: «جاهلين أو عالمين؟» قلت: أجبني في (عن) الوجهين جميعاً، قال عليه السلام: «إن كانا جاهلين

استغفرا ربّهما ومضيا على حجّهما وليس عليهما شي ء، وإن كانا عالمين فرّق بينهما من المكان الذي أحدثا فيه وعليهما بدنة وعليهما الحجّ من قابل، فإن بلغا المكان الذي أحدثا فيه فرّق بينهما حتّى يقضيا نسكهما ويرجعا إلى المكان الذي أصابا فيه ما أصابا» قلت: فأي الحجّتين لهما قال: «الاولى التي أحدثا فيها ما أحدثا، والاخرى عليهما عقوبة» «1».

حيث إنّ هذه الرّواية تدلّ على وجود أمرين في المسألة يكون لكلّ واحد منهما امتثال على حدّه، أمر واقعي أوّلي وأمر واقعي ثانوي، فلا تكون من باب الامتثال بعد الامتثال بالنسبة إلى أمر واحد حتّى يستفاد منها عدم إجزاء الإتيان بالمأمور به عن الأمر الأوّل.

بقي هنا شي ء:

وهو جواز الامتثال بعد الامتثال في الجملة.

ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى جوازه وتبعه المحقّق النائيني رحمه الله «2» وذهب المحقّق العراقي إلى عدم جوازه وتبعه بعض أعاظم العصر «3».

قال المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية: «لا يبعد أن يقال بأنّه يكون للعبد تبديل الامتثال والتعبّد به ثانياً بدلًا عن التعبّد به أوّلًا لا منضمّاً إليه كما أشرنا إليه في المسألة السابقة وذلك فيما علم أنّ مجرّد امتثاله لا يكون علّة تامّة لحصول الغرض وإن كان وافياً به لو اكتفى به كما إذا أتى بماء أمر به مولاه ليشربه فلم يشربه بعدُ، فإنّ الأمر بحقيقته وملاكه لم يسقط بعدُ، ولذا لو اهرق الماء وإطّلع عليه العبد وجب عليه إتيانه ثانياً كما إذا لم يأت به أوّلًا، ضرورة بقاء طلبه ما لم يحصل غرضه الداعي إليه وإلّا لما أوجب حدوثه، فحينئذ يكون له الإتيان بماء آخر موافق للأمر كما كان له قبل إتيانه الأوّل بدلًا عنه، نعم فيما كان الإتيان علّة تامّة لحصول

انوار الأصول، ج 1، ص: 318

الغرض فلا يبقى موقع للتبديل كما إذا أمر بإهراق الماء في فمه لرفع عطشه فأهرقه بل لو لم يعلم أنّه من أي القبيل فله التبديل بإحتمال أن لا يكون علّة فله إليه سبيل، ويؤيّد ذلك بل يدلّ عليه ما ورد من الرّوايات في باب إعادة من صلّى فرادى جماعة وأنّ اللَّه تعالى يختار أحبّهما إليه» (انتهى كلامه).

وما ذكره من الرّواية إشارة إلى ما رواه أبو بصير قال قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: «اصلّي ثمّ أدخل المسجد فتقام الصّلاة وقد صلّيت فقال: صلّ معهم يختار اللَّه أحبّهما إليه» «1».

واستدلّ القائل بعدم الجواز بما حاصله: إنّ الإتيان بالمأمور به في الخارج علّة تامّة لحصول الغرض الداعي إلى الأمر به، والإجزاء في مثله عقلي محض لاستقلال العقل حينئذٍ بسقوط الغرض وسقوط الأمر بسقوطه بمجرّد الموافقة وإيجاد المأمور به فلا يبقى مقتضٍ للإتيان به ثانياً بوجه أصلًا، نعم هذا مبني على القول بوجوب مطلق المقدّمة، وأمّا إذا قلنا بوجوب خصوص المقدّمة الموصلة فلازمه جواز الإتيان بالمأمور به ثانياً بعنوان امتثال الأمر بالطبيعة مع عدم اختيار المولى إيّاه، لأنّ الغرض الداعي إلى الأمر باقٍ على حاله، غايته أنّه ليس له الفاعلية والمحرّكيّة بعد الإتيان بالمأمور به أوّلًا بملاحظة صلاحية المأتي به للوفاء بالغرض لا أنّه يسقط رأساً بمجرّد الإتيان به، ولازم ذلك التفكيك بين «فعلية الأمر» و «فاعليته» وجواز الإتيان بالمأمور به ثانياً، ونتيجة ذلك في فرض تعدّد الإتيان بالمأمور به هو وقوع الامتثال بخصوص ما اختاره المولى منهما لا بهما معاً وصيرورة الفرد الآخر لغواً محضاً فلا يكون من باب الامتثال بعد الامتثال «2».

أقول: الحقّ جواز تبديل الامتثال بالامتثال وفاقاً للمحقّق الخراساني والمحقّق النائيني رحمهما

الله والدليل عليه أنّ الغرض المترتّب على الأمر يكون على نحوين: غرض يترتّب على فعل المكلّف وهو غرض ابتدائي كإتيان الماء ووضعه بين يدي المولى، وغرض نهائي يترتّب على فعل المولى وهو رفع العطش الذي يترتّب على شرب المولى الماء، وما لم يحصل الثاني كان المحلّ باقياً لتبديل الامتثال ويقوم الامتثال الثاني مقام الامتثال الأوّل، وبعبارة اخرى: يعدّ الإتيان الأوّل امتثالًا لأنّه يوجب سقوط الأمر، ويكون الإتيان الثاني امتثالًا آخر (بدل الامتثال انوار الأصول، ج 1، ص: 319

الأوّل) لأنّه محصّل للغرض الذي لم يحصل بالامتثال الأوّل.

وأمّا قضيّة وجوب المقدّمة الموصلة وعدمه فالحقّ أنّه لا ربط لها بالمسألة لأنّها مختصّة بما إذا كان كلّ من المقدّمة وذي المقدّمة فعلًا للمكلّف مثل مقدّمية الوضوء بالنسبة إلى الصّلاة، بخلاف ما إذا كانت المقدّمة عملًا للمكلّف وكان ذو المقدّمة من عمل المولى كما في ما نحن فيه حيث إنّ الشرب فيه يكون عملًا للمولى.

هذا كلّه في مقام الثبوت، أمّا في مقام الإثبات:

فنقول: يوجد في الفقه موردان يحتمل كون الإتيان الثاني فيهما مصداقاً لتبديل الامتثال إلى امتثال آخر:

أحدهما باب صلاة الكسوف حيث ورد فيه رواية يستدلّ بها للمسألة وهي خبر معاوية بن عمّار قال: قال أبو عبداللَّه عليه السلام: «صلاة الكسوف إذا فرغت قبل أن ينجلي فأعد» «1».

لكن الإنصاف خروجها عن ما نحن فيه لأنّ الإعادة فيها تنشأ من أمر استحبابي فتكون امتثالًا لأمر آخر غير الأمر الأوّل، وهو نظير الإتيان بالحجّ في العامّ الثاني والثالث، وإن أبيت عن ذلك فلا أقلّ من احتماله، وحينئذ لا تكون الرّواية شاهدة قطعية لجواز تبديل الامتثال، ولا يصلح الاستدلال بها عليه.

ثانيهما: باب صلاة الجماعة.

والرّوايات الواردة فيه على طائفتين: طائفة تدلّ على إعادة الصّلاة في

مقام التقيّة فتكون الإعادة لأجلها بحيث لولا التقيّة لما كان موجب لمشروعيتها فهي أجنبية عن محلّ الكلام، وطائفة تدلّ على إعادة الصّلاة جماعة، منها ما مرّ آنفاً من خبر أبي بصير قال قلت: لأبي عبداللَّه عليه السلام اصلّي ثمّ أدخل المسجد فتقام الصّلاة وقد صلّيت فقال: «صلّ معهم يختار اللَّه أحبّهما إليه» ولا إشكال في أنّ هذه الرّواية ظاهرها تبديل الامتثال بالامتثال بقرينة ذيلها:

«يختار اللَّه أحبّهما إليه» فإنّه يدلّ على أنّ الامتثال الثاني يقوم مقام الامتثال الأوّل وأنّه بدل عنه، نعم الإشكال في سندها.

ومنها ما رواه حفص بن البختري عن أبي عبداللَّه عليه السلام في الرجل يصلّي الصّلاة وحده ثمّ يجد

انوار الأصول، ج 1، ص: 320

جماعة، قال: «يصلّي معهم ويجعلها الفريضة» «1»

فإنّ ظاهر قوله عليه السلام «ويجعلها الفريضة» أيضاً أنّ الجماعة تقوم مقام الفرادى ويتقبّل اللَّه الجماعة بعنوان الفريضة مقام الفرادى، وإنّ الامتثال بالفرادى يتبدّل إلى الامتثال بالجماعة.

فتخلّص من جميع ما ذكرنا: أنّ تبديل الامتثال إلى امتثال آخر جائز عقلًا وأنّ بعض الرّوايات الواردة في لسان الشرع يشهد عليه.

هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.

المقام الثاني: إجزاء الإتيان بالمأمور به الاضطراري عن الواقعي الاختياري

الصحيح فيه طرح البحث في مقامين: مقام الثبوت ومقام الإثبات كما فعله المحقّق الخراساني رحمه الله حيث تكلّم:

أوّلًا: عن أنحاء الأمر الاضطراري ثبوتاً وبيّن مقتضى كلّ منها من حيث الإجزاء وجواز البدار قبل ضيق الوقت.

وثانياً: عن حال الأمر الاضطراري إثباتاً وأنّه من أي نحو هو؟ فهل هو من القسم المقتضي للإجزاء أو لا.

وحاصل بيانه في مقام الثبوت: أنّ الاضطراري إمّا أن يكون في حال الاضطرار مشتملًا على تمام مصلحته (فيكون حاله كحال الاختياري في حال الاختيار) وإمّا أن لا يكون مشتملًا على تمام مصلحته بل يبقى منه شي ء، وعلى الثاني إمّا أن

يمكن تدارك الباقي وإمّا أن لا يمكن، وعلى الأوّل إمّا أن يكون الباقي بمقدار يجب أو بمقدار يستحبّ، فهذه أربع صور:

أمّا الصورة الاولى: فيجزي الاضطراري عن الواقعي بلا كلام لاشتماله على تمام مصلحته، وأمّا جواز البدار فيها وعدمه فيدور مدار كون الاضطراري بمجرّد الاضطرار مشتملًا على تمام مصلحة الواقعي أو بشرط الانتظار إلى آخر الوقت أو بشرط طروّ اليأس من الاختيار.

وأمّا الصورة الثانيّة: (وهي أن لا يكون الاضطراري مشتملًا على تمام مصلحة الواقعي انوار الأصول، ج 1، ص: 321

وكان الباقي ممّا يمكن تداركه وكان بمقدار يجب) فلا يجزي قطعاً، وأمّا البدار فيها فيجوز، غايته أنّه يتخيّر بين البدار والإتيان بعملين: العمل الاضطراري قبل ضيق الوقت والعمل الاختياري بعد رفع الاضطرار، وبين الانتظار والاقتصار بإتيان ما هو تكليف المختار.

وأمّا الصورة الثالثة: (وهي أن لا يكون الاضطراري مشتملًا على تمام الواقعي وكان الباقي ممّا يمكن تداركه وكان دون حدّ الإلزام) فيجزي قطعاً غير أنّه يستحبّ الإعادة أو القضاء لدرك الباقي، وأمّا البدار فيها فيجوز أيضاً بل يستحبّ لدرك أوّل الوقت ثمّ الإعادة أو القضاء بعد رفع الاضطرار لدرك الباقي المفروض كونه دون حدّ الإلزام.

وأمّا الصورة الرابعة: (وهي أن لا يكون الاضطراري مشتملًا على تمام مصلحة الواقعي ولا يمكن تدارك الباقي) فيجزي أيضاً بعد فرض عدم إمكان التدارك أصلًا كما لا يجوز له البدار في هذه الصورة إلّالمصلحة كانت فيه لما فيه من نقض الغرض، وتفويت مقدار من المصلحة لولا مراعاة ما هو فيه من الأهمّ (انتهى كلامه في مقام الثبوت).

أقول: الصورة الثالثة (وهي أن لا يكون الاضطراري مشتملًا على تمام المصلحة وكان الباقي ممّا يمكن تداركه وكان دون حدّ الإلزام) خارجة عن محلّ الكلام لأنّ النزاع في المقام

فيما إذا تحقّق الاضطرار حقيقة، ولا إشكال في أنّ الاضطرار حقيقة لا يصدق إلّافيما إذا فاتت من الواجب مصلحة ملزمة لا مجرّد الكمال والفضيلة هذا «أوّلًا».

وثانياً: يمكن تقسيم المسألة رباعياً على نحو آخر تكون بجميع صورها الأربع داخلة في محلّ النزاع، أي كانت المصلحة في جميعها ملزمة، وذلك بأن نقول: إمّا أن يكون الاضطراري وافياً بتمام مصلحة الواقعي أو لا يكون، وعلى الثاني إمّا أن يمكن تدارك الباقي أو لا يمكن، وعلى الأوّل إمّا أن يعارض التدارك مفسدة أهمّ من تلك المصلحة الباقية أو لا يعارض مفسدة كذلك، فتأمّل.

هذا كلّه بالنسبة إلى مقام الثبوت.

وأمّا مقام الإثبات فالبحث فيه يقع في مقامين:

الأوّل: ما إذا ارتفع الاضطرار في داخل الوقت (أي الإعادة).

الثاني: ما إذا ارتفع الاضطرار في خارج الوقت (أي القضاء).

وفي كلّ منهما تارةً يكون النظر إلى مفاد الأدلّة الخاصّة كقوله تعالى: «... فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً» في باب التيمّم، واخرى يكون النظر إلى مقتضى العمومات انوار الأصول، ج 1، ص: 322

والإطلاقات (مع قطع النظر عن الأدلّة الخاصّة) كقوله صلى الله عليه و آله «رفع ما اضطرّوا إليه».

أمّا المقام الأوّل: وهو فيما إذا ارتفع الاضطرار في داخل الوقت، فبالنسبة إلى الأدلّة الخاصّة لا بدّ من ملاحظة لسان هذه الأدلّة وأنّه هل هو لسان التنويع والتقسيم، أي تنويع المكلّفين مثلًا إلى الواجدين للماء والفاقدين له (كما في آية التميّم) أو إلى السالمين والمرضى، أو إلى القادرين على القيام والعاجزين عنه، أو يكون لسانها لسان البدليّة حيث تجعل التيمّم مثلًا للفاقد للماء بدلًا عن الوضوء للواجد للماء؟

فعلى الأوّل: لا إشكال في أنّ مقتضى الإطلاق المقامي (بناءً على كون المولى في مقام بيان تمام وظيفة المضطرّ) هو الإجزاء، فإنّ

المولى إذا نوّع المكلّفين إلى أنواع وجعل لكلّ نوع منهم وظيفته الخاصّة به فأمر المكلّف الواجد للماء مثلًا بالصّلاة مع الطهارة المائيّة وأمر المكلّف الفاقد للماء بالصّلاة مع الطهارة الترابيّة (وهكذا بالنسبة إلى سائر الأنواع) ولم يحكم بالإعادة بعد رفع الاضطرار، فيعلم من هذا التنويع مع هذا الإطلاق وعدم الحكم بالإعادة كفاية الاضطراري عن الواقعي وإجزائه عنه، حيث إنّ المفروض أنّ المكلّف المضطرّ أيضاً كالمكلّف المختار أتى بوظيفته الخاصّة به، فلو كانت الإعادة واجبة عليه لحكم المولى بها قطعاً بعد فرض كونه في مقام البيان.

كما لا إشكال في أنّ مقتضى إطلاقها الأزماني جواز البدار، فمقتضى إطلاق قوله تعالى:

«... فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً» من حيث الزمان وكذلك إطلاق قوله عليه السلام «التراب أحد الطهورين» «1»

أو قوله عليه السلام «ويكفيك عشر سنين» «2»

كون التراب كافياً وطهوراً وقابلًا للتيمّم عليه في أيّ ساعة من ساعات الوقت، أوّله أو وسطه أو آخره، وهو معنى جواز البدار.

وعلى الثاني: أي ما إذا كان ظاهر لسان الدليل البدليّة بمعنى أنّ المولى يقول: أنّ المأمور به في باب الطهارة مثلًا إنّما هو الوضوء ولكن أتقبّل التيمّم حين الاضطرار بدلًا عن الوضوء- فالأصل في المأمور به إنّما هو الوضوء وأمّا التيمّم فهو فرع له وبدل عنه، فحينئذٍ يلاحظ نطاق البدليّة وأنّ التيمّم مثلًا هل هو بدل مطلقاً أو أنّ بدليته مقيّدة بما لم يجد الماء في تمام الوقت؟

فعلى الأوّل يكون الحكم هو الإجزاء، وعلى الثاني عدم الإجزاء، ولا يبعد كون ظاهره مطلقاً

انوار الأصول، ج 1، ص: 323

بالنسبة إلى إجزاء الوقت.

وإن شئت قلت: لا بدّ حينئذٍ من ملاحظة لسان الدليل وأنّه هل يستفاد منه البدليّة في تمام الملاك أو في بعضه والباقي هل هو

مصلحة ملزمة أو غير ملزمة؟ والملزمة هل يمكن تداركها أو لا؟ فيؤخذ بمقتضى كلّ منها.

ولو فرض عدم دلالة الدليل على شي ء من ذلك فالمرجع هو العمومات والإطلاقات ثمّ الاصول العمليّة، وقد عرفت أنّ مقتضى الاولى (أي الإطلاقات والعمومات) الإجزاء حتّى بالنسبة إلى داخل الوقت وأنّ مقتضاها جواز البدار كماأ نّ مقتضى الأصل عدم جوازه لما عرفت من الاشتغال.

هذا بالنسبة إلى مقتضى الأدلّة الخاصّة.

وأمّا الإطلاقات والعمومات نظير حديث الرفع أعني قوله صلى الله عليه و آله «رفع ما اضطّروا إليه» فحيث إنّ العنوان المأخوذ فيها إنّما هو عنوان الاضطرار وهو يصدق فيما إذا استوعب الاضطرار تمام الوقت (وأمّا إذا فقد الماء مثلًا في جزء من الوقت فقط فلا يصدق عنوان الاضطرار إلى التراب) فلا يمكن التمسّك بها للإجزاء في داخل الوقت أو جواز البدار كما لا يخفى.

هذا- وقد أنكر الإجزاء فيما نحن فيه (أي ما إذا ارتفع الاضطرار في داخل الوقت) في المحاضرات وقال: «الصحيح في المقام أن يقال: أنّه لا إطلاق لأدلّة مشروعيّة التيمّم بالقياس إلى من يتمكّن من الإتيان بالعمل الاختياري في الوقت بداهة أنّ وجوب التيمّم وظيفة المضطرّ ولا يكون مثله مضطرّاً لفرض تمكّنه من الصّلاة مع الطهارة المائيّة في الوقت، ومجرّد عدم تمكّنه منها في جزء منه لا يوجب كونه مكلّفاً بالتكليف الاضطراري ما لم يستوعب تمام الوقت» «1».

أقول: وما أفاده جيّد إذا كان المعتمد في المسألة هو الأدلّة العامّة، وذلك لأنّ موضوعها هو عنوان الاضطرار (كما قال) ومع التمكّن من الصّلاة المائيّة في الوقت لا يتحقّق الاضطرار، لكن الدليل على الإجزاء عندنا هو الأدلّة الخاصّة الموجودة في مثل باب التيمّم كآية التيمّم، حيث انوار الأصول، ج 1، ص: 324

إنّ مقتضى إطلاقها المقامي

هو الإجزاء كما مرّ بيانه.

وبعبارة اخرى: أنّا تابعون لاطلاق قوله تعالى: «إذا قمتم ... فلم تجدوا ...» لا عنوان الاضطرار، وكذلك قوله عليه السلام «التراب أحد الطهورين» وأمثاله.

والعجب منه حيث إنّه قبل الإجزاء في مورد التقيّة لاطلاق أدلّتها الخاصّة ولم يقبله في التيمّم مع أنّ الأدلّة الخاصّة هنا أيضاً مطلقة، والمقامان من باب واحد.

هذا كلّه في المقام الأوّل من مقام الإثبات، وهو ما إذا ارتفع الاضطرار في داخل الوقت.

أمّا المقام الثاني: وهو ما إذا ارتفع الاضطرار في خارج الوقت فالحقّ أنّ ظاهر الأدلّة أيضاً هو الإجزاء إذا كان لسانها التنويع والتقسيم كما مرّ بيانه في المقام الأوّل، وأمّا إذا كان لسانها البدليّة ببيان مرّ أيضاً في المقام الأوّل فإمّا أن يكون له إطلاق يعني هذا بدل عن ذاك إلى الأبد، فنأخذ به ونقول بالإجزاء، وأمّا إذا كان في لسانه إهمال وإجمال فاللازم الرجوع إلى الاصول العمليّة كما لا يخفى، والأصل العملي فيه هو البراءة، لأنّ القضاء يحتاج إلى أمر جديد وهو منفي بأصل العدم.

إن قلت: موضوع القضاء هو فوت الفريضة كما ورد في بعض أخبار الباب: «من فاتته فريضة فليقضها كما فات» والمفروض في المقام عدم استيفاء المكلّف تمام المصلحة في داخل الوقت، فيصدق عنوان الفوت بالنسبه إليه ولازمه عدم الإجزاء.

قلنا: المستفاد من ظاهر أخبار الباب أنّ الموضوع إنّما هو عنوان فوت الفريضة بتمامها كما يستظهر من التعبير المزبور (من فاتته فريضة) وهو غير فوت بعض مصلحة الفريضة كما في ما نحن فيه حيث إنّ بعضها الآخر يستوفى بإتيان البدل، وعليه فلا يصدق عنوان الفوت الذي أخذ في موضوع القضاء.

فظهر أنّ النتيجة صارت في نهاية المطاف الإجزاء مطلقاً (سواء في داخل الوقت أو خارجه) فيما

إذا كان ظاهر الأدلّة التنويع والتقسيم، وعدم الإجزاء في الجملة فيما إذا كان لسان الأدلّة البدليّة، ولعلّ المقامات مختلفة وتفصيله في الفقه.

بقي هنا شي ء:

وهو ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله بالنسبة إلى القضاء والإجزاء في خارج الوقت وحاصله:

انوار الأصول، ج 1، ص: 325

«أنّ التقيّد بالطهارة المائيّة إمّا أن يكون ركناً في الصّلاة مطلقاً وبها قوام مصلحتها في حالتي التمكّن وعدمه، وإمّا أن لا يكون ركناً كذلك بل كان ركناً في خصوص حال التمكّن، فعلى الأوّل لا يعقل الأمر بالصّلاة الفاقدة للطهارة المائيّة، بل لا بدّ من سقوط الأمر الصلاتي كما في صورة فقد الطهورين، وحيث إنّه أمر بالصّلاة مع فقدان الماء فلابدّ أن لا يكون لقيد الطهارة المائيّة دخل لا في الخطاب بالصلاه ولا في الملاك في صورة الفقدان وتكون الصّلاة مع الطهارة الترابيّة واجدة لكلّ من الخطاب والملاك الذي تتقوّم به الصّلاة، وحينئذٍ لا يعقل القضاء لأنّه لم يفت من المكلّف شي ء حتّى يقضيه» «1». (انتهى).

أقول: مدّعاه وهو الإجزاء وإن كان حقّاً ولكن دليله غير وافٍ بالمسألة، لأنّه يتصوّر هناك شقّ ثالث وهو أن يتوجّه إليه الأمر بعد وجدان الماء، وإن أتى بالصّلاة، لعود الملاك الملزم، وهذا جائز في الامور الاعتباريّة، وبعبارة اخرى: تكون الطهارة المائيّة كافية في زمن الفقدان دون الوجدان، ونظيره واقع في العرفيّات.

هذا تمام الكلام في المقام الثاني من مبحث الإجزاء.

المقام الثالث- إجزاء الأوامر الظاهريّة الشرعيّة
اشارة

ويبحث عنه أيضاً في مباحث الاجتهاد والتقليد (في البحث عن تبدّل رأي المجتهد) وله نتائج كثيرة في الفقه، وقد فصّل المحقّق الخراساني رحمه الله فيه بين الاصول والأمارات، وبين ما كان منهما جارياً في إجزاء الواجب وشرائطه وموانعه (سواء في الشبهات الحكمية والموضوعيّة) وما كان جارياً منهما لإثبات أصل التكليف، وذهب

إلى الإجزاء في القسم الأوّل (أي ما كان جارياً منهما في الإجزاء والشرائط والموانع) في خصوص موارد الاصول دون الأمارات (إلّا بناءً على مبنى السببيّة في الأمارات فذهب فيها أيضاً إلى الإجزاء في الجملة) وإلى عدم الإجزاء في القسم الثاني (ما كان جارياً منهما لإثبات أصل التكليف) مطلقاً سواء في الأمارات والاصول.

وعلى هذا لا بدّ من البحث في موردين:

انوار الأصول، ج 1، ص: 326

المورد الأوّل: الأحكام الظاهريّة من الاصول والأمارات التي تجري في إجزاء واجب أو شرائطه وموانعه، أي تجري لتنقيح موضوع تكليف آخر سواء كانت من الشبهات الحكمية أو الموضوعيّة نظير قاعدة الفراغ مثلًا بالنسبة إلى من شكّ في إتيان جزء أو شرط أو مانع، ونظير استصحاب العدم لمن شكّ في إتيان جزء في محلّه، ونظير البيّنة القائمة على إتيان جزء أو عدم إتيانه مثلًا (هذا في الشبهات الموضوعيّة) ونظير حديث الرفع الدالّ على رفع جزئيّة السورة أو الاستعاذة، وقاعدة الطهارة الدالّة على طهارة الحيوان المتولّد من طاهر ونجس مثلًا المقتضية لجواز الصّلاة مع ملاقاة البدن له (في الشبهات الحكمية).

المورد الثاني: الأحكام الظاهريّة التي تجري لإثبات تكليف مستقلّ، وتكون بالطبع جارية في الشبهات الحكمية فقط، ولا تتصوّر في الشبهات الموضوعة نظير ما إذا كان مفاد الأمارة أو الأصل وجوب صلاة الجمعة أو عدم وجوب الدعاء عند رؤية الهلال أو حرمة شي ء أو عدم حرمته.

أمّا المورد الأوّل: فحاصل ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله فيه (مع توضيح وتحرير): أنّ الحكم الظاهري على قسمين:

الأوّل: حكم ظاهري مجعول في ظرف الشكّ والجهل بالواقع حقيقة من دون نظر إلى الواقع أصلًا فهو يجري في تنقيح ما هو موضوع التكليف وتحقيق متعلّقه، ويكون بلسان تحقّق ما هو شرطه أو شطره.

الثاني:

حكم ظاهري مجعول أيضاً في ظرف الشكّ في الواقع والجهل به إلّاأنّه ناظر إلى الواقع وكاشف عنه ويكون بلسان أنّه ما هو الشرط واقعاً.

والأوّل مفاد الاصول العمليّة كقاعدتي الطهارة والحلّية أو استصحابهما، والثاني مفاد الأمارات.

ولا إشكال في أنّ مقتضى كيفية الجعل في القسم الأوّل حكومة الاصول العمليّة على الأدلّة الواقعيّة في مرحلة الظاهر وتوسعة دائرتها حيث إنّ ما دلّ على شرطيّة الطهارة أو الحلّية للصّلاة مثلًا ظاهر في الطهارة أو الحلّية الواقعيّة ولكنّها جعلت الشرط أعمّ منها ومن الطهارة أو الحلّية الظاهريّة، ومقتضى هذه الحكومة أنّه كما أنّ المكلّف إذا كان واجداً للطهارة الواقعيّة كان واجدا للشرط حقيقة، فكذلك إذا كان واجداً للطهارة الظاهريّة، فلو صلّى معها ثمّ انوار الأصول، ج 1، ص: 327

انكشف الخلاف لم ينكشف أنّ العمل فاقد للشرط بل هو واجد له حقيقة فيجزي.

كما أنّ مقتضى كيفية الجعل في الأمارات هو عدم الإجزاء فإنّ المجعول فيها إنّما هو حجّيتها بلحاظ نظرها إلى الواقع وإثباتها له على ما هو عليه من دون جعل شي ء آخر فيها في مقابل الواقع، فلو كانت خاطئة وغير مطابقة له لم تؤدّ إلى حكم شرعي أصلًا لا واقعي ولا ظاهري، ونتيجته عدم الإجزاء.

هذا بناءً على ما هو الأظهر الأقوى في الطرق والأمارات من أنّ حجّيتها ليست بنحو السببيّة، وأمّا بناءً عليها فيجزي لو كان الفاقد كالواجد في كونه وافياً بتمام الغرض، ولا يجزي لو لم يكن كذلك، فيجب الإتيان بالواجد لاستيفاء الباقي إن وجب، وإلّا لأستحبّ. (انتهى كلامه).

وقد أورد عليه المحقّق النائيني رحمه الله بالنسبة إلى بيانه في الاصول العمليّة بامور خمسة:

1- «إنّ الحكومة عند هذا القائل (المحقّق الخراساني رحمه الله) لا بدّ وأن تكون بمثل كلمة «أعني» و

«أردت» وأشباه ذلك، ولأجله لم يلتزم بحكومة أدلّة نفي الضرر على أدلّة الأحكام الواقعيّة ولا بحكومة الأدلّة الاجتهاديّة على الاصول العمليّة، ومن الواضح عدم تحقّق الحكومة بهذا المعنى في المقام».

أقول: للمحقّق الخراساني رحمه الله أن يقول: أنّ مفاد «أعني» وأشباهه تارةً يستفاد من الأدلّة الحاكمة بمدلولها المطابقي واخرى يستفاد منها بمدلولها الالتزامي، ولا إشكال في أنّ مثل قول الشارع «كلّ شي ء لك طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» يكون مدلوله الالتزامي بالنسبة إلى قوله عليه السلام: «لا صلاة إلّابالطهور» عبارة عن قولك «أعني أنّ الطهارة المشروط بها في الصّلاة هي الأعمّ من الطهارة الواقعيّة والظاهريّة» بحيث لولاه لم تكن فائدة في قوله «كلّ شي ء طاهر ...».

2- إنّ وجود الحكم الظاهري لا بدّ وأن يكون مفروغاً عنه حين الحكم بعموم الشرط الواقعي للطهارة الواقعيّة والظاهريّة أو بعمومه للاباحة كذلك، ومن الواضح أنّ المتكفّل لإثبات الحكم الظاهري ليس إلّانفس دليل قاعدة الطهارة أو أصالة الإباحة، فكيف يمكن أن يكون هو المتكفّل لبيان كون الشرط أعمّ من الواقعيّة والظاهريّة منهما؟».

ويرد عليه أيضاً: أنّه يمكن أن تكون دلالة أدلّة الاصول كدليل قاعدة الطهارة أو الحلّية على الحكم الظاهري (أي الطهارة الظاهريّة أو الحلّية الظاهريّة) بالدلالة المطابقية، وأمّا

انوار الأصول، ج 1، ص: 328

دلالتها على كون الشرط أعمّ من الواقعيّة والظاهريّة منهما فهي بالدلالة الالتزاميّة.

3- «إنّ الحكومة في المقام وإن كانت مسلّمة إلّاأنّها لا تستلزم تعميم الشرط واقعاً، فإنّ الحكومة على قسمين: قسم يكون الدليل الحاكم في مرتبة الدليل المحكوم ولا يكون الشكّ في المحكوم مأخوذاً في الدليل الحاكم كقوله عليه السلام «لا شكّ لكثير الشكّ» الحاكم على أدلّة الشكوك في الصّلاة فلا محالة يكون الدليل الحاكم موجباً لعموم الدليل المحكوم أو مخصّصاً

له بلسان الحكومة، ويسمّى هذا القسم حكومة واقعية.

وقسم آخر يكون الشكّ في المحكوم مأخوذاً في الدليل الحاكم، فلا محالة يكون الدليل الحاكم متأخّراً عن المحكوم لأخذ الشكّ فيه موضوعاً في الدليل الحاكم، فيستحيل كونه معمّماً أو مخصّصاً له في الواقع، فتكون حكومته ظاهريّة لا محالة، ويترتّب على ذلك جواز ترتيب آثار الواقع ما لم ينكشف الخلاف، فإذا انكشف الخلاف ينكشف عدم وجدان العمل لشرطه ويكون مقتضى القاعدة هو عدم الإجزاء كما في الأمارات، وإذا انقسمت الحكومة إلى قسمين مختلفين في الأثر فإثبات الإجزاء يتوقّف على إثبات كون الحكومة في المقام واقعية مع أنّها مستحيلة، ضرورة أخذ الشكّ في موضوع أدلّة الاصول ومعه تكون الحكومة ظاهريّة غير مستلزمة للإجزاء قطعاً».

ويمكن تقرير هذا الإشكال ببيان أوضح وأقصر، وهو أنّ غاية ما يستفاد من دليل أصالة الطهارة مثلًا ثبوت أحكامها لموردها ما دام الشكّ موجوداً ولازمه عدم وجود تعميم في الحكم الواقعي.

وهذا الإشكال جيّد في الجملة.

4- «إنّ الحكومة المدعاة في المقام ليست إلّامن باب جعل الحكم الظاهري وتنزيل المكلّف منزلة المحرز للواقع في ترتيب آثاره، وهذا مشترك فيه جميع الأحكام الظاهريّة سواء ثبتت بالأمارة، أم بالأصل، محرزاً كان أم غير محرز، بل الأمارة أولى بذلك من الأصل فإنّ المجعول في الأمارات إنّما هو نفس صفة الإحراز وكون الأمارة علماً تعبّداً، وأمّا الاصول فليس المجعول فيها إلّاالتعبّد بالجري العملي وترتيب آثار إحراز الواقع في ظرف الشكّ».

ويرد عليه: أنّه إشكال مبنائي لا يرد على المحقّق الخراساني رحمه الله حيث إنّ مبناه في باب الأمارات هو المنجزيّة والمعذريّة، (نعم قد يستفاد من بعض كلماته في الكفاية أنّه قائل بجعل انوار الأصول، ج 1، ص: 329

الحكم المماثل كما سيأتي في باب الأمارات وحينئذٍ

يكون الإشكال هذا وارداً عليه).

أضف إلى ذلك ما قد مرّ سابقاً من الإشكال في المبنى من أنّه لا معنى محصّلًا لتعلّق الجعل بالعلم، فلا يمكن أن يكون المجعول في باب الأمارات كون الأمارة علماً تعبّداً لأنّه من الامور التكوينيّة التي لا تصل إليها يد الجعل بل مجاله الامور الاعتباريّة كما لا يخفى.

5- «إنّ الحكومة لو كانت واقعية فلابدّ من ترتيب جميع آثار الواقع لا خصوص الشرطيّة، فلابدّ وأن لا يحكم بنجاسة الملاقي لما هو محكوم بالطهارة ظاهراً ولو انكشف نجاسته بعد ذلك، ولا أظنّ أن يلتزم به أحد» «1».

أقول: ويمكن الجواب عنه أيضاً بأنّ صاحب الكفاية لم يدّع حكومة أصالة الطهارة على ما دلّ على أنّ كلّ شي ء لاقى نجساً فقد تنجّس، بل هي حاكمة على أدلّة الواجبات وشرائطها، وأمّا الأحكام الوضعية مثل النجاسة بالملاقاة فهي تابعة لواقعها، فلو انكشف الخلاف وجب التطهير.

فلم يبق من الإشكالات عليه إلّاالثالث، وهو كون الحكومة هنا ظاهريّة ما دام الشكّ موجوداً.

ثمّ إنّ هيهنا كلام أفاده في تهذيب الاصول يشبه مقالة المحقّق الخراساني رحمه الله في المقام، حيث إنّه فصّل أيضاً بين الاصول والأمارات وقال بالإجزاء في الاصول بدعوى حكومة أدلّة الاصول على أدلّة الشرائط والإجزاء، وبعدم الإجزاء في الأمارات وقال: «التحقيق عدم الإجزاء فيها بناءً على الطريقية كما هو الحقّ وفاقاً لجملة من المحقّقين سواء قلنا بأنّ الطرق التي بأيدينا كلّها طرق وأمارات عقلائيّة وليس للشرع أمارة تأسيسية بل لم يرد من الشارع أمر باتّباعها وإنّما استكشفنا من سكوته وهو بمرآه، رضائه، ومن عدم ردعه إمضائه، أم قلنا بورود أمر منه بالاتّباع لكنّه بنحو الإرشاد إلى ما هو المجبول والمرتكز في فطره العقلاء، أم قلنا بأنّ الطرق المتعارفة في

الفقه ممّا أسّسها الشارع كلّها أو بعضها وصولًا إلى الواقع، ولم يكن عند العقلاء منها عين ولا أثر.

توضيح ذلك: أمّا على الوجهين الأوّلين فلأنّ المتّبع فيهما حكم العقلاء وكيفية بنائهم، ولا

انوار الأصول، ج 1، ص: 330

شكّ أنّ عملهم لأجل كشفها نوعاً عن الواقع مع حفظ نفس الأمر على ما هو عليه من غير تصرّف فيه ولا انقلابه عمّا هو عليه، ومع هذا كيف يمكن الحكم بالإجزاء مع انكشاف الخلاف؟ وأمّا على الوجه الأخير على فرض صحّته فلا شكّ في أنّ لسان أدلّة حجّيتها هو التحفّظ على الواقع لا التصرّف فيه وقلبه إلى طبق المؤدّى، أضف إلى ذلك أنّ معنى كون شي ء أمارة ليس إلّاكونه كاشفاً عن الواقع عند المعتبر، فلو تصرّف مع ذلك فيه وقلب الواقع على طبق مؤدّاه لدى التخلّف لخرجت الأمارة عن الأماريّة ... ومعه لا معنى للإجزاء «1».

ولكن يمكن أن يناقش فيه:

أوّلًا: بما مرّ من عدم حكومة لأدلّة الاصول على أدلّة الإجزاء والشرائط.

ثانياً: بأنّه لا فرق بين الأمارات والاصول في كون كلّ واحدة منهما من المخترعات العقلائيّة، فإنّ البراءة بل الاستصحاب أيضاً ممّا استقرّ عليه بناء العقلاء، وإن كانت دائرتهما في الشرع أوسع أو أضيق منه، والعقلاء ليس بناؤهم إلّاعلى العمل بها ما دام الشكّ موجوداً لا على توسعة الأحكام الواقعيّة.

المختار في مسألة إجزاء الأوامر الظاهريّة الشرعيّة

وفي نهاية المطاف نقول: الحقّ والإنصاف في المسألة هو ما ذهب إليه بعض المحقّقين المعاصرين وهو سيّدنا الاستاذ المحقّق العلّامة البروجردي قدّس سرّه الشريف فإنه ذهب إلى الإجزاء مطلقاً سواء في الاصول والأمارات بل كان يصرّ عليه بل قال في بعض كلماته:

«الظاهر تسالم الفقهاء إلى زمن الشّيخ رحمه الله على ثبوت الإجزاء وإنّما وقع الخلاف فيه من زمنه حتّى أنّ بعضهم قد

أفرط فإدّعى استحالته (انتهى موضع الحاجة من كلامه) «2».

والدليل عليه (بعد أن كان محلّ النزاع أوّلًا ما اذا كانت الأوامر الظاهريّة أوامر مولويّة، وثانياً ما إذا لم تقم قرينة على عدم حصول غرض المولى بالمأمور به، أي على عدم الإجزاء) أنّه هو الظاهر عرفاً من أمر المولى بالمأمور به الظاهري، فإنّه إذا أمر المولى عبده بشي ء في انوار الأصول، ج 1، ص: 331

صورة الشكّ بالواقع أو الجهل به وقال «إذا شككت في المأمور به الواقعي أو جهلت به فاعمل كذا وكذا وإنّ هذا هو وظيفتك» استفاد العرف منه أنّ ذلك هو تكليفه الفعلي وأنّ المولى لا يطلب منه شيئاً غيره، وإنّ الإتيان به يوجب استيفاء غرض المولى.

وبعبارة اخرى للمحقّق المزبور: لا إشكال في أنّ المتبادر من قوله عليه السلام «كلّ شي ء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر» مثلًا أنّ المكلّف بعد إتيانه الصّلاة في الثوب المشكوك فيه قد أدّى وظيفته الصلاتيّة وامتثل قوله تعالى: «أَقِيمُوا الصَّلَاةَ» لا أنّه عمل عملًا يمكن أن يكون صلاة وأن يكون لغواً، وتكون الصّلاة باقية في ذمّته «1».

أضف إلى ذلك أنّ عدم الإجزاء في الاصول والأمارات يستلزم فساد أكثر أعمال المكلّفين وعدم حصولهم على مصالح الأحكام الواقعيّة، لوجود العلم الإجمالي بأنّ كثيراً ممّا نحكم بطهارته مثلًا نجس في الواقع ولازمه بطلان عدد كثير من الصّلوات اليوميّة بناءً على اعتبار الطهارة الواقعيّة في ماء الوضوء والغسل (لا في الثوب والبدن فإنّ المعتبر فيهما أعمّ من الواقعيّة والظاهريّة). فإذا توضّأ أو اغتسل بالماء القليل وكان في الواقع نجساً كان لازمه بطلان الوضوء والغسل وما يترتّب عليهما من العبادات المختلفة.

وهكذا بالنسبة إلى أعمال مقلّدي مجتهد تبدّل رأيه أو مات وخالف رأيه قول المجتهد الحي، فهل

يمكن أن يقال بأنّ الشارع وضع قانوناً لمصلحة خاصّة لا تصل إليها أيدي أكثر المكلّفين؟

وكذلك بالنسبة إلى الصّيام والحجّ وغيرهما.

هذا كلّه في المورد الأوّل من المقام الثالث، وهو ما إذا كان الأصل أو الأمارة جارياً لتنقيح ما هو موضوع التكليف وتحقيق متعلّقه، أي كان جارياً في الأجزاء والشرائط سواء في الشبهات الحكمية أو الموضوعيّة.

أمّا المورد الثاني: وهو ما إذا كان الأصل أو الأمارة جارياً لإثبات أصل التكليف فذهب أكثر الأعلام فيها إلى عدم الإجزاء، منهم المحقّق الخراساني والمحقّق النائيني والمحقّق العراقي رحمهم الله بل المحقّق الخراساني رحمه الله ذهب إلى عدم الإجزاء حتّى على مبنى السببيّة ببيان أنّ صلاة الجمعة وإن فرض إنّها صارت ذات مصلحة لأجل قيام الأمارة السببيّة على وجوبها ولكن لا ينافي انوار الأصول، ج 1، ص: 332

ذلك بقاء صلاة الظهر على ما هي عليه من المصلحة والوجوب، فبعد كشف الخلاف لا بدّ من الإتيان بصلاة الظهر أيضاً، نعم إلّاإذا قام دليل خاصّ من إجماع ونحوه على عدم وجوب صلاتين في يوم واحد.

ولكن خالفه بعض الأعلام في المحاضرات وذهب إلى الإجزاء بناءً على مبنى السببيّة بجميع معانيها، نعم ذهب في المعنى الأخير بالنسبة إلى خصوص الأداء إلى عدم الإجزاء.

وملخّص كلامه: أنّ السببيّة في الأمارات تتصوّر على ثلاثة وجوه:

الوجه الأوّل: ما نسب إلى الأشاعرة (وإن كانت النسبة غير ثابتة) من أنّ اللَّه تعالى لم يجعل حكماً من الأحكام في الشريعة المقدّسة قبل تأدية نظر المجتهد إلى شي ء وإنّما يدور جعله مدار تأدية نظرية المجتهد ورأيه.

الوجه الثاني: ما نسب إلى المعتزلة وهو أن يكون قيام الأمارة سبباً لكون الحكم الواقعي بالفعل هو المؤدّى، وذلك لأنّ قيام الأمارة يوجب احداث مصلحة أو مفسدة في متعلّقه، وحيث

إنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها فبطبيعة الحال ينحصر الحكم الواقعي الفعلي فيه، أي تنحصر الأحكام الواقعيّة الفعليّة في مؤدّيات الحجج والأمارات ولا حكم في غيرها إلّاشأناً واقتضاءً.

الوجه الثالث: ما نسب إلى بعض الإماميّة، وهو أن يكون قيام الأمارة سبباً لاحداث المصلحة في السلوك على طبق الأمارة وتطبيق العمل على مؤدّيها مع بقاء الواقع على ما هو عليه من دون أن يوجب التغيير والانقلاب فيه أصلًا.

ثمّ قال: أمّا على ضوء السببيّة بالمعنى الأوّل فلا مناصّ من القول بالإجزاء حيث لا واقع على الفرض ما عدا مؤدّى الأمارة لنبحث عن أنّ الإتيان به مجز عنه أو لا؟ إلّاأنّ السببيّة بذلك المعنى غير معقولة في نفسها بداهة أنّ تصوّرها في نفسه كافٍ للتصديق ببطلانها بلا حاجة إلى إقامة برهان عليه من لزوم دور ونحوه، حيث إنّ هذا المعنى من السببيّة خلاف الضرورة من الشرع.

وأمّا على ضوء السببيّة بالمعنى الثاني فالأمر أيضاً كذلك، يعني أنّه لا مناصّ من القول بالإجزاء حيث إنّه لا واقع على ضوئها أيضاً في مقابل مؤدّى الأمارة ليقع البحث عن أنّ الإتيان به هل هو مجزٍ عنه أم لا؟ بل الواقع هو مؤدّى الأمارة، هذا من ناحية، ومن ناحية

انوار الأصول، ج 1، ص: 333

اخرى: إنّ السببيّة بهذا المعنى وإن كان أمراً معقولًا بحسب مقام الثبوت بأن يكون ثبوت الواقع مقيّداً بعدم قيام الأمارة على خلافه، إلّاأنّ الأدلّة لا تساعد على ذلك، أمّا الإطلاقات الأوّليّة فلأنّ مقتضاها ثبوت الأحكام الواقعيّة للعالم والجاهل ولا دليل على تقييدها بعدم قيام الأمارة على الخلاف، وأمّا أدلّة الاعتبار فلسانها لسان الطريقية لا السببيّة، أمّا السيرة العقلائيّة فلأنّها جرت على العمل بها بملاك كونها طريق إلى الواقع، وأمّا الآيات

والرّوايات فلأنّ الظاهر منها إمضاء ما هو حجّة عند العقلاء.

وأمّا السببيّة بالمعنى الثالث فذهب شيخنا الاستاذ رحمه الله إلى أنّ حال هذه السببيّة حال الطريقة في عدم اقتضائها الإجزاء، لأنّ المصلحة القائمة بسلوك الأمارة تختلف باختلاف السلوك (وهو الزمان الذي لم ينكشف الخلاف فيه) فإن كان السلوك بمقدار فضيلة الوقت، فكانت مصلحته بطبيعة الحال بمقدار يتدارك بها مصلحتها فحسب، لأنّ فوتها مستند إليه دون الزائد، وأمّا مصلحة أصل الوقت فهي باقية فلابدّ من استيفائها بالإعادة، وهكذا إذا كان السلوك بمقدار تمام الوقت وكان انكشاف الخلاف في خارجه فكون مصلحته بمقدار يتدارك بها مصلحة تمام الوقت الفائتة، وأمّا مصلحة أصل العمل فهي باقية فلابدّ من استيفائها بالقضاء في خارج الوقت.

ولكن قوله بالنسبة إلى القضاء يرجع في الحقيقة إلى القول بأنّ القضاء تابع للأداء، مع أنّ الحقّ أنّ القضاء يحتاج إلى أمر جديد، ونتيجته أنّ سلوك الأمارة في مجموع الوقت إذا كان وافياً بمصلحة الصّلاة في الوقت كما هو مقتضى القول بالسببية بهذا المعنى لا مناصّ من القول بالإجزاء أيضاً، فالصحيح بناءً على هذا المعنى من السببيّة هو التفصيل بين الأداء والقضاء، والقول بالإجزاء في القضاء دون الأداء.

هذا- ولكن أوّلًا: قد حقّقنا في محلّه أنّه لا ملزم للإلتزام بهذه المصلحة التي تسمّى بالمصلحة السلوكيّة لتصحيح اعتبار الأمارات وحجّيتها، لأنّه يكفي في ذلك ترتّب المصلحة التسهيلية عليه.

وثانياً: لا يمكن الالتزام بها لإستلزام القول بها التصويب وتبدّل الحكم الواقعي. (انتهى كلامه بتلخيص منّا) «1».

انوار الأصول، ج 1، ص: 334

أقول: الإنصاف كما سيأتي مشروحاً في مسألة التخطئة والتصويب في مبحث الاجتهاد والتقليد أنّ ما ذكره هذا المحقّق وغيره (قدّس اللَّه أسرارهم) (من كون القسم الأوّل من التصويب مستلزماً للدور أو واضح

البطلان بالضرورة من الشرع وغيره) ناشٍ عن الغفلة عمّا بنى عليه القول في هذه المسألة، فإنّهم قالوا بأنّ الوقائع الخاليّة عن النصّ خاليّة عن الحكم الواقعي الشرعي وإنّ الشارع أوكل حكم التشريع في هذه المسائل إلى الفقهاء من طريق الاستحسان أو القياس على غيره أو ملاحظة المصالح المرسلة وغيرها، فإذا أفتى فقيه بحكم في هذه الموارد صوّب اللَّه رأيه.

وهذا وإن كان باطلًا لعدم قيام دليل على جواز التشريع للفقيه لا من الكتاب ولا من السنّة بل هو ازراء للشريعة من حيث إستلزامها النقص في أحكامها وعدم إكمال الدين وإتمام النعمة بل استلزامه نوعاً من الشرك الخفي.

ولكن هذا كلّه لا دخل له بلزوم الدور وشبهه، هذا أوّلًا.

وثانياً: ما ذكره من وجود مصلحة التسهيل في الطرق والأمارات هو بعينه المصلحة السلوكيّة، ومن العجب أنّه أثبت مصلحة التسهيل ونفي المصلحة السلوكيّة مع اتّحادهما أو كون التسهيل من مصاديقها البارزة.

وثالثاً: ما أفاده من لزوم القول بالتصويب وتبدّل الحكم الواقعي في القسم الثالث أيضاً ممنوع جدّاً، لأنّ المصلحة السلوكيّة ليست في عرض مصلحة الحكم الواقعي بل هي في طولها.

وإن شئت قلت: إنّ المكلّف إذا سلك طريق الأمارة للوصول إلى الحكم الواقعي الذي هو ذو مصلحة في نفسه فأخطأه كان سلوكه هذا الطريق مستلزماً لمنافع جابرة لما فات منه من منافع الحكم الواقعي (وسيأتي الإشارة إلى هذا إن شاء اللَّه في مباحث الاجتهاد والتقليد أيضاً).

إذا عرفت هذا فلنرجع إلى أصل المسألة فنقول ومن اللَّه التوفيق والهداية:

الحقّ أنّ هذه المسألة هي مسألة تبدّل رأي المجتهد، فنذكر هنا إجمالًا منها ونترك تفصيلها إلى محلّها من مبحث الاجتهاد والتقليد.

فنقول: ذهب جماعة من الأصحاب إلى الإجزاء فيما إذا تبدّل رأي المجتهد، واستدلّوا عليه بوجوه:

انوار الأصول،

ج 1، ص: 335

أوّلها: الإجماع، وقد استدلّ به جماعة من أعاظم المتأخّرين، بينما نقل بعض آخر كالسيّد الحكيم في مستمسكه عن العلّامة الإجماع على الخلاف، ولو سلّمنا وجود الإجماع كما لا يبعد، لكنّه ليس بحجّة في أمثال المقام لاحتمال استنادهم إلى سائر الوجوه.

ثانيها: إنّ عدم الإجزاء يستلزم العسر والحرج.

واجيب عنه: بأنّ قاعدة العسر والحرج قاعدة شخصية لا نوعيّة، أي لا يسقط الحكم ممّن لا يكون في عسر إن كان غيره فيه.

ثالثها: إنّ الاجتهاد الثاني كالاجتهاد الأوّل، فإذا لم يكن الاجتهاد الأوّل مجزياً عن الواقع لم يكن الاجتهاد الثاني أيضاً مجزياً، لأنّه أيضاً أمارة ظنّية الدلالة بالنسبة إلى الواقع وإن كان مجزياً فكذا الأوّل.

واجيب عنه: بأنّ المفروض في المقام ما إذا انكشف في الاجتهاد الثاني أنّ الأوّل على خلاف الواقع ولو بحسب الموازين الظاهريّة، مع أنّه لم يحصل بالنسبة إلى الاجتهاد الثاني نفسه، فهو نظير ما إذا قام دليل أقوى على خلاف الدليل الأوّل في الموضوعات الخارجيّة، كما إذا قامت أمارة على أنّ هذا الماء كان كرّاً أو قليلًا من قبل، فيعمل بمقتضى الدليل الثاني حتّى بالنسبة إلى ما سبق.

رابعها: إنّ الواقعة الواحدة لا تتحمّل اجتهادين بل الأعمال السابقة داخلة في نطاق الاجتهاد الأوّل، والأعمال اللّاحقة داخلة في لاجتهاد الثاني، فلا يعمّ الاجتهاد الثاني ما سبق من الأعمال، ولازمه الإجزاء.

وفيه: أنّه إن كان المراد منه عدم قبول الواقعة الواحدة الاجتهادين في زمان واحد فهو صحيح وأمّا في زمانين فهو دعوى بلا دليل.

خامسها: إنّ تبدّل رأي المجتهد يكون بمنزلة النسخ، فكما لا تجب إعادة الأعمال السابقة في ما إذا نسخ الحكم السابق فكذلك إذا تبدّل رأي المجتهد سواء بالنسبة إلى أعمال نفسه أو أعمال مقلّديه.

واجيب عنه: بأنّ النسخ

يتعلّق بالأحكام الواقعيّة، ومعناه تغيّر الحكم الواقعي، بينما رأى المجتهد يتعلّق بالأحكام الظاهريّة، وهو لا يوجب انقلاب الحكم الواقعي من حين تبدّل رأيه بل إنّه يقول بعد تبدّل رأيه أنّ حكم اللَّه إنّما هو مؤدّى الاجتهاد الثاني من بدو جعله تعالى إيّاه، فقياسه بالنسخ قياس مع الفارق.

انوار الأصول، ج 1، ص: 336

وهيهنا وجه سادس: لا غبار عليه، وهو عدم شمول أدلّة جواز العدول إلى المجتهد الثاني (فيما إذا عدل المقلّد من مجتهد إلى مجتهد آخر) أو أدلّة حجّية الاجتهاد الثاني (فيما إذا تبدّل رأي المجتهد) الأعمال السابقة وأنّه لا إطلاق لها بالنسبة إلى ما سبق، بل القدر المتيقّن منها الأعمال اللّاحقة، والحاصل أنّ حجّية الاجتهاد الثاني إنّما هي بالنسبة إلى أعماله في الحال وفي المستقبل، أمّا بالنسبة إلى الماضي فلا يكشف عن فسادها.

ولعلّ هذا هو مراد من قال: «الواقعة الواحدة لا تتحمّل اجتهادين» ومن قال: «إنّ تبدّل رأي المجتهد كالنسخ»، ومن قال: «إنّ الاجتهاد الثاني كالاجتهاد الأوّل» وإن كانت عباراتهم غير وافية بهذا المعنى، وهذا الوجه خالٍ عن الإشكال، وافٍ بتمام المقصود.

هذا كلّه بالنسبة إلى أعمال المقلّدين، وأمّا حكم المجتهد نفسه بالنسبة إلى أعماله السابقة فالإجزاء أو عدم الإجزاء فيها مبني على شمول أدلّة حجّية الأمارات والاصول للأعمال السابقة، لأنّ المحكّم بالنسبة إليه إنّما هو هذه الأدلّة لا أدلّة التقليد كما هو واضح، فإن استظهر عمومها بالنسبة إليها فالحكم هو عدم الإجزاء ووجوب الإعادة أو القضاء، وإلّا يؤخذ بالقدر المتيقّن وهو الأعمال اللّاحقة، ولازمه هو الإجزاء.

فالمهمّ بالنسبة إلى المجتهد نفسه حينئذٍ إنّما هو وجود هذا الإطلاق وعدمه في مقام الإثبات والاستظهار من الأدلّة، والإنصاف أنّها أيضاً لا إطلاق لها بالنسبة إلى الأعمال السابقة، والقدر المتيقّن هو

حجّيتها بالنسبة إلى الأعمال اللّاحقة فتأمّل جيّداً.

هذا كلّه فيما إذا انكشف الخلاف بأمارة اخرى أو أصل كذلك، أمّا إذا ظهر الخلاف بالقطع واليقين فالحكم بالإجزاء مشكل لعدم الدليل عليه.

بقي هنا امور:

الأمر الأوّل: أنّ ما اخترناه من الإجزاء لا يختصّ بالأحكام التكليفية بل يعمّ المعاملات بالمعنى الأخصّ وهو العقود والايقاعات، فإذا أفتى مجتهد بجواز إجراء عقد النكاح بالصيغة الفارسيّة ثمّ تبدّل رأيه أو عدل المقلّد إلى مجتهد آخر يفتي بعدم الجواز، كانت العقود الجاريّة بها مجزيّة ولا تجب إعادتها بالصيغة العربيّة، وهكذا إذا إشترى داراً معاطاة لفتوى مقلّده بجوازها ثمّ تبدّل رأيه، بل يعمّ المعاملات بالمعنى الأعمّ أيضاً كما إذا أفتى المجتهد بجواز قطع انوار الأصول، ج 1، ص: 337

الأوداج الأربعة من الذبيحة عن القفا ثمّ تبدّل رأيه إلى عدم جوازه، فيكون مجزياً ولا تترتّب على المذكّى أحكام الميتة بل أحكام المذكّى.

والعمدة في ذلك كلّه عدم إطلاق أدلّة حجّية الفتوى الجديدة بالنسبة إلى الأعمال السابقة أو الأحكام الماضيّة، ولا أقلّ من الشكّ في ذلك (فيؤخذ بالقدر المتيقّن وهو الأعمال اللّاحقة) خصوصاً بالإضافة إلى المقلّدين، لأنّ الدليل على حجّية الفتوى الثانيّة بالنسبة إليهم إنّما هو بناء العقلاء، وهو دليل لبّي لا إطلاق له لما سبق، والشاهد على ذلك أنّ العقلاء لا يقيسون أحكامهم السابقة بالأحكام اللّاحقة، ويقولون: إنّ القانون الجديد لا يعمّ الوقائع السابقة، وقد شاع هذا بينهم فصار كالأمثال السائرة: «إنّ القانون لا يعطف على ما سبق» وهذا وإن كان جارياً في نسخ القوانين، ولكن الظاهر أنّه جارٍ في الأمارات أيضاً.

الأمر الثاني: أنّه لا كلام ولا إشكال في الإجزاء في أجزاء الصّلاة وشرائطها ولو لم نقل به في غيرها وذلك لمكان حديث لا تعاد، فإنّه يدلّ على

الإجزاء في أجزاء الصّلاة وشرائطها غير الامور الخمسة المذكورة في عقد المستثنى (وهي الأركان الخمسة) نعم أنّه لا يعمّ الجاهل المقصّر كما قرّر في محلّه بل عليه الإعادة أو القضاء مطلقاً.

الأمر الثالث: قد مرّ أنّ الإجماع في ما نحن فيه ليس بحجّة، وذلك لا لأنّه محتمل المدرك فحسب، بل لخصوصيّة في المقام وهي أنّ الاجتهاد والتقليد بالصورة الموجودة في أزماننا لم يكن له عين ولا أثر في الأزمنة المقارنة لعصر الأئمّة المعصومين عليهم السلام كما هو واضح لمن تتبّع في تاريخ الاجتهاد والتقليد تطوّراً، وعليه لا يمكن أن يحرز من الإجماع الموجود في زماننا وجوده في ذلك العصر حتّى يكون كاشفاً عن قول المعصوم عليه السلام، لا أقول أنّ الاجتهاد والتقليد أمر مستحدث في أعصارنا، فإنّه كان في عصر الأئمّة عليهم السلام أيضاً بشكل بسيط، بل أقول: إنّ مسألة التبدّل وأشباهه لم تكن بهذه الكيفية في سابق الأيّام.

الأمر الرابع: أنّ ما ذكرنا إلى هنا كان مختصّاً بصورة كشف الخلاف ظنّاً، وأمّا إذا تبدّل رأي المجتهد وانكشف الخلاف عن طريق القطع كما إذا أفتى على حديث نقله خطأً ثمّ قطع بالخطأ والحكم الواقعي، فلا وجه حينئذ للإجزاء لأنّ حجّية القطع ذاتي وبحكم العقل، ولا معنى للاطلاق وعدمه فيه.

الأمر الخامس: ذهب صاحب الفصول إلى التفصيل بين المتعلّقات والأحكام في المقام،

انوار الأصول، ج 1، ص: 338

فقال بالإجزاء في المتعلّقات دون الأحكام، واستدلّ له بامور: منها: أنّ واقعة واحدة ومتعلّقاً واحداً لا تتحمّل اجتهادين «1»، والظاهر أنّ مراده من المتعلّق هو متعلّق الحكم نظير ما مرّ من مثال فري الأوداج الأربعة أو إجراء عقد النكاح بالصيغة الفارسيّة.

وفيه: أنّه دعوى بلا دليل كما أشار إليه صاحب الكفاية في مبحث الاجتهاد والتقليد،

فقال: «ولم يعلم وجه للتفصيل بينهما كما في الفصول وإنّ المتعلّقات لا تتحمّل اجتهادين بخلاف الأحكام إلّاحسبان أنّ الأحكام قابلة للتغيّر والتبدّل، بخلاف المتعلّقات والموضوعات، وأنت خبير بأنّ الواقع واحد فيهما وقد عيّن أوّلًا بما ظهر خطأه ثانياً».

هذا تمام الكلام في المقام الثالث من مبحث الإجزاء.

المقام الرابع: في إجزاء الأوامر الظاهريّة العقليّة (الخياليّة)
اشارة

ويتصوّر فيما إذا قطع بالأمر ثمّ انكشف خلافه فقطع مثلًا بدخول وقت الصّلاة أو بجهة القبلة ثمّ انكشف الخلاف (هذا في الشبهات الموضوعيّة) أو قطع بوجود الإجماع على وجوب صلاة الجمعة ثمّ انكشف عدمه (هذا في الشبهات الحكمية) فيبحث في أنّه هل يكون قطعه هذا مجزياً عن الأعمال المأتي بها على طبقه أو لا؟

لا إشكال في عدم الإجزاء لأنّ جميع الوجوه المذكورة في إثبات الإجزاء فيما سبق لا يأتي شي ء منها في المقام، أمّا ما اختاره صاحب الكفاية بالنسبة إلى خصوص الاصول العمليّة من حكومة أدلّتها على الأوامر الواقعيّة (وقد مرّ كلامه في ابتداء المقام الثالث) فلأنّ المفروض في المقام أنّه لم يقم أصل على الحكم حتّى يكون دليله حاكماً مجزياً، وأمّا ما اخترناه من أنّ الإجزاء من اللوازم العرفيّة لأمر المولى فلأنّه لا أمر من ناحية المولى الشارع في المقام على حجّية القطع بل حجّيته ذاتيّة وبحكم العقل، وهكذا ما مرّ في تبدّل رأي المجتهد من أنّه لا إطلاق لأدلّة حجّية رأي المجتهد بالنسبة إلى الأعمال السابقة حيث إنّه أيضاً يتصوّر فيما إذا قامت أمارة أو أصل على الحجّية وكان لها إطلاق لفظي.

لكن مع ذلك كلّه يستثنى منها موارد تكون خارجة عنها خروجاً موضوعياً على نحو الإستثناء المنقطع:

انوار الأصول، ج 1، ص: 339

منها: غير الامور الخمسة التي وردت في حديث لا تعاد، فلا إعادة فيه بمقتضى عقد المستثنى منه،

فإذا حصل العلم بإتيان سورة الحمد مثلًا ثمّ انكشف أنّه لم يأت بها لم تجب الإعادة، والوجه في خروجه موضوعاً أنّ سبب الإجزاء فيه إنّما هو الجهل بالواقع الذي يكون موضوع حديث لا تعاد (لا القطع بعدم الإتيان حتّى يكون إستثناء هذا المورد عن المقام استثناءً متّصلًا) حيث إنّ مورد الحديث هو الجاهل بالموضوع جهلًا مركّباً أو بسيطاً عن قصور وكذا الناسي.

وإن شئت قلت: جزئيّة الحمد إنّما هو في ظرف الالتفات والعلم فقط.

ومنها: ما إذا قام دليل خاصّ على حصول تمام مصلحة الواقع في الجاهل بالحكم أو حصول بعض المصلحة مع عدم كون الباقي قابلًا للتدارك، كما إذا قطع بكون الواجب عليه هو الإتمام ثمّ انكشف أنّ عليه حكم المسافر، أو قطع بأنّ الوظيفة إتيان الصّلاة عن إخفات مع كون الواجب إتيانها جهراً، فإنّ الإجزاء في كليهما ثبت بأدلّة خاصّة، نعم إنّ الإجزاء فيهما أيضاً ليس من خصوصّيات القطع بالخلاف بل الشارع حكم به في مورد الجهل تعبّداً.

وإن شئت قلت: الشرطيّة إنّما هي في ظرف العلم فقط.

ومنها: ما إذا كان القطع مأخوذاً في موضوع الحكم كما أنّه كذلك في باب الطهارة والنجاسة، فإنّ الشرط للصّلاة هو العلم بالطهارة الظاهريّة أو الواقعيّة فلو قطع بطهارة ثوبه في الصّلاة فصلّى بالثوب النجس ثمّ علم بنجاسته لم تجب الإعادة، والسرّ فيه أنّ المعتبر ليس الطهارة الواقعيّة حتّى يتكلّم في أنّ الحكم الظاهري الشرعي الحاصل من الأمارات والاصول أو الظاهري العقلي الحاصل من القطع هل يقوم مقام الواقع أو لا يقوم لأنّ الشرط أعمّ منهما، وأيّهما حصل كان الشرط حاصلًا، فهو كالإتيان بالأوامر الواقعيّة كما هو حقّه.

تنبيه: الإجزاء ومسألة التصويب

هل يوجب القول بالإجزاء مطلقاً أو في بعض الموارد التصويب المحال أو

التصويب المجمع على بطلانه، أو لا؟

الإنصاف أنّه لا يوجب ذلك، لأنّ التصويب المحال (وهو ما نسب إلى الأشاعرة من أنّه لم انوار الأصول، ج 1، ص: 340

يجعل حكم في الشريعة المقدّسة قبل تأدية نظر المجتهد إلى شي ء وإنّما يدور جعله مدار نظره ورأيه فهو يبحث ويجتهد عمّا لا يكون إلّاتابعاً لنظره) أو التصويب المجمع على بطلانه (وهو المنسوب إلى المعتزلة، وحاصله أن يكون قيام الأمارة سبباً لتبدّل الحكم الواقعي إلى مؤدّاها لحصول مصلحة أو مفسدة في متعلّقه) لا دخل له بمسألة الإجزاء، لأنّ التصويب على كلّ حال هو إنكار الحكم الواقعي المشترك بين العالم والجاهل، والقول بالإجزاء لا يستلزم هذا الانكار، بل لازمه القول بوجود الحكم الواقعي المشترك، وهذا الحكم باقٍ على مصالحه ومفاسده، أدّت إليه الأمارة أو لم تؤدّ، نعم لا يكون هذا الحكم فعليّاً في بعض الموارد، وهو ما إذا قامت الأمارة أو الاصول على خلافه، وانكشاف الخلاف فيما بعد لا يوجب فعليته بعد أن لم يكن فعليّاً حين العمل به.

وإن شئت قلت: المباني في مسألة الإجزاء مختلفة، أمّا على المختار فقد عرفت أنّ العمدة في الإجزاء هو عدم شمول الاجتهاد اللاحق للقضايا السابقة لعدم إطلاق في أدلّة حجّيتها، وأين هذا من مسألة التصويب.

وأمّا على مبنى صاحب الكفاية ومن تبعه فلأنّهم يرون أن أدلّة بعض الاصول توجب التوسعة في مفاد أدلّة الشرائط والإجزاء، ومع توسعة الحكم الواقعي يكون العمل مطابقاً له بلا زيادة ولا نقصان، وأين هذا من التصويب لأنّه ليس هنا إلّاحكم واحد قد عمل به المكلّف لا حكمان، أحدهما واقعي والآخر ظاهري، بل الإنصاف أنّه لا دخل لهذا القول بمسألة الإجزاء في الأحكام الظاهريّة فإنّ الحكم هنا واقعي بعد توسعة مفاده.

نعم، لو

قيل بالإجزاء من ناحية القول بالسببية- أي سببية قيام الأمارة لتحقّق المصلحة التي تفوق على مصلحة الواقع- كان بين المسألتين ربط قويْ، ولكن القول بالسببية بهذا المعنى مطروح ممنوع من ناحية المحقّقين من أصحابنا.

هذا بالنسبة إلى ربط المسألتين- مسألتي الإجزاء والتصويب- وأمّا الكلام في أصل مسألة التصويب والأقوال الموجودة فيها وأقسامها وأدلّة القائلين بها ونقد آرائهم فسيأتي الكلام فيها مستوفاً إن شاء اللَّه في محلّه من الاجتهاد والتقليد في آخر مباحث الاصول، فانتظر.

انوار الأصول، ج 1، ص: 341

الفصل العاشر مقدّمة الواجب
اشارة

ولا بدّ قبل الورود في أصل البحث من التكلّم في عدّة جهات:

الجهة الاولى: ما هي موضوعيّة مقدمة الواجب

في أنّ هذه المسألة هل هي من المسائل الاصوليّة أو أنّها مسألة فقهيّة، أو أنّها كلاميّة، أو هي من المبادى ء الأحكاميّة للفقه؟ ففيها وجوه.

يمكن أن يقال أنّها اصوليّة نظراً إلى أنّ المهمّ المبحوث عنه في هذه المسألة إنّما هي الملازمة بين وجوب الشي ء شرعاً ووجوب مقدّمته كذلك، فيترتّب عليها وجوب المقدّمة شرعاً، وهذا هو شأن المسألة الاصوليّة حيث إنّها تقع في طريق استنباط الأحكام الكلّية الفرعيّة الإلهيّة أو الوظيفة العمليّة، ولا إشكال في أنّ وجوب المقدّمة شرعاً حكم كلّي فرعي إلهي يستنبط من وجود الملازمة بين وجوب ذي المقدّمة ووجوب المقدّمة بناءً على قبولها.

ويمكن أن يقال بأنّها فقهيّة نظراً إلى أنّ موضوعها فعل المكلّف وهو المقدّمة في المقام، ومحمولها الحكم الشرعي وهو الوجوب، والبحث في ما نحن فيه يقع في وجوب المقدّمة وعدمه.

ويمكن أن يقال بأنّها كلاميّة لأنّها تبحث عن ترتّب الثواب على فعل المقدّمة والعقاب على تركها (بناءً على وجوبها) وهذا هو شأن المسألة الكلاميّة (حيث إنّها تبحث عن شؤون المبدأ والمعاد) لا لأنّها مسألة عقليّة كما قد يتوهّم فإنّ مجرّد كون البحث عنها عقليّاً لا يوجب دخولها في المسائل الكلاميّة، ضرورة أنّ المسائل الكلاميّة صنف خاصّ من المسائل العقليّة وهي التي يبحث فيها عن المبدأ والمعاد فحسب.

انوار الأصول، ج 1، ص: 342

ويمكن أن يقال بأنّها من المبادى ء الأحكاميّة للفقه كما ذهب إليه بعض المحقّقين المعاصرين «1» حيث قال: «إنّه كان للقدماء مباحث يبحث فيها عن معاندات الأحكام وملازماتها يسمّونها بالمبادى ء الأحكاميّة، ومنها هذه المسألة».

ولا يخفى أنّ المبادى ء الأحكاميّة في الحقيقة ترجع إلى المبادى ء التصوّريّة (فإنّ تصوّر وجوب المقدّمة يلازم تصوّر وجوب ذيها)

أو ترجع إلى المبادى ء التصديقية لأنّه يمكن الاستدلال بوجوب المقدّمة على وجوب كثير من الأفعال في الفقه.

هذا كلّه هي الوجوه المتصوّر للبحث عن مقدّمة الواجب.

قال المحقّق الخراساني رحمه الله: «الظاهر أنّ المهمّ المبحوث عنه في هذه المسألة البحث عن الملازمة بين وجوب الشي ء ووجوب مقدّمته، فتكون المسألة اصوليّة لا عن نفس وجوبها كما هو المتوهّم من بعض العناوين كي تكون فرعيّة، وذلك لوضوح أنّ البحث كذلك لا يناسب الاصولي، والاستطّراد لا وجه له بعد إمكان أن يكون البحث على وجه يكون من المسائل الاصوليّة».

ويرد عليه: أنّ عنوان المسألة في كلمات الأصحاب عبارة عن أنّه «هل المقدّمة واجب، أم لا؟» وهو غير عنوان الملازمة بين وجوب الشي ء ووجوب مقدّمته، والشاهد على ذلك وقوع المتأخّرين في حيص وبيص، فذكر كلّ واحد منهم لكون المسألة على العنوان المزبور وجهاً.

وقال المحقّق النائيني رحمه الله في مقام دفع كون المسألة فقهيّة: «علم الفقه متكفّل لبيان أحوال موضوعات خاصّة كالصّلاة والصّوم وغيرها، والبحث عن وجوب كلّي المقدّمة التي لا تنحصر صدقها بموضوع خاصّ لا يتكفّله علم الفقه أصلًا» «2».

وفيه: أنّه قد وقع الخلط بين العناوين الأوّليّة والعناوين الثانويّة، لأنّ مثل عنوان مقدّمة الواجب كعنوان اطاعة الوالدين والوفاء بالنذر عناوين ثانويّة تتعلّق وتنطبق على مثل عنوان الصّلاة والحجّ الذي هو من العناوين الأوّليّة، ولا فرق بين القسمين من العنوان إلّافي أنّ أحدهما أوّلي والآخر ثانوي ويكون لكلّ منهما مصاديق كثيرة.

فمجرّد كون العنوان ذا مصاديق كثيرة لا يخرجها عن قسم المسائل الفقهيّة. إلّاأن يرجع إلى ما نذكره عن قريب.

انوار الأصول، ج 1، ص: 343

والإنصاف أنّ هذه النزاعات والتطويلات قد نشأت من عدم التفكيك بين المسألة الاصوليّة والمسألة الفقهيّة وبين القاعدة الفقهيّة، فإنّ المسألة من

القواعد الفقهيّة وليست من المسائل الاصوليّة ولا من المسائل الفقهيّة، وسرّه يظهر بملاحظة ما ذكرنا في أوّل الاصول من معيار كون المسألة اصوليّة أو فقهيّة أو قاعدة فقهيّة، فقد مرّ هناك: أنّ المسألة الاصوليّة هي القواعد التي لا تشمل على حكم شرعي بل تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي أو الوظيفة العمليّة، وإنّ المسألة الفقهيّة هي التي تبحث عن نفس الأحكام الفرعيّة الخاصّة والتكاليف الجزئيّة العمليّة في كلّ باب باب من أبواب الفقه المعدّة لعمل المقلّدين، وأمّا القاعدة الفقهيّة فهي عبارة عن الأحكام الكلّية الفرعيّة التي تجري في جميع أبواب الفقه أو في أبواب عديدة من الفقه، ولا يمكن تفويض أمر تطبيقها على مصاديقها إلى المقلّدين مثل قاعدة «لا تعاد» التي تجري في جميع أبواب الصّلاة، وقاعدة «لا حرج» التي تكون جارية في جميع أبواب الفقه، فكلّ واحدة منهما تسمّى قاعدة لكونها كلّية، وفقهيّة لكون الحكم فيها حكماً من الأحكام الفرعيّة الشرعيّة (والمراد من الحكم هو الأعمّ من عقده الإثباتي والنفي فيشمل حتّى مثل مفاد قاعدة لا حرج الذي هو عبارة عن نفي الحكم لا الحكم نفسه).

فظهر أنّ مسألة وجوب المقدّمة من القواعد الفقهيّة لأنّها حكم فرعي كلّي حتّى بناءً على عنوانها الآخر وهو ثبوت الملازمة بين وجوب الشي ء ووجوب مقدّمته وعدمه، لأنّ لازم وجود الملازمة بين وجوب شي ء ووجوب مقدّمته إنّ المقدّمة واجبة بوجوب ذيها، وعلى هذا لا يمكن تفويض أمر تطبيقها على مصاديقها إلى المقلّدين، فإنّه يحتاج إلى دقّة ونظر وإحاطة بامور لا يقدر عليها المقلّد، كما في سائر القواعد الفقهيّة: فقد يكون وجوب المقدّمة معارضاً لحرمة ذاتيّة لا بدّ من ملاحظة الأرجح منهما كما في الدخول في الأرض المغصوبة لنجاة الغريق، وقد

يكون وجوب ذي المقدّمة مشروطاً إلى غير ذلك ممّا لا يسع المقلّد تشخيصها.

كما ظهر إلى هنا أنّه لا وجه لتغيير عنوان ذكره الأقدمون للمسألة إلى عنوان آخر، والمسألة ليست لفظيّة كذلك، فذكرها في باب الألفاظ استطّرادي كما أنّ ذكرها في علم الاصول مطلقاً كذلك.

انوار الأصول، ج 1، ص: 344

الجهة الثانية: في معنى الوجوب

لا إشكال في أنّ الوجوب في ما نحن فيه ليس بمعنى اللابديّة العقليّة، لأنّه لا نزاع في وجوب المقدّمة عقلًا بهذا المعنى، بل المراد منه الوجوب الشرعي الالهي وأنّه هل يكون العقل كاشفاً عن وجود الملازمة بين وجوب الشي ء شرعاً ووجوب مقدّمته كذلك حتّى تكون نتيجتها وجوب المقدّمة شرعاً أو لا؟

كما أنّ المراد منه إنّما هو الوجوب الإجمالي الارتكازي بحيث لو إلتفت المولى إلى المقدّمة وتوقّف ذيها عليها حكم بوجوبها وجوباً تبعيّاً غيريّاً، وليس المراد منه الوجوب تفصيلًا لعدم إلتفات المولى إليها غالباً.

الجهة الثالثة: في تقسيمات المقدّمة
اشارة

قد ذكروا للمقدّمة تقسيمات عديدة:

الأوّل: تقسيمها إلى المقدّمة الداخليّة والمقدّمة الخارجيّة
اشارة

والمراد من الداخليّة إنّما هي الأجزاء المأخوذة في الماهية المأمور بها، أي الأجزاء التي يتركّب منها المأمور به، والمراد من الخارجيّة ما كان خارجاً عن المأمور به وكان له دخل في تحقّقه من الشرائط وعدم الموانع والمقتضى والأسباب.

ولكن قد يستشكل في كون الأجزاء مقدّمة للمأمور به بأنّ المقدّمة تجب أن تكون سابقة على ذي المقدّمة كما هو مقتضى تسميتها بها، والأجزاء ليست هي سابقة عليه بل أنّها نفس ذي المقدّمة، هذا- مضافاً إلى أنّ المقدّمة تجب أن تكون غير ذي المقدّمة ليترشّح الوجوب الغيري منه إليها على القول بالملازمة، والأجزاء ليست مبائنة مع ذي المقدّمة بل هي عين ذي المقدّمة.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه الله: بأنّ المقدّمة الداخليّة هي الأجزاء بما هي هي ولا بشرط، وأمّا ذو المقدّمة أي الواجب فإنّما هو الأجزاء بشرط الاجتماع وإتّصال بعضها ببعض، فتكون المقدّمة سابقة على ذيها ولو رتبة، ومغايرة معه ولو اعتباراً.

ولكن يرد عليه: عدم كفاية التغيّر الاعتباري في المقام، فإنّه أمر ذهني مجاله الذهن،

انوار الأصول، ج 1، ص: 345

والمقدّمة وذو المقدّمة هما بمنزلة العلّة والمعلول في الخارج العيني، ومجرّد المغايرة الذهنيّة غير كافٍ قطعاً.

هذا كلّه بالنسبة إلى إمكان تصوّر المقدّمة الداخليّة وعدمه، وقد ظهر أنّها أمر معقول يمكن تصوّرها.

ثمّ على فرض إمكان تصوّرها وقع البحث في أنّها هل هي داخلة في محلّ النزاع في المقام أو لا؟

واستدلّ لخروجها عنه بأنّ الأجزاء هي عين الكلّ خارجاً وإن تغايرا اعتباراً وحينئذٍ تجب الأجزاء بعين وجوب الكلّ، غايته أنّه يجب الكلّ بوجوب نفسي استقلالي ويجب كلّ واحد من الأجزاء بوجوب نفسي ضمني، أي في ضمن وجوب الكلّ، ومن المعلوم أنّه بعد اتّصاف كلّ واحد من الأجزاء

بالوجوب النفسي الضمني يكون اتّصافه بالوجوب الغيري لغواً بل غير ممكن عقلًا وذلك لامتناع اجتماع المثلين.

وأجاب عنه المحقّق النائيني رحمه الله: إنّ اجتماع الحكمين في شي ء واحد لا يؤدّي إلى اجتماع المثلين بل يؤدّي إلى اندكاك أحدهما في الآخر فيصيران حكماً واحداً مؤكّداً كما في الواجبين النفسيين مثل الظهر والعصر «1».

وأورد المحقّق العراقي، على المحقّق النائيني رحمه الله: إنّ اندكاك أحد الوجوبين في الوجوب الآخر إنّما يصحّ في الواجبات فيما إذا كان ملاك أحدهما في عرض ملاك الآخر، وليس كذلك مورد النزاع، فإنّ ملاك الوجوب الغيري في الأجزاء في طول ملاك الوجوب النفسي في الكلّ، ومع اختلاف الرتبة يستحيل اتّحاد المتماثلين بالنوع «2».

أقول: إنّ استحالة اجتماع المثلين بحكم العقل إنّما هو في الامور التكوينيّة الحقيقية لا الامور الاعتباريّة كما في ما نحن فيه، فلا يلزم من اجتماع المثلين في المقام محذور غير اللغويّة.

وبالجملة: إنّ المستحيل عقلًا إنّما هو اجتماع البياضين أو البياض والسواد مثلًا في محلّ واحد لا اجتماع الوجوبين أو الوجوب والحرمة على شي ء واحد كالصّلاة (مثل صلاة الظهر الواجبة بنفسها وكمقدّمة لصلاة العصر فيوجب التأكّد) وحينئذٍ لا مانع عقلًا من اجتماع وجوب نفسي انوار الأصول، ج 1، ص: 346

ووجوب غيري في الأجزاء.

والحقّ في المسألة أن يقال: إنّ وجوب الأجزاء ليس وجوباً مقدّمياً وإن فرضنا مقدّميتها للكلّ بنحو من التكلّف، بل وجوب كلّ واحد منها وجوب ضمني فكأنّ الأمر بالكلّ انبسط على الأجزاء، فكان كلّ جزء بعض المأمور به، وحينئذٍ لا تصل النوبة إلى الأمر المقدّمي الناشي ء من الأمر بالكلّ، فكما أنّ الحبّ المتعلّق مثلًا بدار أو كتاب أو طعام ينبسط على كلّ جزء جزء منها ويكون كلّ جزء بعض المحبوب، كذلك الحال في الأمر

بالصّلاة من ناحية المولى، فالذي يتعلّق بجزء جزء من الصّلاة هو نفس ما يتعلّق بمجموعها، ولا دليل على تعلّق إرادة اخرى بكلّ جزء غير الإرادة التي تعلّقت بالجميع حتّى يكون للأجزاء وجوب تبعي غيري غير الوجوب النفسي الضمني.

بقي هنا أمران:

الأمر الأوّل: في الشرائط، فهل هي من المقدّمات الداخليّة أو الخارجيّة؟

لا إشكال في أنّ ذات الشرط خارج عن المأمور به وإن كان التقيّد به داخلًا، كما اشتهر «التقيّد جزء والقيد خارجي» وذلك نظير المعجون الذي تركّب من أجزاء مختلفة وكان لاستعماله للمريض شرائط مثل أن يكون قبل الغذاء صباحاً وشبه ذلك، فإنّ هذه الشرائط خارجة بذواتها عن المعجون، ولكن تقيّد المعجون بها داخل فيه.

وبعبارة اخرى: إنّ استعماله مع تلك الشرائط يوجب عروض حالة وكيفية به، والداخل في المعجون إنّما هو هذه الكيفية لا ذات الشرائط، وهكذا الشرائط الشرعيّة في المخترعات الشرعيّة فانّ الوضوء مثلًا يوجب عروض وصف على المأمور به كوقوع الصّلاة حال الطهارة الحاصلة منه، ويكون هذا الوصف داخلًا في المأمور به لا ذات الوضوء.

فظهر أنّ الشرائط إن لوحظت بذواتها فانّها تعدّ من المقدّمات الخارجيّة، وإن لوحظ تقيّد المأمور به واتّصافه بها تكون من المقدّمات الداخليّة.

الأمر الثاني: في ثمرة البحث

وهي ممّا قلّ من تعرّض لها ولكن نقل في المحاضرات عن بعض الأعاظم رحمهم الله «أنّ الثمرة بين انوار الأصول، ج 1، ص: 347

القول باتّصاف الأجزاء بالوجوب الغيري والقول بعدم اتّصافها به في مسألة دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين بدعوى أنّه على القول الأوّل لا ينحلّ العلم الإجمالي بوجوب أحدهما بالعلم التفصيلي بوجوب الأقلّ، وذلك لأنّ مناط الانحلال هو انطباق المعلوم بالإجمال على المعلوم بالتفصيل على كلّ تقدير، وبما أنّ في المقام لا ينطبق كذلك باعتبار أنّ المعلوم بالإجمال هو الوجوب النفسي، والمعلوم بالتفصيل هو الجامع بين الوجوب الغيري والنفسي، فلا انحلال في البين، وعلى القول الثاني ينحلّ إلى العلم التفصيلي بوجوب نفسي متعلّق بذات الأقلّ (وهي المركّب من تسعة أجزاء مثلًا) والشكّ البدوي في اعتبار أمر زائد، وعندئذٍ فلا مانع من الرجوع إلى أصالة البراءة عن وجوب

الزائد» «1».

أقول: إنّ الأجزاء واجبة بالوجوب النفسي الضمني سواء كانت متّصفة بالوجوب الغيري أيضاً أم لا، فتجري البراءة عن الأكثر على أيّ حال: ولا صلة لها باتّصاف القدر المتيقّن من الأجزاء بالوجوب الغيري وعدم اتّصافه.

وإن شئت قلت: الوجوب الضمني ثابت على أيّ حال: وهو السبب للانحلال، فوجود الوجوب الغيري وعدمه هنا سيّان.

هذا كلّه في التقسيم الأوّل للمقدّمة.

الثاني: تقسيمها إلى المقدّمة العقليّة والشرعيّة والعاديّة

والعقليّة مثل العلّة بالنسبة إلى المعلول، والشرعيّة مثل الوضوء بالنسبة إلى الصّلاة، والعاديّة كنصب السلّم للكون على السطح أو حفر البئر للوصول إلى الماء للوضوء والغسل، والمهمّ في هذا التقسيم هو أن نعلم أنّ جميعها داخلة في محلّ النزاع أم لا؟ وأنّه هل يكون للتوقّف (أي توقّف ذي المقدّمة على المقدّمة) في جميع هذه الثلاثة معنى واحد، أو يكون له في كلّ واحدة منها معنى على حده؟

والصحيح أنّ للتوقّف مفهوماً واحداً إلّاأنّ الكاشف عنه تارةً يكون هو العقل واخرى الشرع وثالثة العادة، كما أنّ الصحيح دخول جميعها في محلّ النزاع، وذلك لأنّ المقدّمة الشرعيّة

انوار الأصول، ج 1، ص: 348

والعاديّة ترجعان في الواقع إلى المقدّمة العقليّة، والتفاوت بينهما أنّ الشرعيّة كشف عنها الشارع، والعاديّة يكون ممّا لا بدّ منها بحسب العادة فهي من هذه الجهة عقليّة.

الثالث: تقسيمها إلى مقدّمة الوجوديّة ومقدّمة الصحّة ومقدّمة الوجوب و مقدّمة العلم

وتعريف كلّ واحد منها واضح وكذلك مثاله الشرعي أو العرفي، إنّما الكلام في دخول كلّ منها في محلّ النزاع وعدمه.

فلا إشكال في دخول إثنان منها فيه، وهما مقدّمة الوجود ومقدّمة الصحّة.

أمّا مقدّمة الوجود: فهي القدر المتيقّن منها، حيث إنّ أصل النزاع في مقدّمة الواجب إنّما هو فيما يتوقّف على وجوده وجود ذي المقدّمة، فكيف لا تكون مقدّمة الوجود داخلة فيه؟

وأمّا مقدّمة الصحّة: فلرجوعها إلى مقدّمة الوجود حتّى على القول بالأعمّ، لأنّ الواجب والمأمور به بأمر المولى إنّما هو الصحيح من العمل ولا إشكال في توقّفه على مقدّمة الصحّة وإن لم يتوقّف المسمّى عليها كما صرّح به المحقّق الخراساني رحمه الله.

وأمّا مقدّمة الوجوب: فمن المعلوم خروجها عن محل النزاع، إذ قبل تحقّق مقدّمة الوجوب لا وجوب للواجب حتّى يقع البحث في ترشّح الوجوب منه إلى مقدّماته، وبعد تحقّقها لا معنى لترشّح الوجوب

من الواجب إليها لأنّه تحصيل للحاصل.

وأمّا مقدّمة العلم: فقد يقال أنّ وجوبها ليس من باب الملازمة وترشّح الأمر الغيري من ذي المقدّمة إلى المقدّمة، وذلك لعدم توقّف وجوب الواجب عليها كي يستقلّ العقل بالملازمة بين وجوب الشي ء ووجوب ما يتوقّف عليه وجوده، بل المتوقّف عليها هو العلم بالواجب، وذلك لإمكان حصول الواجب بدونها صدفة كما إذا غسل يده ولم يغسل شيئاً يسيراً ممّا فوق المرفق وقد صادف المقدار الواجب، أو صلّى إلى إحدى الجهات الأربع ولم يصلّ إلى سائر الجهات وقد صادفت القبلة الواقعيّة، وعليه ظهر أنّ وجوبها كان من باب استقلال العقل به تحصيلًا للأمن من العقوبة لا من باب الملازمة كما ظهر خروجها عن محلّ النزاع حتماً.

وببيان آخر: «لا شبهة في خروجها عن مورد البحث، وذلك لأنّ الصّلاة التي وقعت إلى القبلة في المثال هي نفس الواجب وليست مقدّمة له، وأمّا غيرها فهي مغايرة للواجب ولا

انوار الأصول، ج 1، ص: 349

تكون مقدّمة له وإنّما هي مقدّمة لحصول العلم بالواجب وفراغ الذمّة والأمن من العقاب» «1»، هذا ما ذكره بعض الأعلام وهكذا غيره من سائر الأعلام، فقد أرسلوا المسألة إرسال المسلّمات، بل لم يعنونوها غالباً بزعم أنّ خروجها عن محلّ النزاع واضح.

ولكن مع ذلك كلّه فالحقّ عندنا أنّها داخلة في محلّ النزاع وذلك لرجوعها أيضاً إلى مقدّمة الوجود، فإنّ المكلّف في المثال المزبور لا يكون قادراً على إتيان الواجب وإيجاده في الخارج إلّا بإتيان جميع أطراف العلم الإجمالي كما أنّ المولى إذا أمر عبده مثلًا بجلب سارق اختفى في إحدى هذه البيوت العشرة والعبد يعلم إجمالًا بإختفائه فيها، فلا إشكال في أنّ العبد ليس بقادر على جلب السارق إلّابالبحث عنه في تلك البيوت ويعدّ عمله

هذا عرفاً من مقدّمات امتثاله وإيجاد المأمور به في الخارج، كذلك في الامور الشرعيّة، فإنّ المكلّف بالصّلاة في المثال المزبور لا يكون قادراً على إتيانها إلّابإيجادها إلى الجهات الأربع، ويكون إتيان الصّلاة إلى جميع هذه الجهات مقدّمة للإتيان بالصّلاة المأمور بها في الخارج، نعم قد تصادف الصّلاة الاولى للقبلة ولكن هذا أمر خارج عن اختيار المكلّف لا يتعلّق به التكليف، ولذا لا يمكن للمولى أمره بخصوص ما يصادف في أوّل مرّة، فلا يمكن تكليف العبد بتحصيل المأمور به إلّا من طريق أربع صلوات. وبهذا يكون مردّ المقدّمة العلمية إلى مقدّمة الوجود، أي أنها تعدّ مقدّمة العلم بلحاظ معيّن ومقدّمة الوجود بلحاظ آخر، فتكون حينئذ داخلة في محلّ النزاع.

الرابع: تقسيمها إلى المتقدّم والمقارن والمتأخّر

والمقارن نظير القبلة والطهارة بالنسبة إلى الصّلاة، والمتقدّم نظير عقد الوصيّة بالنسبة إلى ملك الموصى له، والمتأخّر نحو الأغسال الليلية بالإضافة إلى صحّة صيام المستحاضة في اليوم الماضي عند بعض.

واستشكل في المتأخّر والمتقدّم بأنّ العلّة التامّة يجب عقلًا أن تكون مقارنة زماناً للمعلول وإن كانت مقدّمة عليه رتبة، إذ لا يعقل التفكيك بينهما في الزمان، هذا من جانب، ومن جانب آخر إنّا نشاهد أمثلة لهما في الشرع المقدّس كالأمثلة المزبورة كما نشاهدها في العرفيات نظير

انوار الأصول، ج 1، ص: 350

ما إذا أمر المولى عبده بإستقبال زيد واعداده مقدّمات الاستقبال قبل قدومه من السفر، فقدوم زيد في المستقبل شرط لوجوب الاستقبال وتهيئة مقدّماته في الحال، (هذا في المتأخّر) ونظير ما إذا قال: إن جاءك زيد في يوم الخميس ففي يوم الجمعة يجب عليك اطعامه (وهو في المتقدّم)، إذن لا بدّ لدفع الإشكال من توجيه لمثل هذه الموارد، وقد تصدّى له المحقّق الخراساني،، وحاصل كلامه ببيان منّا: التحقيق في دفع

هذا الإشكال أن يقال: إنّ الموارد التي توهّم انخرام القاعدة فيها لا تخلو: إمّا أن يكون المتقدّم أو المتأخّر شرطاً للتكليف، أو للوضع، أو للمأمور به، أمّا إذا كان شرطاً للتكليف (وكذلك الوضع) فإنّ الإيجاب هو فعل من الأفعال الاختياريّة للمولى، والشرط له ليس نفس المجي ء السابق (في المثال المتقدّم) أو قدوم زيد في اللاحق كي يلزم تقدّم الشرط على المشروط أو تأخّره عنه، بل هو نفس لحاظه وتصوّره، وهو مقارن للايجاب، وهكذا الأمر في الوضع (كالوصيّة والصرف والسلّم في المتقدّم، فالعقد سابق والملكيّة حاصلة عند الموت أو عند القبض، وكالاجازة في العقد الفضولي في المتأخّر بناءً على الكشف) فحكم المولى بالملكية فعل من أفعال الحاكم وليس شرطه نفس الاجازة المتأخّرة أو نفس الامور السابقة المعتبرة في الوصيّة والصرف والسلم للحكم، بل الشرط هو نفس لحاظ تلك الامور وتصوّرها وهو مقارن للحكم بالوضع.

أقول: يرد عليه:

أوّلًا: أنّه كيف يمكن أن يكون اللحاظ دخيلًا في تكليف الآمر مع أنّ لازمه دخله في حصول المصلحة؟ ولا معنى له، لأنّ اللحاظ والتصوّر مرآة للمصلحة التي توجد في الخارج وكاشف عنها، فكيف يكون دخيلًا في إيجادها؟ فإنّ المولى يأمر بالاستقبال مثلًا لوجود مصلحة في مجي ء زيد تؤثّر في إيجاب المولى بوجودها الواقعي لا بوجودها اللحاظي التصوّري، كما أنّه كذلك في الامور التكوينيّة، فإنّ العلّة لصناعة السرير مثلًا والداعي إليه إنّما هو المصالح الواقعيّة التي تترتّب عليها بوجودها الخارجي لا بوجودها الذهني.

وإن شئت قلت: علّة الحكم حقيقة هي إرادة المولى ولكن الداعي إليه هو المصالح الموجودة في الفعل خارجاً.

ثانياً: أنّه عمّم الإشكال إلى الشرط المتقدّم، وهو خطأ جدّاً لأنّ استحالة التكفيك بين العلّة والمعلول تتصوّر بالنسبة إلى الجزء الأخير من العلّة

لا سائر الأجزاء حيث إنّ شأن سائر

انوار الأصول، ج 1، ص: 351

الأجزاء شأن المعدّات في العلل الخارجيّة وتكون غالباً مقدّمة على وجود المعلول زماناً كوجود الحطب والآلة المحرقة في الإحراق.

ثالثاً: يمكن النقاش في بعض الأمثلة المذكورة في كلامه أيضاً كمثال العقد في الوصيّة والصرف والسلم حيث إنّ العقد بالنسبة إلى الملكيّة المتأخّرة فيها ليس من الشروط المتقدّمة لأنّه بوجوده الإنشائي مقارن لها وإن صارت الألفاظ معدومة حين صدور الإنشاء.

والأولى أن يقال: إنّ مقامنا هذا أيضاً يكون من موارد الخلط بين الامور التكوينيّة والامور الاعتباريّة، فإنّا قد ذكرنا كراراً أنّ الأحكام الشرعيّة امور اعتباريّة لا واقع لها إلّا اعتبار الشارع ولا صلة لها بالقواعد الحاكمة على الوجودات التكوينيّة الخارجيّة. وقضيّة استحالة التفكيك بين العلّة والمعلول تختصّ بالتكوينيات، وأمّا الاعتباريات فأمر وضعها ورفعها وجعل الشرائط فيها مقارنة أو متأخّرة أو متقدّمة إنّما هو بيد الشارع المعتبر، ولا يكون الشرط المعتبر فيها من مصاديق العلّة والسبب حتىّ يستلزم من تأخيره أو تقديمه محذوراً عقلًا، فإنّ الشارع كما يمكن له اعتبار شرط مقارن للواجب يمكن له اعتبار شرط متقدّم عليه أو متأخّر عنه.

إن قلت: إنّ للشرائط الشرعيّة دخلًا في تحقّق المصالح المترتّبة على الواجبات، ولا إشكال في أنّها مصالح واقعية تكوينيّة، إذن كيف يمكن أن يؤثّر شرط اعتباري متأخّر في مصلحة تكوينيّة متقدّمة؟

قلنا: إنّ المصالح التكوينيّة المترتّبة على الواجبات الشرعيّة الاعتباريّة إنّما تتحقّق في الخارج بعد تحقّق الواجب الاعتباري بجميع أجزائه وشرائطه المقارنة والمتأخّرة والمتقدّمة، فمصلحة صيام المستحاضة مثلًا تتحقّق في الخارج بعد تحقّق الصّيام بجميع شرائطه ومنها الغسل الليلي المتأخّر ولم يدّع أحد تحقّق المصلحة بمجرّد تحقّق الشرط المتقدّم أو المتأخّر فحسب (أي يكون الشرط المتقدّم أو المتأخّر بمجرّده

علّة في وجود المصلحة) حتّى يلزم التفكيك بين العلّة والمعلول.

توضيح ذلك: إنّ منشأ عبادات الشرعيّة أنّها تعبّر عن نهاية الخضوع للشارع المقدّس، وحينئذٍ نقول: كما أنّ الاحترامات العرفيّة كالقيام عند ورود الوالدين أو الاستاذ أو المولى وكالسلام والتحيّة إذا إشترطت بشروط متأخّرة- تنتزع منها عناوينها الخاصة وتترتّب انوار الأصول، ج 1، ص: 352

عليها مصالحها الواقعيّة- فيما لو تحقّقت تلك الشروط في ظرفها، كذلك العبادات الشرعيّة حيث ينتزع منها هذا العنوان وتترتّب عليها مصالحها الخاصّة بعد تحقّق جميع الأجزاء والشرائط، فقبل تحقّق الشرط المتأخّر لا تتحقّق مصلحة حتّى يستلزم انخرام قاعدة العلّية.

وما قد يقال: من «أنّ الاعتبار ليس مجرّد لقلقة اللسان بل للاعتبار واقع، غايته أنّ واقعها عين اعتبارها، وبعد اعتبار شي ء شرطاً لشي ء وأخذه مفروض الوجود في ترتّب الحكم عليه كما هو الشأن في كلّ شرط كيف يمكن تقدّم الحكم على شرطه» «1»

يدفعه: أنّه من قبيل قياس الشرائط الشرعيّة بالشرائط التكوينيّة، فإنّ أخذ الشرط مفروض الوجود في ترتّب الأثر إنّما هو في التكوينيات لا في الاعتباريات كما هو ظاهر، فلا مانع من جعل المتأخّر شرطاً في الاعتباريات.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني رحمه الله ذهب إلى امتناع الشرط المتأخّر وأنّه يؤول إلى الخلف والمناقضة، وحاصل كلامه: أنّ القضايا في الأحكام الشرعيّة قضايا حقيقية والمجعول الشرعي في القضايا الحقيقية لو قلنا بأنّه هي السببيّة دون المسبّبات عند وجود أسبابها لكان تأخّر الشرط عن المشروط به من تأخّر العلّة عن معلولها حقيقة، وهو واضح الاستحالة، وإذا قلنا بأنّ المجعول الشرعي هو نفس المسبّب وانما تنتزع السببيّة من جعل المسبّبات عند امور خاصّة كما هو الحقّ فلابدّ من أن يكون نسبة الشرائط إلى الأحكام نسبة الموضوعات إليها فكما يمتنع وجود المعلول

قبل وجود علّته للزوم الخلف والتناقض، كذلك يمتنع وجود الحكم قبل وجود موضوعه المقدّر وجوده في مقام الجعل «2».

وفيه: أنّه سيأتي في البحث عن الواجب المشروط أنّ الشرائط لا ترجع إلى قيود الموضوع بل أنّها من شرائط الحكم نفسه ومن قيوده، فانتظر.

فظهر ممّا ذكرنا أنّ الحقّ إمكان الشرط المتأخّر أو المتقدّم عقلًا في الامور الاعتباريّة خلافاً للمحقّق الخراساني والمحقّق النائيني رحمه الله.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ جميع الشروط المذكورة في هذا التقسيم إنّما هي داخلة في محلّ انوار الأصول، ج 1، ص: 353

النزاع فيما إذا كانت شروطاً للمكلّف به لا التكليف كما لا يخفى فيحكم بوجوبها بناءً على وجوب المقدّمة.

هذا كلّه في الجهة الثالثة.

الجهة الرابعة: في تقسيمات الواجب
اشارة

ينقسم الواجب أيضاً إلى تقسيمات عديدة:

الأوّل: تقسيم الواجب إلى المطلق والمشروط
اشارة

وهو من أهمّ مسائل مبحث مقدّمة الواجب، والواجب المطلق نظير الصّلاة بالنسبة إلى الوضوء مثلًا، والمشروط نظير الحجّ بالنسبة إلى الاستطاعة.

وأمّا تعريف كلّ واحد منهما فقال المحقّق الخراساني،: قد ذكر لكل منهما تعاريف وحدود، تختلف بحسب ما أخذ فيها من القيود، وربّما اطيل الكلام بالنقض والإبرام في النقض على الطرد والعكس مع أنّها كما لا يخفى تعريفات لفظيّة لشرح الاسم وليست بالحدّ ولا بالرسم.

ثمّ قال: والظاهر أنّه ليس لهم اصطلاح جديد في لفظ المطلق والمشروط، بل يطلق كلّ منهما بما له من معناه العرفي، كما أنّ الظاهر أنّ وصفي الإطلاق والاشتراط وصفان إضافيان لا حقيقيان وإلّا لم يكد يوجد واجب مطلق، ضرورة اشتراط وجوب كلّ واجب ببعض الامور، لا أقلّ من الشرائط العامّة كالبلوغ والعقل.

أقول: إنّ كلامه مقبول عندنا بتمامه إلّاما مرّ كراراً من قوله بأنّ التعاريف التي تذكر لموضوعات علم الاصول هي من قبيل شرح الاسم، فقد مرّ أيضاً في جوابه أنّ هذا لا يلازم كون القوم أيضاً في مقام شرح الاسم فقط بل إصرارهم على ذكر قيود للتعريف لأن يصير جامعاً ومانعاً، وكذلك مناقشات كلّ واحد منهم في سائر التعاريف بعدم الطرد أو العكس والدفاع عمّا ذكره- بنفسه من أوضح الشواهد على أنّهم في مقام ذكر تعاريف حقيقية للموضوعات المختلفة كما هو واضح، مضافاً إلى أنّ ما يفيد المبتدى ء في هذه الأبحاث هو

انوار الأصول، ج 1، ص: 354

التعريف الجامع للأفراد والمانع عن الأغيار، نعم التعاريف شرح الاسمية إنّما تفيد اللغوي لا المدقّقون في الأبحاث العلمية كما هو ظاهر.

رجوع القيد إلى الهيئة أو المادّة:

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ هيهنا بحثاً له أهمية خاصّة، وهو أنّ القيود المأخوذة في لسان الأدلّة بعنوان الشرط أو غيره هل هي حقيقة راجعة إلى

الهيئة أو المادّة؟ مع تسالم الكلّ على أنّ ظاهر القضيّة الشرعيّة رجوعها إلى الهيئة بل هو معنى الاشتراط وتعليق الجزاء على الشرط، فمعنى «إن جاءك زيد فأكرمه» مثلًا أنّ وجوب الإكرام مقيّد بمجي ء زيد ومعلّق عليه بل قد اعترف بهذا الظهور العرفي من هو مخالف للمشهور في المسألة وهو الشّيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله، إلّاأنّه يقول: لا بدّ من رفع اليد عن هذا الظهور (لمحذور عقلي) وإرجاع القيد إلى المادّة فيكون معنى قولك «إن استطعت يجب عليك الحجّ» حينئذٍ «أنّه يجب عليك من الآن إتيان الحجّ عند تحقّق الاستطاعة» فيكون القيد وهو الاستطاعة في المثال من قيود الواجب، مع أنّ ظاهر القضيّة أنّه من قيود الوجوب، نعم أنّه يقول: فرق بين قيد الواجب الذي يستفاد من القضيّة الشرطيّة وسائر قيود الواجب، فيجب تحصيل القيد وإيجاده في الخارج في الثاني دون الأوّل قضاء لحقّ القضيّة الشرطيّة.

واستدلّ لمقالة الشّيخ الأعظم رحمه الله أو يمكن أن يستدلّ لها بامور:

الأمر الأوّل: أنّ مفاد الهيئة من المعاني الحرفيّة، وقد قرّر في محلّه أنّ الوضع فيها عام والموضوع له خاصّ، أي المعنى الحرفي جزئي حقيقي، ومن البديهي أنّ الجزئي لا يقبل التقييد والإطلاق.

وببيان آخر: أنّ المعاني الحرفيّة إيجاديّة بأسرها، ولو لم يكن الجميع كذلك فلا أقلّ من خصوص مفاد هيئة الأمر، أي الطلب، فلا إشكال في كونه إيجاديّاً، والمعنى الإيجادي جزئي حقيقي، فإنّ الإيجاد هو الوجود، ولا ريب في أنّ الوجود الخارجي عين التشخّص والجزئيّة فلا يقبل التقييد والإطلاق.

ولكن يرد عليه: أنّه قد مرّ في مبحث المعاني الحرفيّة أنّ كون الموضوع له خاصّاً ليس معناه كونه جزئيّاً حقيقيّاً بل أنّه بمعنى الجزئي الإضافي، فمعنى الابتداء في قولنا: «سر من انوار الأصول،

ج 1، ص: 355

البصرة إلى الكوفة» مثلًا كلّي تتصوّر له أفراد كثيرة بملاحظة وجود بوّابات كثيرة مثلًا للبصره أو الكوفة وأمكنة متعدّدة لابتداء السير، فالامتثال لهذا الْامر له مصاديق كثيرة، وكلّ ما كان له مصاديق كثيرة كان كلّياً.

وأمّا كونها إيجاديّة وأنّ الإيجاد جزئي حقيقي فيمكن الجواب عنه أيضاً بأنّه كذلك، أي يكون الإيجاد جزئيّاً حقيقيّاً، ولكن البحث هنا ليس بحثاً عن التقييد بمعنى التضييق والتخصيص بل أنّه بحث عن التقييد بمعنى التعليق، وسيأتي في الوجه الرابع أنّ أحدهما غير الآخر حيث إنّ التعليق إيجاد على فرض، فيمكن تعليق الإيجاد أو الوجود على شي ء مفروض الوجود وإن لم يمكن تقييده، فلا مانع مثلًا من تعليق وجود إكرام زيد ولو بنحو خاصّ على مجيئه وإن كان جزئيّاً حقيقياً.

الأمر الثاني: ما يستفاد من كلمات بعض الأعاظم من أنّ المعنى الحرفي وإن كان كلّياً إلّاأنّه ملحوظ باللحاظ الآلي ولا يلحظ استقلالًا حتّى يمكن تقييده، حيث إنّ التقييد أو الإطلاق من شؤون المعاني الملحوظة باللحاظ الاستقلالي «1».

ويرد عليه: أيضاً إنّا لم نقبل في محلّه كون المعاني الحرفيّة معاني مرآتيّة آليّة بمعنى المغفول عنها، بل قد ذكرنا هناك أنّه ربّما يكون المعنى الحرفي أيضاً مستقلًا في اللحاظ بهذا المعنى ويكون تمام الالتفات والتوجّه إليه كما إذا قلت: هل الطائر في الدار أو على الدار؟ ومرادك السؤال عن «الظرفيّة» و «الاستعلاء» في مثل الطائر الذي تعلم بوجود نسبة بينه وبين الدار، لكن لا تدري أنّ هذه النسبة هي الظرفيّة أو الاستعلاء.

نعم، إنّ المعاني الحرفيّة تابعة للمعاني الاسمية في الوجود الخارجي والذهني، ولا إشكال في أنّ التبعيّة في الوجود لا تلازم كون المعنى الحرفي مغفولًا عنه، فقد وقع الخلط هنا بين التبعيّة في الوجود

الذهني وعدم قيام المفهوم بنفسه وبين الغفلة عنه مع أنّ بينهما بون بعيد.

الأمر الثالث: لزوم اللغويّة حيث أنّه إذا كان الوجوب استقبالياً فلا ثمرة للايجاب والإنشاء في الحال، وبعبارة اخرى: إذا لم يكن المنشأ طلباً فعليّاً يكون الإنشاء لغواً.

والجواب عنه واضح: لأنّ المفروض أنّ أحكام الشارع أحكام كلّية تصدر على نهج انوار الأصول، ج 1، ص: 356

القضايا الحقيقية وشاملة لجميع المكلّفين الواجدين منهم للشرائط المذكورة فيها وغيرهم، فوجوب الحجّ مثلًا يشمل المستطيع فعلًا ومن سيستطيع، وعندئذٍ لا بدّ من صدور الخطاب بشكل القضيّة الشرطيّة حتّى يكون فعليّاً بالنسبة إلى من كان الشرط محققاً له الآن، واستقبالياً بالنسبة إلى من يحصل الشرط له فيما بعد، أي يكون الخطاب الواحد بالنسبه إلى بعض فعليّاً وبالنسبة إلى آخر مشروطاً تقديريّاً، والغفلة عن هذه الحقيقة أوجبت الإيراد باللغويّة.

أضف إلى ذلك أنّه ربّما يلزم تقديم الإنشاء لمراعاة حال المكلّف ولو كان الإنشاء شخصيّاً لكي لا يواجه التكليف فجأةً بل يكون على ذكر منه فيهيّ ء نفسه للامتثال، أو مراعاة حال نفسه فلا يكون بحاجة إلى خطاب جديد مثلًا، فلعلّه لا يتمكّن في ذلك الوقت من الإيجاب والإنشاء (وهذا ما يجري حتّى في القضايا الشخصيّة فضلًا عن الحقيقية الكلّية) إلى غير ذلك من المصالح.

الأمر الرابع: أنّ الإنسان إذا توجّه إلى شي ء وإلتفت إليه فلا يخلو: إمّا أن يطلبه أم لا، ولا ثالث في البين، لا كلام على الثاني، وعلى الأوّل لا يخلو من أنّ الفائدة إمّا أن تقوم بطبيعي ذلك الشي ء من دون دخل خصوصيّة من الخصوصيّات فيها، أو تقوم بحصّة خاصّة منه، وعلى الأوّل فطبيعي أن يطلبه المولى على إطلاقه وسعته، وعلى الثاني يطلبه مقيّداً بقيد خاص، وهذا القيد، تارةً يكون اختياريّاً

واخرى غير اختياري، وعلى الأوّل تارةً يكون مورداً للطلب والبعث، وذلك كالطهارة مثلًا بالإضافة إلى الصّلاة، واخرى لا يكون كذلك بل أخذ مفروض الوجود، وذلك كالإستطاعة بالإضافة إلى الحجّ، وعلى الثاني أي فرض كونه غير اختياري فهو لا محالة أخذ مفروض الوجود في مقام الطلب والجعل لعدم صحّة تعلّق التكليف به، وكزوال الشمس بالإضافة إلى وجوب الصّلاة، وعلى جميع التقادير فالطلب فعلي ومطلق، والمطلوب مقيد من دون فرق بين كونه اختياريّاً أو غير اختياري، ونتيجته رجوع القيد بشتّى ألوانه إلى المادّة.

ويرد عليه: أيضاً أنّ الاحتمالات لا تنحصر في ما ذكر، والحصر ليس بحاصر، بل هنا احتمال آخر لم يشر إليه المستدلّ في كلامه، حيث إنّ الإنسان إذا إلتفت إلى شي ء فإمّا أن لا يطلبه مطلقاً فلا كلام فيه، وإمّا أن يطلبه مطلقاً أي لا يكون طلبه مشروطاً بشي ء ومعلّقاً على انوار الأصول، ج 1، ص: 357

شي ء، (وإن كان مطلوبه مقيّداً بشي ء أحياناً) وإمّا أن يكون طلبه معلّقاً على شي ء فهو لا يطلب ولا يبعث إلّابعد حصول ذلك الشي ء كالإستطاعة، وما ذكره من الصور العديدة إنّما هي من شقوق القسم الأوّل (أي ما إذا كان طلبه مطلقاً)، وأمّا القسم الأخير فلم يأت به في كلامه (وإن أتى بمثاله وهو الحجّ بالنسبة إلى الاستطاعة والصّلاة بالنسبة إلى دلوك الشمس) حيث إنّ كلامه في تقسيمات الواجب والمطلوب لا في تقسيمات الوجوب والطلب، والقسم الأخير أي التعليق في الطلب هو المراد من الواجب المشروط عند المشهور، وسيأتي بيان ماهيته.

الأمر الخامس: أنّ رجوع الشرط إلى الهيئة دون المادّة يوجب تفكيك الإنشاء عن المنشأ، فالإنشاء يكون فعليّاً والمنشأ وهو وجوب الإكرام في مثال «إن جاءك زيد فأكرمه» يكون استقبالياً حاصلًا بعد المجي ء،

وهذا غير معقول بل هو أسوأ حالًا من تفكيك العلّة عن المعلول حيث إنّ العلّة والمعلول أمران واقعيان، ويكون الواقع فيهما متعدّداً، بخلاف الإنشاء والمنشأ أو الإيجاد والوجود أو الإيجاب والوجوب فإن الواقع فيهما واحد يكون إنشاءً أو إيجاداً أو إيجاباً إذا نسب إلى الفاعل، ويكون منشأً أو وجوداً أو وجوباً إذا نسب إلى القابل.

وقد اجيب عنه بوجوه:

الوجه الأوّل: ما أجاب به المحقّق الخراساني رحمه الله وحاصله: أنّ الإنشاء حيث تعلّق بالطلب التقديري، فلابدّ أن لا يكون الطلب حاصلًا فعلًا قبل حصول الشرط وإلّا لزم تخلّف الإنشاء عن المنشأ.

وبعبارة اخرى: أنّ الطلب في الواجب المشروط تقديري، ولازمه عدم فعلية الطلب والإنشاء، فلو كان الطلب فعليّاً يستلزم الخلف.

ولكن الإنصاف أنّه لا يندفع به الإشكال بل هو أشبه بالمصادرة، لأنّ الكلام في إمكان هذا النحو من الإنشاء بالوجدان مع أنّ الإنشاء هو الإيجاد، والإيجاد أمره دائر بين الوجود والعدم، فإمّا وجد الإنشاء أو لم يوجد ولا ثالث له حتّى يسمّى بالإنشاء التقديري.

الوجه الثاني: ما أفاده بعض الأعلام وهو مبني على ما اختاره في المعاني الحرفيّة (من أنّ الإنشاء عبارة عن إبراز الأمر الاعتباري النفساني في الخارج بمبرز من قول أو فعل)، فإنّه قال: «الصحيح أن يقال أنّه لا مدفع لهذا الإشكال بناءً على نظرية المشهور من أنّ الإنشاء

انوار الأصول، ج 1، ص: 358

عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ ضرورة عدم إمكان تخلّف الوجود عن الإيجاد وأمّا بناءً على مختارنا (وهي ما مرّ آنفاً) فيندفع الإشكال المذكور من أصله» «1».

أقول: وقد بني على هذا المبنى في معنى الإنشاء نتائج كثيرة في علم الاصول:

أوّلًا: أنّه خلاف الوجدان حيث إنّ الوجدان حاكم بأنّ البائع مثلًا في قوله «بعت» إنّما يكون في مقام

إيجاد شي ء في عالم الاعتبار لا الأخبار عن اعتبار موجود في نفسه.

وثانياً: أنّ لازمه تطرّق احتمال الصدق والكذب في الإنشاء كالاخبار (حيث إنّ الإبراز المذكور في كلامه لو كان مطابقاً لما في ضمير المبرز فهو صادق وإلّا كان كاذباً) وهو ممّا لا يلتزم به أحد.

وثالثاً- وهو العمدة- أنّ الإنشاء إيجاد في عالم اعتبار العقلاء والقوانين العقلائيّة (لا في عالم الخارج ولا في عالم الذهن) فتوجد بقول البائع «بعت» ملكيّة قانونيّة في عالم الاعتبار في مقابل الملكيّة الخارجيّة والسلطنة الخارجيّة على الأموال، وبعبارة اخرى: كانت الملكيّة والسلطة في أوّل الأمر منحصرة عند العقلاء في السلطة الخارجيّة ثمّ أضافوا إليها قسماً آخر من السلطة وهي السلطة القانونيّة واعتبروا لايجادها أسباباً لفظيّة وغيرها، فما ذكره من أنّ «الإيجاد في عالم الخارج لا معنى له، وفي عالم النفس لا يحتاج إلى الإنشاء اللّفظي» مدفوع بأنّه إيجاد في وعاء اعتبار العقلاء بالتوسّل بأسبابها.

أضف إلى ذلك كلّه أنّ ما ذكره لا يتصوّر بالنسبة إلى بعض أنواع الإنشاء مثل النداء والإشارة فإنّه لا معنى لوجود شي ء في نفس المنادي أو المشير بإسم النداء والإشارة بل الموجود قبل التلفّظ بأداة النداء أو الإشارة إنّما هو إرادة النداء أو الإشارة فحسب، وأمّا نفس النداء أو الإشارة فإنّما توجد بأداتها مع نيّتها.

وبهذا يظهر أنّ الحقّ في حقيقة الإنشاء إنّما هو مذهب المشهور من أنّه إيجاد لا إخبار.

الوجه الثالث: ما أفاده في تهذيب الاصول وإليك نصّ كلامه: «إنّ الخلط نشأ من إسراء حكم الحقائق إلى الاعتبارات التي لم تشمّ ولن تشمّ رائحة الوجود حتّى يجري عليه أحكام الوجود، ولعمري أنّ ذلك هو المنشأ الوحيد في الاشتباهات الواقعة في العلوم الاعتباريّة إذ

انوار الأصول، ج 1، ص: 359

الإيجاد الاعتباري

لا مانع من تعليقه، ومعنى تعليقه أنّ المولى بعث عبده على تقدير وإلزام، وحكم شيئاً عليه لو تحقّق شرطه، ويقابله العدم المطلق أي إذا لم ينشأ ذلك على هذا النحو» «1».

أقول: إنّا لا ننكر ما يقع كثيراً مّا من الخلط بين الامور التكوينيّة والاعتباريّة وما يترتّب عليه من الإشكالات الكثيرة، وما أكثرها في الفقه والاصول، ولكن هذا ليس بمعنى عدم حكومة ضابطة في الاعتباريات مطلقاً، والسرّ في ذلك والنكتة التي صارت مغفولًا عنها في المقام هي أنّه فرق بين المعتبر والاعتبار، وإنّ ما يكون من الامور الاعتباريّة إنّما هو المعتبر، وأمّا نفس الاعتبار فهو أمر تكويني ومحكوم للقوانين الحاكمة على التكوينيات، فاعتبار الوجوب وإيجاده أمر تكويني دائر أمره بين الوجود والعدم ولا يتصوّر شي ء ثالث بينهما، ومجرّد تسمية شي ء باسم الوجود التقديري أو المعلّق مصادرة إلى المطلوب ولا يرفع المحذور في المسألة، ولذا لا يجتمع الاعتبار في زمان معيّن مع عدمه لعدم جواز الجمع بين النقيضين، ومن هذا الباب ما نحن بصدده وهو أنّ الإيجاد الاعتباري لا معنى لكونه معلّقاً على شي ء.

أضف إلى ذلك أنّ مسألة الوجود المعلّق والاشتراط بالقضيّة الشرطيّة لا تختصّ بالاعتباريات حتّى يكون مفتاح حلّ المشكل في اعتباريّة المسألة، بل تتصوّر أيضاً في الامور التكوينيّة كما في قولك: «إن طلعت الشمس فالنهار موجود» فوجود النهار الذي صار معلّقاً على طلوع الشمس ليس من الاعتباريات كالملكية، فهو إمّا موجود في الخارج أو ليس بموجود ولا ثالث بينهما فيعود الإشكال.

المختار في مسألة الواجب المشروط
اشارة

الوجه الرابع: ما يعتبر حلًا نهائيّاً في المسألة، وهو عبارة عن تحليل معنى الاشتراط والتأمّل في حقيقة مفهوم «إن» الشرطيّة وما يسمّى في اللّغة الفارسيّة ب «اگر»، فنقول لا إشكال في أنّ مفاد كلمة

«إنّ» (اگر) يساوق معنى كلمة «افرض» أي أن الإنسان يفرض أوّلًا وجود شي ء في الخارج ثمّ يحكم عليه بحكم ويرتّب عليه آثاراً، فيفرض مثلًا طلوع الشمس أوّلًا ثمّ يرتّب عليه وجود النهار، فالقضية الشرطيّة حينئذٍ عبارة عن حكم على فرض.

انوار الأصول، ج 1، ص: 360

توضيح ذلك: الإنسان تارة ينظر ويرى أنّ الشمس قد طلعت فيحكم بأنّ الشمس طالعة من غير شرط، واخرى يكون الناظر في ظلمات الليل ولكن يفرض وجود الشمس ثمّ يحكم بوجود النهار في وعاء فرض وجود الشمس فيقول: «إن طلعت الشمس فالنهار موجودة»، وكذلك في الإنشائيات.

وبعبارة اخرى: إنّ للإنسان في أحكامه الإخباريّة والإنشائيّة حالتين، فتارةً يكون مطلوبه في الإنشائيات أو ما يخبر عنه في الإخباريات موجوداً في عالم الخارج بالفعل، فيبعث إليه أو يخبر عنه من دون قيد وتعليق، واخرى لا يكون موجوداً في الخارج فيفرض وجوده أوّلًا ثمّ يحكم عليه إخباراً أو إنشاءً.

إن قلت: على أيّ حال: هل وجد شي ء في الخارج من ناحية حكمه أو لم يوجد؟

قلنا: قد وجد شي ء في الخارج ولكن معلناً على فرض، نظير ما إذا كانت أُمّ تعيش في فراق ولدها فتتصوّر مجي ء ولدها فتحنّ إليه وتسيل دموعها من شوق لقائه، فإنّ سيلان دمعها وبكاؤها أمر تكويني موجود في الخارج ولكن بعد فرضها وتصوّرها مجي ء ولدها، ونظير ما إذا تصوّر المولى عطشه وإشتاقت نفسه بعد ذلك الفرض والتصوّر إلى الماء، فأمر عبده بقوله «إذا كنت عطشاناً فاسقني» فإشتياقه إلى الماء ثمّ بعثه إلى إتيان الماء وجد في الخارج ولكنه مترتّب على فرضه عطشه، فطلبه وبعثه متوقّف على هذا الفرض، وحيث إنّه فرض ولا وجود له في الخارج فعلًا فيمكن أن يقال بأنّه لا إيجاب ولا وجوب كما

ذهب إليه المشهور.

وبعبارة اخرى: الوجوب وجد بالإيجاب ولكن متأخّراً عن فرض ومعلّقاً على تقدير موجود في عالم الذهن ولا عالم الخارج، لأنّ المفروض أنّ الفرض ليس بإزائه شي ء في الخارج حين الفرض.

والحاصل: أنّ هذا الإيجاب موجود من جهة وغير موجود من جهة، فهو موجود بعد فرض وجود الشرط في افق الذهن وغير موجود من دون هذا الفرض.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّه قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ مآل القضايا الحقيقية إلى قضايا شرطيّة حيث إنّها صادقة حتّى مع عدم وجود ما أخذ بعنوان الموضوع فيها حين صدورها وجعلها، فقضيّة «النار

انوار الأصول، ج 1، ص: 361

حارّة» قضيّة حقيقيّة صادقة مع عدم وجود نار في الخارج بل عدم وجود معدّاتها وأسبابها وليس ذلك إلّالأنّها راجعة إلى قضيّة شرطيّة، أي «كلّما وجد في الخارج شي ء وكان ناراً فهي حارّة» فأوّلًا فرض وجود نار في الخارج ثمّ حكم عليها بأنّها حارّة، وهذا هو مراد من قال: إنّ عقد الوضع في القضايا الحقيقية يرجع إلى القضايا الشرطيّة، أي يوجد بين القضيّة الحقيقية والشرطيّة قرابة وشباهة، حيث إنّ كلًا منهما حكم على فرض، لا أنّ كلّ شرط يرجع إلى قيد الموضوع كما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله بل أنّه قيّد للحكم كما هو ظاهر القضيّة الشرطيّة.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ الحقّ مع المشهور وأنّ القيود في القضايا الشرطيّة راجعة إلى الهيئة لا إلى المادّة خلافاً لما نسب إلى الشّيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله.

بقي هنا امور:

الأوّل: في ثمرة النزاع في المسألة

من الواضح أنّ الثمرة في هذا النزاع تظهر في تحصيل المقدّمات المفوّتة كتهيئة الزاد والراحلة وأخذ الجوازات بالنسبة إلى الحجّ، فبناءً على مذاق المشهور لا دليل على وجوبها لعدم وجوب ذي المقدّمة على الفرض، وأمّا على المبنى

المنسوب إلى الشّيخ الأعظم رحمه الله فتحصيلها واجب قبل مجي ء زمان الواجب، فيجب مثلًا حفظ الماء قبل مجي ء وقت الصّلاة إذا كان تحصيل الطهارة بعد مجي ء وقت الصّلاة متوقّفاً عليه، وكذلك تحصيل مقدّمات السفر إلى الحجّ بعد حصول الاستطاعة وقبل الموسم.

نعم ربّما يجب تحصيل المقدّمات حتّى على مبنى المشهور، وهو ما إذا علمنا بفوت غرض المولى في صورة عدم تحصيل المقدّمات، فإنّ العقل يحكم حينئذ بحفظ غرض المولى لمكان حقّ الطاعة والمولويّة، كما إذا علم العبد بأنّه لو لم يحفظ الماء الآن يبقى المولى عطشاناً في المستقبل، فلا إشكال في أنّه لو لم يحفظ الماء وصار المولى عطشاناً صار مستحقّاً للملامة والمؤاخذة، وفي الشرعيات نظير ما إذا علمنا ببعض القرائن مثلًا بإهتمام الشارع بالصّلاة مع الطهارة المائيّة وأنّ غرضه منها لا يحصل بغيرها، فيحكم العقل بحفظ الماء ولو قبل مجي ء زمان وجوب الصّلاة.

الثاني: في محلّ النزاع

هل أنّ البحث عن وجوب المقدّمة هو خصوص الواجب المطلق، أو يكون الواجب المشروط أيضاً داخلًا في محلّ النزاع؟

الحقّ كما صرّح به المحقّق الخراساني رحمه الله دخول كلا القسمين فيه، غاية الأمر بناءً على وجوب المقدّمة يكون وجوب مقدّمات الواجب المطلق مطلقاً أيضاً ووجوب مقدّمات الواجب المشروط مشروطاً، وإلّا يلزم زيادة الفرع على الأصل كما لا يخفى، فإذا كان وجوب الحجّ مشروطاً بالاستطاعة كان وجوب مقدّماته كتحصيل الزاد والراحلة وأخذ الجوازات مشروطاً بالاستطاعة.

الثالث: دخول مقدّمات الواجب المشروط في محل النزاع

بناءً على دخول مقدّمات الواجب المشروط في محلّ النزاع لا إشكال في أنّ المقدّمة التي أخذت بعنوان الشرط في حكم المولى كالإستطاعة بالنسبة إلى الحجّ فلا يكون تحصيلها واجباً، أمّا بناءً على مذاق المشهور فهو واضح لأنّه قبل حصول مثل هذه المقدّمة أي الاستطاعة لم يتعلّق وجوب بالحجّ حتّى تكون مقدّمته واجبة، وبعد حصول الاستطاعة وإن صار الحجّ واجباً ولكن لا معنى لترشّح الوجوب إلى هذه المقدّمة، أي الاستطاعة لأنّه تحصيل للحاصل.

وأمّا بناءً على مبنى الشّيخ الأعظم رحمه الله فلأنّه صرّح بنفسه بأنّه وإن كانت جميع المقدّمات حتّى مثل الاستطاعة المأخوذة شرطاً في القضيّة الشرطيّة من الشرائط الوجوديّة وإنّ جميع القيود ترجع إلى المادّة ولكن على نحو لا يترشّح عليه وجوبه.

ولكن الإنصاف أنّ هذا لا يخلو من نوع من التناقض، فكيف يمكن أن يكون شي ء من المقدّمات الوجوديّة ومع ذلك لا يكون تحصيله واجباً ولم يترشّح عليه وجوب ذي المقدّمة؟

وبعبارة اخرى: كيف يكون الحجّ مثلًا واجباً مطلقاً وتكون الاستطاعة قيداً لوجوده ومع ذلك لا يطلبه المولى من العبد في صورة عدم استطاعته بل يطلبه منه إذا حصلت إتّفاقاً؟

الرابع: هل أنّ العلم من الشرائط العامّة للتكليف؟

لا إشكال في أنّ العلم من الشرائط الأربعة العامّة للتكليف، ولكن مع ذلك وقع البحث في انوار الأصول، ج 1، ص: 363

وجوب تحصيله وعدمه، وأنّه هل يكون تحصيله غير واجب كسائر شرائط التكليف، أو له خصوصيّة من بينها فيجب تحصيله؟ وهكذا بالنسبة إلى العلم بالمكلّف به، فإذا علمنا بأصل وجوب الحجّ مثلًا وعلمنا أيضاً بحصول الاستطاعة في السنة اللّاحقة فهل يجب تحصيل العلم بمسائل الحجّ أو لا؟ المعروف والمشهور وجوب تحصيل العلم في القسم الأوّل، أي العلم بأصل التكليف، ويمكن أن يستدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ تحصيل العلم

واجب نفسي، فهو واجب مع قطع النظر عن كونه مقدّمة لواجب آخر، وتدلّ عليه آيات وروايات نظير ما ورد في بعض الأخبار من أنّه يسأل عن الإنسان يوم القيامة: هلّا عملت؟ يقول: ما علمت، فيقال له: هلّا تعلّمت؟ وما ورد عن الصادق عليه السلام: «ليت السيّاط على رؤوس أصحابي حتّى يتفقّهوا في الدين»، ونظير آية النفر التي تدلّ على وجوب تحصيل العلم ووجوب تعليمه معاً.

وفيه: أنّ العلم في أمثال المقام طريقي لا موضوي، ولذا لو أتى بالواقع من طريق الاحتياط أجزأه قطعاً ولا يؤاخذ على ترك تحصيل العلم مع أنّه لو كان واجباً نفسياً لم يجز العمل بالاحتياط في موارد الجهل بالحكم.

الوجه الثاني: العلم الإجمالي بوجود تكاليف في الشريعة حيث يقتضي تحصيل العلم التفصيلي بها للامتثال.

وهو جيّد في الجملة، ويمكن النقاش فيه بأنّ لازمه عدم وجوب الفحص وتحصيل العلم بالتكليف إذا علم بالمقدار المعلوم إجمالًا وانحلّ العلم الإجمالي بسبب ذلك، مع أنّ الفحص واجب مطلقاً حتّى مع الشكّ البدوي في وجوب تكليف.

الوجه الثالث: حكم العقل (أو بناء العقلاء) وهو العمدة، فإنّ العبد موظّف في مقابل مولاه وحقّ العبوديّة والطاعة أن يفحص عن تكاليف المولى في مظانّها، نعم، له العمل بالاحتياط وترك تحصيل هذا العلم، وأمّا الأخذ بالبراءة من دون فحص فهو أمر غير جائز كما يتّضح لك بالرجوع إلى أهل العرف في مناسبات الموالي مع عبيدهم.

نعم بعد الفحص بالمقدار المتعارف بين العقلاء يجوز التمسّك بالبراءة لعدم العلم بتحقّق التكليف مع أنّه لو كان من شرائط الوجود لكان الأصل فيه الاشتغال.

هذا كلّه في العلم بالتكليف.

انوار الأصول، ج 1، ص: 364

وأمّا العلم بالمكلّف به فكذلك يمكن القول بوجوب تحصيله في الجملة، وهو ما إذا علم بحصول الاستطاعة وعدم

إمكان تحصيل العلم بالمناسك في الموسم، فلا يبعد حينئذ القول بوجوب تحصيل العلم بها من باب حفظ غرض المولى مع أنّه ليس الحجّ واجباً فعلًا.

ثمّ إذا شككنا في أنّ الواجب مطلق أو مشروط فما هو مقتضى القاعدة؟ سيأتي الكلام عنه في ذيل البحث عن الواجب المعلّق فانتظر.

إلى هنا تمّ الكلام في التقسيم الأوّل للواجب.

الثاني: تقسيم الواجب إلى المنجز والمعلّق
اشارة

وقد عرّف الواجب المنجّز في كلام صاحب الفصول المبتكر لهذا التقسيم بما يتعلّق وجوبه بالمكلّف ولا يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور له كالمعرفة، وعرّف الواجب المعلّق بما يتعلّق وجوبه به ويتوقّف حصوله على أمر غير مقدور كالحجّ (بالنسبة إلى حلول زمانه) فإنّ وجوبه يتعلّق بالمكلّف من أوّل زمن الاستطاعة أو خروج الرفقة، ويتوقّف فعله على مجي ء وقته وهو غير مقدور له «1».

نعم أنّه عمّم المعلّق في ذيل كلامه إلى ما يتوقّف على أمر مقدور أيضاً، وقال: «واعلم أنّه كما يصحّ أن يكون وجوبه على تقدير حصول أمر غير مقدور وقد عرفت بيانه، كذلك يصحّ أن يكون وجوبه على تقدير حصول أمر مقدور فيكون بحيث لا يجب على تقدير عدم حصوله، وعلى تقدير حصوله يكون واجباً قبل حصوله، وذلك كما لو توقّف الحجّ المنذور على ركوب الدابة المغصوبة» «2».

ولكن يمكن النقاش في تمثيله للمقدور بالحجّ المنذور المتوقّف على ركوب الدابّة المغصوبة لأنّ ركوب الدابّة المغصوبة غير مقدور شرعاً والمنع الشرعي كالمنع العقلي، وكان يمكن له التمثيل بأمر مقدور مباح لا يترشّح إليه الوجوب وهو ما إذا أخذه المولى قيداً للواجب بنحو لا

انوار الأصول، ج 1، ص: 365

يجب تحصيله كما إذا قال المولى: «حجّ عند إستطاعة». أو «صلّ عند ما تتطهّر» فإنّ ظاهرهما وجوب الحجّ والصّلاة فعلًا مع أنّ وجود الحجّ متوقّف على

حصول الاستطاعة إتّفاقاً مع كونها أمراً مقدوراً للمكلّف، كما أنّ وجود الصّلاة متوقّف على حصول الطهارة إتّفاقاً مع كونها أمراً مقدوراً للمكلّف.

نعم قد ظهر ممّا ذكرنا أنّه لا يرد عليه ما أورده المحقّق الخراساني رحمه الله عليه بقوله: «لا وجه لتخصيص المعلّق بما يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور بل ينبغي تعميمه إلى أمر مقدور متأخّر» فكأنّه رحمه الله لم يلاحظ ذيل كلامه.

كما ظهر أنّه لا فرق بين الواجب المشروط على مبنى الشّيخ الأعظم رحمه الله والواجب المعلّق على التعريف المزبور حيث إنّه أخذ في الواجب المعلّق جميع ما أخذه الشّيخ في الواجب المشروط من كون القيد فيه راجعاً إلى المادّة لا الهيئة وكونه ممّا لا يترشّح عليه الوجوب، مع أنّه شرط للوجود لا الوجوب إلّاإذا أخذنا بصدر كلامه الذي حصر الواجب المعلّق فيه بما يتوقّف حصوله على أمر غير مقدور، حيث إنّ كلام الشّيخ رحمه الله في الواجب المشروط يكون أعمّ منه وممّا يتوقّف حصوله على أمر مقدور.

نعم، الفرق بين الواجب المعلّق والواجب المشروط على مبنى المشهور واضح فإنّ القيد عندهم في الواجب المشروط راجع إلى الهيئة والوجوب لا الواجب والوجود كما مرّ.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه ذهب جماعة من الأعلام إلى إمكان الواجب المعلّق وجماعة آخرون إلى استحالته، واستدلّ القائلون بالاستحالة بامور:

الأمر الأوّل: ما أفاده الشّيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله من أنّه لا يمكن تصوّر شي ء ثالث في الواجب غير المطلق والمشروط.

ولا يخفى أنّ كلامه في محلّه ولكن بناءً على مختاره في الواجب المشروط، حيث إنّه حينئذ يرجع أحدهما إلى الآخر كما مرّ آنفاً وليس الواجب المعلّق قسماً ثالثاً للواجب، وأمّا بناءً على مبنى المشهور، فالفرق بين الواجب المعلّق والمطلق والمشروط واضح فإنّه

إن لم يكن الواجب مقيّداً بقيد سمّي بالواجب المطلق وإن كان مقيّداً ورجع القيد إلى الهيئة سمّي بالواجب المشروط وإن كان مقيّداً ولكن رجع القيد إلى المادّة كان على قسمين: فإمّا أن يترشّح الوجوب من ذي المقدّمة إلى المقدّمة فيسمّى منجزاً، وهو في الواقع قسم من الواجب المطلق، وإمّا أن لا

انوار الأصول، ج 1، ص: 366

يترشّح منه إليه فيسمّى معلّقاً.

الأمر الثاني: لزوم انفكاك زمان الوجوب عن زمان الواجب وهو محال ببيانين:

أحدهما: مقايسة التشريع بالتكوين، فإنّ الطلب الإنشائي في التشريعيات إنّما هو بإزاء الإرادة المحرّكة للعضلات في التكوينيات، فكما أنّ الإرادة في التكوينيات لا تنفكّ عن المراد (وهو حركة العضلات) وإن كان المراد متأخّراً رتبة فليكن الطلب الإنشائي في التشريعيات أيضاً غير منفكّ عن المطلوب وإن كان المطلوب متأخّراً رتبة، وعليه فلا يمكن أن يكون الطلب في الواجب المعلّق حالياً والمطلوب استقبالياً متأخّراً عن الطلب زماناً.

ثانيهما: الرجوع إلى حقيقة بعث المولى، فإنّها عبارة عن إيجاد ما يكون داعياً إلى العمل، فلو بعث المولى إلى الحجّ، أي أوجد الداعي إليه في نفس العبد، فيستحيل أن لا ينبعث إليه العبد.

ويمكن الجواب عنه أيضاً نقضاً وحلًا، أمّا النقض فلانّه ينتقض بالواجبات المطلقة فيما إذا كانت لحصولها في الخارج مقدّمات عديدة لا بدّ في تحصيلها من زمان طويل.

وأمّا الحلّ فلأنّ الإرادة ليست بمعنى الشوق المؤكّد المحرّك للعضلات من دون تخلّل شي ء بين الشوق وحركة العضلات لأنّ لازمه الجبر كما لا يخفى، بل يتخلّل بينهما شي ء آخر يسمّى بالاختيار، فللمكلّف المنع عن حركة العضلات، ولا إشكال في أنّ لازمه إمكان الانفكاك بين البعث والانبعاث وبين الطلب والمطلوب.

وإن شئت قلت: يمكن المناقشة في المقيس عليه وهو الإرادة التكوينيّة بأنّها كما تتعلّق بأمر حالي

فلا تنفكّ عن المراد زماناً كذلك تتعلّق بأمر استقبالي متأخّر فتنفكّ عنه زماناً، كما إذا تعلّقت الإرادة بالسفر إلى بلاد بعيدة بعد أشهر، فيكون فعلًا بصدد مقدّمات السفر وتحصيل معدّاتها، فتعلّقت الإرادة من الآن بالسفر بعداً (وإلّا لم يكن المريد فعلًا بصدد تحصيل المقدّمات) ولازمه انفكاك الإرادة عن المراد زماناً.

الأمر الثالث: عدم قدرة المكلّف على المكلّف به في حال البعث على المفروض في المقام مع أنّها من الشرائط العامّة.

ويمكن الجواب عنه أيضاً نقضاً: بأنّه ينتقض بالواجب المطلق إذا كان له مقدّمات تحتاج إلى الزمان وبوجوب أجزاء الواجب جميعاً حين الشروع في العمل مع أنّ المكلّف ليس قادراً

انوار الأصول، ج 1، ص: 367

مثلًا على التشهّد والتسليم حين تكبيرة الإحرام فإنّ قدرته على الأجزاء تحصل شيئاً فشيئاً، وما لم يأت بالتكبير لا يكون قادراً على القراءة في محلّها المفروض وهكذا.

وحلًا: بأنّه لا دليل على اعتبار القدرة على المكلّف به قبل مجي ء زمان العمل بل القدرة المعتبرة في التكليف عقلًا هي القدرة على المكلّف به في زمان المكلّف به فإنّه كثيراً ما يتّفق أنّ العبد لا يكون قادراً على الإتيان بالمأمور به حين البعث ولكنّه يصير قادراً عليه بنفس البعث والتحريك، فلا إشكال حينئذٍ في أنّ العقل لا يمنع عن بعثه بمجرّد عدم قدرته على العمل فعلًا.

الأمر الرابع: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله وحاصله: أنّ امتناع الواجب المعلّق في الأحكام الشرعيّة التي تكون على نهج القضايا الحقيقيّة بمكان من الوضوح بحيث لا مجال للتوهّم فيه، لأنّ معنى كون القضيّة حقيقيّة هو أخذ العنوان الملحوظ مرآة لمصاديقه المفروض وجودها موضوعاً للحكم فيكون كلّ حكم مشروطاً بوجود الموضوع بما له من القيود، ولا فرق بين أن يكون القيد هو الوقت

أو أمر آخر، وحينئذ ينبغي أن يسأل ممّن قال بالواجب المعلّق أنّه أي خصوصيّة للوقت حيث قلت بتقدّم الوجوب عليه ولم تقل بذلك في سائر القيود من البلوغ والاستطاعة مع اشتراك الكلّ في أخذه قيداً للموضوع «1».

أقول: لا يخفى أنّ هذا الوجه مبتنٍ على مبنى المحقّق النائيني رحمه الله في أنّ جميع القيود المأخوذة في الأحكام ترجع حقيقة إمّا إلى الموضوع أو إلى المأمور به، مع أنّه قد مرّ عدم تماميّة المبنى وأنّ الاشتراط في الواجب المشروط يكون من قبيل التعليق والتقدير لا التقييد، أي أنّ المولى إذا لم تكن شرائط مطلوبه حاصلة في الحال فأوّلًا يفرض تلك الشرائط، ثمّ يحكم في وعاء ذلك الفرض بمطلوبه، فيكون إيجابه وحكمه إيجاب وحكم على فرض، فيرجع شرطه وفرضه إلى الحكم، أي «يجب مثلًا على المكلّف الحجّ إن استطاع» لا إلى الموضوع حتّى يكون مآل تعبيره «يجب على المستطيع الحجّ»، فعلى المبنى المختار في حقيقة الواجب المشروط الحقيق بالتصديق لا يتمّ ما ذكره.

الأمر الخامس: ما هو المختار في مقام الإشكال على الواجب المعلّق وهو أنّ الواجب المعلّق مستبطن لنوع من التضادّ في إنشائه حيث إنّ المولى يقول يوم الاثنين: «يجب عليك غسل يوم انوار الأصول، ج 1، ص: 368

الجمعة أو صيامه. فإمّا أن يكون هو كناية عن وجوب تهيئة المقدّمات، فلا بأس به كما سيأتي، ولكن حينئذٍ لا يكون الواجب معلّقاً بل أنّه من مصاديق الواجب المشروط، لأنّ المفروض عدم وجوب ذي المقدّمة، وإمّا يكون دالًا على أنّ غسل يوم الجمعة أو صيامه واجب من يوم الاثنين مع أنّ ظرف امتثاله هو يوم الجمعة، فهو متضمّن لنحو من التضادّ، لأنّ كلّ بعثٍ يطلب من العبد انبعاثاً وكلّ طلب يتعقّب

امتثالًا، فلو كان الوجوب فعليّاً يوم الاثنين كان معناه وجوب الامتثال في ذلك اليوم مع أنّ المفروض أنّ زمان الامتثال هو يوم الجمعة فلازم وجود الطلب يوم الاثنين هو فعلية الوجوب في ذلك اليوم، ولازم عدم وجوب امتثاله يوم الاثنين عدم فعليّة الوجوب في ذلك اليوم، وليس هذا إلّاالتضادّ.

والشاهد على ما ذكرناه ما تسالم عليه الفقهاء على أنّه لو مات المكلّف بعد استطاعته في الطريق فلا يجب قضاء الحجّ عنه مع تصريحهم بأنّ الوجه في ذلك أنّ الاستطاعة هي أعمّ من الاستطاعة الماليّة والبدنيّة والطريقية والزمانيّة، فإنّ هذا أقوى شاهد على أنّ ارتكازهم الفقهي والمتشرّعي يكون على أنّ جميع هذه الأربعة شرط لوجوب الحجّ لا خصوص الاستطاعة الماليّة، ولذلك أوّلوا ما ورد في بعض الرّوايات ممّا ظاهره وجوب القضاء بامور اخرى، وذكروا في توجيهه وجهان: أحدهما: حمله على الاستحباب، والثاني: حمله على من استقرّ عليه الحجّ من قبل.

إن قلت: إنّ مثل هذا التعبير (أي يجب عليك من هذا اليوم إكرام زيد يوم الجمعة) شائع عند العرف.

قلنا: شيوع مثل هذا التعبير عند العرف يحتمل فيه وجوه اخرى:

منها: أن يكون من قبيل الواجب المشروط، فترجع القضيّة المزبورة إلى قولك: إذا كان يوم الجمعة كان عليك إكرام زيد) ويرجع مثل قولك «أكرم ضيوفي يوم الجمعة» إلى قولك: «إذا كان يوم الجمعة وقدم ضيوفي فأكرمهم» خصوصاً بملاحظة ما مرّ من أنّ الأحكام القانونيّة ترجع إلى قضايا حقيقيّة، والقضايا الحقيقية أيضاً ترجع إلى قضايا شرطيّة.

ومنها: أن يكون مجازاً بعلاقة الأوّل والمشارفة كما إذا قلت «جاء زيد» مع أنّه لم يجي ء بعدُ، بل سيأتي عن قريب.

ومنها: أن يكون كناية عن إيجاب تهيئة المقدّمات، بأن يكون مراد المولى من تصريحه انوار الأصول،

ج 1، ص: 369

بوجوب إكرام ضيوفه يوم الجمعة من هذا اليوم وجوب تهيئة مقدّمات الإكرام من هذا اليوم، وأمّا الاحتمال الآخر الذي يكون احتمالًا رابعاً في المسألة وهو أن يتعلّق الوجوب من الآن بذي المقدّمة (لا المقدّمة) الذي يأتي فيما بعد فمردود لاشتماله على التناقض كما مرّ، وليت شعري كيف يرضى القائل بالواجب المعلّق بمثل هذا التناقض الواضح بأن يقول المولى للعبد: «أيّها العبد اريد منك الآن إكرام زيد في يوم الجمعة» فله أن يقول في جوابه: «إن كنت تريد الآن فلماذا تقول يوم الجمعة؟ وإن كنت تريد يوم الجمعة فلماذا تقول الآن؟» إلّاأن يكون مرادك تهيئة المقدّمات من الآن.

ثمرة المسألة:

والثمرة التي تتصوّر في المسألة وهي التي دعت صاحب الفصول إلى القول بالواجب المعلّق إنّما هي حلّ فتاوى في الفقه لم يكن لها توجيه عنده إلّاكونها من قبيل الواجب المعلّق.

منها: فتواهم بوجوب تهيئة مقدّمات الحجّ قبل الموسم وبعد الاستطاعة.

ومنها: فتواهم بوجوب الأغسال في الليل للجنب والحائض والمستحاضة في شهر رمضان قبل طلوع الفجر.

ومنها: فتواهم بوجوب تعلّم أحكام الصّلاة قبل مجي ء وقتها إذا علم بعدم القدرة على التعلّم بعده، فكأنّ صاحب الفصول لم ير طريقاً للتخلّص عن هذه الفتاوي إلّاالقول بتصوّر قسم للواجب سمّاه بالواجب المعلّق.

ولكن الإنصاف أنّ الطريق ليس منحصراً في ذلك بل هناك طرق اخرى لتوجيهها يمكن قبول بعضها:

منها: طريق الواجب المشروط على نحو ما نسب إلى الشّيخ الأعظم رحمه الله، ولكن قد مرّ أنّه نفس الواجب المعلّق وليس أمراً آخر.

ومنها: أنّ الإجماع قام على وجوب هذه الامور وجوباً نفسياً تهيّئياً، أمّا كونه نفسياً فلعدم إمكان ترشّحه من وجوب ذي المقدّمة بناءً على أنّ المفروض عدم كون ذي المقدّمة واجباً فعلًا، وأمّا كونه تهيئياً فلأنّه

وإن لم يترشّح من وجوب ذي المقدّمة ولكن الحكمة فيه هي التهيّؤ

انوار الأصول، ج 1، ص: 370

لإتيان ذي المقدّمة في زمانه، فلا يتصوّر لتركه عقاب مستقلّ بل حيث إنّ تركه يؤدّي إلى ترك ذي المقدّمة في ظرفه فيكون العقاب مترتّباً على خصوص ترك ذي المقدّمة فحسب.

ومنها: أن يكون من قبيل الواجب المشروط بالشرط المتأخّر، أي يكون إدراك ذي المقدّمة في ظرفه شرطاً متأخّراً لوجوب هذه المقدّمات من الآن، فمثلًا إدراك الحجّ في الموسم شرط متأخّر لوجوب مقدّماته قبل الموسم.

ولكن هذا خلاف ظاهر الأدلّة، لأنّ ظاهرها أنّ الشرط المذكور فيها من قبيل الشرط المقارن.

ومنها: أنّ حفظ أغراض المولى يقتضي عقلًا وجوب إتيان المقدّمات المزبورة قبل حلول زمان الواجب عند الشارع، أي العقل يكشف عن وجوبها شرعاً، فإذا علمنا أنّ غرض الشارع تعلّق بالحجّ مثلًا على أيّ حال: وأنّه لا يرضى بتركه (كما أنّه كذلك بالنسبة إلى مثل الحجّ) فلا مانع من إيجاب الشارع تحصيل المقدّمات قبل الموسم من باب أنّ انتظاره إلى أيّام الحجّ يساوق تعطيل الحجّ غالباً، بل هو نقض للغرض، وهو قبيح على المولى الحكيم.

وبالجملة هناك قرينة عقليّة على وجوب المقدّمات التي يوجب تركها تفويت غرض المولى ومصلحة الواجب.

وهنا طريق آخر لحلّ الإشكال، وهو أنّ الملازمة بين وجوب المقدّمة وذيها وإن كانت ثابتة ولكنّهما ليسا من قبيل العلّة والمعلول بل كلاهما من قبيل الحكم والإرادة الصادرة من نفس المولى، والملازمة من قبيل الداعي، والعلّة في الواقع نفس المولى بالنسبة إلى الجميع.

وكما أنّ وجود شي ء في الحال يمكن أن يكون داعياً إلى أمرٍ- كذلك وجوده في المستقبل.

إن قلت: فعلى هذا لا بدّ من وجوب جميع المقدّمات قبل مجي ء زمان الواجب كالوضوء ومعرفة القبلة بالنسبة إلى الصّلاة.

قلنا:

إنّه كذلك في خصوص المقدّمات التي يوجب تركها تفويت الغرض في زمانه حتماً لا مثل الوضوء الذي يحتمل إمكان تحصيله في الوقت.

بقي هنا شي ء:

إذا شككنا في أنّ القيد يرجع إلى الوجوب أو إلى الوجود، وبتعبير آخر: يرجع إلى الهيئة أو

انوار الأصول، ج 1، ص: 371

إلى المادّة، فما هو مقتضى الأصل اللّفظي والعملي؟

أمّا الأصل العملي فنقول: لا بدّ فيه من التفصيل بين الشرط المشكوك رجوعه إلى المادّة أو الهيئة وبين مشروطه.

أمّا الشرط كالإستطاعة بالنسبة إلى الحجّ، فلا إشكال في أنّ مردّ الشكّ فيه إلى الشكّ في وجوب تحصيله وعدمه، والأصل حينئذٍ هو البراءة كما لا يخفى، وقد أفتى به بعض الفقهاء في باب صلاة الجمعة بإنّ إقامة صلاة الجمعة من شرائط الوجوب لا الواجب لظاهر قوله تعالى:

«إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ...» حيث إنّ ظاهرها أنّ السعي إلى ذكر اللَّه وحضور الجمعة متوقّف على إقامتها من قبل جماعة والنداء إليها، وبدون ذلك لا يجب الحضور. ولو فرض الشكّ في ذلك فالأصل هو البراءة عن وجوب الإقامة.

وأمّا بالنسبة إلى المشروط كالحجّ بالنسبة إلى الاستطاعة، فيتصوّر فيه حالات ثلاثة:

فتارةً: لا يحصل الشرط فلا تتحقّق الاستطاعة فلا إشكال أيضاً في أنّ الأصل هو البراءة عن وجوب الحجّ، لأنّ الشكّ في كون الاستطاعة شرطاً للوجوب أو للواجب يسري إلى المشروط، ونتيجته الشكّ في أصل وجوب الحجّ والأصل فيه البراءة.

واخرى: يتحقق الشرط فتتحقق الاستطاعة مثلًا، فلا كلام في وجوب الحجّ وهو واضح.

وثالثة: فيما لو تحقق الشرط ثمّ زال، فيتصوّر له أيضاً ثلاث حالات:

الاولى: ما إذا علمنا أنّ الشرط قد شُرط حدوثاً وبقاءً فلا إشكال في عدم وجوب الحجّ من دون حاجة إلى جريان البراءة، للعلم بعدم وجوبه حينئذٍ، وذلك نظير صحّة

البدن بالنسبة إلى الصّيام فإنّه شرط له حدوثاً وبقاءً.

الثانيّة: ما إذا علمنا أنّ الشرط هو شرط حدوثٍ فحسب فلا كلام أيضاً في وجوب المشروط لحصول شرطه.

الثالثة: ما إذا شككنا في أنّه شرط حدوث وبقاء معاً أو حدوث فقط، فالأصل هو الاستصحاب لثبوت وجوب المشروط بحدوث الشرط، فإذا شككنا في بقائه من جهة الشكّ في شرطيّة بقاء الشرط كان الأصل هو استصحاب بقاء الوجوب.

إن قلت: لا بدّ في الاستصحاب من وحدة الموضوع (أي موضوع القضيّة المتيقّنة والمشكوكة) وهي مفقودة في المقام لأنّ الموضوع في القضيّة المتيقّنة إنّما هو عنوان المستطيع،

انوار الأصول، ج 1، ص: 372

والمفروض زواله بقاءً.

قلنا: الموضوع للقضيّة المتيقّنة إنّما هو عنوان المكلّف، وأمّا الاستطاعة فهي تعدّ من حالات الموضوع لا مقوّماته، وعنوان المكلّف باقٍ على الفرض، وسيأتي في مباحث الاستصحاب تعيين الملاك في كون شي ء من حالات الموضوع أو مقوّماته.

هذا كلّه بالنسبة إلى الأصل العملي، وهو البراءة في موردين والاستصحاب في مورد واحد.

أمّا الأصل اللّفظي: فيدور الأمر فيه في الواقع مدار إطلاق المادّة وإطلاق الهيئة وأنّه هل يقدّم إطلاق الهيئة على إطلاق المادّة حتّى تكون نتيجته رجوع القيد إلى المادّة وكون الشرط شرطاً للواجب، أو يكون المقدّم إطلاق المادّة فيرجع القيد إلى الهيئة ونتيجته كون الشرط شرطاً للوجوب؟

ذهب الشّيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله إلى تقديم إطلاق الهيئة على إطلاق المادّة، ويمكن الاستدلال له بوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ إطلاق الهيئة شمولي وإطلاق المادّة بدلي، ومن المعلوم أنّ الإطلاق الشمولي ممّا يقدّم على البدلي، فإذا شككنا مثلًا في قوله تعالى: «للَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا» أنّ قيد الاستطاعة يرجع إلى هيئة «للَّه على الناس» التي مفادها وجوب الحجّ، أو يرجع إلى المادّة (وهي الحجّ)

قدّمنا إطلاق الهيئة، وصارت النتيجة وجوب الحجّ مطلقاً مع اشتراط صحّته بالاستطاعة، يعني يجب تحصيل الاستطاعة له.

الوجه الثاني: أنّ تقييد الهيئة ممّا يوجب بطلان محلّ الإطلاق في المادّة بخلاف العكس، أي لا يبقى مع تقييد الهيئة محلّ لاطلاق المادّة فإذا فرض تقييد مفاد الهيئة وهو الوجوب بالاستطاعة مثلًا فلا يبقى محلّ لاطلاق الحجّ بالنسبة إلى الاستطاعة، إذ الحجّ لا ينفكّ عن الاستطاعة فيقيّد بتقييد الوجوب قهراً، بخلاف ما إذا فرض تقييد الحجّ بالاستطاعة، فيبقى معه مجال لاطلاق الوجوب، وذلك لجواز تقييده حينئذ بالاستطاعة، ومن المعلوم أنّه كلّما دار الأمر بين تقييدين أحدهما يبطل محلّ الإطلاق في الآخر دون العكس كان العكس أولى، لأنّ التقييد وإن لم يكن مجازاً ولكنّه خلاف الأصل، ورجوع القيد إلى المادّة لازمه ارتكاب خلاف واحد للأصل لأنّه تقييد واحد، ورجوع القيد إلى الهيئة لازمه ارتكاب خلافين للأصل لأنّه يرجع إلى تقييدين.

انوار الأصول، ج 1، ص: 373

إن قلت: كيف يستدلّ الشّيخ الأعظم رحمه الله بهذا الوجه مع أنّه قائل برجوع القيد إلى المادّة؟

على أيّ حال: فلا يتصوّر عنده تقييد الهيئة عقلًا حتّى يدور الأمر بينه وبين تقييد المادّة.

قلنا: إنّه كذلك ولكنّه كان يحتمل رجوع القيد إلى الهيئة في ظاهر اللفظ ومقام الإثبات، وأنّه وإن كان يرجع إلى المادّة لبّاً ولكن لهذا الظهور أثر عملي، وهو عدم ترشّح الوجوب من ذي المقدّمة إلى مثل هذا القيد، فقد مرّ منه أنّ القيود الراجعة إلى المادّة على قسمين: قسم يكون راجعاً إلى المادّة في ظاهر اللفظ أيضاً فيترشّح الوجوب من ذي المقدّمة إليه فيجب تحصيله، وقسم لا يكون راجعاً إليها في ظاهر اللفظ، فهو وإن كان راجعاً إليها لبّاً ولكن نستكشف من عدم أخذه قيداً للمادّة

في ظاهر اللّفظ ومقام الإثبات عدم ترشّح الوجوب إليه، أي عدم وجوب تحصيله.

فظهر أنّ لرجوع القيد إلى الهيئة وعدم رجوعه إليها ثمرة حتّى على مبنى الشّيخ الأعظم رحمه الله، فالوجه الثاني المذكور لمقالته في مقام الشكّ أيضاً لا غبار عليه من هذه الناحية.

ولكن يمكن الجواب عن كلا الوجهين.

أمّا الوجه الأوّل: فيجاب عنه أوّلًا: بأنّ «تقسيم الإطلاق إلى الشمولي والبدلي غير صحيح لأنّ الذي يستفاد من الإطلاق ليس إلّاكون ما وقع موضوعاً للحكم تمام العلّة لثبوته، وأمّا الشمول والبدليّة بمعنى كون الحكم شاملًا لجميع الأفراد أو فرد منها، أو بمعنى أنّ الطلب هل يسقط بإيجاد فرد منها أو بإيجاد كلّها فغير مربوط بالاطلاق بل لا بدّ في استفادة أيّ واحد من الشمول والبدل من إلتماس دليل آخر غير الإطلاق» «1»، وهذا الجواب تامّ لا غبار عليه.

وثانياً: بأنّ المناط في تقدّم أحد الإطلاقين على الآخر ليس هو كونه شمولياً فإنّ الشمولي ليس بأقوى من البدلي، بل هو الاستناد إلى الوضع وعدمه، فإذا كان العموم الشمولي مستنداً إلى الوضع كما في صيغة كلّ ونحوها، والإطلاق البدلي مستنداً إلى مقدّمات الحكمة كالاطلاقات المنعقدة لأسامي الأجناس نوعاً قدم العموم الشمولي الوضعي على الإطلاق البدلي المستفاد من مقدّمات الحكمة لكن لا بملاك كونه شوليّاً بل بملاك كونه وضعيّاً وأنّه أظهر من البدلي حينئذٍ، وإذا انعكس الأمر فكان العموم الشمولي مستنداً إلى مقدّمات الحكمة كما في «أحلّ اللَّه البيع» والإطلاق البدلي مستنداً إلى الوضع كما في كلمة «أيّ»، قدّم الإطلاق البدلي انوار الأصول، ج 1، ص: 374

الوضعي على العموم الشمولي المستفاد من مقدّمات الحكمة، وعليه ففي المقام حيث إنّ كلًا من إطلاق الهيئة وإطلاق المادّة مستند إلى مقدّمات الحكمة فلا ترجيح لأحدهما على

الآخر.

وثالثاً: لو سلّمنا أقوائيّة الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي لكن لا نسلّم إنّها توجب تقديم الشمولي على البدلي ما لم يصل إلى حدّ الظهور العرفي للفظ في الشمول بحيث تعدّ البدليّة مخالفة للظهور.

وأمّا الوجه الثاني: فالجواب عنه واضح، لأنّ الأمر في ما نحن فيه دائر بين تقييد وتقييد، لا بين تقييد وتقييدين: لأنّ تقييد الهيئة يوجب ارتفاع موضوع التقييد في المادّة على نحو السالبة بانتفاع الموضوع لا إنّه يلازم تقييدها مع بقاء موضوعه، فإن قيّدنا الهيئة لزم تقييد واحد، وإن قيّدنا المادّة لزم تقييد واحد أيضاً فالأمر دائر بين تقييد وتقييد.

إلى هنا تمّ الكلام عن التقسيم الثاني للواجب.

الثالث: تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري
اشارة

وقد عرّف الأصحاب الواجب النفسي بأنّه عبارة عن ما أمر به لنفسه، والغيري بأنّه عبارة عن ما أمر به لغيره.

وهيهنا إشكال معروف وهو أنّ هذا التعريف يوجب كون جلّ الواجبات غيريّة لأنّها إنّما وجبت لغيرها وهو المصالح التي تترتّب عليها، فينحصر الواجب النفسي في مثل معرفة اللَّه تعالى حيث إنّها مطلوبة لذاتها.

ولعلّ هذا أوجب عدول المحقّق الخراساني رحمه الله من التعريف المشهور إلى قوله في الكفاية:

«فإن كان الداعي فيه هو التوصّل به إلى واجب لا يكاد التوصّل بدونه إليه لتوقّفه عليه فالواجب غيري وإلّا فهو نفسي، سواء كان الداعي محبوبيّة الواجب بنفسه كالمعرفة باللَّه أو محبوبيته بما له من فائدة مترتّبة عليه كأكثر الواجبات من العبادات والتوصّليات».

ولكنّه أورد عليه أخيراً بما حاصله: أنّ أكثر الواجبات النفسيّة التي أمر بها لأجل ما فيها من الخواصّ والفوائد على هذا تكون واجبات غيريّة، فإنّ تلك الفوائد لو لم تكن لازمة واجبة

انوار الأصول، ج 1، ص: 375

لما دعت المولى إلى إيجاب ذي الفوائد فينطبق حينئذٍ على أكثر الواجبات النفسيّة تعريف الغيري.

ثمّ ذكر

في مقام دفع هذا الإيراد وتصحيح التعريف ما حاصله: إنّ الخواص والفوائد المترتّبة على أكثر الواجبات النفسيّة وإن كانت لازمة قطعاً ولكنّها حيث كانت خارجة عن تحت قدرة المكلّف لم يصحّ تعلّق التكليف بها لتكون واجبة وينطبق على أكثر الواجبات النفسيّة تعريف الغيري.

وأجاب عنه: بأنّ الفوائد وإن كانت بنفسها خارجة عن تحت القدرة ولكنّها مقدورة للمكلّف بالواسطة، وهي تكفي في صحّة تعلّق التكليف بها فإنّ القدرة على السبب قدرة على المسبّب، ولذا قد يؤمر بالتطهير والتمليك والطلاق إلى غير ذلك من المسبّبات التي هي خارجة بنفسها عن تحت القدرة.

ثمّ صحّحه بطريق آخر وحاصله: أنّ الواجب النفسي معنون بعنوان حسن في نفسه ولم يؤمر به إلّالحسنه الكذائي وإن كان مقدّمة لواجب آخر، أي لما يترتّب عليه من الخواصّ والفوائد اللازمة الواجبة، والواجب الغيري ما أمر به لأجل واجب آخر وإن كان معنوناً بعنوان حسن في نفسه كما في الطهارات الثلاثة (انتهى).

واستشكل عليه المحقّق النائيني رحمه الله: بأنّ «حسن الأفعال المقتضى لايجابها إن كان ناشئاً من كونها مقدّمة لما يترتّب عليها من المصالح فإشكال لزوم كون جلّ الواجبات واجبات غيريّة قد بقي على حاله، وإن كان الحسن ثابتاً لها في حدّ ذواتها مع قطع النظر عن ما يترتّب عليها من المصالح فلازمه أن لا يكون الوجوب المتعلّق بها متمحّضاً في النفسيّة ولا في الغيريّة لثبوت ملاكهما حينئذٍ كما في أفعال الحجّ فإنّ المتقدّم منها واجب لنفسه ومقدّمة للمتأخّر فلا يكون وقع للتقسيم حينئذٍ أصلًا» «1».

ثمّ أجاب المحقّق المذكور عن أصل الإشكال بأنّ «الأفعال بالإضافة إلى ما يترتّب عليها من المصالح من قبيل المعدّات التي يتوسّط بينها وبين المعلول امور غير اختياريّة، فلا يمكن تعلّق الإرادة التكوينيّة بها،

فكذلك التشريعيّة لما بيّنا من الملازمة بينهما إمكاناً وامتناعاً، فهي انوار الأصول، ج 1، ص: 376

من قبيل الدواعي لتعلّق الإرادة بالأفعال لا أنّها بأنفسها تحت التكليف حتّى يكون الأمر المتعلّق بالأفعال مترشّحاً من الأمر المتعلّق بها، وما قيل من أنّها مقدورة بالواسطة ولا فرق في القدرة بين أن تكون بلا واسطة وأن تكون بالواسطة قد عرفت ما فيه من أنّه إنّما يتمّ في الأفعال التوليديّة لا في العلل المعدّة» «1».

أقول: يمكن النقاش في جميع ما ذكر، أمّا ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله بعنوان الحلّ النهائي للاشكال من أنّ الواجب النفسي معنون بعنوان حسن في نفسه، ففيه: أنّه لا تتصوّر عبادة يكون لها حسن ذاتي مع قطع النظر عن المصالح التي تترتّب عليها بعد تعلّق الأمر بها التي هي عبارة عمّا ورد في قوله عليه السلام: «فرض اللَّه الإيمان تطهيراً من الشرك والصّلاة تنزيهاً عن الكبر والصّيام ابتلاءً لاخلاص الخلق والحجّ تقوية للدين والجهاد عزّاً للإسلام» «2»

وغير ذلك من نظائره، حتّى في مثل السجود والركوع حيث إنّا لا نعقل لحسنهما معنىً غير ما يترتّب عليهما من المصالح من تربية النفوس والقرب إلى اللَّه، نعم أنّه يتصوّر في مثل معرفة اللَّه وغيرها من أشباهها.

وبهذا يظهر ما في كلام بعض الأعلام في المحاضرات حيث إنّه سلّم وجود حسن ذاتي في مثل السجود والركوع مع قطع النظر عن تعلّق الأمر به.

وأمّا ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله من أنّ أفعال الواجبات بالإضافة إلى ما يترتّب عليها من المصالح من قبيل المعدّات لا الأسباب.

ففيه: أنّه مخالف لظواهر الآيات والرّوايات، حيث إنّ ظاهرها أنّ الصّلاة مثلًا بنفسها مع جميع اجزائها وشرائطها علّة للتنزيه عن الكبر أو للنهي عن الفحشاء والمنكر، وهكذا

الصّوم بالنسبة إلى الاخلاص، والجهاد بالنسبة إلى العزّة، والحجّ بالنسبة إلى تقوية الدين، ولا أقلّ من أنّها مقتضية تؤثّر أثرها مع اجتماع شرائطه لا أنّها معدّات لإفاضة تلك المصالح من جانب اللَّه تعالى.

فالأولى في الجواب أن يقال: إنّ المصالح التي تترتّب على الأفعال امور خارجة عن دائرة علم المكلّفين بتفاصيلها، وبالتبع خارجة عن دائرة قدرتهم بل أنّها معلومة للمولى وتكون انوار الأصول، ج 1، ص: 377

دواعي لأوامره، وحينئذ لا يعقل تكليف العباد بتحصيلها ولا محالة تكون فوق دائرة الأمر لا تحته.

ويشهد لما ذكرنا امور:

الأمر الأوّل: ما اشير إليه من أنّ العبد غالباً يكون جاهلًا بتفاصيل المصالح التي تترتّب على الأحكام، فهو يعلم إجمالًا بوجود رابطة بين الصّلاة مثلًا والنهي عن الفحشاء وإنّ الصّيام جنّة من النار، وأمّا الجزئيات والخصوصيّات فهي مجهولة له بل قد لا يعلم بعض المصالح لا تفصيلًا ولا إجمالًا كجعل صلاة الصبح ركعتين، هذا مضافاً إلى كون المصلحة في كثير من مواردها ليست دائمية وبمنزلة العلّة بل بصورة الأغلبية وبمثابة الحكمة كعدم اختلاط المياه في وجوب الأخذ بالعدّة.

الأمر الثاني: أنّ المصلحة قد تكون في نفس الأمر والإنشاء ولا مصلحة في متعلّقه كما في الأوامر الامتحانيّة في الشرع ونظير الأوامر التي تصدر من جانب الموالي العرفيّة أو الامراء عند نصبهم لمجرّد تثبيت المولويّة أو الأمارة.

الأمر الثالث: أنّ المصلحة قد لا تترتّب على فعل مكلّف خاصّ حتّى يؤمر بتحصيلها بل أنّها تترتّب على أفعال جماعة من المكلّفين بل قد تترتّب على أفعال أجيال منهم نظير أمر الإمام عليه السلام في تلك الرّواية المعروفة بكتابة الأحاديث للأجيال القادمة في غيبة الإمام عليه السلام، فإنّ المصلحة التي تترتّب على هذا الأمر تظهر بعد مضيّ مدّة طويلة من

الزمان، نسلًا بعد نسل، وجماعة بعد جماعة.

نعم مع ذلك كلّه قد يبيّن المولى شيئاً من المصالح لمجرّد تشويق العباد وإيجاد الرغبة والداعي فيهم إلى إتيان التكاليف نظير قوله تعالى «إنّ الصّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر» ونظير جميع الرّوايات التي وردت في باب علل الشرائع.

إن قلت: إن لم تكن المصالح داخلة في دائرة الحكم الشرعي للمكلّف فكيف يقال بوجوب حفظ الغرض في كلماتهم كما مرّ كراراً في الأبحاث السابقة؟

قلنا: المراد من الغرض الواجب تحصيله في هذا التعبير إنّما هو نفس المأمور به قبل تعلّق الأمر به أو شبه ذلك لا الآثار والمصالح المترتّبة عليه، فالغرض من الحجّ مثلًا (الذي تمسّكنا في إثبات وجوب مقدّماته المفوتة فيه من قبيل تهيئة الزاد والراحلة بوجوب حفظ الغرض) إنّما

انوار الأصول، ج 1، ص: 378

هو نفس مناسك الحجّ التي لا يرضى الشارع بتركها لا ما يتربّ عليها من المصالح.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ تعريف المشهور للواجب النفسي والغيري ممّا لا غبار عليه، وإنّ ما اورد عليه من الإشكال المعروف ليس بوارد، فالواجب النفسي هو ما أمر به لنفسه، والغيري ما أمر به للوصول إلى واجب آخر.

ثمّ إنّه إذا شكّ في واجب أنّه نفسي أو غيري كما إذا شكّ في أنّ غسل الجنابة واجب نفسي مطلوب لنفسه أو أنّه واجب لأجل واجب آخر كالصّلاة والصّيام؟ فما هو مقتضى الأصل اللّفظي والعملي؟

وقد مرّ إجمال البحث عنه في الفصل الخامس من مبحث الأوامر، وقلنا هناك أنّ موضعه الأصلي هو البحث في تقسيمات الواجب:

فنقول: أمّا الأصل اللّفظي فقد ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى أنّ مقتضى إطلاق صيغة الأمر كون الواجب نفسياً لا غيريّاً، لأنّه لو كان شرطاً لغيره لوجب التنبيه عليه على المتكلّم الحكيم في مقام

البيان.

وقد أورد عليه أوّلًا: إنّ الصيغة موضوعة لمصاديق الطلب الحقيقي المنقدح في نفس الطالب لا لمفهوم الطلب فإنّ الفعل لا يتّصف بالمطلوبيّة إلّابواسطة تعلّق واقع الإرادة وحقيقتها عليه لا بواسطة مفهومها، ومن المعلوم أنّ الفرد من الطلب الحقيقي المنقدح في نفس الطالب جزئي لا يعقل فيه التقييد والإطلاق، فلا معنى للتمسّك بإطلاق الصيغة لكون الواجب نفسياً لا غيريّاً «1».

ولكن اجيب عنه: إنّ مفاد الهيئة ليس الأفراد بل هو مفهوم الطلب لأنّ الطلب الحقيقي من الصفات الخارجيّة كالشجاعة والجود ونحوهما لا الامور الاعتباريّة كالزوجيّة والملكيّة وغيرهما ممّا يقبل الإنشاء بالصيغة (نعم إنّ منشأ الطلب الإنشائي ربّما يكون هو الطلب الحقيقي) ومن المعلوم أنّ مفهوم الطلب الإنشائي ممّا يقبل التقييد والإطلاق، فقد وقع الخلط بين المفهوم والمصداق.

أقول: يرد عليه ما مرّ في اتّحاد الإرادة والطلب من أنّ الطلب ليس قائماً بالنفس بل القائم انوار الأصول، ج 1، ص: 379

بها هو الإرادة وهي غير الطلب، وأمّا الطلب فالحقيقي منه عبارة عن التصدّي الخارجي نحو المطلوب، والإنشائي منه إنّما هو بعث الغير واغرائه إلى المطلوب ولا إشكال في أنّ البعث إيجاد والإيجاد أمر جزئي حقيقي لا يقبل الإطلاق والتقييد.

والأولى في الجواب عن الإشكال أن يقال: إنّ الجزئي وإن استحال تقييده بعد تحقّقه في الخارج إلّاأنّه لا ريب في إمكان تقييده وتضييقه قبل الإيجاد من باب «ضيق فم الركّية».

وأورد على التمسّك بالاطلاق ثانياً: بأنّ «المعاني الحرفيّة وإن كانت كلّية إلّاأنّها ملحوظة بتبع لحاظ متعلّقاتها أعني المعاني الاسمية لكونها قد إتّخذت آلة لملاحظة أحوال المعاني الاسمية، وما كان هذا شأنه فهو دائماً مغفول عن ملاحظته بخصوصه، وعليه فكيف يعقل توجّه الإطلاق والتقييد إليه؟ لاستلزامه الالتفات إليه بخصوصه في حال كونه مغفولًا عنه

بخصوصه وهذا خلف» «1».

والجواب عنه واضح وذلك لما مرّ في مبحث المعاني الحرفيّة من أنّ المعاني الحرفيّة تابعة للمعاني الاسمية في الوجود الذهني والخارجي، وهو لا يلازم كونها مغفولًا عنها بل أنّها قد تصير ملحوظة وملتفتاً إليها بتمام اللحاظ والتوجّه، نظير ما نقل عن المحقّق نصير الدين الطوسي رحمه الله حيثما حضر في محضر درس المحقّق رحمه الله صاحب الشرائع وأفتى المحقّق باستحباب التياسر في القبلة لأهل العراق فسأله المحقّق الطوسي رحمه الله: التياسر من القبلة أو إلى القبلة؟

فأجاب المحقّق رحمه الله بقوله: «من القبلة إلى القبلة»، فلا مانع من إطلاق المعنى الحرفي وتقييده من هذه الناحية أيضاً.

هذا كلّه بالنسبة إلى الأصل اللّفظي، فقد تحصّل أنّ التمسّك بالاطلاق تامّ.

أمّا الأصل العملي فيما إذا لم يكن هناك إطلاق فيتصوّر له ثلاث صور:

الصورة الاولى: ما إذا شككنا في النفسيّة والغيريّة قبل مجي ء وقت ما يحتمل كون المشكوك مقدّمة له، كما إذا شككنا قبل الظهر في أنّ غسل الجنابة واجب نفسي أو غيري للصّلاة، فلا إشكال في أنّ الأصل في هذه الصورة إنّما هو البراءة، فإنّه إن كان غيريّاً لم يجب الإتيان به لعدم وجوب ذي المقدّمة فعلًا.

انوار الأصول، ج 1، ص: 380

الصورة الثانيّة: ما إذا شككنا فيها بعد مجي ء وقت ما يحتمل كون المشكوك مقدّمة له وبعد فعليّة وجوبه، فالأصل فيه أيضاً هو البراءة عن وجوب إتيانه قبل إتيان ذي المقدّمة، لأنّ الشكّ يرجع إلى الشكّ في وجوب إتيانه قبل ذي المقدّمة، أي يرجع إلى الشكّ في الشرطيّة، أعني شرطيّة الغسل للصّلاة مثلًا، والأصل فيه هو البراءة، نعم يجب الإتيان بهذا الواجب على كلّ حال للعلم بوجوبه حينئذ، إمّا لنفسه أو لغيره.

الصورة الثالثة: ما إذا جاء وقت ما

يحتمل كونه ذا المقدّمة ومضي وقته كما إذا صارت المرأة حائضاً بعد دخول وقت الصّلاة بعد أن كانت جنباً، فلا نعلم أنّ غسل الجنابة واجب غيري حتّى يظهر سقوط وجوبه بسقوط وجوب الصّلاة أو أنّه واجب نفسي حتّى يكون باقياً على وجوبه؟

لا إشكال في أنّ الأصل هو الاستصحاب حيث إنّ الشكّ هنا يرجع إلى الشكّ في سقوط وجوب ثبت من قبل، والأصل بقاؤه (بناءً على قول القائلين بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية).

بقي هنا امور:

الأمر الأوّل: هل أنّ هنا واجباً آخرا

ما أفاده بعض الأعلام من أنّه «قد يتوهّم أنّ هنا قسماً آخر من الواجب لا يكون نفسياً ولا غيريّاً، وذلك كالمقدّمات المفوتة مثل غسل الجنب ليلًا لصوم غد، وركوب الدابّة ونحوه للإتيان بالحجّ في وقته بناءً على استحالة الواجب التعليقي.

أمّا أنّه ليس بواجب غيري فلأنّ الواجب الغيري على مسلك المشهور ما كان وجوبه معلولًا لوجوب واجب نفسي ومترشّح منه، فلا يعقل وجوبه قبل إيجابه، وأمّا أنّه ليس بواجب نفسي فلأنّ الواجب النفسي ما يستوجب تركه العقاب، والمفروض أنّ ترك هذا الواجب لا يستوجب العقاب عليه وإنّما يستحقّ العقاب على ترك ذي المقدّمة» «1».

انوار الأصول، ج 1، ص: 381

أقول: الحقّ- كما أفاد هذا العلم في دفع هذا التوهّم- عدم وجود قسم ثالث للواجب لأنّه يمكن أن تكون الموارد المزبورة من مصاديق الواجب الغيري لما مرّ من أنّ وجوب المقدّمة لا ينشأ ولا يترشّح من وجوب ذي المقدّمة كترشّح المعلول من علّته حتّى لا يعقل وجوبها قبل إيجابه، بل العلّة لوجوبها إنّما هي إرادة المولى، وأمّا وجوب ذي المقدّمة فهو مجرّد داعٍ لارادته، ومن المعلوم أنّ الداعي للإرادة كما يمكن أن يكون أمراً حالياً كذلك يمكن أن يكون أمراً استقبالياً، هذا- وقد مرّ أنّ

هذا هو أحد طرق حلّ الإشكال في المسألة، وقد ذكرنا هناك طرقاً اخر لحلّها، منها كون وجوب المقدّمة قبل إيجاب ذيها من باب وجوب حفظ غرض المولى وقد مرّ تفصيلها في البحث عن الواجب المعلّق فراجع.

الأمر الثاني: في ترتّب الثواب على الواجب الغيري وعدمه

والتحقيق في المسألة وتنقيح المقال فيها يحتاج إلى رسم مقدّمة قبل الورود في أصل البحث، وهي أنّ الثواب المترتّب على الواجب النفسي هل هو من باب الاستحقاق، أو التفضّل؟

اختلفت فيه كلمات الفقهاء والمتكلّمين، والمشهور والمعروف أنّه من باب الاستحقاق، ولكن حكي عن الشّيخ المفيد رحمه الله وجماعة أنّه من باب التفضّل من اللَّه سبحانه، ولا إشكال في أنّ الظاهر من آيات الكتاب هو الأوّل حيث تعبّر عن الثواب بالأجر في عدد كثير منها «1» وأكثرها مربوطة بمسألة الجزاء في يوم القيامة، ومن المعلوم أنّ كلمة «الأجر» ظاهرة عند العرف في الاستحقاق لا التفضّل فلا يعبّر عرفاً عن الضيافة والاطعام تطوّعاً وتقرّباً إلى اللَّه تعالى مثلًا بأجر الضيوف كما لا يخفى، كما أنّ ظاهر المقابلة بكلمة الباء في مثل قوله تعالى:

«سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ» «2»

وقوله تعالى: «ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ» «3»

أيضاً هو الاستحقاق، بل وقوع المقابلة بين الأجر والفضل في مثل قوله تعالى: «لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ انوار الأصول، ج 1، ص: 382

وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» «1»

ظاهر في هذا المعنى أيضاً فإنّ الأجر والفضل إذا اجتمعا افترقا.

هذا- ولكن الإنصاف أنّ الاستحقاق هنا ليس من قبيل استحقاق العامل الأجير لُاجرة عمله، فإنّ المكلّفين هم العبيد واللَّه تعالى هو المولى، ومن المعلوم أنّه يجب على العبيد اطاعة مواليهم لحقّ المولويّة والطاعة، فإنّ العبد بجميع شؤونه وأمواله ملك للمولى، فلا اختيار له في مقابله حتّى يطلب منه شيئاً بإزاء عمله بل أن الوجود كلّه هو من

ساحته ويفاض على الموجودات آنفاً فآناً.

هذا- مضافاً إلى أنّ التكاليف الشرعيّة الصادرة من جانب المولى الحقيقي مشتملة على مصالح ترجع إلى العباد أنفسهم، فهي بحسب الحقيقة منّة من جانبه تعالى عليهم فكيف يستحقّون بإطاعاتهم وامتثالهم الأجر والاجرة؟ وكيف يستحقّ المريض أجراً من الطبيب بإزاء عمله بأوامر الطبيب؟ (ولعلّ هذا هو مراد المفيد رحمه الله وأمثاله حيث ذهبوا إلى أنّه من باب التفضّل لا الاستحقاق) بل الاستحقاق هنا بمعنى اللياقة لقبول التفضّل من جانب الباري تعالى، أي أنّ من كان مطيعاً كان إنساناً كاملًا، والإنسان الكامل يليق بإنعام اللَّه تعالى وتفضّله عليه بمقتضى حكمة الباري فإنّ التسوية بين المطيع والعاصي والمؤمن والفاسق مخالف للحكمة.

وبعبارة اخرى: الاستحقاق للُاجرة والاستعداد لها (بحيث يعدّ عدم اعطائها ظلماً) شي ء، واللياقة للتفضّل شي ء آخر، والاستحقاق في ما نحن فيه بالمعنى الثاني لا الأوّل، فلا يعدّ ترك الثواب حينئذٍ من مصاديق الظلم، نعم أنّه ينافي حكمه الباري الحكيم لأنّ لازمه التسوية بين المطيع والعاصي.

وبهذا يظهر أنّ الاستحقاق في المقام لا ينافي التفضّل بل أنّه بحسب الحقيقة من مصاديقه.

نعم، قد يجتمع مع تفضّل أكثر يعبّر عنه في لسان الآيات بالفضل كما يعبرّ عن الأوّل بالأجر، ويدلّ عليه قوله تعالى: «لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» (وقد مرّ آنفاً) واختلاف التعبير ناظر إلى اختلاف مراتب الفضل فحسب، فالتعبير بالأجر مخصوص بمرتبة من التفضّل يعطى على أساس الكسب والعمل ولياقة اكتسبها العبد بالطاعة وترك المعصية،

انوار الأصول، ج 1، ص: 383

والتعبير بالفضل مختصّ بمرتبة اخرى وليس على أساس العمل مباشرة.

ومع ذلك كلّه فالأصل في كلّ واحد منهما إنّما هو رحمة الربّ لا سعي العبد فلا يكون مقدارهما بمقدار العمل، «وما قدر أعمالنا في جنب كرمك، وكيف نستكثر أعمالًا

نقابل بها كرمك» «1».

نعم أنّه مع حفظ النسبة بين أعمال العباد أنفسهم.

وما ذكرنا في المقام هو أحد طرق الجمع بين ما ورد في باب ثواب الأعمال التي يكون بعضها معارضاً بحسب الظاهر مع بعض آخر في تعيين مقدار الثواب حيث يكون الدالّ على الثواب الأكثر مشيراً إلى مرتبة الأجر والفضل معاً ويكون الدالّ على الأقلّ مشيراً إلى خصوص مرتبة الأجر فقط، فتأمّل جيّداً.

الأمر الثالث: كيفية الثواب والعقاب الاخرويين

حكي في تهذيب الاصول آراء ثلاثة في كيفية الثواب والعقاب الاخرويين:

أحدها: أنّهما من لوازم الأعمال بمعنى أنّ الأعمال الحسنة والأفعال القبيحة في الدنيا تورث استعداداً للنفس حقيقة، به يقتدر على إنشاء صور غيبية بهيئة من الحور والقصور وكذا في جانب الأعمال السيّئة.

ثانيها: الأخذ بظواهر الآيات والأخبار وهي أنّهما من المجعولات كالجزاءات العرفيّة في الحكومات والسياسيات.

ثالثها: أنّ الثواب والعقاب بالاستحقاق وإنّ العبد يستحقّ من عند ربّه جزاء العمل إذا أطاع أو عصى، ولا يجوز له تعالى التخلّف عنه عقلًا في الطاعة وأمّا جزاء السيّئة فيجوز له العفو.

ثمّ أخذ في تحليل هذه الآراء وقال: «إنّ ترتّب الثواب والعقاب على المسلك الأوّل أمر مستور لنا، إذ لا نعلم أنّ النفس بالطاعات والقربات تستعدّ لانشاء الصور الغيبية وإيجادها، وعلى فرض العلم بصحّته إجمالًا فالعلم بخصوصّياتها وتناسب الأفعال وصورها الغيبية ممّا لا

انوار الأصول، ج 1، ص: 384

يمكن لأمثالنا، نعم لا شبهة أنّ لإتيان الأعمال الصالحة لاجل اللَّه تعالى تأثيراً في صفاء النفس وتحكيماً لملكة الانقياد والطاعة ولها بحسب مراتب النيّات وخلوصها تأثيرات في العوالم الغيبية».

وقال في شرح المسلك الثاني بعد أن اعترف بأنّه ظاهر قوله تعالى: «مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا» إلى غير ذلك، وأنّه هو المرضي عند المحقّق النهاوندي

رحمه الله على ما حكي عنه- ما نصّه: «لا شكّ أنّ التخلّف بعد الجعل قبيح لاستلزامه الكذب لو اخبر عنه مع علمه بالتخلّف كما في المقام أو لاستلزامه التخلّف عن الوعد والعهد لو أنشأه، وامتناعهما عليه تعالى واضح جدّاً»، (ومقصوده أنّ ترتّب الثواب ليس من باب الاستحقاق بحيث يلزم من عدمه الظلم بل أنّه من باب العمل بالوعد والعهد ومن باب أنّ عدمه يلزم الكذب والتخلّف عن الوعد).

وأمّا المسلك الثالث فقال «أنّه خلاف التحقيق في جانب الثواب لأنّ من عرف مقام ربّه من الغنى والعظمة ومقام نفسه من الفقر والفاقة يعرف نقصان ذاته وإنّ كلّ ما ملكه من أعضاء وجوارح ونعم كلّها منه تعالى لا يستحقّ شيئاً إذا صرفه في طريق عبوديته» «1».

أقول: أمّا القول الأوّل: فمضافاً إلى ما أورده عليه (من أنّه أمر مستور لنا) يرد عليه أنّه مخالف لظواهر الآيات والرّوايات حيث إنّ ظاهرها أنّ الجنّة والنار خلقا من قبل كقوله تعالى:

«وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ» وقوله تعالى: «اتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ» فإنّ كلمة «اعدت» ظاهرة أو صريحة في أنّهما مخلوقان في الحال.

نعم هناك أمر يسمّى بتجسّم الأعمال وهو يستفاد من غير واحد من الآيات والرّوايات نظير ما ورد في باب الأعمال من أنّها تظهر للإنسان على أحسن صورة فيسأل عنها ما أنت؟

فتجيب بأنّي صلاتك أو صومك، ولكن هذا شي ء آخر غير ما ذكر لأنّ تبدّل العمل بصورة تناسبه شي ء، وخلق النفس صوراً غيبية بهيئة من الحور والقصور شي ء آخر، فتدبّر جيّداً.

وأمّا القول الثاني: فقد ظهر ممّا ذكرنا أنّه لا غبار عليه وأنّه موافق لظواهر الآيات انوار الأصول، ج 1، ص: 385

والرّوايات، فللثواب والعقاب مصداقان، أحدهما ما اعدّ للعباد

قبل العمل، والثاني ما ينشأ من ناحية العمل ويتجسّم العمل فيه.

وأمّا القول الثالث: فإن كان المراد من الاستحقاق نظير استحقاق العامل الأجير للُاجرة، فالحقّ ما أورده عليه من أنّه خلاف التحقيق في جانب الثواب لنفس ما ذكره، وإن كان المراد منه ما مرّ بيانه من اللياقة للمطيع وعدم المساواة بينه وبين العاصي فلا بأس به كما مرّ.

هذا كلّه في أنّ الثواب المترتّب على الواجب النفسي هل هو من باب الاستحقاق أو التفضّل، فلنرجع إلى أصل المسألة وهو ترتّب الثواب على الواجب الغيري وعدمه.

فنقول: فيه وجوه أو أقوال:

1- عدم ترتّب الثواب مطلقاً، وهو ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية.

2- ترتّب الثواب مطلقاً، ولم نجد له قائلًا.

3- الفرق بين ما تعلّق به الأمر الأصلي وما تعلّق به الأمر التبعي، فيترتّب الثواب على الأوّل دون الثاني.

4- ما ذهب إليه في تهذيب الاصول من أنّه يختلف باختلاف المباني الثلاثة المذكورة آنفاً في كيفية ترتّب الثواب والعقاب الاخرويين، فعلى المبنى الأوّل لا فرق بين الواجبات النفسيّة والواجبات الغيريّة فكما أنّ الإتيان بالواجبات النفسيّة يوجب استعداد النفس لانشاء صور غيبية كذلك الإتيان بالواجبات الغيريّة، لكن قد عرفت الإشكال في أصل المبنى وتصوّره في مقام الثبوت، وعلى المبنى الثاني فلا فرق أيضاً بين القسمين من الواجبات حيث إنّه كما يجوز الجعل على أصل العمل يجوز الجعل على المقدّمات أيضاً (من دون الالتزام بكونها عبادة برأسها) كما يظهر من عدّة من الأخبار نظير ما ورد في باب زيارة الإمام الطاهر أبي عبداللَّه الحسين عليه السلام من ترتّب الثواب على كلّ خطوة.

وعلى المبنى الثالث- على فرض صحّته- المبنى فرق بين الواجبات النفسيّة والغيريّة فيترتّب الثواب على الأوّل دون الثاني، لأنّ الاستحقاق

إنّما هو على الطاعة ولا يعقل ذلك في الأوامر الغيريّة، لأنّها بمعزل من الباعثية لأنّ المكلّف حين إتيان المقدّمات لو كان قاصداً لامتثال الأمر النفسي فالداعي حقيقة هو ذاك الأمر دون الغيري، وإن كان راغباً عنه معرضاً

انوار الأصول، ج 1، ص: 386

فلا معنى لإتيان المقدّمات لأجل ذيها «1».

5- التفصيل بين ما إذا أتى بالمقدّمات بشرط قصد التوصّل به إلى الواجب النفسي، وما إذا أتى بها لا بهذا القصد، فيترتّب الثواب على الأوّل دون الثاني، ذهب إلى هذا التفصيل المحقّق النائيني رحمه الله وتلميذه المحقّق في المحاضرات، والفرق بينهما أنّ المحقّق النائيني رحمه الله ذهب إلى أنّ الثواب المترتّب على المقدّمة نفس ما يترتّب على ذي المقدّمة وليس ثواباً مستقلًا، غاية الأمر أنّ الآتي بالواجب الغيري إن قصد به التوصّل إلى الواجب النفسي فهو شارع في الإطاعة من حين الشروع بالمقدّمة ويزيد الثواب حينئذ «2»، ولكن قال في المحاضرات أنّه ثواب مستقلّ فيستحقّ العبد على الإتيان بالمقدّمة وذيها ثوابين إذا قصد بإتيان المقدّمة التوصّل إلى الواجب النفسي «3».

أقول: الحقّ في المسألة وجه آخر، وهو ترتّب الثواب على المقدّمة بشرط قصد التوصّل بها إلى ذيها مضافاً إلى اشتراط الوصول الفعلي إلى ذي المقدّمة لولا المانع، أي يترتّب الثواب على خصوص المقدّمة الموصلة مع قصد التوصّل بها بل يترتّب الثواب أيضاً حتّى لو لم يصل إلى ذي المقدّمة ولكن لحدوث مانع غير اختياري.

أمّا أصل ترتّب الثواب على المقدّمة في مقابل من ينكره على الإطلاق فلما اخترناه في الواجب النفسي في مقدّمة هذا البحث من أنّ الاستحقاق في ما نحن فيه إنّما هو بمعنى لياقة يكتسبها العبد بطاعته وتقرّبه، وإنّ حكمة المولى الحكيم تقتضي عدم التسوية بين المطيع والعاصي فإنّه

لا إشكال في أنّ هذه اللياقة وهذا التقرّب يحصل وجداناً أيضاً لمن أتى بالمقدّمات بقصد التوصّل إلى ذي المقدّمة حيث إنّ العبد بإتيانه المقدّمات يتقرّب إلى الواجب، والوجدان حاكم بأنّ المتقرّب إلى ما أوجبه اللَّه تعالى متقرّب إلى اللَّه نفسه.

ويؤيّد هذا بل يدلّ عليه ما ورد من الآيات والرّوايات التي تؤكّد جدّاً على ترتّب الثواب على بعض المقدّمات، نظير قوله تعالى بالنسبة إلى مقدّمات الجهاد في سبيل اللَّه بل ومقارناته:

انوار الأصول، ج 1، ص: 387

«مَا كَانَ لِاهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَايُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الُمحْسِنِينَ وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» «1»

، ونظير ما وردت من الرّوايات الكثيرة بالنسبة إلى زيارة قبر الإمام أبي عبداللَّه عليه السلام، وبالنسبة إلى الذهاب إلى المسجد وترتّب الثواب على كلّ خطوة، وهكذا ما ورد بالنسبة إلى مقدّمات تحصيل العلم.

وأمّا ترتّبه على خصوص ما إذا قصد بإتيان المقدّمة الوصول إلى ذي المقدّمة فلأنّ الأعمال بالنيّات، والتقرّب المزبور إنّما يحصل فيما إذا قصد بالمقدّمة امتثال تكليف إلهي والوصول إلى واجبه.

وأمّا ترتّبه على خصوص المقدّمة الموصلة بالوصول الفعلي عند عدم المانع فلأنّه لو شرع بالمقدّمات ثمّ انصرف عنها من دون عذر لم يحصل له التقرّب المزبور كما لا يخفى.

وبما ذكرنا يظهر أنّ ما قد يقال «من أنّ الثواب عند العرف والعقلاء لا يترتّب على المقدّمة بل هو إنّما يترتّب على خصوص

ذي المقدّمة فإنّهم لا يعطون اجرة على ما يتحمّله الأجير للبناء مثلًا من مقدّمات الوصول إلى ذي المقدّمة كطيّ مسافة من بلدة إلى بلدة»، في غير محلّه، حيث إنّا قلنا أنّ الاستحقاق في ما نحن فيه ليس من قبيل الاجرة للأجير بل هو بمعنى اللياقة والاستعداد لفضل اللَّه تعالى، والمعيار فيه إنّما هو القرب الذي يحصل للعبد وهو حاصل في الإتيان بالمقدّمات أيضاً.

كما يظهر أنّ المترتّب على المقدّمة ثواب مستقلّ وليس هو نفس ما يترتّب على ذي المقدّمة كما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمه الله.

واستدلّ المحقّق الخراساني رحمه الله لعدم ترتّب الثواب مطلقاً بحكم العقل، بمعنى أنّه إذا أتى بالواجبات بما لها من المقدّمات لم يستقلّ العقل إلّاباستحقاق ثواب واحد.

وقد ظهر ممّا ذكرنا الجواب عنه أيضاً، لأنّه إن كان مراده ما إذا لم يقصد من المقدّمة الوصول إلى ذي المقدّمة، فالحقّ ما ذهب إليه من حكم العقل بعدم ترتّب ثواب مطلقاً، وأمّا إن كان مراده ما إذا قصد بالمقدّمة الوصول إلى ذيها فالإنصاف أنّ ضرورة العقل على عكس ما ذكر،

انوار الأصول، ج 1، ص: 388

فإنّه حكم بترتّب الثواب على إتيان المقدّمة أيضاً، لما يحصل منه من اللياقة والتقرّب كما مرّ.

هذا- مضافاً إلى أنّ لازم كلامه رفع اليد عن ظواهر الآيات والرّوايات (وحملها على بعض المحامل كما أنّ المحقّق الخراساني رحمه الله حملها على توزيع ثواب ذي المقدّمة على المقدّمة وأنّ المقدّمات مهما كثرت إزداد ثواب ذي المقدّمة لصيرورته حينئذٍ من أفضل الأعمال حيث صار أشقّها وأحمزها) مع أنّه تكلّف واضح.

وممّا ذكرنا ظهر حال سائر الأقوال في المسألة وجوابها.

ثمّ إنّه يمكن أن يقال: إنّ الثواب كما يترتّب على المقدّمات يترتّب على لوازم المقدّمات أيضاً، فكما يترتّب الثواب

على تهيئة الزاد والراحلة وطيّ الطريق في مثال الحجّ، كذلك يترتّب على تحمّل الأذى والتعب في هذا الطريق أو المرض الذي يعرضه فيه، ويدلّ عليه ملاحظة العناوين الواردة في الآية المزبورة حيث إنّ أكثر هذه العناوين وهي «الظمأ» و «النصب» و «المخمصة» وما ينالونه من العدوّ من المصائب البدنيّة أو الماليّة أو العرضيّة، وهكذا قطع الوادي حين الرجوع من الجهاد من ملازمات الفعل لأنفسه كما لا يخفى.

إن قلت: لازم ترتّب الثواب على فعل المقدّمة ترتّب العقاب على تركها، وهو ممّا لا يمكن الالتزام به.

قلنا: بل نلتزم به فيما إذا ترك مقدّمة الواجب بقصد أن يترك ذيها، وذلك لأنّ ترك المقدّمة مع هذا القصد يوجب بُعداً عن اللَّه تعالى وهو ملاك العقاب، مثل ما إذا منع الآخرين من بناء المساجد لكي يمنع الناس عن الصّلاة والعبادة، نعم إذا ترك مقدّمة الواجب لا بقصد ترك أمر المولى سبحانه بل لما سوّلت له نفسه وغلبه هواه (كما ورد في بيان الإمام السجّاد عليه السلام في دعاء أبي حمزة الثمالي: إلهي لم أعصك حين عصيتك وأنا بربوبيتك جاحد ولا بأمرك مستخفّ ...

ولكن خطيئة عرضت وسوّلت لي نفسي وغلبني هواي وأعانني عليها شقوتي وغرّني سترك المُرْخى عليّ) فلا يعاقب على ترك المقدّمة عقاباً مستقلًا على عقاب ترك ذيها، نعم لمّا كان تركها سبباً لترك الواجب فهو تارك للواجب عالماً عامداً.

ومن هنا يعلم ترتّب العقاب على فعل مقدّمة الحرام إذا أتى بها بقصد الإيصال إلى الحرام وقد صرّح به في بعض الرّوايات نظير ما ورد في شرب الخمر: «إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لعن في الخمر عشرة، غارسها وحارثها وعاصرها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها

انوار الأصول، ج 1،

ص: 389

ومشتريها وآكل ثمنها» «1»، حيث إنّ ذا المقدّمة في باب الخمر إنّما هو شربه فقط، وأمّا سائر العناوين (غير آكل الثمن الذي يكون من اللوازم المترتّبة على بيع الخمر) فهي من المقدّمات كما لا يخفى.

اللّهمّ إلّاأن يقال: إنّ لعن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إنّما هو من باب دخول هذه العناوين تحت عنوان جامع آخر محرّم، وهو عنوان «الإعانة على الإثم»، ومن المعلوم أنّه عنوان محرّم نفسي لا مقدّمي.

ولكن الظاهر من أدلّة حرمة التعاون على الإثم كقوله تعالى: «وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ» أنّه عنوان يرجع إلى فعل الغير، أي المراد منه اعانة الغير على الإثم، فلا يعمّ اعانة الإنسان نفسه على الإثم، بينما هذه الرّواية تشمل من غرس الكرم بقصد أن يصنع من عنبها خمراً لنفسه أيضاً، وهذا يشهد على أنّ اللعن فيها ليس بملاك تطبيق عنوان التعاون على الإثم فقط بل يشمله وغيره، فتدبّر جيّداً.

الأمر الرابع: الكلام في الطهارات الثلاث

وقد اشتهر فيها الإشكال من ثلاثة جوانب:

الأوّل: أنّها تعدّ من العبادات ويترتّب عليها الثواب، فكيف يجتمع مع القول بعدم ترتّب الثواب على المقدّمة؟

الثاني: أنّه يشترط فيها قصد التقرّب مع عدم إمكان التقرّب بالأمر الغيري المقدّمي.

الثالث: أنّ عباديّة هذه الطهارات متوقّفة على قصد أمرها الغيري مع أنّ قصد الأمر فيها أيضاً متوقّف على عباديتها، لأنّ قصد الأمر متفرّع على تعلّق أمر بالمقدّمة بما هي مقدّمة، والمقدّمة في المقام هي الطهارات الثلاث بوصف أنّها عبادة، فيلزم الدور.

وقد اجيب عنها بوجوه:

الوجه الأوّل: ما هو المختار في الجواب عن الأوّل والثاني من إمكان التقرّب بالمقدّمة وترتّب الثواب عليها إذا أتى بها بقصد التوصّل إلى ذي المقدّمة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 390

وأمّا الإشكال الثالث، أي إشكال الدور.

ففيه: إنّا نسلّم كون عباديّة

الطهارات متوقّفة على قصد الأمر، ولكن توقّف قصد الأمر على عباديّة الطهارات إنّما يوجب الدور فيما إذا كان المتوقّف عليه عباديتها في الرتبة السابقة على الأمر أو المقارنة معه، مع أنّه عبارة عن اجتماع شرائط العبادة حين الامتثال، أي إن تعلّق أمر المولى بها لا يحتاج إلى كونها عبادة حين الأمر بل إنّه يأمر بها لاجتماع شرائط العبادة فيها حين الامتثال، وذلك نظير توقّف الأمر على قدرة المكلّف على الفعل، فإنّه ليس معناه لزوم القدرة على الفعل حين الأمر بل تكفي قدرته حين الامتثال، فلو كان العاجز ممّن يقدر على العمل بعد أمر المولى وحين الامتثال كان للمولى أن يأمره. ولذلك قد يقال: إنّ القدرة شرط للإمتثال لا للتكليف.

هذا كلّه بناءً على شرطيّة قصد الأمر في عباديّة العبادة، وأمّا بناءً على ما مرّ في مبحث التعبّدي والتوصّلي من أنّها ليست منوطة بقصد الأمر فالأمر أوضح وأسهل.

الوجه الثاني: ما أفاده الشّيخ الأعظم رحمه الله وتبعه المحقّق الخراساني رحمه الله وكثير من الأعاظم (وهو جيّد لا غبار عليه) وحاصله: أنّ الطهارات عبادات في أنفسها مستحبّات في حدّ ذاتها، فعباديتها لم تنشأ من ناحية الأمر حتّى يلزم الدور.

ولكن قد أورد عليه بوجوه أهمّها وجهان:

الأوّل: أنّ هذا تامّ في الوضوء وقد يقال به في الغسل أيضاً، وأمّا التيمّم فلم يقل أحد باستحبابه النفسي.

ويمكن الجواب عنه: بأنّه بعد أن لم يكن إجماع على عدم مطلوبيّة التيمّم ذاتاً يكفي في إثباتها له ما ورد في الرّوايات من «أنّ التراب أحد الطهورين» إذا انضمّ إلى ما يستفاد من إطلاقات الباب من أنّ المستحبّ إنّما هو الكون على الطهارة في نفسه.

توضيح ذلك: أنّه قد ذكرنا في محلّه في الفقه من أنّ معنى كون

الوضوء مستحبّاً نفسيّاً ليس هو مطلوبيّة الغسلتان والمسحتان فيه، بل المطلوب ذاتاً إنّما هو الكون على الطهارة الذي يترتّب على الغسلتان والمسحتان، ويعدّ غاية للوضوء، وأنّه هو المقدّمة والشرط للصّلاة في الحديث المعروف «لا صلاة إلّابطهور»، ولا إشكال في أنّ مقتضى قوله عليه السلام «إنّ التراب أحد الطهورين» أنّ وزان التيمّم هو وزان الوضوء وأنّ كلّ ما يترتّب على الوضوء يترتّب على انوار الأصول، ج 1، ص: 391

التيمّم أيضاً، ومن الغايات المترتّبة على الوضوء هو الكون على الطهارة، فيترتّب هو على التيمّم أيضاً ونتيجته كون التيمّم أيضاً، مستحبّاً نفسيّاً بنفس المعنى في الوضوء.

الثاني: أنّ الأمر النفسي الاستحبابي المتعلّق بها كثيراً مّا يكون مغفولًا عنه ولا سيّما للعامي، بل ربّما يكون الشخص معتقداً عدمه بإجتهاد أو تقليد أو نحو ذلك، ومع هذا يكون الإتيان بها بداعي التوصّل بأمرها الغيري صحيحاً، فلو كان منشأ عباديتها ذلك الأمر النفسي لم تقع صحيحة.

واجيب عنه: بأنّ الاكتفاء بقصد أمرها الغيري إنّما هو لأجل أنّه لا يدعو إلّاإلى ما هو عبادة في نفسه، فإنّها المقدّمة والمتعلّق للأمر الغيري، فإذا أتى بالطهارات بداعي أمرها الغيري فقد قصد في الحقيقة إتيان ما هو عبادة في نفسه إجمالًا فيكون قصد الأمر الغيري عنواناً إجمالياً ومرآتاً واقعياً لقصد ما هو العبادة في نفسه.

الوجه الثالث: أنّ اعتبار قصد القربة في الطهارات ليس لأجل أنّ الأمر المقدّمي ممّا يقتضي التعبّديّة (أي عدم حصول الغرض منه إلّاإذا أتى بالفعل بداعي القربة) بل لأجل أنّ ذوات تلك الحركات الخاصّة في الوضوء والغسل والتيمّم ليست مقدّمة للصّلاة بل هي بعنوان خاصّ تكون مقدّمة لها، وحيث لا نعلم تفصيل ذلك العنوان المأخوذ فيها فنأتي بتلك الحركات بداعي أمرها الغيري كي يكون إشارة

إلى ذاك العنوان، فإنّ الأمر لا يدعو إلّاإلى متعلّقه، فإذا أتينا بتلك الحركات بداعي وجوبها الغيري فقد أتينا بها بعنوانها الخاصّ المأخوذ فيها، والحاصل أنّ قصد الأمر هنا إنّما هو لتحصيل العنوان القصدي لا للحصول على القربة الذي يتمكّن منها بقصد الطاعة.

ولكن يرد عليه إشكالات عديدة:

منها: أنّ لازمه كفاية تحقّق مجرّد العنوان في تحقّق الامتثال وعدم اعتبار عباديّته مع أنّ عباديّة الطهارات إجماعيّة.

وإن شئت قلت: أنّه لو كان وجه اعتبار قصد الأمر في الطهارات الثلاث هو الإشارة إلى العنوان الخاصّ المأخوذ فيها لجازت الإشارة إليه بقصد الأمر وصفاً أيضاً بأن كان أصل الداعي لإتيانه شيئاً آخر غير قربى فيقول مثلًا: إنّي آتٍ بالوضوء الواجب لأجل التبريد أو التنظيف ونحوهما من الدواعي النفسانيّة، فيكون قصد الأمر حينئذ بنحو التوصيف كافياً

انوار الأصول، ج 1، ص: 392

كالغائي كما إذا قال مثلًا: إنّي آتٍ بالوضوء لوجوبه شرعاً، بل قصد الأمر بنحو التوصيف يكون أظهر في الإشارة إلى العنوان الخاصّ المأخوذ فيها من قصده غاية، مع أنّه لا يكفي مثل هذا القصد قطعاً.

منها: أنّ هذا غير وافٍ بدفع إشكال ترتّب المثوبة عليها كما لا يخفى.

الوجه الرابع: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله وحاصله: أنّه لا وجه لحصر منشأ عباديّة الطهارات الثلاث في الأمر الغيري والأمر النفسي الاستحبابي ليرد الإشكال على كلّ منهما، بل هناك منشأ ثالث وهو قصد الأمر النفسي الضمني الذي نشأ من جانب الأمر النفسي على ذي المقدّمة، لأنّ الأمر النفسي المتعلّق بالصّلاة مثلًا كما ينحلّ إلى أجزائها كذلك ينحلّ إلى شرائطها وقيودها.

ثمّ أورد على نفسه بأنّ لازم ذلك هو القول بعباديّة الشرائط مطلقاً من دون فرق بين الطهارات الثلاث وغيرها لفرض أنّ الأمر النفسي تعلّق بالجميع على نحو

واحد.

وأجاب عن ذلك بأنّ الفارق بينهما هو أنّ الغرض من الطهارات الثلاث (وهو رفع الحدث) لا يحصل إلّاإذا أتى المكلّف بها بقصد القربة دون غيرها من الشرائط، ولا مانع من اختلاف الشرائط من هذه الناحية بل لا مانع من اختلاف الأجزاء أيضاً بالعباديّة وعدمها في مرحلة الثبوت وإن لم يتّفق ذلك في مرحلة الإثبات (أي أنّ أمر اعتبار قصد القربة وعدمه بيد المولى الآمر، فله أن يلغى اعتباره حتّى عن بعض الأجزاء فضلًا عن الشرائط) «1».

أقول: يرد عليه ما ذكرنا سابقاً من أنّ الأمر النفسي المتعلّق بالصلاه مثلًا إنّما تعلّق باجزائها وتقيّدها بالشرائط، وأمّا نفس الشرائط فهي خارجة عن ذات المأمور به، (كما قيل:

التقيّد جزء والقيد خارجي) فلا يمكن حلّ المشكل من هذا الطريق لأنّه يعود إلى الأمر المقدّمي لا محالة.

فقد تلخّص من جميع ما ذكرنا في هذا المجال أنّ لتصحيح عباديّة الطهارات الثلاث طرق ثلاثه:

أحدها قصد الأمر الغيري.

انوار الأصول، ج 1، ص: 393

ثانيها قصد الأمر النفسي الاستحبابي.

ثالثها قصد الأمر النفسي الضمني، والطريق الأوّل بنفسه يتصوّر على صورتين:

الصورة الاولى: قصد الأمر الغيري بقصد التوصّل إلى ذي المقدّمة.

الصورة الثانيّة: قصده لتحصيل عناوين الطهارات الثلاث، فصارت الطرق أربعة، وقد ناقشنا في اثنين منها ووافقنا على اثنين منها:

أحدهما: قصد الأمر الغيري لما مرّ من كفايته في العباديّة.

ثانيهما: قصد الأمر النفسي الاستحبابي.

نكتتان:

النكتة الاولى: أنّه قد إتّضح ممّا ذكرنا أنّه لا إشكال في صحّة الوضوء مثلًا إذا أتى به قبل الوقت بداعي أمره النفسي الاستحبابي أو بداعي أمره الغيري للتوصّل إلى ذي المقدّمة (أي بعض الغايات الاخر غير الصّلاة التي لم يدخل وقتها بعد) وهكذا بداعي الأمر النفسي الضمني بناءً على مختار المحقّق النائيني رحمه الله وإن مرّ الإشكال فيه، وكذلك

لا إشكال في الإتيان به بعد الوقت بداعي أمره الغيري للتوصّل إلى ذي المقدّمة أي الصّلاة.

إنّما الإشكال في جواز إتيانه بعد الوقت بداعي أمره النفسي الاستحبابي، فقد يتوهّم أنّ الوضوء بعد اتّصافه بالوجوب الغيري بعد دخول الوقت خرج عن استحبابه النفسي لوجود المضادّة بين الأحكام الخمسة، فلا يمكن اجتماع وصف الاستحباب والوجوب في زمان واحد.

وقد اجيب عن هذا الإشكال بأنّه لا مانع من اجتماعهما في ما نحن فيه بناءً على جواز اجتماع الأمر والنهي في شي ء واحد من جهتين: لأنّ الجهات في المقام متعدّدة، فإنّ جهة الوجوب الغيري وهي المقدّميّة غير جهة الاستحباب النفسي الموجودة فيه.

والأولى في الجواب أن يقال: إنّ ملاك الاستحباب وهو المحبوبيّة الذاتيّة للطهارات لا يزول بعد دخول الوقت وبعد تعلّق الأمر الوجوبي الغيري بها بل هو باقٍ على حاله، وذلك نظير أكل الفاكهة مثلًا فإنّه مطلوب في نفسه، وهذه المطلوبيّة لا تزول بعد أمر الطبيب بأكلها بل هي باقية على حالها، نعم أنّه يرتفع حدّها الاستحبابي أي الترخيص في الترك، إذن فإن أتى انوار الأصول، ج 1، ص: 394

المكلّف بها بقصد هذه المحبوبيّة ولو بعد دخول الوقت حصلت العبادة بلا إشكال.

النكتة الثانيّة: إذا أتى المكلّف بالطهارات الثلاث بداعي التوصّل إلى الواجب النفسي وكان غافلًا عن محبوبيّتها النفسيّة، ثمّ بدا له في الإتيان بذلك الواجب أو نسيه أو مضى وقته، فهل تقع الطهارات حينئذٍ عبادة حتّى يمكن له إتيان ذلك الواجب بعد الوقت أو إتيان سائر الغايات المترتّبة على الطهارات، أو لا؟

يختلف الجواب باختلاف المباني في المقدّمة، فإن قلنا بأنّ الواجب من المقدّمة إنّما هو المقدّمة الموصلة إلى ذي المقدّمة، فلا إشكال في بطلان الطهارة حينئذٍ لعدم تحقّق شرط المقدّمة وهو الإيصال، وإن

قلنا بكفاية قصد التوصّل إلى ذي المقدّمة وأنّه لا يضرّ عدم الإيصال الفعلي إلى ذي المقدّمة لوجود مانع فلا إشكال أيضاً في صحّة الطهارة ووقوعها عبادة عند وجود المانع، وحينئذٍ يمكن إتيان سائر الغايات، وهكذا إن قلنا بأنّ الواجب هو المقدّمة مطلقاً كما لا يخفى.

هذا كلّه بناءً على اشتراط قصد الأمر في تحقّق العبادة.

وأمّا بناءً على عدم اعتباره وكفاية الحسن الذاتي (وهو كون الفعل قريباً وحسناً ذاتاً) مع الحسن الفاعلي (أي كون الفاعل قاصداً للتقرّب به إلى اللَّه) كما هو الحقّ عندنا في محلّه فلا إشكال في صحّة الطهارة ووقوعها عبادة، فيصحّ الإتيان بسائر الغايات، ومن هنا يظهر الحال فيما إذا اغتسل الجنب لصلاة الصبح ثمّ تبيّن له طلوع الشمس قبل أن يصلّي.

الرابع: تقسيم الواجب إلى الأصلي والتبعي

إنّ الأصالة والتبعيّة تارةً: تلحظان بالنسبة إلى مقام الدلالة والإثبات كما لاحظهما المحقّق القمّي وصاحب الفصول رحمهما الله، فعرّفهما المحقّق القمّي رحمه الله بأنّ الواجب الأصلي ما يكون مقصوداً بالإفادة من الكلام، والواجب التبعي ما لا يكون مقصوداً بالإفادة من الكلام، وإن استفيد تبعاً، كدلالة الآيتين على أقلّ الحمل.

وعرّفهما المحقّق صاحب الفصول رحمه الله بأنّ الأصلي ما فهم وجوبه بخطاب مستقلّ، أي غير

انوار الأصول، ج 1، ص: 395

لازم لخطاب آخر وإن كان وجوبه تابعاً لوجوب غيره، والتبعي بخلافه، وهو ما فهم وجوبه تبعاً لخطاب آخر وإن كان وجوبه مستقلًا كما في المفاهيم، فالمناط في الأصالة والتبعيّة هو الاستقلال بالخطاب وعدمه، فإن كان مستفاداً من خطاب مستقلّ فهو الأصلي، وإن فرض وجوبه غيريّاً تابعاً لوجوب غيره، كما قال اللَّه تعالى: «إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا ...» «1»

الآية، وإن لم يكن مستفاداً من خطاب مستقلّ فهو التبعي، وإن فرض وجوبه نفسيّاً غير تابع لوجوب غيره،

كما إذا استفيد ذلك بنحو المفهوم.

فالمداليل الالتزاميّة اللّفظيّة تبعيّة عنده لعدم كونها واردة بخطاب مستقلّ، وإنّما هي لازم لخطاب آخر، بينما هي أصليّة عند المحقّق القمّي رحمه الله لكونها مقصوداً بالإفادة للمتكلّم.

وتارةً اخرى: تلحظان بلحاظ مقام الثبوت كما لاحظهما كذلك شيخنا الأعظم رحمه الله بناءً على ما في التقريرات، فيكون الأصلي حينئذٍ عبارة عمّا تعلّقت به إرادة مستقلّة من جهة الالتفات إليه بما هو عليه من المصلحة، والتبعي عبارة عمّا لم تتعلّق به إرادة مستقلّة لعدم الالتفات إليه بما يوجب إرادته كذلك، وإن تعلّقت به إرادة إجماليّة تبعاً لإرادة غيره كما في الواجبات الغيريّة الترشّحيّة.

والمحقّق الخراساني رحمه الله اختار التفسير الأخير وأنّ التقسيم يكون بلحاظ مقام الثبوت لا بلحاظ مقام الإثبات والدلالة نظراً إلى أنّ لازمه عدم اتّصاف الواجب الذي لم يكن مفاد دليل لفظي بشي ء من الأصلي والتبعي وهو كما ترى.

وهيهنا تفسير آخر وهو أنّ المراد من الأصلي ما اريد لذاته، وبالتبعي ما اريد لغيره، وهو أيضاً تقسيم بلحاظ مقام الثبوت، ولا إشكال في رجوعهما حينئذٍ إلى الواجب النفسي والغيري وإنّما الاختلاف في التعبير.

أقول: إنّ لازم التفسير الثالث الذي هو تقسيم للواجب بلحاظ مقام الثبوت عدم جريان هذا التقسيم في الواجبات النفسيّة وكون جميعها من الواجبات الأصلية، لأنّ الإرادة في الواجب النفسي مستقلّة قطعاً فإنّه لا معنى لكون الواجب نفسياً ذا مصلحة نفسية ملزمة ولا يكون منظوراً ومراداً بالاستقلال بل أنّه جارٍ في خصوص الواجبات الغيريّة، فإنّها تارةً

انوار الأصول، ج 1، ص: 396

تكون متعلّقة لإرادة مستقلّة للمولى كالوضوء بالنسبة إلى الصّلاة، واخرى لا تتعلّق بها إرادة مستقلّة كما في كثير من الواجبات الغيريّة.

والمهمّ في المقام أنّ التعبير بالأصليّة والتبعيّة لم يرد في حديث ولا في

آية من كتاب اللَّه ولا تترتّب عليه ثمرة لا في الاصول ولا الفقه بل إنّهما مجرّد اصطلاح فحسب، وحينئذٍ لا فرق بين أن يلاحظ بالنسبة إلى مقام الثبوت أو مقام الإثبات فإنّه لا مشاحّة في الاصطلاح.

ثمّ إنّه لو شككنا في أنّ الواجب أصلي أو تبعي، فبناءً على التفسير الأوّل والثالث لا أصل في المسألة، لأنّهما أمران وجوديان، وبناءً على التفسير الثاني يكون الأصل العملي الجاري في المسألة هو استصحاب عدم تعلّق إرادة مستقلّة به، وبه تثبت التبعيّة، ولكن هذا إذا كان التقابل بين الأصلية والتبعيّة تقابل العدم والملكة، أي كان الواجب التبعي أمراً عدميّاً وعبارة عمّا لم يتعلّق به إرادة مستقلّة، وأمّا إذا كان التبعي أيضاً كالأصلي أمراً وجوديّاً وعبارة عمّا تعلّقت به إرادة إجماليّة تبعاً لإرادة غيره فلا تجري أصالة عدم تعلّق إرادة مستقلّة لإثبات أنّ المتعلّق هو إرادة إجماليّة تبعيّة إلّاعلى القول بالأصل المثبت، مضافاً إلى أنّه كما تجري أصالة عدم تعلّق الإرادة المستقلّة تجري أيضاً أصالة عدم تعلّق الإرادة التبعيّة، فتتعارضان وتتساقطان، ونتيجته عدم وجود أصل في المسألة الاصوليّة.

هذا كلّه بناءً على تصوّر ثمرة فقهيّة للمسألة، وقد مرّ أنّه لا ثمرة للمسألة أصلًا لا في الاصول ولا في الفقه، وحينئذٍ لا موضوع للأصل العملي الذي يجري فيما إذا كان في المسألة أثر شرعي، ولذلك لا معنى للبحث عن الأصل بالنسبة إلى المسألة الفقهيّة أيضاً.

إلى هنا تمّ الكلام عن الجهة الرابعة من الجهات التي رسمناها قبل الورود في أصل البحث عن وجوب مقدّمة الواجب.

الجهة الخامسة: كيفية وجوب المقدّمة
اشارة

إذا قلنا بوجوب المقدّمة، فهل هي واجبة مطلقاً أو مشروطة بشرط؟ وعلى الثاني، ما هو ذلك الشرط؟

انوار الأصول، ج 1، ص: 397

فيه أقوال عديدة وتفاصيل مختلفة:

القول الأوّل: ما اختاره المحقّق

الخراساني رحمه الله في الكفاية من أنّ وجوب المقدّمة بناءً على الملازمة يتبع في الإطلاق والاشتراط وجوب ذي المقدّمة، فإن كان وجوب ذي المقدّمة مطلقاً كان وجوب المقدّمة أيضاً مطلقاً، ولا يعتبر فيه أيّة خصوصيّة، وإن كان مشروطاً كان وجوب المقدّمة أيضاً مشروطاً.

القول الثاني: ما يلوح من كلام صاحب المعالم من اشتراط وجوب المقدّمة على القول به بإرادة ذي المقدّمة، فإن أراد المكلّف الإتيان بذي المقدّمة وجبت المقدّمة وإلّا فلا، وإليك نصّ كلامه في مبحث الضدّ: «وأيضاً فحجّة القول بوجوب المقدّمة على تقدير تسليمها إنّما ينهض دليلًا على الوجوب في حال كون المكلّف مريداً للفعل المتوقّف عليها كما لا يخفى على من أعطاها حقّ النظر».

نعم، قد يقال بأنّ «هذه العبارة ظاهرة بل نصّ في أنّ القضيّة حينية لا شرطيّة وأنّ وجوبها في حال إرادة الفعل المتوقّف عليها لا مشروطة بإرادته» «1» وسيأتي في القول الخامس إشارة إليه.

القول الثالث: ما نسب إلى شيخنا العلّامة الأنصاري رحمه الله من أنّ الواجب هو المقدّمة المقصود بها التوصّل إلى ذيها، فإن أتى بها ولم يقصد بها التوصّل فلا تقع على صفة الوجوب أصلًا.

والفرق بين هذا وسابقه أنّ إرادة الإتيان بذي المقدّمة بناءً على القول الأوّل شرط للوجوب فلا تجب المقدّمة إلّابعد تحقّق إرادة إتيان ذي المقدّمة سواء قصد بإتيان المقدّمة التوصّل إلى ذيها أو أمر آخر كالكون على الطهارة في الوضوء مثلًا، بينما هي بناءً على القول الثاني قيّد للواجب، فالمقدّمة واجبة على أيّ حال سواء أراد إتيان ذي المقدّمة أو لم يرده، ولكن يجب عليه حين إتيان المقدّمة قصد التوصّل إلى ذي المقدّمة فتأمّل.

القول الرابع: مختار صاحب الفصول والذي اختاره في تهذيب الاصول أيضاً من أنّ الواجب إنّما

هو خصوص المقدّمة الموصلة، أي أنّ الواجب خصوص المقدّمة التي يترتّب انوار الأصول، ج 1، ص: 398

عليها ذو المقدّمة، وأمّا إذا لم يترتّب عليها ذو المقدّمة فلا تقع على صفة الوجوب سواء قصد بها التوصّل إلى ذي المقدّمة أو لم يقصد.

القول الخامس: ما اختاره المحقّق العراقي والمحقّق النائيني وشيخنا الحائري رحمهم الله وهو نفس ما حمل عليه كلام صاحب المعالم آنفاً من أنّ الواجب هو المقدّمة حال إرادة الإتيان بذي المقدّمة على نهج القضيّة الحينية لا مقيّداً بها على نهج القضيّة الشرطيّة.

هذا كلّه هو الموقف القولي في المسألة، وقبل الورود في أدلّة الأقوال ينبغي التنبيه على أمرين:

الأمر الأوّل: أنّ المنهج الصحيح في البحث يقتضي تأخّر هذا النزاع عن النزاع في أصل وجوب المقدّمة لأنّه من فروعه، فكان ينبغي أن يتكلّم أوّلًا عن أصل وجوب المقدّمة، وبعد إثباته يتكلّم ثانياً عن كيفية وجوبها وأنّه هل هو مطلق أو مقيّد بخصوصيّة، ولكن حيث إنّ القوم قدّموه عليه فنحن أيضاً تبعاً لهم وتأسّياً بهم في منهج البحث نقدّمه عليه وننتظر تصحيح هذه المواقف في المستقبل إن شاء اللَّه.

الأمر الثاني: أنّ كثرة الأقوال المزبورة وشدّة النزاع في المسألة ترشدنا إلى وجود معضلة هامّة فيها، وهي معضلة المقدّمة المحرّمة كالدخول في الأرض المغصوبة الذي هو مقدّمة لانقاذ الغريق، حيث إنّ لازم القول بوجوب المقدّمة مطلقاً من دون أي قيد وخصوصيّة (كما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله) هو جواز الورود في الأرض المغصوبة ولو لم يقصد به انقاذ الغريق، وسواء تحقّق بعد ذلك انقاذ الغريق أو لم يتحقّق مع أنّه مخالف للوجدان الفقهي والارتكاز المتشرّعي.

فلحلّ هذه المعضلة والتخلّص عنها تمسّك كلّ واحد من المحقّقين بذيل قيد كما لاحظت في بيان الأقوال

المزبورة.

هذا- مضافاً إلى أنّ هيهنا مشكلة اخرى، وهي ما اشير إليه في كلام صاحب الفصول من مسألة الضدّ الخاصّ، حيث إنّ القول بوجوب المقدّمة مطلقاً لازمه بطلان الضدّ الخاصّ الذي يكون تركه مقدّمة لإتيان واجب أهمّ فيما إذا كان الضدّ أمراً عباديّاً كالصّلاة بالنسبة إلى إزالة النجاسة عن المسجد، فحيث إنّ ترك الصّلاة مقدّمة لفعل الإزالة فبناءً على وجوب المقدّمة مطلقاً يجوز ترك الصّلاة (بل يجب) فيما إذا وجب عليه إزالة النجاسة سواءً قصد به التوصّل انوار الأصول، ج 1، ص: 399

إليها أو لم يقصد، وسواء تحقّق بعد ذلك الإزالة أو لم تتحقّق، وسواء أراد الإزالة أو لم يردها مع أنّه أيضاً مخالف للوجدان والارتكاز الديني.

إذا عرفت هذا فنقول: استدلّ المحقّق الخراساني رحمه الله على القول الأوّل (أي أنّ وجوب المقدّمة مطلق إن كان ذو المقدّمة واجباً مطلقاً ومشروط إن كان ذو المقدّمة واجباً مشروطاً) بالبداهة والضرورة وقال: «إنّ نهوض حجّة القول بوجوب المقدّمة (على تقدير تسليمها) على التبعيّة واضح لا يكاد يخفى وإن كان نهوضها على أصل الملازمة لم يكن بهذه المثابة».

ويبدو كلامه هذا جيّداً في بادى ء النظر ولكن سيأتي عند التعرّض لأدلّة سائر الأقوال عدم مقاومته لها فانتظر.

وأمّا القول الثاني: وهو ما ذهب إليه صاحب المعالم من أنّ وجوب المقدّمة مشروط بإرادة ذي المقدّمة، فهو لم يستدلّ له بشي ء، وإنّما قال بأنّ حجّة القول بوجوب المقدّمة لا تنهض على أكثر من ذلك، ولذلك فجوابه واضح لأنّ حجّة القول بوجوب المقدّمة تدلّ على وجود الملازمة بين وجوب ذي المقدّمة ووجوب المقدّمة، والملازمة تقتضي تبعيّة أحدهما عن الآخر في الإطلاق والاشتراط وأن يكون أحدهما مثل الآخر في القيود والخصوصيّات إلّاما قام الدليل على خلافه، هذا- مضافاً

إلى أنّ لازمه كون وجوب المقدّمة تابعاً لإرادة المكلّف ودائراً مدار اختياره وعزمه وهو باطل قطعاً، بداهة أنّ لازمه عدم الوجوب عند عدم الإرادة.

هذا كلّه مع قطع النظر عمّا مرّ من بعض الأعاظم من أنّ المستفاد من كلمات صاحب المعالم في مبحث الضدّ أنّ مراده إنّما هو القول الخامس وأنّه ليس شيئاً مستقلًا عنه.

وأمّا القول الثالث: (وهو ما نسب إلى الشّيخ الأعظم رحمه الله من أنّ الواجب هو المقدّمة التي قصد بها التوصّل إلى ذي المقدّمة) فقد اختلف في صحّة انتسابه إلى الشّيخ الأعظم رحمه الله أيضاً، فقال بعض بأنّ مراده اشتراط قصد التوصّل إلى الواجب في مقام الامتثال والطاعة وترتّب المثوبة، أي لا بدّ في مقام الإتيان بالمقدّمة والتقرّب بها إلى اللَّه تعالى من قصد التوصّل بها إلى ذي المقدّمة حتّى يترتّب عليها الثواب، ولكن على فرض صحّة الانتساب يستدلّ لهذا القول بأنّ الواجب إنّما هو الفعل بعنوان المقدّمة لا ذات الفعل فحسب، وعليه فلابدّ في الإتيان بها من لحاظ هذا العنوان وإلّا لم يأت بالواجب، ولحاظ العنوان يساوق قصد التوصّل بها إلى ذي المقدّمة، فثبت المطلوب.

انوار الأصول، ج 1، ص: 400

إن قلت: لازم ذلك عدم حصول الغرض فيما إذا أتى المكلّف بالمقدّمة من دون التوصّل مع أنّه لا شبهة في حصوله فيما إذا كانت المقدّمة من التوصّليات.

قلنا: ربّما يسقط الغرض من المأمور به بما ليس بمأمور به، فينتفي الواجب بانتفاء موضوعه، وهذا ممّا يتّفق كثيراً ما في الواجبات التوصيلية كما إذا حصل تطهير المسجد بنزول المطر أو بماء مغصوب لم يكن التطهير به مأموراً به قطعاً، ولكنّه لا ينافي اختصاص الوجوب بحصّة خاصّة من المقدّمة وهي الحصّة المقيّدة بقصد التوصّل.

وقد أورد عليه بما حاصله:

إنّ الواجب إنّما هو ذات المقدّمة التي هي مقدّمة بالحمل الشائع، وأمّا عنوانها فهو من الجهات الباعثة على وجوبها كالمصالح والمفاسد الكامنة في متعلّقات الأحكام (فهو في الواقع من الجهات التعليلية لوجوب المقدّمة لا من الجهات التقييديّة له) فلو أتى بالمقدّمة بدون قصد التوصّل فقد أتى بالواجب، وإلّا لو لم يكن الواجب مطلق المقدّمة لم يجتز بما لم يقصد به التوصّل ولم يسقط به الوجوب قطعاً، فلابدّ من نصب السلّم مرّة اخرى مثلًا بقصد التوصّل مع أنّه ممّا لم يقل به أحد ويخالفه حكم العقل القطعي، ولا يقاس ذلك بمثل تطهير المسجد بمقدّمة محرمة كماء مغصوب أو بنزول المطر لأنّ عدم اتّصاف المقدّمة فيهما بالوجوب ليس إلّالأجل المانع عنه، وهو الاتّصاف بالحرمة في المثال الأوّل، والخروج عن القدرة في المثال الثاني لا لفقد المقتضي فيه، أي الملاك من التوقّف والمقدّميّة، فلولا المانع لأتّصفا أيضاً بالوجوب قطعاً كغيرهما من الفرد المباح والفرد الداخل في القدرة.

ثمّ إنّ المحقّق الإصفهاني رحمه الله في حاشية الكفاية تصدّى إلى توجيه مراد الشّيخ رحمه الله بما حاصله:

أنّه فرق بين الواجبات العقليّة والواجبات الشرعيّة، فإنّ الجهات التعليلية في الثانيّة غير الجهات التقييديّة فيها، فإن الصّلاة مثلًا تكون الجهة التعليلية فيها النهي عن الفحشاء مثلًا، وهو ليس قيداً لها حتّى يكون الواجب الصّلاة الناهية عن الفحشاء، بخلاف الأحكام العقليّة فتكون الجهة التعليلية فيها بعينها هي الموضوع لحكم العقل، فحكم العقل بحسن ضرب اليتيم للتأديب مثلًا حكم بحسب الواقع والحقيقة بحسن التأديب، كما أنّ حكمه بقبح الضرب للايذاء حكم في الواقع بقبح الايذاء، فتكون الجهة التعليلية فيها بعينها هي الجهة التقييديّة والموضوع للحكم، وعلى هذا الضوء فبما أنّ مطلوبيّة المقدّمة ليست لذاتها بل لحيثية

مقدّميتها والتوصّل انوار الأصول، ج 1، ص: 401

بها، فالمطلوب الجدّي والموضوع الحقيقي للحكم العقلي إنّما هو نفس التوصّل «1».

وقد ناقش فيه بعض الأعلام «بأنّ رجوع الجهات التعليلية في الأحكام العقليّة إلى الجهات التقييديّة وإن كان في نهاية الصحّة والمتانة إلّاأنّه أجنبي عن محلّ الكلام في المقام، وذلك لما تقدّم في أوّل البحث من أنّ وجوب المقدّمة عقلًا بمعنى اللابدّيّة خارج عن مورد النزاع وغير قابل للانكار، وإنّما النزاع في وجوبها شرعاً الكاشف عنه العقل، وكم فرق بين الحكم الشرعي الذي كشف عنه العقل وحكم العقل، وقد عرفت أنّ الجهات التعليلية في الأحكام الشرعيّة لا ترجع إلى الجهات التقييديّة، فما أفاده رحمه الله لا ينطبق على محلّ للنزاع» «2».

أقول: الأولى في مقام الدفاع عن مقالة الشّيخ رحمه الله أن نقول: أنّه قد وقع الخلط في المقام بين العناوين القصديّة التي لا تتحقّق بدون القصد كعنوان التأديب الذي يحصل بالضرب المقصود منه التأديب (وإلّا يكون ظلماً وإيذاءً) وبين غيرها من العناوين كعنوان الغصب الذي يحصل بالتصرّف في مال الغير من دون طيب نفسه وإن لم يقصد به الغصب، والمقدّمة في ما نحن فيه إنّما تكون من القسم الأوّل، فلابدّ في تحصيلها إلى قصد المقدّميّة، وهو يساوق قصد التوصّل بها إلى ذيها.

لكن الإنصاف أنّه لا دليل على كونه من القسم الأوّل بل المقامات مختلفة، فلذا ينتقض بمثل نصب السلّم الذي يحصل بلا قصد التوصّل أيضاً، فالإشكال باقٍ على حاله فإنّه لا يجب نصبه مرّة اخرى بقصد التوصّل قطعاً.

بقي هنا شي ء:

وهو ما أشرنا إليه سابقاً من أنّه وقع النزاع في تعيين مراد الشّيخ الأعظم رحمه الله، فهل مقصوده اعتبار قصد التوصّل قيداً في المقدّمة كما هو الظاهر من كلماته وكان

هو مدار البحث إلى هنا، أو أنّ مقصوده اعتباره في مقام الامتثال وترتّب المثوبة (كما أيّده في تهذيب الاصول) «3» وأنّ من أراد التقرّب بالمقدّمة إلى اللَّه تعالى وترتّب الثواب عليها فليأت بها بقصد التوصّل بها إلى ذيها،

انوار الأصول، ج 1، ص: 402

وحينئذٍ لا إشكال في صحّة ما إدّعاه حتّى بناءً على مبنى القائل بوجوب المقدّمة مطلقاً، حيث إنّه لا خلاف في اعتبار قصد التوصّل في مقام الطاعة لترتّب المثوبة، أو أنّ مراده ما ذكره المحقّق النائيني رحمه الله بعنوان احتمال ثالث في كلامه، وهو اعتبار قصد التوصّل قيداً في خصوص حال المزاحمة كما إذا كانت المقدّمة محرّمة، وقال أنّه تساعد عليه جملة من عبارات التقرير، وكان الاستاذ المحقّق السيّد العلّامة الإصفهاني رحمه الله ينسب ذلك إلى الشّيخ رحمه الله ولا نعلم أنّ نسبته هذه هل كانت مستندة إلى استظهار نفسه أو إلى سماعه ذلك من المحقّق سيّد أساتيذنا العلّامة الشيرازي رحمه الله عن استاذه المحقّق العلّامة الأنصاري رحمه الله» «1»؟ ولكن يرد عليه ما ذكره المحقّق النائيني رحمه الله فأنّه بعد تقريبه وتوجيهه بأنّ «المقدّمة إذا كانت محرّمة وتوقّف عليها واجب فعلي فغاية ما يقتضيه التوقّف المزبور في مقام المزاحمة هو ارتفاع الحرمة عن المقدّمة فيما إذا أتى بها بقصد التوصّل، وأمّا مع عدم قصده فلا مقتضى لارتفاع حرمتها».

أورد عليه: بأنّ المزاحمة إنّما هي بين حرمة المقدّمة ووجوب ما يتوقّف عليه ولو لم نقل بوجوب المقدّمة أصلًا، فالتزاحم إنّما هو بين وجوب إنقاذ المؤمن وحرمة التصرّف في الأرض المغصوبة مثلًا، فلا مناصّ عن الالتزام بارتفاع الحرمة لفرض كون الواجب أهمّ سواء في ذلك القول بوجوب المقدّمة والقول بعدمه فاعتبار قصد التوصّل في متعلّق الوجوب المقدّمي

أجنبي عمّا به يرتفع التزاحم المذكور بالكلّية» «2».

أقول: وما أفاده متين.

وجوب المقدّمة الموصلة

أمّا القول الرابع: هو ما ذهب إليه صاحب الفصول من وجوب المقدّمة الموصلة، أي وجوب خصوص المقدّمة التي تنتهي إلى ذي المقدّمة (وقد كان يعتقد بأنّه ممّا لم يتفطّن له غيره) واستدلّ له بثلاثة وجوه:

الوجه الأوّل: أنّ العقل لا يدرك أزيد من الملازمة بين طلب شي ء وطلب مقدّماته التي في سلسلة علّة وجود ذلك الشي ء في الخارج بحيث يكون وجودها فيه توأماً وملازماً لوجود

انوار الأصول، ج 1، ص: 403

الواجب، وأمّا ما لا يقع في سلسلة علّته ويكون وجوده خارجاً مفارقاً عن وجود الواجب فالعقل لا يدرك الملازمة بين إيجابه وإيجاب ذلك أبداً، ونتيجته وجوب خصوص المقدّمة الموصلة.

الوجه الثاني: إمكان تقييد المقدّمة بقيد الإيصال من جانب المولى وجداناً لأنّه بنفسه دليل على انحصار حكم العقل في المقدّمة الموصلة، وإلّا لو كانت دائرة حكم العقل أوسع منها لم يمكن تقييد ما حكم به العقل.

الوجه الثالث: أنّ الواجب على المكلّف إنّما هو تحصيل غرض المولى فحسب، ولا إشكال في أنّ غرضه من إيجاب المقدّمة هو الوصول إلى ذي المقدّمة، فيكون الواجب خصوص ما يوصله إلى ذي المقدّمة.

ولكن قد أورد عليه أيضاً بامور:

الأمر الأوّل: أنّ العقل لا يفرّق بين الموصل وغيره لأنّ ما يتوقّف عليه الواجب خارجاً إنّما هو ذات المقدّمة، والملازمة ثابتة في الخارج بين وجود ذاتها ووجود ذي المقدّمة.

الأمر الثاني: أنّ الغرض من إيجاب المقدّمة ليس هو الوصول إلى ذي المقدّمة بل إنّما هو التمكّن من الوصول، ومن المعلوم أنّ التمكّن من الوصول يترتّب على المقدّمة مطلقاً لا خصوص الموصلة منها.

وبعبارة اخرى: إنّ المتوقّع من كلّ شي ء ما يكون صدوره منه ممكناً، فالمتوقّع من نصب السلّم مثلًا

ليس هو الوصول إلى السطح لأنّه بمجرّده لا يوجب الوصول إليه بل يتوقّع منه إمكان الوصول إلى السطح، كما أنّ المتوقّع من الوضوء إنّما هو التمكّن من الإتيان بالصّلاة، ولا إشكال في أنّ هذا التمكّن يوجد في جميع المقدّمات فإنّ المكلّف بالوضوء يصير قادراً على الصّلاة، سواء أتى به بنيّة الصّلاة أو لا؟

نعم، إنّه كذلك في المقدّمات التوليديّة حيث إنّ ما يترتّب عليها إنّما هو الوصول إلى ذي المقدّمة لا مجرّد التمكّن منه، لكن ليست المقدّمة في محلّ النزاع منحصرة في العلل التامّة والأسباب التوليديّة.

الأمر الثالث: إذا أتى المكلّف بالمقدّمة ولم يأت بذي المقدّمة بعد فإمّا أن يسقط الأمر الغيري المتعلّق بها أو لا يسقط، لا مجال للثاني لأنّ بقاء الأمر الغيري على حاله مع حصول انوار الأصول، ج 1، ص: 404

المقدّمة في الخارج تحصيل للحاصل، وعلى الأوّل فإمّا أن يكون السقوط لأجل العصيان أو لفقد الموضوع أو لموافقة الخطاب وحصول الامتثال، والأول غير حاصل لفرض الإتيان بالمقدّمة، وكذا الثاني لبقاء وجوب ذي المقدّمة، فيتعيّن الثالث وهذا هو المطلوب، إذ لو كان الواجب هو خصوص المقدّمة الموصلة لم يسقط الأمر الغيري، فالسقوط كاشف عن أنّ الواجب هو مطلق المقدّمة ولو لم توصل إلى ذيها.

أقول: يمكن الدفاع عن صاحب الفصول:

أوّلًا: بأنّ للمولى نوعين من الغرض: غرض ابتدائي وهو التمكّن من الوصول إلى ذي المقدّمة، وغرض نهائي وهو الوصول إلى نفس ذي المقدّمة، فليس الغرض منحصراً في إمكان الوصول، فإذا تحقّق الأوّل بقي الثاني.

ثانياً: صحيح أنّ المتوقّع من كلّ شي ء لا بدّ أن يكون خصوص ما يترتّب عليه من الأثر وما يمكن صدوره منه، وأنّ المترتّب على إيجاد المقدّمة إنّما هو التمكّن من الوصول لا نفس الوصول، ولكن

لا إشكال في أنّ الوصول به إلى ذي المقدّمة يكون مقدوراً للمكلّف، فللمولى أن يطلب من المكلّف خصوص الوصول إلى ذي المقدّمة، وأنّ يكلّفه بخصوص مقدّمة توصّله إلى ذي المقدّمة، لأنّ ملاك صحّة التكليف بشي ء إنّما هو كونه مقدوراً للمكلّف وهو حاصل في المقام.

ثالثاً: نحن لا نوافق سقوط الأمر بإيجاد مطلق المقدّمة مع عدم ترتّب ذي المقدّمة عليه بل إنّه باقٍ على فعليّته وداعويّته ما لم يأت بذي المقدّمة، أي أنّ بقاء داعويته مشروط بعدم الإتيان بذي المقدّمة على نحو الشرط المتأخّر، فإن أتى بذي المقدّمة يسقط الأمر بالمقدّمة عن داعويته، وما دام لم يأت بذي المقدّمة تكون الداعويّة باقية على حالها، كما أنّه كذلك في إجزاء الواجب النفسي بالنسبه إلى الأمر النفسي الضمني المتعلّق بكلّ جزء جزء، فسقوطه عن الفعليّة والداعويّة مشروطة بنحو الشرط المتأخّر بإتيان سائر الأجزاء وإن كان لا يجب تحصيل الحاصل، فما نحن فيه من هذه الجهة أشبه شي ء بأجزاء الواجب النفسي.

ثمّ إنّه مضافاً إلى ما اورد على صاحب الفصول من الإشكالات الثلاثة المزبورة ذكر بعضهم لمقالته ثلاثة توالٍ فاسدة:

الأوّل: أنّ لازم مقالته كون ذي المقدّمة تابعاً في وجوبه وعدمه لإرادة المكلّف في المقدّمات انوار الأصول، ج 1، ص: 405

المحرّمة، وهو واضح البطلان لأنّ لازمه عدم الوجوب عند عدم الإرادة.

وبيان الملازمة: إنّ انقاذ الغريق مثلًا المتوقّف على الدخول في الأرض المغصوبة إنّما يكون واجباً فيما إذا كان الدخول في الأرض المغصوبة ممكناً، والدخول في الأرض المغصوبة إنّما يصير ممكناً فيما إذا كان مباحاً، وإباحته تتوقّف على كونه موصلًا إلى ذي المقدّمة بناءً على وجوب خصوص المقدّمة الموصلة، والإيصال إلى ذي المقدّمة متوقّف على إرادة المكلّف الوصول إليه، ونتيجته توقّف وجوب الانقاذ على

إرادة المكلّف.

وبعبارة اخرى: لو لم يرد المكلّف الوصول إلى ذي المقدّمة لم تكن المقدّمة موصلة قطعاً ومع عدم إيصالها تكون باقية على حرمتها، ومع بقاء حرمتها تكون غير ممكنة شرعاً، وإذا كانت المقدّمة غير ممكنة يسقط ذو المقدّمة عن وجوبه، فوجوب ذي المقدّمة تابع لإرادة المكلّف.

ولكن يمكن الجواب عنه بأنّه مغالطة واضحة، لأنّ كلًا من إيجاد ذي المقدّمة وإمكان المقدّمة معلول لعلّة واحدة، وهي إرادة المكلّف، أي إذا أراد المكلّف الوصول إلى ذي المقدّمة صارت المقدّمة مباحة ممكنة قطعاً فإباحتها وبالمآل الوصول إلى ذي المقدّمة متوقّف على إرادة المكلّف، ولا إشكال في أنّ إرادته اختياريّة ومقدورة له، ونتيجته أن يكون كلّ من المقدّمة وذي المقدّمة مقدوراً له بالواسطة، فيصحّ تكليفه بإتيانهما.

الثاني: لزوم الدور، لأنّ مردّ هذا القول كون الواجب النفسي مقدّمة للمقدّمة لفرض أنّ ترتّب وجوده عليها قد اعتبر قيداً لها، فيلزم كون وجوب الواجب النفسي ناشئاً من وجوب المقدّمة وهو يستلزم الدور، فإنّ وجوب المقدّمة على الفرض إنّما نشأ من وجوب ذي المقدّمة فلو نشأ وجوبه من وجوبها لدار.

والجواب عنه أوّلًا: إنّه من قبيل الدور المعي الذي ليس محالًا عقلًا حيث إنّ كلّ واحد من المقدّمة وذي المقدّمة يتوقّف على أمر ثالث وهو إرادة المكلّف فهما معلولان لعلّة واحدة.

وثانياً: يمكن أن يقال: إنّ وجوب ذي المقدّمة لا يتوقّف على وجوب مقدّمته قطعاً، لأنّ المفروض أنّه واجب نفسي، نعم يلزم من وجوب المقدّمة الموصلة وجوب غيري آخر لذي المقدّمة زائداً على وجوبه النفسي ولا مانع منه، وهو جيّد.

الثالث: أنّه يستلزم محذور التسلسل، لأنّ الواجب إذا كان هو خصوص المقدّمة الموصلة، فبطبيعة الحال تكون المقدّمة مركّبة من جزئين: ذات المقدّمة وقيد الإيصال، وكلّ من هذين انوار

الأصول، ج 1، ص: 406

يكون مقدّمة لوجود المركّب منهما، فننقل الكلام إلى هذين الجزئين، فهل هما واجبان مطلقاً، أو مع قيد الإيصال؟ والأوّل خلاف الفرض، والثاني يوجب تركّب كلّ من الجزئين من ذات وقيد وهكذا إلى أن يتسلسل.

ويمكن الجواب عنه: بأنّ هذا مبني على كون الأجزاء الداخليّة مقدّمة للمركّب مع أنّه قد أنكرناه سابقاً وقلنا أنّها عبارة عن نفس المركّب لا مقدّمة له.

هذا- مضافاً إلى أنّ التسلسل ممتنع في الامور التكوينيّة لا الاعتباريّة، فإنّها تدور مدار الاعتبار كلّما أمسك المعتبر من اعتبارها انتهت.

ولقد أجاد بعض الأعلام حيث قال: «والتحقيق في المقام أن يقال: إنّ الالتزام بوجوب المقدّمة الموصلة لا يستدعي اعتبار الواجب النفسي قيداً للواجب الغيري أصلًا، والسبب في ذلك هو أنّ الغرض من التقييد بالايصال إنّما هو الإشارة إلى أنّ الواجب إنّما هو حصّة خاصّة من المقدّمة، وهي الحصّة الواقعة في سلسلة العلّة التامّة لوجود الواجب النفسي دون مطلق المقدّمة، وبكلمة اخرى: أنّ المقدّمات الواقعة في الخارج على نحوين:

أحدهما: ما كان وجوده في الخارج ملازماً لوجود الواجب فيه وهو ما يقع في سلسلة علّة وجوده.

وثانيهما: ما كان وجوده مفارقاً لوجوده فيه وهو ما لا يقع في سلسلتها، فالقائل بوجوب المقدّمة الموصلة إنّما يدّعي وجوب خصوص القسم الأوّل منهما دون القسم الثاني، وعليه فلا يلزم من الالتزام بهذا القول كون الواجب النفسي قيداً للواجب الغيري، فإذن لا موضوع لإشكال الدور أو التسلسل أصلًا» «1».

هذا كلّه في القول الرابع.

امّا القول الخامس: وهو وجوب المقدّمة حال الإيصال، ذهب إليه شيخنا الحائري والمحقّق النائيني والمحقّق العراقي قدس سرهم (كما مرّ) فإنّهم بعد أن لاحظوا حكم الوجدان بوجوب المقدّمة الموصلة ومن جانب آخر استلزام هذا الحكم محاذير عقليّة كالدور والتسلسل

التجأوا إلى هذا

انوار الأصول، ج 1، ص: 407

القول تخلّصاً عن تلك المحاذير مع اتّحاده بذلك القول في الأثر، وهذا بنفسه أحد الوجهين اللّذين يمكن الاستدلال بهما لمقالتهم.

والوجه الثاني: ما أفاده المحقّق الحائري رحمه الله في درره وهو أنّ الآمر بعد تصوّر المقدّمات بأجمعها يريدها بذواتها لأنّ تلك الذوات بهذه الملاحظة لا تنفك عن المطلوب الأصلي، ولو لاحظ مقدّمة منفكّة عمّا عداها لا يريدها جزماً، فإنّ ذاتها وإن كانت مورداً للإرادة لكن لمّا كانت المطلوبيّة في ظرف ملاحظة باقي المقدّمات معها لم تكن كلّ واحدة مرادة بنحو الإطلاق بحيث تسري الإرادة إلى حال انفكاكها عن باقي المقدّمات» «1».

والحاصل: أنّ الواجب هو المقدّمة حين ملاحظة سائر المقدّمات أي حين لحاظ الإيصال إلى ذي المقدّمة لأنّ ملاحظة سائر المقدّمات تساوق ملاحظة الإيصال إلى ذي المقدّمة كما لا يخفى.

وقد ورد هذا المعنى ببيان آخر في كلمات المحقّق النائيني رحمه الله أيضاً فإنّه بعد أن ناقش في المقدّمة الموصلة على نحو يكون التوصّل قيداً للواجب قال: «لكن مع ذلك لا تكون الذات مطلقاً واجبة بل الذات من حيث الإيصال والمراد بالذات من حيث الإيصال هو الذات في حال الإيصال، على وجه يلاحظ المقدّمة وذا المقدّمة توأمين، من دون أن يكون أحدهما قيداً للآخر، بل يلاحظ المقدّمة على ما هي عليها من وقوعها في سلسلة العلّة، فإنّه لو كانت سلسلة العلّة مركّبة من إجزاء فكلّ جزء إنّما يكون جزء العلّة إذا كان واقعاً في سلسلة العلّة لا واقعاً منفرداً، فإنّ لحاظ حال إنفراده ينافي لحاظه جزءً للعلّة بل إنّما يكون جزء العلّة إذا لوحظ على ما هو عليه من الحالة، أي حالة وقوعه في سلسلة العلّة من دون أن تؤخذ سائر الأجزاء

قيداً له، ففي المقام يكون معروض الوجوب المقدّمي هي الذات لكن لا بلحاظ إنفرادها ولا بلحاظ التوصّل بها بأن يؤخذ التوصّل قيداً بل بلحاظها في حال كونها ممّا يتوصّل بها، أي لحاظها ولحاظ ذيها على وجه التوأميّة» «2».

ولكن يمكن النقاش فيه أيضاً بأنّ الأحكام في مقام الثبوت لا تخلو من أحد الأمرين، فإمّا أن تنشأ على نحو القضيّة المطلقة، أو على نحو القضيّة المشروطة المقيّدة، ولا شي ء ثالث في البين انوار الأصول، ج 1، ص: 408

يسمّى بالحصّة التوأمة على بعض التعابير، وبالقضيّة الحينية على تعبير آخر، لأنّه لا إهمال في مقام الثبوت، فإنّ المولى إمّا أن يطلب الوضوء مثلًا مع تقيّده بقيد الإيصال فيكون من قبيل القضيّة المشروطة، أو لا يطلبه في الواقع كذلك فيكون من قبيل القضيّة المطلقة، ولا نعقل شيئاً ثالثاً في مقام الثبوت والواقع.

وقد يجاب عن هذه المناقشة بأنّه يمكن تصوير شقّ ثالث في مقام الثبوت وهو ما قد يعبّر عنه بالتضيّق الذاتي في المعلول بالنسبة إلى علّته، فإنّ كلّ نار مثلًا لا توجد مطلق الحرارة بل إنّما توجد الحرارة المضيّقة بها نفسها، فالحرارة بالنسبة إليها لا مطلقة وهو واضح، ولا مقيّدة لأنّ في التقييد يكون القيد والمقيّد في رتبة واحدة، والحرارة معلولة للنار، والمعلول ليس في رتبة علّته فلابدّ من القول أنّ الحرارة مضيّقة بالنار في مرتبة الذات، وهكذا في ما نحن فيه، فالوضوء لا مطلق بالنسبة إلى الصّلاة ولا مقيّد بها، لكونهما في رتبتين، فيكون مضيّقاً بها بتضيّق ذاتي، ولعلّ هذا هو المراد من الحصّة التوأمة.

ولكن يمكن الجواب عنه أيضاً: بأنّ التضيّق الذاتي أمر مقبول في باب العلّة والمعلول، وقد مرّ كراراً أنّ مثل المقام ليس من ذلك الباب، فإنّ العلّة

لوجوب الوضوء إنّما هي إرادة المولى لا وجوب الصّلاة، بل وجوب الصّلاة من قبيل الداعي للمولى إلى إيجاب الوضوء فقياس الوضوء، بالنسبة إلى الصّلاة بالحرارة بالنسبة إلى النار مع الفارق، ولا يمكن تصوير شقّ ثالث باسم التضيّق الذاتي فيه، بل يدور الأمر فيه بين الإطلاق والاشتراط كما عرفت، وحيث إنّه ليس من باب العلّة والمعلول فلا مانع من التقييد والاشتراط فيه، أي يقول المولى: إنّما اريد هذا الوضوء مقيّداً بإيصاله إلى الصّلاة، فرجع الكلام بالمآل إلى المقدّمة الموصلة.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ جميع الأقوال غير تامّة إلّاالقول الرابع وهو مقالة صاحب الفصول.

فنقول: الحقّ في المسألة هو هذا القول، أي وجوب المقدّمة الموصلة ويمكن أن يستدلّ له بامور ثلاثة:

الأمر الأوّل: الوجدان، وهو العمدة، فإنّ الوجدان الفقهي في المقدّمات المحرّمة حاكم بأنّ تبديل حكم حرمة المقدّمة إلى جوازها بل وجوبها منحصر فيما إذا أوصل المكلّف إلى ذي المقدّمة، فمن دخل الدار المغصوبة ولم ينقذ الغريق فقد عصى، ومن دخلها وأنقذ الغريق فقد

انوار الأصول، ج 1، ص: 409

أطاع وامتثل حتّى في ما إذا لم يكن من قصده الانقاذ، نعم إنّه تجري حينئذٍ على المولى فيعاقب على التجرّي بناءً على ترتّب العقاب عليه، كما أنّه إذا قصد الانقاذ ولم ينقذ لعذر فقد عصى ولم يمتثل أمر المولى في الواقع ولكن لا يعاقب عليه لكونه معذوراً بحسب قصده واعتقاده، وبعبارة اخرى: يترتّب على فعله مفسدة من دون المصلحة الراجحة ولكنّه معذور لعدم علمه بذلك.

الأمر الثاني: أنّ العقل لا يأبى عن النهي عن المقدّمة غير الموصلة بأن يقول الآمر الحكيم مثلًا، إنّي اريد الحجّ واريد المسير الذي يتوصّل به إليه ولا اريد المسير الذي لا يتوصّل به إليه، فإنّ جواز هذا

النهي عند العقل شاهد على أنّ الواجب هو خصوص المقدّمة الموصلة لأنّه لا تخصيص في حكم العقل.

الأمر الثالث: تقيّد الغرض بالمقدّمة الموصلة، حيث إنّ الغرض وهو الوصول إلى ذي المقدّمة يترتّب على خصوص الموصلة كما مرّ، وأمّا قول المحقّق الخراساني رحمه الله من أنّ الغرض هو التمكّن من الوصول وهو يترتّب على مطلق المقدّمة فقد مرّ الجواب عنه بأنّه غرض ابتدائي، والغرض النهائي إنّما هو الوصول إلى ذي المقدّمة.

ثمرة القول بوجوب المقدّمة الموصلة:

وقد ذكر لها عدّة ثمرات:

الثمرة الاولى: ما عرفت في المقدّمات المحرّمة كالدخول في الأرض المغصوبة لانقاذ الغريق حيث إنّه إن قلنا بوجوب المقدّمة مطلقاً يصير الدخول فيها مباحاً وإن لم يقصد به الانقاذ ولم يتحقّق بعده الانقاذ، وأمّا إن قلنا بوجوب خصوص المقدّمة الموصلة فلا يصير الدخول مباحاً إلّا في صورة تحقّق الانقاذ خارجاً، نعم أنّه لا يعاقب على الدخول إذا قصد به الانقاذ ولم يقدر عليه لمانع كما مرّ آنفاً.

الثمرة الثانيّة: بطلان الوضوء (وسائر المقدّمات العباديّة) فيما إذا أتى به ولم يأت بالصّلاة بعده بناءً على عدم كون الوضوء مطلوباً نفسيّاً واعتبار قصد الأمر في العبادة، لأنّه إن قلنا بوجوب خصوص المقدّمة الموصلة فحيث إنّ هذا الوضوء لم يكن موصلًا فلم يكن مأموراً به فوقع باطلًا، بخلاف ما إذا كان الواجب مطلق المقدّمة (ويجري مثل هذا الكلام في أمثال الوضوء كالغسل وغيره).

انوار الأصول، ج 1، ص: 410

الثمرة الثالثة: ما ذكره كثير من الأصحاب من أنّه بناءً على القول بوجوب المقدّمة مطلقاً تكون عبادة تارك الضدّ الواجب الأهمّ باطلة كصلاة تارك الإزالة بناءً على أن يكون ترك الضدّ مقدّمة لإتيان الضدّ الآخر، فيكون ترك الصّلاة واجباً لكونه مقدّمة للازالة الواجبة، فيكون فعلها حراماً لأنّ الأمر بالشي ء يقتضي

النهي عن ضدّه العامّ، والضدّ العامّ للترك الواجب هو الفعل، فتكون العبادة باطلة.

وأمّا بناءً على القول بوجوب المقدّمة الموصلة تقع الصّلاة صحيحة، لأنّ اشتغال المكلّف بالصّلاة في صورة ترك الإزالة كاشف عن وجود صارف عن الإزالة وعن عدم إرادتها، فلم يكن ترك الصّلاة موصل إلى الإزالة لوجود هذا الصارف، فلم يكن واجباً، فلا يكون فعلها حراماً، ونتيجته صحّة الصّلاة.

ولكن أورد على هذه الثمرة شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله (على ما في تقريراته) بما لفظه:

«إنّ الترك الخاصّ (يعني به الترك الموصل) نقيضه رفع ذلك الترك وهو أعمّ من «الفعل» (مثل فعل الصّلاة) و «الترك المجرّد» لأنّ نقيض الأخصّ أعمّ مطلق كما قرّر في محلّه فيكون الفعل لازماً لما هو من أفراد النقيض، وهذا يكفي في إثبات الحرمة، وإلّا لم يكن الفعل المطلق محرّماً فيما إذا كان الترك المطلق واجباً (أي بناءً على وجوب المقدّمة مطلقاً) لأنّ الفعل على ما عرفت ليس نقيضاً للترك لأنّه أمر وجودي ونقيض الترك إنّما هو رفعة (ترك الترك)، ورفع الترك إنّما هو يلازم الفعل مصداقاً وليس عينه كما هو ظاهر عند التأمّل.

فكما أنّ هذه الملازمة تكفي في إثبات الحرمة لمطلق الفعل فكذلك يكفي في المقام (إلى أن قال) غاية الأمر أنّ ما هو النقيض في مطلق الترك إنّما ينحصر مصداقه في الفعل فقط، وأمّا النقيض للترك الخاصّ فله فردان وذلك لا يوجب فرقاً فيما نحن بصدده كما لا يخفى» «1» (انتهى).

وأجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه الله: بأنّ فعل الصّلاة بناءً على القول بوجوب المقدّمة الموصلة لا يكون إلّامقارناً لما هو النقيض، وهو رفع الترك الموصل الذي يجامع مع الفعل تارةً ومع الترك المجرّد غير الموصل اخرى، ولا يكاد يسري حرمة الشي ء

إلى ما يلازمه فضلًا عمّا يقارنه أحياناً، نعم لا بدّ أن لا يكون الملازم محكوماً فعلًا بحكم آخر على خلاف حكمه لا أن يكون محكوماً بحكمه، وهذا بخلاف فعل الصّلاة على القول بوجوب المقدّمة مطلقاً، لأنّه حينئذٍ

انوار الأصول، ج 1، ص: 411

بنفسه يعاند الترك المطلق وينافيه لا أن يكون ملازماً لترك الترك، فإنّ الفعل حينئذٍ وإن لم يكن عين الترك بحسب الاصطلاح مفهوماً لكنّه متّحد به عيناً وخارجاً فإن كان الترك واجباً فلا محالة يكون الفعل منهياً عنه قطعاً.

أقول: الإنصاف أنّ الحقّ مع الشّيخ الأعظم رحمه الله حيث يقول: إنّ نقيض الترك الموصل له مصداقان: أحدهما: فعل الصّلاة، والآخر: الترك غير الموصل، فيكون فعل الصّلاة من مصاديق النقيض لا من مقارناته لأنّه يكون من قبيل الصّوم الذي هو عبارة عن ترك المفطّرات مع قصد القربة، ولا إشكال في أنّ لنقيضه مصداقين: أحدهما: الإفطار بأحد المفطّرات، وثانيهما: ترك المفطّرات بدون قصد القربة، فكلّ من الأمرين مصداق لترك الصّيام لا من مقارناته، ولذلك كلّ واحد منهما يوجب المعصية ومخالفة أمر الصووم.

وإن شئت قلت: يرد نفس الإشكال على المحقّق الخراساني رحمه الله أيضاً حيث إنّ فعل الصّلاة كما لا يكون نقيض الترك الموصل بل يكون من مقارناته أو لوازمه كذلك لا يكون نقيض الترك المطلق، حيث إنّ نقيض الترك إنّما هو ترك الترك لا الفعل كما صرّح به الشّيخ الأعظم رحمه الله أيضاً في ذيل كلامه المزبور، فظهر إلى هنا أنّ إشكال الشّيخ الأعظم رحمه الله على الثمرة الثالثة تامّ في محلّه.

ويرد إشكالان آخران على هذه الثمرة:

الإشكال الأوّل: أنّ قيد الإيصال شرط الواجب لا الوجوب وحينئذٍ يجب تحصيله على أيّ حال: أي يكون ترك الصّلاة الموصل واجباً حتّى مع

وجود الصارف عن الإزالة.

وبعبارة اخرى: يجب على المكلّف أمران: ترك الصّلاة وإيصاله إلى الإزالة، ولا يوجب ترك أحدهما سقوط الآخر عن الوجوب، فلا يوجب ترك الإيصال إلى الإزالة سقوط المقدّمة، أي ترك الصّلاة عن الوجوب، كما أنّ ترك الصّلاة لا يوجب سقوط الوضوء عن الوجوب (فإنّه شرط للواجب لا الوجوب).

الإشكال الثاني: سلّمنا أنّ الصّلاة تقع صحيحة بناءً على القول بوجوب المقدّمة الموصلة ولكنّها تقع صحيحة بناءً على وجوب مطلق المقدّمة أيضاً، وذلك من طريق القول بالترتّب إذا قلنا بعدم دلالة الأمر بشي ء على النهي عن ضدّه الخاصّ، اللهمّ إلّاأن يقال أنّه خروج عن الفرض.

الجهة السادسة: في ثمرة القول بوجوب المقدّمة

إن قلنا بأنّ المسألة اصوليّة وأنّ البحث فيها في ثبوت الملازمة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها وعدمها فلا إشكال في أنّ الثمرة حينئذٍ هي ثبوت الملازمة بين وجوب كلّ واجب ووجوب مقدّماته، وهي ثمرة لمسألة اصوليّة تقع كبرى قياس استنباط الأحكام الفرعيّة فيقال مثلًا: الملازمة ثابتة بين وجوب المقدّمة ووجوب ذيها، والصّلاة واجبة فتجب جميع مقدّماتها، وأمّا إن قلنا بأنّ المسألة قاعدة فقهيّة كما هو المختار ومقتضى ما عنونه المشهور (من أنّ المقدّمة واجبة أم لا؟) فتكون النتيجة وجوب كلّ مقدّمة وهو حكم كلّي فرعي يستنتج منه أحكام فرعيّة جزئيّة.

ولكن قد خالف فيه بعض وقال بأنّ هذه الثمرة لا أثر لها، أمّا أوّلًا: فلأنّ هذا الوجوب ممّا لا أثر له حيث إنّه وجوب غيري لا يترتّب عليه ثواب ولا عقاب ولا يمكن التقرّب به.

وأمّا ثانياً: فلما ذكره بعض الأعلام من أنّه لا إشكال في اللابدّية العقليّة في باب المقدّمة، ومعها يكون إيجاب آخر شرعي لغواً لا أثر له.

ولكن كلا الوجيهن غير تامّ أمّا الأوّل: فلما مرّ من إمكان التقرّب بالواجب الغيري

وأنّه يترتّب عليه أيضاً الثواب.

وأمّا الثاني: فلأنّه يرجع في الحقيقة إلى عدم وجوب المقدّمة شرعاً مع أنّ النزاع في ترتّب الثمرة وعدمه مبني على وجوب المقدّمة كذلك.

هذا كلّه في الثمرة الاولى وهي امّ الثمرات.

ثمّ إنّه قد ذكروا لبحث مقدّمة الواجب ثمرات اخرى:

الثمرة الاولى: أنّه على القول بوجوب المقدّمة إذا نذر الإتيان بواجب شرعي فيحصل البرء من النذر بالإتيان بمقدّمة من مقدّمات الواجب، وعلى القول بعدمه لا يحصل البرء به.

ويرد عليه:

أوّلًا: أنّ هذا ليس ثمرة لمسألة اصوليّة تقع كبرى لقياس الاستنباط بل إنّه بحث موضوعي في أنّه هل تكون المقدّمة من مصاديق عنوان الواجب الذي تعلّق به النذر أو لا؟ والمعروف أنّ انوار الأصول، ج 1، ص: 413

البحث عن الموضوعات الخارجيّة لا يعدّ مسألة فقهيّة وإن كان لنا كلام فيه في محلّه إجمالًا.

وقد أورد عليه ثانياً: بأنّ البرء وعدمه تابعان لقصد الناذر، ولكن يمكن الجواب عنه بأنّه ربّما يقصد الناذر ما يصدق عليه عنوان الواجب مهما كان، ولا إشكال في أنّه حينئذٍ إن قلنا بوجوب المقدّمة يحصل البرء بإتيانها أيضاً وإلّا فلا.

الثمرة الثانيّة: أنّه على القول بوجوب المقدّمة لا يجوز أخذ الاجرة على المقدّمة لحرمة أخذ الاجرة على الواجبات، بخلاف ما إذ لم نقل بوجوبها فيجوز أخذها عليها.

ويرد عليه أيضاً: أنّه ليس ثمرة اصوليّة، فإنّ جواز أخذ الاجرة على المقدّمة أو عدمه حكم جزئي يستنبط من كبرى فقهيّة، وهي عدم جواز أخذ الاجرة على الواجبات.

واستشكل عليه أيضاً: بأنّ أخذ الاجرة على الواجب لا بأس به، وتوضيح ذلك أنّ عمل الإنسان تارةً: يرجع نفعه إلى نفسه فحسب كما إذا أتى بواجب توصّلي لا نفع فيه للغير، فلا إشكال في عدم جواز أخذ الاجرة عليه من الغير لعدم الفائدة

فيه للغير، فيكون سفهيّاً وهو خارج عن محلّ البحث، واخرى: يرجع نفعه إلى الغير ولكنّه عمل عبادي كما إذا أتى بصلاة أو صوم للغير، فيمكن أن يقال أيضاً بعدم جواز أخذ الاجرة عليه من باب منافاته مع قصد القربة، وهذا أيضاً خارج عن محلّ الكلام، وثالثة: يكون العمل من التوصّليات ويرجعه نفعه إلى الغير أيضاً كتطهير المسجد الذي يوجب سقوط وجوبه عن الغير فإنّ هذا هو محلّ الكلام، فذهب المحقّق الخراساني رحمه الله وكثير من الأعلام إلى جواز أخذ الاجرة عليه لعدم جريان إشكال السفاهة ولا إشكال قصد القربة فيه، وأمّا ثبوت عدم جوازه في بعض الواجبات بل في بعض المستحبّات فهو من باب أدلّة خاصّة تدلّ على لزوم إتيانه مجّاناً كما في تجهيز الميّت أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الأذان، وإلّا لو لم تثبت المجّانيّة فلا إشكال في جواز أخذ الاجرة.

أقول: قد ذكرنا في محلّه في المكاسب المحرّمة عدم جواز أخذ الاجرة حتّى في مثل المقام، لأنّ ذلك ينافي الوجوب، لأنّ معنى وجوب شي ء كونه وظيفة على العبد، ويوجد عند العرف والعقلاء نوع تضادّ بين أداء الوظيفة وأخذ الاجرة، ويعدّ أخذ الاجرة على إتيان الوظيفة باطلًا عندهم، فيكون أكل المال به أكلًا للمال بالباطل، وبذلك يصدق موضوع قوله تعالى: «لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ» بل لعلّ هذا هو دليل من قال بالمجّانيّة وحرمة أخذ الاجرة في انوار الأصول، ج 1، ص: 414

مثل تجهيز الميّت، وإلّا لا يوجد دليل لفظي خاصّ يدلّ عليها، وشرح هذا الكلام يطلب من محلّه من أبحاثنا في المكاسب المحرّمة.

الثمرة الثالثة: حصول الفسق بترك الواجب النفسي مع مقدّماته الكثيرة على القول بوجوبها وعدم حصوله على القول بعدمه، نعم هذا إذا

كان ترك الواجب النفسيْ من الصغائر دون الكبائر وإلّا لكان تركه بنفسه موجباً للفسق.

واجيب عنها بوجوه:

الوجه الأوّل: إنّه لا يترتّب العقاب على ترك المقدّمة حتّى يوجب تحقّق المعصية، وإن قلنا بترتّب الثواب على فعلها كما مرّ فتأمّل.

الوجه الثاني: أنّ المعصية تتحقّق بترك أوّل مقدّمة من المقدّمات ومعه لا يكون العاصي متمكّناً من إتيان ذي المقدّمة وحينئذٍ لا يكون ترك سائر المقدّمات بحرام حتّى يتحقّق به الاصرار على المعصية الموجب لارتفاع العدالة وحصول الفسق.

ولكن يمكن الجواب عن هذا بأنّ التارك للمقدّمة الاولى وإن كان تاركاً في الواقع لخصوصها مباشرةً ولكنّه تارك أيضاً لذي المقدّمة بالتسبيب، والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

اللهمّ إلّاأن يقال: الاصرار على المعصية عنوان عرفي لا يتحقّق إلّابترك واجبات مستقلّة لا واجبات مرتبطة بعضها ببعض- يحصل بها غرض واحد للمولى.

الثمرة الرابعة: لزوم اجتماع الأمر والنهي في المقدّمات المحرّمة بناءً على وجوب المقدّمة، فعدم جواز إتيان المقدّمة حينئذٍ متوقّف على القول بإمتناع الاجتماع وترجيح جانب الحرمة بخلاف ما إذا قلنا بعدم وجوب المقدّمة.

ولكن يرد عليها: إنّها ليست ثمرة لمسألة اصوليّة، لأنّ البحث عن أنّ المقدّمة هل هي مجمع لعنواني الأمر والنهي أو لا، بحث عن موضوع لمسألة اصوليّة، فهو من مبادى ء مسائل علم الاصول لا من نفسها ولا من المسائل الفقهيّة.

وقد أورد عليها أيضاً:

أوّلًا: أنّ مقدّمة الواجب ومسألة اجتماع الأمر والنهي مختلفان موضوعاً، فإنّ موضوع مسألة الاجتماع هو ما له جهتان تقييديتان يتعلّق الأمر بإحداهما والنهي بالاخرى، وهذا بخلاف مقدّمة الواجب فإنّ عنوان المقدّميّة ليس من الجهات التقييديّة بل التعليليّة، لأنّ انوار الأصول، ج 1، ص: 415

معروض الوجوب المقدّمي هو ذات المقدّمة، والمقدّميّة علّة لعروض الوجوب على الذات، وعليه فلا يتصوّر في المقدّمة جهتان تقييديتان حتّى

يتعلّق الأمر بإحداهما والنهي بالاخرى، نعم أنّها تندرج في مسألة النهي عن العبادة إن كانت المقدّمة عبادة، وفي مسألة النهي عن المعاملة إن كانت معاملة.

ولكن يمكن الجواب عنه: بأنّ الحيثيات التعليليّة في الأحكام العقليّة ترجع في الواقع إلى الحيثيات التقييديّة، فإذا حكم العقل بوجوب المقدّمة شرعاً لأنّها مقدّمة كان الواجب حينئذ هو عنوان المقدّمة لا ذاتها.

وثانياً: بأنّه لا يلزم اجتماع الوجوب والحرمة في المقدّمة المحرّمة حتّى على القول بالوجوب، وذلك لأنّ المقدّمة إن كانت منحصرة في الفرد المحرم منها كإنحصار المركوب في الدابّة المغصوبة مثلًا فلا محالة تقع المزاحمة حينئذٍ بين وجوب ذي المقدّمة كالحجّ في المثال وبين حرمة مقدّمته كالركوب، فعلى تقدير كون وجوب الحجّ أهمّ من حرمة مقدّمته لا تتّصف المقدّمة إلّا بالوجوب، وعلى تقدير كون حرمة المقدّمة أهمّ من وجوب الحجّ لا تتّصف المقدّمة إلّا بالحرمة، فعلى التقديرين لا يجتمع الوجوب والحرمة في المقدّمة حتّى تندرج في مسألة اجتماع الأمر والنهي (هذا مع قطع النظر عن المراد بالاستطاعة في المثال).

وإن لم تكن المقدّمة منحصرة في الفرد المحرّم فلا تتّصف المقدّمة المحرّمة بالوجوب حتّى يلزم الاجتماع لأنّ حرمتها تمنع عن سراية الوجوب الغيري إليها.

ويمكن الجواب عنه أيضاً: بأنّه تامّ بناءً على امتناع اجتماع الأمر والنهي وانحصار المقدّمة بالمحرّمة، وأمّا بناءً على القول بجواز الاجتماع وعدم سراية النهي من متعلّقه إلى ما ينطبق عليه متعلّق الأمر في صورة عدم الانحصار فلا موجب لتخصيص الوجوب حينئذٍ بخصوص المقدّمة المباحة، وذلك لأنّ لكلّ من دليلي الأمر والنهي إطلاقاً يشمل المقدّمة المحرّمة أيضاً.

وثالثاً: بأنّه لو سلّمنا صغرويّة المقدّمة المحرّمة لمسألة الاجتماع إلّاأنّه لا يترتّب عليها ثمرة عمليّة، وذلك لأنّ المقدّمة إمّا توصّلية وإمّا تعبّديّة، فعلى الأوّل يمكن

التوصّل بالمقدّمة إلى ذي المقدّمة من دون فرق بين القول بجواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه، ومن دون فرق بين القول بوجوب المقدّمة وعدمه، لأنّ التوصّل بها إلى ذي المقدّمة ذاتي وغير مستند إلى الأمر بها فيحصل مطلقاً، وعلى الثاني (أي ما إذا كانت المقدّمة تعبّديّة كما إذا كانت من الطهارات الثلاث) ففائدة المقدّمة- وهي التوصّل بها إلى ذيها- لا تترتّب عليها بناءً على امتناع الاجتماع انوار الأصول، ج 1، ص: 416

من دون فرق بين وجوب المقدّمة وعدمه، وتترتّب عليها بناءً على جواز الاجتماع من دون فرق أيضاً بين وجوب المقدّمة وعدمه.

توضيح ذلك: إذا قلنا بجواز الاجتماع وكانت المقدّمة عباديّة (وهي منحصرة حينئذٍ في الطهارات الثلاث) كانت المقدّمة صحيحة يترتّب عليها ذوها، وهي الصّلاة، وإن لم نقل بوجوب المقدّمة لأنّ حسنها الذاتي في الطهارات الثلاث يكفي في صحّتها وعباديتها فلا حاجة إلى تعلّق أمر مقدّمي بها، وأمّا إذا قلنا بإمتناع الاجتماع فتكون المقدّمة باطلة لا يترتّب عليها ذوها بلا فرق أيضاً بين وجوب المقدّمة وعدمه، لأنّها باطلة لوقوع المزاحمة بين الأمر والنهي، لأنّ المفروض هو امتناع الاجتماع وترجيح جانب النهي، هذا إذا كانت المقدّمة واجبة، وإلّا كان البطلان أوضح.

أقول: يمكن الجواب عن هذا الإيراد أيضاً بأنّه لقائل أن يقول: بعدم الحسن الذاتي للطهارات الثلاث فيحتاج لعباديتها حينئذٍ إلى قصد الأمر، فوجوب المقدّمة يوجب صحّة الطهارات الثلاث حتّى عند من أنكر حسنها الذاتي (بناءً على جواز اجتماع الأمر والنهي وكفاية الأمر المقدّمي في قصد القربة).

الجهة السابعة: في تأسيس الأصل في المسألة
اشارة

وفائدته تعيين من يجب عليه إقامة الدليل ويكون قوله مخالفاً للأصل الأوّلي في المقام، ومن لا يجب عليه إقامة الدليل لكون قوله موافقاً للأصل، وهذا واضح لا غبار عليه.

لا إشكال في أنّه لا

معنى للأصل العملي في ما نحن فيه إذا كانت المسألة اصوليّة، أي كان المبحوث عنه فيها وجود الملازمة وعدمه بين وجوب المقدّمة شرعاً ووجوب ذيها، كما صرّح به المحقّق الخراساني رحمه الله، وذلك لأنّ الملازمة ممّا ليست لها حالة سابقة عدميّة كي تستصحب إلّا على القول بالاستصحاب للعدم الأزلي.

وأمّا بناءً على كون المسألة فقهيّة أو قاعدة فقهيّة أي كون النزاع في وجوب المقدّمة وعدمه، فمقتضى أصل الاستصحاب عدم وجوبها، لأنّ وجوب المقدّمة شرعاً لو قيل به أمر حادث مسبوق بالعدم، فإذا شكّ فيه يستصحب عدمه.

انوار الأصول، ج 1، ص: 417

ولكن استشكل عليه في المحاضرات: بأنّ موضوع الاستصحاب وإن كان تامّاً إلّاأنّه لا أثر له بعد استقلال العقل بلزوم الإتيان بها لأجل لا بدّية الإتيان بها على كلّ تقدير «1».

أقول: يمكن الجواب عنه بأنّ المستصحب في المقام إنّما هو الوجوب الشرعي أو عدمه، وهو نفسه أثر شرعي، وليس المستصحب موضوعاً من الموضوعات حتّى لا يمكن استصحابه إلّا إذا ترتّب عليه أثر شرعي، وبعبارة اخرى: المفروض في المقام حصول الشكّ في وجوب المقدّمة بعد أن كان جعله معقولًا وعدم كونه لغواً، فإذا فرضنا أنّ إيجاب المقدّمة شرعاً لا يكون لغواً مع وجود اللابدّية العقليّة وفرضنا حصول الشكّ في إيجابها، فلا إشكال في جواز استصحاب عدمه لأنّ الوجوب بنفسه أثر شرعي وليس المستصحب موضوعاً حتّى يحتاج إلى أثر شرعي يترتّب عليه.

نعم إنّه مبني على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية كما هو المشهور، وأمّا إذا قلنا بعدم جريانه فيها كما هو المختار فلا يجري الاستصحاب هنا.

هذا بالنسبة إلى أصل الاستصحاب.

وأمّا البراءة فقد يقال بعدم جريانها بكلا قسميها: «أمّا العقليّة فلأنّها واردة لنفي المؤاخذة والعقاب، والمفروض أنّه لا عقاب على ترك

المقدّمة وإن قلنا بوجوبها، والعقاب إنّما هو على ترك الواجب النفسي فتدبّر، وأمّا الشرعيّة فبما إنّها وردت مورد الامتنان فيختصّ موردها بما إذا كانت فيه كلفة على المكلّف ليكون في رفعها بها امتناناً، والمفروض أنّه لا كلفة في وجوب المقدّمة حيث لا عقاب على تركها» «2».

ولكن يمكن الجواب عنه بالنسبة إلى البراءة الشرعيّة بأنّ دليلها لا ينحصر في حديث الرفع حتّى يحتاج في جريانها إلى صدق الامتنان، بل هناك وجوه اخرى تدلّ عليها كما تأتي في محلّها في مبحث البراءة فتأمّل.

إلى هنا تمّ الكلام عمّا أردنا إيراده من المقدّمات قبل الورود في أصل البحث عن وجوب المقدّمة وعدمه.

أدلّة القول بوجوب المقدّمة
اشارة

اختلف الأعلام في وجوب المقدّمة على أقوال، فذهب المشهور إلى وجوبها وتبعهم المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية والمحقّق النائيني رحمه الله، وذهب جماعة إلى عدم الوجوب وهو مختار تهذيب الاصول والمحاضرات، وقد يكون هناك بعض التفاصيل في المسألة.

ولا بدّ قبل بيان أدلّة القولين أو الأقوال بيان الفرق بين الوجوب الشرعي واللابدّية العقليّة، فنقول أمّا اللابدّية العقليّة، فمعناها واضح، بل هي من قبيل القضايا قياساتها معها فإنّ معنى كون شي ء مقدّمة لشي ء آخر توقّفه عليه تكويناً وخارجاً عند العقل، أي أنّ العقل يدرك هذا التوقّف الخارجي ويكشف عنه بنحو القطع والبتّ من دون أن يعتبر شيئاً، وأمّا الوجوب الشرعي فهو أمر اعتباري وعبارة عن قانون يجعله الشارع ويعتبره في عالم الاعتبار، فيكون الفرق بين الأمرين حينئذٍ هو الفرق بين الجعل وعدم الجعل، وبين الأمر الاعتباري والأمر التكويني.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه استدلّ لوجوب المقدّمة بامور عديدة:

الأمر الاوّل: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله من مقايسة الإرادة التشريعيّة بالإرادة التكوينيّة وإليك نصّ كلامه: «لا ينبغي الإشكال في وجوب

المقدّمة لوضوح أنّه لا يكاد يتخلّف إرادة المقدّمة عند إرادة ذيها بعد الالتفات إلى كون الشي ء مقدّمة وأنّه لا يمكن التوصّل إلى المطلوب إلّا بها، وإن أردت توضيح ذلك فعليك بمقايسة إرادة الآمر بإرادة الفاعل، فهل ترى أنّك لو أردت شيئاً وكان ذلك الشي ء يتوقّف على مقدّمات يمكنك أن لا تريد تلك المقدّمات؟ لا، بل لا بدّ من أن تتولّد إرادة المقدّمات من إرادة ذلك الشي ء قهراً عليك، بحيث لا يمكنك أن لا تريدها بعد الالتفات إلى المقدّمات، وإلّا يلزم أن لا تريد ذا المقدّمة، وهذا واضح وجداناً، وإرادة الآمر حالها حال إرادة الفاعل» «1».

ولكن قد اورد عليه:

أوّلًا: بأنّ «البرهان لم يقم على التطابق بين التشريع والتكوين لو لم نقل بقيامه على خلافه، وتوضيح الفرق أنّ تعلّق الإرادة بالمقدّمات من الفاعل المريد، لملاك أنّه يرى أنّ الوصول إلى انوار الأصول، ج 1، ص: 419

المقصد وإلى الغاية المطلوبة لا يحصل إلّابإيجاد مقدّماته، فلا محالة يريده مستقلًا بعد تماميّة مقدّماتها، وأمّا الآمر غير المباشر فالذي يلزم عليه هو البعث نحو المطلوب وإظهار ما تعلّقت به إرادته ببيان وافٍ، بحيث يمكن الإحتجاج به على العبد، ويقف العبد به على مراده حتّى يمتثله، وأمّا إرادة المقدّمات فلا موجب له ولا غاية، بعد حكم العقل بلزوم إتيانها، والحاصل أنّه فرق بين المباشر والآمر فإنّه لا مناصّ في الأوّل عند تعدّد الإرادة، لأنّ المفروض إنّه المباشر للأعمال برمّتها فلا محالة تتعلّق الإرادة بكلّ ما يوجده بنفسه، وأمّا الآمر فيكفي في حصول غرضه بيان ما هو الموضوع لأمره وبعثه، بأن يأمر به ويبعث نحوه، والمفروض أنّ مقدّمات المطلوب غير خفي على المأمور، وعقله يرشد إلى لزوم إتيانها فحينئذٍ لأيّ ملاك تنقدح إرادة اخرى

متعلّقة بالمقدّمات؟» «1».

وثانياً: بأن ترشّح إرادة من إرادة اخرى بمعنى كون إرادة الواجب علّة فاعلية لارادتها من غير احتياج إلى مبادى ء اخر كالتصوّر والتصديق بالفائدة ممّا لا أصل له، لأنّ الحاكم بوجوب المقدّمة على الفرض هو الشارع الفاعل المريد المختار، وإنّ سبب الوجوب إنّما هو نفس المولى وإرادته، فتوقّف ذي المقدّمة على المقدّمة يكون حينئذٍ داعياً لايجابه المقدّمة، لا أن يكون سبباً بنفسه لوجوبها «2».

ولكن يمكن الجواب عن كلا الوجهين:

أمّا الوجه الثاني: فلأنّه يمكن أن يقال بأنّ مراد المحقّق النائيني رحمه الله ومن يحذو حذوه من الترشّح إنّما هو أنّ المولى الحكيم يريد المقدّمات عند إرادة ذيها لا محالة، أي إذا تعلّقت الإرادة بذي المقدّمة تعلّقت مبادئها من التصوّر والتصديق وغيرهما بمقدّماتها أيضاً، غاية الأمر أنّها إرادة غيريّة تبعيّة، مع كونها في نفس الوقت مولويّة لا إرشاديّة، فليس المقصود من الترشّح التولّد القهري غير الإرادي حتّى يقال بأنّه لا أصل له، بل المراد منه التلازم بين الإرادتين، بمعنى أنّ المولى الحكيم إذا التفت إلى توقّف ذي المقدّمة على مقدّماتها يتولّد في نفسه مبادى ء إرادتها بمقتضى حكمته.

إن قلت: ليس الكلام في الإرادة وتولّدها في نفس المولى بل الكلام في جعل قانون واعتبار

انوار الأصول، ج 1، ص: 420

حكم على المقدّمة، والإرادة لا تكفي فيه، بل يكون جعل الحكم لغواً.

قلنا: وجود حكم العقل في مورد لا يوجب لغويّة حكم الشارع في ذلك المورد، كما نلاحظه في حكم الشارع بوجوب الاحسان أو استحبابه وحرمة الظلم ونحوهما، ولذلك قيل (ونعم ما قيل) «إنّ الواجبات الشرعيّة الطاف في الواجبات العقليّة» وبعبارة اخرى: حكم الشارع في موارد حكم العقل يكون تأكيداً لحكم العقل ولا لغويّة في التأكيد، هذا أوّلًا.

وثانياً: لا حاجة في وجوب

المقدّمة إلى جعل واعتبار فعلي من طريق الخطابات الأصليّة بل يمكن كشف حكم الشارع من ناحية كشف وجود الشوق والإرادة، أي من ناحية كشف مبادى ء الحكم ووجود ملاكه فإنّه يساوق الحكم نفسه كما سيأتي بناءً على قول المنكرين للترتّب من أنّ تزاحم المهمّ مع الأمر بالأهمّ يوجب عدم فعليّة الأمر بالمهم، ولكنّه مع ذلك لا يوجب بطلان المهمّ العبادي بعد ترك الأهمّ لوجود الملاك، فتدبّر جيّداً.

وأمّا الوجه الأوّل: فالجواب عنه أنّه لا إشكال في أنّ الفعل التسبيبي أيضاً يعدّ فعلًا للمولى كالفعل المباشري ويستند إلى المولى، وإذاً كيف يمكن أن يتسامح الفاعل في مقدّمات فعليه، فإن أراد المولى صعود العبد إلى السطح حقيقتاً فلا محالة يريد نصب السلّم وغيره من المقدّمات أيضاً، وإن أراد أمير العسكر من عسكره فتح بلد حتماً وتعلّقت إرادته به حقيقة فسوف تتعلّق إرادته بمقدّماته من تهيئة التداركات وإيجاد النظام بين أفراد العسكر وتهيئة طرح للعمليّات بلا ريب، نعم قد يكون وضوح الإتيان بالمقدّمات للعبد بحيث لا يحتاج المولى إلى مزيد بيان، ولكن لا بمعنى أنّه لا يريدها بل بمعنى أنّه لا يحتاج إلى بيان هذا الأمر لوضوحه.

هذا كلّه في الدليل الأوّل على وجوب المقدّمة، وقد ظهر أنّه تامّ في محلّه.

الأمر الثاني: ما ذكره بعضهم من أنّ الوجدان أقوى شاهد على أنّ الإنسان إذا أراد شيئاً له مقدّمات، أراد تلك المقدّمات لو التفت إليها بحيث ربّما يجعلها في قالب الطلب مثله، ويقول مولويّاً: «ادخل السوق وإشتر اللحم» مثلًا بداهة أنّ الطلب المنشأ بخطاب «ادخل» مثل المنشأ بخطاب «اشتر» في كونه بعثاً مولويّاً، فحيث تعلّقت إرادته بشراء اللحم ترشّحت منها له إرادة اخرى بدخول عبده السوق بعد الالتفات إليه وأنّه يكون مقدّمة

له كما لا يخفى.

أقول: قد ظهر ممّا ذكرنا في مقام الدفاع عن الوجه الأوّل ضعف ما أُورد على هذا الوجه في المحاضرات من أنّ الوجدان حاكم على الخلاف للزوم اللغويّة فتدبّر، فإنّك قد عرفت:

انوار الأصول، ج 1، ص: 421

أوّلًا: أن الأوامر الشرعيّة كثيراً ما تكون تأكيداً للواجبات العقليّة.

وثانياً: أنّ عدم الحاجة إلى البيان في بعض الموارد لا يكون دليلًا على عدم إرادة المولى، ويكفي في هذه المقامات وجود الإرادة ولو في نفس المولى.

الأمر الثالث: ما ورد في لسان الشارع من الأوامر الغيريّة التي تعلّقت ببعض المقدّمات فإنّها صدرت من جانب الشارع إمّا لوجوب خصوصيّة في تلك المقدّمات غير كونها مقدّمة، أو من باب أنّها مقدّمة لبعض الواجبات، والأوّل ممنوع بالاتّفاق، فلا إشكال في أنّ وجوبها إنّما هو بملاك المقدّميّة، فنتعدّى منها إلى سائر المقدّمات من باب تنقيح المناط.

ومن هذه الأوامر:

منها: قوله تعالى في باب الغسل: «وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا» «1».

ومنها: قوله تعالى في باب التيمّم: «... فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً» «2».

ومنها: قوله تعالى في باب الوضوء: «إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ» «3».

ومنها: قوله تعالى في آية النفر: «فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ» «4».

ومنها: قوله تعالى في باب الجهاد: «انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالًا» «5».

ومنها: قوله تعالى في آية السؤال: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَاتَعْلَمُونَ» «6».

ومنها: قوله تعالى في آية النبأ: «إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا» «7»

(حيث إنّ التبيّن ليس واجباً نفسيّاً لإمكان الاحتياط).

ومنها: قوله تعالى في باب صلاة الجمعة: «إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى انوار الأصول، ج 1، ص: 422

ذِكْرِ اللَّهِ» «1».

ومنها: قوله تعالى: «إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ»

«2»

(حيث إنّ الامتحان واجب مقدّمة لتشخيص الإيمان والكفر) إلى غير ذلك من الأوامر الغيريّة الواردة في الكتاب الكريم، ففي جميع ذلك وأشباهها أمر اللَّه تعالى بالواجبات الغيريّة المقدّميّة.

وقد توهّم بعض انحصار هذا القبيل من الأوامر في ما تعلّق بالطهارات الثلاث ثمّ استشكل على الاستدلال بها في المقام بأنّها ليست أوامر مولويّة بل إرشاديّة ترشد إلى شرطيّة الطهارات الثلاث فقط.

ولكنّه قد ظهر عدم انحصارها في ذلك، مضافاً إلى أنّه سيأتي إن شاء اللَّه تعالى في باب استصحاب الأحكام الوضعية من مباحث الاستصحاب من أنّ الشرطيّة والجزئيّة أمران منتزعان من الأحكام التكليفية كغيرهما من الأحكام الوضعية، وبعبارة اخرى: أنّ الشرطيّة أو الجزئيّة متأخّرة عن الأمر رتبة، وهي تنتزع من الأمر المولوي المتعلّق بالمأمور به، فكيف يمكن أن يكون الأمر إرشاداً إليها؟ فتدبّر فإنّه حقيق به.

الأمر الرابع: ما نسب إلى أبي الحسن البصري الأشعري من أنّ المقدّمة لو لم تكن واجبة لجاز تركها، وحينئذٍ فإن بقى الواجب على وجوبه يلزم التكليف بما لا يطاق وإلّا خرج الواجب المطلق عن وجوبه.

واجيب عنه: بأنّا نلتزم بالشقّ الأوّل في كلامه، وهو بقاء الواجب على وجوبه ولكن لا يلزم التكليف بما لا يطاق، لأنّا لا نقول حينئذٍ بوجوب ترك المقدّمة حتّى تكون ممتنعة شرعاً ويصير ذو المقدّمة غير مقدور، بل نقول بعدم وجوبها شرعاً، أي المراد من جواز تركها عدم المنع الشرعي عن تركها، فتكون باقية على وجوبها العقلي ولا إشكال في أنّه لا يلزم حينئذٍ محذور عقلي في الأمر بذي المقدّمة.

هذا تمام الكلام في أدلّة القائلين بوجوب المقدّمة، وقد عرفت تماميّة الوجوه الثلاثة الاولى بلا إشكال، وإن كان بعضها كالأخير قاصراً عن إثبات المطلوب.

وأمّا القائلون بعدم وجوبها فاستدلّوا بلزوم اللغويّة مع

وجود اللابدّية العقليّة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 423

ولكن الإنصاف أنّه في غير محلّه لأنّه أوّلًا: إنّ اللغويّة على تقدير لزومها تختصّ بما إذا كان وجوب المقدّمة ملازماً لجعل الشارع واعتباره إيّاه حيث يقال حينئذٍ: لا حاجة إلى جعله واعتباره من جانب الشارع مع وجود اللابدّية العقليّة، ولكن الملازمة ممنوعة، لأنّه يكفي في وجوب شي ء في الواقع كونه محبوباً للمولى ومتعلّقاً لشوقه وإرادته واقعاً، وهو حاصل في ما نحن فيه، وبعبارة اخرى: اللغو في المقام إنّما هو جعل الحكم واعتباره، ولا حاجة إليه في إثبات الوجوب الشرعي لكفاية إحراز الملاك في ذلك.

وثانياً: اللغويّة ممنوعة جدّاً، لما عرفت من كفاية كونه تأكيداً، فكم من واجب شرعي يكون تأكيداً في واجب عقلي!

بقي هنا امور:

الأمر الأوّل: عدم منافاة الوجوه الأربعة للمحتار

ما ذكرنا من الوجوه الأربعة لإثبات وجوب المقدّمة آنفاً لا ينافي مفاد التامّ منها- وهو الثلاثة الاولى- ما اخترناه سابقاً من وجوب المقدّمة الموصلة، أمّا دليل الوجدان فلأنّه حاكم على أنّ الإنسان المريد لإتيان ذي المقدّمة إنّما يريد مقدّماته لايصالها إلى ذيها كما لا يخفى، وأمّا الأوامر الغيريّة الواردة في لسان الشرع فالقدر المتيقّن منها أيضاً وجوب الموصل من المقدّمات، فالقدر المتيقّن من مفاد قوله تعالى: «فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ» إنّما هو وجوب السعي الموصل إلى ذكر اللَّه لا مطلق السعي، وأمّا مقايسة التشريع بالتكوين فكذلك، لأنّ المباشر لذي المقدّمة في الإرادة التكوينيّة إنّما يريد المقدّمات التي توصل إلى ذيها، وهو واضح فليكن كذلك في الإرادة التشريعيّة.

أضف إلى ذلك ما مرّ بالنسبة إلى المقدّمة المحرّمة للواجبات حيث قلنا هناك أنّ حرمة المقدّمة إنّما ترتفع فيما إذا كانت المقدّمة موصلة فقط، فكذلك في غيرها.

الأمر الثاني: في بيان تفصيلين في المسألة:

التفصيل الأوّل: التفصيل بين السبب وغيره، بمعنى أنّ المقدّمة إذا كانت من الأسباب انوار الأصول، ج 1، ص: 424

كالعقود والايقاعات بالنسبة إلى المسبّبات فتجب، وإلّا لو كانت من المعدّات كدخول السوق لشراء اللحم أو نصب السلّم للكون على السطح ونحو ذلك فلا تجب، وبعبارة اخرى: إن كان ذو المقدّمة من الأفعال التسبيبية التوليديّة كالزواج والطلاق والعتاق ونحو ذلك ممّا ليس بنفسه تحت القدرة والاختيار إلّاأسبابها من العقود والايقاعات وكالإلقاء في النار للاحراق ونحوها، فهذا ممّا تجب مقدّمته، وإلّا لو كان ذو المقدّمة من الأفعال المباشريّة كشراء اللحم والصعود على السطح ونحوهما ممّا كان بنفسه تحت القدرة والاختيار فهذا ممّا لا تجب مقدّمته.

والسرّ في الوجوب في الأوّل دون الثاني أنّ الواجب في الأوّل بنفسه ليس أمراً مقدوراً للمكلّف، فلابدّ من صرف التكليف النفسي منه

إلى مقدّمته بخلافه في الثاني فهو بنفسه مقدور له فلا ملزم لصرفه عنه إلى مقدّمته.

ولكن يرد عليه:

أوّلًا: أنّه خروج عن محلّ النزاع لوجهين: أحدهما: أنّ محلّ النزاع ما إذا كان ذو المقدّمة واجباً على أيّ تقدير، مع أنّ المفروض في الصورة الاولى لهذا التفصيل عدم وجوب ذي المقدّمة، وثانيهما: أنّ النزاع في الوجوب الغيري للمقدّمة وعدمه، مع أنّ الوجوب للمقدّمة في الصورة الاولى يكون نفسياً لأنّه نفس الوجوب الذي صرف إليها جاء من ناحية ذي المقدّمة.

وثانياً: إنّ المسبّب في الشقّ الأوّل أمر مقدور للمكلّف بواسطة سببه، لأنّ المقدور بالواسطة مقدور، فلا بأس بتعلّق التكليف به.

التفصيل الثاني: تفصيل المحقّق النائيني رحمه الله، وإليك نصّ كلامه: «إنّ ما يسمّى علّة ومعلولًا إمّا أن يكون وجود أحدهم مغايراً لوجود الآخر في الخارج أو يكونا عنوانين لموجود واحد وإن كان انطباق أحدهما عليه في طول انطباق الآخر لا في عرضه، أمّا ما كان من قبيل الأوّل كشرب الماء ورفع العطش فلا إشكال في أنّ الإرادة الفاعلية تتعلّق بالمعلول أوّلًا لقيام المصلحة به ثمّ تتعلّق بعلّته لتوقّفه عليها فيكون حال الإرادة التشريعيّة الآمريّة أيضاً كذلك، وهذا معنى ما يقال من أنّ المقدور بالواسطة مقدور.

وأمّا ما كان من قبيل الثاني كالإلقاء في النار والإحراق المتّصف بهما فعل واحد في الخارج وإن كان صدق عنوان الإلقاء متقدّماً على صدق عنوان الإحراق رتبة وكذلك عنوان الغسل والتطهير فقد بيّنا سابقاً أنّ كلًا من العنوانين قابل لتعلّق التكليف به كما في قوله عليه السلام: «اغسل انوار الأصول، ج 1، ص: 425

ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» وقوله تعالى: «وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ» فإذا تعلّق بالمسبّب في ظاهر الخطاب فهو متعلّق بذات السبب في نفس الأمر لا

محالة، كما أنّه إذا تعلّق بالسبب فهو يتعلّق به بما أنّه معنون بمسبّبه، وهذا القسم هو مراد العلّامة الأنصاري رحمه الله في المحصّل في ما ذهب إليه من أنّ البراءة لا تجري عند الشكّ في المحصّل كما أشرنا إليه سابقاً، فإذا كان الأمر بكلّ منهما أمراً بالآخر فلا معنى للاتّصاف بالوجوب الغيري فيكون هذا القسم خارجاً عن محلّ النزاع، فلا وجه للتعبير بصرف الخطاب فإنّه فرع التعدّد، والمفروض فيما نحن فيه هو الوحدة والاتّحاد» «1».

وقد أورد عليه بحقّ في هامش أجود التقريرات بالإضافة إلى تمثيله للقسم الثاني بعنواني الإلقاء والإحراق وبعنواني الغسل والتطهير «بأنّ الإلقاء غير الإحراق خارجاً وكذلك الطهارة بمعنى النظافة العرفيّة موجودة في الخارج بوجود مغاير لوجود الغسل ومترتّبة عليه بالوجدان، وأمّا الطهارة الشرعيّة فهي حكم شرعي مترتّب على وجود موضوعه خارجاً وهو الغسل، فكيف يعقل أن يكون عنوان الطهارة منطقباً على ما ينطبق عليه عنوان الغسل» «2».

أقول: ويرد عليه أيضاً أنّه لا معنى لاتّحاد السبب مع المسبّب في الخارج لأنّ العلّة والمعلول وجودان مختلفان في عالم الخارج، واتّحادهما خارجاً يوجب إنكار العلّية الخارجيّة كما لا يخفى، هذا مضافاً إلى أنّ المفروض قيام الملاك بالمسبّب بعنوانه، فالإرادة أوّلًا وبالذات إنّما تتعلّق به ولا يكون السبب بعنوانه إلّاواجباً غيريّاً، فتأمّل.

وهيهنا تفصيل ثالث للمحقّق الحائري رحمه الله في درره، وهو التفصيل بين ما إذا كانت الواسطة من قبيل الآلات مثل إنكسار الخشبة المتحقّق بإيصال الآلة قوّة الإنسان إليها، وبين ما إذا لم يكن كذلك كما لو كان في البين فاعل آخر، كما في إلقاء إنسان إلى السبع فيلقي حتفه، أو إلقاء الشخص في النار فتحرقه، ففي مثل الصورة الاولى يكون الأمر حقيقة متعلّقاً بالمسبّب لأنّ

مثل إنكسار الخشبة بالآلة يعدّ عرفاً فعلًا من أفعال الإنسان وإن تحقّق بسبب الآلة، فيكون وجوب السبب فيها من باب المقدّمة، وأمّا في الصورة الثانيّة فحيث إنّ مثل الإحراق والقتل في المثالين ليس من أفعال الإنسان بل من أفعال الواسطة حقيقة يجب إرجاع الأمر المتعلّق انوار الأصول، ج 1، ص: 426

بالمسبّب إلى السبب، فيكون وجوب السبب نفسيّاً لا من باب المقدّمة «1».

أقول: يرد عليه أنّ المهمّ في المقام إنّما هو صدق عنوان المقدور وعدمه وكون ذي المقدّمة مقدوراً للإنسان أم لا، لا صدق إنّها فعل للإنسان عرفاً وعدمه، ولا إشكال في أنّ مثل الإحراق يصدق عليه أنّه مقدور للإنسان، لأنّ المقدور بالواسطة مقدور ولو فرض عدم عدّه من أفعاله عند العرف، بل الإنصاف صدق كونه فعلًا له عرفاً ولو بالتسبيب لقوّة السبب بالنسبة إلى المباشر في هذه المقامات، والمهمّ أنّ الملاك في جميع هذه الموارد قائم بذي المقدّمة دون مقدّمته، فتكون واجباً بالوجوب الغيري.

الأمر الثالث: التفصيل في وجوب المقدّمة

قد يفصّل في وجوب المقدمة بين الشرط الشرعي وغيره، بمعنى أنّ مثل الطهارات الثلاث والستر والقبلة ونحو ذلك من الشرائط الشرعيّة واجب شرعاً، نظراً إلى أنّه لولا وجوبه شرعاً لما كان شرطاً، فإنّه ليس ممّا لا بدّ منه عقلًا أو عادة كي يعرف بذلك أنّه شرط، فإذا كان مع ذلك شرطاً يعرف أنّه واجب شرعاً وبه صار شرطاً، وأمّا غيره من المقدّمات العقليّة والعاديّة كالسير إلى الحجّ أو دخول السوق لشراء اللحم أو نصب السلّم للصعود على السطح ونحو ذلك ممّا يتوقّف عليه الواجب عقلًا أو عادةً فهو غير واجب شرعاً.

وقد اورد عليه:

أوّلًا: بأنّه ربّما يستفاد شرطيّة شي ء من طريق بيان حكم وضعي كالطهارة التي تستفاد شرطيتها للصّلاة من قوله عليه السلام

«لا صلاة إلّامع الطهور» أو قوله عليه السلام: «صلّ مع الطهور» فلا تتوقّف إثبات شرطيّة الشرائط الشرعيّة على تعلّق أمر تكليفي بها حتّى يلزم منه تعلّق الوجوب بها شرعاً.

وثانياً: إنّ قبول وجوب المقدّمة في بعض المقدّمات كالمقدّمات الشرعيّة يستلزم قبوله في سائر المقدّمات لوحدة الملاك، فإنّ ملاك الوجوب في المقدّمات الشرعيّة إنّما هو مقدّميتها للواجبات وهي موجودة في غيرها أيضاً.

انوار الأصول، ج 1، ص: 427

ثالثاً: قد مرّ سابقاً أنّ الشرائط الشرعيّة ترجع حقيقة إلى شرائط عقليّة ومقدّمات عقليّة، وأنّ غاية الفرق بينهما أنّ الكاشف عن التوقّف في المقدّمات الشرعيّة هو الخطاب الشرعي، بينما الكاشف عن التوقّف في المقدّمات العقليّة هو العقل فقط.

رابعاً: إنّ لازم ما ذكر من أنّه «لولا وجوبه شرعاً لما كان شرطاً» هو الدور المحال، لأنّ الوجوب الشرعي أيضاً يتوقّف على كون المتعلّق شرطاً، فالشرطيّة تتوقّف على الوجوب الشرعي، والوجوب الشرعي أيضاً متوقّف على الشرطيّة (هذا مع قطع النظر عن كون الشرطيّة للواجب منتزعة من الأمر بشي ء واعتباره فيه ولكن مع ذلك لولا دخله في الملاك لما أمر به المولى الحكيم).

الأمر الرابع: في مقدّمة المستحب

لا إشكال في أنّ بعض الوجوه المزبورة التي استدلّ بها لوجوب مقدّمة الواجب تعمّ مقدّمة المستحبّ أيضاً، فتدلّ على ثبوت الملازمة بين المستحبّ ومقدّمته، وهو ظاهر بالنسبة إلى دليل الوجدان ودليل تطابق الإرادتين (الإرادة التكوينيّة والإرادة التشريعيّة) فإنّ الوجدان حاكم بأنّ المولى إذا تعلّقت إرادته غير الإلزاميّة بشي ء تعلّقت بمقدّماته لا محالة كذلك، كما أنّ العقل أيضاً يحكم بأنّ الإرادة التشريعيّة المتعلّقة بالمستحبّات كالإرادة التكوينيّة التي تتعلّق بعمل راجح غير إلزامي، فكما أنّ المباشر لإتيان عمل راجح يريد مقدّماته على حدّ الرجحان فكذلك غير المباشر الذي أراد إتيان عمل بالتسبيب والتشريع.

هذا- مضافاً إلى

جريان الوجه الثالث من الوجوه السابقة في المقام، وهو الأوامر التي وردت في لسان الشارع وتعلّقت ببعض المقدّمات المستحبّة كالذهاب إلى المسجد والجلوس فيه منتظراً لإقامة الصّلاة عن جماعة وغيرهما.

الأمر الخامس: في مقدّمة الحرام

وفيها تفصيل نظير ما مرّ في مقدّمة الواجب، فإنّها أيضاً تنقسم إلى أربعة أقسام:

أوّلها: ما يكون من قبيل الأسباب التوليديّة، سواء كانت العلّة التامّة أو الجزء الأخير منها كالإلقاء في النار بالنسبة إلى الإحراق.

ثانيها: ما يكون من قبيل العلّة الناقصة لايجاد ذي المقدّمة ولكن المكلّف يقصد بإتيانها

انوار الأصول، ج 1، ص: 428

التوصّل إلى الحرام وتكون موصلة إلى الحرام في الخارج أيضاً.

ثالثها: نفس القسم الثاني مع عدم الإيصال إلى ذي المقدّمة.

رابعها: نفس القسم الثاني أيضاً مع عدم قصد التوصّل بها إلى الحرام.

لا إشكال في حرمة القسم الأوّل والثاني بناءً على مبنى وجوب مقدّمة الواجب لنفس ما مرّ هناك، أمّا دليل الوجدان ودليل تطابق الإرادتين فهما واضحان، وأمّا النواهي الواردة في لسان الشارع المتعلّقة بالمقدّمات المحرّمة فهي كثيرة جدّاً، والعجب من فتوى بعض الفقهاء بعدم حرمة مقدّمة الحرام مع إنّا نعلم بأنّ ملاك النهي في هذه الرّوايات إنّما هو مقدّميّة متعلّقاتها للحرام لا غير، فإنّ من هذه النواهي ما مرّ بالنسبة إلى الخمر ولعن غارسها وحارثها وغيرهما من العناوين العشرة التي هي من مقدّمات شرب الخمر، وأوضح من ذلك هو الرّوايات التي وردت في باب صلاة المسافر وتدلّ على وجوب القصر لمن كان سفره حراماً، وقد أفتى بها الفقهاء بالاتّفاق بل لم يكتفوا بالأمثلة الواردة في هذه الرّوايات وتعدّوا إلى غيرها من أشباهها، ولا إشكال في أنّ السفر في كثير من هذه الأمثلة مقدّمة للحرام وليس الحرام نفسه.

إن قلت: ملاك الحرمة في هذه المقدّمات كونها مصداقاً للاعانة على

الإثم وهي حرام نفسي لا غيري.

قلنا: قد مرّ سابقاً أنّ إطلاق هذه الرّوايات يعمّ ما إذا أتى المكلّف بالمقدّمة لنفسه فقط، فالتي وردت في باب الخمر تعمّ مثلًا من غرسها ليتنفع بها هو ولا إشكال في عدم صدق عنوان الإعانة والتعاون حينئذٍ فإنّه عنوان يصدق في خصوص ما إذا أتى بالمقدّمة بقصد توصّل الغير إلى الحرام.

وعلى أيّ حال: إذا كانت المقدّمة في هذه الرّوايات حراماً لمقدّميتها لا لخصوصيّة اخرى يستكشف من ذلك حرمة سائر مقدّمات الحرام أيضاً لوجود الملاك.

وأمّا القسم الثالث: من المقدّمات فلا إشكال أيضاً في عدم حرمتها إلّامن باب التجرّي.

وأمّا القسم الرابع: منها فعدم حرمتها واضح لأنّ المفروض أنّه لم يقصد بها التوصّل إلى الحرام فهي ليست حراماً بالنسبة إليه لا واقعاً ولا ظاهراً.

نعم هذا إذا لم تكن موصلة إلى الحرام، وأمّا مع فرض الإيصال وبناءً على قبول المقدّمة الموصلة (كما هو المختار) فلا إشكال في أنّها مصداق من مصاديق الحرام الواقعي حينئذٍ وأنّ من انوار الأصول، ج 1، ص: 429

أتى بها ارتكب حراماً واقعاً إلّاأنّه لا يعاقب على ذلك لعدم قصده التوصّل بها إلى الحرام وعدم فعلية الحرمة بالنسبة إليه.

ثمّ إنّ للمحقّق الخراساني رحمه الله تفصيلًا في المقام وحاصله: التفصيل بين المقدّمات التي لا يبقى معها اختيار ترك الحرام أو المكروه على حاله بل بمجرّد الإتيان بها خارجاً يتحقّق الحرام أو المكروه قهراً كما في المقدّمة الأخيرة في الأفعال التسبيبية التوليديّة وبين غيرها من مقدّمات الأفعال الاختياريّة المباشريّة التي لو أتى بتمامها كان اختيار المكلّف باقياً محفوظاً على حاله، إن شاء أتى بالفعل وإن شاء ترك، ففي القسم الأوّل تتّصف المقدّمة بالحرمة لعدم توسّط الاختيار بينها وبين الفعل فتسري المبغوضيّة إلى الجميع، وفي

القسم الثاني لا تتّصف المقدّمة بالحرمة لتوسّط الاختيار بينهما، فيكون المكلّف متمكّناً من ترك الحرام بعد حصول المقدّمات كما كان متمكّناً قبله، فلا ملاك لتعلّق الحرمة بها، وأمّا نفس الاختيار فلا يمكن أن يتعلّق به التكليف للزوم التسلسل (انتهى).

ويمكن أن يوجّه كلامه بأنّ أفعال الإنسان على قسمين: قسم يخرج عن اختياره بعد تحقّقه كالسهم الذي خرج من القوس، وهذا ما يسمّى بالأفعال التوليديّة، وقسم يبقى تحت الاختيار حتّى بعد التحقّق فيمكن له تركه في كلّ آن كمسّ كتابة القرآن الذي يمكن للإنسان أن يرفع يده عنها، فيكون مراد المحقّق الخراساني رحمه الله من تخلّل الاختيار في هذا القسم الثاني ومن كونه من قبيل الجزء الأخير للعلّة التامّة عدم خروجه عن سيطرته وسلطنته.

نعم، مع ذلك يرد عليه ما مرّ منّا في مبحث الجبر والتفويض من أنّ الإرادة ليست غير اختياريّة بل هي إراديّة واختياريّة بذاتها، ولا تحتاج في إراديتها إلى إرادة اخرى حتّى يلزم التسلسل.

هذا مضافاً إلى ما مرّ من الحرمة في هذا القسم الأخير إذا قصد به التوصّل وكانت موصلة إلى الحرام.

بقي هنا أمران:

الأمر الأوّل: ما نسب إلى بعض من أنّ حرمة المقدّمة في الأفعال التوليديّة المحرّمة نفسية لا غيريّة من باب أنّ النهي النفسي متعلّق بها لا بذيّها لعدم كونه مقدوراً للمكلّف، «فإذا تعلّق انوار الأصول، ج 1، ص: 430

النهي بالمسبّب في ظاهر الخطاب فهو متعلّق بذات السبب في نفس الأمر لا محالة كما أنّه إذا تعلّق بالسبب فهو يتعلّق به بما أنّه معنون بمسبّبه فإذا كان الأمر بكلّ منهما أمراً بالآخر فلا معنى للاتّصاف بالوجوب الغيري» «1».

ولكنّه غير تامّ، لأنّ ذا المقدّمة في هذه الموارد أيضاً مقدور للمكلّف، فإنّ المقدور بالواسطة مقدور، فيمكن تعلّق

الأمر أو النهي به حينئذٍ فإذا تعلّق النهي مع ذلك بالمقدّمة كان غيريّاً.

وإن شئت قلت: ملاك المبغوضيّة والحرمة قائم بنفس المسبّب لا السبب.

الأمر الثاني: ما ذهب إليه في تهذيب الاصول من أنّ الحرام من مقدّمة الحرام بناءً على الملازمة إنّما هو الجزء الأخير إذا كانت أجزاء العلّة مترتّبة، أو الواحد من الأجزاء إذا كانت عرضيّة، لا أن تكون جميع المقدّمات محرّمة كما تجب جميع مقدّمات الواجب، واستدلّ لذلك بمساعدة الوجدان عليه وبأنّ «الزجر عن الفعل مستلزم للزجر عمّا يخرج الفعل من العدم إلى الوجود لا عن كلّ ما هو دخيل في تحقّقه لأنّ وجود سائر المقدّمات وعدمها سواء في بقاء المبغوض على عدمه، والمبغوض هو انتقاض العدم بالوجود، وما هو سبب لذلك هو الجزء الأخير في المترتّبات، وفي غيرها يكون المجموع كذلك وعدمه بعدم جزء منه» «2».

أقول: إنّ الوجدان حاكم بأنّ المؤثّر في العدم والناقض له هو جميع المقدّمات معاً لا خصوص الأخير منها، فإنّه من قبيل مصباح كهربائي يضاء بمائة زرّ مترتّبة، فإنّ سبب الإضاءة حينئذٍ جميع المائة ولكلّ واحد منها دخل في الإضاءة، فتكون معاً ناقضة للعدم والظلمة لا خصوص الأخير منها، فلو كان ايقاد السراج هنا مبغوضاً للشارع المقدّس كان جميع ما هو مؤثّر في هذا الأمر أيضاً مبغوضاً له بالملازمة.

وإن شئت قلت: عدم بعض هذه الأجزاء الطوليّة أو العرضيّة وإن كان كافياً في انعدام مبغوض المولى ولكن جميعها مؤثّرة في إيجاد مبغوضه بحيث لا يكفي بعضها فيه، وحينئذٍ يسري البغض إليها جميعاً، وفي الحقيقة ليس العدم مطلوباً بل الوجود مبغوض.

انوار الأصول، ج 1، ص: 431

الفصل الحادي عشر مسألة الضد
اشارة

والتحقيق في المسألة يستدعي تقديم امور قبل الورود في أصل البحث:

الأمر الأوّل: في عنوان المسألة

قال بعضهم: «إنّ الأمر بالشي ء هل يقتضي النهي عن ضدّه، أو لا؟» بل هو ظاهر أكثرهم، والمعنون في كلماتهم، وقال بعض آخر: «إنّ الملازمة ثابتة بين وجوب شي ء وحرمة ضدّه أو لا؟» وهو مختار من جعل المسألة اصوليّة، ولكن حيث إنّ المعنون في كلمات القوم غالباً هو الأوّل بل هو ظاهر أكثر أدلّتهم فيكون هو المختار لنا في المسألة، والعجب من المحاضرات حيث إنّه مع اعترافه بأنّ النزاع في ثبوت الملازمة وعدمه مع ذلك جعل العنوان أنّ الأمر بالشي ء يقتضي النهي عن ضدّه أم لا؟

الأمر الثاني: في أنّ المسألة عقليّة

أنّ المعروف بين الاصوليين كون المسألة عقليّة لعدم إرتباطها بباب الألفاظ وإن عنونوها في مباحث الألفاظ، ولذلك يجري النزاع فيها وإن ثبت الأمر من غير طريق الألفاظ.

لكن الأولى أن يقال: إنّ المسألة عقليّة ولفظيّة معاً، لأنّ من المسائل التي يتكلّم عنها في مقام الاستدلال وبيان الأدلّة هو الدلالات الثلاث، وهي من أقسام الدلالة اللّفظيّة، ولعلّ المدّعي للملازمة يدّعي اللزوم البيّن بالمعنى الأخصّ فتدخل في الدلالة اللّفظيّة أيضاً.

الأمر الثالث: في أنّ المسألة اصوليّة أو فقهيّة؟

وهذه المسألة اصوليّة عند من جعل العنوان ثبوت الملازمة وعدمه، ومن جعله «أنّ الأمر

انوار الأصول، ج 1، ص: 432

بالشي ء يقتضي النهي عن ضدّه أو لا» مال إلى كونها فقهيّة، لأنّ الكلام حينئذٍ في حرمة الضدّ وعدمها وهي مسألة فقهيّة.

والصحيح أنّها من القواعد الفقهيّة لأنّ تعريف القاعدة الفقهيّة وهو «ما يشتمل على حكم كلّي لا يختصّ بباب دون باب أو بكتاب دون كتاب» صادق على حرمة الضدّ، وهو واضح بعد أن كان المختار في عنوان المسألة أنّ الأمر بالشي ء يقتضي النهي عن ضدّه أو لا؟ ولذلك لا يمكن إيكال تطبيق هذه المسألة على مصاديقها إلى المقلّد بل هو من وظيفة المجتهد كما في سائر القواعد الفقهيّة.

ولا نأبى مع ذلك عن ذكرها في الاصول وما أكثر نظائرها المذكورة في الاصول أيضاً.

الأمر الرابع: في المراد من كلمة الاقتضاء في عنوان المسألة.

ذهب المشهور إلى أنّه أعمّ من أن يكون بنحو المطابقة والعينية أو التضمّن أو الالتزام، ويشهد له ما سيأتي في مبحث الضدّ العامّ من أنّ بعضهم ذهب إلى أنّ الأمر بالشي ء عين النهي عن ضدّه العامّ، وبعض آخر إلى أنّ النهي عن ضدّ شي ء جزء للأمر به، وذهب ثالث إلى أنّه من لوازمه، ولا إشكال في أنّ لازم هذا عموم معنى الاقتضاء في عنوان المسألة.

ويمكن أن يكون الاقتضاء هو التلازم غير البيّن الذي لا يكون من الدلالات اللّفظيّة بل اقتضاء عقلي.

الأمر الخامس: في المراد من كلمة الضدّ.
اشارة

فهل المراد منه معناه الفلسفي وهو «أنّ الضدّين أمران وجوديان بينهما غاية التباعد» أو المراد منه معناه اللغوي فيعمّ النقيض الفلسفي أيضاً؟

الصحيح هو الثاني لأنّ من فروعات المسألة هو البحث عن الضدّ العامّ وهو أمر عدمي ويكون نقيضاً للفعل المأمور به بمعناه الفلسفي.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الكلام في ما نحن فيه يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في الضدّ العام وهو ترك المأمور به.

انوار الأصول، ج 1، ص: 433

المقام الثاني: في الضدّ الخاصّ (والمراد منه أمر وجودي يزاحم الفعل المأمور به).

وقد وقع البحث عن الضدّ الخاصّ مقدّماً على البحث عن الضدّ العامّ في كلمات القوم لكن الأولى تأخيره لسهولة البحث فيه واختصاره فنقول:

أمّا المقام الأوّل: فالأقوال فيه أربعة:

أحدها: الاقتضاء بنحو العينية والمطابقة.

ثانيها: الاقتضاء بنحو التضمّن والجزئيّة.

ثالثها: الاقتضاء بنحو الالتزام إجمالًا أعمّ من أن يكون اللزوم لفظيّاً على نحو يكون النهي عن الضدّ من اللوازم البيّنة بالمعنى الأخصّ للأمر بالشي ء أو عقليّاً على نحو يكون من اللوازم البيّنة بالمعنى الأعمّ.

رابعها: عدم الاقتضاء مطلقاً.

أمّا القول الأوّل: فلا إشكال في فساده ثبوتاً وإثباتاً، أمّا مقام الإثبات فواضح، لأنّ المفروض أنّ الصّلاة مثلًا وتركها اثنان، وإنّ الأمر دعوة إلى الشي ء

والنهي زجر عن الشي ء، ولا معنى حينئذٍ للعينية.

وبعبارة اخرى: إنّ اللزوم ملاك الاثنينية لا الاتّحاد والعينية، والبعث والزجر أمران مختلفان، وأمّا مقام الثبوت فلأنّ ملاك الحرمة هو وجود مفسدة في متعلّقها، كما أنّ ملاك الوجوب وجود مصلحة في متعلّقه، فما لا مفسدة فيه لا حرمة له، وما لا مصلحة فيه لا وجوب له، ولا شكّ في أنّه ليس كلّ ما كان ذا مصلحة في فعله كان في تركه مفسدة، بل كثيراً ما يساوق تركه فقدان المصلحة فقط، وهذا واضح جدّاً.

وأمّا القول الثاني: فإنّه متفرّع على قبول تركّب الوجوب من طلب الفعل والمنع من الترك وهو ممنوع جدّاً، لأنّ الوجوب معنى بسيط، وهو البعث الشديد نحو الفعل، في مقابل الحرمة التي هي الزجر الشديد عن الفعل.

وأمّا القول الثالث: فهو أيضاً غير تامّ لنفس ما مرّ في الجواب عن القول الأوّل، لأنّ وجود الملازمة بين وجب شي ء وحرمة ضدّه العامّ يستلزم وجود الملازمة بين وجود المصلحة في فعل ووجود المفسدة في تركه مطلقاً، فيكون في ترك كلّ ذي مصلحة مفسدة، وهو ممنوع كما مرّ.

انوار الأصول، ج 1، ص: 434

فظهر أنّ المتعيّن هو القول الرابع، وهو عدم الاقتضاء مطلقاً، نعم قد يعبّر بالاقتضاء مسامحة كما أنّه قد يكون من باب التلازم الاتّفاقي بأن تكون المصلحة في الفعل مقارنة للمفسدة في الترك، كما هو كذلك في مثل الصّلاة والزّكاة وبعض الواجبات الاخر.

هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.

أمّا المقام الثاني: وهو البحث عن الضدّ الخاصّ كالصّلاة بالنسبة إلى إزالة النجاسة عن المسجد أو أداء الدَين ففيه قولان:

أحدهما: ما ذهب إليه بعضهم من أنّ الأمر بالشي ء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ.

ثانيهما: ما عليه كثير من المحقّقين المتأخّرين وهو عدم الاقتضاء.

واستدلّ للقول الأوّل

بوجهين:

الوجه الأوّل:- وهو العمدة- ما هو مبني على مقدّميّة ترك الضدّ للفعل المأمور به، فيقال:

1- إنّ ترك الضدّ مقدّمة للفعل المأمور به.

2- إنّ مقدّمة الواجب واجبة.

3- والأمر بالشي ء يقتضي النهي عن تركه الذي هو الضدّ العامّ، فلازم المقدّمة الاولى والثانيّة وجوب ترك الصّلاة لازالة النجاسة عن المسجد في المثال المعروف، ولازم المقدّمة الثالثة حرمة فعل الصّلاة ونتيجتها بطلانها.

ولا يخفى أنّ النكتة الأصلية في هذا البرهان إنّما هي المقدّمة الاولى ولذلك تدور كلمات الأعاظم كالمحقّق الخراساني والميرزا النائيني والمحقّق العراقي رحمهم الله مدارها، وقد ذكر لإثباتها وجهان:

الوجه الأوّل: أنّه قد قرّر في محلّه أنّ عدم المانع من أجزاء العلّة التامّة، وحيث إنّ العلّة مقدّمة على معلولها فيكون عدم المانع أيضاً مقدّماً على وجود المعلول، والمعلول في ما نحن فيه فعل الواجب المأمور به كالازالة في المثال، والمانع هو الصّلاة، فيصير ترك الصّلاة مقدّمة لفعل الإزالة، وهو المطلوب في المقدّمة الاولى من البرهان.

ويجاب عن هذا بعدّة أجوبة:

انوار الأصول، ج 1، ص: 435

الجواب الأوّل: أنّ التمانع إنّما هو بمعنى عدم الاجتماع في الوجود، وهو لا يلازم مقدّميّة أحد المتمانعين للآخر وتقدّمه عليه رتبة، بل غاية ما يقتضيه إنّما هو كون وجود أحدهما مع عدم الآخر في رتبة واحدة.

هذا حاصل ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية، وقد قرّره المحقّق النائيني رحمه الله ببيان أوفى وهو «إنّ مرتبة مانعية المانع متأخّرة عن وجود المقتضي وعن وجود جميع الشرائط، بمعنى أنّ الرطوبة مثلًا لا يمكن أن يقال: أنّها مانعة عن احتراق الجسم إلّابعد وجود النار ومماسّتها مع الجسم القابل للاحتراق، نعم يمكن أن يكون وجود الرطوبة في الجسم القابل للاحتراق قبل وجود النار وقبل مماسّتها لذلك الجسم ولكن اتّصافها بصفة

المانعية وفعلية هذه الصفة فيها لا يمكن إلّابعد وجود المقتضي للاحراق وجميع شرائطه، وعلى هذا الأساس ينكر إمكان كون شي ء شرطاً لشي ء، ضدّه مانعاً عنه لأنّ مانعية الضدّ لا تتحقّق إلّابعد وجود الشرط الذيي هو عبارة عن الضدّ الآخر، وبعد وجود ذلك الضدّ الذي هو شرط يمتنع وجود هذا الآخر الذي يدّعي أنّه مانع، وإلّا يلزم اجتماع الضدّين، ومع امتناع وجوده كيف يمكن أن يكون مانعاً؟ ... (إلى أن قال): إذا تقرّر ذلك. فنقول: توقّف وجود الإزالة على عدم الصّلاة- مثلًا- لا بدّ وأن يكون من جهة عدم المانع، أي حيث إنّ وجود الصّلاة مانع عن وجود الإزالة، وعدم المانع من أجزاء علّة الشي ء، والعلّة لا بدّ وأن توجد بجميع أجزائها وخصوصّياتها حتّى يوجد المعلول ومن جملتها عدم المانع، وقد تبيّن أنّ كون الصّلاة مانعة عن وجود الإزالة لا يمكن إلّابعد وجود المقتضي للازالة ووجود جميع شرائطها، وقد عرفت ممّا تقدّم أنّه إذا وجد المقتضي للازالة لا يمكن أن يوجد المقتضي للصّلاة أصلًا لما ذكرنا من عدم إمكان اجتماع المقتضين للضدّين في عالم الوجود، ففي هذا الفرض (أي فرض وجود المقتضي للازالة) لا بدّ وأن تكون الصّلاة معدومة لعدم وجود المقتضي لها ومع انعدامها كيف تكون مانعة عن وجود الإزالة؟» «1».

هذا هو الجواب الأوّل عن الوجه الأوّل وهو تامّ في محلّه.

الجواب الثاني: أنّ مقدّميّة عدم أحد الضدّين يستلزم الدور، لأنّه بناءً على المقدّميّة يكون انوار الأصول، ج 1، ص: 436

عدم أحد الضدّين مقدّمة لوجود الضدّ الآخر، ومن جانب آخر وجود أحد الضدّين مقدّمة لعدم الآخر، فعدم القيام مثلًا مقدّمة لفعل الجلوس، وفعل الجلوس أيضاً مقدّمة لعدم القيام، وفي المثال المعنون في المقام يكون عدم الصّلاة مقدّمة

لفعل الإزالة وفعل الإزالة أيضاً سبب لترك الصّلاة، وهذا دور محال.

إن قلت: إنّ المقدّميّة هنا أمر فعلي من أحد الطرفين وشأني من طرف آخر، بينما لا بدّ في تحقّق الدور من كون المتوقّف والمتوقّف عليه فعليين، وبيان ذلك أنّ ترك الصّلاة مثلًا مقدّمة للازالة فعلًا، ولكن الإزالة مقدّمة لترك الصّلاة فيما إذا لم يكن في البين صارف عن الصّلاة كعدم إرادتها لا مطلقاً، أي عدم الصّلاة في صورة عدم إرادتها يستند إلى عدم المقتضي ووجود الصارف، ولا يستند إلى الإزالة حتّى تكون الإزالة مقدّمة له.

قلنا: أنّه يكفي في تحقّق الدور مجرّد الشأنيّة للمقدّميّة، بل يتحقّق الدور حتّى فيما إذا كان الطرفان كلاهما شأنيين، فلا يمكن أن يكون كلّ من «الألف» و «الباء» مقدّمة للآخر حتّى شأناً.

الجواب الثالث: أنّ شأن وجود أحد الضدّين مع عدم الآخر شأن وجود أحد النقيضين مع ارتفاع الأخر، فكما لا ترتّب ولا توقّف وجداناً بين وجود الإنسان مثلًا وارتفاع اللاإنسان بل إذا حصل سبب وجود الإنسان حصل الإنسان وارتفع اللاإنسان في رتبة واحدة من دون أن يرتفع اللاإنسان أوّلًا ثمّ يحصل الإنسان في المرتبة المتأخّرة، كذلك إذا حصلت إرادة المأمور به حصل هناك أمران في عرض واحد بالوجدان فعل المأمور به وترك ضدّه، فيكونان إذاً معلولين لعلّة واحدة لا تقدّم لأحدهما على الآخر.

وإن شئت قلت: أنّه لا ريب في كون وجود أحد الضدّين في رتبة وجود الضدّ الآخر، ولا ريب أيضاً في كون وجود كلّ من الضدّين في رتبة عدم نفسه لأنّهما متناقضان، ولازمه أن يكون وجود كلّ واحد من الضدّين في رتبة عدم الضدّ الآخر، لأنّ مساوي المساوي مساوٍ، فإذا كان وجود أحد الضدّين مساوياً لوجود الضدّ الآخر رتبة وكان

وجود كلّ واحد منهما مساوياً لعدمه رتبة- كان وجود أحدهما مساوياً لعدم الآخر أيضاً رتبة، وحينئذٍ لا ترتّب ولا توقّف بينهما وهو المطلوب.

الجواب الرابع: ما أفاده في تهذيب الاصول وحاصله: «أنّ العدم مفهوم اعتباري يصنعه انوار الأصول، ج 1، ص: 437

الذهن إذا تصوّر شيئاً ولم يجده شيئاً إذا رجع إلى الخارج فهو مسلوب عنه أحكام الوجود والثبوت، إذ لا شيئية له، فلا تقدّم له ولا تأخّر ولا مقارنة، بل كلّ الحيثيات مسلوبة عنه سلباً تحصيليّاً لا بمعنى سلب شي ء عن شي ء بل السلب عنه من قبيل الإخبار عن المعدوم المطلق بأنّه لا يخبر عنه، فما يتكرّر بين كلمات المشاهير من أهل الفنّ من عدّ عدم المانع من أجزاء العلّة مرجعه إلى أنّ وجوده مانع عن تحقّق المعلول لا أنّ عدمه دخيل، إذ العدم مطلقه ومضافه أقصر شأناً من أن يحوم حوله التوقّف لأنّه البطلان واللاشيئية» «1».

أقول: وهذا الجواب أيضاً متين في محلّه.

إلى هنا تمّ الكلام عن الوجه الأوّل من الوجهين اللّذين استدلّ بهما للقول الأوّل في المقام.

الوجه الثاني: مسلك التلازم واتّحاد المتلازمين في الحكم، (وهو غير الوجه الأوّل الذي كان مبنياً على مقدّميّة ترك أحد الضدّين لوجود الآخر) وهو أيضاً يتوقّف على ثلاث مقدّمات:

1- إنّ وجود أحد الضدّين ملازم لعدم الآخر وإلّا يستلزم ارتفاع النقيضين، لأنّ عدم الضدّ الآخر يكون نقيضاً لوجوده، فإذا لم يكن وجود الضدّ الأوّل ملازماً لا لوجوده ولا لعدمه يستلزم ارتفاع النقيضين، وهو واضح (بل هذا هو معنى التضادّ).

2- إنّ المتلازمين متساويان في الحكم فتتساوى مثلًا الإزالة وترك الصّلاة في الوجوب.

3- أنّ وجوب ترك فعل يقتضي النهي عن ضدّه وهو وجوده بمقتضى ما سبق في الضدّ العامّ. فيستنتج من هذه الثلاثة أنّ

الأمر بالإزالة يقتضي حرمة فعل الصّلاة من دون حاجة إلى إثبات مقدّميّة ترك الصّلاة لفعل الإزالة كما في الوجه الأوّل.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه الله بالنقاش في المقدّمة الثانيّة، وحاصل بيانه أنّ غاية عدم اختلاف المتلازمين عدم اختلافهما في الحكم بحيث يكون كلّ واحد منهما محكوماً بحكم فعلي مغاير لحكم الآخر لا أن يكونا متّحدين في الحكم بل يجوز أن يكون الملازم محكوماً إنشاءاً بحكم مخالف لحكم ملازمه لكن قد سقط فعليّته بفعلية الأهمّ الملازم له، كما إذا وجب انقاذ الغريق وحرم إنشاءاً ترك الصّلاة الملازم له لكن قد سقطت حرمته الفعليّة لأهمّية الانقاذ.

انوار الأصول، ج 1، ص: 438

لا يقال: إنّه إذا لم يجب أن يكون الملازم محكوماً بحكم ملازمه لزم خلوّه عن الحكم.

لأنّا نقول: أنّ عدم جواز خلوّ الواقعة عن الحكم إنّما هو بالنسبة إلى الحكم الواقعي ولو كان إنشائيّاً لا الحكم الفعلي، والملازم وإن لم يكن محكوماً فعلًا بحكم ملازمه، ولكنّه محكوم واقعاً بحكم إنشائي ولو كان مخالفاً لحكم ملازمه.

أقول: ونضيف إلى ذلك: أنّه لا إشكال في جواز خلوّ الواقعة عن الحكم إنشاءً وفعلًا إذا لم تكن الواقعة ذات شأن كاللعب بالسبحة مثلًا، أو يكون جعل الحكم فيها لغواً أو شبه ذلك، بل لا بدّ للشارع جعل الحكم بالنسبة إلى الوقائع التي يبتلي به المكلّفون وتكون ذات شأن في الخارج، وإلّا يستلزم نقصان الشريعة المقدّسة، وما نحن فيه من القسم الأوّل، لأنّ جعل الوجوب لترك الصّلاة الملازم لفعل الإزالة لغو لا حاجة إليه مع وجوب الإزالة لأنّه يحصل بفعل الإزالة قهراً سواء أراده المكلّف أو لم يرده وسواء كان واجباً أو مباحاً.

إن قلت: ظاهر بعض الرّوايات والآيات أنّه ما من واقعة إلّاولها حكم في

الشرع.

قلنا: هذه الرّوايات أو الآيات ناظرة إلى القسم الثاني من الوقائع، أي الوقائع التي تكون ذات شأن في الواقع ويبتلى به المكلّف ممّا له فائدة.

ثمّ إنّه يمكن المناقشة في هذا الوجه بالنسبة إلى المقدّمة الثالثة أيضاً حيث إنّها مبنيّة على اقتضاء الأمر بالشي ء النهي عن ضدّه العامّ، لأنّ ترك الصّلاة ضدّ عام لفعل الصّلاة، وقد مرّ في المقام الأوّل عدم نهوض دليل على ذلك.

فظهر أنّ السالم من الإشكال إنّما هو المقدّمة الاولى، وهي وجود التلازم بين وجود أحد الضدّين وعدم الآخر، ومن العجب إشكال تهذيب الاصول في هذه المقدّمة أيضاً حيث قال:

«إنّ نقيض كلّ شي ء رفعه لا إثبات هذا الرفع فنقيض قولنا «يصدق عليه السواد» هو «أنّه لا يصدق عليه السواد» لا أنّه يصدق عليه عدم السواد، وكم فرق بين السالبة المحصّلة وبين الموجبة المعدولة أو الموجبة السالبة المحمول، كما إذا قلت: «يصدق عليه أنّه ليس بسواد» «1».

وفيه: أنّ من المعلوم أنّ الضدّين لا يجتمعان في الوجود بلا إشكال، وإذا لم يجتمع وجود أحد الضدّين مع وجود الضدّ الآخر، يجتمع لا محالة مع عدمه لأنّ النقيضان لا يرتفعان، وليس في البين قضيّة حتّى يتكلّم عن أنّ نقيضها سالبة محصّلة أو موجبة معدولة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 439

وإن شئت قلت: وجود البياض ملازم لعدم السواد إلّاأنّه يصدق عليه عدم السواد، وكم فرق بين الملازمة وبين صدقه عليه.

هذا، وقد ظهر إلى هنا أنّه لا يمكن إثبات أنّ الأمر بالشي ء يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ لا من طريق مقدّميّة ترك أحد الضدّين للضدّ الآخر ولا من طريق وجود التلازم بينهما، ولكن لنا في المسألة بالنسبة إلى مسلك المقدّميّة تفصيل فنقول: ربّما يكون الضدّان فعلين قائمين بشخص واحد، فلا إشكال

في أنّ ترك أحدهما ليس مقدّمة لوجود الآخر بل إرادة أحدهما يلازم ترك الآخر قهراً، فمثلًا حصول الجلوس ليس متوقّفاً على ترك القيام بل يحصل الجلوس وينعدم القيام في عرض واحد وفي رتبة واحدة بإرادة الجلوس فقط، كما أنّ تحقّق النوم لا يكون متوقّفاً على اعدام اليقظة في الرتبة السابقة بل تنعدم اليقظة ويحصل النوم بإرادة النوم فقط.

وإن شئت قلت: إذا حصل الداعي لأحدهما يحصل الصارف عن غيره في رتبة واحدة.

وهذا بخلاف ما إذا كان الضدّان فعلين قائمين بشخصين كإشغال محلّ خاصّ من المسجد، فإنّه لا يمكن إشغال زيد له إلّابترك إشغال عمرو له، أو كانا فعلين قائمين بشخص واحد ولكن المحلّ واحد وموضوع خارجي فلا يمكن أن يملأ إناء الماء مثلًا من اللبن بدون فراغه من الماء، وهكذا كتابة شيئين في لوح واحد فلا يمكن كتابة أحدهما إلّابعد محو الآخر، فهنا يكون عدم أحدهما مقدّمة للآخر.

إن قلت: لازم هذا- التفريق بين الضدّين اللّذين كان أحدهما موجوداً من قبل، وما ليس كذلك، فالمقدّميّة حاصلة في الأوّل دون الثاني، أي أنّها موجودة رفعاً لا دفعاً.

قلنا: عدم وجود أحد الضدّين من قبل في القسم الأخير لا يلازم عدم كونه مقدّمة، بل لازمه حصول المقدّمة من قبل، ففراغ الإناء من الماء لقبول اللبن ليس دليلًا على أنّ عدم الماء فيه لا يكون مقدّمة للبن، بل معناه حصول المقدّمة من قبل، وهو واضح.

وإلى ما ذكرنا يشير ما هو المعروف في محلّه من «أنّ التخلية قبل التحلية»، نعم إنّ الأمثلة المتداولة في كلمات القوم في المقام كمثال الصّلاة والإزالة إنّما هي من القسم الأوّل، ولعلّ ملاحظة هذه الأمثلة أوجبت إنكار المحقّقين للمقدّميّة في مطلق الأضداد، فتدبّر جيّداً حتّى تعرف الفرق

بين الموردين فإنّه دقيق.

ثمرة البحث في مسألة الضدّ:

للمسألة ثمرتان:

الثمرة الاولى: نفس الحكم بحرمة الضدّ في صورة الاقتضاء، فإنّه حكم فقهي ينشأ من النهي عن الضدّ، ويوجب فعله العصيان والعقاب كما يوجب تركه بقصد الامتثال الثواب بناءً على ما مرّ سابقاً من أنّ الأمر الغيري أو النهي الغيري يوجب الثواب أو العقاب إذا أتى بالمأمور به أو المنهي عنه بقصد التوصّل إلى ذي المقدّمة «فتأمّل».

الثمرة الثانيّة: فساد الضدّ إذا كان عبادة، لأنّ النهي يدلّ على الفساد، فتصير الصّلاة في المثال المزبور باطلة بناءً على الاقتضاء.

نعم ربّما يناقش فيه بأنّه مبني على كون متعلّق النهي مبغوضاً، والنهي المقدّمي لا يوجب مبغوضيّة متعلّقه، فلا يلزم منه فساده، ولكن قد عرفت الإشكال فيه آنفاً.

كما يمكن المناقشة في المثال المعروف، لأنّ بطلان الصّلاة مبني على فوريّة وجوب الإزالة أو أداء الدَين، ولا إشكال في أنّها عرفيّة لا تنافي إتيان الصّلاة بسرعة ثمّ الإزالة أو أداء الدَين من دون فصل (وإن كانت المناقشة في بعض الأمثلة لا تقدح في أصل الحكم).

ثمّ إنّ الشّيخ البهائي (قدّس اللَّه نفسه) أورد على هذه الثمرة بشي ء انتهى إلى بحث الترتّب، وهو أنّ بطلان الضدّ ليس متوقّفاً على اقتضاء الأمر بالشي ء النهي عن ضدّه، بل أنّه ثابت بناءً على عدم الاقتضاء أيضاً، لأنّ الأمر بالشي ء لو لم يقتض النهي عن ضدّه فلا أقلّ من اقتضائه عدم الأمر بضدّه وإلّا يلزم التكليف بالمحال لامتناع الجمع بين الضدّين، فإذا لم يكن الضدّ مأموراً به بطل إذا كان عبادة لأنّ صحّتها متوقّفة على تعلّق الطلب بها.

وقد اجيب عنه بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّه يكفي في صحّة العبادة مجرّد قصد الملاك والمصلحة والرجحان الذاتي، ولا ينحصر قصد القربة المعتبرة في العبادات بقصد الأمر فقط كي

إذا سقط الأمر بطلت العبادة كما مرّ بيانه في مبحث التعبّدي والتوصّلي.

الوجه الثاني: أنّ متعلّق الوجوب في الصّلاة مثلًا إنّما هو طبيعة الصّلاة، وخصوصيّة الأفراد خارجة عن حيّز الأمر، ولا إشكال في أنّ تكليف العباد بإيجاد ماهيّة لا يتوقّف على كون جميع أفرادها مقدورة، وحينئذٍ سقوط الأمر بالنسبة إلى بعض الأفراد (وهو الفرد المزاحم في ما نحن انوار الأصول، ج 1، ص: 441

فيه) لا يوجب سقوط الأمر بالطبيعة مطلقاً وإذا كان الأمر بالطبيعة باقياً على حاله أمكن الإتيان بذاك الفرد المزاحم بقصد ذلك الأمر المتعلّق بكلّي الصّلاة.

الوجه الثالث: أنّه يمكن الالتزام بوجود أمر خاصّ بالضدّ المهمّ بنحو الترتّب على عصيان الأمر بالأهمّ ومشروطاً بعدم امتثاله، وحينئذٍ يكون الأمر بالأهمّ مطلقاً، وأمّا الأمر بالمهمّ فهو مشروط بعصيان الأمر بالأهمّ على نحو الشرط المتأخّر، أو مشروط بالبناء على المعصية أو إرادة المعصية على نحو الشرط المتقدّم أو المقارن، وهذا هو المراد من الأمر بالضدّين على نحو الترتّب.

الكلام في الترتّب

هل يجوز الأمر بالضدّين على نحو الترتّب، أو لا؟

توجد جذور هذا البحث في كلمات المحقّق الثاني الكركي رحمه الله وأوضحه وشرحه أخير الشّيخ الكبير كاشف الغطاء قدّس اللَّه سرّه، ثمّ بيّنه المحقّق الميرزا الشيرازي رحمه الله، ونقّحه تلميذه المحقّق الفشاركي رحمه الله، وبالأخرة فصّله المحقّق النائيني رحمه الله ورتّبه وشيّد أركانه بذكر مقامات خمسة على ما سيأتي.

واستدلّ القائلون بالأمر الترتّبي بالضدّين بوجهين. (وهما العمدة في المقام):

الوجه الأوّل: أنّ منشأ الإشكال في الأمر بالضدّين إنّما هو التزاحم الموجود بين المهمّ والأهمّ، ولا إشكال في أنّ التزاحم إنّما يتصوّر فيما إذا كان كلا الأمرين مطلقاً وفي عرض واحد، وأمّا إذا كان أحدهما مطلقاً والآخر مشروطاً بعصيانه فلا مضادّة ولا مطاردة بينهما.

الوجه الثاني: الوجدان،

وأقوى الدليل على إمكان شي ء وقوعه، ولا ريب في أنّ الوجدان حاكم بجواز الأمر الترتّبي ووقوعه في الخارج، من قبيل أمر الوالد ولده بقوله: تعلّم الفقه وإلّا فتعلّم الطبّ، وهكذا في أوامر الموالي العرفيّة لعبيدهم، كأن يقول: «كن في الدار في الساعة الفلانيّة وإن عصيتني وخرجت من الدار فكن على جانبه حتّى لو قصدني عدو بسوء تسمع ندائي» أو يقول المولى: كن عالماً ربّانياً وإلّا فكن متعلّماً على سبيل النجاة.

ولكن اجيب عن الوجه الأوّل: بأنّ التزاحم والمضادّة وإن لم تكن بين الأمرين في مرحلة

انوار الأصول، ج 1، ص: 442

الأمر بالأهمّ، ولكنّها موجودة بينهما في مرحلة الأمر بالمهمّ، بداهة أنّ فعليّة الأمر بالأهمّ باقية على قوّتها ولا تسقط بإرادة العصيان.

إن قلت: الأمر بالأهمّ وإن كان فعليّاً بعد، ولكن لا يمنع عن الأمر بالمهمّ إذا كان ترك الأهمّ ناشئاً عن سوء اختيار المكلّف كما في ما نحن فيه، فهو بسوء اختياره أوجب الجمع بين الأمر بالضدّين.

قلنا: الجمع بين الضدّين محال ولا يمكن صدور الأمر به من جانب المولى الحكيم، ولا فرق فيه بين سوء اختيار المكلّف وحسن اختياره كما لا يخفى.

إن قلت: إنّ المزاحمة والمضادّة موجودة بين الأمرين المتعلّقين بضدّين إذا كانا في عرض واحد لا ما إذا كان أحدهما في طول الآخر، لأنّ الأمر بالمهمّ حينئذٍ يكون متوقّفاً على إرادة عصيان الأمر بالأهمّ.

قلنا: المفروض أنّ كلّ واحد من الأمر بالأهمّ والأمر بالمهمّ فعلي حتّى بعد إرادة عصيان الأهمّ، ومعه كيف ترتفع المضادّة؟ وبعبارة اخرى: المزاحمة والمطاردة وإن لم تكن موجودة في مرتبة المهمّ، بالنسبة إلى الأهمّ ولكنّها موجودة من جانب الأهمّ بالنسبة إلى المهمّ والمزاحمة من جانب واحد أيضاً محال.

واجيب عن الوجه الثاني بتوجيه الأمر بالمهمّ بأمرين:

الأمر

الأوّل: أنّ المولى قطع نظره ورفع يده عن الأمر بالأهمّ بعد عصيان العبد وبدّله بالأمر المهمّ.

الأمر الثاني: أنّ أمر المولى بالمهمّ ليس مولويّاً بل إنّه إرشاد إلى بقاء محبوبيته وملاكه.

ولكن الإنصاف عدم تماميّة الجواب في كلا الوجهين، أمّا الأوّل فلأنّ المستحيل إنّما هو الجمع بين الأهمّ والمهمّ في مقام الامتثال لا في مقام الإنشاء، وفي ما نحن فيه لم يجمع المولى بين طلب الأهمّ وطلب المهمّ في مقام الامتثال.

توضيح ذلك: أنّ للحكم مراتب أربعة:

1- مرتبة المصلحة والاستعداد والاقتضاء.

2- مرحلة الإنشاء من قبيل تصويب القانون في مجالس التقنين في يومنا هذا.

3- مرحلة الفعليّة والابلاغ وهي مرحلة التنجيز أيضاً.

انوار الأصول، ج 1، ص: 443

4- مرحلة الامتثال.

وفي الحقيقة أنّ المرحلة الاولى خارجة عن حقيقة الحكم كالمرحلة الرابعة، فإنّه لا إشكال في أنّ المصلحة من مبادى ء الحكم لا من مراتب نفس الحكم، كما أنّ الامتثال مرحلة متأخّرة عن الحكم، فالمراتب الحقيقية للحكم عبارة عن مرحلة الإنشاء ومرحلة الفعليّة، وعدّ غيرهما من مراتبه إنّما هو من باب التوسعة.

وعلى أيّ حال لا معنى للمضادّة والمطاردة بين الضدّين بالنسبة إلى المرحلة الاولى لأنّه يمكن أن يكون لكلّ من الضدّين مصلحة غير مصلحة الآخر، فكما أنّ انقاذ ابن المولى يكون ذا مصلحة- يكون انقاذ عبده أيضاً ذا مصلحة إلّاأنّ الأولى أهمّ والثانيّة مهمّ، بل أنّه لازم معنى التزاحم بين الأمرين، فلو لم يكن لكلّ منهما مصلحة لم يقع بينهما تزاحم بل أنّ أكثر الامور مشتملة على مصالح متزاحمة، بعضها أهمّ من بعض وكذلك المرحلة الثانيّة أي مرحلة الإنشاء، فإنّ إنشاء الأمر بالأهمّ لا ينافي إنشاء الأمر بالمهمّ مع قطع النظر عن مرحلة الامتثال، وكذلك مرحلة الفعليّة لأنّه ما دام المولى لم يأمر في مرحلة

الإنشاء بالجمع بين الحكمين في آنٍ واحد لم يلزم مضادّة في مرحلة الفعليّة بل الحكم الفعلي بالنسبة إلى الأهمّ إنّما هو فرد خاصّ معيّن لأنّه واجب مضيّق فوري، وبالنسبة إلى المهمّ هو طبيعي الفعل كطبيعي الصّلاة الذي ينحلّ إلى أفراد عديدة بعدد آنات الوقت.

وإن شئت قلت: إنّ الأمر بالواجب الفوري ينحلّ إلى أوامر متعدّدة بتعدّد الآنات، ففي كلّ آن إذا فرض العصيان كان الأمر بالأهمّ ساقطاً وصار المهمّ منجزاً، وهكذا في الآن الثاني والثالث إلى آخر الآنات، وعليه فلا يجتمع في آنٍ من الآنات أمران منجزان بفعلين متضادّين أصلًا.

وبهذا يظهر الحكم بالنسبة إلى المرحلة الرابعة، لأنّ المولى إذا لم يأمر بالجمع بين الفعلين في مرحلة الإنشاء والفعليّة لم يجب على المكلّف إتيانهما في آنٍ واحد في مقام الامتثال فلا مضادّة بينهما في هذه المرحلة أيضاً.

هذا بالنسبة إلى الجواب عن الوجه الأوّل.

وهكذا الجواب عن الوجه الثاني وهو دليل الوجدان، فإنّ مجرّد افتراض كون الأمر بالمهمّ إرشاديّاً في بعض الموارد لا يستلزم الإرشاديّة في سائر الموارد وهكذا رفع اليد عن الأمر

انوار الأصول، ج 1، ص: 444

بالأهمّ في بعض الموارد لا يستلزم رفع اليد عنه في سائر الموارد، فإنّا نجد بوجداننا في كثير من الموارد أنّ المولى يأمر بالمهمّ مولويّاً مع بقاء أمره بالأهمّ على قوّته بتصريحه بذلك، فيقول مثلًا:

«اطعم الفقير بهذا الطعام» ويؤكّد على ذلك بمرّات فإذا شاهد عصيان العبد يقول: «الآن أيضاً.

أقول: اطعم الفقير بهذا الطعام وإن كنت لا تطعمه فكله بنفسك ولا تسرف» أو يأمر الوالد ولده ويقول: «صلّ جماعة ثمّ يقول: صلّ جماعة وإن لم تصلّ جماعة فصلّ فرادى» إلى غير ذلك من الأوامر المتداولة بين الموالي والعبيد أو بين الوالد وولده أو بين الأمير

وعسكره أو بين الرؤساء والمرؤوسين.

نعم هذا كلّه بالنسبة إلى مقام الثبوت (أي بالنسبة إلى عدم المضادّة بين الأمر بالأهمّ والمهمّ في مقام الواقع).

أمّا مقام الإثبات فيمكن أن يقال: إنّ كلّ واحد من الخطابين اللّذين تعلّقا بالأهمّ والمهمّ مطلق، ولا دليل على تقييد الأمر بالمهمّ بعصيان الأهمّ.

ولكن إذا كان إطلاق كلا الخطابين مستلزماً لطلب المحال في مقام الامتثال ولم يكن إشكال في مقام الثبوت في الأمر الترتّبي بحكم العقل يلزم تقييد أحد الخطابين بمقدار يوجب ارتفاع الاستحالة فحسب، فإنّ الضرورات تتقدّر بقدرها، وحينئذٍ نقول: لا معنى لتقييد الأهمّ بترك المهمّ لمكان أهمّيته فيتعيّن تقييد المهمّ بعصيان الأهمّ وهو المطلوب.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني رحمه الله قد فصّل الكلام وأطاله بشرح وبسط، وذكر مقدّمات خمس، وهي كما يلي:

المقدمة الاولى: في بيان أمرين:

أحدهما: أنّ الفعلين المتضادّين إذا كان التكليف بكلّ منهما أو بخصوص أحدهما مشروطاً بعدم الإتيان بمتعلّق الآخر فلا محالة يكون التكليفان المتعلّقان بهما طوليين لا عرضيين، وبعبارة واضحة: لا يلزم من الطلبين كذلك طلب الجمع بين الضدّين.

ثانيهما: أنّه في فرض عدم قدرة المكلّف على امتثال التكليفين الموجب لوقوع التزاحم بينهما وإن كان لا بدّ من رفع اليد عمّا به يرتفع التزاحم لاستحالة التكليف بغير المقدور عقلًا إلّا أنّه لا مناصّ حينئذٍ من الاقتصار على ما يرتفع به التزاحم المزبور: وأمّا الزائد عليه فيستحيل سقوطه فإنّه بلا موجب.

انوار الأصول، ج 1، ص: 445

المقدمة الثانيّة: إنّ شرائط التكليف كلّها ترجع إلى قيود الموضوع، ولا بدّ من أخذها مفروضة الوجود في مقام الجعل والإنشاء، فلا تكون من قبيل العلّة لثبوت الحكم لموضوعه، وحينئذٍ يتّضح فساد القول بإنقلاب الواجب المشروط مطلقاً بعد حصول شرطه في الخارج، ويترتّب عليه فساد توهّم أنّ الالتزام

بالترتّب لا يدفع محذور التزاحم بين الخطابين بتوهّم أنّ الأمر بالمهمّ بعد حصول عصيان الأمر بالأهمّ المفروض كونه شرطاً له يكون في عرض الأمر بالأهمّ، فيقع بينهما التزاحم والمطاردة.

المقدمة الثالثة: إنّ فعلية الخطاب في المضيّقات تكون مساوقة لوجود آخر جزء من موضوعه وشرطه، ولا يكون بينهما تقدّم وتأخّر زماناً، فإنّ نسبة الحكم إلى موضوعه وإن لم تكن نسبة المعلول إلى علّته التكوينيّة إلّاأنّها نظيرها، فتخلّف الحكم عنه ولو لآنٍ مّا من الزمان يرجع إلى الخلف والمناقضة، ومن ذلك يعلم أنّ تأخّر الامتثال عن الخطاب أيضاً رتبي لا زماني، فإنّ نسبة الامتثال إلى الخطاب كنسبة المعلول إلى العلّة أيضاً، وأوّل زمان الخطاب هو أوّل زمان الامتثال.

المقدمة الرابعة: أنّ انحفاظ الخطاب في تقدير مّا إنّما يكون بأحد وجوه ثلاثة:

الوجه الأوّل: أن يكون مشروطاً بوجود ذلك التقدير، أو يكون مطلقاً بالإضافة إليه، وهذا إنّما يكون في موارد الانقسامات السابقة على الخطاب، فالإطلاق كالتقييد حينئذٍ يكون لحاظياً.

الوجه الثاني: أن يكون الخطاب بالإضافة إلى ذلك التقدير مطلقاً بنتيجة الإطلاق أو يكون مقيّداً به بنتيجة التقييد، وهذا إنّما يكون في الانقسامات المتأخّرة عن الخطاب اللّاحقة له.

الوجه الثالث: أن يكون الخطاب بنفسه مقتضياً لوضع ذلك التقدير أو لرفعه محفوظاً في الصورتين لا محالة، وهذا القسم مختصّ بباب الطاعة والعصيان.

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ خطاب الأهمّ في ظرف عصيانه يكون انحفاظه من القسم الثالث، أي يكون انحفاظه من قبيل انحفاظ المؤثّر في ظرف تأثيره، والعلّة في ظرف وجود معلوله، والمقتضي في ظرف وجود ما يقتضيه، فخطاب الأهمّ يقتضي إيجاد متعلّقه وامتثاله واطاعته وهدم عصيانه الذي هو من أجزاء موضوع المهمّ، فخطاب الأهمّ دائماً يطرد ويهدم ما

انوار الأصول، ج 1، ص: 446

هو من أجزاء موضوع

المهمّ، أي عصيان الأهمّ، وأمّا خطاب المهمّ فلا تعرّض له لا لعصيان الأهمّ ولا لعدمه لأنّه موضوع له والحكم لا يستدعي وجود موضوعه.

وبهذه المقدّمة يثبت أوّلًا: طوليّة الأمرين، لأنّ أمر الأهمّ مقدّم على عصيانه الذي هو من جزاء موضوع المهمّ، فأمر الأهمّ مقدّم على أمر المهمّ برتبتين.

وثانياً: عدم مزاحمة أحدهما للآخر إذا كانا بهذا الشكل.

وثالثاً استحالة أن يكون مقتضى هذين الخطابين الجمع بين متعلّقيهما لأنّ مقتضى أحدهما رفع الآخر وهدمه.

المقدمة الخامسة: إنّ محذور طلب الجمع بين الضدّين إنّما يترتّب على إطلاق الخطابين دون فعليتهما. (انتهى) «1».

أقول: المهمّ من هذه المقدّمات في نظره الشريف هو المقدّمة الرابعة، مع أنّ الحقّ إنّما هو المقدّمة الاولى، وهي تتضمّن نكتتين:

النكتة الاولى: إنّ الأمر بالضدّين إنّما يستلزم طلب الجمع بينهما فيما إذا كانا عرضيين لا ما إذا كانا طوليين على نحو الترتّب، بل على فرض المحال لو أتى المكلّف بهما بعنوان المطلوبيّة وجمع بينهما في عرض واحد كان ذلك تشريعاً محرّماً.

النكتة الثانيّة: ما مرّ آنفاً من أنّه عند التزاحم لا بدّ من رفع اليد بمقدار يرتفع به التزاحم لا أزيد.

ولا إشكال في أنّ الأولى نكتة ثبوتيّة والثانيّة إثباتيّة.

وعلى أيّ حال إنّه استنتج منهما بعد ضمّ سائر المقدّمات جواز الأمر الترتّبي، وادّعى بعد ذلك وقوع موارد كثيرة من الأمر الترتّبي في لسان الشرع، وإنّ إنكار الترتّب في الاصول يوجب إنكار الضروريات في الفقه:

منها: ما إذا حرمت الإقامة على المسافر في مكان مخصوص، فإنّه مع كونه مكلّفاً فعلًا بترك الإقامة وهدم موضوع وجوب الصّوم مكلّف بالصوم قطعاً على تقدير عصيانه لهذا الخطاب وقصده الإقامة، ولا يمكن لأحدٍ الالتزام بعدم وجوب الصّوم عليه على تقدير قصده الإقامة

انوار الأصول، ج 1، ص: 447

عصياناً وليس ذلك

إلّاللترتّب.

ومنها: ما لو فرض وجوب الإقامة على المسافر من أوّل الزوال فيكون وجوب القصر عليه مترتّباً على عصيان وجوب الإقامة، حيث إنّه لو عصى ولم يقصد الإقامة توجّه خطاب القصر، وكذا لو فرض حرمة الإقامة فإنّ وجوب التمام يكون مترتّباً على عصيان حرمة الإقامة.

ومنها: وجوب الخمس المترتّب على عصيان خطاب أداء الدَين إذا لم يكن الدَين من عام الربح، وأمّا إذا كان من عام الربح فيكون خطاب أداء الدَين بنفس وجوده رافعاً لخطاب الخمس لا بامتثاله «1».

قلت: أنّ ما ذكره في ذيل كلامه من الموارد الفقهيّة يعدّ في الحقيقة دليلًا ثالثاً في المسألة، ونسمّيه الدليل الفقهي في مقابل الدليل الأوّل الذي كان عقليّاً، والدليل الثاني الذي كان وجدانياً، ولكن الإنصاف أنّه غير تامّ بل لا يناسب تفطّن المحقّق النائيني رحمه الله ودقّته في المسائل، والعجب من المحاضرات حيث إنّه نقل هذا الدليل من استاذه ولم يرد عليه شيئاً مع أنّ إشكاله ظاهر، وهو أنّ جميع هذه الموارد خارجة عن مسألة الترتّب بل إنّها من قبيل تبدّل الموضوع، فإنّ وجوب القصر على المسافر في صورة عدم قصده الإقامة في المورد الثاني يكون من باب بقاء موضوع المسافر على حاله ومن باب صدق عنوان المسافر عليه، ووجوب الصّيام عليه في صورة قصده الإقامة مع حرمته عليه في المورد الأوّل يكون أيضاً من باب تبدّل موضوع المسافر إلى الحاضر، وهكذا في المورد الثالث لأنّه لعصيانه وعدم أدائه الدَين بربحه يصير مشمولًا لآية الغنيمة (إذا كان الدَين من السنين السابقة) ويتحقّق موضوع الغنيمة والفائدة، فيجب عليه التخميس، وهذا بخلاف وجوب الصّلاة في صورة عدم الإزالة لأنّه بعصيانه وجوب الإزالة لم يتغيّر موضوع الإزالة إلى موضوع آخر بل أنّها باقية

على وجوبها وإنّما هي مزاحمة للصّلاة فقط لا أكثر، فقياس ما نحن فيه بتلك الموارد مع الفارق ولا ربط بين المسألتين.

كلام التهذيب في الترتّب

ثمّ إنّه ذهب في تهذيب الاصول إلى ما هو أوسع ممّا ذكره القوم وادّعى جواز الأمر بالأهمّ انوار الأصول، ج 1، ص: 448

والمهمّ في عرض واحد بلا تقييد واحد منهما بالعصيان (كما عليه القوم في تصوير الأمر بالمهمّ وقد مرّ منّا أيضاً حيث قلنا أنّ الأمر بالمهمّ مترتّب على عصيان أمر الأهمّ) ثمّ ذكر لتصوير ذلك مقدّمات سبعة والمهمّ منها الثلاثة الأخيرة، كما أنّ أهمّ الثلاثة هو المقدّمة الخامسة، وإليك نصّ كلامه بتلخيص منّا: «إنّ توضيح المختار يستدعي رسم مقدّمات:

الاولى: التحقيق كما سيأتي أنّ الأوامر متعلّقة بالطبائع لأنّ الغرض قائم بنفس الطبيعة بأي خصوصيّة تشخّصت، وفي ضمن أي فرد تحقّقت فلا معنى لادخال أيّة خصوصيّة تحت الأمر بعد عدم دخالتها في الغرض.

الثانيّة: إنّ الإطلاق بعد فرض تماميّة مقدّماته ليس معناه إلّاكون الطبيعة تمام الموضوع للحكم بلا دخالة شي ء آخر، أو ليس إلّاأنّ ما وقع تحت دائرة الطلب تمام الموضوع له، هذا ليشمل ما إذا كان الموضوع جزئيّاً، وأمّا جعل الطبيعة مرآتاً لمصاديقها أو جعل الموضوع مرآتاً لحالاته فخارج من معنى الإطلاق وداخل تحت العموم أفراديّاً أو أحوالياً.

الثالثة: إنّك قد عرفت أنّ الأوامر المتعلّقة بالطبائع لا تعرض لها على أحوال الطبيعة وأفرادها، ومنه يظهر أنّ التزاحمات الواقعة في الخارج بين أفراد الطبائع بالعرض غير ملحوظة في تلك الأدلّة، لأنّ الحكم مجعول على العناوين الكلّية، وهو مقدّم على التزاحم الواقع بين الأفراد برتبتين: رتبة تعلّق الحكم بالعناوين، ورتبة فرض ابتلاء المكلّف بالواقعة، وما له هذا الشأن من التقدّم لا يتعرّض لحال ما يتأخّر عنه برتبتين، والحاصل أنّ

التزاحم بين وجوب إزالة النجاسة عن المسجد ووجوب الصّلاة حيث يتحقّق- متأخّر عن تعلّق الحكم بموضوعاتها وعن ابتلاء المكلّف بالواقعة المتزاحم فيها ولا تكون الأدلّة متعرّضة لحاله فضلًا عن التعرّض لعلاجه إذ قد تقدّم أنّ المطلق لا يكون ناظراً إلى حالات الموضوع في نفسه فضلًا عن حالاته مع غيره، وعن طروّ المزاحمة بينهما فضلًا عن أن يكون ناظراً إلى علاج المزاحمة، فاتّضح بطلان اشتراط المهمّ بعصيان الأهمّ الذي يتبنّى عليه أساس الترتّب.

الرابعة: إنّك إذا تتبّعت كلمات الأعلام في تقسيم الحكم إلى مراتبه الأربعة تجد فيها ما لا يمكن الموافقة معه بل الأحكام منقسمة إلى حكم إنشائي وهو ما لم ير الحاكم صلاحاً في إجرائه وإن كان نفس الحكم ذو صلاح، أو يرى صلاحاً في إجرائه ولكن أنشي ء بصورة العموم والإطلاق ليلحق به خصوصه وقيده، وإلى حكم فعلي قد بيّن وأُوضح بخصوصه وقيوده وآن انوار الأصول، ج 1، ص: 449

وقت إجرائه وإنفاذه، وعليه إذا فرضنا حصول عائق عن وصول الحكم إلى المكلّف وإن كان قاصراً عن إزاحة علّته، أو عروض مانع كالعجز والاضطرار عن القيام بمقتضى التكليف لا يوجب ذلك سقوط الحكم عن فعليته، والسرّ في ذلك أنّ غاية ما يحكم به العقل هو أنّ المكلّف إذا طرأ عليه العذر أو دام عذره وجهله أن لا يكون مستحقّاً للعقاب لا أن يكون الحكم إنشائيّاً.

الخامسة: كلّ حكم كلّي قانوني فهو خطاب واحد متعلّق لعامّة المكلّفين بلا تعدّد ولا تكثر في ناحية الخطاب بل التعدّد والكثرة في ناحية المتعلّق، ويشهد عليه وجدان الشخص في خطاباته، فإنّ الشخص إذا دعا قومه لانجاز عمل أو رفع بليّة فهو بخطاب واحد يدعو الجميع إلى ما رامه لا أنّه يدعو كلّ واحد بخطاب

مستقلّ ولو انحلالًا للغويّة ذلك بعد كفاية الخطاب الواحد بلا تشبّث بالانحلال ... وملاك الانحلال في الإخبار والإنشاء واحد، فلو قلنا بالانحلال في الثاني لزم القول به في الأوّل أيضاً مع أنّهم لا يلتزمون به، وإلّا يلزم أن يكون الخبر الواحد الكاذب أكاذيب في متن الواقع ... وأمّا الميزان في صحّة الخطاب الكلّي فهو إمكان انبعاث عدّة من المخاطبين بهذا الخطاب لا انبعاث كلّ واحد منهم ... والضرورة قائمة بأنّ الأوامر الإلهيّة شاملة للعصاة لا بعنوانهم، والمحقّقون على أنّها شاملة أيضاً للكفّار مع أنّ الخطاب الخصوصي إلى الكفّار وكذا إلى العصاة المعلوم طغيانهم من أقبح المستهجنات بل غير ممكن لغرض الانبعاث ... والإرادة التشريعيّة ليست إرادة متعلّقة بإتيان المكلّف وانبعاثه نحو العمل وإلّا يلزم في الإرادة الإلهيّة عدم تفكيكها عنه وعدم إمكان العصيان، بل هي عبارة عن إرادة التقنين والجعل على نحو العموم، وفي مثله يراعى الصحّة العقلائيّة، ومعلوم أنّه لا تتوقّف عندهم على صحّة الانبعاث من كلّ أحد كما يظهر بالتأمّل في القوانين العرفيّة.

السادسة: إنّ الأحكام الشرعيّة غير مقيّدة بالقدره لا شرعاً ولا عقلًا وإن كان حكم العقل بالاطاعة والعصيان في صورة القدرة ... لأنّه لو كانت مقيّدة بها من الشرع لزم القول بجريان البراءة عند الشكّ في القدرة، وهم لا يلتزمون به بل قائلون بالاحتياط مع الشكّ فيها، وأمّا تقييد العقل مستقلًا فلأنّ تصرّف العقل بالتقييد في حكم الغير وإرادته مع كون المشرّع غيره باطل، إذ لا معنى أن يتصرّف شخص في حكم غيره.

السابعة: إنّ الأمر بكلّ من الضدّين أمر بالمقدور الممكن، والذي يكون غير مقدور هو جمع انوار الأصول، ج 1، ص: 450

المكلّف بين متعلّقيهما في الإتيان وهو غير متعلّق للتكليف.

وقد نبّهنا فلا

تنسى أنّ توارد الأمرين على موضوعين متضادّين مع أنّ الوقت الواحد غير وافٍ إلّابواحد منهما إنّما يقبح لو كان الخطابان شخصيين، وأمّا الخطاب القانوني الذي يختلف فيه حالات الأشخاص فربّ مكلّف لا يصادف أوّل الزوال إلّاموضوعاً واحداً، وهو الصّلاة، وربّما يصادف موضوعين فيصحّ توارد الأمرين على عامّة المكلّفين ومنهم الشخص الواقف أمام المتزاحمين ولا يستهجن.

إذا عرفت هذه المقدّمات:

فنقول: إنّ متعلّقي التكليفين قد يكونان متساويين في الجهة والمصلحة وقد يكون أحدهما أهمّ، فعلى الأوّل لا إشكال في حكم العقل بالتخيير ... وأمّا إذا كان أحدهما أهمّ فإن اشتغل بإتيان الأهمّ فهو معذور في ترك المهمّ لعدم القدرة عليه مع اشتغاله بضدّه بحكم العقل، وإن اشتغل بالمهمّ فقد أتى بالمأمور به الفعلي لكن لا يكون معذوراً في ترك الأهمّ، فيثاب بإتيان المهمّ ويعاقب بترك الأهمّ.

فظهر ممّا قدّمنا أمران:

الأوّل: أنّ الأهمّ والمهم نظير المتساويين في أنّ كلّ واحد مأمور به في عرض الآخر، وهذان الأمران العرضيان فعليّان متعلّقان على عنوانين كلّيين من غير تعرّض لهما لحال التزاحم وعجز المكلّف، إذ المطاردة التي تحصل في مقام الإتيان لا توجب تقييد الأمرين أو أحدهما أو اشتراطهما أو اشتراط أحدهما بحال عصيان الآخر لا شرعاً ولا عقلًا.

والثاني: إنّ الأمر بالشي ء لا يقتضي عدم الأمر بضدّه في التكاليف القانونيّة كما في ما نحن فيه» «1».

نقد كلام التهذيب:

أقول: في كلامه رحمه الله مواقع للنظر:

الموقع الأوّل: فيما أفاده في المقدّمة الخامسة من عدم انحلال الأحكام القانونيّة، فإنّه أوّلًا: لا إشكال في أنّ الحكم لا يتعلّق بالعنوان بما أنّه موجود في الذهن بل يتعلّق به بما أنّه عبرة إلى انوار الأصول، ج 1، ص: 451

الخارج، فوجوب الحجّ في قوله تعالى: «للَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ

إِلَيْهِ سَبِيلًا» تعلّق بعنوان المستطيع لا بما أنّه عنوان كلّي موجود في الذهن بل تعلّق به بما أنّه مشير إلى ما في الخارج، وحينئذٍ يكون المتعلّق حقيقة هو الأفراد، ولا معنى للانحلال إلّاهذا، وبه يندفع ما استدلّ به في هذه المقدّمة من «لغويّة دعوة كلّ واحد بخطاب مستقلّ بعد كفاية خطاب واحد» وذلك لأنّه لا لغويّة في البين إذا كان مراد الشارع هو الأفراد لأنّه لا طريق حينئذٍ لتوجيه الخطاب إليهم إلّابتوجيهه إلى عنوان كلّي مشيراً إليهم على نحو الانحلال.

وهكذا يندفع ما استدلّ به ثانياً من «لزوم أكاذيب من الخبر الواحد الكاذب» وذلك لأنّ الصدق أو الكذب من صفات ظاهر الكلام، وهو في وحدته أو تعدّده تابع لوحدة الكلام وتعدّده، ولا إشكال في أنّ الكلام في المقام واحد والانحلال من صفات واقع الكلام، وخطاب الشارع في نفس الأمر ينحلّ إلى أحكام متعدّدة لا إلى خطابات عديدة مستقلّة.

وأمّا قضيّة الاستهجان ففيها: أنّ إتمام الحجّة على جميع العباد يقتضي شمول الحكم وتعميمه لجميع المكلّفين في مرحلة الإنشاء، كما أنّه في مرحلة الابلاغ والفعليّة أيضاً يعمّ جميع المكلّفين لاتمام الحجّة ولأن يهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة.

وثانياً: لازم عدم الانحلال هو التفصيل في الأحكام الكلّية القانونيّة بين العمومات والمطلقات، لأنّه لا إشكال في انحلال الخطابات التي صدرت بنحو العموم الإفرادي إلى أحكام عديدة بعدد الأفراد كما اعترف نفسه به، ولا وجه لهذا التفصيل لوضوح أنّ الأحكام لا تختلف بسبب كون الدالّ عليه مطلقاً أو عامّاً، فلا فرق بين المطلق والعام الافرادي من حيث الانحلال، نعم الفرق بينهما أنّه في العام الافرادي يكون ذلك بالدلالة المطابقية، وفي المطلق بالدلالة الالتزاميّة.

ثالثاً: لو لم يصحّ الانحلال فما

هو الفارق بين العامّ المجموعي والعام الافرادي، فإنّه لا فرق بينهما إلّابالانحلال إلى أحكام متعدّدة في الافرادي دون العام المجموعي فإنّه حكم واحد على موضوع واحد.

ورابعاً: لازم عدم الانحلال عدم إمكان قصد الأمر للمكلّف، لأنّه حينئذٍ لم يتعلّق الأمر بشخص المكلّف، مع أنّه لا كلام ولا إشكال في إمكان قصد الأمر لكلّ مكلّف، ولازمه أن يكون المتعلّق اشخاص المكلّفين في الواقع، ولكن بإندراجهم في عنوان واحد، بإنشاء واحد

انوار الأصول، ج 1، ص: 452

وبخطاب واحد، وهذا نظير ما إذا قال البائع: «بعت هذه المائة» الذي لا إشكال في انحلاله إلى مائة تمليك، ولذلك لو كان بعضها ملكاً لغير البائع صار البيع باطلًا أو فضولياً بالنسبة إليه مع بقائه على صحّته بالإضافة إلى غيره، وليس هذا إلّامن باب تعدّد المنشأ وإن كان الخطاب والإنشاء واحداً.

الموقع الثاني: فيما أفاده في المقدّمة الرابعة بالإضافة إلى مرتبة الإنشاء والفعليّة من الحكم، فإنّه لا إشكال في أنّ الفارق بين الإنشاء والفعليّة إنّما هو وجود البعث أو الزجر في مرحلة الفعليّة وعدم وجودهما في مرحلة الإنشاء، فشمول مرحلة الفعليّة للجاهل والعاجز لازمه توجّه البعث أو الزجر إليهما مع أنّ من شرائط البعث أو الزجر الانبعاث أو الانزجار، ولا إشكال في عدم انبعاثهما وعدم انزجارهما، ولذلك في مقام الجمع بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري نقول: إذا كان الحكم الواقعي مخالفاً للظاهري صار إنشائيّاً لأنّه حينئذٍ يكون مجهولًا للمكلّف، والجاهل لا يمكن بعثه أو زجره، فلا يمكن أن يكون الحكم المجهول فعليّاً بالنسبة إليه.

الموقع الثالث: فيما أفاده في المقدّمة السادسه من «أنّ الأحكام الشرعيّة غير مقيّدة بالقدرة لا شرعاً ولا عقلًا وإنّما يكون العاجز معذوراً بحكم العقل» فإنّه كيف يمكن للحكيم أن يوجّه حكمه إلى

العاجز على نحو الإطلاق مع إلتفاته بعجزه؟ أليس هذا تكليفاً بما لا يطاق ومخالفاً لما ورد من الآيات والرّوايات في هذا المقام كقوله تعالى: «لَايُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا» وكقول الصادق عليه السلام: «اللَّه أكرم من أن يكلّف ما لا يطيقون، واللَّه أعزّ أن يكون في سلطانه ما لا يريد» «1»

؟ وبالجملة إنّ القدرة من الشرائط العامّة للتكليف ويدلّ عليه:

أوّلًا: إنّ الإطلاق وعدم التقييد بالقدرة من جانب الحكيم قبيح عقلًا فإنّ الإطلاق وإن لم يكن بمعنى جمع القيود، ولكن تعلّق الحكم بطبيعة المتعلّق وتوجّه البعث إليها بحيث تكون هي تمام المطلوب للمولى الحكيم من دون ملاحظة القدرة والعجز قبيح عليه، وبعبارة اخرى: لا إهمال في مقام الثبوت، فإمّا أنّ المولى لاحظ القدرة ثبوتاً أو لم يلاحظ، لا إشكال في ملاحظته إيّاها ولكن ترك ذكرها في الخطاب من باب الوضوح وعدم الحاجة إلى البيان عقلًا.

انوار الأصول، ج 1، ص: 453

وثانياً: الآيات والرّوايات الواردة في هذا المجال، فمن الآيات مضافاً إلى ما مرّ آنفاً قوله تعالى: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ» وقوله: «وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ» وقوله: «فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً»، ومن الرّوايات أيضاً مضافاً إلى ما مرّ آنفاً ما روي عن النبي صلى الله عليه و آله: «إذا أمرتكم بشي ء فأتوا منه ما استطعتم». هذا بالنسبة إلى الحكم الفعلي، وأمّا بالنسبة إلى الحكم الإنشائي فيمكن أن يقال بعدم كونه مقيّداً بالقدرة، وكذا الكلام بالنسبة إلى العلم فإنّه من شرائط الوجوب بالنسبة إلى مقام الفعليّة وإن كان الحكم الإنشائي مطلقاً من هذه الجهة شاملًا للعالم والجاهل، فراجع ما ذكروه في باب الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري تجده شاهداً على هذا المعنى.

الموقع الرابع: في

استشهاده لعدم أخذ القدرة قيداً في الحكم بجريان البراءة عند الشكّ فيها- فإنّه قد اجيب عنه في محلّه من أنّه وإن كانت القاعدة عند الشكّ في التكليف البراءة، ولكن العقلاء يجرون الاحتياط في خصوص الشكّ في القدرة من دون لزوم قبح العقاب بلا بيان، لأنّ جريان البراءة في موارد الشكّ في القدرة يستلزم تعطيل أغراض المولى وعدم الحصول عليها في كثير من الموارد، ومن هذا الباب الاحتياط ولزوم الفحص لتشخيص النصاب وحصول الاستطاعة وموضوع الخمس، وبالجملة إنّ بناء العقلاء مبنيّ على جريان الاحتياط عند الشكّ في القدرة، نظير جريانه في الشبهات قبل الفحص، فوجوب الاحتياط في هذه الموارد مستند إلى قاعدة عقلائيّة لا إلى عدم أخذ القدرة في المأمور به.

الموقع الخامس: فيما أفاده في المقدّمة السابعة من «أنّ المحال هو طلب الجمع بين الضدّين لا الأمر بالضدّين» ففيه: إذا كان الأمر أنّ المتعلّقان بالضدّين مطلقين ولم يكن أحدهما مشروطاً بترك الآخر كان لازمه طلب الجمع كما إذا قال المولى لعبده: «انقذ هذا وانقذ هذا» لأنّ المفروض أنّ لكلّ واحد منهما بعثاً يخصّه، والجمع بين البعثين في آنٍ واحد محال.

الموقع السادس: فيما أفاده في آخر كلامه من «حكم العقل بالتخيير في صورة تساوي متعلّقي التكليفين في المصلحة، وأمّا إذا كان أحدهما أهمّ فإن اشتغل بإتيان الأهمّ فهو معذور في ترك المهمّ وإن اشتغل بالمهمّ فقد أتى بالمأمور به الفعلي لكن لا يكون معذوراً في ترك الأهمّ» فهو حقّ ولكن لا يكون الترتّب إلّاهذا، فإنّ عدم عقابه بترك المهمّ عند الاشتغال بالأهمّ مع عقابه في صورة العكس يكون من آثار الترتّب، بل عند التحليل لا يكون إلّاالأمر بشيئين على سبيل الترتّب.

انوار الأصول، ج 1، ص: 454

وإن شئت قلت:

كيف يكون الأمر بالمهمّ فعليّاً مع أنّه معذور في تركه عند الاشتغال بالأهمّ؟ أليس هذا معنى كونه إنشائيّاً كما هو المختار؟ وهل يمكن البعث الفعلي نحو المهمّ مع وجود البعث الفعلي نحو الأهمّ مع عجز المكلّف عن الإتيان بهما؟ وتسميته بعثاً فعليّاً بالنسبة إلى العاجز لكون الخطاب شاملًا للقادر أيضاً من قبيل التلاعب بالألفاظ.

الموقع السابع: أنّ ما أفاده بعد هذا الكلام الطويل لا يتفاوت في النتيجة مع مقالة المشهور في الترتّب، وحاصله كونه مطيعاً غير عاصٍ عند الإتيان بالأهمّ مع كونه مطيعاً عاصياً عند الإتيان بالمهمّ، هذا مع إمكان قصد الأمر عند الإتيان بالمهمّ وصحّته إذا كان عبادة، والباقي مناقشات لفظيّة، اللهمّ إلّاأن يكون مراده أنّ هذا حكم العقل بينما مقالة المشهور بحسب مقام الإثبات ناظر إلى حكم الشرع، والإنصاف أنّه أيضاً قليل الجدوى مع قبول الملازمة بين الحكمين.

بقي هنا امور:

الأمر الأوّل: قد أشرنا سابقاً أنّ ما ذكرنا إلى هنا بالنسبة إلى جواز الترتّب إنّما هو بحسب مقام الثبوت، وأمّا مقام الإثبات فهل يوجد دليل على وقوع الترتّب في الشرع أم لا؟- الجواب عنه كما عرفت أنّه لا حاجة إلى دليل في مقام الإثبات بل يكفي إمكانه العقلي ثبوتاً لإثبات وقوعه إثباتاً، لأنّه إذا كان للشارع أمران مطلقان أحدهما بالإزالة مثلًا، والآخر بالصّلاة- لا إشكال في أنّ لازم بقائهما على إطلاقهما في صورة التزاحم طلب المحال، فلابدّ من تقييد أحدهما لرفع هذا المحذور، وحيث إنّ المفروض أنّ أحدهما أهمّ من الآخر لفوريته فلا يمكن تقييده، فيتعيّن تقييد المهمّ وهو الصّلاة في المثال بعصيان الأهمّ، ونتيجته بقاء الأهمّ على إطلاقه وتقييد المهمّ بعصيان الأهمّ، ولا دليل على رفع اليد من الدليلين بأكثر من هذا المقدار، لأنّ

الضرورات تتقدّر بقدرها، وليس المقصود من الترتّب إلّاهذا، فظهر من هذا البيان أنّ اللابدّية العقليّة كافية لإثبات الترتّب في مقام الإثبات أيضاً.

الأمر الثاني: قد مرّ في مقام نقل كلام تهذيب الاصول ونقده اعتبار القدرة في صحّة التكليف عقلًا وشرعاً من طريقين:

انوار الأصول، ج 1، ص: 455

أحدهما: من طريق حكمة الباري وقبح توجّه الخطاب من جانب الحكيم إلى العاجز.

وثانيهما: من طريق الآيات والرّوايات الدالّة على أنّ اللَّه تعالى لا يكلّف نفساً بغير المقدور، وبالجملة إنّ القدرة قيد للتكليف الفعلي في جميع الموارد عقلًا وشرعاً.

ولكن بعض الأعاظم فصّل بين الموارد وقسّمها إلى قسمين: قسم تعتبر القدرة فيه بحكم العقل فيدخل في بحث الترتّب، وقسم تعتبر القدرة فيه بحكم الشرع فلا يدخل في بحث الترتّب.

الأمر الثالث: كان البحث إلى هنا في الترتّب بين الواجبين، ولكن هل يمكن الترتّب في اجزاء واجب واحد إذا كان أحد الأجزاء أهمّ من الجزء الآخر، أم لا؟ فإذا كان المكلّف قادراً بإتيان أحد الجزئين كالركوع والسجود، وكان أحدهما أهمّ من الآخر فلو ترك الأهمّ وأتى بالمهمّ فهل يقع الواجب صحيحاً من باب الأمر الترتّبي أو لا؟ فقد حكي عن جماعة من المحقّقين القول بكونه داخلًا في باب الترتّب مع أنّ الإنصاف عدم جريانه في اجزاء الواجب، لأنّ أجزاء الواجب تدريجية الوجود فهو مأمور بالقيام مثلًا في هذا الآن وليس مأموراً بالجلوس، فإذا جلس بطلت الصّلاة.

وبعبارة اخرى: إذا كانت الأجزاء تدريجية الوجود كانت باعثية الأمر إليها أيضاً تدريجية، فالمكلّف في هذا الآن مبعوث إلى الجزء المتقدّم وليس مبعوثاً إلى الجزء المتأخّر حتّى كان حفظ القدرة لإتيانه واجباً عليه ولو كان أهمّ من الجزء المتقدّم.

الأمر الرابع: ما مرّ بناءً على جواز الترتّب من أنّ وجوب المهمّ

مشروط بعصيان الأهمّ هل هو على نحو الشرط المتقدّم أو المقارن أو المتأخّر؟

لا إشكال في عدم كونه على نحو الشرط المتقدّم، لأنّ معناه أنّ عصيان الأهمّ في الزمان الخاصّ به شرط الإتيان بالمهمّ في الزمان الخاصّ به، أي «إن عصيت الأمر بالأهمّ ومضى زمانه إئت بالمهمّ»، ومن الواضح أنّه حينئذ خارج عن محلّ البحث لأنّ محلّ البحث في الترتّب إنّما هو الأمر بالضدّين في زمان واحد على نحو ترتّب أحدهما على الآخر رتبة، بينما هنا يكون الأمر بالضدّين في زمانين مختلفين، وأمّا الشرط المقارن فلا بأس به، لأنّ معناه أنّ الأمر بالمهمّ مقارن زماناً مع عصيان الأهمّ وأنّ يتوجه إلى المكلّف في نفس لحظة عصيان الأهمّ، وكذلك الشرط المتأخّر لأنّه معناه توجه الأمر بالمهمّ إلى المكلّف حينما قصد عصيان الأهمّ.

انوار الأصول، ج 1، ص: 456

ويمكن أن يقال: إنّ الشرط هنا مقارن لو كان الأمر بالمهم مشروطاً بإرادة عصيان الأهمّ، ومتأخّر لو كان مشروطاً بنفس عصيان الأهمّ في الخارج.

الأمر الخامس: ممّا أُورد على القول بجواز الترتّب ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله بقوله: «ثمّ إنّه لا أظنّ أن يلتزم القائل بالترتّب بما هو لازمه من الاستحقاق في صورة مخالفة الأمرين لعقوبتين ضرورة قبح العقاب على ما لا يقدر عليه العبد، ولذا كان سيّدنا الاستاذ رحمه الله لا يلتزم به على ما ببالي وكنّا نورد به على الترتّب».

وتوضيح ما أفاده: أنّه بناءً على جواز الترتّب لا إشكال في تعدّد الأمر، واقتضاء كلّ واحد منهما عقاباً على تركه على تقدير تركهما فيتعدّد العقاب، مع أنّ لازمه هو العقاب على أمر غير مقدور لأنّ المفروض أنّ المكلّف كان قادراً على الإتيان بأحد الضدّين فقط.

وقال في المحاضرات ما حاصله: أنّا نلتزم

بتعدّد العقاب بل لا مناصّ منه لأنّ المستحيل إنّما هو كون العقاب على ترك الجمع بين الواجبين (الأهمّ والمهم) لا كونه على الجمع في الترك، بمعنى أنّه يعاقب على ترك كلّ منهما في حال ترك الآخر، والجمع بين تركي الأهمّ والمهمّ خارجاً مقدور للمكلّف فلا يكون العقاب عليه عقاباً على غير مقدور «1».

أقول: إنّ ما ذكره أشبه شي ء بالسفسطة، لأنّ المفروض جواز الترتّب في مثل إنقاذ الغريق الذي لا يكون قادراً على الجمع بين الضدّين حتّى على نحو الترتّب بل يكون قادراً على أحدهما فقط مطلقاً، فيكون العقاب على كليهما عقاباً على أمر غير مقدور، فليكن العقاب واحداً.

إن قلت: كيف يكون العقاب واحداً مع أنّ الأمر متعدّد؟

قلنا: إنّ الأمر متعدّد ولكن على نحو الترتّب فيكون المطلوب على كلّ تقدير شي ء واحد، فيكون العقاب واحداً ولكنّه يعاقب بمقدار العقاب المترتّب على ترك الأهمّ بناءً على ترك كليهما، وبمقدار ما به التفاوت بين عقاب الأهمّ وعقاب المهمّ بناءً على ترك الأهمّ وإتيان المهمّ.

وإن شئت قلت: المولى لا يريد كليهما معاً، فكيف يعاقب على تركهما معاً؟ والظاهر أنّ منشأ الاشتباه هو عدم التوجّه إلى الفرق بين الأوامر المطلقة والمترتّبة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 457

الأمر السادس: قد يقال بإمكان حلّ مسألة اجتماع الأمر والنهي من ناحية الترتّب لأنّها في مثال إتيان الصّلاة في الدار المغصوبة مثلًا ترجع في الحقيقة إلى أن يقول المولى لعبده: «لا تغصب وإن غصبت فلا أقلّ صلّ» ولكن الصحيح أنّه لا ربط بين المسألتين، لأنّ مسألة الترتّب تجري في الضدّين اللّذين هما شيئان وجوديان لا يجتمعان في الوجود، بخلاف مسألة اجتماع الأمر والنهي التي يكون المتعلّق فيها شي ء واحد وإن كان مجمعاً لعنوانين، فإنّ تعدّد العنوان

لا يوجب تعدّد المعنون على القول بالامتناع مع قطع النظر عن الترتّب كما هو المفروض.

الأمر السابع: في ثمرة البحث عن الترتّب.

إنّ ثمرة البحث تصحيح العمل إذا كان من العبادات من طريق قصد الأمر، فإنّ لازم جواز الترتّب كون الصّلاة مثلًا في المثال المعروف مأموراً بها فيمكن إتيانها بقصد هذا الأمر.

نعم هيهنا طريقان آخران لتصحيح العمل أيضاً:

أحدهما: قصد الملاك والمحبوبيّة.

والثاني: قصد الأمر المتعلّق بكلّي الصّلاة بلحاظ تعلّقه بسائر الأفراد غير هذا الفرد المزاحم.

إن قلت: إنّ متعلّق الأمر وإن كان هو طبيعة الصّلاة وماهيتها، ولكن لا إشكال في أنّها قنطرة إلى أفرادها في الخارج وعنوان مشير إليها، فكأنّ الأمر تعلّق بالافراد من أوّل الأمر، وحينئذٍ كيف يمكن تصحيح هذا الفرد بقصد الأمر المتعلّق بذاك الفرد مع أنّهما فردان مختلفان؟

قلنا: المفروض أنّه لا فرق بين الفردين إذا كانا فردين لماهية واحدة، إنّما الفرق في وقوع المزاحمة لأحدهما دون الآخر.

وهنا ثمرات اخرى لجواز الترتّب:

منها: في ما إذا أتى بالصّلاة إخفاتاً بدل إتيانها جهراً وبالعكس، أو أتى بالصّلاة قصراً بدل إتيانها تماماً وبالعكس، فقد ذهب المشهور إلى صحّة الصّلاة إذا كان جاهلًا مقصّراً مع ترتّب العقاب، ولكن استشكل عليهم بأنّه كيف يترتّب العقاب مع صحّة الصّلاة، فمن الوجوه التي ذكرت لحلّ هذا الإشكال ما ذكره الشّيخ الكبير كاشف الغطاء رحمه الله من أنّه داخل في باب الترتّب، وأنّ المكلّف مأمور أوّلًا بإتيان الصّلاة جهراً مثلًا، وعلى فرض عصيانه مأمور به انوار الأصول، ج 1، ص: 458

إخفاتاً، فهو يثاب على إتيان المهمّ وهو الصّلاة عن إخفات، ويعاقب على ترك الأهمّ وهو الصّلاة عن جهرٍ، وتحقيق المسألة يترك إلى محلّه في الفقه.

ومنها: نفس كشف الأمر بالمهمّ مع ترك الأهمّ، لأنّ وجوب المهمّ أي

وجوب الصّلاة فيما إذا ترك الإزالة حكم من الأحكام الخمسة وفرع من الفروعات الفقهيّة، والمسألة الاصوليّة هي ما يستنبط منها حكم من الأحكام الفقهيّة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 459

الفصل الثاني عشر أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه

هل يجوز أمر الآمر مع العلم بانتفاء شرطه، أو لا؟

الظاهر أنّ منشأ طرح هذا البحث هو الأوامر الامتحانيّة من باب أنّ الآمر فيها عالم بانتفاء شرط المأمور به وأنّ المكلّف ليس قادراً بإتيان المأمور به.

وكيف كان: المشهور بين أصحابنا هو عدم الجواز، بينما المشهور عند المخالفين هو الجواز، ولكن قبل بيان أدلّة القولين لا بدّ من تحرير محلّ النزاع فنقول: فيه احتمالات أربع:

الاحتمال الأوّل: أمر المولى جدّاً مع العلم بانتفاء شرط الأمر، أي طلب المولى شيئاً على نحو الجدّ مع انتفاء شرطه، وهو الشوق النفساني إلى المأمور به، ولا إشكال في استحالته، لأنّ الشرط هذا من أجزاء العلّة، والأمر بشي ء جدّاً مع عدم الشوق إليه يرجع إلى حصول المعلول من دون حصول علّته وهو محال.

الاحتمال الثاني: أن يكون الكلام في الإمكان الذاتي، بأن يكون الكلام في أنّ أمر المولى جدّاً بشي ء مع عدم حصول شرطه ممكن ذاتاً وثبوتاً أم لا؟ والفرق بينه وبين الوجه الأوّل هو أنّ البحث في الأوّل كان في الإمكان الوقوعي وبالغير لأنّ حصول المعلول من دون علّته محال بالغير، بخلاف الكلام في هذا الوجه فإنّه يكون في الإمكان الذاتي، وكيف كان فهذا الوجه لتصوير محلّ النزاع أيضاً غير معقول، لأنّ من الواضح أنّ أمر الآمر مع انتفاء شرطه لا يكون مستحيلًا ذاتاً من قبيل اجتماع الضدّين.

الاحتمال الثالث: أن يكون المراد أمر الآمر مع اجتماع شرائطه في مرحلة الإنشاء وانتفاء شرائطه في مرحلة الفعليّة كما إذا كان بداعي الامتحان فقط، فيكون مردّ العنوان إلى

أنّه «هل يجوز إنشاء الأمر مع انتفاء شرط الفعليّة للتكليف أو لا؟».

انوار الأصول، ج 1، ص: 460

لا إشكال في أنّ هذا وجه معقول يمكن وقوعه خارجاً، لأنّه لا مانع لانشاء الأمر من دون حصول شرائط فعليّته لتصوّر مصالح اخرى في أمر المولى غير حصول العبد على مصالح المكلّف به كمصلحة الامتحان، وهو واضح، وقد عرفت أنّ منشأ طرح المسألة أيضاً هذا المعنى.

الاحتمال الرابع: ما ذكره في الفصول وذهب إليه في تهذيب الاصول وهو أن يكون المراد أمر الآمر مع العلم بانتفاء شرط وجود المكلّف به (والفرق بينه وبين الثلاثة الاولى أنّ المعلوم هنا هو انتفاء شرط وجود المكلّف به، بينما المعلوم في الثلاثة هو انتفاء شرط التكليف) وهو نظير بعض الأوامر الامتحانيّة حيث إنّ المولى يأمر فيه مع العلم بانتفاء شرط وجود المكلّف به، وهو عدم النسخ لأنّه يعلم بأنّه سوف ينسخ.

فإن كان المراد في المسألة هذا الوجه فهو أيضاً وجه معقول ولكن يمكن المناقشة في المثال بأنّه راجع إلى الوجه الثالث، لأنّ عدم النسخ من شرائط التكليف بقاءً لا المكلّف به، فإنّ النسخ عبارة عن رفع التكليف وإزالة الحكم، وعلى أيّ حال: الوجه المعقول في تصوير محلّ النزاع إنّما هو الوجه الثالث والرابع، والحقّ التفصيل بين ما إذا كان الضمير الموجود في العنوان (مع العلم بانتفاء شرطه) راجعاً إلى وجوب المأمور به، فيكون المراد من الشرط حينئذٍ شرط التكليف كالإستطاعة، ويكون محلّ النزاع هو الوجه الثالث، وبين ما إذا كان الضمير راجعاً إلى وجود المأمور به، فيكون الشرط شرط المكلّف به كالوضوء ويكون محلّ النزاع هو الوجه الرابع، فإن قلنا بالأوّل فيمكن أن يقال: إنّ هذا البعث لغو لأنّ لازمه أن يقول المولى لعبده:

«إذا استطعت

فحجّ» مع علمه بعدم استطاعته، ومن واضح أنّه لا فائدة لمثل هذا البعث اللهمّ إلّا أن يلاحظ فيه منافع وأغراض اخر.

وإن قلنا بالثاني فلا إشكال في جوازه كما إذا أمر بالصّلاة مع علمه بعدم كونه متوضّأً.

والإنصاف أنّ هذه المسألة من المسائل التي عنونها بعض الأشاعرة مع عدم وضوح المراد منها ومع عدم ترتّب ثمرة عليها، ولها نظائر في المسائل الاصوليّة.

بقي هنا امور:

الأمر الأوّل: فيما أفاده في تهذيب الاصول من التفصيل بين الأوامر القانونيّة والأوامر

انوار الأصول، ج 1، ص: 461

الشخصيّة وأنّه «إن كان الأمر شخصياً متوجّهاً إلى شخص معيّن فالحقّ هو القول بالامتناع إذ الملاك هو احتمال انبعاثه وهو لا يجتمع مع العلم بانتفاء شرطه أيّ شرط كان من شرط الجعل أو المجعول بل مع انتفاء الاحتمال من جهة القصور أو التقصير من المكلّف، وأمّا الأوامر الكلّية القانونيّة المتوجّهة إلى عامّة المكلّفين فلا يجوز مع العلم بفقد عامّتهم للشرط، وأمّا مع كون الفاقد والواجد مختلطين موجودين في كلّ عصر ومصر كما هو الحال خارجاً، فالتكليف عامّ شامل للقادر والعاجز، وفعلي في حقّ العاصي والمطيع والنائم والساهي، نعم للعقل الحكومة المطلقة في تشخيص المستحقّ للعقاب من غير المستحقّ فيجعل العاجز ومن أشبهه في عداد المعذورين في مخالفة الحكم الفعلي» «1».

أقول: إنّ هذا مبني على عدم انحلال خطاب واحد إلى خطابات متعدّدة مستقلّة كما صرّح به في تتمّة كلامه، وقد مرّ في مبحث الترتّب المناقشة فيه وفي ما يترتّب عليه من الأحكام الكثيرة، نعم مع قطع النظر عن مبنى الانحلال لو علم بانتفاء الشرط عن عامّة المكلّفين كان أمر الآمر لغواً فلا يجوز أمره مع العلم بانتفاء شرطه كما أشار إليه فيما عرفت من كلامه، وأمّا إذا علم بانتفاء

الشرط عن بعض المكلّفين فلا إشكال في أمره وخطابه بلحاظ وجود الشرط في سائر المكلّفين، بل لا فرق حينئذ بين القول بالانحلال وعدمه، لأنّ الخطاب على أيّ حال واحد ولو كان الحكم منحلًا بأحكام عديدة، وحيث إنّ الخطاب واحد صدر على نحو الكلّي فلا يلزم لغويّة لأنّها ترجع إلى اللفظ، واللفظ واحد.

الأمر الثاني: فيما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله من «أنّ هذه المسألة باطلة من أصلها وليس فيها معنى معقول يبحث عنه لما عرفت في مبحث الواجب المشروط أنّ فعلية الحكم في القضايا الحقيقية مشروطة بوجود موضوعه خارجاً ويستحيل تخلّفها عنه، وعلم الآمر بوجوده أو بعدمه أجنبي عن ذلك، فلا معنى للبحث عن جواز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه، كما قد عرفت أنّ الحكم في القضايا الخارجيّة يدور مدار علم الحاكم ووجود شروط الحكم، وأمّا نفس وجودها في الخارج أو عدمها فيه فهو أجنبي عن الحكم فلا معنى للبحث عن الجواز المزبور فيها أيضاً» «2».

انوار الأصول، ج 1، ص: 462

أقول: قد أورد تلميذه المحقّق المقرّر له في الهامش «بأنّ فعلية الحكم في القضايا الحقيقية وإن كانت تدور مدار وجود الموضوع خارجاً إلّاأنّ جعل الحكم على الموضوع المقدّر وجوده مع العلم بعدم تحقّقه خارجاً لغو لا يمكن صدوره من الحكيم» «1»، وهو جيّد متين.

الأمر الثالث: قد يقال بأنّ ثمرة هذه المسألة تظهر في باب الصّوم من باب أنّه إذا كان المكلّف سالماً مثلًا في شهر رمضان فأفطر ثمّ صار مريضاً أو سافر بعد الإفطار أو حاضت فتبيّن بذلك انتفاء شرط الوجوب وهو بقاء شرائط الوجوب إلى المغرب، فإن قلنا بجواز أمر الآمر مع العلم بانتفاء شرطه تجب عليه الكفّارة لأنّه خالف الأمر المتعلّق بالصّيام الشامل له

أيضاً، وأمّا إن قلنا بعدم الجواز فلا كفّارة بل لا قضاء عليه لانكشاف عدم وجوب الصّيام عليه في الواقع.

ولكن الإنصاف عدم ارتباط المسألة بالمقام لأنّ الثابت من أدلّة الكفّارات انحلال وجوب الصّوم إلى تكاليف متعدّدة بتعدّد الآنات وأنّ الصّيام واجب ما دام الموضوع باقياً، ولذلك قام الإجماع على عدم جواز الإفطار قبل الخروج عن حد الترخّص لمن يعلم من طلوع الفجر بمسافرته في أثناء يومه، وبعبارة اخرى: المستفاد من الأدلّة عدم انتفاء شرط التكليف في هذه المسألة، وحينئذٍ لا تكون من مصاديق المقام.

الفصل الثالث عشر هل الأمر متعلّق بالطبائع أو بالأفراد؟

وهي مسألة معروفة بين الاصوليين، وقد أعطاها بعض الأعاظم «1» شكلًا فلسفيّاً ببيانات عديدة منها: «أنّ الكلّي الطبيعي هل يكون بنفسه موجوداً في الخارج أو أنّه موجود بوجود أفراده؟».

ولكن الإنصاف أنّها مسألة عرفيّة كما هو الغالب في المسائل الاصوليّة، توضيح ذلك: أنّه لا إشكال في أنّ كلّ طبيعة إذا وجدت في الخارج يكون لها لوازم قهريّة خارجيّة بحسب الزمان والمكان أو الكمّ والكيف وغيرها من العوارض كالجهر والاخفات وخصوصيّة الوقوع في أيّ زمان ومكان بالنسبة إلى طبيعة الصّلاة التي هي عبارة عن الركوع والسجود والقيام والتكبير والتسليم وغيرها من الأذكار الواجبة، وحقيقة البحث في المقام هي أنّه هل تكون هذه اللوازم القهريّة والخصوصيّات الخارجيّة داخلة تحت الطلب، أو أنّ متعلّق الطلب هو طبيعة الصّلاة مجرّدة عن هذه اللوازم، ولا ريب أنّ هذا بحث عرفي عقلائي، ويكون عنوان البحث حينئذٍ أنّ الخصوصيّات الفرديّة الخارجيّة التي لا تنفكّ عن الطبيعة في الخارج هل هي داخلة تحت الطلب، أو لا؟ ولا يخفى أنّ محلّ النزاع ما إذا لم يصرّح المولى بخصوصيّة فرديّة في كلامه، وإلّا فلا إشكال في أنّها داخلة تحت الطلب كما إذا قال

مثلًا: «صلّ في أوّل الوقت».

إن قلت: «إنّ تشخّص الوجود بذاته لا بالخصوصّيات التي تلحق به، وبعبارة اخرى: إنّ الوجود عين التشخّص ويكون لكلّ واحد من العوارض مثل الزمان والمكان والكمّ والكيف وجود آخر مضافاً إلى وجود الجوهر وقائماً عليه، فيكون لكلّ واحد من هذه الوجودات تشخّص بذاته وامتياز بنفسه عن غيره، سواء كان جوهراً أو عرضاً، ولا يكون وجود عرض انوار الأصول، ج 1، ص: 464

مشخّصاً لوجود عرض آخر، وكذلك وجود جوهر بالإضافة إلى وجود جوهر آخر، أو وجود عرض بالنسبة إلى جوهره الذي يقوم به، بل العرض إنّما يكون ملازماً لجوهره في الخارج ولا ينفكّ عنه، لا أن يكون مشخّصاً له بل تشخّصه بذاته، وبناءً على ذلك: فإنّ الامور المتلازمة للوجود الجوهري خارجاً التي لا تنفكّ عنه كأعراضه من الكمّ والكيف وغيرهما لا يعقل أن تكون مشخّصات لذلك الوجود، فإطلاق المشخّصات على تلك الأعراض مسامحة جدّاً، وعليه فليست هذه الأعراض واللوازم متعلّقة للأمر سواء قلنا بتعلّق الأمر بالطبائع أو بالأفراد.

وبعبارة اخرى: إنّ تلك اللوازم كما أنّها خارجة عن متعلّق الأمر على القول بتعلّقه بالطبيعة، كذلك هي خارجة عن متعلّقه على القول بتعلّقه بالفرد» «1».

قلنا: الإنصاف أنّه لا سبيل لهذه التدقيقات الفلسفية في محلّ البحث، فإنّا نقبل أنّ الوجود متشخّص بذاته لا بعوارضه، لكن الكلام في أنّ هذه العوارض بملاحظة عدم انفكاكها عن الطبيعة في الخارج هل يسري الأمر من الطبيعة إليها على البدل عند العرف أو لا، سواء كان تشخّصها بتلك العوارض أو لم يكن؟ فالمسألة عرفيّة لا فلسفية.

ثمّ إنّ ثمرة المسألة تظهر في موارد عديدة:

منها: باب اجتماع الأمر والنهي كالصّلاة في الدار المغصوبة فإنّه قد يقال: بأنّه إذا تعلّق الأمر بالطبائع كانت النتيجة جواز

الاجتماع، لأنّ الأمر المتعلّق بالصّلاة لا يسري إلى الخصوصيّات الفرديّة كغصبية الدار في المثال، وإن قلنا بتعلّقه بالافراد كانت النتيجة الامتناع، لأنّ الخصوصيّة المزبورة (أي الغصبية) تصير أيضاً منهياً عنها ويستحيل تعلّق الأمر بالمنهي عند الآمر والمبغوض عنده (فتأمّل).

منها: حكم الضمائم المباحة في الوضوء وغيره من أبواب العبادات كالوضوء بالماء الحارّ في الشتاء والبارد في الصيف، فلو توضّأ مثلًا بالماء البارد مع قصد التبريد وقلنا بتعلّق الأمر بالطبيعة، فلا إشكال في صحّة الوضوء لأنّ المأمور به إنّما هو مجرّد الطبيعة، وقد وقعت بقصد القربة، وأمّا إن قلنا بتعلّق الأمر بالافراد يقع الوضوء باطلًا، لأنّ الخصوصيّة أيضاً وقعت متعلّقة للأمر العبادي فلابدّ من إتيانها أيضاً بقصد القربة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 465

وهكذا إذا أتى بالصّلاة في مكان حارّ في فصل الشتاء.

إذا عرفت ذلك فنقول: ذهب المحقّقون إلى أنّ الأوامر متعلّقة بالطبائع واستدلّوا له بوجوه:

الوجه الأوّل: الوجدان كما صرّح به في الكفاية بقوله: «وفي مراجعة الوجدان غنىً وكفاية عن إقامة البرهان على ذلك حيث يرى إذا راجعه أنّه لا غرض له في مطلوباته إلّانفس الطبائع ولا نظر له إلّاإليها من دون نظر إلى خصوصّياتها الخارجيّة وعوارضها العينية بحيث لو كان الانفكاك عنها بأسرها ممكناً لما كان ذلك ممّا يضرّ بالمقصود أصلًا».

الوجه الثاني: أنّ الطلب سعة وضيقاً تابع للغرض فيدخل فيه ما يكون دخيلًا في الغرض، ولا ريب أنّ الغرض قائم بطبيعة الصّلاة مثلًا فحسب لا خصوصّياتها الزمانيّة أو المكانيّة.

نعم لا يخفى أنّ هذا الوجه في الواقع تصوير برهاني لدليل الوجدان ولا يكون دليلًا مستقلًا عنه.

الوجه الثالث: التبادر فإنّ المتبادر من الأوامر والنواهي إنّما هو طلب إيجاد الطبيعة أو تركها فقط، وهذا كافٍ في إثبات المقصود.

واستدلّ لتعلّقها بالافراد بوجهين:

أحدهما:

إنّ الموجود في الخارج هو الفرد لا الطبيعة، وحينئذٍ يكون تعلّق الأمر بالطبيعة بلحاظ أنّها مرآة إلى الخارج لا بلحاظ نفسها، وينتقل الأمر من طريق الطبيعة إلى الأفراد، وهو المقصود.

ولكن اجيب عنه: بأنّ هذا مبني على عدم وجود الكلّي الطبيعي في الخارج مع أنّه قد قرّر في محلّه أنّ الطبيعي موجود في الخارج ضمن أفراده، فيكون وجود الطبيعة متعلّقاً للأمر دون ضمائمه.

ثانيهما: إنّ المتلازمين في الوجود لا يختلفان في الحكم، وحيث إنّ اللوازم الخارجيّة والخصوصيّات الفرديّة تكون من لوازم الوجود في الخارج فيسري الحكم إليها.

والجواب عنه ما مرّ في بعض الأبحاث السابقة من أنّ غاية ما يقتضيه التلازم إنّما هو عدم اختلاف المتلازمين في الحكم بأن يكون أحدهما محكوماً بالوجوب والآخر محكوماً بالحرمة مثلًا لا اتّحادهما في الحكم أيضاً فإنّه لا دليل عليه البتة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 466

بقي هنا امور:

الأمر الأوّل: ربّما يتوهّم من قولنا بأنّ الأوامر تتعلّق بالطبائع أنّ المتعلّق هو الطبيعة من حيث هي هي، فيعترض عليه بأنّ الطبيعة من حيث هي هي ليست إلّاهي، لا مطلوبة ولا مبغوضة، ومقتضاه كون الطبيعة في حدّ ذاتها خاليّة عن القيود فإنّ كلّ شي ء في مرتبة ذاته ليس إلّانفس ذلك الشي ء لا غير.

وبعبارة اخرى: المراد من الماهية إنّما هو نفس مفهوم الإنسان مثلًا وهو ليس إلّانفسه، وليس مفهوم الشجر والحجر وغيرهما، أي أنّ كلّ ماهية يكون لها مرتبة خاصّة لا سبيل لغيرها إليها.

وبعبارة ثالثة: ما هو متعلّق الأوامر؟ فإن كان هو الماهية من حيث هي هي فإنّها ليست إلّا هي لا محبوبة ولا مبغوضة، وإن قلنا أنّه الماهية بقيد الوجود فإنّه تحصيل للحاصل، وإن قلنا أنّه الماهية بقيد العدم فهو محال.

واجيب عنه: بأنّ متعلّق الطلب إنّما

هو إيجاد الماهية في الخارج، وبتعبير آخر: إنّ الوجود يتصوّر على قسمين: الوجود بالمعنى المصدري والوجود بالمعنى اسم المصدري، والمتعلّق للأوامر إنّما هو الأوّل أي الإخراج من كتم العدم إلى عالم الوجود أو انقلاب العدم إلى الوجود، والتحصيل للحاصل إنّما هو الوجود بمعنى اسم المصدري لا المصدر.

توضيح ذلك: الطلب التشريعي يكون بمنزلة الطلب التكويني، فكما أنّ المولى في طلبه التكويني للماء مثلًا لا يطلب الماهية من حيث هي هي لأنّها لا ترفع العطش ولا يطلب السقي الموجود بل يطلب إيجاد السقي في الخارج، كذلك في طلبه التشريعي من العبد، فيطلب الإيجاد، أي المعنى المصدري لا السقي الحاصل بمعنى اسم المصدر ولا الماهية من حيث هي هي.

نعم هذا كلّه في الطلب، وأمّا هيئة الأمر فقد يقال بأنّ متعلّقها إنّما هو نفس الطبيعة لا وجودها، لأنّ نفس الهيئة متضمّنة لمعنى الوجود، أي أنّها بنفسها بمعنى طلب الوجود، ومع ذلك لا معنى لأن يكون الوجود جزءً لمتعلّقها، أي جزءً لمادّة الأمر.

وبعبارة اخرى: إنّ الوجود جزء للهيئة لا المادّة والمتعلّق.

ولكن الإنصاف أنّ هيئة الأمر أيضاً وضعت لطلب الوجود لأنّها عبارة عن البعث إلى الفعل، ويكون بمنزلة البعث التكويني، فكما أنّ البعث التكويني يتعلّق بإيجاد المطلوب فكذلك انوار الأصول، ج 1، ص: 467

البعث التشريعي، أي مفاد هيئة «افعل».

الأمر الثاني: أنّ المراد من الوجود في ما نحن فيه إنّما هو الوجود السعي الساري في جميع الأفراد لا وجود خاصّ من قبيل الجزئي الحقيقي، بل يكون حينئذٍ من قبيل الجزئي الإضافي وشبيهاً للكلّي في باب المفاهيم بحيث ينطبق على كثيرين.

الأمر الثالث: قال المحقّق العراقي رحمه الله: «إنّ الذي يقتضيه التحقيق هو تعلّق الأوامر والطلب بنفس الطبيعة لكن بما هي مرآة للخارج وملحوظة بحسب

اللحاظ التصوّري عين الخارج لا بالوجود الخارجي كما هو الشأن في سائر الكيفيات النفسيّة من المحبّة والاشتياق بل العلم والظنّ ونحوهما، كما يشهد لذلك ملاحظة الجاهل المركّب الذي يعتقد بوجود شي ء بالقطع المخالف للواقع، فيطلبه ويريده أو يخبر بوجوده وتحقّقه في الخارج، إذ لولا ما ذكرنا من تعلّق الصفات المزبورة بالعناوين والصور الذهنيّة بما هي ملحوظة خارجيّة، يلزم خلوّ الصفات المزبورة عن المتعلّق في مثل الغرض مع أنّ ذلك كما ترى (إلى أن قال): وعلى ذلك لا يبقى مجال لجعل المتعلّق للطلب في الأوامر عبارة عن الوجود أو صرف الإيجاد» «1».

أقول: إنّا نقبل تعلّق الأوامر بالطبائع بما هي مرآة للخارج لكنّه بنفسه دليل على أنّ حقيقة المطلوب هو الوجود الخارجي الذي لا شكّ في أنّه منبع كلّ أثر، وأنّ الأوامر وإن تعلّقت ابتداءً وفي بدو النظر بالوجود الذهني ولكنّها لا تستقرّ عليه بل تعبر منه إلى الإيجاد في الخارج فما تتعلّق به الأوامر حقيقة إنّما هو الإيجاد في الخارج، ولكن من طريق تعلّقها بعناوين تشير إلى الخارج وتعبّر عنه ولا يقاس الأمر على العلم والظنّ.

الفصل الرابع عشر إذا نسخ الوجوب فهل يبقى الجواز أو لا؟

ويمكن أن نعبّر عن عنوان البحث بأنّه إذا نسخ الوجوب فهل يبقى الجواز على حدّ الاستحباب، أو لا؟

واعلم أنّه لم يذكر في كلمات القوم مثالًا من الأمثلة الفقهيّة للمقام ولكن يمكن التمثيل له بقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَايَفْقَهُونَ» «1»

حيث يمكن أن يقال بأنّه يدلّ على وجوب الجهاد وإن كان المسلمون من حيث العدد عُشر عدد الكفّار ولكنّه نسخ بقوله تعالى بعده: «الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ

فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» «2»

فإنّه يدلّ على تخفيفه تعالى عن المسلمين ورفع وجوب الجهاد إلّافيما إذا كان عدد المسلمين نصف عدد الكفّار على الأقلّ، فيبحث حينئذٍ في أنّه هل يبقى جواز الجهاد أو استحبابه فيما إذا كان عدد المسلمين عُشر عدد الكافرين أو لا؟

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ المعروف بين المحقّقين عدم بقاء حكم الجواز فضلًا عن الاستحباب، وهو الصحيح في المسألة، وذلك لأنّ بقاء الجواز إمّا يستفاد من دليل الناسخ أو من دليل المنسوخ أو من دليل آخر خارج عنهما، أمّا الدليل الناسخ فلا إشكال في عدم دلالته عليه حيث إنّه دالّ على مجرّد نسخ الحكم فقط لا أكثر وهذا واضح، وبعبارة اخرى: أنّ لسانه لسان الرفع لا الوضع والإثبات.

انوار الأصول، ج 1، ص: 470

وأمّا دليل المنسوخ فقد يقال بدلالته على بقاء الجواز ببيان أنّ الوجوب الذي يكون مدلولًا له- مركّب من أمرين: طلب الفعل والمنع من الترك، والمنفي بدليل الناسخ إنّما هو الجزء الثاني أي المنع من الترك، وأمّا الجزء الأوّل وهو طلب الفعل واستحبابه فهو باقٍ على حاله.

ولكن اجيب عنه: بأنّ الوجوب ليس أمراً مركّباً بل أنّ حقيقته أمر بسيط، والتعبير بتركيبه من طلب الفعل والمنع عن الترك تعبير تسامحي، ولو سلّمنا كونه مركّباً منهما إلّاأنّ أوّلهما بمنزلة الجنس وثانيهما بمنزلة الفصل، وقد قرّر في محلّه أنّ الجنس والفصل من الأجزاء العقليّة الانتزاعيّة لا الحقيقية الخارجيّة حيث إنّ الجنس عبارة عن ماهية مبهمة لا محصّلة وإنّما يحصّل في الخارج بالفصل، ومن الواضح أنّه لا يبقى بزوال الفصل حينئذٍ تحصّل للجنس في الخارج.

وأمّا الدليل من الخارج فلا يتصوّر

في البين دليل إلّاأصالة الاستصحاب، أي استصحاب كلّي الجواز، وقد اجيب عنه أيضاً بأنّ الاستصحاب في ما نحن فيه يكون من قبيل القسم الثالث من استصحاب الكلّي (نظير ما إذا كان كلّي الإنسان موجوداً في الدار مثلًا ضمن وجود زيد وبعد خروجه عن الدار شككنا في بقاء كلّي الإنسان بدخول عمرو) وقد ثبت في محلّه عدم حجّيته.

نعم، يمكن أن يقال أنّه قد استثنى من القسم الثالث صورة ما إذا كان الفرد الزائل والفرد المحتمل وجوده من مراحل شي ء واحد في نظر العرف كالسواد الشديد والسواد الخفيف، حيث إنّهما وإن كانا متباينين بالدقّة العقليّة إلّاأنّهما عند العرف يعدّان من المراحل الوجوديّة لشي ء واحد، فيستصحب كلّي السواد إذا علمنا بزوال الفرد الشديد واحتملنا بقاء الفرد الخفيف، وما نحن فيه من هذا القبيل، لأنّ الوجوب والاستحباب (أو الجواز) من المراحل الوجوديّة لحكم واحد عند العرف، وهذا لا ينافي بساطة معنى الوجوب كما لا يخفى.

ولكن اجيب عنه أيضاً بأنّه خلاف ما نجده بوجداننا العرفي حيث إنّ الأحكام الخمسة متباينات عند العرف، والميزان في باب الاستصحاب والحكم بتعدّد المتيقّن والمشكوك أو اتّحادهما إنّما هو العرف.

بقي هنا أمران:

الأمر الأوّل: ربّما يقاس ما نحن فيه بما ثبت في محلّه من أنّه إذا دلّت رواية على وجوب انوار الأصول، ج 1، ص: 471

شي ء ورواية اخرى على جواز تركه كان مقتضى الجمع العرفي بينهما رفع اليد من ظهور الأولى في الوجوب وحملها على الاستحباب، فليكن المقام أيضاً من هذا القبيل، فيحمل دليل المنسوخ على الاستحباب.

ولكنّه قياس مع الفارق، حيث إنّ الكلام هناك أنّ الدليل الدالّ على جواز الترك يكون قرينة عرفيّة على كون المراد من الدليل الأوّل من أوّل الأمر هو الاستحباب مع أنّ المدّعى

في المقام كون الحكم من أوّل الأمر إلى زمان ورود دليل الناسخ هو الوجوب لا غير.

الأمر الثاني: قال بعض الأعلام في المحاضرات: «إنّ دعوى بقاء الجنس بعد ارتفاع الفصل لو تمّت فإنّما تتمّ في المركّبات الحقيقيّة كالانسان والحيوان وما شاكلهما، وأمّا في البسائط الخارجيّة فلا تتمّ أصلًا ولا سيّما في الأحكام الشرعيّة التي هي امور اعتباريّة محضة وتكون من أبسط البسائط، ضرورة أنّ حقيقتها ليست إلّااعتبار الشارع ثبوت الفعل على ذمّة المكلّف أو محروميته عنه، ومن هنا قلنا أنّ الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة جميعاً منتزعة من اعتبار الشارع بحكم العقل وليس شي ء منها مجعولًا شرعياً، فالمجعول إنّما هو نفس ذلك الاعتبار، غاية الأمر أنّ نصب الشارع قرينة على الترخيص في الترك فينتزع العقل منه الاستحباب وإن لم ينصب قرينة عليه فينتزع منه الوجوب، وعلى ضوء هذا فلا يعقل القول بأنّ المرفوع بدليل الناسخ إنّما هو فصل الوجوب دون جنسه ضرورة أنّ الوجوب ليس مجعولًا شرعياً ليكون هو المرفوع بتمام ذاته أو بفصله» «1».

أقول: في كلامه رحمه الله مواقع للنظر:

أوّلًا: فلأنّ ما ذكره بالإضافة إلى حقيقة الأحكام الشرعيّة من «أنّ حقيقتها ليست إلّا اعتبار الشارع ثبوت الفعل على ذمّة المكلّف أو محروميته عنه» يستلزم عدم الفرق بين الأحكام التكليفية والوضعية مثل الديون، حيث إنّه لا إشكال في أنّ مثل هذا الحكم الوضعي جعل في الذمّة، فلو كان الحكم التكليفي أيضاً جعلًا للفعل مثلًا على الذمّة فما هو الفرق بين النوعين من الحكم؟

وإن شئت قلت: المتبادر من هيئة «افعل» في قوله «صلّ» مثلًا ومن هيئة «لا تفعل» في انوار الأصول، ج 1، ص: 472

قوله «لا تشرب الخمر» إنّما هو البعث إلى الصّلاة والزجر عن شرب الخمر، لا جعل

ثبوت الصّلاة في الذمّة أو جعل المحروميّة عن الشرب فإنّه مخالف لاتّفاق أرباب اللّغة والاصوليين من أنّ معنى الأمر طلب الفعل أو البعث إلى الفعل، وأنّ معنى النهي طلب الترك أو الزجر عن الفعل، فالتعبير بالدَين أو البقاء في الذمّة في بعض الكلمات (حيث يعبّر مثلًا أنّ الصّلاة باقية على ذمّتي أو إنّي مديون بها) بالنسبة إلى الأحكام التكليفية يكون من قبيل العناية والمجاز بلا إشكال.

ثانياً: ينتقض كلامه بالاباحة التي هي أيضاً من الأحكام الخمسة حيث إنّه لا معنى محصّل لجعل الجواز أو الإباحة على ذمّة المكلّف فيلزم التفكيك بينه وبين سائر الأحكام التكليفية مع أنّ جمعيها من سنخ واحد، فتأمّل.

ثالثاً: إنّ بيانه بالنسبة إلى الاستحباب والكراهة مستبطن لنوع من التناقض في الجعل، لأنّ الجعل على الذمّة لازمه كون المكلّف مديوناً للشارع، والدَين لا يجتمع مع الترخيص عند العرف والعقلاء كما في الديون الماليّة، فإن كان الإنسان مديوناً فلا يكون مرخّصاً وإن كان مرخّصاً فلا يكون مديوناً.

رابعاً: إنّ ما ذكره بالنسبة إلى الحرمة أيضاً لا يمكن الالتزام به لأنّ المحروميّة أمر عدمي لا يقبل الجعل والاعتبار، إلّاأن يراد منه جعل الترك والكفّ، وهو وإن كان موافقاً لما ذهب إليه القدماء من الاصوليين ولكنّه خلاف التحقيق عند المحقّقين المتأخّرين حيث ذهبوا إلى أنّ النهي عبارة عن الزجر عن الفعل لا طلب الترك أو الكفّ.

خامساً: سلّمنا ما ذكره بالنسبة إلى حقيقة الحكم ولكنّه لا ينافي تصوير الجنس والفصل هنا ودعوى بقاء الجنس بعد ارتفاع الفصل، لأنّ الوجوب والاستحباب بناءً على هذا المبنى مشتركان في كون كليهما مجعولًا على ذمّة المكلّف إلّاأنّ الشارع نصب القرينة على الترخيص في أحدهما دون الآخر، فلهما قدر مشترك، وهو أصل اعتبار الشارع

ثبوت الفعل على الذمّة (فيكون بمنزلة الجنس لهما) ويكون لكلّ واحد منهما أمر يختصّ به، وهو عدم الترخيص في الترك في الوجوب (فيكون بمنزلة الفصل للوجوب) والترخيص في الترك في الاستحباب (فيكون بمنزلة الفصل للاستحباب) وحينئذٍ يمكن أن يقال: إنّ عدم الترخيص يرفع بدليل الناسخ، وأمّا أصل الاعتبار فيبقى على حاله.

انوار الأصول، ج 1، ص: 473

وإن شئت قلت: بين الحكمين أي الوجوب والاستحباب ما به الاشتراك وما به الامتياز (أو بين منشأ انتزاعهما) وهما وإن لم يكونا في المقام من الجنس والفصل ولكنّهما من قبيلهما، فيمكن ارتفاع أحدهما وبقاء الآخر لأنّ كليهما مجعولان من قبل الشارع.

إذا عرفت ذلك وانتهى الكلام إلى حقيقة الأحكام الشرعيّة وناقشنا في المبنى المزبور فينبغي البحث في أنّ حقيقتها ماذا؟

فنقول: أمّا الوجوب والحرمة فحقيقتهما إتّضحت ضمن الأبحاث السابقة، فإنّ الوجوب عبارة عن البعث الشديد إلى الفعل، والحرمة هي الزجر الشديد عن الفعل، وأمّا الاستحباب فحقيقته أيضاً هو البعث إلى الفعل ولكن مرتبة خفيفة من البعث، كما أنّ الكراهة أيضاً حقيقتها هي الزجر عن الفعل ولكن زجراً خفيفاً و هذا كلّه ما يوافقه الارتكاز العرفي مع قطع النظر عن بيان الشرع.

وأمّا الإباحة فهي إرسال تشريعي وترخيص إنشائي اعتباري من جانب الشارع نظير الترخيص التكويني فيما إذا فتحت باب دارك مثلًا ورفعت الموانع عن الدخول فيها، فكما أنّ الإباحة التكوينيّة عبارة عن رفع المانع وإطلاق السراح والترخيص كذلك الإباحة الإنشائيّة التشريعيّة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 475

الفصل الخامس عشر الواجب التخييري
اشارة

لا إشكال في أصل وجود الواجب التخييري في القوانين الشرعيّة والعقلائيّة نظير التخيير في باب الكفّارات بين اطعام الستّين مسكيناً أو كسوتهم أو تحرير الرقبة، وفي باب الديّات بين الامور الستّة المعروفة وفي باب الصّلاة بين الحمد والتسبيحات الأربعة

في الركعة الثالثة والرابعة، وفي القوانين العقلائيّة نظير التخيير بين المجازاة بالمال والمجازاة بالحبس، وعند الموالي العرفيّة نظير قول المولى لعبده: «إشتر من هذا السوق أو من ذاك».

إنّما الإشكال في بيان حقيقته وتوجيه ماهيّته، وقد توجّهت من جانب المحقّقين عدّة إشكالات وعويصات لا بدّ من حلّها.

أحدها: أنّ الواجب التخييري إن كان واجباً من الواجبات فكيف يجوز تركه؟

ثانيهما: أنّه كيف يمكن تعلّق الإرادة التشريعيّة بعنوان أحدهما اللامعيّن مع عدم إمكان تعلّق الإرادة التكوينيّة به؟

ثالثها: قضيّة تعدّد العقاب ووحدته إذا ترك كلّ واحد من الأطراف، أو تعدّد الثواب ووحدته إذا أتى بجميع الأطراف.

فما هو التصوير الصحيح عن الواجب التخييري بحيث يمكن ارتفاع هذه الشبهات والتخلّص عنها؟

فنقول: قد ذكر في مقام تصويره وجوه عديدة:

منها: أن يكون الواجب حقيقة هو الفرد المردّد، وهذا هو مختار المحقّق النائيني رحمه الله.

ومنها: أن يكون المأمور به هو الجامع الانتزاعي، وهو عنوان أحدهما الكلّي، وهذا ما اختاره في المحاضرات وهو الأقوى.

انوار الأصول، ج 1، ص: 476

ومنها: أن يكون المأمور به جامعاً حقيقيّاً بين الأفراد، أي كان للافراد قدراً مشتركاً واقعيّاً يراه الشارع فقط فيأمر به ولا يراه المكلّف، فهو نظير الحرارة التي تكون مشتركاً خارجاً وحقيقة بين الشمس والنار، وقدراً جامعاً حقيقيّاً بينهما، وهذا ممّا لم نعرف له قائلًا مشخّصاً.

ومنها: أن يكون كلّ واحد من الطرفين (أو الأطراف) واجباً مشروطاً بعدم إتيان الآخر، وهذا ما يستفاد من بعض كلمات المحقّق الإصفهاني رحمه الله.

ومنها: أن يكون لكلّ واحد من الأطراف نوع خاصّ من الوجوب إجمالًا يمتاز عن الوجوب في الواجب التعييني، وهذا هو ظاهر كلام السيّد اليزدي رحمه الله في حاشيته على المكاسب في مباحث البيع الفاسد.

ومنها: أن يكون الواجب طرفاً معيّناً من الأطراف عند

اللَّه تبارك وتعالى، وهو نفس ما يختاره المكلّف في مقام الامتثال، وحيث إنّ اللَّه تعالى كان عالماً بمختار المكلّف أوجب عليه خصوص ذلك الفرد، وقد نسب هذا القول إلى الأشاعرة، وقيل أنّ كلًا من الأشاعرة والمعتزلة نسب هذا الوجه إلى صاحبه لسخافته.

ومنها: التفصيل الذي أفاده المحقّق الخراساني في الكفاية بين ما إذا كان هناك غرض واحد قائم بكلا الطرفين (أو بكلّ واحد من الأطراف) فيكون الواجب هو القدر الجامع الحقيقي بينهما ويكون التخيير عقليّاً، وبين ما إذا كان في البين غرضان يقوم بكلّ واحد منهما واحد من الطرفين، فيكون الواجب حينئذٍ كلّ واحد من الطرفين (أو الأطراف) على نحو من الوجوب ويكون التخيير حينئذٍ شرعيّاً.

إذا عرفت الأقوال المختلفة والوجوه العديدة في المسألة فنقول: لا بدّ من طرح البحث في مقامين: مقام الثبوت ومقام الإثبات (وقد وقع الخلط بينهما في بيان المحاضرات).

أمّا مقام الثبوت: فالأولى في حلّ الإشكال في هذا المقام هو الرجوع إلى الواجبات التخييريّة الموجودة عند العرف وتحليل ما يوجد في الأشياء الخارجيّة من المصالح.

فنقول: أنّ المصالح الموجودة في الأشياء تتصوّر على صور أربعة: فتارةً: تقوم المصلحة بشي ء لا يقوم مقامه شي ء آخر كما إذا كان الوصول إلى مقصد متوقّفاً على طيّ طريق خاصّ ولم يوجد طريق آخر إليه، أو انحصر علاج مرض بدواء خاصّ.

انوار الأصول، ج 1، ص: 477

واخرى: تقوم مصلحة واحدة بأمرين مختلفين، فيكون مثلًا لمرض خاصّ طريقان من العلاج، ويقوم أحدهما مقام الآخر كما أنّه يتّفق كثيراً مّا في الخارج عند العرف والعقلاء فيقال:

هذا مشابه لذاك.

وثالثة: توجد هناك مصلحتان مختلفتان يقوم كلّ واحدة منهما بطريق يخصّه، فيمكن استيفاء مصلحة كلّ منهما بطريقه الخاصّ به، فلا يقوم أحدهما مقام الآخر بل أحدهما يوجب

اعدام أثر الآخر كداوئين مختلفين يؤثّران في علاج مرضين مختلفين لا يمكن الجمع بينهما.

ورابعة: توجد هناك مصلحتان متلائمان لا تباين ولا تضادّ بينهما في التأثير بل أحدهما يقوم مقام الآخر، ولكن لا يقدر المكلّف على الجمع بينهما في زمان واحد كإنقاذ الغريقين.

لا إشكال في أنّ الواجب في الصورة الاولى واجب تعييني وهو واضح، كما لا إشكال في أنّ الواجب في الصورة الثانيّة إنّما هو القدر الجامع الحقيقي بين الأمرين، أي الواجب واحد ولكن له مصداقان يوجب تخيير الإنسان عقلًا.

وأمّا الصورة الثالثة والرابعة (اللتان يكون التضادّ في أحدهما من جانب ذاتي الشيئين وفي الآخر من جانب المكلّف وعدم قدرته على الجمع بينهما في مقام الامتثال) فيكون التخيير فيهما مولويّاً ويكون متعلّق الطلب عنوان أحدهما، أي الجامع الانتزاعي، لأنّ المفروض أنّه ليس في البين جامع حقيقي حتّى يكون هو متعلّق الغرض والطلب، بل يكون الغرض قائماً بأحدهما، فليكن الطلب أيضاً متعلّقاً بعنوان أحدهما الذي يكون عنواناً مشيراً إلى أحد الفردين في الخارج- وهذا هو الوجه الثاني أو القول الثاني من الوجوه المذكورة آنفاً.

أمّا الوجه الأوّل: وهو أن يكون الواجب الفرد المردّد.

ففيه: أنّ الفرد المردّد لا يكون كلّياً يمكن انطباقه على كلّ واحد من الفردين بل إنّه جزئي حقيقي يتصوّر فيما إذا تعلّق الحكم بفرد معيّن خاصّ ولكنّه تردّد بين الفردين بحصول جهل أو نسيان، وأمّا في المقام فلم يتعلّق الطلب بفرد معيّن، بل المتعلّق فيه كلّي «أحدهما» الذي ينطبق على كلّ من الطرفين على حدّ سواء.

إن قلت: إذا علم بنجاسة أحد الإنائين، ثمّ عرض له النسيان ثمّ انكشف له كون كلّ واحد منهما نجساً في الواقع، فلا إشكال حينئذٍ في تعلّق علم الإنسان بالفرد المردّد مع عدم

تعيّنه في الخارج، فلا منافاة بين أن يكون متعلّق العلم الإجمالي الفرد المردّد وبين عدم تعيّنه في الخارج،

انوار الأصول، ج 1، ص: 478

وإذا أمكن هذا في الصفات الحقيقيّة كالنجاسة والطهارة أمكن في الامور الاعتباريّة بطريق أولى، فيمكن أن يتعلّق التكليف بالفرد المردّد بين الشيئين مع عدم تعيّنه في الخارج «1».

قلنا: إنّ متعلّق العلم الإجمالي في المثال المزبور أيضاً متعيّن في الواقع وفي علم اللَّه تعالى، لأنّ ما علم المكلّف بنجاسته كان إناءً خاصّاً معيّناً وحصل العلم فيه بطريق خاصّ كالرؤية بالبصر مثلًا، ولا إشكال في أنّ متعلّق هذا الطريق- أي المرئيّ بالبصر- شي ء معيّن خاصّ، فقياس ما نحن فيه بمثل هذه الموارد قياس مع الفارق.

هذا- مضافاً إلى أنّ قوام الفرديّة بالتعيين والتشخّص، أي يكون الفرد جزئيّاً حقيقيّاً وإلّا لا يكون فرداً، وهذا لا ربط له بالواجب التخييري الذي يكون المتعلّق فيه كلّياً وهو عنوان «أحدهما».

وأمّا الوجه الثالث: وهو أن يكون الواجب هو القدر الجامع الحقيقي.

ففيه: أنّ لازمه إنكار التخييري الشرعي وإرجاع جميع الواجبات التخييريّة إلى التخيير العقلي، لأنّ لازم كون الواجب هو القدر الجامع الحقيقي في جميع الموارد وجود جامع حقيقي فيها، ومع وجوده يكون التخيير بين الأطراف هو التخيير بين مصاديق كلّي واحد كالصّلاة بالنسبة إلى أفرادها الكثيرة من حيث الزمان أو المكان، ولا إشكال في أنّ تخيير المكلّف بين مصاديق الصّلاة، أي تخييره بين أن يأتي بها في هذا المكان أو ذاك المكان، أو تخييره بين أن يأتي بها في هذه الساعة أو تلك الساعة، تخيير عقلي، مع أنّ محلّ البحث إنّما هو الواجبات التخييريّة الشرعيّة أو المولويّة الموجودة في القوانين العقلائيّة أو في لسان الشرع.

وأمّا الوجه الرابع: وهو أن يكون وجوب كلّ واحد

من الطرفين مشروطاً بترك الآخر- ففيه أنّه يستلزم تعدّد العقاب في صورة ترك كلا الطرفين، لأنّ ترك كلّ واحد منهما يوجب تحقّق شرط وجوب الآخر، فيصير وجوب كلّ منهما فعلياً، ويكون لازم ترك كليهما ترك الواجبين وتحقّق معصيتين، ولازمه تعدّد العقاب، مع أنّه لا نظنّ أن يلتزم به أحد.

وأمّا القول الخامس: وهو أن يكون الواجب كلّا من الطرفين ولكن بنوع من الوجوب غير الوجوب التعييني، وهو بمعنى جواز تركه إلى بدله.

انوار الأصول، ج 1، ص: 479

ففيه: أنّ الوجدان حاكم على أنّ للوجوب نحواً واحداً لا أنحاء مختلفة لأنّه بمعنى البعث تشريعاً كالبعث التكويني، ولا إشكال في أنّ البعث التكويني لا يتصوّر له أنحاء مختلفة، إنّما الفرق في المتعلّق، فإنّ المتعلّق في الواجب التعييني هو أحدهما المعيّن وفي الواجب التخييري أحدهما اللامعيّن.

وأمّا القول السادس: وهو أن يكون الواجب ما يختاره المكلّف وما يكون معيّناً عند اللَّه تعالى- ففيه أنّه أسوأ حالًا من سائر الأقوال، ولذلك قد تبرّأ منه كلّ من الأشاعرة والمعتزلة ونسبه إلى صاحبه، وذلك لأنّ مقام الامتثال واختيار المكلّف وانبعاثه متأخّر رتبة عن مقام البعث والإيجاب، فكيف يتقدّم عليه ويكون جزءً لموضوعه؟

هذا- مضافاً إلى أنّ لازمه كون إرادة اللَّه تابعة لإرادة المكلّف واختياره- تعالى اللَّه عن ذلك علوّاً كبيراً.

وأمّا القول السابع: وهو تفصيل المحقّق الخراساني رحمه الله فقد ظهر الجواب عنه ممّا مرّ في الجواب عن القول الخامس، لأنّ لازمه أيضاً أن يكون للوجوب أنحاء مختلفة، حيث إنّ الواجب عنده- فيما إذا كان لكلّ واحد من الطرفين غرض على حدة لا يقوم أحدهما مقام الآخر- هو كلّ واحد من الطرفين بنحو من الوجوب، ولازمه أن يكون للواجب التخييري نحو من الوجوب غير الوجوب التعييني.

هذا- مضافاً

إلى وقوع الخلط في كلامه رحمه الله بين التخيير العقلي والتخيير الشرعي، فإنّ محلّ الكلام في المقام إنّما هو تبيين حقيقة التخيير الشرعي، أي ما إذا كان متعلّق الخطاب أحد الشيئين أو أحد الأشياء كما صرّح به في صدر كلامه، فجعل المقسم في تقسيمه وتفصيله ما «إذا تعلّق الأمر بأحد الشيئين أو الأشياء» مع أن متعلّق الأمر في التخيير العقلي شي ء واحد، وهو القدر الجامع الحقيقي بين الأطراف.

هذا كلّه بالنسبة إلى مقام الثبوت.

وأمّا مقام الإثبات: فلا إشكال أيضاً في أنّ المتعلّق إنّما هو عنوان «أحدهما» أو «أحدها» في موارد العطف بكلمة «أو» لأنّ المتبادر عرفاً من هذه الكلمة أنّ الخصوصيّات الفرديّة لا دخل لها في الحكم وأنّ الحكم تعلّق بأحد الشيئين أو أحد الأشياء، نظير ما ورد في قوله تعالى في باب الكفّارات: «فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ

انوار الأصول، ج 1، ص: 480

كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ» «1»

، كما أنّ المتبادر منها أنّ الأغراض متعدّدة لأنّه لو كان الغرض واحداً وهو ما يقوم بالقدر الجامع الحقيقي كان الأولى أن يتعلّق الخطاب به من دون العطف بكلمة «أو»، فإنّ الظاهر المتبادر من قولك: «اجعل زيداً أو عمراً صديقاً لنفسك» أنّ الخصوصيّات الفرديّة لزيد وعمرو تكون دخيلة في الغرض، وإلّا كان الأولى أن تقول:

«اجعل الإنسان صديقاً لك» وبالجملة إنّ ظاهر العطف بكلمة «أو» عدم كون التخيير عقليّاً إلّا إذا قامت قرينة على الخلاف، وكذا كلّ ما يؤدّي معنى هذه الكلمة.

لا يقال: «أنّ الكلّي المنتزع كعنوان أحدهما غير ملحوظ في الأوامر العرفيّة ولا يلتفت إليه» «2» لأنّا نقول: فرق بين عمل الانتزاع الذهنبي في وعاء الذهن وتحليل حقيقة الانتزاع والمفاهيم الانتزاعيّة الذهنيّة، والإنصاف أنّ ما

يكون غير ملحوظ عند العرف إنّما هو الثاني، وأمّا الأوّل فلا إشكال في أنّ عمل الانتزاع يتحقّق في ذهن العرف كثيراً من غير إلتفات إلى حقيقته كما أنّه كذلك في كثير من القضايا المنطقية كما لا يخفى.

بقي هنا شي ء:

جواز التخيير بين الأقلّ والأكثر

لا إشكال في وقوع التخيير بين الأقلّ والأكثر في لسان العرف والشرع نظير التخيير بين الواحد والثلاث أو بين الواحد والأكثر في ذكر الركوع والسجود والتسبيحات الأربعة ونظير التخيير بين الثلاثين دلواً والأربعين دلواً مثلًا في بعض منزوعات البئر، والتخيير بين القصر والإتمام في الأماكن الأربعة المعروفة (ويمكن أن يناقش في الأخير بأنّه من قبيل المتباينين لاعتبار اندراج الأقلّ بتمام أجزائه وخصوصّياته ضمن الأكثر بينما صلاة القصر ليست كذلك لأنّها مندرجة في الإتمام مجرّدة عن التسليم) هذا في لسان الشرع، وأمثلته في العرف أيضاً كثيرة.

إنّما الإشكال فيما ذكر لعدم إمكانه عقلًا من دعوى أنّه مع تحقّق الأقلّ في الخارج وحصوله انوار الأصول، ج 1، ص: 481

يحصل الغرض، ومعه يكون الأمر بالأكثر لغواً لا يمكن صدوره من الحكيم.

وقد أجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه الله، بأنّه يمكن أن يفرض أنّ المحصّل للغرض فيما إذا وجد الأكثر هو الأكثر لا الأقلّ الذي في ضمنه، أي كان لجميع أجزائه دخل في حصول الغرض، والمحصّل له فيما إذا وجد الأقلّ هو الأقلّ كذلك، أي كان كلّ منهما بحدّه محصّلًا للغرض، وعليه فلا محيص عن التخيير بينهما، إذ تخصيص الأقلّ بالوجوب حينئذٍ يكون بلا مخصّص.

وقد اجيب عنه: بأنّ هذا خارج عن مفروض الكلام وهو التخيير بين الأقلّ والأكثر، وذلك لأنّ ما فرضه وإن كان تخييراً بينهما صورة إلّاأنّه بحسب الواقع تخيير بين المتباينين، وذلك لفرض أنّ الماهية «بشرط لا» تباين الماهية «بشرط شي ء».

أقول:

الصحيح هو التفصيل بين ما إذا يحصل الأقلّ ضمن الأكثر دفعة واحدة كما إذا أردنا إلقاء الميّت الغريق (الذي لا يمكن إيصاله إلى ساحل البحر) إلى قعر الماء بشي ء ثقيل، فتخيّرنا عقلًا بين أن يكون وزن ذلك الشي ء الثقيل عشرين كيلو مثلًا أو أربعين كيلو، وبين ما إذا يحصل الأقلّ ضمن الأكثر تدريجاً كما في مثال الصّلاة، فإنّ إشكال اللغويّة المزبورة لا تتصوّر في القسم الأوّل لأنّ الغرض فيه لا يحصل بخصوص الأقلّ إذا اختار المكلّف الأكثر بل يكون المحصّل للغرض حينئذٍ تمام الأكثر (وفي المثال تمام الأربعين كيلو) فيكون التخيير بين الأقلّ والأكثر فيه بلا إشكال، نعم أنّها تتصوّر في القسم الثاني، ولا يمكن التفصّي عنها بما ذكره المحقّق الخراساني رحمه الله لنفس ما ذكرناه من الجواب.

هذا في التخيير العقلي، وكذلك في التخيير الشرعي، فلا إشكال فيه أيضاً فيما إذا أتى بالأكثر دفعةً كما إذا أمر المولى بإدخال ثلاثة رجال أو خمسة في الدار فأدخل العبد الخمسة دفعةً.

وبما ذكرنا يظهر أنّ التخيير بين الواحد والثلاث في مثل التسبيحات الأربعة ممّا لا يمكن المساعدة عليه، لأنّ الأقلّ يتحقّق ضمن الأكثر تدريجاً، فلابدّ أن يقال أنّ الواجب فيها هو الأقلّ، وأمّا الأكثر وهو التسبيح مرّة ثانيّة وثالثة فيحمل على الاستحباب.

وبما ذكرنا ظهر الجواب عن الشبهات التي طرحناها في أوّل البحث:

أمّا الاولى منها: وهي أنّ الوجوب ينافي جواز الترك- فجوابها أنّا لا نقول بوجوب كلّ من الطرفين، بل الواجب عندنا عنوان أحدهما، وهو لا يجوز تركه بكلا مصداقيه.

وأمّا الثانيّة منها: وهي أنّ الطلب التشريعي وزانه وزان الطلب التكويني فلا يمكن تعلّقه انوار الأصول، ج 1، ص: 482

بعنوان أحدهما اللّامعين، فالجواب عنها ما أفاده المحقّق النائيني في بعض كلماته

وإن كان مغايراً من بعض الجهات للمختار (كما مرّت الإشارة إليه في أوائل البحث تحت عنوان «لا يقال») وإليك نصّ كلامه: «أنّه يمكن تعلّق إرادة الآمر (الإرادة التشريعيّة) بأحد الشيئين وإن لم يمكن تعلّق إرادة الفاعل (الإرادة التكوينيّة) بذلك، ولا ملازمة بين الإرادتين على هذا الوجه، مثلًا لا إشكال في تعلّق إرادة الآمر بالكلّي مع أنّ إرادة الفاعل لا يعقل أن تتعلّق بالكلّي مجرّداً عن الخصوصيّة الفرديّة، والوجه في ذلك أنّ الإرادة الفاعلية إنّما تكون مستتبعة لحركة عضلاته ولا يمكن حركة العضلات نحو المبهم المردّد، وهذا بخلاف إرادة الآمر فإنّه لو كان كلّ من الشيئين أو الأشياء ممّا يقوم به غرضه الوجداني، فلابدّ أن تتعلّق إرادته بكلّ واحد، لا على وجه التعيين بحيث يوجب الجمع، فإنّ ذلك ينافي وحدة الغرض، بل على وجه البدليّة، ويكون الاختيار حينئذٍ بيد المكلّف في اختيار أيّهما شاء، ويتّضح ذلك بملاحظة الأوامر العرفيّة، فإنّ أمر المولى عبده بأحد الشيئين أو الأشياء بمكان من الإمكان» «1».

وأمّا الشبهة الثالثة: وهي قضيّة تعدّد العقاب فسيأتي الجواب عنها في البحث الآتي، وهو البحث عن الواجب الكفائي فانتظر.

انوار الأصول، ج 1، ص: 483

الفصل السادس عشر الواجب الكفائي

لا إشكال أيضاً في وجود الواجب الكفائي في العرف والشرع (كالواجب التخييري) ففي لسان الشرع نظير وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتجهيز الميّت، والمكاسب الضروريّة لحفظ النظام وتحصيل الفقه إلى حدّ الاجتهاد والجهاد في كثير من الموارد، والتصدّي لأمر القضاء والقيام بالامور الحسبيّة، وفي العرف نظير ما إذا أمر المولى عبده بقوله «ليفتح أحدكم الباب» ونظير ما وقع في قصّة أصحاب الكهف حيث ورد فيها «فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ» «1»

، وفي القوانين العقلائيّة نظير ما يوضع في إدارة الاطفاء لموظّفي

تلك الادارة حيث إنّ أمر إطفاء الحريق كثيراً مّا يتحقّق بجماعة معيّنة.

إذا عرفت هذا فاعلم: أنّ جميع الصور التي ذكرناها في بيان حقيقة الواجب التخييري غير واحدة منها تأتي هنا أيضاً، إلّاأنّ الترديد هناك كان في المكلّف به، وفي ما نحن فيه في المكلّف كما لا يخفى، وحينئذٍ يكون متعلّق الخطاب هنا بناءً على الوجه الأوّل الذي مرّ في الواجب التخييري- «الفرد المردّد من المكلّف»، وعلى الوجه الثاني عنوان «أحد المكلّفين» الذي يكون من العناوين الانتزاعيّة، وعلى الوجه الرابع «كلّ واحد من المكلّفين» مشروطاً بعدم مبادرة سائر المكلّفين إلى العمل، وعلى الوجه الخامس «كلّ واحد من المكلّفين» على نحو من الوجوب غير الوجوب العيني بحيث إذا قام أحدهم للعمل سقط الوجوب عن السائرين، وعلى الوجه السادس «المكلّف المعلوم عند اللَّه» وهو من بادر إلى الامتثال بالنسبة إلى غيره، فيأتي في المقام ستّة وجوه من الوجوه السبعة المذكورة هناك، والوجه الذي لا يتصوّر هنا هو

انوار الأصول، ج 1، ص: 484

الوجه الثالث منها وهو أن يتعلّق الخطاب بالقدر الجامع الحقيقي لعدم تصوّره بالنسبة إلى المكلّفين، فإنّ المكلّف يكون آحادهم لا الجامع الكلّي.

وكيف كان لا بدّ من طرح البحث هنا أيضاً في مقامين: مقام الثبوت ومقام الإثبات:

أمّا مقام الثبوت: فيأتي فيه مثل ما مرّ في الواجب التخييري، وهو أنّ المصالح التي تترتّب على الأشياء خارجاً على أنحاء مختلفة، فقسم منها لا يحصل إلّاباجتماع جميع الأيادي كحمل جسم ثقيل مثلًا من مكان إلى مكان آخر، وقسم منها تكون المصالح فيه متعدّدة يحصل كلّ واحدة منها بيد فرد واحد من الأفراد سواء كانت المصالح متّحدة في النوع أو مختلفة، وقسم ثالث منها تكون المصلحة فيه واحدة ويكفي في تحصيله قيام فرد

واحد كفتح الباب مثلًا، وهنا قسم رابع وإن قلّ مصداقه في الخارج، وهو ما إذا كانت المصلحة متعدّدة ولكن لا يمكن الجمع بينها، إمّا لعدم قدرة المكلّفين على الجمع وإن لم يكن بينها تباين في حدّ ذاتها كما إذا كان للمولى مشاوران، أحدهما مشاور لأمر الدين، والآخر مشاور لأمر الدنيا، ولكن قد ثبت له بالتجربة وقوع المنازعة بينهما وعدم قدرتها على ايفاء المصلحتين معاً، أو لكون المصلحتين مثلًا متباينين في حدّ ذاتهما.

هذه أقسام أربعة للأشياء من حيث المصلحة الموجودة فيها.

لا إشكال في أنّ الوجوب يكون على نهج العام المجموعي بناءً على القسم الأوّل، وعلى نهج العام الافرادي بناءً على القسم الثاني مع كونه وجوباً عينياً في كليهما كما لا يخفى، كما لا إشكال في كون الوجوب في القسم الثالث والقسم الرابع كفائيّاً وإنّ متعلّقه إنّما هو عنوان أحد المكلّفين بما أنّه مشير إلى الخارج.

وبعبارة اخرى: يكون متعلّق الوجوب فيهما صدور الفعل من صرف وجود المكلّف كما في الواجب التخييري (حيث إنّ متعلّق الوجوب فيه أيضاً كان صرف وجود الطبيعة المأمور بها) بينما كان المتعلّق في القسمين الأوّلين صدور الفعل من مطلق وجود المكلّف، ولا يمكن أن يقال:

إنّ متعلّق الوجوب فيهما (أي في الواجب الكفائي في القسمين الأخيرين) جميع المكلّفين ولكن على نحو من الوجوب غير الوجوب العيني، لأنّ الوجوب عبارة عن البعث إنشاءً كالبعث التكويني ويكون له سنخ واحد، ولا يعقل أن يكون له أنحاء مختلفة كما مرّ في الواجب التخييري، وهكذا بالنسبة إلى سائر الوجوه المتصوّرة في المسألة. هذا كلّه بالنسبة إلى مقام الثبوت.

انوار الأصول، ج 1، ص: 485

وأمّا مقام الإثبات: فالإنصاف أنّ القرائن الموجودة في الواجبات الكفائيّة الواردة في لسان الشارع ومناسبات الحكم والموضوع

فيها ترشدنا إلى أنّ المكلّف فيها ليس جميع المكلّفين بل إنّما هو عنوان أحد المكلّفين أو عنوان بعض المكلّفين أو طائفة منهم نظير ما ورد في قوله تعالى: «السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا»، وقوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ» فإنّ مقتضى مناسبة الحكم والموضوع أنّ متعلّق خطاب «اقطعوا» و «اجلدوا» بعض المكلّفين لا جميعهم، كما أنّ القرينة الخارجيّة تدلّنا على أنّ متعلّق خطاب «كونوا» في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ» إنّما هو بعض المكلّفين لأنّا نعلم من الخارج بكفاية شاهدين من المؤمنين لإقامة الشهادة، كما أنّه مقتضى كلمة «أو» أو كلمة «أحدكما» أو كلمة «أحدهم» في بعض الخطابات، كما إذا قال المولى لعبده «أنت أو أخوك يفعل ذلك» ومقتضى كلمة «طائفة» في مثل آية النفر وقوله تعالى:

«وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ» «1»

وقوله تعالى: «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ» «2»

وهكذا قوله تعالى: «فَلَوْلَا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ» «3».

وبالجملة: إنّ مثل كلمة «طائفة» أو «امّة» بضمّ كلمة «من» التبعيضيّة (طائفة منكم) قرينة حتمية على أنّ المتعلّق في الواجبات الكفاية ليس جميع المكلّفين بل المتعلّق إنّما هو عنوان بعض المكلّفين المشير إلى الخارج.

ويظهر ممّا ذكرنا كلّه ضعف سائر الوجوه أو الأقوال لا سيّما مع ملاحظة ما مرّ في الواجب التخييري.

بقي هنا امور

الأمر الأوّل: مسألة تعدّد العقاب ووحدته، فهل يعاقب جميع المكلّفين فيما إذا خالف الجميع، أو يعاقب بعضهم فقط؟

انوار الأصول، ج 1، ص: 486

الصحيح أنّ العقاب واحد، ولكنّه يوزّع على جميع المكلّفين الذين حضروا الواجب، أمّا الوجه في وحدة العقاب فلأنّ غرض المولى يكون واحداً أي

المصلحة التي تترتّب على العمل واحدة، وأمّا وجه توزيعه على جميع المكلّفين فلأنّ متعلّق الخطاب كان عنوان بعض المكلّفين، ولا إشكال في أنّ كلّ واحد من المكلّفين مصداق لهذا العنوان.

الأمر الثاني: هل يجوز قيام جميع المكلّفين بإتيان المأمور به في الواجب الكفائي مع قصد الورود أو لا؟

وللمسألة صور مختلفة: ففي بعض الصور لا إشكال في عدم إمكان إتيان الجميع للعمل لا بالاشتراك ولا بالاستقلال لعدم قابلية الفعل لذلك ذاتاً كقطع يد واحدة في باب السرقة، وفي بعض آخر يكون المحلّ قابلًا لإتيان الجميع في حدّ ذاته ولكن لا يجوز أيضاً لأنّ المولى أخذ متعلّق خطابه بشرط لا كما في إجراء الحدّ بمائة جلدة، فلا يجوز لكلّ واحد من المؤمنين إجراء الحدّ الكامل على الزاني مثلًا، وفي صورة ثالثة يكون المحلّ أيضاً قابلًا ويكون إتيان كلّ واحد من المكلّفين مطلوباً للمولى كطلب العلم إلى حدّ الاجتهاد فيما إذا لم يكن مخلًا للنظام ولكن مع ذلك لا يجوز إتيان الجميع بقصد الوجوب والورود بل يجوز بقصد المطلوبيّة أعمّ من الوجوب والاستحباب، وهناك صورة رابعة، وهي نفس الصورة الثالثة إلّاأنّه لا دليل على كون إتيان الجميع مطلوباً، ولا على أخذ المتعلّق بشرط لا، كتجهيز الميّت والصّلاة عليه، ففي هذه الصورة يفصّل بين ما إذا أتى الجميع بالمأمور به معاً ودفعةً، فيكون كلّ واحد ممتثلًا للتكليف لصدق صرف وجود المكلّف على جميعهم حينئذٍ، وما إذا أتوا به تدريجاً فيكون إتيان المبادر بالامتثال امتثالًا للتكليف بلا إشكال، ويقع إتيان الباقين لغواً لأنّ بإتيان المبادر تحقّق صرف وجود المتعلّق وبتحقّقه يسقط الأمر.

ومن هنا يظهر الحكم في الواجب التخييري فيما إذا أراد المكلّف إتيان جميع الأطراف فيأتي فيه جميع الصور الأربعة، نعم

فيما إذا أتى المكلّف بجميع الأطراف دفعةً لا إشكال أيضاً في كون كلّ واحد منها مصداقاً للمأمور به ولكن مع ذلك يترتّب عليها ثواب عمل واحد لأنّ المأمور به والمطلوب كان واحداً، وتعدّد الثواب تابع لتعدّد الغرض والمطلوب لا لتعدّد ما يتحقّق به الغرض.

الأمر الثالث: قد يصير الواجب الكفائي عينياً كما أنّ الواجب التخييري أيضاً قد يصير

انوار الأصول، ج 1، ص: 487

تعيينياً، وهو فيما إذا لم يقم للواجب الكفائي قدر الكفاية كما إذا لم يقم لتحصيل العلم من به الكفاية، وفي الواجب التخييري ما إذا لم يمكن إتيان أحد الطرفين كتحرير الرقبة في زماننا هذا مثلًا، فيصير الطرف الآخر واجباً تعيينياً كما لا يخفى.

الأمر الرابع: كما أنّ التخيير بين الأقلّ والأكثر في الواجب التخييري لم يكن معقولًا فيما إذا أتى بالأكثر تدريجاً كذلك لا يعقل في الواجب الكفائي، نظير ما إذا خاطب المولى عبيده بقوله:

«يجب أن يفعل العمل الفلاني عشرة منكم أو عشرون» فإن أتى العشرون بالعمل دفعةً فلا إشكال في أنّ جميعهم ممتثلون للتكليف وإن أتوا به تدريجاً فبعد إتيان العشرة يتحقّق المطلوب، ويكون إتيان الأكثر تحصيلًا للحاصل كما مرّ بيانه في الواجب التخييري بعينه.

انوار الأصول، ج 1، ص: 489

الفصل السابع عشر الواجب الموقّت

اشارة

يتصوّر الواجب من حيث الزمان على ثلاث صور:

الصورة الاولى: أن لا يكون له أي تقيّد بالزمان ولا يكون للزمان أي دخل في تحقّق مصلحته وإن كان تحقّقه في الخارج محتاجاً إلى الزمان (من باب أنّ الإنسان بما أنّ وجوده زماني تكون أفعاله أيضاً زمانيّة) نظير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونظير أداء الدَين فإنّ مقوّم المصلحة، فيهما إنّما هو نفس طبيعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونفس طبيعة أداء الدَين بحيث لو أمكن انفكاكهما عن الزمان

لما وقع خلل في تحقّق المقصود ووقوع المصلحة فيكون واجباً مطلقاً من هذه الجهة.

الصورة الثانيّة: أن يكون للزمان دخل في المصلحة ولكنّه أوسع من مقدار الواجب فيسمّى موقّتاً موسّعاً كما في الصّلوات اليوميّة والعمرة الواجبة.

الصورة الثالثة: أن يكون للزمان دخل أيضاً في تحقّق المصلحة ولكنّه يكون بقدر الواجب فيسمّى موقّتاً مضيّقاً كما في صيام رمضان وبعض مناسك الحجّ كالوقوف في العرفات.

وهناك صورة رابعة ذكرها في تهذيب الاصول «1» وهي ما إذا كان مطلق الزمان دخيلًا في تحقّق الغرض، ولكن أوّلًا لم نظفر بمثال له في الفقه، وثانياً أنّه ممّا لا مجال للأمر به للزوم اللغويّة (كما صرّح به نفسه) لأنّ المكلّف لا يقدر على إيجاده في غير الزمان حتّى يكون الأمر صارفاً عنه وداعياً نحوه.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه استشكل في تصوير كلّ واحد من المضيّق والموسّع، فبالنسبة إلى انوار الأصول، ج 1، ص: 490

الواجب المضيّق، فقد يقال، أنّه لا إشكال في أنّ زمان الانبعاث متأخّر عن زمان البعث ولو آناً مّا، فلو فرضنا أنّه بمجرّد طلوع الفجر مثلًا وقع الإيجاب في لحظة بعد الطلوع، وأنّ إرادة المكلّف وعزمه على الفعل أيضاً يحتاج إلى لحظة من الزمان فلا أقلّ من أن يتأخّر الانبعاث عن البعث بمقدار لحظتين من الزمان، ولازمه خروج كلّ واجب مضيّق عن كونه مضيّقاً ودخوله في الواجب الموسّع، وأن يكون كلّ واجب موقّت موسّعاً.

ولكنّه إشكال واهٍ وضعيف غاية الضعف، حيث إنّ المفروض أنّ القضايا الشرعيّة قضايا شرطيّة حقيقة صدرت من جانب الشارع قبل مجي ء زمان الواجب بل قبل تولّد هذا المكلّف، وأنّ المكلّف يطلع عليها قبل دخول الوقت، فهو يعلم مثلًا أنّ وجوب الصّيام يصير فعليّاً بالنسبة إليه بمجرّد طلوع الفجر، وأنّ عليه

أن يمسك عن الأكل والشرب من أوّل طلوع الفجر (كما ورد في قوله تعالى: «كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ» «1»

) فهو يريد الامساك ويعزم عليه لحظات قبل الطلوع من باب المقدّمة العلمية، وعليه يكون زمان البعث منطبقاً على زمان الانبعاث كما لا يخفى.

واستشكل في الواجب الموسّع بأنّ لازمه جواز ترك الواجب في زمان وجوبه وهذا ينافي معنى الوجوب.

والجواب عنه أيضاً واضح: لأنّ متعلّق الواجب إنّما هو طبيعة الصّلاة الواقعة بين الحدّين من الزمان، وليس المتعلّق أفرادها الطوليّة كما لا يكون المتعلّق أفرادها العرضيه كإتيانها في المسجد أو في الدار، وبعبارة اخرى: الساعات الواقعة بين الحدّين إنّما هي بمنزلة الأفراد والمصاديق لتلك الطبيعة التي يكون المكلّف مخيّراً بينها تخييراً عقليّاً، ولا إشكال في أنّ اختيار المكلّف فرداً من أفراد الواجب التخييري أي طرفاً من أطرافه لا يستلزم تركه للواجب بل يتحقّق ترك الواجب بترك جميع الأفراد والابدال.

هل القضاء تابع للأداء، أو بأمر جديد؟

ثمّ إنّ هيهنا بحثاً معروفاً قديماً وحديثاً، وهو أنّه هل يجب القضاء بمجرّد ترك الواجب في انوار الأصول، ج 1، ص: 491

داخل الوقت أو يحتاج وجوبه إلى دليل خاصّ؟ وبعبارة اخرى: هل القضاء تابع للأداء، أو يكون بأمر جديد؟

لا إشكال في أنّ هذه المسألة تعدّ من القواعد الفقهيّة ولا تكون من المسائل الفقهيّة ولا من المسائل الاصوليّة، لأنّ النزاع إنّما هو في وجوب قضاء كلّي الواجب (أي واجب كان) إذا فات في وقته، فيكون الحكم فيه كلّياً لا يختصّ بباب دون باب، فلا تكون مسألة خاصّة من الفقه، فينطبق عليه تعريف القاعدة الفقهيّة وهو الحكم الكلّي الشرعي الذي لا يختصّ بباب دون باب، ولا تكون مسألة اصوليّة لأنّ ملاكها وقوعها في طريق الحكم

الشرعي، والحال أنّ المسألة حكم شرعي بنفسها.

وكيف كان ففي المسألة أقوال كثيرة، والمهمّ منها ثلاث:

القول الأوّل: وجوب القضاء بالأمر الأوّل أي تبعيّة القضاء للأداء مطلقاً.

القول الثاني: حاجته إلى أمر جديد، أي عدم التبعيّة مطلقاً.

القول الثالث: ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية من التفصيل بين ما إذا كان التوقيت بدليل منفصل ولم يكن له إطلاق على التقييد بالوقت وكان لدليل الواجب إطلاق فتكون قضيّة الإطلاق ثبوت وجوب القضاء بعد انقضاء الوقت أي تبعيّة القضاء للأداء، وبين ما إذا ارتفع إحدى هذه القيود الثلاثة فيحتاج وجوب القضاء إلى أمر جديد.

أقول: لا بدّ من طرح البحث هنا أيضاً في مقامين: مقام الثبوت ومقام الإثبات.

أمّا مقام الثبوت: فالصحيح أن يقال: إن كان التقيّد بالوقت على نحو وحدة المطلوب، أي كان المطلوب الصّلاة المأتي بها في الوقت مثلًا، فلابدّ لوجوب القضاء في خارج الوقت إلى أمر جديد، لأنّه بعد مضيّ الوقت يرتفع الطلب وهو واضح، وأمّا إن قلنا بكون المطلوب متعدّداً، أي كان أصل الصّلاة مطلوباً وكان إتيانه داخل الوقت مطلوباً آخر، فلا إشكال في بقاء وجوب الصّلاة بعد مضيّ الوقت، أي في بقاء المطلوب الأوّل على حال وجوبه بعد عدم الإتيان بالمطلوب الثاني.

وأمّا مقام الإثبات: فهو تابع للسان الأدلّة، فإن فهمنا من لسان الدليل وحدة المطلوب فيسقط الأمر الأوّل بعد إتمام الوقت، وإن فهمنا منه تعدّد المطلوب كان الطلب باقياً بالنسبة إلى أصل الواجب، وطريق فهم تعدّد المطلوب تارةً يكون بالشرائط الثلاثة المذكورة في كلام انوار الأصول، ج 1، ص: 492

المحقّق الخراساني رحمه الله (وهي استفادة التوقيت من دليل منفصل أوّلًا، وعدم إطلاق له على التقييد بالوقت ثانياً وكون دليل الواجب مطلقاً ثالثاً) واخرى من مناسبات الحكم والموضوع

كما إذا قال المولى: «اقرأ القرآن يوم الجمعة» أو قال: «اقرأ القرآن بالصوت الحسن» فلا إشكال في أنّ مقتضى مناسبة الحكم والموضوع في هذين المثالين أنّ مطلق قراءة القرآن مطلوب، وقراءته يوم الجمعة أو بالصوت الحسن مطلوب آخر.

بل قد يقال أنّه كذلك في جميع المستحبّات الواردة في لسان الشرع كما هو المعروف، فيقال أنّ الأصل في المستحبّات هو تعدّد المطلوب.

وأمّا الواجبات فيمكن التمثيل لتعدّد المطلوب بالإضافة إلى غير الموقّتة منها بقوله تعالى:

«الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ... وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ» «1»

فإنّ مقتضى مناسبة الحكم والموضوع فيه أنّ شهادة طائفة من المؤمنين مطلوب وأصل إجراء الحدّ المطلوب آخر مع ورودهما في خطاب واحد.

ثمّ إنّه لو فرضنا إجمال الدليل الاجتهادي بالنسبة إلى وحدة المطلوب وتعدّده فما هو مقتضى الأصل العملي؟

ذهب بعض إلى أنّ مقتضى استصحاب بقاء الوجوب بعد مضيّ الوقت كون المطلوب متعدّداً فيجب القضاء.

ولكن يرد عليه: أوّلًا: عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية.

وثانياً: أنّ جريانه مبني على بقاء الموضوع، أي عدم كون الوقت جزءً لموضوع الوجوب بل قيداً للحكم عند العرف، فإن كان الوقت جزءً مقوّماً للموضوع لم يكن الاستصحاب جارياً لأنّ من شرائط الاستصحاب وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة وإن لم يكن الوقت جزءً مقوّماً للموضوع، كما أنّه كذلك في قوله تعالى: «أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ» حيث إنّ الحدّ المذكور لوقت الصّلاة قيّد لهيئة «أقم» فلا إشكال في بقاء الموضوع وبالنتيجة جريان استصحاب الوجوب.

انوار الأصول، ج 1، ص: 493

بقي هنا امور:

الأمر الأوّل: أنّه قد يقال: يمكن إثبات وجوب القضاء في خارج الوقت بالتمسّك بقاعدة الميسور.

ولكنّه مشكل من جهتين:

الجهة الاولى: أنّه لا عموم لهذه القاعدة حتّى يعمّ ما إذا كان

الوقت من المعسور فتأمّل.

الجهة الثانيّة: أنّه يعتبر في جريانها صدق أنّ هذا ميسور لذلك المعسور عند العرف، فيعتبر في المثال المزبور أن يصدق على الصّلاة خارج الوقت أنّها ميسور للصّلاة داخل الوقت، وهو ممّا يشكل إحرازه.

الأمر الثاني: أنّ ما ذكرنا بالنسبة إلى قيد «الوقت» يجري بالنسبة إلى سائر القيود الواردة في الصّلاة وفي جميع الواجبات الشرعيّة أيضاً، فمثلًا لو صار المكلّف فاقداً للطهورين أو لم يكن قادراً على تحصيل القبلة مثلًا فيجري فيهما نفس النزاع الجاري في الوقت وأنّه هل يجب على المكلّف إتيان الصّلاة مع فقد شرط الطهارة أو القبلة، أو لا؟ فيبحث في أنّه هل يكون تقييد الصّلاة بالطهارة أو القبلة على نحو وحدة المطلوب أو تعدّده؟- إلى آخر ما مرّ هناك.

الأمر الثالث: في ثمرة المسألة، وهي واضحة، لأنّ كثيراً من الواجبات الموقّتة ليس لها دليل خاصّ يدلّ على وجوب قضائها إذا فاتت في وقتها كزكاة الفطرة التي يجب أدائها قبل ظهر يوم الفطر، ونظير صلاة الآيات إذا لم يأت بها قبل الشروع في الانجلاء أو قبل تمام الانجلاء، ونظير بعض مناسك الحجّ إذا فاتت في وقته الخاصّ به، فلا إشكال في أنّه إن قلنا بتعدّد المطلوب كان القضاء واجباً ولو لم يرد خطاب مستقلّ يدلّ عليه، وإن قلنا بوحدة المطلوب لم يكن القضاء واجباً ما لم يرد خطاب مستقلّ يدلّ على وجوبه.

نعم قد يقال في مقام نفي هذه الثمرة: أنّه لا حاجة إلى طرح أصل هذه المسألة (هل القضاء تابع للأداء أو بأمر جديد) بعد ورود رواية مشهورة وهي قوله عليه السلام «إقض ما فات كما فات» «1»

بطرق عديدة حيث إنّ مقتضاها وجوب قضاء كلّ ما فات من الفرائض سواء دلّت أدلّة

الأداء عليه، أو لم تدلّ.

انوار الأصول، ج 1، ص: 494

ولكن قد اجيب عنه في محلّه بأنّ مثل هذه الرّواية وهذا التعبير ليس في مقام بيان أصل وجوب القضاء وبيان موضوعه، بل أنّها في مقام بيان كيفية الإتيان والامتثال بعد ثبوت أصل القضاء وثبوت الموضوع.

فتقول هذه الرّواية: كلّما ثبت أصل القضاء في مورد وجب إتيان ما ثبت وجوب قضائه بنفس الكيفية التي فاتت، وتشهد لذلك ملاحظة سؤال السائل وموارد ورود روايات الباب فراجع.

انوار الأصول، ج 1، ص: 495

الفصل الثامن عشر الأمر بالأمر

هل الأمر المتعلّق بالأمر بفعل- أمر بذلك الفعل حتّى يجب على المكلّف امتثاله إذا علم به وإن لم يصل الأمر الثاني (أي أمر الواسطة) إليه، أو لا يكون أمراً بذلك الفعل فلا يجب على المكلّف الامتثال ما لم يصل إليه من طريق الواسطة؟

لا إشكال في أنّ أمثلة الأمر بالأمر كثيرة في الآيات والرّوايات نظير قوله تعالى: «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ...» «1»

وقوله تعالى: «قُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ» «2»

وقوله تعالى: «قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَايَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ» «3»

وقوله تعالى: «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ» «4»

، وفي الرّوايات نظير الأحاديث القدسيّة، والوصايا التي تصدر من جانب الأئمّة المعصومين عليهم السلام إلى شيعتهم تحت عنوان قوله عليه السلام: «قل لشيعتي كذا وكذا»، وعند العرف نظير ما إذا قال المولى لابنه: «مُرْ زيداً أن يفعل كذا وكذا» فهل هذا أمر بذاك الفعل بحيث إذا علم زيد بالأمر من قبل أن يأمره ابن المولى كان الإتيان به واجباً عليه، أو لا يكون أمراً به فلا يجب الإتيان ما لم يأمره ابن المولى؟».

الأولى إيراد البحث أيضاً في مقامين: مقام الثبوت ومقام الإثبات.

الأوّل في مقام الثبوت: فتارةً تكون الواسطة مجرّد طريق لوصول أمر المولى إلى

عبده المكلّف، فلا إشكال في وجوب الامتثال على المكلّف إذا علم به وإن لم يصل إليه من جانب انوار الأصول، ج 1، ص: 496

الواسطة، واخرى يكون وصول أمر المولى من ناحية أمر الواسطة تمام الموضوع في الوجوب، فأراد المولى مثلًا توقيره وتعظيمه وإثبات رفعة شأنه عنده، فلا إشكال أيضاً في عدم وجوب الامتثال على العبد ما لم يصل الأمر من جانب الواسطة، وثالثة يكون وصول الأمر من ناحية أمر الواسطة جزء للموضوع كما هو الغالب في الأوامر الاداريّة والفرامين القانونيّة العقلائيّة، فلابدّ لوجوب امتثالها من إبلاغها بطريق خاصّ فلا يجب الامتثال إلّاإذا بلغ الحكم من ذلك الطريق.

الثاني في مقام الإثبات: فالذي يستظهر من الآيات والرّوايات هو القسم الأوّل فيكون الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله في الآيات المذكورة في أوّل البحث مجرّد مبلّغ لايصال الأوامر الإلهيّة إلى العباد، بل هو المتبادر من نفس كلمة «الرسول» كما لا يخفى، وحينئذٍ يجب على العباد الإطاعة وامتثال الأوامر الشرعيّة وإن لم تصل إليهم من جانب شخص الرسول بل وصلت إليهم من طرق اخرى.

ثمّ إنّ بعض الأعلام جعل ثمرة هذا النزاع شرعيّة عبادة الصبي وقال: «إنّ الثمرة المترتّبة على هذا النزاع هي شرعيّة عبادة الصبي بمجرّد ما ورد في الرّوايات من قوله عليه السلام «مروهم بالصّلاة وهم أبناء سبع سنين»، فإنّه بناءً على ما ذكرناه من أنّ الأمر بالأمر بشي ء ظاهر عرفاً في كونه أمراً بذلك الشي ء تدلّ تلك الرّوايات على شرعيّة عبادة الصبي لفرض عدم قصور فيها لا من حيث الدلالة كما عرفت، ولا من حيث السند لفرض أنّ فيها روايات معتبرة».

ثمّ قال: «قد يقال كما قيل «1» أنّه يمكن إثبات شرعيّة عبادة الصبي بعموم أدلّة التشريع كقوله

تعالى: «أَقِيمُوا الصَّلَاةَ» وقوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» وما شاكلهما ببيان أنّ تلك الأدلّة بإطلاقها تعمّ البالغ وغيره ... وحديث «رفع القلم عن الصبي حتّى يحتلم» لا يقتضي أزيد من رفع الإلزام ... لا أصل المحبوبيّة عنها، ثمّ أجاب عنه بأنّ الوجوب أمر بسيط لا تركيب فيه أصلًا، لأنّه عبارة عن اعتبار المولى الفعل على ذمّة المكلّف وإبرازه في الخارج بمبرز من لفظ أو نحوه، وحديث الرفع يكون رافعاً لهذا لاعتبار، فيدلّ على أنّ الشارع لم يعتبر فعلًا كالصّلاة والصّوم وما شاكلهما على ذمّة الصبي» (انتهى ملخّصاً) «2».

انوار الأصول، ج 1، ص: 497

أقول: يرد عليه:

أوّلًا: أنّ الثمرة ليست منحصرة بما ذكره من شرعيّة عبادات الصبي بل تظهر في مثل قوله تعالى: «قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ» فيما إذا فرضنا عدم وصول أمر بغضّ الأبصار من جانب النبي صلى الله عليه و آله إلينا، فيمكن حينئذٍ الاستدلال بهذه الآية بناءً على أن يكون الأمر بالأمر بشي ء أمراً بذلك الشي ء كما مرّ أنّه كذلك، وكما أنّ الفقهاء لا يزالون يستدلّون لحرمة النظر إلى الأجنبي وفروع هذه المسألة بإطلاق هذه الآية، وقد لا يكون في هذه الفروع دليل إلّاإطلاق هذه الآية.

ثانياً: الرّوايات الواردة في باب عبادات الصبي الدالّة على شرعيّة عباداتهم ليست منحصرة فيما يشتمل على الأمر بالأمر، بل انظر إلى الباب 29 من أبواب من يصحّ منه الصّوم من كتاب الوسائل حتّى ترى روايات عديدة تأمر الصبيان بالعبادة بلا واسطة كقول الإمام عليه السلام: «إذا أطاق الغلام صومه ثلاثة أيّام متتابعة فقد وجب عليه صوم شهر رمضان» ولا يخفى أنّ قوله عليه السلام «وجب» دالّ على التأكيد في الاستحباب لا الوجوب، ونحوها

غيرها.

ثالثاً: الإشكال في مسألة مشروعيّة عبادات الصبي ليس منحصراً في أنّ الأمر بالأمر بشي ء هل يكون أمراً بذلك الشي ء أو لا؟ بل هناك إشكال آخر، وهو دعوى وجود قرينة في تلك الرّوايات تدلّ على أنّها صدرت من جانب الشارع لمجرّد الإرشاد إلى التمرين والممارسة، فهي أوامر إرشاديّة وليست مولويّة حتّى يستفاد منها الاستحباب.

نعم، يرد على القائل بهذا القول (وهو السيّد الحكيم كما أشرنا إليه سابقاً في الهامش) أنّ هذا يتمّ بناءً على عموم الأدلّة الأوّليّة أو إطلاقها بالنسبة إلى الصبي، بينما يمكن أن يقال أنّها خطابات توجّهت إلى خصوص المكلّفين وتكون منصرفة عن الصبي من بدو الأمر.

انوار الأصول، ج 1، ص: 499

الفصل التاسع عشر الأمر بعد الأمر

إذا ورد أمر بعد الأمر قبل امتثال الأمر الأوّل فهل يدلّ هو (الأمر الثاني) على التأكيد حتّى يكون المطلوب واحداً ويكفي امتثال واحد، أو يدلّ على التأسيس وتعدّد المطلوب فلابدّ من الامتثال الثاني وإتيان العمل مرّة اخرى؟

الصحيح أنّ للمسألة صور عديدة:

الصورة الاولى: أن يكون للمتعلّق أو المادّة قيد يستفاد منه التأسيس وتعدّد المطلوب كما إذا قال: «صلّ» ثمّ قال «صلّ صلاة اخرى» أو قال: «اعطني درهماً» ثمّ قال «اعطني درهماً آخر» فلا ريب في أنّ المأمور به حينئذٍ يكون متعدّداً بل إنّه خارج عن محلّ النزاع.

الصورة الثانيّة: أن تكون الهيئة مقيّدة، فصدرت القضيّة مثلًا على نهج القضيّة الشرطيّة كما إذا قال مثلًا: «إن ظاهرت فاعتق رقبة» ثمّ قال: «إن قتلت نفساً خطأً فاعتق رقبة» فلا إشكال أيضاً في أنّ ظاهرهما تعدّد المطلوب والمأمور به، إنّما الكلام في تداخل الأسباب وعدمه فيما إذا كانت الأسباب متعدّدة مع وحدة المسبّب وسيوافيك البحث عنه في مباحث المفاهيم مبحث مفهوم الشرط فانتظر.

الصورة الثالثة: أن لا يكون قيد لا

للمادّة ولا للهيئة حتّى يستفاد منه التعدّد، كما إذا قال:

«أقيموا الصّلاة» ثمّ قال مرّة ثانيّة: «أقيموا الصّلاة» وهذه الصورة هي محلّ الكلام، فقال المحقّق الخراساني رحمه الله: إنّ مقتضى إطلاق المادّة كون الأمر الثاني تأكيداً ومقتضى إطلاق الهيئة كونه تأسيساً، لأنّ كلّ أمر وكلّ هيئة تدلّ على طلب على حدة، فيدعو إلى مطلوب يخصّه، وحينئذٍ يقع التعارض بين الإطلاقين، وذهب بعض الأعلام في المحاضرات إلى أنّ المتفاهم عرفاً هو

انوار الأصول، ج 1، ص: 500

التأكيد وأنّه قضيّة إطلاق المادّة وعدم تقييدها بشي ء «1»، من دون أن يشير إلى قضيّة إطلاق الهيئة وتعارضها مع إطلاق المادّة، نعم صرّح في صدر كلامه أنّ الأمر بشي ء في نفسه ظاهر في التأسيس ولكنّه ليس محلًا للنزاع.

أقول: الإنصاف أنّ الهيئة في حدّ ذاتها لا تدلّ على شي ء لا على التأكيد ولا على التأسيس، بل التأكيد والتأسيس من شؤون المادّة، فإذا كانت المادّة مطلقاً كانت قضيّة إطلاقها التأكيد.

وإن شئت قلت: الهيئة هنا تابعة للمادّة، فإن كانت عين الأوّل كانت تأكيداً، وإن كانت غيره كانت تأسيساً.

وبهذا تمّ الكلام عن مبحث الأوامر ونشرع الآن في مبحث النواهي بعون اللَّه تعالى.

المقصد الثّاني: النواهي ويقع البحث فيها في فصول عديدة

الفصل الأوّل في دلالات صيغة النهي

اشارة

وفيه جهات من البحث:

الجهة الاولى: في حقيقة النهي ومدلول صيغته

المعروف بين القدماء وكثير من المتأخّرين أنّ مفاد النهي متّحد مع مفاد الأمر في دلالة كليهما على الطلب، إنّما الفرق في متعلّقهما، فمتعلّق النهي هو الترك، ومتعلّق الأمر هو الفعل، وقد ذهب إليه جماعة من المتأخّرين أيضاً منهم المحقّق النائيني رحمه الله، ولكن ذهب جماعة اخرى من المحقّقين المعاصرين إلى العكس، فمتعلّق الأمر والنهي عندهم واحد وهو الفعل، ومدلولهما مختلف، فمدلول النهي هو الزجر عن الفعل، ومدلول الأمر هو البعث إلى الفعل، وهذا هو المختار، ومختار تهذيب الاصول واختاره أيضاً بعض الأعلام في المحاضرات وفي هامش أجود التقريرات.

ويمكن أن يستدلّ له:

أوّلًا: بالتبادر فإنّ المتبادر من هيئة «لا تفعل» هو الزجر والمنع عن الفعل لا طلب تركه.

وإن شئت قلت: النهي التشريعي كالنهي التكويني فكما أنّ الناهي عن فعل تكويناً وخارجاً يمنع المنهي ويزجره عن الفعل بيده مثلًا لا أنّه يطلب تركه- كذلك الناهي تشريعاً.

ثانياً: إنّ النواهي لا تصدر من جانب الناهي إلّالوجود مفاسد في الأفعال المنهي عنهاكما أنّ الأوامر تصدر من جانب الآمر لأجل مصالح موجودة في الأفعال المأمور بها، فالنهي عن شرب الخمر لا يكون إلّالأجل مفسدة فيه، كما أنّ الأمر بالصّلاة لا يكون إلّالأجل مصلحة موجودة في الصّلاة، لا أنّ النهي عن شرب الخمر يكون لأجل مصلحة في تركه حتّى يكون انوار الأصول، ج 1، ص: 504

النهي طلباً للترك، (والتعبير بأنّ عدم المفسدة بنفسه مصلحة تعبير تسامحي) كما أنّ الأمر بالصّلاة لا يكون لأجل مفسدة في ترك الصّلاة.

واستدلّ في تهذيب الاصول بوجه ثالث وهو «أنّ العدم والترك من الامور الباطلة الوهمية لا يمكن أن يكون ذا مصلحة تتعلّق به اشتياق وإرادة أو بعث وتحريك، إذ البطلان المحض لا يترتّب عليه أثر

حتّى يقع مورد التصديق بالفائدة، وقد عرفت أنّ ما هو المشهور من أنّ للاعدام المضافة حظّاً من الوجود ممّا لا أصل له إذ الوجود لملكاتها لا لاعدامها» «1».

ولكن الإنصاف أنّه مجرّد دقّة عقليّة، فإنّ العدم لو سلّمنا كونه بطلاناً محضاً بنظر فلسفي عقلي، إلّاأنّ الكلام في الأوامر والنواهي العرفيّة العقلائيّة، ولا يبعد أن يطلب مولى عرفي من عبده عدم شي ء أو ينهاه عنه، كما أنّه كثيراً مّا يتّفق أنّ الطبيب يطلب من المريض ترك أكل غذاء خاصّ أو ترك شرب مائع خاصّ كالماء البارد.

ثمّ إنّه قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ النهي من الإنشائيات لا الإخباريات حيث إنّه وضع لانشاء الزجر وليس بمعنى «زجرت»، كما أنّ الأمر أيضاً وضع لانشاء البعث وليس بمعنى «بعثت».

هذا- وقد وقع بين القائلين بأنّ معنى النهي طلب الترك نزاع معروف، وهو أنّه ما المراد من الترك؟ فهل هو عبارة عن «أن لا يفعل»، أو يكون بمعنى الكفّ ذهب المحقّق الخراساني والمحقّق النائيني رحمهما الله إلى الأوّل، ويمكن أن يستدلّ له بوجهين:

الوجه الأوّل: أنّه هو المتبادر إلى الذهن.

الوجه الثاني: أنّ الترك أمر عدمي، وهو يحصل بمجرّد ترك الفعل، والتكليف بالكفّ تكليف بأمر وجودي زائد على مطلق الترك فيحتاج إلى مؤونة زائدة من الدليل وهي مفقودة.

والقائلون بأنّ المراد من الترك هو الكفّ استدلّوا بأنّ مجرّد «أن لا يفعل» عدم خارج عن تحت القدرة والاختيار فلا يمكن أن يتعلّق به البعث والطلب، والشاهد على ذلك أزليّة العدم بمعنى أنّه كان قبل أن يكون المكلّف موجوداً.

واجيب عنه: بأنّه إذا كان وجود شي ء تحت القدرة والاختيار كان عدمه أيضاً كذلك لاستحالة الانفكاك بين وجود شي ء وعدمه من هذه الجهة، فإنّ الجبر في جانب العدم يستلزم انوار

الأصول، ج 1، ص: 505

الجبر في جانب الوجود وهذا خلف، وأمّا كون العدم خارجاً عن تحت الاختيار من الأزل فهو لا ينافي اختياريته من حيث البقاء والاستمرار.

نعم بقي هنا شي ء وهو أنّه من البعيد جدّاً أن يكون مراد القائلين بالكفّ الكفّ الفعلي فإنّه يستلزم حصول وسوسة وتزلزل نفساني بالنسبه إلى إتيان العمل المنهي عنه حتّى يتحقّق كفّ النفس عنه خارجاً، مع أنّه ممّا لا يتفوّه به أحد، بل المراد منه الكفّ التقديري وبالقوّة، ولا إشكال في أنّه يرجع حينئذٍ إلى المعنى الأوّل للترك أعني «أن لا يفعل» فيصير النزاع لفظيّاً.

وهيهنا نكتة اخرى: أنّ هذا البحث يجري بعينه أيضاً بالنسبة إلى المذهب المختار، أي كون النهي بمعنى الزجر عن الفعل حيث إنّه لا بدّ من أن يبحث في أنّه هل المراد من الزجر الزجر بالفعل أو الزجر التقديري وبالقوّة، لا إشكال في أنّ المراد منه أيضاً هو الزجر بالقوّة، لأنّه لا معنى للزجر الفعلي بالنسبة إلى من يكون منزجراً بنفسه.

ثمّ إنّ هيهنا بحثاً آخر معروفاً، وهو أنّه كيف يدلّ النهي على وجوب ترك جميع الأفراد العرضيّة مع كفاية تحقّق صرف الوجود للامتثال في الأمر؟ فما هو منشأ هذا الفرق؟

ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله وكثير من المتقدّمين إلى أنّه حكم العقل بلحاظ خصوصيّة في الأمر الوجودي والأمر العدمي، وإليك نصّ كلام المحقّق الخراساني رحمه الله: «ثمّ إنّه لا دلالة لصيغته (صيغة النهي) على الدوام والتكرار كما لا دلالة لصيغة الأمر وإن كان قضيّتهما عقلًا تختلف ...

(إلى أن قال) ضرورة أنّ وجودها يكون بوجود فرد واحد وعدمها لا يكاد يكون إلّابعدم الجميع» (انتهى).

لكن الإنصاف أنّه في غير محلّه، لأنّ الوجود والعدم متقابلان تقابل النقيضين وأنّ أحدهما بديل للآخر ولازمه،

أن يحصل العدم بفرد واحد كما يحصل الوجود بفرد واحد.

وبعبارة اخرى: كما أنّ وجود الطبيعي يكون بوجود أفراده فيتعدّد وجوده بتعدّد أفراده، كذلك عدم الطبيعي ينعدم بتعداد اعدام أفراده، فإنّ العدم يتصوّر بتعداد وجودات الأفراد ويكون بإزاء كلّ وجود عدم خاصّ.

فالصحيح أن يقال: إنّ المنشأ لهذا التفاوت يتلخّص في أمرين:

الأمر الأوّل: اختلاف طبيعة المصلحة وطبيعة المفسدة اللتين هما الغايتان الأصليتان في البعث والزجر، فإنّ المصلحة بمقتضى طبيعتها وذاتها تحصل بصرف الوجود، أي تحصل الغاية

انوار الأصول، ج 1، ص: 506

منها بصرف الوجود، من دون فرق بين الامور الشرعيّة والامور العرفيّة، وأمّا المفسدة فلا يكفي فيها صرف الترك حيث إنّها موجودة في كلّ فرد فرد من أفراد الطبيعة المنهي عنها، وبالطبع تحصل الغاية من النهي بترك جميع الأفراد كالمفسدة الموجودة في السمّ حيث إنّ الغاية في النهي عن شربه إنّما هو حفظ النفس وهو متوقّف على ترك جميع الأفراد كما لا يخفى، وحيث إنّ هذه الخصوصيّة هي الغالبيّة في المصالح والمفاسد حصل من جانبها انصراف في الأوامر والنواهي، فإنصرف الأمر إلى فرد واحد وانصرف النهي إلى جميع الأفراد.

الأمر الثاني: أنّ المفاسد في النواهي تتصوّر على ثلاثة أقسام: ففي قسم منها- وهو الغالب- يكون صرف العدم من المفسدة حاصلًا فيكون النهي عنها (لتحقّق صرف العدم منها) تحصيلًا للحاصل، ويصير هذا قرينة على تعلّق النهي بجميع الأفراد على نهج العام الافرادي، نظير ما إذا نذر الإنسان أن يترك التدخين إلى آخر عمره، فإنّ لكلّ فرد من المنهي عنه فيه مفسدة على حدة، فإذا حصل الحنث بالنسبة إلى بعض الأفراد لا يسقط التكليف بالترك بالنسبة إلى سائر الأفراد.

وفي قسم آخر منها تكون المفسدة قائمة بصرف الوجود من المنهي نظير ما إذا

نذر أن يترك صرف الوجود من التدخين، فيحصل الحنث حينئذٍ بصرف الوجود منه ولا إلزام عليه بالإضافة إلى سائر الأفراد.

وفي قسم ثالث منها تكون المفسدة قائمة بالمجموع من حيث المجموع كالمادّة السمّية التي تحصل مفسدتها- وهي هلاك النفس- فيما إذا تناول مجموعها وهو نظير ما إذا نذر أن يترك التدخين على نهج العام المجموعي فيحصل الحنث حينئذٍ بتدخين المجموع فقط ولا مانع في تدخين بعضها.

إذا عرفت هذا فنقول: حيث إنّ الغالب في النواهي إنّما هو القسم الأوّل بل لا مصداق للقسمين الآخرين إلّاأحياناً وفي بعض الموارد، فلابدّ فيهما من نصب قرينة تصير منشأً لانصراف النواهي عن القسم الأوّل، وقرينة عامّة لعدم كفاية صرف العدم، على عكس ما في الأوامر فحيث إنّ إتيان جميع الأفراد فيها مستحيل عادةً صار ذلك قرينة على كفاية صرف الوجود، فتدبّر جيّداً.

ثمّ إنّه قد أورد على الوجه الأوّل (وهو أنّ المصلحة تترتّب غالباً على صرف الوجود

انوار الأصول، ج 1، ص: 507

فتكون تلك الغلبه كاشفاً عن تعلّق المصلحة بصرف الوجود المتحقّق بإيجاد فرد، كما أنّ المفسدة في النهي تترتّب على كلّ فرد فتكون قرينة عامّة على أنّ النهي متعلّق بإيجاد كلّ فرد باستقلاله) بأنّه إن أراد من تعلّق النهي بكلّ فرد أنّ المادّة أخذت مرآة للخصوصّيات والزجر تعلّق بكلّ فرد فقد عرفت امتناع مرآتيتها لها وضعف ما يتمسّك لإثباتها من سريان الطبيعة واتّحادها معها، وإن أراد أنّ النهي متعلّق بالطبيعة إلّاأنّ تلك الغلبة قرينة على أنّ جدّ المولى هو الزجر عن كلّ فرد.

ففيه: أنّ الزجر مفاد النهي الاستعمالي، فإذا استعملت الهيئة في نفس الطبيعة دون الأفراد فلا يرجع كون الزجر عن الأفراد جدّاً إلى محصّل إلّاأن يرجع إلى التشبّث بالاستعمال المجازي وهو كما

ترى «1».

أقول: قد مرّ أنّ الطبيعة تكون مرآة للافراد في جميع الحالات، وتوضيحه: إنّا حينما فتحنا أعيننا رأينا الأفراد وتصوّرناها قبل تصوّر الطبيعة، ثمّ نظرنا ولاحظنا أنّ الأفراد تختلف بالنسبة إلى الاغراض التي تتعلّق بها، فتارةً: يتعلّق الغرض بفرد خاصّ مع الخصوصيّة الفرديّة فوضعنا اللفظ بإزائه علماً شخصيّاً، واخرى: يتعلّق الغرض بجميع الأفراد لا بفرد خاصّ فلا دخل فيه للخصوصّيات الفرديّة فإنتزعنا من جميع المصاديق جامعاً عقليّاً ووضعنا اللفظ بإزائه وسمّيناه بالطبيعة، وحينئذٍ تكون الطبيعة متولّدة من مشاهدة الأفراد وملاحظتها، بل إنّ هذا هو الطريق الوحيد في إدراك المفاهيم أيضاً، ولا إشكال في أنّ لازم هذا أن تكون الطبيعة مرآة إلى الوجودات الفرديّة الخارجيّة وإن لم تكن مرآة لخصوصّياتها الشخصيّة.

الجهة الثانيّة: دلاله النهي على التحريم

أنّه لا إشكال في دلالة النهي على الحرمة (كما أنّ الأمر كان دالًا على الوجوب) إنّما الإشكال في أنّ هذه الدلالة هل هي مقتضى الوضع فتكون استعمال النهي في الكراهة مجازاً، أو أنّها مقتضى الإطلاق ومقدّمات الحكمة فيكون الاستعمال في الكراهة أيضاً استعمالًا حقيقياً؟

انوار الأصول، ج 1، ص: 508

الحقّ هو الثاني، أي يستفاد الوجوب من الإطلاق ومقدّمات الحكمة كما مرّ نظيره في مبحث الأمر، فإنّ الكلام هنا هو الكلام هناك، فكما أنّ دلالة الأمر على الوجوب كان من باب أنّ معناه هو الطلب مطلقاً (الذي يعبّر عنه بالفارسيّة ب «خواستن») ولا سبيل لعدم الطلب (الذي يعبّر أيضاً عنه بالفارسيّة «نخواستن») فيه، فيكون الوجوب مقتضى هذا الإطلاق، ولازمه أن لا يكون استعمال الأمر في الاستحباب مجازاً مع احتياجه إلى قيام قرينة على الاستحباب، كذلك دلالة النهي على الحرمة، فإنّ معناه الزجر والمنع عن الفعل مطلقاً من دون تطرّق عدم الزجر فيه، وهذا يقتضي الحرمة وأن لا يكون

استعماله في الكراهة بضمّ القرينة مجازاً، لأنّه ليس من قبيل استعمال اللفظ في غير ما وضع له.

الجهة الثالثة: دلالة النهي على التكرار وعدمه

هل النهي يدلّ على التكرار والاستمرار ووجوب إتيان جميع الأفراد الطوليّة (بعد ما مرّ سابقاً من دلالته على وجوب إتيان جميع أفراده العرضيّة) أو لا؟

لا إشكال في أنّ الأمر لا يدلّ على المرّة ولا على التكرار كما مرّ، ولكن حيث إنّ ملاك الحرمة في النواهي وهو المفسدة قائمة بتمام الأفراد كما عرفت كان مقتضى إطلاق النهي وعدم تقييده بحدّ زماني الاستمرار والتكرار، أي الإتيان بجميع الأفراد الطوليّة كالافراد العرضيّة، نعم إذا قيّد بقيد زماني كأن يقول المولى: «لا تشرب الخمر إلى الغروب» فلا إشكال في عدم دلالته على التكرار.

إن قلت: لازم هذا لزوم الفتوى بوجوب الاستمرار في باب النذر فيما إذا نذر مثلًا على نحو الإطلاق أن يترك الدخين وأن يبقى وجوب الوفاء على حاله حتّى بعد وقوع الحنث، مع أنّ الظاهر أنّه لا يقول به أحد.

قلنا: أوّلًا: لقائل أن يقول في خصوص باب النذر: بأنّ النهي ليس من قبيل الزجر عن الفعل بل أنّه من قبيل طلب الترك، لأنّ الناذر يقول: «للَّه عليّ ترك التدخين» وهذا بعد ضمّ دليل الوفاء، أي (اوفوا بالنذور) معناه «يجب عليك ترك التدخين» لا الزجر عن التدخين كما لا يخفى، ولا إشكال في أنّه إذا كان هذا هو متعلّق النذر لم يجب التكرار والاستمرار بل يحصل الوفاء بإتيان مصداق واحد.

انوار الأصول، ج 1، ص: 509

ثانياً: إنّ النذر تابع لقصد الناذر، ويمكن أن يكون الغالب في النذر كون المتعلّق أمراً وحدانياً وعامّاً مجموعياً بحيث لو وقع الحنث لم يجب الوفاء ثانياً، ولو شككنا فيه فمقتضى أصالة البراءة هو عدم وجوب الوفاء، وأمّا لو فرض

تعلّق النذر على نهج العامّ الافرادي فلا يبعد القول بوجوب الاستمرار كما لا يبعد وجود الفتوى كذلك، حيث إنّ الظاهر أنّ عدم فتوى الفقهاء بوجوب التكرار في باب النذر يكون من باب تلك الغلبة فهي منصرفة عن موارد العام الافرادي.

الجهة الرابعة: حكم النهي بعد المخالفة

هل يدلّ النهي على دوام وجوب الترك وعلى الحرمة ثانياً بعد ارتكاب المخالفة أوّلًا، أو لا؟ وإن قلنا بدلالته على الاستمرار مع قطع النظر عن العصيان.

قد ظهر الجواب ممّا مرّ، فإنّه إذا كان المتعلّق على نهج العام المجموعي فلا إشكال في عدم وجوب الترك ثانياً في صورة المخالفة، وأمّا إذا كان على نهج العام الافرادي فلا إشكال أيضاً في وجوب الترك ثانياً، هذا بالنسبة في مقام الثبوت.

وأمّا مقام الإثبات فيمكن أن يقال: إنّ ظاهر إطلاق النهي والمتبادر من إطلاق الهيئة والمادّة كون المتعلّق على نهج العام الافرادي، ومنشأ هذا التبادر إنّما هو الغلبة في الوجود حيث إنّ الغالب في النواهي صدورها على نحو العام الافرادي وقد ذكرنا في محلّه أنّ غلبة الوجود تكون سبباً لغلبة الاستعمال غالباً وهي سبب للانصراف، ونتيجة ذلك أنّه إذا أتى المكلّف مثلًا بأحد التروك في مناسك الحجّ يجب عليه الترك أيضاً فيما بعد.

الفصل الثاني في اجتماع الأمر والنهي

اشارة

وقبل الخوض في أصل المقصود لا بدّ من تقديم امور:

الأمر الأوّل: في عنوان المسألة وبيان موضع النزاع.

قد وردت تعابير مختلفة في مقام بيان عنوان المسألة ومحلّ النزاع فقال المحقّق الخراساني رحمه الله: «اختلفوا في جواز اجتماع الأمر والنهي في واحد وامتناعه»، وقال المحقّق النائيني رحمه الله: «الأولى تبديل العنوان بأن يقال: إذا اجتمع متعلّق الأمر والنهي من حيث الإيجاد والوجود فهل يلتزم من الاجتماع كذلك أن يتعلّق كلّ من الأمر والنهي بعين ما تعلّق به الآخر كما هو مقالة القائل بالامتناع أو لا يلزم ذلك كما هو مقالة القائل بالجواز» «1»؟

ولبعض الأعلام في المحاضرات كلام هو في الحقيقة توضيح لكلام استاذه وتعليل لاختياره العنوان المزبور وحاصله: «إنّ عنوان النزاع في هذه المسألة على ما حرّره الأصحاب قديماً وحديثاً يوهم كون النزاع فيها كبرويّاً، أي مردّ النزاع في المسألة إلى دعوى المضادّة بين الأحكام الشرعيّة بعضها مع بعض وعدم المضادّة، مع أنّه لا يعقل أن يكون كبرويّاً، بداهة استحالة اجتماع الأمر والنهي في شي ء واحد ووجود المضادّة بينهما مطلقاً حتّى عند من يجوّز التكليف بالمحال كالأشعري، وذلك لأنّ اجتماعهما في نفسه محال، لا أنّه من التكليف بالمحال ضرورة استحالة كون شي ء واحد محبوباً ومبغوضاً للمولى معاً على جميع المذاهب والآراء فما ظنّك بغيره، إذن لا نزاع في الكبرى بل النزاع في المسألة إنّما هو في الصغرى، أي في أنّ النهي انوار الأصول، ج 1، ص: 512

المتعلّق بطبيعة الغصب مثلًا هل يسري منها إلى ما تنطبق عليه طبيعة الصّلاة المأمور بها في الخارج أم لا؟ ومن الواضح جدّاً أنّ سراية النهي من متعلّقه إلى متعلّق الأمر ترتكز على نقطة واحدة، وهي اتّحاد المجمع وكونه موجوداً بوجود واحد، كما أنّ عدم السراية ترتكز على تعدّد

المجمع وكونه موجوداً بوجودين، فيكون مركز النزاع حينئذٍ أنّ المجمع لمتعلّقي الأمر والنهي في مورد التصادق والاجتماع هل هو وجود واحد حقيقة وبالذات وأن التركيب بينهما اتّحادي، أو هو متعدّد كذلك وأنّ التركيب بينهما انضمامي فالقائل بالامتناع يقول بالأوّل، والقائل بالجواز يقول بالثاني» «1».

وقال في تهذيب الاصول: «الأولى أن يقال: هل يجوز اجتماع الأمر والنهي على عنوانين متصادقين على واحد في الخارج أو لا؟» واستدلّ له بأنّ «ظاهر كلمة الواحد في عنوان المشهور أنّ الهوية الخارجيّة من المتعلّقين يكون محطّ عروض الوجوب والحرمة مع أنّه من البطلان بمكان لأنّ الخارج لا يكون ظرف ثبوت التكاليف، فاجتماع الأمر والنهي فيه ممّا لا معنى له» «2».

أقول: ما أفاده في المحاضرات في مقام تنقيح محلّ النزاع وتقرير مختار استاذه جيّد جدّاً، إلّا أنّ الأحسن والأولى في مقام بيان عنوان للمسألة هو التعبير الأخير لكن بعد ضمّ كلمة «أحياناً» في ذيله حيث إنّ العنوانين المتعلّقين للأمر والنهي يتصادقان على الواحد في الخارج أحياناً وفي بعض الموارد لا دائماً كما لا يخفى، وحينئذٍ يكون العنوان المختار في المسألة هكذا: هل يجوز اجتماع الأمر والنهي على عنوانين متصادقين على واحد أحياناً، أم لا؟

الأمر الثاني: في المراد من كلمة «الواحد» الوارد في عنوان المسألة

فهل المراد منها الواحد الشخصي، أو النوعي، أو الجنسي؟

لا إشكال في أنّ الحقّ- كما ذكروا- أنّ المراد من الواحد في ما نحن فيه إنّما هو الواحد الشخصي، لا بمعنى ما لا يصدق على كثيرين حتّى يقال: الصّلاة في الدار الغصبي أمر كلّي على كلّ حال، بل بمعنى أنّ الوحدة هنا هي الوحدة الخارجيّة المصداقيّة في مقابل الوحدة المفهوميّة

انوار الأصول، ج 1، ص: 513

(كوحدة السجدة للَّه مع السجدة للصنم فإنّهما متّحدتان في المفهوم فقط كما هو واضح، والوحدة الخارجيّة نظير اتّحاد

الصّلاة والغصب في الدار الغصبي حيث إنّهما إنطبقا في الخارج على حركة خاصّة وتصرّف خاصّ في العمل) حيث إنّ اجتماعهما في الواحد النوعي أو الجنسي جائز بلا إشكال بأن يكون نوع من أنواع الجنس مطلوباً ونوع آخر مبغوضاً، وكذا في أصناف نوع واحد.

الأمر الثالث: في بيان الفرق بين هذه المسألة ومسألة «النهي في العبادة»

فقد ذكر كلّ وجهاً لبيان الفرق بينهما، فقال بعض بأنّ الفرق بين المسألتين إنّما هو في الموضوع وهو قول صاحب الفصول رحمه الله، فإنّه قال بأنّ الموضوع في ما نحن فيه طبيعتان متغايرتان بحسب الحقيقة والذات وإن كانت النسبة بينهما العموم المطلق كعنوان الحركة وعنوان القرب في الصّلاة والغصب، وفي المسألة الآتية فالموضوع هو طبيعتان متّحدتان بحسب الذات والحقيقة ومختلفتان بحسب الإطلاق والتقييد بأنّ تعلّق الأمر بالمطلق، أي الصّلاة مطلقاً، وتعلّق النهي بالمقيّد، أي الصّلاة في الدار المغصوبة، وقال بعض آخر: أنّ الفرق بينهما إنّما هو في المحمول، فإنّ المحمول في هذه المسألة إنّما هو جواز الاجتماع جوازاً عقليّاً. وفي تلك المسألة هو جواز الاجتماع جوازاً شرعيّاً يستفاد من دليل لفظي.

وذهب ثالث- وهو المحقّق الخراساني رحمه الله- إلى أنّ الفرق بين المسألتين إنّما هو في الجهة، فإنّ الجهة المبحوث عنها في المقام هي رفع غائلة استحالة الاجتماع في الواحد بتعدّد العنوان وعدمه، وأنّه هل يسري كلّ من الأمر والنهي إلى متعلّق الآخر لاتّحاد متعلّقيهما وجوداً، أو لا يسري لتعدّدهما وجهاً؟ وهذا بخلاف الجهة المبحوث عنها في المسألة الآتية، فإنّ البحث فيها في أنّ النهي في العبادة أو المعاملة هل يوجب فسادها بعد الفراغ عن السراية والتوجّه إليها؟

وقال رابع بنفس القول الثالث ولكن ببيان آخر، وهو أنّ الجهة المبحوث عنها في ما نحن فيه جهة اُصوليّة، وهي الجواز وعدم الجواز عقلًا، وفي تلك

المسألة جهة لفظيّة بمعنى أنّ النهي المتعلّق بعبادة هل يدلّ بظاهره على فسادها، أو لا؟

وذهب في المحاضرات إلى أنّ النزاع هنا صغروي، لأنّه يبحث عن السراية وعدمها، بينما

انوار الأصول، ج 1، ص: 514

النزاع في تلك المسألة كبروي حيث إنّ المبحوث عنه فيها إنّما هو ثبوت الملازمة بين النهي عن عبادة وفسادها وعدم ثبوت هذه الملازمة بعد الفراغ عن ثبوت تلك الصغرى أي صغرى السراية وتعلّق النهي بالعبادة «1».

ولقائل أن يقول خامساً: إنّ التغاير بين المسألتين إنّما هو في الملاك، فإنّ الملاك في ما نحن فيه هو ملاك باب التزاحم، أي يوجد الملاك لكلّ من المأمور به والمنهي عنه المجتمعين في المجمع، فيبحث في أنّه هل يكون الحكمان من قبيل المتزاحمين حتّى نقول بالامتناع، أو لا يكون حتّى نقول بالجواز؟ بينما الملاك في مسألة النهي في العبادة إنّما هو ملاك باب التعارض، أي أنّ الملاك الموجود في المجمع واحد إمّا المفسدة وإمّا المصلحة، فلسان الأدلّة متعارضة.

أقول: الإنصاف أنّه لا ربط بين المسألتين حتّى يبعث عن وجه التمايز بينهما لأنّهما متغايرتان موضوعاً ومحمولًا، ملاكاً وجهة، ولا إشكال في أنّ التمايز بجميع هذه الامور ينتج تمايزاً جوهريّاً بين المسألتين، ولذلك لا يهمّنا البحث في كلّ واحد واحد من الوجوه المذكورة ونقدها.

أضف إلى ذلك أنّ البحث في المقام بحث عن حكمين تكليفيين وجواز اجتماعهما أو امتناعه، بينما البحث هناك بحث في الحكم الوضعي وهو الصحّة والفساد.

الأمر الرابع: هل المسألة اصوليّة أم لا؟

هل المسألة اصوليّة أو أنّها من المبادى ء التصديقية للمسائل الاصوليّة أو أنّها من مبادئها التصوّريّة أو من مبادئها الأحكاميّة أو تكون المسألة فقهيّة أو كلاميّة؟

ربّما يقال: إنّها مسألة اصوليّة لأنّ نتيجتها إثبات حكم شرعي فرعي وهو جواز الصّلاة وصحّتها في الدار المغصوبة مثلًا بناءً

على جواز الاجتماع، وبطلانها بناءً على الامتناع.

ولكنّه ظاهر الفساد، لأنّ نتيجة المسألة إنّما هي جواز الاجتماع أو امتناع، ولا إشكال في أنّهما ليسا حكمين فرعيين شرعيين بل إنّهما يقعان في طريق استنباط الحكم الفرعي الشرعي.

ويمكن أن يقال: أنّها مسألة كلاميّة من باب أنّ المسألة عقليّة ويكون البحث فيها عن استحالة اجتماع الأمر والنهي وإمكانه عقلًا، والبحث عن الاستحالة والإمكان يناسب المباحث الكلاميّة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 515

وكأنّ القائل بهذا الوجه توهّم أنّ كلّ ما يكون البحث فيه عقليّاً يكون كلامياً مع أنّه كما ترى، لأنّ البحث في علم الكلام يقع عن أحوال المبدأ والمعاد، والمسألة الكلاميّة تترتّب عليها معرفة المبدأ أو المعاد، وأين هذه من مسألة جواز الاجتماع وامتناعه.

إن قلت: يمكن إرجاع هذه المسألة إلى أحوال المبدأ والمعاد بتقريب أنّه في الحقيقة يبحث فيها عن أنّه هل يترتّب على الصّلاة في الدار الغصوبة مثلًا ثواب أو لا؟ ولا ريب في أنّ الثواب والعقاب من شؤون البحث عن المعاد.

قلنا: إنّ البحث عن الثواب والعقاب في علم الكلام بحث عن كلّي الثواب والعقاب كالبحث عن وجود الثواب والعقاب في عالم البرزخ وعدمه مثلًا لا عن مصاديقهما الجزئيّة وأنّه هل يترتّب على هذا المورد الخاصّ وهذا العمل الخاصّ ثواب أو لا؟

إن قلت: يمكن إرجاع هذه المسألة إلى المسألة الكلاميّة ببيان ثالث وهو أنّ البحث فيها بحث عن قبح صدور الأمر والنهي معاً من الباري تعالى بالنسبة إلى شي ء واحد، فيكون بحثاً عن أحوال المبدأ.

قلنا: البحث عن أحوال المبدأ في علم الكلام بحث كبروي حيث يبحث فيه عن جواز صدور أمر قبيح من اللَّه تعالى وعدمه بعد الفراغ عن كونه قبيحاً، بينما البحث هنا صغروي فيبحث في صغرى كون اجتماع

الأمر والنهي قبيحاً وعدمه.

وقد يقال: أنّها من المبادى ء الأحكاميّة حيث إنّ فيها يبحث عن أحوال الحكم وأوصاف الوجوب والحرمة وأنّهما هل يجتمعان في شي ء واحد أو لا؟

واجيب عنه: أيضاً بأنّا «لا نعقل المبادى ء الأحكاميّة في مقابل المبادى ء التصوّريّة والتصديقية، بداهة أنّه إن اريد منها تصوّر نفس الأحكام كالوجوب والحرمة ونحوهما فهو من المبادى ء التصوّريّة، إذ لا يعني من المبادى ء التصوّريّة إلّاتصوّر الموضوع والمحمول، وإن اريد منها ما يوجب التصديق بثبوت حكم أو نفيه (ومنه الحكم بسراية النهي إلى متعلّق الأمر في محلّ الكلام) فهي من المبادى ء التصديقية لعلم الفقه، كما هو الحال في سائر المسائل الاصوليّة» «1».

انوار الأصول، ج 1، ص: 516

أقول: يمكن الجواب عن هذا الوجه ببيان آخر، وهو أنّه كما يبحث في المبادى ء التصوّريّة عمّا يرجع إلى تصوّر الموضوع والمحمول كذلك يبحث فيها عمّا يرجع إلى تصوّر غاية ذلك العلم، ولا إشكال في أنّ غاية علم الاصول إنّما هي استنباط الحكم الشرعي، فيكون الحكم مأخوذاً في غايته، فالبحث عن أحوال الحكم وأوصافه (نظير البحث عن أنّ الحرمة والوجوب هل يجتمعان في شي ء واحد أو لا) داخل في المبادى ء التصوّريّة لعلم الاصول، فيرجع كون البحث في المقام من المبادى ء الأحكاميّة لعلم الاصول إلى أنّه من المبادى ء التصوّريّة لعلم الاصول.

نعم، إنّ هذا كلّه تامّ لو كان البحث في المقام بحثاً عن كبرى تضادّ الأمر والنهي (أي تضادّ الوجوب والحرمة) فيكون بحثاً عن أوصاف الوجوب والحرمة وأنّهما هل يكونان متضادّين، أو لا؟

مع أنّه ليس كذلك حيث إنّه بحث عن صغرى التضادّ وعن أنّ تعلّق الأمر والنهي بشي ء واحد ذي عنوانين هل يوجب اجتماع المتضادّين بعد الفراغ عن كبرى تضادّ الأحكام الخمسة، أو لا؟

فظهر أنّ البحث في ما

نحن فيه ليس من المبادى ء الأحكاميّة التي ترجع في الواقع إلى المبادى ء التصوّريّة.

وذهب المحقّق النائيني رحمه الله إلى أنّها من المبادى ء التصديقية لعلم الاصول وليست من مسائله، وحاصل بيانه أنّ هذه المسألة على كلا القولين فيها لا تقع في طريق استنباط الحكم الكلّي الشرعي بلا واسطة ضمّ كبرى اصوليّة، وقد تقدّم أنّ الضابط لكون المسألة اصوليّة هو وقوعها في طريق الاستنباط بلا واسطة، والمفروض أنّ هذه المسألة ليست، كذلك فإنّ فساد العبادة لا يترتّب عليه القول بالامتناع فحسب بل لا بدّ من ضمّ كبرى اصوليّة إليه، وهي قواعد مسألة التعارض، فإنّ هذه المسألة على هذا القول تدخل في كبرى تلك المسألة وتكون من إحدى صغرياتها، فيترتّب فساد العباد بعد إعمال قواعد التعارض وتطبيقها في المسألة لا مطلقاً، وهذا شأن كون المسألة من المبادى ء التصديقية لمسائل علم الاصول دون المسائل الاصوليّة نفسها، كما أنّها على القول بالجواز تدخل في كبرى مسألة التزاحم فتدخل في مبادى ء بحث التزاحم «1».

انوار الأصول، ج 1، ص: 517

ويرد عليه: أنّ الميزان في المسألة الاصوليّة وقوعها في طريق استنباط الحكم الشرعي سواءً كان بضمّ ضميمة أم لا؟ وإلّا يلزم خروج عدّة من المسائل الهامّة لعلم الاصول عن كونها اصوليّة كمسألة حجّية خبر الواحد التي يستنتج منها الحكم الشرعي بعد ضمّ مسألة حجّية الظواهر إليها، وكذلك قواعد جهة الصدور.

فالحقّ أنّ المسألة اصوليّة لوجود ضابطها فيها حتّى لو سلّمنا وجود سائر الجهات فيها أيضاً.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّه قد ظهر من تضاعيف المقدّمات المذكورة أنّ المسألة عقليّة حيث إنّه من الواضح أنّ قضيّة جواز اجتماع الأمر والنهي المتعلّقين على عنوانين متصادقين على عمل واحد وعدمه لا يدور مدار الألفاظ قطعاً، كما لا دلالة لذكرها ضمن مباحث

الألفاظ على أنّها لفظيّة، وكم لها من نظير كمسألة مقدّمة الواجب ومسألة دلالة النهي على الفساد ومسألة الإجزاء ومسألة الضدّ والترتّب ونظير البحث عن حقيقة الواجب الكفائي والواجب التخييري، فإنّ جميع هذه المسائل عقليّة، أو أن لأكثر المباحث فيها جهة عقليّة ومع ذلك ذكرت في مباحث الألفاظ، ولا إشكال في أنّ هذا بنفسه من مشكلات علم الاصول في يومنا هذا، ولا بدّ من ملاحظة طريق حلّ لها في المستقبل إن شاء اللَّه.

الأمر الخامس:

هل النزاع في ما نحن فيه مختصّ مرتبط بقسم خاصّ من الأمر والنهي، أو أنّه يعمّ جميع أقسامهما سواء كان الأمر أو النهي نفسيّاً أو غيريّاً، وسواء كان تعيينياً أو تخييريّاً، وعينياً أو كفائيّاً؟ ذهب المقحّق الخراساني رحمه الله إلى أنّ النزاع عامّ يشمل جميع الأقسام، وتبعه كثير من الأعلام، لكن قد ورد في بعض الكلمات إستثناء مورد واحد، وهو ما إذا كان الواجب والحرام كلاهما تخييريين.

والقائلون بعموم النزاع استدلّوا لذلك بثلاثة وجوه:

الوجه الأوّل: إطلاق عنوان البحث فإنّه شامل بإطلاقه لجميع الأقسام.

انوار الأصول، ج 1، ص: 518

الوجه الثاني: إطلاق الأدلّة التي يستدلّ بها على الجواز أو الامتناع كالاستدلال بتضادّ الأحكام الخمسة لسراية أحد الحكمين بمتعلّق الآخر، فإنّه مطلق يعمّ جميع الأفراد.

الوجه الثالث: عموم الملاك في البحث، وهو تعدّد العنوان من جانب ووحدة المعنون والمصداق من جانب آخر.

وأمّا الإستثناء المذكور، أي صورة ما إذا كان الحكمان تخييريين فقبل توضيحه وبيان مثال له وذكر أحكامه ينبغي تقديم مقدّمة، وهي البحث في أنّه هل يتصوّر الحرام التخييري والحرام الكفائي في الفقه كالواجب التخييري والواجب الكفائي أم لا؟

فنقول: أمّا الحرام التخييري فيمكن تصويره في حرمة نكاح الاختين حيث إنّ الحرام التخييري يرجع حقيقة إلى حرمة الجمع بين شيئين

كما أفاده المحقّق الإصفهاني رحمه الله في حاشيته على الكفاية، وهذا صادق في هذا المثال، وأمّا الحرام الكفائي فيمكن تصويره أيضاً في حرمة بيع السلاح للأعداء فيما إذا فرضنا تركيب السلاح من موادّ مختلفة منتشرة عند المكلّفين، فكلّ مادّة من تلك المواد وكلّ جزء من السلاح يوجد عند مكلّف خاصّ ويكفي في عدم تأثير السلاح بنفع الأعداء عدم بيع بعض المكلّفين المادّة الموجودة عنده، وحينئذٍ يحرم كفائيّاً بيع تلك الأجزاء للسلاح.

إذا عرفت هذا فاعلم أنّه استدلّ القائل بعدم جريان النزاع في التخييريين بأنّه لا تضادّ بين النهي التخييري والأمر التخييري، لأنّ متعلّق الأمر فيه عنوان أحد الشيئين، ومتعلّق النهي هو الجمع بينهما لا عنوان أحدهما كما إذا نذر أن يأتي بالصّلاة أو الصّيام، ونذر ثانياً أن لا يصلّي إمّا في الحمام أو في البادية لكراهة الصّلاة فيهما فهاهنا، تعلّق النذر الأوّل (وهو النذر الفعلي) بعنوان أحدهما، بينما النذر الثاني (أي النذر التركي) تعلّق بالجمع بين الصّلاة في الحمام والصّلاة في البادية، ولا إشكال في أنّه لا تضادّ بين المتعلّقين حتّى إذا قلنا بإمتناع الاجتماع في سائر الموارد.

الأمر السادس: في اعتبار قيد المندوحة ولزوم أخذه في محلّ النزاع

والمراد من المندوحة كون المكلّف في فسحة من إتيان المأمور به في غير مورد الاجتماع كأن وجد أرضاً مباحة لإتيان الصّلاة فيها في مثال الصّلاة في الدار المغصوبة في مقابل من لا يتمكّن انوار الأصول، ج 1، ص: 519

من الإتيان بها إلّافي الدار المغصوبة كالمحبوس فيها، وهذه الكلمة من «ندح» بمعنى الوسعة كما ورد في الحديث: «أنّ في المعاريض مندوحة من الكذب» (والمراد من المعاريض التورية) فوقع النزاع في أنّه هل يجري النزاع في خصوص موارد وجود المندوحة أو يجري في موارد عدم وجودها أيضاً؟

والأقوال في اعتبارها وعدمه ثلاثة:

القول

الأوّل: القول بعدم الاعتبار وعليه أكثر الأعلام منهم المحقّق الخراساني رحمه الله.

القول الثاني: القول باعتبارها وعليه المحقّق الحائري رحمه الله في درره وصاحب الفصول.

القول الثالث: القول بالتفصيل بين ما إذا حصل الاجتماع بسوء الاختيار كمن أوقع نفسه عملًا في الأرض المغصوبة في ضيق الوقت فلا يكون معتبراً، بل يجري النزاع مع عدم وجودها أيضاً، وما إذا لم يكن بسوء الاختيار فيكون معتبراً، أي يجري النزاع حينئذٍ في خصوص ما إذا كانت المندوحة موجودة، وقد ذهب إليه الميرزا القمّي رحمه الله.

والقائلون بعدم اعتبارها مطلقاً لهم بيانات مختلفة:

منها: ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله، وهو أنّ المهمّ المبحوث عنه في المقام هو استحالة اجتماع الأمر والنهي من ناحية وحدة المتعلّق وتعدّده وأنّه هل يستلزم الاجتماع، التكليف المحال أو لا؟

(والمراد من «التكليف المحال» هو عدم تمشّي الإرادة للمولى بالإضافة إلى مورد الاجتماع) وهو غير «التكليف بالمحال» الذي معناه التكليف بما لا يطاق، واعتبار وجود المندوحة وعدمه مرتبط به (أي بالتكليف بالمحال) حيث إنّه إذا لم توجد المندوحة يلزم التكليف بما لا يطاق وإذا وجدت المندوحة فلا يلزم ذلك، فاعتبار هذا القيد غير لازم.

ولكن يرد عليه: أنّه لا دليل على اختصاص محلّ النزاع بلزوم التكليف المحال وعدمه ودورانه مداره، فإنّ عنوان البحث عامّ والتعبير ب «هل يجوز اجتماع ...» أي التعبير بالإمكان وعدم الإمكان يعمّ الإمكان من ناحية التكليف المحال، والإمكان من ناحية التكليف بالمحال.

ومنها: ما ذهب إليه في تهذيب الاصول من عدم اعتبار قيد المندوحة سواءً كان النزاع صغرويّاً، أي كان البحث في أنّ تعدّد العنوان هل يرفع غائلة اجتماع الضدّين أو لا؟ أو كان النزاع كبرويّاً وكان محطّ البحث جواز اجتماع الأمر والنهى على عنوانين متصادقين على

واحد، وحيث إنّ مختاره في المقام هو كبرويّة النزاع، فإليك نصّ كلامه بناءً على هذا الفرض:

انوار الأصول، ج 1، ص: 520

«أنّه إن اريد بقيد المندوحة حصول المندوحة لكلّ واحد من المكلّفين فهو غير لازم لأنّ البحث في جواز تعلّق الحكمين الفعليين على عنوانين ولا يتوقّف ذلك على المندوحة لكلّ واحد منهم لأنّ الأحكام المتعلّقة على العناوين لا تنحلّ إلى إنشاءات كثيرة حتّى يكون الشرط تمكّن كلّ فرد بالخصوص. وإن اريد بقيد المندوحة كون العنوانين ممّا ينفكّان بحسب المصداق في كثير من الأوقات وإن لم يكن كذلك بحسب حال بعض المكلّفين فاعتبار المندوحة وإن كان لازماً في هذه المسألة لكن لا يحتاج إلى تقييد البحث به فإنّ تعلّق الحكم الفعلي بعنوان ملازم لمنهي عنه فعلًا ممّا لا يمكن، للغويّة الجعل على العنوانين بل لا بدّ للجاعل من ترجيح أحد الحكمين على الآخر أو الحكم بالتخيير مع عدم الرجحان فتقييد العنوان بالمندوحة غير لازم على جميع التقادير» «1».

أقول: قد مرّ في الأبحاث السابقة الإشكال في ما اختاره من المبنى الذي بنى عليه كثيراً من المباحث، وهو أنّ المخاطب في الخطابات القانونيّة إنّما هو الأفراد الموجودة في الخارج لا العنوان، حيث إنّ العناوين إشارات إلى الخارج، والواضع وضعها والمقنّن المشرّع يستخدمها للإشارة إلى الخارج والعبور إليه، وعليه فلا إشكال في اعتبار قيد المندوحة كما يستفاد من مطاوي كلماته، نعم لو قبلنا مبناه المعروف في الخطابات القانونيّة فلا إشكال في ما تبنّاه عليه، وهو عدم اعتبار قيد المندوحة، ولكنّه مبنى غير صحيح.

ومنها: ما أفاده في المحاضرات من أنّ توهّم اعتبار قيد المندوحة في محلّ النزاع خاطى ء جدّاً وغير مطابق للواقع قطعاً، والوجه في ذلك ما تقدّم من أنّ النزاع في

المسألة إنّما هو في سراية النهي من متعلّقه إلى ما تعلّق به الأمر وبالعكس وعدم سرايته، وقد سبق أنّ القول بالامتناع يرتكز على أحد أمرين:

الأمر الأوّل: كون المجمع في مورد التصادق والاجتماع واحداً (أي يكون التركيب بين العنوانين اتّحاديّاً).

الأمر الثاني: الالتزام بسراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الملازم الآخر (وإن كان التركيب بين العنوانين انضماميّاً) ومن الواضح جدّاً أنّه لا دخل لوجود المندوحة في ذلك أبداً

انوار الأصول، ج 1، ص: 521

(لأنّ اعتبار قيد المندوحة وعدمه أمر مربوط بمقام الامتثال والإثبات، وهذان الأمران.

وبتعبير آخر: وقوع التعارض بين دليلي الوجوب والحرمة في مورد الاجتماع وعدمه أمر مربوط بمقام الجعل والثبوت)، ثمّ قال في ذيل كلامه: نعم- بناءً على الجواز وعدم السراية- إذا لم تكن مندوحة فلا محالة تقع المزاحمة بينهما لعدم تمكّن المكلّف وقتئذٍ من امتثال كليهما معاً فيكون تكليف المكلّف بامتثال كلا التكليفين معاً من التكليف بالمحال، فإذن لا بدّ من الرجوع إلى مرجّحات باب المزاحمة، فيقدّم أحدهما على الآخر لمرجّح أن كان، وإلّا فهو مخيّر بين أن يصرف قدرته في امتثال هذا وإن يصرف قدرته في امتثال ذاك، فعدم المندوحة في البين يوجب وقوع التزاحم بين التكليفين على القول بالجواز في المسألة لا أنّه يوجب عدم صحّة النزاع فيها كما هو ظاهر» «1».

أقول: إنّ روح كلامه يرجع إلى مقالة المحقّق الخراساني رحمه الله في المقام من أنّ محلّ البحث هو التكليف المحال لا التكليف بالمحال، والنكتة المضافة في كلامه إنّما هو ما ذكره في الذيل من «أنّ عدم المندوحة يوجب دخول المسألة في باب التزاحم بناءً على الجواز لا أنّه يوجب عدم صحّة النزاع فيها» ولكن الإنصاف أنّ هذا بنفسه اعتراف من جانبه باعتبار قيد المندوحة

في محلّ النزاع لأنّه إذا لم تكن في البين مندوحة لا يمكن القول بجواز الاجتماع لأنّ من الواضحات وقوع التزاحم بين الحكمين ولزوم تقديم أحدهما على الآخر في فرض وجود مرجّح، والتخيير بينهما في فرض عدم وجود المرجّح، وهذا ما اعترف به المحقّق الخراساني رحمه الله أيضاً في ذيل كلامه بقوله: «نعم لا بدّ من اعتبارها في الحكم بالجواز فعلًا لمن يرى التكليف بالمحال محذوراً» حيث إنّ المعنون في عنوان المسألة إنّما هو جواز اجتماع الأمر والنهي الفعليين، ولا إشكال في عدم كون أحد الحكمين فعليّاً في صورة فقدان المندوحة ووقوع التزاحم، لأنّه تكليف بالمحال، فالحقّ اعتبار قيد المندوحة في محلّ النزاع.

وأمّا القول بالتفصيل بين ما إذا كان الاجتماع بسوء الاختيار وما إذا لم يكن بسوء الاختيار فسيأتي أنّه أيضاً خاطى ء، لأنّ المولى لا يكلّف بما لا يطاق سواء كان عدم الطاقة والقدرة بسوء اختيار المكلّف أو لم يكن.

الأمر السابع: في ابتناء النزاع في هذه المسألة على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع دون الأفراد وعدمه.

وفيه ثلاثة أقوال:

القول الأوّل: ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمه الله من أنّه لا ربط بين المسألتين.

القول الثاني: القول بوجود الربط بينهما ببيانين:

أحدهما: أنّ النزاع في الجواز والامتناع مبني على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع، وأمّا على القول بتعلّقها بالافراد فلا محيص عن الامتناع، ضرورة لزوم تعلّق الحكمين بواحد شخصي حينئذٍ.

ثانيهما: أنّ الجواز مبني على القول بتعلّق الأحكام بالطبائع لتعدّد متعلّق الأمر والنهي ذاتاً حينئذٍ وإن إتّحد وجوداً، والقول بالامتناع على القول بتعلّق الأحكام بالافراد لاتّحاد متعلّق الحكمين حينئذٍ شخصاً وخارجاً.

القول الثالث: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله وفي تهذيب الاصول من التفصيل بين التفاسير المتصوّرة في تلك المسألة وإنّ الابتناء موجود بناءً على بعض التفاسير وغير موجودة على بعضها الآخر وسيوافيك بيانه إن شاء اللَّه تعالى.

أمّا

القول الأوّل: فبيانه واضح، لأنّ القائل به يدّعي أنّ النزاع في المقام يرتكز على أنّ تعدّد العنوان هل يوجب تعدّد المعنون أو لا؟ من دون فرق بين أن يتعلّق الأحكام بالطبائع أو بالافراد، لأنّه إذا تعلّق الحكم بالفرد فالبرغم من كونه واحداً في بدو النظر ولكنّه إذا كان له عنوانان وقلنا بأنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون يصير المتعلّق متعدّداً فيقع النزاع في جواز الاجتماع وامتناعه.

وأمّا القول بالتفصيل فقال المحقّق النائيني رحمه الله ما حاصله: أنّ النزاع في تلك المسألة إن كان مبنيّاً على وجود الطبيعي وعدمه فلا تبتني على ذلك مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي بل إنّ للبحث عن المسألة مجالًا سواء قلنا بوجود الكلّي الطبيعي أو لم نقل، غايته أنّه بناءً على عدم وجود الطبيعي يكون المتعلّق للأحكام هو منشأ الانتزاع، ويجري فيه ما يجري على القول بوجود الطبيعي من كون الجهة تقييديّة أو تعليلية وأنّ التركيب اتّحادي أو انضمامي، لوضوح أنّ انتزاع الصّلاة لا بدّ أن يكون لجهة غير جهة انتزاع الغصب، ولكن يبعد أن يكون النزاع انوار الأصول، ج 1، ص: 523

هناك مبنيّاً على وجود الطبيعي وعدمه، إذ الظاهر أنّ من يقول بتعلّق الأحكام بالافراد لا ينكر وجود الطبيعي، بل الذي يمكن أن يكون محلّ النزاع على وجه يرجع إلى أمر معقول هو أن يكون النزاع في سراية الأمر بالطبيعة إلى الخصوصيّات ولو على النحو الكلّي، أي خصوصيّة ما بحيث تكون الخصوصيّة داخلة تحت الطلب تبعاً، فالقائل بتعلّق الأحكام بالافراد يدّعي السراية والتبعيّة والقائل بتعلّق الأحكام بالطبائع يدّعي عدم السراية، فلو كان النزاع هناك على هذا الوجه فألحق أنّ مسألة اجتماع الأمر والنهي تبتني على ذلك» «1».

هذا هو إجمال ما أفاده المحقّق

النائيني رحمه الله، وأمّا في تهذيب الاصول فقد ذكر لمسألة تعلّق الأحكام بالطبائع أو الأفراد تفاسير ستّة، وقال بعدم وجود الربط بين المسألتين بناءً على اثنين منها، ووجود الربط بينهما بناءً على الأربعة الاخرى «2». وتشابه مقالته مقالة المحقّق النائيني رحمه الله من بعض الجهات فلا بأس بتركها.

أقول: الصحيح هو التفصيل المزبور، لأنّه بناءً على التفسير الأوّل (وهو كون النزاع في تلك المسألة مبنيّاً على وجود الطبيعي وعدمه) وإن كانت الأحكام تتعلّق بالافراد (التي هي منشأ لانتزاع الكلّي الطبيعي) ولكنّها تتعلّق بها مجرّدة عن الخصوصيّات الفرديّة في الخارج، فيمكن حينئذٍ أن يكون الفرد معنوناً بعنوانين ويصحّ النزاع في جواز الاجتماع وعدمه، فلا تبتني مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي على مسألة تعلّق الأحكام بالطبائع أو الأفراد، لأنّه حتّى بناءً على تعلّقها بالافراد أيضاً يتصوّر جواز الاجتماع كما يتصوّر امتناعه، فيتصوّر جريان النزاع في الجواز وعدمه على كلا القولين.

وأمّا بناءً على التفسير الثاني (وهو كون النزاع في تلك المسألة في سراية الأمر بالطبيعة إلى الخصوصيّات بحيث تكون الخصوصيّة أيضاً داخلة تحت الطلب) فالربط بين المسألتين واضح، فيصحّ النزاع بناءً على تعلّقها بالطبائع ولا إشكال فيه، ولا يصحّ بناءً على تعلّقها بالافراد بل من الواضح حينئذٍ القول بالامتناع لأنّ المفروض حينئذٍ أنّ الأحكام تعلّقت بالخصوصّيات والتشخّصات الفرديّة أيضاً، وهي لا يمكن أن تصير مجمعاً لعنوانين.

إن قلت: بناءً على القول بتعلّق الأوامر بالافراد ولحاظ الخصوصيّات الفرديّة إنّما تلاحظ

انوار الأصول، ج 1، ص: 524

الخصوصيّات التكوينيّة الخارجيّة فحسب نظير خصوصيّة الكمّ والكيف والزمان والمكان لا الخصوصيّات الاعتباريّة التشريعيّة نظير خصوصيّة الإباحة والغصب، وحينئذٍ يمكن الجمع بين الأمر بالصّلاة في الدار المغصوبة والنهي عن الغصب لأنّ المفروض حينئذٍ أنّ خصوصيّة الغصب ليست داخلة

تحت الطلب.

قلنا: المهمّ في المقام أنّ الحركة الخارجيّة المقيّدة بهذا المكان وذاك الزمان (وهو أمر تكويني) صارت مطلوبة ومحبوبة بتعلّق الأمر الصلاتي بها، فكيف تصير نفس تلك الحركة مبغوضة بتعلّق النهي بها؟ وبعبارة اخرى: حركة خاصّة واحدة تكوينيّة صارت متعلّقة حينئذٍ للأمر والنهي معاً، وهو المراد من المستحيل في المقام.

إن قلت: لا إشكال في أنّ الخصوصيّات الفرديّة في جانب الأمر بناءً على تعلّق الأوامر بالافراد تكون مطلوبة على نحو التخيير، ولازمه أن تصير خصوصيّة الغصب المنهي عنها تعييناً مطلوبة للمولى في مورد اجتماع العنوانين تخييراً، ولا منافاة بين الأمر التخييري والنهي التعييني.

قلنا: قد مرّ أنّه لا فرق في امتناع الاجتماع بين أن يكون الأمر والنهي كلاهما تعيينيين أو تخييريين أو كان أحدهما تعيينياً والآخر تخييريّاً، أي أنّ الامتناع يتصوّر في التخييريين فضلًا عن ما إذا كان أحدهما تعيينياً والآخر تخييريّاً.

إن قلت: بناءً على تعلّق الأمر بالافراد تكون الخصوصيّات أيضاً مطلوبة ولكن تبعاً لا استقلالًا، لأنّ الأمر بالطبيعة- كما صرّح به المحقّق النائيني رحمه الله- يسري إلى الخصوصيّات ولو على النحو الكلّي أي خصوصيّة ما، بحيث تكون الخصوصيّة داخلة تحت الطلب تبعاً.

وبعبارة اخرى: إنّه يسري إلى الخصوصيّات من باب أنّ وجود المأمور به في الخارج لا يكون منفكّاً عنها، وهذا بخلاف النهي فإنّه يتعلّق بخصوصيّة الغصب أصالةً واستقلالًا، ولا منافاة بين الأمر التبعي والنهي الأصلي الاستقلالي.

قلنا: إنّ الأمر والنهي لا يجتمعان في خصوصيّة واحدة سواء كانا أصليين أو تبعيين أو مختلفين، لأنّه على أيّ حال تصير الخصوصيّة مطلوبة للمولى فعلًا، والمطلوبيّة الفعليّة لا تجتمع مع المبغوضيّة الفعليّة من أيّ منشأ نشأت المطلوبيّة.

ولكن والإنصاف أنّه مع ذلك كلّه يمكن أن يقال أنّه لا ربط بين المسألتين مطلقاً،

لأنّه بناءً

انوار الأصول، ج 1، ص: 525

على تعلّق الأوامر بالافراد وتعلّقها بالخصوصّيات الفرديّة كخصوصيّة الغصب يمكن للقائل بجواز الاجتماع أن يدّعي أنّ الحركة الخاصّة في الدار المغصوبة معنونة بعنوانين، وتعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون، وحينئذ يمكن جواز الاجتماع كما يمكن امتناعه، فيصحّ النزاع في الجواز والامتناع.

وإن شئت قلت: الموجود في الخارج هو الحركة الخاصّة الواقعة في دار الغير، وأمّا المبغوضيّة أو عدمها فهي من باب الأحكام، وكذلك عنوان الغصب فإنّه أمر انتزاعي ذهني أو اعتباري، ومن الواضح أنّ الحركة الخاصّة تكون محلّ الانطباق لعنوان الغصب والصّلاة، فتدبّر.

الأمر الثامن: في اعتبار وجود الملاكين في المجمع

يعتبر في باب الاجتماع أن يكون كلّ واحد من الأمر والنهي واجداً للملاك والمناط، فلو كان كلّ من المناطين موجوداً في المجمع فهو من باب اجتماع الأمر والنهي في شي ء واحد، وحينئذٍ يكون المجمع محكوماً بكلا الحكمين بناءً على مبنى الجواز، ويدخل في باب التزاحم بناءً على الامتناع، وأمّا إذا كان أحد المناطين فقط موجوداً فيه دون الآخر، أو لم يوجد شي ء من المناطين فهو محكوم بحكم آخر ولا يكون من باب الاجتماع.

والمراد من وجود الملاكين كما سيأتي أعمّ من وجود المصلحة أو كونه جامعاً لجميع شرائط الفعليّة مع قطع النظر عن المزاحمة.

هذا بحسب مقام الثبوت، وأمّا مقام الإثبات: فحاصل ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله فيه أنّه تارةً: يحرز أنّ المناط من قبيل الثاني، بمعنى أنّ أحد المناطين بلا تعيين موجود فيه دون الآخر، وفي هذه الصورة الدليلان الدالّان على الحكمين متعارضان بالنسبة إلى المجمع على كلّ من الجواز والامتناع، ولا بدّ من علاج المعارضة حينئذٍ بينهما بالترجيح أو التخيير، واخرى: يحرز أنّ المناط من قبيل الأوّل، بمعنى أنّ كلًا من المناطين موجود في المجمع، وفي هذه الصورة

يكون الدليلان متزاحمين بالنسبة إلى المجمع، فربّما كان الترجيح مع ما هو أضعف دليلًا لكونه أقوى مناطاً، ولكن التزاحم إنّما هو على الامتناع وإلّا فعلى الجواز لا تعارض ولا تزاحم أصلًا، لعدم التنافي بينهما باعتقاد المجوّز، فيعتبر في دخول المجمع في باب الاجتماع عنده وجود الملاكين فيه.

انوار الأصول، ج 1، ص: 526

ولكن قد أنكر عليه جماعة من أعاظم المتأخّرين فلم يعتبروا هذا الشرط ونحن ننقل هنا بعض كلماتهم في المقام:

قال في المحاضرات ما حاصله: إنّ النزاع في مسألتنا هذه لا يرتكز على وجهة نظر مذهب الاماميّة القائلين بتبعيّة الأحكام للملاكات الواقعيّة والجهات النفس الأمريّة، بل يعمّ وجهة نظر جميع المذاهب حتّى مذهب الأشعري المنكر للتبعيّة، هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى أنّ النزاع في المسألة في سراية النهي من متعلّقه إلى ما ينطبق عليه المأمور به وعدم سرايته، والقول بالسراية يبتني على أحد الأمرين: الأوّل أن يكون المجمع واحداً وجوداً وماهيّة، الثاني أن لا يختلف اللازم عن الملزوم في الحكم، بمعنى أنّ الحكم الثابت له لا يسري إلى لازمه، وبانتفاء أحدهما ينتفي هذا القول، ولا إشكال أنّ هذه المسألة أجنبية عن مسألة تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد «1».

وقال في تهذيب الاصول بما يكون في الواقع كتكملة لبيان المحاضرات حيث قال:

«التحقيق عدم ابتناء النزاع في المقام على إحراز المناط في متعلّقي الإيجاب والتحريم، أمّا على القول بأنّ النزاع صغروي والبحث راجع إلى أنّ تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون أو لا فواضح، لأنّ اشتمالهما على المناط وعدمه لا دخل له في أنّ تعدّد العنوان هل يوجب تعدّد المعنون أو لا، وأمّا على ما حرّرناه من أنّ النزاع كبروي وأنّ البحث في أنّ الأمر والنهي هل يجوز اجتماعهما في عنوانين

متصادقين على واحد أو لا، فالأمر أوضح لأنّ إحراز المناط ليس دخيلًا في الإمكان وعدمه بل لا بدّ من أخذ القيود التي لها دخل تامّ في إثبات الإمكان والامتناع» «2».

أقول: الحقّ هو اعتبار ما اعتبره المحقّق الخراساني رحمه الله من وجود الملاكين في المجمع، حيث إنّ مراده من وجود الملاك إنّما هو كون كلّ واحد من الدليلين تامّ الاقتضاء بالنسبة إلى المجمع، أي لم يكن لفعليته في المجمع أي نقصان، وبعبارة اخرى: يكون كلّ واحد من الحكمين- مع قطع النظر عن اجتماعهما فعلًا- واجداً لجميع شرائط الفعليّة، ولا إشكال في أنّ النزاع في باب الاجتماع إنّما هو في جواز اجتماع الحكمين الفعليين لا غير.

انوار الأصول، ج 1، ص: 527

إن قلت: من شرائط الفعليّة إباحة مكان المصلّي مثلًا في مثال الصّلاة في الدار المغصوبة، ومع وجود هذا الشرط لا معنى للاجتماع.

قلنا: المقصود من شرائط الفعليّة إنّما هي ما يكون شرطاً مع قطع النظر عن هذه المسألة ولا دليل على اشتراط إباحة مكان المصلّي كذلك (أي مع قطع النظر عن مسألة اجتماع الأمر والنهي) من آية أو رواية أو إجماع يكون حجّة.

الأمر التاسع: في بيان ما يحرز به المناطان في المجمع

لا إشكال في أنّه بحث صغروي بالنسبة إلى سابقه، فنقول: يمكن إحراز الملاك وكشف المناط من طرق ثلاثة:

الطريق الأول: الإجماع كما إذا قام الإجماع على عدم إستثناء مورد من موارد الغصب وأنّه حرام حتّى بالنسبة إلى مكان المصلّي، كما أنّه كذلك، حيث إنّه لا دليل لفظيّاً على اعتبار إباحة مكان المصلّي بل الإجماع قام على عدم الإستثناء في حرمة الغصب، وهذا لا ينافي ما مرّ في الأمر السابق من عدم وجود دليل على اشتراط إباحة مكان المصلّي من آية أو رواية أو إجماع، فإنّ الكلام هنا

في عموم دليل الغصب لا في اشتراط الصّلاة بعدمه.

الطريق الثاني: إطلاق الدليلين، وفيه تفصيل من المحقّق الخراساني رحمه الله وحاصله: أنّ الإطلاقين إن كانا لبيان الحكم الاقتضائي فهما محرزان للملاكين في المجمع، وإن كانا بصدد بيان الحكمين الفعليين فإن قلنا بجواز الاجتماع فهما أيضاً محرزان لهما لعدم التنافي بينهما، وإن قلنا بالامتناع فالإطلاقان متنافيان، أي متعارضان فيسقط كلاهما عن الفعليّة، فلا يثبت بهما المناطان جميعاً حيث إنّ عدم الفعليّة كما يحتمل أن يكون لوجود المانع مع وجود المقتضي يحتمل أيضاً أن يكون لعدم المقتضي فلا يحرز حينئذٍ المناط، لكنّه رجع عنه أخيراً بقوله «إلّا أنّ قضيّة التوفيق بينهما هو حمل كلّ منهما على الحكم الاقتضائي» فجعل عدم تلائمهما في مقام الفعليّة قرينة على أنّ كليهما في مقام بيان الحكم الاقتضائي فيثبت بهما المناطان في هذه الصورة أيضاً.

أقول: إنّ مقصوده من اقتضائيّة الحكم ما مرّ في الأمر السابق من حال الحكم مع قطع النظر عن حال الاجتماع في المجمع، أي يكشف الحكم عن المناط والملاك إذا جمع فيه جميع شرائط

انوار الأصول، ج 1، ص: 528

الفعليّة وكان اقتضائه تامّاً مع قطع النظر عن حال الاجتماع، وإلّا لو كان ناظراً إلى حال الاجتماع أيضاً لزم التفصيل بين القول بالامتناع والقول بالجواز واختصاص كشف المناطين بمبنى القائلين بالجواز فقط كما لا يخفى.

وبهذا يردّ ما أورد عليه المحقّق النائيني رحمه الله (وتبعه في المحاضرات) «بأنّ الحكم قبل وجود موضوعه خارجاً يكون إنشائيّاً ثابتاً لموضوعه المقدّر وجوده وبعد وجود موضوعه خارجاً يستحيل أن لا يكون فعلياً فكون الحكم في محلّ الاجتماع فعليّاً مرّة واقتضائيّاً مرّة اخرى غير معقول» «1».

فإنّ مقصود المحقّق الخراساني رحمه الله من الاقتضاء ليس هو مرحلة الإنشاء من الحكم

بل المراد كما مرّ كون كلّ واحد من الحكمين واجداً لجميع شرائط الفعليّة مع قطع النظر عن حال الاجتماع في المجمع وعدم كون أحدهما كذباً فاقداً للملاك.

وإن شئت قلت: إنّ مقصوده من كون الإطلاق في مقام بيان الحكم الاقتضائي كونه في مقام بيان حكم الطبيعة بما هي هي مع قطع النظر من طروّ الطوارى ء من المزاحمات وغيرها، كما أنّ مقصوده من كونه في مقام بيان الحكم الفعلي كونه بصدد بيان حكم الطبيعة مع طروّ الطوارى ء.

الطريق الثالث: الاصول العمليّة فيما إذا لم يكن إطلاق للدليلين حيث إنّ الأصل الجاري حينئذٍ إنّما هو البراءة عن اشتراط إباحة المكان في الصّلاة ولازمه عدم نقصان للدليل بالنسبة إلى المجمع من ناحية جامعيته للشرائط.

إن قلت: أكثر ما يثبت بأصالة البراءة هو كون المكلّف معذوراً ولا يكشف به الملاك والمصلحة.

قلنا: ليس المراد من المناط الذي إشترط وجوده في المجمع خصوص المصلحة بل هو أعمّ منها ومن كون كلّ واحد من الأمر والنهي جامعاً لشرائط التنجيز وتامّ الاقتضاء، وهذا يحصل بعد جريان البراءة، مضافاً إلى أنّ المصلحة أيضاً موجودة هنا بناءً على بعض المباني وهو مبنى القائلين بالمصلحة السلوكيّة أي وجود المصلحة في سلوك المكلّف على وفق أصالة البراءة.

الأمر العاشر: في ثمرة بحث الاجتماع

وقد ذكر لها المحقّق الخراساني رحمه الله في الكفاية خمسة صور:

الصورة الاولى: ما إذا قلنا بالجواز، فلا إشكال حينئذٍ في أنّ الإتيان بالمجمع يوجب سقوط الأمر وحصول الامتثال سواء كان العمل تعبّديّاً أو توصّلياً وسواء كان الفاعل عالماً أو جاهلًا، نعم إتيان العالم عصيان للنهي.

الصورة الثانيّة: ما إذا قلنا بالامتناع مع ترجيح جانب الأمر، فلا إشكال أيضاً في وقوع الامتثال بالنسبة إلى الأمر والعصيان بالنسبة إلى النهي.

الصورة الثالثة: ما إذا قلنا بالامتناع مع

ترجيح جانب النهي وكان الواجب توصّلياً فيكون العمل حينئذٍ صحيحاً مع حصول العصيان كغسل ثوبه بالماء الغصبي للصّلاة.

الصورة الرابعة: ما إذا قلنا بالامتناع مع ترجيح جانب النهي وكان الواجب تعبّديّاً مع كون الفاعل جاهلًا معذوراً كالجاهل في الموضوعات مطلقاً لعدم وجود الفحص فيها وكالجاهل القاصر في الحكم، ففي هذه الصورة يقع العمل أيضاً صحيحاً لأنّه لا فعليّة للنهي بالنسبة إلى الجاهل المعذور.

إن قلت: لا فعلية للأمر أيضاً بالنسبة إلى الجاهل لأنّ المفروض هو الامتناع وترجيح جانب النهي.

قلنا: المفروض أيضاً وجود الملاك لكلّ من الأمر والنهي، ولا إشكال في أنّ قصد الملاك كقصد الأمر كافٍ في صحّة العمل، كما أنّه يكفي قصد الأمر المتعلّق بطبيعة المأمور به الموجودة ضمن سائر الأفراد غير المجمع.

الصورة الخامسة: ما إذا قلنا بالامتناع مع ترجيح جانب النهي وكان الفعل تعبّديّاً والفاعل مقصّراً، ففي هذه الصورة يقع العمل باطلًا لأنّه مع تقصيره لا يحصل التقرّب بالعمل، ومعه لا يكاد يحصل به الغرض المطلوب من العبادة. (انتهى).

أقول: يمكن أن يقال بفساد العمل في الصورة الاولى أيضاً لأنّه وإن كان العنوان متعدّداً، وبتعدّده تعدّد المعنون على مبنى الجواز ولكن لا حسن للعمل العبادي فعلًا ولا فاعلًا إذا انطبق عليه عنوان محرّم، ومعه لا يحصل التقرّب ولا يسقط الأمر.

أمّا عدم حسنه الفعلي فلأنّ المفروض أنّ العنوانين- وهما عنوان الصّلاة وعنوان الغصب-

انوار الأصول، ج 1، ص: 530

متلازمان في المجمع كمال الملازمة، فتسري مبغوضيّة أحدهما إلى الآخر عند العرف والعقلاء، فلا يمكن التقرّب به، بل هذا ثابت حتّى في بعض المقارنات الخارجيّة، وهذا ما ندركه بوجداننا العرفي العقلائي فيمن يعصي اللَّه بسمعه أو لسانه في مجلس الذكر أو مجلس إقامة العزاء لأبي عبداللَّه عليه السلام فنحكم بعدم كون

عمله مقرّباً إلى اللَّه وأنّه لا يمكن له أن يقول: «إنّي أتقرّب بهذا العمل إلى اللَّه» ولذلك قلنا في محلّه ببطلان الصّلاة إذا تقارنت مع المعاصي الكبيرة التي يحكم العرف بعدم كونها مقرّبة إلى اللَّه في ذلك الحال حتّى على مبنى جواز الاجتماع بحسب حكم العقل، فإنّ الدقّة العقليّة غير كافية في هذه المباحث، وسيأتي من المحقّق البروجردي رحمه الله ضمن بيان أدلّة المجوّزين أنّ المبعّد لا يكون مقرّباً فانتظر.

وللمحقّق النائيني رحمه الله في هذا المجال بيان لبطلان الصّلاة فيما إذا كان المكلّف عالماً بالحرمة على القول بالجواز (أي نفس الصورة الاولى في المسألة) وحاصله على حكاية تلميذه المحقّق في المحاضرات: إنّ منشأ اعتبار القدرة في التكليف إنّما هو اقتضاء نفس التكليف ذلك لا حكم العقل بقبح تكليف العاجز، والوجه في ذلك هو أنّ الغرض من التكليف حيث إنّه كان جعل الداعي للمكلّف نحو الفعل فمن الواضح أنّ هذا بنفسه يقتضي كون متعلّقه مقدوراً، ضرورة استحالة جعل الداعي نحو الممتنع عقلًا وشرعاً، ونتيجة ذلك هي أنّ متعلّقه حصّة خاصّة من الطبيعة- وهي الحصّة المقدورة عقلًا وشرعاً وهي الصّلاة في غير المكان المغصوب، وأمّا الصّلاة في المكان المغصوب فهي خارجة عن متعلّقه ولا تكون مصداقاً للمأمور به وفرداً له فإنّها وإن لم تكن متّحدة مع الحرام في الخارج إلّاأنّها ملازمة له خارجاً، فلأجل ذلك لا تكون مقدورة شرعاً وإن كانت مقدورة عقلًا، والمفروض أنّ الممنوع الشرعي كالممتنع العقلي فلا يمكن الحكم بصحّة العبادة في مورد الاجتماع بناءً على القول بالجواز وتغاير متعلّق الأمر والنهي فضلًا عن غيره «1». (انتهى).

وهذا الكلام يرجع إلى ما ذكرنا من بعض الجهات.

الأمر الحادي عشر: في توقّف النزاع في باب الاجتماع على تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد وعدمه
اشارة

والحقّ في هذه المقدّمة ما ذهب إليه المحقّق النائيني

رحمه الله من عدم التوقّف، لأنّ النزاع في ما نحن فيه مرتكز على تضادّ الأحكام وعدمه أوّلًا، وعلى أنّ التركيب في مورد الاجتماع انضمامي أو اتّحادي ثانياً، فمن قال بتضادّ الأحكام أو كان يرى أنّ الحيثيتين في مورد الاجتماع تعليليتان وأنّ التركيب اتّحادي ذهب إلى امتناع الاجتماع وإن إلتزم بكون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد كالأشعري، كما أنّ من لم يقل بتضادّ الأحكام أو كان يرى أنّ الحيثيتين تقييديتان وأنّ التركيب انضمامي ذهب إلى جواز الاجتماع ولو كان ممّن يلتزم بتبعيتها لها «1».

الأقوال في المسألة

إلى هنا تمّ ما أردنا ذكره من المقدّمات.

إذا عرفت هذا فلنشرع في نقل الأقوال في المسألة فنقول: المهمّ فيها قولان: القول بالامتناع مطلقاً، والقول بالجواز مطلقاً، والأوّل منسوب إلى المشهور ولكن المحقّق البروجردي رحمه الله قد أنكر هذه النسبة بدعوى أنّها نشأت من قول المشهور بفساد الصّلاة في الدار الغصبي مع أنّه لا يكشف عن كونهم قائلين بالامتناع لأنّ القول بجواز اجتماع الأمر والنهي في مقام توجّه الخطاب لا يستلزم القول بالصحّة في مقام الامتثال حتّى يقال إنّ كلّ من قال بعدم الصحّة في مقام الامتثال قال بالامتناع في مقام الخطاب بل يمكن أن يقال ببطلان الصّلاة لأنّ المبعّد ليس مقرّباً (كما هو المختار) وإن كان المبنى في المسألة الاصوليّة هو الجواز نعم، مع الجهل أو النسيان يقع العمل صحيحاً لعدم ابتلائه في الحالين بما هو مبغوض وإن قلنا بالامتناع «2».

وكيف كان، فقد استدلّ المحقّق الخراساني رحمه الله على الامتناع بما يتشكّل من مقدّمات أربع:

المقدمة الاولى: أنّ الأحكام متضادّة في مقام الفعليّة وهي مقام البعث والزجر، وإن لم يكن بينها تضادّ في مقام الاقتضاء والإنشاء.

انوار الأصول، ج 1، ص: 532

المقدمة الثانية: أنّ متعلّق الأحكام

هو فعل المكلّف الخارجي لا ما هو اسمه وعنوانه لأنّ الأحكام إنّما تتعلّق بحقيقة الشي ء وواقعه وما يترتّب عليه الخواص والآثار، والاسم والعنوان إنّما يؤخذ في لسان الدليل لأجل الإشارة بهما إلى المسمّى والمعنون.

المقدمة الثالثة: أنّ تعدّد العنوان لا يوجب تعدّد المعنون ولا تنثلم وحدة المعنون، بتعدّد العنوان والشاهد على ذلك صدق الصفات المتعدّدة على الواجب تبارك وتعالى مثل كونه حيّاً عالماً قادراً إلى غير ذلك من الصفات مع أنّه واحد أحد بسيط من جميع الجهات، فإذا كانت الصفات المتعدّدة تصدق على الواحد البسيط من جميع الجهات ولا ينافي ذلك وحدته وعدم تعدّده، فكذلك تصدق على غيره ممّا ليس كذلك بطريق أولى.

المقدمة الرابعة: أنّه لا يكاد يكون لوجود واحد إلّاماهية واحدة ويستحيل تغاير الوجود وماهيته في الوحدة والتعدّد، فالمجمع وإن تصادق عليه متعلّقاً الأمر والنهي إلّاأنّه كما يكون واحداً وجوداً يكون واحداً ماهية وذاتاً، فلا فرق في امتناع الاجتماع بين القول بأصالة الوجود والقول بأصالة الماهية، كما أنّ العنوانين المتصادقين على المجمع ليسا من قبيل الجنس والفصل كي يبتني الجواز والامتناع على تمايزهما وعدمه.

ثمّ استنتج من هذه المقدّمات امتناع الاجتماع وقال: إذا عرفت ما مهّدناه عرفت أنّ المجمع حيث كان واحداً وجوداً وذاتاً كان تعلّق الأمر والنهي به محالًا، ثمّ أشار إلى بعض أدلّة المجوّزين ثمّ أجاب عنه ونحن نذكره هنا تحت عنوان «إن قلت، قلت» بمزيد توضيح:

إن قلت: إنّ الأمر قد تعلّق بطبيعة الصّلاة والنهي بطبيعة الغصب، والطبيعة بما هي هي وإن لم تكن متعلّقة للطلب، ولكنّها بما هي مقيّدة بالوجود (بحيث كان القيد خارجاً والتقيّد داخلًا) تكون متعلّقة للطلب ولازمه أن لا يكون المتعلّق واحداً لا في مقام تعلّق البعث والزجر، وذلك لتعدّد

الطلبيتين بما هما متعلّقان لهما وإن إتّحدتا في ما هو خارج عن الطلب وهو الوجود، ولا في مقام الإطاعة والعصيان وذلك لسقوط أحدهما بالاطاعة والآخر بالعصيان، ولا إشكال في أنّ الإطاعة تحصل بطبيعة والعصيان يحصل بطبيعة اخرى، ومعه ففي أي مقام اجتماع الحكمان في واحدِ؟

قلنا: إنّ الطبيعتين المتعلّقتين للأمر والنهي كعنواني الصّلاة والغصب إنّما يؤخذان في لسان الدليل للإشارة بهما إلى المعنون، والمعنون هو أمر واحد لا يتعدّد بتعدّد العنوان.

انوار الأصول، ج 1، ص: 533

إن قلت: إنّ الأمر متعلّق بطبيعة الصّلاة، والنهي متعلّق بطبيعة الغصب، والمجمع فرد لهما، والفرد مقدّمة لوجود الطبيعي المأمور به أو المنهي عنه، فتكون الحرمة أو الوجوب المترشّح عليه من جانب الطبيعة وجوباً أو حرمة مقدّميّة غيريّة، ولا ضير في كون المقدّمة مضافاً إلى وجوبها الغيري حراماً غيريّاً في صورة عدم الانحصار بسوء الاختيار.

قلنا: إنّ الفرد هو عين الطبيعي في الخارج، وليس مقدّمة للطبيعي، وعليه فإذا تعلّق الأمر والنهي بالطبيعتين فقد تعلّقا بالمجمع. (انتهى).

أقول: لا حاجة إلى المقدّمة الرابعة مع وجود المقدّمة الثالثة، لأنّه مع كون المتعلّق هو المعنون الخارجي وكون المعنون هو الوجود لا الماهية فالمهمّ حينئذٍ في إثبات الامتناع إنّما هو كون الوجود في المجمع واحداً، ولا أثر فيه لوحدة ماهيته وتعدّدها، هذا أوّلًا.

وثانياً: إنّ البحث عن أصالة الماهية أو الوجود وعن وحدة الماهية وتعدّدها إنّما يتصوّر في الماهيات المتأصّلة الخارجيّة بينما العناوين المبحوث عنها في المقام ماهيات اعتباريّة انتزاعيّة.

وثالثاً: لا حاجة إلى المقدّمة الثالثة أيضاً لوضوحها بعد ملاحظة العناوين الانتزاعيّة لأنّ من الواضح أنّ تعدّد أمر انتزاعي ذهني لا يوجب تعدّد منشأ الانتزاع في الخارج.

فظهر أنّ العمدة في كلامه إنّما هي المقدّمتان الأوّليان، وقد أورد المحقّق البروجردي رحمه الله

في حاشيته على الكفاية على أوّليهما بأنّ «الأحكام ليست من مقولة الاعراض كما يلوح من كلام المصنّف بل إنّما تكون من مقولة الإضافات، والشاهد على ذلك أنّ الحكم يوجد قبل وجود متعلّقه، بل لا يمكن تعلّقه به بعد وجوده للزوم تحصيل الحاصل كما برهن في محلّه، لأنّ العرض لا يوجد قبل وجود معروضه بخلاف ما يكون من مقولة الإضافة فإنّه لا يحتاج إلى وجود طرفها حين انتزاعه، بل إنّما يحتاج تعلّقه إلى تعقّل طرفها كالعلم والقدرة، فإنّهما وإن كانا بالإضافة إلى العالم والقادر من مقولة العرض، ويحتاج وجود كلّ منهما إلى وجود معروضة إلّا أنّهما بالإضافة إلى المعلوم والمقدور كانا من مقولة الإضافة، وكذلك الحكم والطلب فإنّه وإن كان بالإضافة إلى الحاكم والطالب من مقولة العرض ويحتاج وجوده إلى وجوده لقيامه بالطالب قياماً صدوريّاً إلّاأنّه بالإضافة إلى المطلوب من مقولة الإضافة، ولا يحتاج تعلّقه به إلى وجوده، نعم إنّما يحتاج تعقّله إلى تعقّله ... وعليه ففي مورد تصاديق العنوانين يمكن تعلّق أحد الحكمين به بعد فرض تعلّق الآخر به، لأنّه حينئذٍ إنّما يتعلّق بالطبائع لا بما هو موجود في انوار الأصول، ج 1، ص: 534

الخارج وصادر عن المكلّف، فيصحّ أن يكون المجمع مأموراً به لا بما هو هو بل بما هو منطبق مع عنوان المأمور به، ومنهياً عنه أيضاً لا بما هو هو بل بما هو منطبق مع عنوان المنهي عنه.

ومن ذلك كلّه ظهر لك أيضاً منع المقدّمة الثانيّة فإنّ الالتزام بأنّ متعلّق الأحكام هو فعل المكلّف وما يصدر عنه في الخارج وموجوداً فيه إنّما يبتني على القول بأنّ الأحكام اعراض لا إضافات فإنّها على هذا المبنى تحتاج في تحقّقها إلى وجود المعروض وتحقّق الموضوع، وأمّا

على القول بأنّها إضافات فلا يحتاج إلى وجود الموضوع، وإذا عرفت أنّ متعلّق الحكم التحريمي غير ما يكون متعلّقاً للحكم الوجوبي حتّى في مورد التصادق والاجتماع فالقول بالجواز أقوى كما لا يخفى .... (إلى أن قال:) وإنّا إذا راجعنا إلى وجداننا في الأوامر التوصيلية والعرفيّة ونواهيها نرى الوجدان يحكم بجواز الاجتماع باعتبار إجماع ملاكهما في مورد واحد فيما إذا أمر المولى عبده بغسل ثوبه مثلًا ونهاه عن التصرّف في ملك الغير فغسله بسوء اختياره بماء مملوك للغير- يحكم الوجدان بأنّ العبد أتى بالمأمور به والمنهي عنه معاً، هذا مع أنّ النزاع في التوصّليات والتعبّديات سواء كما لا يخفى». (انتهى) «1».

أقول: الأولى في إثبات عدم وجود التضادّ بين الأحكام أن يقال: إنّ الأحكام امور اعتباريّة وهي ممّا لا تضادّ فيها لإمكان إنشاء امور مختلفة واعتبارها فإنّ الإنشاء خفيف المؤونة كما لا يخفى، نعم إنّه لا يتصوّر صدوره من الشارع الحكيم من باب اللغويّة، ولعلّ هذا هو مراد من قال بتضادّ الأحكام الخمسة، أي أنّه أيضاً يقول به من حيث المبادى ء والغايات وأنّ الإرادة والكراهة أعني الحبّ والبغض لا يجتمعان في نفس المولى بالإضافة إلى شي ء واحد- وإن اجتمعت في ذلك الشي ء جهات تقتضي الحبّ والإرادة وجهات اخرى تقتضي البغض والكراهة لأنّه بعد الكسر والانكسار وترجيح أحد الجانبين ينقدح أحدهما في نفس المولى فيوجب البعث أو الزجر.

هذا بحسب المبادى ء، وكذلك بحسب الغايات ومقام الامتثال فلا يمكن للمولى أن يقول للعبد: «تحرّك» وفي نفس الوقت يقول: «لا تتحرّك» فإنّ الامتثال حركة خاصّة خارجيّة من حيث الزمان والمكان والكمّ والكيف وسائر الخصوصيّات ولا يمكن امتثال تكليفين في آنٍ واحد.

انوار الأصول، ج 1، ص: 535

ونحن نظنّ أنّ هذا هو مراد القائلين

بتضادّ الأحكام الخمسة كما يشهد بذلك تعبيرهم بأنّ الأحكام متضادّة في مقام الفعليّة، والحاصل أنّها وإن لم تكن متضادّة بنفسها ولكن تترتّب عليها آثار التضادّ، ومن هنا يعلم وجه الإشكال في كلام سيّدنا الاستاذ المحقّق البروجردي رحمه الله، وسيأتي الإشكال في ما أورده على المقدّمة الثانيّة عند توضيح المذهب المختار.

ثمّ إنّ المحقّق النائيني رحمه الله قال في ذيل كلام المحقّق الخراساني رحمه الله بعد إيراده على المقدّمة الثالثة ما نصّه: «القول بالامتناع يبتني على كون الجهتين اللتين لا بدّ منهما في صدق المفهومين على المجمع تعليليتين ليكون التركيب اتّحاديّاً فيستحيل الاجتماع، كما أنّ القول بالجواز يبتني على كون الجهتين تقييديتين والتركيب انضمامياً فإنّه على ذلك لا يلزم محذور اجتماع الضدّين في شي ء واحد ... (إلى أن أثبت) كون التركيب في المجمع انضمامياً لا اتّحاديّاً، وعليه فلا مانع من كون أحدهما مأموراً به والآخر منهياً عنه إذ المستحيل إنّما هو توارد الأمر والنهي على محلّ واحد، وبعد إثبات أنّ التركيب انضمامي يكون متعلّق أحدهما غير متعلّق الآخر لا محالة، فيكون أحدهما متّصفاً بالوجوب محضاً والآخر متّصفاً بالحرمة كذلك ... (إلى أن قال:) ولا يفرق فيما ذكرناه من كون التركيب انضمامياً بين القول بأنّ المطلوب في الصّلاة هي الهيئة الخاصّة من الركوع والسجود والقيام لتكون المقدّمات من الهوي والنهوض خارجة عن حيّز الطلب والقول بأنّ المطلوب هي الأفعال الخاصّة إمّا مطلقاً أو بعضها كالركوع والسجود ليكون الهوي إليهما مقدّماً للمأمور به، وذلك لأنّ المأمور به على كلا التقديرين من مقولة الوضع وأمّا الغصب فهو من مقولة الأين، ويستحيل اتّحاد المقولتين في الخارج، فلا مناص عن كون التركيب بينهما في محلّ الاجتماع انضمامياً» «1».

أقول: في كلامه أيضاً مواقع

للنظر.

الموقع الأوّل: أنّه خارج عن محلّ النزاع لأنّ النزاع في عنوانين صادقين على محلّ واحد، مع أنّ لازم كلامه إمّا عدم إمكان صدق العنوانين على موضوع واحد في الخارج، أو أنّ ما يتصوّر واحداً يكون في الواقع متعدّداً وبه لا تحلّ المسألة الاصوليّة بل إنّما يرتفع الإشكال في انوار الأصول، ج 1، ص: 536

مسألة فقهيّة وهي الصّلاة في الدار المغصوبة.

الموقع الثاني: ليس الركوع والسجود من مقولة الوضع بل من مقولة الفعل، لأنّ الركوع ليس عبارة عن مجرّد الانحناء بل التحقيق أنّ الهويّ من حالة القيام أيضاً جزء للركوع كما أنّ الوقوع على الأرض أيضاً جزء للسجود (ولذلك يجب على الساجد إذا سمع آية السجدة أن يرفع رأسه من الأرض ثمّ يضعه ثانياً بنيّة سجدة الآية، ولا يكفي مجرّد الاستمرار والإبقاء في السجدة الاولى) ولا إشكال في أنّ الهويّ أو الوقوع من مقولة الفعل.

مضافاً إلى أنّ التعبير الصحيح في المقام هو حرمة التصرّف في مال الغير بغير إذنه، وهو غير عنوان الغصب، لأنّه لا يعتبر في الغصب التصرّف الخارجي في المال المغصوب بل إنّه صادق حتّى فيما إذا أخذ مفتاح دار الغير مثلًا من دون التصرّف الخارجي كما أنّ الركوب على مركب الغير مع كون لجامه بيد الغير تصرّف في مال الغير ولا يكون غصباً، فالمهمّ في ما نحن فيه هو اجتماع الصّلاة مع التصرّف في مال الغير بغير إذنه وإن لم يصدق عليه عنوان الغصب، ولا يخفى أنّ عنوان التصرّف من مقولة الفعل لا الأين.

الموقع الثالث: أنّ المبحوث عنه في كلامه من تعدّد مقولة الصّلاة والغصب بحث موضوعي مصداقي في خصوص مصداق الصّلاة في الدار المغصوبة وليس مسألة اجتماع الأمر والنهي على نحو كلّي.

هذا كلّه بالنسبة

إلى القول بالامتناع.

وأمّا القول بالجواز فحاصل ما استدلّ به في تهذيب الاصول (الذي يرجع في الحقيقة إلى المقدّمة الثانيّة من المقدّمات الأربعة لصاحب الكفاية وطريق لانكارها): أنّ القول بالجواز يبتني على أربع مقدّمات:

أوّلها: أنّ الحكم يمتنع أن يتجاوز من متعلّقه إلى مقارناته الاتفاقيّة ولوازمه الوجوديّة، واستدلّ له بقياس الإرادة التشريعيّة بالإرادة التكوينيّة.

ثانيها: أنّ حقيقة الإطلاق هي حذف القيود ورفضها لا أخذها.

ثالثها: أنّ اتّحاد الماهية اللا بشرط مع الف شرط في الوجود الخارجي لا يلزم منه حكاية المعروض عن عارضه إذا كان خارجاً من ذاتها ولاحقاً بها لأنّ حكاية اللفظ دائرة مدار الوضع منوطة بالعلقة الاعتباريّة وهو منتف في المقام.

انوار الأصول، ج 1، ص: 537

رابعها: (وهو العمدة والحجر الأساس لإثبات الجواز) أنّ متعلّق الأحكام هو الطبيعة اللابشرط المنسلخة عن كافّة العوارض واللواحق، لا الوجود الخارجي أو الإيجاد بالحمل الشائع لأنّ تعلّق الحكم بالوجود لا يمكن إلّافي ظرف تحقّقه، والبعث إلى إيجاد الموجود بعث إلى تحصيل الحاصل، وقسّ عليه الزجر لأنّ الزجر عمّا تحقّق خارجاً أمر ممتنع، ولا الوجود الذهني الموجود في ذهن الآمر لأنّه بقيد كونه في الذهن لا ينطبق على الخارج، بل متعلّق الأحكام هو نفس الطبيعة غير المقيّدة بأحد الوجودين.

ثمّ قال: إذا عرفت ما رتّبناه من المقدّمات يظهر لك أنّ الحقّ هو جواز الاجتماع (انتهى ملخّصاً) «1».

أقول: وعمدة ما يرد عليه ما مرّ كراراً من أنّ البعث والطلب وهكذا الزجر والكراهة يتعلّق بالخارج من طريق العنوان، أي إن العنوان قنطرة للعبور بها إلى الخارج فإنّ متعلّق الكراهة وتنفّر المولى في قوله «لا تشرب الخمر» إنّما هو الخمر الخارجي لا الخمر الذهني ولا الطبيعة من حيث هي هي، فإنّ الوجود الخارجي مبدأ الآثار ومنشأ المصالح والمفاسد،

وقد عرفت أنّه بمعناه المصدري ليس تحصيلًا للحاصل، نعم أنّه كذلك بمعناه اسم المصدري.

والحاصل أنّ المفاهيم الذهنيّة لا أثر لها وكذا الطبيعة لا بشرط ما لم يلبس لباس الوجود، فلا تكون متعلّقة للحبّ والبغض والأمر والنهي إلّامن باب الإشارة إلى الخارج، وليس البحث بحثاً لفظيّاً وأنّ معنى الهيئة ماذا؟ والمتعلّق ماذا؟ كما يلوح من بعض كلماته.

وأمّا مسألة الجاهل المركّب فإنّها من قبيل الخطأ في التطبيق ولا ينافي كون متعلّق الحبّ أو البغض هو الخارج، وسيأتي توضيحه في بيان المختار في المسألة فانتظر.

هذا كلّه في أدلّة الطرفين.

المختار في المسألة:

أمّا الحقّ والمختار في المسألة فهو امتناع الاجتماع، وهو مبني على أمرين:

انوار الأصول، ج 1، ص: 538

أحدهما: أنّ الأحكام التكليفية متضادّة لكن لا بذواتها لأنّها اعتباريّة من هذه الجهة، والاعتبار كما مرّ خفيف المؤونة، بل من حيث المبادى ء، أي الكراهة والمحبّة في نفس المولى، ومن حيث الغايات ومقام الامتثال، أي مقام الإتيان والعصيان.

ثانيهما: أنّ متعلّق الأحكام هو الخارج لكن من طريق الصور والمفاهيم الذهنيّة، فإنّ وزانها وزان العلم الحصولي، فكما أنّ متعلّقه والمعلوم فيه إنّما هو الخارج لكن بواسطة الصور الذهنيّة لعدم إمكان حلول الخارج في الذهن، كذلك الأحكام في الإخباريات والإنشائيات، فإنّها من قبيل العلم الحصولي تتعلّق بالخارج ويكون موضوعها هو الخارج لكن بواسطة العناوين المتصوّرة في الذهن ومن طريق استخدام تلك العناوين، فالحكم بأنّ الشمس موجودة مثلًا تعلّق بالشمس المتصوّر في الذهن ابتداءً ولكن لينتقل منه إلى الخارج.

إن قلت: إنّ هذا ينتقض بالجاهل المركّب فيما إذا رأى سراباً مثلًا بتوهّم أنّه الماء، لأنّه لا إشكال في أنّ متعلّق حبّه وطلبه في قوله «ايتني الماء» حينئذٍ إنّما هو الصورة الذهنيّة من الماء لا الماء الخارجي لأنّه معدوم في الخارج

على الفرض.

قلنا: إنّ مطلوب الجاهل المركّب ومحبوبه أيضاً هو الماء الخارجي وإنّما الخطأ في التطبيق، نظير من حكم بإخراج إنسان من داره بتوهّم أنّه عدوّه وليس عدوّاً في الواقع، فلا إشكال في أنّ بغضه وكراهته متعلّق بالعدوّ الخارجي أو السارق الخارجي، ولكنّه خطأ في التطبيق، فإنّ في ما نحن فيه أيضاً قد تعلّق الحبّ والطلب حقيقة وفي الواقع بالماء الذي يكون منشأ للأثر ويوجب رفع العطش، وهذا أمر بديهي، فهو طالب للماء الخارجي ولكنه طلب الصورة الذهنيّة بتوهّم أنّه ماء خارجي وإلّا لا شكّ في أنّه لا يطلب السراب قطعاً.

إن قلت: المعروف في باب العلم الحصولي أنّ المعلوم بالذات إنّما هو الصور الذهنيّة، وأمّا الخارج فهو معلوم بالعرض وبتبع الصور الذهنيّة، فليكن المحبوب بالذات أيضاً في ما نحن فيه هو الصورة الذهنيّة.

قلنا: إنّ المراد من المعلوم بالذات هو ما حضر في الذهن، ولا شكّ أنّ الحاضر في الذهن هو الصور الذهنيّة، وأمّا الخارج فلا يحضر في الذهن بذاته، ولكن الآثار المختلفة إنّما تترتّب على الخارج لا على الصور الذهنيّة، فالعقرب أو السبع الذي يخاف منه الإنسان إنّما هو الخارجي منه فإنّه منشأ للضرر والخطر لا الصورة الذهنيّة منه، وفي موارد الجهل المركّب يكون الخوف انوار الأصول، ج 1، ص: 539

من باب الخطأ في التطبيق كما عرفت، وكذا الحبّ والبغض والإرادة والكراهة إنّما يتعلّقان بالوجودات الخارجيّة من طريق الصور الذهنيّة فهي مشيرة إليها وطريقة لها.

هذا كلّه هو البحث في الكبرى (أي كبرى جواز الاجتماع وامتناعه).

وهيهنا بحث صغروي في الصغريات المطروحة في الفقه من باب أنّها مصاديق لتلك الكبرى كالصلاه في الدار المغصوبة أو في ثوب مغصوب، وكالوضوء أو الغسل في الدار المغصوبة والتيمّم على تراب مغصوب، فهل

هي في الواقع صغريات لتلك الكبرى ومصاديق لذلك الكلّي، أو لا؟

الحقّ هو التفصيل بين الموارد، أمّا في مثل الوضوء والغسل بالماء المغصوب والتيمّم على التراب المغصوب فلا إشكال في أنّ الحركة العباديّة فيها متّحدة مع التصرّف في ملك الغير فينطبق على نفس ما ينطبق عليه الوضوء والغسل عنوان التصرّف في مال الغير بغير إذنه، وهكذا في التيمّم بناءً على كون ضرب اليد على الأرض أيضاً جزءً للتيمّم.

وأمّا في الصّلاة في الدار المغصوبة فلا إشكال في أنّ بعض أجزائها كالنيّة والأذكار والقراءات ليست متّحدة مع عنوان الغصب عرفاً وإن كان إيجاد الموج في الهواء بالذكر متّحداً مع نوع من التصرّف عقلًا، إنّما الكلام في بعض الأجزاء الاخر كالركوع والسجود، فإن قلنا بأنّ الهويّ إلى الركوع والسجود والنهوض عنهما جزء لهما كما أنّه كذلك وقد قرّر في محلّه أو قلنا باعتبار الاعتماد على الأرض في صدق السجدة فلا إشكال في أنّ الصّلاة متّحدة مع الغصب فتكون من صغريات تلك الكبرى، أمّا بالنسبة إلى الهويّ والنهوض فالأمر واضح لأنّهما جزء للركوع والسجود على الفرض، فتكون الصّلاة حينئذٍ متّحدة مع الغصب في الخارج ومصداقاً له، وأمّا بالنسبة إلى الاعتماد على الأرض فلأنّ الاعتماد على الأرض مأخوذ في مفهوم السجدة ولا يكفي في صدقها مجرّد مماسّة الجبهة على الأرض وحينئذٍ تتّحد الصّلاة أيضاً مع عنوان الغصب من دون فرق بين أن يكون ما يصحّ عليه السجود نفس أرض الغير أو شيئاً آخر، فتصير الصّلاة حينئذٍ أيضاً من صغريات تلك الكبرى.

نعم إلّاأن يأتي بها إيماءً كصلاة النافلة على المركب المغصوب وكالصّلاة على الميّت في الدار المغصوبة حيث إنّ في الاولى لا يكون جزءً من أجزاء الصّلاة متّحداً مع الغصب عرفاً لعدم

كون الايماء تصرّفاً وهو واضح، وكذلك في الثانيّة لأنّ الاعتماد على الأرض ليس معتبراً في انوار الأصول، ج 1، ص: 540

صدق القيام، ولذا لو أتى بالصّلاة على الميّت معلّقاً على الهواء يصدق القيام وتصّح الصّلاة.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ العبادات على ثلاثة أقسام: ففي قسم منها تكون الأجزاء بأسرها غير النيّة متّحدة مع عنوان الغصب كما في الوضوء والغسل مع الماء المغصوب، وفي قسم آخر لا تكون الأجزاء بتمامها متّحدة مع الغصب كالصّلاة إيماءً والصّلاة على الميّت، وفي قسم ثالث يكون بعض الأجزاء متّحداً كصلاة المختار، فالصحيح في المقام التفصيل بين الموارد كما قلنا.

بقي هنا شيئان:

أحدهما: ما مرّ من المحقّق النائيني رحمه الله من أنّ الصّلاة من مقولة الوضع وأنّ الغصب من مقولة الأين، فلا اتّحاد بينهما فلا تكون الصّلاة في الدار المغصوبة من صغريات تلك الكبرى مطلقاً، وقد مرّت المناقشة فيه أيضاً.

ثانيهما: ما أفاده في المحاضرات من أنّ الصّلاة ليست حقيقة مستقلّة ومقولة برأسها في قبال بقيّة المقولات بل هي مركّبة من مقولات عديدة: منها الكيف المسموع كالقراءة والأذكار، ومنها الكيف النفساني كالقصد والنيّة، ومنها الوضع كهيئة الراكع والساجد والقائم والقاعد، فإذن ليست للصّلاة وحدة حقيقية بل وحدتها بالاعتبار، وأمّا الغصب فهو ممكن الانطباق على المقولات المتعدّدة، ومن المعلوم أنّه لا يمكن أن يكون من الماهيات الحقيقية لما عرفت من استحالة اتّحاد المقولتين واندراجها تحت حقيقة واحدة ... إلى أن قال: ونتيجة ما ذكرناه هي أنّ الصّلاة لا تتّحد مع الغصب خارجاً لا من ناحية النيّة ولا من ناحية التكبيرة والقراءة وما شاكلهما ولا من ناحية الركوع والسجود والقيام والقعود ... إلى أن قال ما حاصله: وأمّا الهويّ إلى الركوع والسجود أو النهوض عنهما إلى القيام

والجلوس فهما من مقدّمات الصّلاة لا من أجزائها، بقي في المقام شي ء وهو الاعتماد على أرض الغير، فالظاهر عدم صدق السجدة الواجبة على مجرّد مماسّة الجبهة الأرض بل يعتبر في صدقها الاعتماد عليها، ومن المعلوم أنّ الاعتماد على أرض الغير نحو تصرّف فيها، فلا يجوز، وعليه فتتّحد الصّلاة المأمور بها مع انوار الأصول، ج 1، ص: 541

الغصب المنهي عنه في الخارج، فإذن لا مناصّ من القول بالامتناع (انتهى ملخّصاً) «1».

أقول: يرد عليه: أوّلًا: أنّ النيّة ليست من الكيف النفساني بل هي من أفعال النفس لأنّها ليست مجرّد شوق نفساني الذي يعبّر عنه بصيغة فعل الماضي «نَوى .

ثانياً: أنّ الأذكار والقراءات أيضاً تكون من قبيل الفعل والإيجاد لا الكيف المسموع، فهي حينئذٍ إمّا من مقولة الفعل لكونها حركة تدريجية، وإمّا ليست داخلة في مقولة من المقولات بناءً على عدم كون الحركة من المقولات من باب أنّ الحركة من خصوصّيات الوجود وليست من شؤون الماهية، وبالجملة أنّها ليست من مقولة الكيف المسموع، نعم إنّ الحالة الصوتيّة كالجهر والاخفات التي تعرض القراءة تكون من قبيل الكيف المسموع كما لا يخفى.

ثالثاً: الحقّ أنّ الهويّ جزء للركوع أو السجود لا من مقدّماتهما، فكأنّه لاحظ طائفة من الرّوايات الدالّة على أنّ الصّلاة ثلثها الركوع أو ثلثها السجود فإستظهر أنّ الركوع هو مجرّد الانحناء أو أنّ السجود هو مجرّد الانخفاض مع أنّ من جملة الأدلّة قوله تعالى: «ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ» مثلًا ولا ريب في أنّ ظاهرها أنّ الركوع هو الانحناء بضميمة الهويّ وهكذا في باب السجود، ولذلك يجب على من سمع حين السجود آية السجدة الواجبة رفع الرأس عنها ثمّ وضعه بنيّة امتثال آية السجدة، ولا يكفي مجرّد إبقائه على السجدة كما مرّ

سابقاً، وكذلك يجب على المكلّف في حال الانحناء إذا وجب عليه الركوع النهوض عنه ثمّ الانحناء بنيّة الركوع.

أضف إلى ذلك أنّه لو سلّمنا كون الهويّ من المقدّمات لا الأجزاء لكنّه من المقدّمات القريبة التي يسري القبح أو الحسن منها إلى ذي المقدّمة فتكون في حكم الأجزاء في ما نحن فيه كما مرّت الإشارة إليه سابقاً.

هذا كلّه في البحث عن صغريات المسألة، ولا إشكال في أنّها ليست منحصرة في مثال الصّلاة في الدار المغصوبة بل هناك موارد كثيرة في الفقه هي من مصاديق هذه المسألة وصغرياتها كالوقوف في عرفات أو منى تحت خيمة مغصوبة أو فوق حجر مغصوب ونظير الطواف مع دابة مغصوبة أو ثوب مغصوب، وكالصّلاة مع ثوب مغصوب أو السجدة على انوار الأصول، ج 1، ص: 542

التراب المغصوب وغير ذلك من الأمثلة التي محلّ البحث عنها هو الفقه، والتكلّم عنها في الاصول يستلزم تداخل الفقه في الاصول، فلا يغرنّك حصر المثال في كلماتهم في خصوص الصّلاة في الدار المغصوبة.

العبادات المكروهة
اشارة

ثمّ إنّه قد أُورد على القول بالامتناع بالنقض بامور:

منها: العبادات المكروهة ببيان أنّ أدلّ دليل على إمكان شي ء وقوعه، وقد وقع في الشرع المقدّس موارد اجتمع فيها حكمان من الأحكام الخمسة، نحو الصّلاة في مواضع التهمة، أو الصّلاة في الحمام، والصّلاة في الأماكن التي تكره الصّلاة فيها، والصّلاة أو الصّيام في الأزمنة التي تكره الصّلاة أو الصّيام فيها كما في النافلة المبتدئة حين طلوع الشمس أو عند غروبها، والصّيام في يوم عاشوراء، والصّيام في يوم عرفة لمن لا يقدر على الدعاء، ونحوها من الموارد التي اجتمع الكراهة فيها مع الاستحباب.

واجيب عنه بوجوه ثلاثة على نحو الإجمال، وبوجه آخر على نحو التفصيل.

أمّا الوجوه الثلاثة على نحو الإجمال:

الوجه

الأوّل: أنّ أدلّة العبادات المكروهة وإن كانت ظاهرة في جواز الاجتماع ولكن لا بدّ من توجيهها بعد أن أقمنا برهاناً عقليّاً قطعيّاً على الامتناع كما في سائر الموارد، فلابدّ مثلًا من توجيه قوله تعالى: «بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ» الظاهر في أنّ للباري جسماً وأعضاء تعالى اللَّه عن ذلك علوّاً كبيراً.

الوجه الثاني: أنّ هذا النقض يرد على القائلين بالجواز أيضاً، فلابدّ له أيضاً من التخلّص عنه حيث إنّ مدّعاه جواز الاجتماع فيما إذا كان في البين عنوانان وكانت النسبة بينهما العموم من وجه، مع أنّه لا إشكال في أنّ العنوان في مورد العبادات المكروهة واحد وقوله «صلّ» و «لا تصلّ في الحمّام» تعلّق بعنوان الصّلاة، ولو قلنا بأنّ العنوان في أحدهما مطلق الصّلاة، وفي الآخر الصّلاة في الحمّام كانت النسبة بينهما العموم المطلق لا العموم من وجه.

الوجه الثالث: قد مرّ اعتبار قيد المندوحة في محلّ النزاع بينما لا مندوحة في بعض هذه العبادات المكروهة كصيام يوم عاشوراء حيث إنّ صيام يوم الحادي عشر مثلًا موضوع آخر

انوار الأصول، ج 1، ص: 543

للاستحباب بل على القائل بالجواز أيضاً التفصّي عن هذا الإشكال لاعتبار أخذ قيد المندوحة عنده أيضاً في محلّ النزاع.

وأمّا الوجوه الثلاثة على نحو التفصيلي: أنّ العبادات المكروهة على ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل: ما تعلّق النهي بعنوانه وذاته من دون أن يكون له بدل كصيام يوم عاشوراء والنوافل المبتدأة عند طلوع الشمس وغروبها.

القسم الثاني: ما تعلّق النهي به كذلك مع وجود البدل كما في النهي عن الصّلاة في الحمّام.

القسم الثالث: ما تعلّق النهي به لا بذاته وعنوانه بل تعلّق بعنوان آخر يجتمع معه وجوداً أو ملازم له خارجاً كما في الصّلاة في مواضع التّهمة فإنّ النهي تعلّق فيها بالصلاه لا

بما هي هي بل بما إنّها ملازمة لعنوان التّهمة أو متّحدة معه.

أمّا القسم الأوّل: فلابدّ قبل الجواب عنه من ملاحظة أمرين:

الأمر الأوّل: ترتّب الثوب على هذا القسم ووقوعه صحيحاً فيترتّب الثواب على صيام عاشوراء ويقع في الخارج صحيحاً.

الأمر الثاني: استقرار سيرة الأئمّة وأصحابهم على تركه.

فإنّ مقتضى الجمع بين هذين الأمرين أنّ النهي الذي تعلّق بهذا القسم ليس لأجل منقصة في نفس العمل كي يقال باجتماع المصلحة والمفسدة في عمل واحد بل النهي عنه إمّا لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة أهمّ على الترك كالبراءة عن بني اميّة مثلًا أو لأجل ملازمته له وإن لم ينطبق عليه خارجاً، وعليه لو أتينا به يقع صحيحاً لأنّه ذو مصلحة يتقرّب به إلى اللَّه تعالى فيترتّب الثواب عليه، ولو تركناه فكذلك يترتّب الثواب على تركه لأنّا حصلنا بالترك على المصلحة الموجودة في العنوان المنطبق على الترك أو الملازم للترك التي تكون أهمّ من مصلحة أصل العمل والتي صارت منشأً لجريان سيرة الأئمّة والأصحاب على الترك، فهيهنا في الواقع مصلحتان أو مستحبّان متزاحمان، أحدهما أرجح من الآخر، نظير تزاحم الوقوف في عرفات يوم عرفة في الحجّ المستحبّ وزيارة قبر الحسين عليه السلام في نفس ذلك اليوم، وبه يخرج مثل هذا المثال عن محلّ النزاع ويكون النهي الوارد فيه إرشاداً إلى وجود مصلحة أهمّ في عنوان ينطبق على الترك كعنوان البراءة عن بني اميّة.

وأمّا القسم الثاني: فيأتي فيه نفس الجواب عن القسم الأوّل، أي يكون النهي عن الصّلاة

انوار الأصول، ج 1، ص: 544

في الحمّام إرشاداً إلى أنّ مصلحة العنوان المنطبق على تركها (وهو إيجاد الفسحة للناس مثلًا) أهمّ من مصلحة إتيان الصّلاة في أوّل الوقت مثلًا.

هذا- مضافاً إلى أنّه يمكن أن يقال: سلّمنا

أنّ النهي فيه يكون لوجود منقصة في الفعل ولكنّها ليست بحيث تغلب على المصلحة الموجودة في العمل حتّى لا يكون صالحاً للتقرّب به إلى اللَّه تعالى بل إنّها منقصة مغلوبة، ومع ذلك نهى الشارع عن الفعل لكونه حينئذٍ أقلّ ثواباً من بدله الذي لا منقصة فيه (كالصّلاة في الدار مثلًا) ومن بدله الذي يترتّب عليه ثواباً أكثر من الثواب الذي يترتّب على نفس طبيعة الصّلاة كالصّلاة في المسجد، فالكراهة هنا بمعنى كون العمل أقلّ ثواباً من سائر الأفراد لا بمعناه المصطلح وهو كون المنقصة أكثر من المصلحة.

وبعبارة اخرى: مصطلح الكراهة والاستحباب في باب العبادات غير مصطلحهما في غير العبادات.

فظهر أنّ النهي عن العمل أو الأمر بالترك في القسم الثاني من العبادات المكروهة إنّما هو إرشاد إلى أنّ هذا الفرد من الطبيعة أقلّ ثواباً من الأفراد الاخر وليس نهياً أو أمراً مولويّاً، فيكون خارجاً عن محلّ البحث.

وأمّا القسم الثالث: (وهو ما إذا تعلّق النهي بالعبادة لكن لا بذاتها بل علم أنّه لأجل عنوان يتّحد معها وجوداً ويلازمها خارجاً) فالجواب عنه إمّا بناءً على الجواز وتعدّد متعلّقي الأمر والنهي فهو أنّه يمكن أن يكون النهي مولويّاً وكان إسناده إلى العبادة مجازيّاً، فإنّ المكروه هو ذاك العنوان المتّحد معها أو الملازم لها دون العبادة بنفسها، ويمكن أن يكون إرشاديّاً، أي خالياً عن الطلب النفساني فيكون إسناده إلى العبادة حقيقيّاً قد أُنشأ بداعي الإرشاد إلى سائر الأفراد ممّا لم يبتلِ بعنوان ذي منقصة متّحد معها أو ملازم لها، وأمّا على الامتناع فإن كان النهي لأجل عنوان يلازم العبادة خارجاً فالجواب هو عين جواب المجوّز حرفاً بحرف لتعدّد المتعلّق حينئذٍ، وأمّا إذا كان النهي لأجل عنوان يتّحد مع العبادة وجوداً

ورجّحنا جانب الأمر كما هو المفروض (إذ لو كان الراجح جانب النهي لكانت العبادة باطلة جدّاً لا مكروهة) فالجواب ما اجيب به في القسم الثاني أي الجواب الأخير فيه من كون النهي لمنقصة مغلوبة في الفعل وإنّما نهى الشارع عنه إرشاداً إلى سائر الأفراد ممّا لم يبتلِ بالمنقصة والحزازة أصلًا.

ولكن يرد على هذا الجواب بالنسبة إلى القسم الأوّل: أنّ باب التزاحم والمستحبّين انوار الأصول، ج 1، ص: 545

المتزاحمين يتصوّر فيما لا يكونان من قبيل ضدّين لا ثالث لهما مع أنّ صيام يوم عاشوراء من هذا القبيل لأنّه لا يكون لصوم يوم عاشوراء بدل كي يصحّ أن يقال: إنّ النهي عنه لمنقصة فيه وأنّه إرشاد إلى سائر الأفراد ممّا لا منقصة فيه وهو بدل عنه نتخيّر بينه وبين بدله عقلًا، إذ المفروض أنّ صوم كلّ يوم مستحبّ تعييني لا تخييري من باب التزاحم، وحينئذٍ تكون منقصة صوم عاشوراء دائماً أكثر من مصلحته، فلا يكون قابلًا للتقرّب ويكون من قبيل المكروه المصطلح، إذن لا بدّ فيه من جواب آخر وهو أن نقول: إنّ النهي عنه إرشاد إلى كون الصّيام في يوم عاشوراء أقلّ ثواباً من سائر الأيّام لا أنّ تركه يكون أكثر ثواباً.

إن قلت: فلماذا كان الأئمّة والأصحاب يتركونه دائماً؟

قلنا: لعلّه من باب أنّ الإنسان يترك صيام بعض أيّام السنة غالباً ولا يكون صائماً في تمام السنة، فالأولى حينئذٍ أن يترك صيام ما يكون أقلّ ثواباً من الأيّام الاخر. ولا يخفى أنّ الإيراد المزبور يأتي بالنسبة إلى القسم الثاني والثالث أيضاً وإن لم تكن الصّلاة في الحمّام مثلًا من قبيل ضدّين لا ثالث لهما، أي كان لها بدل لأنّ المفروض أنّ مصلحة تركها أكثر من مصلحة فعلها وحينئذٍ

لا يمكن التقرّب إلى المولى بالفعل نظير ما إذا كان الربح المترتّب على ترك معاملة أكثر من الربح الذي يترتّب على فعلها، فلا يمكن للعبد أن يتقرّب إلى مولاه بفعل تلك المعاملة.

هذا كلّه أوّلًا.

وثانياً: أنّ تبديل النهي عن الزجر عن الفعل إلى الأمر بالترك خروج عن معناه الحقيقي فإنّه قد مرّ أنّ النهي هو الزجر عن الفعل لمنقصة فيه إلّاأنّه بمعنى الأمر بالترك لمصلحة في الترك (والمحقّق الخراساني رحمه الله الذي ذهب إلى الجواب المزبور تكلّم هنا على مبناه في حقيقة النهي وقد مرّ عدم تماميّة مبناه) فإنّ النهي عن صوم عاشوراء ليس من باب أنّ في تركه مصلحة بل وهي وجود منقصة فيه من باب انطباق عنوان التشبّه ببني اميّة عليه.

ثالثاً: إنّ القسم الثالث (وهو ما إذا تعلّق النهي بعنوان آخر) خارج في الحقيقة عن العبادات المكروهة لأنّ العبادة المكروهة ما تعلّق النهي فيها بذات العبادة لا بعنوان آخر.

وبالجملة إنّ المختار في مقام الجواب عن النقض بالعبادات المكروهة أن يقال: إنّ النهي فيها مطلقاً يكون إرشاداً إلى كون العمل أقلّ ثواباً من سائر الأفراد ولكنّه ببيان آخر، وهو أنّه يوجد في العبادات المكروهة عنوانان انطبقا على محلّ واحد ولكن أحدهما يكون واجداً

انوار الأصول، ج 1، ص: 546

للمصلحة والآخر واجداً للمفسدة (لا أنّ في تركه مصلحة) والمصلحة الموجودة في الأوّل تكون أقوى من المفسدة الموجودة في الثاني ولا إشكال في أنّ ذا المصلحة يصير بعد الكسر والانكسار أقلّ ثواباً من سائر الأفراد، وقد مرّ الجواب آنفاً عن إشكال ترك الأئمّة صيام عاشوراء دائماً فلا نعيده وأمّا الجواب بأنّ أصل صحّة الصّيام في يوم عاشوراء محلّ ترديد وكلام فلا يعبأ به لأنّ ظاهر الأدلّة صحّته كما حكي

عن المشهور.

هذا كلّه بناءً على اعتبار ترتّب الثواب في معنى العبادة، وأمّا بناءً على ما مرّ في مبحث التعبّدي والتوصّلي من أنّ العبادة أمر اعتباري اعتبرت للخضوع والتذلّل في مقابل المولى وليس في ذاتها وحقيقتها أن تكون مقرّبة إلى المولى وأن يترتّب عليها الثواب بل إنّها أيضاً تنقسم إلى أقسام خمسة، فبعض أقسامها حرام كصيام يوم الاضحى، وبعض أقسامها واجب كصيام رمضان، وقسم ثالث منها مستحبّ كصيام شعبان ورجب، وقسم رابع منها مكروه وهو صيام يوم عاشوراء وهكذا- إذا قلنا بهذا انحلّ الإشكال من الأساس لأنّه لا يترتّب على صوم عاشوراء ثواب حتّى يقال بأنّه ينافي كراهته.

بقي هنا أمران:

الأمر الأوّل: ما سلكه المحقّق النائيني رحمه الله بالنسبة إلى القسم الثالث فإنّه قال: «إنّ الإشكال في اتّصاف العبادة بالكراهة في القسم الثالث إنّما نشأ من تخيّل أنّ متعلّق الأمر والنهي هو شي ء واحد مع أنّه ليس، كذلك لوضوح أنّ متعلّق الأمر هو ذات العبادة، وأمّا النهي التنزيهي فهو لم يتعلّق بها لعدم مفسدة في فعلها ولا مصلحة في تركها بل تعلّق بالتعبّد بهذه العبادة لما فيه من المشابهة للأعداء، وبما أنّ النهي تنزيهي وهو متضمّن للترخيص في الإتيان بمتعلّقه جاز التعبّد بتلك العبادة بداعي امتثال الأمر المتعلّق بذاتها ... فارتفع إشكال اجتماع الضدّين في هذا القسم أيضاً» «1».

واستشكل عليه في تهذيب الاصول بامور: منها: «أنّ لازم تعلّق الأمر بذات العبادة كذات الصّوم أن يصير توصّلياً ولو بدليل آخر بل تعلّق الأمر به بقيد التعبّديّة» «2».

كما أنّ تلميذه المحقّق رحمه الله أورد عليه أيضاً في هامش أجود التقريرات بأنّ «الأمر

انوار الأصول، ج 1، ص: 547

الاستحبابي كما تعلّق بذات العبادة تعلّق بالتعبّد بها أيضاً كما عرفت ذلك في بحث

التعبّدي والتوصّلي» «1».

أقول: من البعيد جدّاً أن يكون مراد المحقّق النائيني رحمه الله من أنّ متعلّق الأمر هو ذات العبادة واستحباب ذات العمل من دون قصد التعبّد بها بل أظنّ أنّ مراده أن المستحبّ إنّما هو الصّوم مع قصد القربة، والمكروه هو الصّيام مع قصد التشبّه ببنيْ اميّة (حيث إنّ التشبّه ليس حراماً بجميع أقسامه ومراتبه فتأمّل).

نعم يمكن الجواب عنه بأنّه حيث إنّ هذين العنوانين متّحدان في الخارج فعلى الامتناع لازمه حصول الكسر والانكسار والعمل بأرجحهما، وحيث إنّ الأرجح هو الترك كما يشهد عليه ترك الأئمّة عليهم السلام يلزم بطلان الصّوم، والتالي فاسد حيث إنّه لا إشكال في صحّة الصّيام فلم تنحلّ مشكلة العبادات المكروهة بناءً على الامتناع، وبهذا تثبت صحّة استدلال القائلين بالجواز بالعبادات المكروهة.

وقال في تهذيب الاصول: «إنّ النهي وإن تعلّق بنفس الصّوم ظاهراً إلّاأنّه متعلّق في الواقع بنفس التشبّه ببني اميّة الحاصل بنفس الصّوم من دون أن يقصد التشبّه، فالمأمور به هو ذات الصّوم والمنهي عنه التشبّه بهم، ولما انطبق العنوان المنهي عنه عليه وكان ترك التشبّه أهمّ من الصّوم المستحبّ نهى عنه إرشاداً إلى ترك التشبّه» «2».

أقول: إنّ لازم كلامه حلّ مشكلة العبادات المكروهة على مذاق القائلين بالجواز فقط مع أنّ المقصود في المقام حلّها بناءً على الامتناع فإنّ المفروض صحّتها مع كراهتها.

هذا كلّه في النقض الأوّل على القائلين بالامتناع من جانب القائلين بالجواز وهو النقض بالعبادات المكروهة وقد كان دليلًا شرعيّاً على الجواز.

الأمر الثاني: وهيهنا نقض ثانٍ أو دليل ثانٍ عرفي على الجواز وهو: أنّ أهل العرف يعدّون من أتى بالمأمور به في ضمن الفرد المحرّم مطيعاً وعاصياً من وجهين، فإذا أمر المولى عبده بخياطة ثوب ونهاه عن الكون في

مكان خاصّ ثمّ خاطه في ذلك المكان فإنّا نقطع أنّه مطيع عاصٍ لجهتي الأمر بالخياطة والنهي عن الكون في ذلك المكان.

انوار الأصول، ج 1، ص: 548

وقد اورد عليه:

أوّلًا: بالمناقشة في المثال لأنّ المنهي عنه في المثال المذكور هو الكون في مكان خاصّ والمأمور به هو الخياطة، وهما لا يتّحدان وجوداً بحيث كان الشي ء الواحد خياطة وكوناً في مكان خاصّ، بل الخياطة في ذلك المكان مع الكون فيه متلازمان وجوداً لا متّحدان كما في الصّلاة في الدار المغصوبة.

وثانياً: إنّا نمنع في المثال المذكور أنّ من خاط الثوب في المكان الخاصّ عدّ مطيعاً وعاصياً من وجهين بل هو إمّا مطيع إذا كان مناط الأمر أقوى، أو عاصٍ إذا كان مناط النهي أقوى، نعم إذا كان الواجب توصّلياً كما في المثال المذكور يحصل غرض المولى ولكنّه غير حصول الإطاعة فإنّ الحاصل في هذه الموارد إنّما هو الغرض لا الإطاعة والامتثال، والأوّل لا يلازم الثاني، وبعبارة اخرى: في باب التوصّليات تكون دائرة الغرض أوسع من دائرة الأمر.

أقول: إنّ ما غرّ المستدلّ في المقام إنّما هو المثال المزبور، لأنّا إذا بدّلنا المثال بمثال آخر وهو ما إذا أمر المولى عبده بخياطة ثوب ونهاه عن خياطته بخيط خاصّ، أو أمره بتطهير ثوبه ونهاه عن تطهيره بماء خاصّ كما مثّل به المحقّق البروجردي رحمه الله فيما مرّ من كلامه فلا إشكال في أنّ أهل العرف لا يعدّونه في هذين المثالين مطيعاً وعاصياً معاً فيما إذا كان مناط النهي أقوى بل إنّه يعدّ عاصياً فقط، مع أنّهما أيضاً من باب التوصّليات، ولعلّه إشتبه الأمر من ناحية حصول الغرض دون حصول المأمور به.

هذا تمام الكلام في أدلّة القائلين بجواز اجتماع الأمر والنهي، وقد ظهر ممّا

ذكرنا كلّه أنّ الحقّ هو القول بالامتناع وأنّ المهمّ في الدليل عليه هو الجمع بين الأمرين: تضادّ الأحكام الخمسة وسراية الأوامر والنواهي من العناوين إلى الخارج وأنّ العنوان إنّما أخذ في لسان الدليل لمجرّد الإشارة به إلى المعنون كما عرفت شرحه فيما سبق.

وينبغي التنبيه على امور:

التنبيه الأوّل: في الاضطرار إلى المحرّم

إذا اضطرّ الإنسان إلى ارتكاب الحرام كأن يضطرّ إلى غصب دار الغير فتارةً يضطرّ إليه لا

انوار الأصول، ج 1، ص: 549

بسوء الاختيار كالمحبوس في دار مغصوبة، واخرى يضطرّ إليه بسوء الاختيار كمن دخل في الدار المغصوبة باختياره واضطرّ إلى الخروج للتخلّص من الحرام، فيقع الكلام في مقامين: ما إذا اضطرّ إلى الحرام لا بسوء الاختيار وما إذا اضطرّ إليه بسوء الاختيار.

أمّا المقام الأوّل: فذهب جماعة إلى صحّة صلاته ما لم تستلزم تصرّفاً زائداً في الغصب مثل أن يأتي بها إيماءً، بل قال بعضهم أنّه يجب عليه إتيان الصّلاة على نفس الكيفية التي كان عليها في أوّل الدخول، فلو كان قائماً فقائماً ولو كان جالساً فجالساً بل لا يجوز له الانتقال إلى حالة اخرى في غير الصّلاة أيضاً لما فيه من الحركة التي هي تصرّف في مال الغير بغير إذنه، ولكن لا يبعد كون ظاهر الفقهاء جواز صلاة المختار له كما استظهره صاحب الجواهر من كلماتهم، كما أنّه بعد نقل القول المزبور (أي وجوب إتيان الصّلاة على نفس الكيفية الأوّليّة) قال: «إنّه لم يتفطّن أنّه عامل هذا المظلوم المحبوس قهراً بأشدّ ما عامله الظالم بل حبسه حبساً ما حبسه أحد لأحد، اللهمّ إلّاأن يكون في يوم القيامة مثله ... إلى أن قال: «وقد صرّح بعض هؤلاء أنّه ليس له حركة أجفان عيونه زائداً على ما يحتاج إليه ولا حركة يده أو

بعض أعضائه كذلك بل ينبغي أن تخصّ الحاجة في التي تتوقّف عليها حياته ونحوها ممّا ترجح على حرمة التصرّف في مال الغير، وكلّ ذلك ناشٍ من عدم التأمّل في أوّل الأمر والأنفة عن الرجوع بعد ذلك، أعاذ اللَّه الفقه من هذه الخرافات» (انتهى) «1».

وعلى كلّ حال، يرد عليه:

أوّلًا: أنّه لا فرق بين حال القيام وحال القعود، أو حال السكون وحال الحركة مثلًا في مقدار ما يشغله من الحيّز والمكان فلا يتحيّز الإنسان حال القيام مكاناً أكثر من ما يتحيّزه حال القعود إلّامن ناحية الطول والعرض، و إن شئت قلت: إنّ الانتقال من حال إلى حال في المكان الغصبي لا يعدّ عرفاً تصرّفاً زائداً على أصل البقاء على الكون الأوّل.

ثانياً: أنّ لازم هذا القول سقوط الصّلاة عن الوجوب بناءً على عدم وجوب الصّلاة على فاقد الطهورين لأنّه لا إشكال في أنّ كلّ واحد من الوضوء والتيمّم يستلزم تصرّفاً زائداً بل تصرّفاً أزيد من ما يستلزمه الركوع أو السجود ولعلّه لم يقل به أحد من الفقهاء.

انوار الأصول، ج 1، ص: 550

ومن هنا يظهر لزوم التأمّل في صلاة المختار في المكان المغصوب وفتوى الفقهاء بالبطلان فيه مع أنّها أيضاً لا تستلزم تصرّفاً زائداً على أصل الكون، وبعبارة اخرى: إن لزمت الصّلاة تصرّفاً زائداً عند العرف وجب إتيانها إيماءً حتّى في صلاة المحبوس، وإن لم تلزم تصرّفاً زائداً فلابدّ من الفتوى بجواز إتيان الصّلاة اختياراً حتّى للمختار أيضاً بناءً على عدم كون الاستقرار على الأرض من شرائط الصّلاة أو أجزائها وكونه عبارة عن الأذكار والهيئات الخاصّة مع أنّهم أفتوا ببطلانها فتأمّل، وتمام الكلام في الفقه.

أمّا المقام الثاني: فالبحث فيه يقع في جهتين: الاولى: في حكم الخروج في نفسه، والثانيّة: في

حكم الصّلاة حين الخروج.

أمّا الجهة الاولى: ففيها خمسة أقوال:

القول الأوّل: أنّ الخروج واجب وحرام بأمر فعلي وبنهي فعلي، ذهب إليه أبو هاشم، واختاره المحقّق القمّي رحمه الله.

القول الثاني: أنّ الخروج واجب فعلًا وليس بحرام فعلًا ولكن يجري فيه حكم المعصية لأجل ما تعلّق به من النهي سابقاً الساقط فعلًا، وذهب إليه صاحب الفصول.

القول الثالث: أنّه ليس محكوماً شرعاً بحكم لا الوجوب ولا الحرمة ولكنّه واجب عقلًا (لكونه أقلّ المحذورين، حيث إنّ التوقّف في المكان المغصوب يستلزم تصرّفاً أكثر) ويجري عليه حكم المعصية من باب النهي السابق الساقط.

وقد أسند المحقّق النائيني رحمه الله هذا القول إلى المحقّق الخراساني رحمه الله مع أنّه يخالف ظاهر كلامه وإليك نصّه: «الحقّ إنّه منهي عنه بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار ولا يكاد يكون مأموراً به» فإنّه صرّح بكون الخروج منهياً عنه، وهذا ظاهر بل صريح في كونه محكوماً بالحرمة شرعاً وفعلًا لكن لا بالنهي الفعلي بل بالنهي السابق، أي يمكن أن تعدّ مقالة المحقّق الخراساني رحمه الله وجهاً وقولًا سادساً في المسألة.

القول الرابع: أن يكون الخروج واجباً ولا يكون منهيّاً عنه، وهو مختار شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله.

القول الخامس: ما ذهب إليه في تهذيب الاصول من أنّ الخروج حرام بالنهي الفعلي وليس بواجب.

انوار الأصول، ج 1، ص: 551

أمّا القول الأوّل: فبطلانه واضح بناءً على الامنتاع، لأنّه تكليف بما لا يطاق، وأمّا بناءً على الجواز فكذلك لأنّ ما نحن فيه ليس من باب اجتماع الأمر والنهي لأنّ العنوان فيه واحد، وهو عنوان الغصب الذي تعلّق به الحرمة، وأمّا الخروج فإنّ وجوبه- لو سلّم- يكون من باب مقدّميته للكون في خارج المكان المغصوب، وقد مرّ في مبحث مقدّمة الواجب أنّ الواجب هو ذات

المقدّمة وهو التصرّف في أرض الغير بالخروج (في ما نحن فيه) لا عنوانها.

أضف إلى ذلك عدم وجود مندوحة في المقام، ومعه لا يمكن الزجر عن الغصب حين الخروج لأنّه تكليف بما لا يطاق أيضاً، ومجرّد كون الاضطرار بسوء الاختيار لا يوجب جواز هذا التكليف من جانب الشارع.

إن قلت: إنّ الاضطرار هنا مصداق للامتناع بالاختيار الذي لا ينافي الاختيار.

قلنا: أوّلًا: إنّ قاعدة «الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار» جارية في خصوص الأفعال الاختياريّة للإنسان في مبحث الجبر والاختيار في جواب القائلين بالجبر حيث قالوا: أنّ الإنسان مجبور في أفعاله لأنّها لا تخلو من أحد أمرين: فإمّا أن تكون علّتها التامّة في الخارج متحققة، أولًا: فإن تحقّقت يجب تحقّق الفعل المعلول ويصير الفعل واجب الوجود بالغير، فإنّ الشي ء ما لم يجب لم يوجد، وإذا وجب تحقّقه فلا معنى لكونه اختياريّاً لأنّ الاختيار هو حالة «إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل»، أي حالة الإمكان والتسوية بين الفعل والترك لا الوجوب والضرورة، وإن لم تتحقّق العلّة التامّة فلا يتحقّق الفعل وجوباً وضرورة أيضاً، لأنّ الشي ء ما لم تتحقّق علّته التامّة وما لم يصل إلى حدّ الوجوب لا يمكن تحقّقه في الخارج، فالانسان دائماً إمّا مجبور على الفعل أو مجبور على الترك.

فإنّ القاعدة المزبورة تجري في الجواب عن هذا الاستدلال ببيان أنّ حاجة المعلول في تحقّقه في الخارج إلى تحقّق علّته التامّة لا تنافي الاختيار، لأنّ الجزء الأخير لها إنّما هو إرادة الإنسان، فبإرادته واختياره الفعل أو الترك يجب الفعل أو الترك، فهذا الوجوب أو ذاك الامتناع يكون مقارناً للاختيار وبالاختيار، وهو لا ينافي الاختيار لإمكان تركه بترك إرادته بخلاف، ما نحن فيه لأنّ المفروض إنّه مضطرّ إليه فعلًا

ولا يمكن له تركه.

ثانياً: لو سلّمنا جريانها في غير المقام المزبور إلّاأنّه لا يجري في ما نحن فيه أيضاً، لأنّ النهي هنا لا يمكن صدوره من جانب الشارع لأجل زجر المكلّف بل إنّه يصدر لأجل العقاب فقط،

انوار الأصول، ج 1، ص: 552

لأنّ النهي لأجل الزجر مع وجود الأمر بالخروج عقلًا أو شرعاً يستلزم التكليف بما لا يطاق.

وإن شئت قلت: إنّ جريان القاعدة في ما نحن فيه لا يوجب جريان النهي تكليفاً وفعلًا بل يوجب ترتّب العقاب فقط، وكم له في الشرع من نظير، كما إذا أراق المكلّف الماء بعد دخول الوقت فصار فاقداً للماء بسوء اختياره فإنّ سوء الاختيار فيه يوجب تحقّق المعصيه وترتّب العقاب فقط ولا يوجب أن يكون أمر الشارع وبعثه إلى الوضوء فعليّاً بعد.

ولذا قال جماعة من الأكابر: إنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقاباً لا خطاباً وتكليفاً.

وأمّا القول الثاني: وهو ما ذهب إليه صاحب الفصول من أنّ الخروج واجب فعلًا مع جريان حكم المعصية عليه للنهي السابق الساقط- فهو الحقّ المختار لو كان مراده من جريان حكم المعصية وجود ملاك النهي في المتعلّق فقط، وأمّا إذا كان المراد أن الخروج منهيّ عنه الآن بالنهي السابق، أي أنّه مشمول للنهي السابق ويكون زمان تعلّق النهي مقدّماً على زمان متعلّقه فمضافاً إلى عدم كونه معقولًا كما سيأتي في بيان القول الثالث، يرد عليه ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله من «أنّ تعلّق الحكمين بفعل واحد ممتنع ولو كان زمان الإيجاب مغايراً لزمان التحريم لأنّ الاعتبار في الاستحالة والإمكان إنّما هو باتّحاد زمان صدور الفعل وتعدّده لا باتّحاد زمان الإيجاب والتحريم وتعدّده من حيث أنفسهما» «1».

أمّا القول الثالث: وهو خلو الفعل من أيّ حكم شرعي

فعلي بل أنّه واجب عقلًا من باب أقلّ المحذورين مع جريان العقاب لأجل النهي السابق الساقط فيحتمل أن يكون المقصود من جريان حكم النهي السابق فيه مجرّد ترتّب العقاب فقط من دون كون الفعل منهيّاً عنه الآن بالنهي، السابق وهذا هو مختار بعض الأعلام في هامش أجود التقريرات وقد أسنده المحقّق النائيني رحمه الله إلى المحقّق الخراساني رحمه الله. ويحتمل أن يكون الفعل أيضاً منهيّاً عنه فعلًا لكن لا بالنهي الفعلي بل بالنهي السابق كما هو ظاهر ما مرّ من كلام المحقّق الخراساني رحمه الله، ولكن لا يخفى عدم كونه معقولًا لأنّه بعد سقوط النهي السابق عن الفعليّة لا يعقل كون متعلّقه منهيّاً عنه، فعلًا فالصحيح في هذا الوجه هو الاحتمال الأوّل.

انوار الأصول، ج 1، ص: 553

وعلى أيّ حال: إنّ مرجع هذا القول إلى دعاوٍ ثلاثه: نفي الحرمة فعلًا لسقوط النهي فعلًا بحدوث الاضطرار، ونفي الوجوب مقدّمة (أي أنّ توقّف التخلّص عن الحرام على الخروج وانحصاره فيه لا يجدي في وجوبه من باب المقدّميّة) لأنّه كان بسوء اختياره، وجريان حكم المعصية عليه لأنّه كان منهياً عنه في السابق وقد عصاه بسوء اختياره فإنّه قبل الدخول في الأرض المغصوبة كان مكلّفاً بترك الغصب بجميع أنحائه من الدخول والخروج والبقاء جميعاً، وقد عصى النهي بالنسبة إلى الخروج كما عصاه بالنسبة إلى الدخول فيستحقّ العقاب عليهما جميعاً.

ولكن يرد عليه: أنّ وجوبه الفعلي الشرعي ثابت بقاعدة الملازمة بين حكم العقل والشرع حيث لا إشكال في أنّ الخروج واجب عقلًا من باب أقلّ المحذورين ورعاية قانون الأهمّ والمهمّ، فليكن كذلك شرعاً، لأنّ كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع.

إن قلت: المستفاد من قوله تعالى: «فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ

...» عدم كون المضطرّ عاديّاً ولا باغياً، ولازمه اشتراط جواز الفعل المنهي عنه أو وجوبه بعدم كون الاضطرار بسوء الاختيار.

قلنا: غاية ما يستفاد من هذه الآية اشتراط ترتّب العقاب بكونه باغياً أو عاديّاً لا أكثر.

أمّا القول الرابع: وهو كون الخروج واجباً وعدم كونه حراماً فيمكن أن يستدلّ له بأنّ ما نحن فيه داخل في كبرى قاعدة وجود ردّ المال المغصوب إلى مالكه من دون اتّصافه بالحرمة.

وفيه: أوّلًا إنّه يمكن أن نلتزم بترتّب العقاب على ردّ المال المغصوب أيضاً وإن كان واجباً عقلًا وشرعاً، وذلك من باب كونه بسوء الاختيار فيكون نظير وجوب أكل الميتة للمضطرّ بسوء الاختيار حيث لا إشكال في أنّه يعاقب على أكلها مع وجوبه.

وثانياً: لقائل أن يقول: بعدم وجوب الخروج أيضاً (فيكون الجزء الأوّل من هذا القول- وهو وجوب الخروج- أيضاً غير تامّ) لأنّه متوقّف على كونه مقدّمة للكون في خارج الدار المغصوبة الذي يكون ضدّاً للكون في داخلها وعلى أن يكون ترك أحد الضدّين مقدّمة للضدّ الآخر، (بيان الملازمة أنّه إذا كان الكون في داخل الدار المغصوبة ضدّاً للكون في خارجها كان تركه مقدّمة له فيصير واجباً من باب المقدّميّة حيث إنّ المفروض أنّ الكون في خارج الدار المغصوبة واجب) مع أنّه قد قرّر في محلّه في مبحث الضدّ، أنّ الضدّين مثلًا متلازمان لا تقدّم لأحدهما على الآخر.

انوار الأصول، ج 1، ص: 554

ولكن الإيراد الثاني غير وارد لما مرّ في مبحث الضدّ أيضاً أنّه ربّما يعدّ ترك أحد الضدّين مقدّمة للضدّ الآخر عند العرف والعقلاء مع عدم كونه مقدّمة له بالدقّة العقليّة، وما نحن فيه من هذا القبيل، فيكون هذا القول بالنسبة إلى جزئه الأوّل- أي وجوب الخروج- تامّاً.

أمّا القول الخامس: وهو

كون الخروج حراماً من دون أن يكون واجباً فاستدلّ لعدم وجوبه: بأنّه لم يدلّ دليل على وجوب الخروج من الأرض المغصوبة أو على وجوب التخلّص عن الغصب أو وجوب ردّ المال إلى صاحبه أو ترك التصرّف في مال الغير بعناوينها بأن يكون كلّ واحد من هذه العناوين موضوعاً لحكم الوجوب، وما في بعض الرّوايات «المغصوب كلّه مردود» لا يدلّ على وجوب الردّ بعنوانه بل لمّا كان الغصب حراماً يردّ المغصوب تخلّصاً عن الحرام عقلًا، نعم لو قلنا أنّ النهي عن الشي ء مقتضٍ للأمر بضدّه العامّ وأنّ مقدّمة الواجب واجبة يمكن أن نقول بوجوب بعض العناوين المتقدّمة لأنّ التصرّف في مال الغير إذا كان حراماً يكون ترك التصرّف واجباً والخروج من الأرض المغصوبة مقدّمة لتركه لكنّه مبني على مقدّمتين ممنوعتين، وأمّا كونه محرّماً بالفعل فاستدلّ له بما حاصله: أنّه كفاك له من الأدلّة ما دلّ على حرمة التصرّف في مال الغير بغير إذنه والسرّ في ذلك ما مرّ من أنّ الخطابات الكلّية القانونيّة تفارق الخطابات الشخصيّة ملاكاً وخطاباً، لأنّ الخطاب القانوني لا ينحلّ بعدد المكلّفين حتّى يستهجن بالنسبة إلى الغافل والعاجز والمضطر والعاصي ونظائرهم بل انبعاث عدّة مختلفة من المكلّفين كافٍ في جعل الحكم الفعلي على عنوانه العام بلا إستثناء وإنّما العقل يحكم بأنّ لذي العذر عذره (انتهى) «1».

أقول: يرد عليه:

أوّلًا: ما مرّ في الأبحاث السابقة من انحلال الأحكام القانونيّة الكلّية إلى خطابات جزئيّة بعدد المكلّفين، وقد ذكرنا له شواهد مختلفة، منها صدور بعض الأحكام على نهج العام الاستقرائي، فإنّه يشهد على كون الخطاب حجّة على كلّ فرد فرد منهم، ولازمه انحلاله إلى خطابات عديدة بعدد المكلّفين، ولا فرق بين العموم الاستغراقي وغيره من هذه الناحية،

وهل يمكن القول بالانحلال في العموم الاستغراقي دون المطلق المستفاد منه العموم؟

انوار الأصول، ج 1، ص: 555

ثانياً: أنّ شمول الخطاب للمضطرّ مخالف لظاهر أدلّة إستثناء المضطرّ كقوله تعالى: «وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ» «1»

وما ورد في الخبر: «ما أمن شي ء حرّمه اللَّه إلّا وقد أحلّه لمن اضطرّ إليه» حيث إنّ ظاهرهما بل صريحهما أنّ المضطرّ استثنى من حكم التحريم، وأنّ الحرمة الفعليّة لم تجعل بالنسبة إليه لا أنّه معذور فقط.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا أنّ الصحيح هو القول الثاني وهو وجوب الخروج فعلًا مع عدم حرمته فعلًا ومع جريان حكم المعصية عليه بالنهي السابق الساقط.

هذا كلّه في المقام الأوّل.

وأمّا الجهة الثاني: وهو حال الصّلاة حين الخروج وبعبارة اخرى: ثمرة بحث الخروج عن الأرض المغصوبة فقد ذكر المحقّق الخراساني رحمه الله له صور أربعة:

الصورة الاولى: ما إذا قلنا بجواز الاجتماع، وعليه لا إشكال في صحّة الصّلاة سواء كان الاضطرار بسوء الاختيار أو لم يكن.

الصورة الثانيّة: ما إذا قلنا بالامتناع وكان الاضطرار بغير سوء الاختيار فلا إشكال أيضاً في صحّة الصّلاة.

الصورة الثالثة: ما إذا قلنا بالامتناع وكان الدخول بسوء الاختيار وقلنا بوجوب الخروج من دون أن يكون حراماً (كما أنّه هو مختار شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله) وعليه لا إشكال أيضاً في صحّة الصّلاة.

الصورة الرابعة: ما إذا قلنا بالامتناع وكان الدخول بسوء الاختيار وقلنا بأنّ الخروج منهي عنه كما يكون مأموراً به، ففي هذه الصورة لو قلنا بتقديم جانب النهي فلا إشكال في بطلان الصّلاة مطلقاً سواء كان في ضيق الوقت أو في سعته، وأمّا إذا قلنا بتقديم جانب الأمر فالصحيح حينئذٍ التفصيل بين ما إذا كان في ضيق الوقت فلا إشكال في

صحّة صلاته، وما إذا كان في سعة الوقت فلا إشكال أيضاً في صحّة صلاته مع عدم وجود المندوحة وأمّا مع وجود المندوحة وإمكان إتيان الصّلاة في مكان آخر، فصحّة الصّلاة وعدمها مبنيّتان على اقتضاء

انوار الأصول، ج 1، ص: 556

الأمر بالشي ء النهي عن ضدّه وعدمه حيث إنّ الأمر في هذه الصورة (أي صورة وجود المندوحة) متعلّق بالصّلاة في مكان آخر أي بسائر الأفراد منها لخلوّها عن المفسدة، ولا إشكال في أنّ الصّلاة في خارج الغصب من أضداد الصّلاة في داخل الغصب (لوجود المضادّة والمعاندة بينهما فإنّه مع وجود أحدهما لا مجال للآخر) وحينئذٍ إن قلنا بعدم اقتضاء الأمر بالشي ء النهي عن ضدّه تقع الصّلاة في الدار المغصوبة صحيحة وإن قلنا بالاقتضاء تقع الصّلاة باطلة لأنّها حينئذٍ تصير منهيّاً عنها وإن كان المفروض تقديم جانب الأمر حيث إنّ المفروض هو تقديم جانب الأمر على النهي الأصلي لا النهي التبعي المقدّمي.

أقول: ولكن مع ذلك كلّه يمكن المناقشة في هذه الثمرة من جهتين:

الجهة الاولى: أنّه إن كان المقصود من الصّلاة حين الخروج الصّلاة التامّة الأجزاء والشرائط من الركوع والسجود والاستقرار ونحوها فلا إشكال في عدم إمكان إتيانها مطلقاً، لأنّ المفروض إتيانها حين الخروج وفي ضيق الوقت لا في سعة الوقت (لأنّ مع سعة الوقت ومع إمكان إتيانها في خارج الدار المغصوبة تامّة للاجزاء والشرائط لا يجوز إتيان الصّلاة في داخل الدار).

وإن كان المقصود من الصّلاة حين الخروج الصّلاة إيماءً فلا إشكال أيضاً في أنّها حينئذٍ لا توجب تصرّفاً زائداً في الغصب، ولذا لم يتعلّق بها النهي فتقع الصّلاة صحيحة مطلقاً سواء قلنا بالامتناع أو قلنا بالجواز، وسواء كان الاضطرار بسوء الاختيار أو بغير سوء الاختيار، وحينئذٍ لا تختصّ صحّتها بحال

دون حال وبصورة دون صورة من الصور الأربعة المزبورة.

الجهة الثانيّة: أنّ الغاصب قد يكون تائباً عن فعله وحينئذٍ إن قلنا بأنّ التوبة تزيل حكم المعصية وتوجب رفع الحرمة كما هو الحقّ في مثل ما نحن فيه فتقع صلاته صحيحة مطلقاً أيضاً من دون اختصاص الصحّة بصورة دون صورة حيث إنّ الحكم حينئذٍ هو الأمر بالصّلاة ولا نهي عنها حتّى يدخل المقام في باب الاجتماع فيبحث عن الصحّة وعدمها على الامتناع والجواز.

التنبيه الثاني: في آثار باب التزاحم

قد ذكرنا سابقاً أنّ باب اجتماع الأمر والنهي داخل في باب التزاحم لا التعارض، أي يكون كلّ واحد من الأمر والنهي تامّاً من ناحية الملاك واجتماع جميع شرائط الفعليّة، وحينئذٍ لا بدّ من لحاظ أقوى الملاكين (ولا حاجة إلى ملاحظة المرجّحات السندية والدلاليّة المعنونة في باب التعارض) ويتفرّع على ذلك أمران:

أحدهما: أنّه إذا أحرز أقوى الملاكين يؤخذ به ويقدّم واجده على فاقده ويستكشف من هذا الطريق فعلية الحكم الذي يكون ملاكه أقوى، وأمّا إذا لم يحرز الغالب منهما وكان الخطابان كلاهما بصدد بيان الحكم الفعلي، أي كانا متعارضين في مقام الفعليّة وإن كانا متزاحمين من ناحية الملاك والاقتضاء فلا إشكال حينئذٍ في لزوم ملاحظة المرجّحات السنديّة والدلاليّة وتقديم الأقوى منهما دلالة أو سنداً على الآخر، ويستكشف حينئذٍ من طريق الانّ أنّ ملاكه أقوى.

نعم حيث إنّ محلّ البحث في المقام إنّما هو باب اجتماع الأمر والنهي الذي تكون النسبة بين الدليلين فيه عامين من وجه يلاحظ فيه خصوص المرجّحات الدلاليّة، وأمّا المرجّحات السنديّة فإنّها جارية في المتباينين فقط كما ذكر في محلّه.

ثانيهما: أنّ مقتضى كون المقام من باب التزاحم صحّة العمل للجاهل والناسي والمضطرّ حتّى إذا قلنا بتقديم جانب النهي، لثبوت الملاك والمقتضي في كلا

الحكمين، فإذا لم يؤثّر مقتضى حرمة الغصب مثلًا لاضطرار أو جهل أو نسيان يؤثّر مقتضى وجوب الصّلاة فتقع الصّلاة صحيحة.

وهذا بخلاف باب التعارض لأنّ لازم تقديم النهي فيه على الأمر ثبوت الملاك في خصوص النهي وكون الأمر كاذباً وعدم كونه واجداً للملاك ومعه لا وجه لصحّة المأمور به.

وإن شئت قلت: ربّما يستفاد شرط من شرائط الصّلاة من اجتماع الأمر والنهي وتزاحمهما وامتناع اجتماعهما كإباحة مكان المصلّي التي لا دليل على اعتبارها في الصّلاة إلّاتزاحم الأمر بالصّلاة والنهي عن الغصب وعدم إمكان اجتماعهما بناءً على الامتناع، فهي لا تستفاد لا من آية ولا من رواية، بل الكاشف عنها إنّما هو تزاحم الأمر والنهي وامتناع اجتماعهما (ولذلك لم يقل به أحد من فقهاء العامّة القائلين بجواز الاجتماع) فلا إشكال حينئذٍ في سقوط هذا الشرط

انوار الأصول، ج 1، ص: 558

عن الشرطيّة في صورة الجهل والنسيان والاضطرار لعدم كون النهي في هذه الحالات فعليّاً ومعه لا يجتمع الأمر مع النهي حتّى يستفاد منه شرطيّة الإباحة، واخرى يستفاد الشرط من دليل لفظي خاصّ فحينئذٍ مقتضى إطلاق الدليل شرطيه ذلك الشرط مطلقاً حتّى في حال الجهل والنسيان والاضطرار نظير شرطي القبلة والطهارة ونتيجته بطلان الصّلاة مع فقد أحدهما حتّى في تلك الحالات أيضاً.

التنبيه الثالث: في مرجّحات النهي على الأمر

قد مرّ سابقاً أنّ المتّبع في باب التزاحم إنّما هو الأهمّ من الملاكين، فبناءً على القول بالامتناع في باب الاجتماع وفقد المندوحة حيث إنّ المقام يدخل في باب التزاحم فلابدّ من ملاحظة المرجّحات وكشف الأهمّ من الحكمين بالرجوع إلى لسان الأدلّة وملاحظة مذاق الشارع المقدّس في مجموع الأحكام، فإن كان الترجيح مع الأمر كان الواجب العمل به وإتيان المأمور به، وإن كان الترجيح مع النهي كان اللازم أيضاً العمل

به وترك المنهي عنه، فمثلًا يستفاد من أدلّة وجوب الصّلاة أنّ الصّلاة لا تترك بحال وإنّه لا بدّ من إتيانها في جميع الحالات، ولازمه كونها أهمّ من الغصب، فيقدّم الأمر على النهي ويؤتى بالصّلاة في الدار المغصوبة بجميع أجزائها إلّا ما يكون له البدل كالركوع والسجود فيؤتى بهما إيماءً.

هذا ممّا لا إشكال فيه، إنّما الإشكال فيما إذا لم يمكن كشف الأهمّ من لسان الأدلّة الخاصّة فهل هناك ضابطة عامّة تدلّ على ترجيح الأمر أو النهي أو لا؟

قد يقال: إنّ الترجيح مع النهي مطلقاً إلّاما خرج بدليل خاصّ، ويستدلّ له بوجوه عديدة:

الوجه الأوّل: ما هو ناظر إلى عالم الإثبات، وهو أنّ أدلّة النهي على حرمة مورد الاجتماع شمولي ويكون بالعموم، ودلالة الأمر على وجوبه بدلي ويكون بالاطلاق، والعام الشمولي أقوى دلالة من العام البدلي، لأنّ الأوّل يستفاد من اللفظ والعموم، والثاني يستفاد من الإطلاق ومقدّمات الحكمة، ولا إشكال في تقديم العموم على الإطلاق ووروده عليه لأنّ من مقدّمات الحكمة عدم البيان، وعموم العام بيان.

انوار الأصول، ج 1، ص: 559

وقد أورد على صغرى هذا الوجه بأنّ عموم النهي أيضاً لا يكون إلّابواسطة مقدّمات الحكمة الجارية في المتعلّق كمادّة الغصب ونحوها، ولكنّه رحمه الله رجع عنه في ذيل كلامه بقوله «اللهمّ إلّاأن يقال إنّ لفظ الكلّ أو النهي أو النفي الداخل على الجنس بنفسه كافٍ في الدلالة على استيعاب تمام أفراد المدخول من دون حاجة إلى مقدّمات الحكمة في المتعلّق» «1».

أقول: الحقّ أنّ هذا الوجه لا يوجب ترجيحاً للنهي على الأمر، لأنّ المقصود من عدم البيان في مقدّمات الحكمة ليس هو عدم البيان إلى الأبد حتّى يكون كلّ بيان وارداً ومقدّماً عليه، بل المقصود هو عدم البيان في مقام

التخاطب وفي زمان البيان، فإذا لم يرد بيان في مقام البيان والتخاطب تمّت مقدّمات الحكمة وصار المطلق ظاهراً في العموم البدلي، ولا فرق بينه وبين العام من حيث قوّة الدلالة وضعفها.

الوجه الثاني: ما هو ناظر إلى عالم الثبوت وهو أولويّة دفع المفسدة من جلب المنفعة، ولا إشكال في أنّ ترك المنهي عنه دفع للمفسدة، والعمل بالمأمور به جلب للمنفعة.

وقد أورد عليه من جانب المحقّق القمّي رحمه الله صاحب القوانين بالمناقشة في الصغرى أيضاً بأنّ في ترك الواجب أيضاً مفسدة إذا كان تعيينياً.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه الله بأنّ ترك الواجب فوت للمصلحة دائماً، وهو غير درك المفسدة.

أقول: هذا الوجه أيضاً غير تامّ صغرى وكبرى:

أمّا الصغرى فلأنّ الموارد مختلفة، فتارةً يكون وجود الواجب مصداقاً لجلب المنفعة واخرى يكون تركه مصداقاً لذلك كالزّكاة فإنّ في تركها مفسدة جوع الفقراء وفقرهم الذي هو منشأ لمفاسد كثيرة فرديّة واجتماعيّة كما يرشدنا إليه ما ورد في لسان الحديث. «إنّ الناس ما جاعوا ولا افتقروا إلّابذنوب الأغنياء».

وأمّا الكبرى فلأنّها لا دليل عليها شرعاً ولا عقلًا ولا عقلائيّاً:

أمّا شرعاً فلأنّا نشاهد موارد كثيرة في لسان الشرع قدّم جلب المنفعة فيها على دفع المفسدة، منها الجهاد الابتدائي فإنّه واجب مع استلزامه مضاراً شديدة كثيرة من الجراحات انوار الأصول، ج 1، ص: 560

وقطع النسل والحرث لأنّ جلب المصالح الموجودة فيه من طريق إيجابه (وهي أن تكون كلمة اللَّه هي العليا وأن يظهر دينه تعالى على الدين كلّه) أهمّ من دفع تلك المفاسد، ونظير هذا المورد جميع الأحكام الشرعيّة التي يوجب إتيانها تحمّل رياضات شاقّة وأضرار بدنيّة وماليّة.

إن قلت: فما هو المقصود ممّا ورد في بعض الرّوايات من أنّ اجتناب السيّئات أولى من كسب الحسنات؟

قلنا: أنّ

مضمون هذا القبيل من الرّوايات نفس مضمون ما ورد فيها أيضاً من أنّه «لا قربة للنوافل إذا أضرّت بالفرائض» فيكون موردها ما إذا لم تصل الحسنات إلى حدّ اللزوم، ويشهد على هذا المعنى نفس هذه الموارد التي قدّم الشارع فيها جلب المنفعة على دفع المفسدة.

وأمّا عقلًا فلأنّ العقل ينظر إلى ميزان الأهمّية من دون فرق بين المصلحة والمفسدة، فإن رأى أنّ درجة أهمّية المفسدة أكثر يقدّمها على المصلحة وإن رأى أنّ درجة أهميّة المنفعة أكثر يقدّمها على المفسدة ولا خصوصيّة عنده للمفسدة من حيث هي مفسدة.

وأمّا عقلائيّاً فلأنّا نشاهدهم أنّهم تارةً يقدّمون المفسدة على المصلحة واخرى بالعكس فيما إذا استهدفوا مصلحة عظيمة فإنّهم مثلًا في الصناعات والتجارات يصرفون ثروة عظيمة بعنوان رأس المال ويستقبلون المضارّ الكثيرة لمنافع هامّة محتملة، ويمكن التمثيل لهذا أيضاً بعمليّة الجراحة في يومنا هذا الذي يوجب مضارّاً كثيرة ولكن فيه منافع أكثر منها.

وبالجملة أنّه ليس هناك قاعدة عامّة بعنوان أولويّة دفع المفسدة من جلب المنفعة.

وأظنّ أنّ هذا القبيل من القضايا التي ظهرت في الألسن بشكل ضابطة كلّية كانت صادقة في الخارج بصورة قضيّة جزئيّة أو غالبية ثمّ جرت على نحو قاعدة كلّية نظير ما اشتهر بينهم أيضاً «أنّ الأقرب يمنع الأبعد» مع أنّ القضيّة في كثير من الموارد تكون بالعكس، وهكذا في كثير من الأمثال المتداولة والجارية بين الخاصّ والعامّ.

ثمّ إنّه أورد على هذا الوجه أيضاً في المحاضرات: تارةً بأنّه على فرض تسليم كبريها ليس المقام من صغرياتها جزماً، بداهة أنّه على القول بالامتناع ووحدة المجتمع وجوداً وماهية فهو إمّا مشتمل على المصلحة دون المفسدة أو بالعكس، فإن قلنا بتقديم الوجوب فلا حرمة ولا مفسدة تقتضيها، وإن قلنا بتقديم الحرمة فلا

وجوب ولا مصلحة تقتضيه ... وموضوع هذه القاعدة ما إذا كان في فعل مفسدة ملزمة وفي فعل آخر مصلحة كذلك، ولا يتمكّن المكلّف من انوار الأصول، ج 1، ص: 561

رفع الاولى وجلب الثانيّة معاً فلا محالة تقع المزاحمة بينهما ... فهذه القاعدة لو تمّت فإنّما تتمّ في باب التزاحم» «1».

واخرى بأنّها على فرض تماميتها لا صلة لها بالأحكام الشرعيّة أصلًا واستدلّ له بوجهين نذكر هنا أوّلهما وهو: أنّ المصلحة ليست من سنخ المنفعة ولا المفسدة من سنخ المضرّة غالباً والظاهر أنّ هذه القاعدة إنّما تكون في دوران الأمر بين المنفعة والمضرّة لا بين المصلحة والمفسدة كما لا يخفى.

وبكلمة اخرى: أنّ الأحكام الشرعيّة ليست تابعة للمنافع والمضارّ وإنّما هي تابعة لجهات المصالح والمفاسد في متعلّقاتها، ومن المعلوم أنّ المصلحة ليست مساوقة للمنفعة والمفسدة مساوقة للمضرّة، ومن هنا تكون في كثير من الواجبات مضرّة ماليّة كالزّكاة والخمس والحجّ ونحوها، وبدنيّة كالجهاد وما شاكله، كما أنّ في عدّة من المحرّمات منفعة ماليّة أو بدنيّة، مع أنّ الأولى تابعة لمصالح كامنة فيها والثانيّة تابعة لمفاسد كذلك» «2».

أقول: يمكن المناقشة في كلا الوجهين:

أمّا الأوّل فبأنّ وحدة المجمع وجوداً وماهية في باب الاجتماع لا يلازم اشتماله على خصوص المصلحة أو خصوص المفسدة بل حيث إنّه ليس من البسيط من جميع الجهات ويتصوّر فيه جهتان مختلفتان يكون شاملًا للمصلحة والمفسدة معاً ومن باب التزاحم دائماً كما مرّ سابقاً، فهو نظير جميع الأدوية في باب الطب التي يشتمل كلّ واحد منها على مفسدة على رغم أنّه دواء وفيه شفاء، ونظير الخمر والميسر اللّذين فيهما إثم كبير ومنافع للناس كما نطق به الكتاب العزيز، ونظير جميع الواجبات والمحرّمات التي أشار إليها في خبر تحف العقول

المعروف بما حاصله: أنّ كلّ ما غلبت مصلحته على مفسدته فهو واجب وكلّ ما غلبت مفسدته على مصلحته فهو حرام.

وإن شئت قلت: أنّ الواحد في المقام ليس واحداً حقيقيّاً ولا واحداً صناعياً بل إنّه واحد اعتباري الذي يتصوّر فيه الجهات المختلفة وأبعاد متفاوتة التي تشتمل على مصالح ومفاسد، والمراد من التزاحم فيه هو التزاحم بين جهتي المصلحة والمفسدة. والعجب منه حيث ادّعى فيه البداهة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 562

أمّا الثاني: الذي اشير إليه أيضاً في بعض كلمات المحقّق الخراساني رحمه الله فلأنّه إن كان نظره إلى جانب المعنوي لمورد الاجتماع فقط أو إلى بعده الاجتماعي فقط أو إلى المضارّ والمنافع التي تترتّب عليه في طول الزمان، أي التي تترتّب عليه مع الواسطة أو الوسائط، ولم يكن النظر إلى الجهات المادّية والفرديّة وإلى المنافع والمضارّ التي تترتّب بدون الواسطة وفي زمان الحال، فما أفاده في محلّه، فتكون المصالح والمفاسد غير المضارّ والمنافع كما لا يخفى، وأمّا إن كان المقصود هو الأعمّ من المنافع أو المضارّ المعنويّة والمادّية والأعمّ ممّا يترتّب في الحال أو في طول الزمان ومن الاجتماعيّة والفرديّة وممّا يترتّب مع الواسطة ومن دون الواسطة، فلا فرق حينئذٍ بين المصالح والمنافع وبين المفاسد والمضارّ بل يمكن أن يتصوّر لواجب من الواجبات مصلحة أو منفعة معنويّة مع شموله لمفسدة أو مضرّة مادّية، نظير الزّكاة مثلًا فإنّها توجب ضرراً مادّياً مع أنّها موجبة لبركات أخلاقيّة ومعنويّة بل بركات مادّية أيضاً في طول الزمان كما أشار إليه في الحديث بقوله: «حصّنوا أموالكم بالزّكاة» حيث إنّ تحصين الأموال مصلحة دنيويّة مادّية، وفي حديث آخر: «إذا بخل الغني بمعروفه باع الفقير آخرته بدنياه» فإنّ حفظ الآخرة للفقير بالبذل والانفاق منفعة أو

مصلحة اخرويّة بل ودنيويّة كما لا يخفى، هذا كلّه من جانب، ومن جانب آخر تكون الزّكاة شاملة على الظاهر على مفاسد أو مضارّ فرديّة مع أنّها توجب في البعد الاجتماعي حفظ كيان النظام والدفاع عن ثغور المملكة، وهاتان مصلحتان أو منفعتان اجتماعيتان.

وما ذكرنا يشهد عليه عمل العقلاء في يومنا هذا، فإنّهم يعطون الضرائب التي وضعت عليهم من جانب دولهم وحكّامهم طوعاً ورغبة لما تشتمله من المنافع الاجتماعيّة.

هذا كلّه في الواجبات، وكذلك في المحرّمات، فيمكن أن يتصوّر لمعصية من المعاصي منافع مادّية كالتطفيف في باب المعاملات مع أنّها شاملة لمضرّات معنويّة بل مادّية من جانب آخر، والرّوايات ناطقة بذلك، فقد ورد في الحديث «الأمانة تجلب الغناء والخيانة تورث الفقر» كما يشهد على ذلك العرف والوجدان، فإنّا نشاهد بوجداننا أن التطفيف أو الخيانة مثلًا توجب ظهور الغشّ في المجتمع وزوال الأمن الاقتصادي وتفريغ البنوك الداخليّة من الثروات وإخراجها منها إلى البنوك الخارجيّة الأجنبيّة وذلك لوجود الغشّ والخيانة في الاولى مثلًا ووجود الدقّة والأمانة في الثانيّة، ألا ترى خروج الثروات العظيمة الضخمة في يومنا هذا من انوار الأصول، ج 1، ص: 563

بعض المجتمعات الإسلاميّة إلى بعض البنوك الأجنبيّة فإنّه ليس إلّالأنّ الأمانة تجلب الاعتماد وبالنتيجة تجلب الغناء والثروة والمنافع المادّية الهامّة كما أخبر بذلك المعصوم عليه السلام في الحديث.

الوجه الثالث: الاستقراء، بدعوى أنّا إذا تتبّعنا موارد دوران الحكم بين الوجوب والحرمة في لسان الشرع نجد أنّ الشارع قدّم فيها دفع المفسدة على جلب المنفعة فأخذ بجانب الحرمة، وقد ذكروا هنا موردين:

المورد الأوّل: حرمة الصّلاة في أيّام الاستظهار (وهي تطلق غالباً على الأيّام بعد العادة إلى العشرة كما هو التحقيق، وكذلك على الأيّام قبل العادة فلابدّ من ترك العبادة فيها

أيضاً بمجرّد رؤية الدم).

المورد الثاني: عدم جواز الوضوء أو الغسل من الإنائين المشتبهين، فإنّه قدّم جانب الحرمة في المثالين على الوجوب.

وقد أُورد عليه:

أوّلًا: بأنّ الاستقراء ممّا لا يتحقّق بهذا العدد (بموردين) حتّى الاستقراء الناقص الرائج في بعض العلوم والذي قد يفيد العلم ويدور عليه رحى العلوم التجربيّة فضلًا عن الاستقراء التامّ الذي هو قليل جدّاً.

وثانياً: أنّ هذين الموردين ليسا من قبيل المتزاحمين اللّذين يوجد فيهما ملاك الوجوب والحرمة معاً بل إنّهما من قبيل دوران الأمر بين احتمالين الموجود فيهما ملاك أحدهما وهو ملاك الحرمة على الفرض، وأمّا الاحتمال الآخر وهو الوجوب فلا ملاك له لأنّه ساقط برأسه على الفرض أيضاً، لأنّ المرأة (في المثال الأوّل مثلًا) في أيّام الاستظهار إمّا أن تكون حائضاً في الواقع، فالموجود هو ملاك الحرمة فقط، أو ليست بحائض فالموجود هو ملاك الوجوب فقط وحيث إنّ الشارع حكم بتقديم الحرمة نستكشف أنّ الموجود هو ملاك الحرمة لا الوجوب، وهكذا بالنسبة إلى المثال الثاني، وعلى أيّ حال: فليس الموردان من قبيل المتزاحمين، كما لا يمكن قياس باب المتزاحمين بهما لأنّه قياس ظنّي لا اعتبار به.

وثالثاً: أنّه أساساً ليس الموردان من قبيل دوران الأمر بين الوجوب والحرمة، لأنّ المراد من الحرمة في ما نحن فيه إنّما هو الحرمة الذاتيّة، ولا إشكال في أنّه لا حرمة لصلاة الحائض ذاتاً بل حرمتها تشريعيّة وبحكم التعبّد، ولذلك قال الفقهاء بأنّه يمكن لها إتيان الصّلاة والجمع بين انوار الأصول، ج 1، ص: 564

تروك الحائض وأعمال المستحاضة احتياطاً وبقصد الرجاء في كثير من الموارد، وإلّا لم يمكن لها هذا الاحتياط كما لا يخفى، وهكذا في الوضوء بالمائين المشتبهين فيمكن له الاحتياط بالتوضّؤ بالإناء الأوّل ثمّ تطهير أعضاء الوضوء بالإناء

الثاني والتوضّؤ به ثانياً.

نعم قد يقال: أنّه لا يمكن مع ذلك إتيان الصّلاة للابتلاء بنجاسة البدن ظاهراً بحكم استصحاب النجاسة حال ملاقاة الماء الثاني للبدن، فإنّه بمجرّد ملاقاته له ولو لأجل تطهير مواضع الملاقات بالأوّل قبل أن تنفصل الغسالة يقطع بنجاسة البدن، إمّا بسبب ملاقاته مع الأوّل أو مع الثاني، نعم إذا انفصلت الغسالة يزول العلم لجواز نجاسة الأوّل وطهارة الثاني مع بقاء الشكّ فيها لجواز العكس، أي طهارة الأوّل ونجاسة الثاني فتستصحب النجاسة.

ولكنّه ممنوع لأنّ المفروض العلم بصحّة إحدى الصلاتين المأتي بهما بعد كلّ وضوء ولكنّه يبتلي بنجاسة البدن ظاهراً بالنسبة إلى مستقبل أمره، ولعلّه لذلك لم يأمر الشارع بهذا الاحتياط.

وعلى أيّ حال: فإنّ عدم جواز الوضوء من الإنائين المشتبهين ليس من باب ترجيح النهي على الوجوب، بل إنّه إمّا من باب التعبّد الشرعي أو للابتلاء بنجاسة البدن ظاهراً بحكم الاستصحاب بالنسبة إلى المستقبل، كما أنّ حرمة الصّلاة في أيّام الاستظهار أيضاً ليس من باب ترجيح جانب الحرمة بل إنّها إمّا لأجل قاعدة الإمكان الجارية في الدم (أي كلّ دم أمكن أن يكون حيضاً بأن لم يكن قبل البلوغ أو بعد اليأس أو مع عدم فصل أقلّ الطهر فهو حيض) أو من باب قاعدة الاستصحاب القاضية بكون الدم في أيّام الاستظهار حيضاً، وحيث إنّ قاعدة الإمكان ليست تامّة عندنا فالمتعيّن كون الحرمة من باب الاستصحاب.

التنبيه الرابع: في أنّه هل يلحق تعدّد الإضافات بتعدّد العناوين أو لا؟

المراد من العناوين ما يقع متعلّقاً للأمر والنهي كالصّلاة والغصب وهو واضح، والمراد من الإضافات ما يضيف إليه متعلّقا الأمر والنهي كالعالم والفاسق في أكرم عالماً ولا تكرم الفاسق حيث اضيف إليهما وتعلّق بهما الإكرام الذي يكون متعلّقاً لكلّ من الأمر والنهي.

وكيف كان، فقد وقع النزاع أنّه كما أنّ

تعدّد العنوان (أي تعدّد متعلّق النهي والأمر كالصّلاة

انوار الأصول، ج 1، ص: 565

والغصب) يوجب تعدّد المعنون بناءً على الجواز ودخوله في باب التزاحم بناءً على الامتناع، فهل يوجب تعدّد الإضافة (أي تعدّد المضاف إليه) أيضاً تعدّد المضاف بناءً على الجواز وتدخل في باب التزاحم بناءً على الامتناع أو لا؟ فلو اختار المكلّف العالم الفاسق لامتثال أمر المولى بإكرام عالم كما في اختياره الدار المغصوبة لامتثال أمر الصّلاة، فهل هو مثله في كونه محلّ النزاع أو لا؟

لا إشكال في أنّه لا فرق بين الموردين، أي تعدّد الإضافات من قبيل تعدّد العناوين، فكما أنّ تعدّد العنوان بناءً على الجواز يوجب تعدّد متعلّق الأمر والنهي في مثل صلّ ولا تغصب كذلك تعدّد الإضافة أيضاً بناءً على الجواز يوجب تعدّد متعلّقهما في مثل أكرم عالماً ولا تكرم الفاسق وإن كان عنوان الإكرام فيهما واحداً، وذلك من باب أنّ متعلّق الأمر في أكرم عالماً ليس هو مطلق الإكرام بل إنّه هو إكرام عالم، كما أنّ متعلّق النهي في لا تكرم الفسّاق أيضاً ليس هو مطلق الإكرام بل هو إكرام الفاسق، ولا إشكال في أنّ أحدهما غير الآخر، فإذا اجتمعا في مورد واحد وفي شخص واحد باختيار المكلّف أي في إنسان يكون عالماً وفاسقاً كان المورد من باب اجتماع الأمر والنهي بشرط كونه من باب التزاحم لا التعارض، أي كان الملاك موجوداً في كليهما، فكان هذا العالم من مصاديق من يجب إكرامه واقعاً لعلمه وكان ممّن يحرم إكرامه واقعاً لفسقه.

وبالدقّة في ما ذكرنا من المثال للمسألة وما أوضحنا لك في شرحه تعرف عدم ورود شي ء من الإشكالات التي ذكرها في المحاضرات «1»، وعليه عدم كون هذا الكلام من الغرائب كما توهّم.

إلى هنا

تمّ الكلام في باب اجتماع الأمر والنهي والحمد للَّه ربّ العالمين.

انوار الأصول، ج 1، ص: 567

الفصل الثالث النهي في العبادات والمعاملات

اشارة

ولا بدّ فيه من رسم امور:

الأمر الأوّل: في عنوان المسألة

وقد وقع الخلاف فيه وعبّر عنه بتعابير مختلفة فقال في الكفاية: «النهي عن الشي ء هل يقتضي فساده أم لا» وقال المحقّق النائيني رحمه الله على ما في أجود التقريرات: «إنّ النهي هل يدلّ على الفساد أم لا؟» ولكن قد أصرّ في تهذيب الاصول على أنّ الصحيح أن يقال: «إنّ النهي هل يكشف عن الفساد أم لا» وناقش في الأوّل بأنّ الاقتضاء بالمعنى المتفاهم عرفاً غير موجود في المقام لأنّ النهي غير مؤثّر في الفساد ولا مقتضٍ له بل إمّا دالّ عليه أو كاشف عن مبغوضيّة المتعلّق التي تنافي الصحّة» وناقش في الثاني بأنّ «ظاهر لفظ الدلالة هي الدلالة اللّفظيّة ولو بنحو الالتزام ولكن مطلق الملازمة بين الأمرين لا يعدّ من الدلالات الالتزاميّة بل لا بدّ في الدلالة الالتزاميّة على تقدير كونها من اللّفظيّة من اللزوم الذهني فلا تشمل الملازمات العقليّة الخفيّة» «1».

أقول: الإنصاف صحّة التعبيرين أيضاً، أمّا الأوّل منهما فلأنّ إيجاب النهي الفساد يلازم نحواً من التأثّر والتأثير في عالم الاعتبار وهو يكفي في صدق مفهوم الاقتضاء، وأمّا الثاني فلأنّ مادّة الدلالة لم توضع لخصوص الدلالة اللّفظيّة بل إنّها وضعت لمطلقها الذي من مصاديقها الدلالة العقليّة فيستعمل فيها على نحو الحقيقه أيضاً.

الأمر الثاني: في الفرق بين هذه المسألة ومسألة اجتماع الأمر والنهي

قد مرّ في صدر المسألة السابقة مقالة المحقّق الخراساني رحمه الله في هذا المجال وهي أنّ الجهة المبحوثة عنها في تلك المسألة هي سراية كلّ من الأمر والنهي إلى متعلّق الآخر لاتّحاد متعلّقهما وجوداً، وعدم سرايته لتعدّدها كذلك، وأنّ الجهة المبحوثة- عنها في هذه المسألة هي أنّ النهي هل يوجب فساد العبادة أو المعاملة، أو لا؟ بعد الفراغ عن أصل السراية.

أقول: قد مرّ منّا أيضاً أنّ التمايز بين العلوم والمسائل ليس محدوداً في

تمايز الأغراض بل أنّه تارةً يكون بالموضوعات واخرى بالمحمولات وثالثة بالأغراض وذلك بتوضيح مرّ سابقاً، والذي لا بدّ من إضافته هنا أنّ الغالب في التمايز إنّما هو التمايز بالمحمولات، أي تتمايز العلوم غالباً بالعوارض والحالات الطارئة على الموضوعات. هذا أوّلًا.

وثانياً: قد مرّ في صدر تلك المسألة أيضاً أنّه لا ربط بين المسألتين أصلًا حتّى نبحث في وجه التمايز، بينهما لوجود الفرق بينهما من ناحية كلّ من الموضوع والمحمول والنتيجة كما يظهر بملاحظة عنوانيهما كما مرّ توضيحه في المسألة السابقة.

الأمر الثالث: هل المسألة اصوليّة أو لا؟ وهل هي عقليّة أو لفظيّة؟

لا إشكال في أنّها ليست مسألة فقهيّة لأنّ نتيجتها لا يمكن أن تقع بيد المكلّف وللعمل بها كما هو الحال في المسائل الفقهيّة.

الجهة الاولى: هل هي حينئذٍ مسألة اصوليّة؟ ذهب بعض الأعلام في المحاضرات إلى أنّها اصوليّة بدعوى أنّ المسألة الاصوليّة ترتكز على ركيزتين:

إحديهما: أن تقع في طريق استنباط الحكم الكلّي الإلهي.

وثانيهما: أن يكون ذلك بنفسها أي بلا ضمّ مسألة اصوليّة اخرى، وكلتا الركيزتين تتوفّران في مسألتنا هذه «1».

ولكن قد مرّت المناقشة في كلامه هذا بأنّه كثيراً مّا يتّفق انضمام مسألة من مسائل الاصول إلى مسألة اخرى حتّى تستنتج منها نتيجة فقهيّة كانضمام مسألة حجّية خبر الواحد إلى مسألة

انوار الأصول، ج 1، ص: 569

حجّية الظواهر أو مسألة التعادل والتراجيح (في الخبرين المتعارضين) ولعلّه ناظر في كلامه هذا إلى ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله في هذا المجال من أنّ المسألة الاصوليّة ما تقع نتيجتها كبرى للقياس بلا واسطة شي ء ومن دون أن تقع مقدّمة لمسألة اخرى وتكون من مبادئها، ولذا ليست مسألة «حقيقة المشتقّ فيما انقضى عنه التلبّس» مثلًا من المسائل الاصوليّة لأنّها لا تقع كبرى للقياس المنتج نتيجة فقهيّة بلا واسطة بل إنّها من مبادى ء مسألة حجّية

خبر الواحد مثلًا، ولا يخفى أنّ كلام المحقّق النائيني رحمه الله هذا شي ء وما ذكره في المحاضرات شي ء آخر، فالظاهر أنّه وقع الخلط بينهما.

والحقّ أنّ المسألة من القواعد الفقهيّة وإنّها ليست مسألة فقهيّة ولا اصوليّة، وذلك لأنّ ميزان القاعدة الفقهيّة- وهو كون النتيجة بنفسها حكماً شرعيّاً كلّياً (لا أن تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي الكلّي كما في المسألة الاصوليّة)- موجود فيها حيث إنّ نتيجتها فساد العبادة مثلًا وهو بنفسه حكم شرعي كلّي- هذا من جانب- ومن جانب آخر لا يمكن إيكال تطبيقه على موارده ومصاديقه في الفقه إلى المقلّد، ولازمهما أن لا تكون المسألة اصوليّة ولا فقهيّة بل هي قاعدة فقهيّة.

هذا كلّه بالنسبة إلى الجهة الاولى من هذا الأمر.

أمّا الجهة الثانيّة: وهي كون المسألة عقليّة أو لفظيّة فذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى إمكان عدّها لفظيّة لأجل أنّه في الأقوال قول بدلالة النهي على الفساد في المعاملات مع إنكار الملازمة بينه وبين الحرمة التي هي مفاده فيها، ولا ينافيه ثبوت الملازمة بين الفساد والحرمة فيما لا تكون الحرمة مستفادة من اللفظ والصيغة كالإجماع القائم على حرمة عبادة أو معاملة، لإمكان أن يكون النزاع مع ذلك في دلالة الصيغة بما تعمّ دلالتها بالالتزام.

ولكن ذهب كثير من الأعاظم إلى أنّها عقليّة وذهب في تهذيب الاصول إلى أنّ المسألة ليست عقليّة محضة ولا لفظيه كذلك. فالأولى تعميم عنوانه ليشتمل العقلي واللّفظي.

أقول أوّلًا: إنّ المسألة ليست لفظيّة قطعاً بل هي عقليّة لأنّ موضوع البحث فيها هو دلالة النهي التكليفي المولوي على الفساد لا الإرشادي، لأنّ النواهي الإرشاديّة في باب المعاملات (كقوله عليه السلام «نهى النبي عن بيع الغرر» أو قوله «نهى النبي عن بيع الخمر» أو قوله «لا

تبع ما ليس عندك») لا إشكال في دلالتها لفظاً على الفساد، وأمّا النهي المولوي كما إذا نذر بأن لا يأتي انوار الأصول، ج 1، ص: 570

بالبيع الفلاني فلا إشكال في عدم دلالته على الفساد كما لا يخفى، فالقول بأنّ النهي يدلّ على الفساد في باب المعاملات (كما أشار إليه المحقّق الخراساني رحمه الله) خلط بين النهي الإرشادي والنهي المولوي، فلا يمكن الاستدلال به على كون النزاع في ما نحن فيه لفظياً.

وثانياً: لا بدّ في عدّ الدلالة الالتزاميّة من الدلالات اللّفظيّة من كون اللزوم فيها بيّناً بالمعنى الأخصّ، ولا إشكال في عدم كونه كذلك في ما نحن فيه وإلّا لم تكن حاجة إلى البحث وإقامة البرهان العقلي عليه.

ثالثاً: ليس بدءاً أن لا تكون هذه المسألة مسألة لفظيّة مع كونها منسلكة في باب الألفاظ وكم لها من نظير كمسألة الإجزاء ومقدّمة الواجب وعدّة من الْامور المطروحة ضمن مبحث مقدّمة الواجب كالبحث عن الواجب المعلّق والواجب المشروط والواجب التعبّدي والتوصّلي حيث لا إشكال في أنّها مباحث عقليّة أُوردت في مباحث الألفاظ، وهكذا غيرها من نظائرها كمباحث الترتّب واجتماع الأمر والنهي وحقيقة الواجب الكفائي والواجب التخييري.

وجدير أن نشير هنا إلى أنّ ما بأيدينا اليوم من علم الاصول وإن انتهى في النموّ والتكامل إلى غايته بالنسبة إلى كثير من العلوم ولكنّه مضطرب النظام والترتيب والتبويب غاية الاضطراب، وإنّي قد لاحظت فيه هذه الجهة فبعد التأمّل في مسائله وإعمال الدقَّة فيها من هذه الناحية وجدت ما يقرب من أربعين إشكالًا ممّا يخلّ بالنظام المطلوب في العلوم، وللبحث التفصيلي عنه مجال آخر.

وممّا ذكرنا ظهر أن النزاع في هذه المسألة ناظر إلى مقام الثبوت وأنّ النهي في ذاته هل يلازم الفساد أو لا؟ سواء

استفدناه من اللفظ أو من غير اللفظ من عقل أو إجماع، وليس ناظراً إلى مقام الإثبات كما في بعض الكلمات.

الأمر الرابع: هل النهي في المقام يختصّ بالنهي التحريمي أو يعمّ التنزيهي أيضاً؟

وهل هو يختّص بالنهي النفسي أو يعمّ النهي الغيري المقدّمي أيضاً (والنهي المقدّمي مثل أن يقال: «لا تصلّ في سعة الوقت وأزل النجاسة عن المسجد»). ذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى انوار الأصول، ج 1، ص: 571

عموم النزاع بالنسبة إلى التنزيهي والمقدّمي، أمّا بالنسبة إلى التنزيهي فلعموم الملاك (وهو عدم كون المنهي عنه مقرّباً إلى اللَّه تعالى)، وأمّا بالنسبة إلى الغيري فلأنّ الفرق بينه وبين النفسي إنّما هو في ترتّب العقوبة على الأوّل دون الثاني ولا دخل لاستحقاق العقوبة على المخالفة وعدمه في كون النهي سبباً للفساد وعدمه، حيث إنّ الملاك على القول به هو نفس الحرمة وهي موجودة بعينها في النهي الغيري سواءً كان أصليّاً كالنهي عن الصّلاة في أيّام الحيض، أو تبعيّاً كالنهي عن الصّلاة لأجل الإزالة، ويؤيّد ذلك (عموم ملاك البحث للنهي الغيري) جعل ثمرة النزاع في مبحث الضدّ- كما هو المعروف- فساد الضدّ إذا كان عبادة كالصّلاة ونحوها مع أنّ النهي هنا غيري مقدّمي (انتهى بتوضيح).

أقول: إنّ ما أفاده بالنسبة إلى النهي التنزيهي فهو في محلّه لنفس ما ذكره من عموم الملاك، وأمّا بالنسبة إلى النهي الغيري فهو غير تامّ لأنّ ما لا عقاب له لا يكون مبعّداً وجداناً، وأمّا استشهاده بمسألة الضدّ ففيه ما مرّ هناك من أنّ النهي عن الضدّ لا يوجب فساد العبادة لأجل كونه غيريّاً فهذا المثال أجنبي عن المطلوب وإن كان مشهوراً.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه ذهب المحقّق النائيني رحمه الله إلى اختصاص النزاع بالنهي التحريمي النفسي وأنّ النهي التنزيهي أو الغيري لا يدلّان على فساد العبادة

قطعاً (أمّا الأوّل) فلأنّ النهي التنزيهي عن فرد لا ينافي الرخصة الضمنية المستفادة من إطلاق الأمر فلا يكون بينهما معارضة ليقيّد به إطلاقه، نعم إذا كان شخص المأمور به منهيّاً عنه كما إذا كان إطلاق الأمر شموليّاً، فلا محالة يقع التعارض بين دليليهما، فإذا قدّم دليل النهي فلا موجب لتوهّم الصحّة مع وجود النهيْ، لكن هذا الفرض خارج عن محلّ الكلام، لأنّ محلّ الكلام إنّما هو فيما إذا كانت دلالة النهي على الفساد هو الموجب لوقوع المعارضة بين دليلي الأمر والنهي ولتقييد متعلّق الأمر بغير ما تعلّق به النهي، ومن الواضح أنّ التعارض في مفروض الكلام لا يتوقّف على دلالة النهي على الفساد أصلًا، (وأمّا الثاني) أعني به النهي الغيري فهو على قسمين:

الأوّل: ما كان نهياً شرعياً أصليّاً مسوقاً لبيان اعتبار قيد عدمي في المأمور به كالنهي عن الصّلاة في غير المأكول فلا إشكال في دلالته على الفساد بداهة أنّ المأمور به إذا اخذ فيه قيد عدمي فلا محالة يقع فاسداً بعدم اقترانه به وهذا خارج عن محلّ الكلام، إذ حال هذه النواهي حال الأوامر المتعلّقة بالاجزاء والشرائط المسوقة لبيان الجزئيّة والشرطيّة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 572

والثاني: ما كان نهياً تبعيّاً ناشئاً من توقّف واجب فعلي على ترك عبادة مضادّة له بناءً على توقّف وجود أحد الضدّين على عدم الآخر، فلا موجب لتوهّم دلالته على الفساد أصلًا وذلك لما عرفته في محلّه من أنّ غاية ما يترتّب على النهي الغيري هذا إنّما هو عدم الأمر به فعلًا مع أنّه يكفي في صحّة العبادة اشتمالها على ملاك الأمر وإن لم يتعلّق بها بالفعل أمر من المولى (انتهى مع تلخيص) «1».

أقول: يرد عليه أنّ ما أفاده في النهي

التنزيهي فيما إذا لم يكن إطلاق الأمر شمولياً صحيح في محلّه، ولكنّه مبني على عدم سراية الأوامر من الطبائع والعناوين إلى الأفراد الخارجيّة، وأمّا بناءً على ما مرّ سابقاً من سرايتها إلى الأفراد وأنّ المطلوب واقعاً إنّما هو الأفراد لا الطبائع فلا، وعليه يكون فرد الصّلاة في الحمّام أيضاً مطلوباً، ومطلوبيتها تنافي النهي عنها.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ محل الكلام في المقام كما عرفت إنّما هو النهي المولوي لا الإرشادي لأنّ النواهي الإرشاديّة سواء في باب المعاملات أو العبادات إنّما ترشدنا إلى الشرطيّة أو الجزئيّة.

وبعبارة اخرى: إرشاد إلى بطلان العبادة أو المعاملة إذا أتى بها بدون ذلك الشرط أو الجزء فمعنى «لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل» «لا تصلّ لأنّها تبطل»، ولا يخفى أنّ أكثر النواهي الواردة في باب المعاملات تكون كذلك، أي أنّها إرشاديّة، بل المثال الوحيد المعروف الذي يذكره القوم للنهي المولوي في باب المعاملات هو النهي عن الصّلاة وقت النداء، وأمّا سائر النواهي الواردة فيها إرشاديّة، كما أنّ غالب الأوامر والنواهي التي تعلّقت في كلام الشارع بجزء أو شرط تكون كذلك، وهذا أمر واضح ومن القضايا التي قياساتها معها.

الأمر الخامس: في المراد من العبادة والمعاملة في محلّ النزاع

فنقول: العبادة على قسمين: العبادة بالمعنى الأخصّ والعبادة بالمعنى الأعمّ، والعبادة بالمعنى الأخصّ ما يعتبر فيه قصد القربة بحيث تقع بدونه فاسدة، والعبادة بالمعنى الأعمّ ما يقصد فيه انوار الأصول، ج 1، ص: 573

القربة، ويترتّب عليه الثواب من دون أن يكون قصد القربة شرطاً فيه.

لا إشكال في أنّ المراد من العبادة في المقام إنّما هو العبادة بالمعنى الأخصّ لا الأعمّ كما لا يخفى.

كما لا إشكال في أنّ المراد من العبادة في ما نحن فيه ما يكون بنفسه عبادة موجبة بذاتها التقرّب إلى اللَّه تعالى

لولا حرمته شرعاً، أي المراد منها العبادة الشأنيّة وما يتعلّق الأمر به مع قطع النظر عن كونه متعلّقاً للنهي، وليس المراد بها ما يكون عبادة فعلًا ولو مع كونه متعلّقاً للنهي، فإنّه لا معنى لكون الشي ء عبادة فعلًا ومع ذلك تعلّق به النهي، لأنّ معنى كونه عبادة فعلًا أنّه محبوب فعلًا، ومعه لا يتعلّق به نهي ولا يكون محلًا للنزاع.

وأمّا المعاملة فلها أربعة معانٍ:

1- المعاملة بمعنى البيع، أي ما يكون مترادفاً مع كلمة البيع وهذا هو أخصّ المعاني.

2- ما يقع بين الاثنين وهو شامل لجميع العقود أعمّ من البيع وغيره ولا يعمّ الايقاعات، وهذا أعمّ من الأوّل.

3- ما يتوقّف على القصد والإنشاء فيعمّ جميع العقود والايقاعات، فيكون أعمّ من الثاني.

4- مطلق ما لا يعتبر فيه قصد القربة سواءً كان فيه الإنشاء أو لم يكن، فيعمّ مثل تطهير الثياب مثلًا، والذي يكون محلًا للنزاع في ما نحن فيه إنّما هو المعنى الثالث الذي يتصوّر فيه الصحّة والفساد ويتضمّن المعنى الأوّل والثاني أيضاً ويكون أخصّ بالنسبة إلى المعنى الرابع، لا المعنى الرابع الذي لا يتصوّر فيه الصحّة والفساد كما لا يخفى.

بقي هنا شي ء:

وهو حقيقة العبادة بالمعنى الأخصّ التي تكون محلّ النزاع في المسألة.

فقد ذكر لها أربعة معانٍ:

1- ما لا يسقط أمره إلّاإذا أتى على نحو قربي.

2- ما أمر به لأجل التعبّد به.

ولا يخفى أنّه تعريف دوري لأنّ مفهوم العبادة أخذ في تعريفها كما لا يخفى.

3- ما يتوقّف صحّته على النيّة.

انوار الأصول، ج 1، ص: 574

ويرد عليه أيضاً أنّه إن كان المراد من النيّة نيّة التقرّب فهو يرجع إلى المعنى الأوّل، وإن كان المراد منها نيّة الفعل وقصد الفعل فهو خلط بين العناوين القصديّة (كأداء الدَين ونحوه) والعبادات حيث

إنّ العناوين القصديّة ما تتوقّف صحّته على قصد العمل أعمّ من أن يقصد القربة به إلى اللَّه أيضاً أو لم يقصد القربة فهي أعمّ من العبادة.

4- ما لا يعلم انحصار المصلحة فيها في شي ء (أي العبادة عبارة عمّا لا تكون مصلحته المنحصرة معلومة).

وفيه: أنّه ليس جامعاً ولا مانعاً لأنّه ربّ عبادة تكون مصالحها معلومة من طريق الآيات والأخبار، ومن جانب آخر ربّ عمل غير عبادي لا نعلم من المصلحة فيه شيئاً كلزوم تركيب كفن الميّت من ثلاث قطعات مثلًا.

فالمتعيّن من هذه المعاني حينئذٍ هو المعنى الأوّل، ولكن الإنصاف أنّه أيضاً لا يعبّر عن حقيقة العبادة بل إنّه من قبيل تعريف الشي ء بأثره حيث إنّ «عدم سقوط الأمر إلّاإذا أتى على نحو قربي» من آثار العبادة وليس عبارة عن حقيقتها، فالأولى أن يقال: أنّها نوع فعل يبرز به نهاية الخضوع ونهاية التجليل للمعبود.

وبعبارة اخرى: إنّ الخضوع له مراتب، والمتبادر من العبادة إنّما هو أعلى مراتب الخضوع كما يظهر بملاحظة معناها بالفارسيّة وهو «پرستش» حيث إنّ المتبادر من هذه الكلمة في اللّغة الفارسيّة إنّما هو نهاية الخضوع والتذلّل، ولذلك قد يقال في محاورات هذه اللّغة في مقام بيان نهاية خضوع شخص بالنسبة إلى شخص آخر: أنّه خضع عنده وتواضع له إلى حدّ «العبادة»، وبالجملة لا يسمّى كلّ نوع من الخضوع وكلّ مرتبة منه عند العرف بعبادة بل إنّها اسم لأعلى مراتبه كما لا يخفى.

نعم، إنّ الأعمال العباديّة على قسمين: ففي قسم منها يكون التعبير عن نهاية الخضوع ذاتياً له ولا يحتاج فيه إلى اعتبار معتبر كالركوع والسجود، وفي قسم آخر منها يكون التعبير عن نهاية الخضوع باعتبار معتبر ووضع واضع وهو في لسان الشرع نظير الوقوف في

المشعر أو السعي بين الصفا والمروة حيث إنّهما يدلّان على العبوديّة ونهاية التذلّل عند المعبود الحقيقي بجعل الشارع واعتباره، وفي لسان العرف نظير رفع القلنسوة عند قوم ووضعها عند قوم آخر لاظهار الخضوع فكما أنّ مطلق الخضوع قد يكون بالذات واخرى بالاعتبار فكذلك نهايته.

انوار الأصول، ج 1، ص: 575

بقي هنا شي ء:

وهو ما قد مرّ كراراً ممّا قد يقال: إنّ هذه التعاريف ليست تعاريف حقيقية بل إنّها تعاريف شرح الاسميّة فلا ينبغي الإيراد في طردها وعكسها.

وقد أجبنا عنه أيضاً بأنّ ظاهر كلمات القوم أنّهم بصدد بيان التعريف الحقيقي الجامع والمانع، والشاهد عليه تعابيرهم الواردة في ذيل التعاريف كقولهم بأنّا إنّما ذكرنا هذا القيد لكذا وكذا، وحذفنا ذاك القيد لكذا وكذا، وحينئذٍ ينبغي لنا أيضاً الإشكال فيها طرداً وعكساً.

الأمر السادس: حدود محلّ النزاع

أمّا حدود محلّ النزاع ويأتي فيه أيضاً بعض ما مرّ في مبحث «الصحيحي والأعمّي» وهو ثلاثة امور:

الأمر الأوّل: أنّ محلّ النزاع في المقام هو ما يكون أمراً مركّباً قابلًا للاتّصاف بالصحّة والفساد، أمّا ما ليس كذلك فهو خارج عن محلّ الكلام، وهو عبارة عن ما لا أثر له كما في بعض المباحات كالتكلّم بكلام مباح، فلا إشكال في أنّ النهي عنه يوجب حرمته من دون أن يدلّ على الفساد لأنّه لم يكن له أثر حتّى يقع فاسداً بعد تعلّق النهي، وهكذا ما يكون ذا أثر ولكنّه من البسائط التي أمرها دائر بين الوجود والعدم كإتلاف مال الغير، فإنّ له أثر وهو الضمان ولكنّه أمر بسيط لا يتصوّر فيه الأجزاء والشرائط حتّى يتصوّر فيه الفساد ويدلّ النهي عنه على الفساد، بل إنّه إمّا يوجد في الخارج فيترتّب عليه أثره وهو الضمان أو لا يوجد في الخارج فلا يترتّب عليه أثره.

الأمر

الثاني: في المراد من الصحّة والفساد.

فقد ذكر للصحّة (وبالتبع للفساد) معانٍ عديدة، فقال بعض أنّها بمعنى تماميّة الأجزاء الشرائط، وقال بعض آخر أنّها بمعنى ما تسقط به الإعادة والقضاء، وذهب ثالث إلى أنّها بمعنى الموافقة للأمر أو الموافقة للشريعة، والأوّلان منقولان من الفقهاء، والأخير نقل عن المتكلّمين.

ولكن قد مرّ في مبحث الصحيح والأعمّي أنّ المختار هو أنّ الصحيح ما ترتّب عليه الأثر المترقّب عنه، والشاهد عليه العرف والتبادر العرفي وتمام الكلام في مبحث الصحيحي والأعمّي.

انوار الأصول، ج 1، ص: 576

الأمر الثالث: أنّ للصحّة استعمالات ثلاثة: فتارةً: تستعمل في مقابل العيب، واخرى: في مقابل المرض، وثالثة: في مقابل الفساد، وقد وقع الخلط بينها في بعض الكلمات مع أنّ الصحّة في مقابل العيب تستعمل في أبواب الخيارات، وهي فيها بمعنى عدم النقصان عن الخلقة الأصلية، والصحّة في مقابل المرض تستعمل في مثل أبواب الصّيام والحجّ بالنسبة إلى المكلّف الحي، وهي فيها بمعنى سلامة المزاج وعدم انحرافه عن طبيعته الأوّليّة، والداخل في محلّ النزاع في ما نحن فيه إنّما هو الاستعمال الثالث، وهي فيه بمعنى ترتّب الآثار المترقّبة من شي ء عليه.

نعم هيهنا نكتة تنبغي الإشارة إليها، وهي أنّ الصحّة في مقابل الفساد (أي الصحّة بالمعنى الثالث) تكون عند العرف من الكيفيات والحالات فيقال «الفاكهة الصحيحة» إذا كانت على حالة معتدلة طبيعية في مقابل الفاكهة الفاسدة، بينما هي في لسان الشرع ومصطلح الفقهاء تستعمل في الأجزاء والشرائط أي الكيفية والكمّية فيقال: الصّلاة صحيحة إذا كانت جامعة للأجزاء والشرائط، ويقال الصّلاة الفاسدة إذا كانت فاقدة للطهارة أو الركوع مثلًا، ولكن هل هو إطلاق مجازي أو أنّه من قبيل الحقيقة الثانويةِ؟ الإنصاف هو الثاني، أي صارت كلمة «الصحيح» حقيقة شرعيّة في الواجد

للأجزاء والشرائط وكلمة «الفاسد» في الفاقد لبعض الأجزاء والشرائط.

الأمر السابع: إنّ الصحّة والفساد أمران إضافيان

يختلفان باختلاف الآثار والأنظار والاشخاص (خلافاً لمثل الزوجيّة للأربعة وشبهها التي هي من الامور الحقيقية الثابتة مطلقاً) فبالنسبة إلى اختلاف الآثار نظير المأمور به بالأوامر الظاهريّة، حيث إنّ المراد من الأثر المترقّب منه إن كان هو ترتّب الثواب عليه فيتّصف بالصحّة، وإن كان المراد من الأثر سقوط الأمر الواقعي في صورة كشف الخلاف فلا يتّصف بالصحّة، فالمأمور به حينئذٍ صحيح من جهة وفاسد من جهة اخرى، وهكذا بالنسبة إلى اختلاف الأنظار، فإن كان النظر في الأوامر الظاهريّة مثلًا الإجزاء عن الأوامر الواقعيّة في صورة كشف الخلاف كان العمل صحيحاً وإن كان النظر عدم الإجزاء لم يكن العمل صحيحاً، وكذلك بالنسبة إلى الأشخاص فإن صلاة القصر مثلًا تتّصف بالصحّة بالنسبة إلى المسافر وتتّصف بالفساد بالنسبة إلى الحاضر، وبهذا يظهر أّنه لا وجه لحصر إضافيّة الصحّة والفساد

انوار الأصول، ج 1، ص: 577

في الآثار والأنظار كما يظهر من بعض كلماتهم.

ثمّ إنّه هل الصحّة والفساد من الامور الواقعيّة، أو من الامور المجعولة بالأصالة أو بالتبع، أو أنّها من الامور الانتزاعيّة، أو لا بدّ من التفصيل بين العبادات والمعاملات وأنّهما من الامور المجعولة في العبادات دون المعاملات؟ فيحتمل كونهما من الامور الواقعيّة، كما يحتمل كونهما من الامور المجعولة بالأصالة كالملكية والزوجيّة ومنصب القضاء والولاية ونحوها من الامور التي تنالها يد الجعل مستقلًا وبالأصالة، كما ورد في الحديث: «فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً (أو حاكماً)» ويحتمل أيضاً كونهما من الامور المجعولة بالتبع كالجزئيّة والشرطيّة في أجزاء المأمور به وشرائطه حيث إنّهما تجعلان بتبع تعلّق الأمر بالجزء أو الشرط، فلم يقل الشارع: «أنّي جعلت الركوع مثلًا جزءً» بل استفدنا جزئيته من قوله «اركع»، ويحتمل

أيضاً كونهما من الامور الانتزاعيّة التي لا وجود لها في الخارج بل الموجود فيه إنّما هو منشأ الانتزاع كالفوقيّة والتحتية.

والحقّ في المقام بناءً على ما مرّ من تعريف الصحّة والفساد بترتّب الأثر المترقّب من الشي ء وعدمه أن يقال: إن كان المراد من الأثر الملحوظ في التعريف هو المصلحة والمفسدة فلا إشكال في أنّهما حينئذٍ أمران واقعيّان لا تنالهما يد الجعل لأنّ المصالح والمفاسد امور واقعية، وإن كان المراد من الأثر سقوط التكليف والمأمور به فبالنسبة إلى الأوامر الواقعيّة إنّهما أمران انتزاعيان ينتزعان من مطابقة المأتي به للمأمور به وعدم مطابقته له، وأمّا بالنسبة إلى الأوامر الظاهريّة فهما من الامور المجعولة الاعتباريّة حيث إنّ الصحّة حينئذٍ عبارة عن جعل الشارع الإجزاء للأوامر الظاهريّة، والفساد عبارة عن جعل الشارع عدم الإجزاء لها، هذا كلّه بالنسبة إلى العبادات.

وأمّا في المعاملات فإن كان المراد من الأثر المفسدة والمصلحة فلا إشكال أيضاً في كونهما فيما من الامور الواقعيّة، وإن كان المراد من الأثر ما يترتّب على العقود والايقاعات من الآثار كالملكية والزوجيّة فلا إشكال أيضاً في كونهما أمرين مجعولين، لأنّ الزوجيّة مثلًا تجعل من جانب الشارع أو العقلاء بعد إجراء العقد.

هذا كلّه بناءً على المختار في تعريف الصحّة والفساد.

وأمّا بناءً على مبنى القائلين بأنّهما عبارة عن المطابقية واللامطابقية فمن المعلوم أنّهما في انوار الأصول، ج 1، ص: 578

جميع الموارد وصفان ينتزعان من مطابقة المأتي به للمأمور به وعدمها فيكونان من الامور الانتزاعيّة، وقسّ عليه سائر المباني.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ مقتضى ما مرّ منّا من تعريف الصحّة والفساد بالأثر أنّهما وصفان حقيقيّان خارجيان يتّصف بهما الوجود الخارجي وليسا من الماهيات والعناوين الكلّية الذهنيّة فإنّ المتّصف بالصحّة في باب المعاملات مثلًا هو صيغة

العقد الخارجي المتحقّقة في الخارج لا عنوان كلّي العقد، لأنّ المنشأ للأثر إنّما هو الخارج والفرد الخارجي لا الماهية والعنوان، وقد مرّ كراراً أنّ أخذ العناوين الكلّية في موضوع الأدلّة إنّما هو للإشارة إلى أفرادها الواقعة في الخارج.

الأمر الثامن: في تأسيس الأصل في المسألة
اشارة

وقد مرّ سابقاً أنّ ثمرة مثل هذا البحث تعيين من عليه إقامة البرهان، وهو من يخالف رأيه الأصل في المسألة لا من يوافقه.

والأصل إمّا لفظي وهو الإطلاق أو العموم، أو عملي وهو تلك الاصول الأربعة المعروفة، ومحلّ جريان الأصل تارةً يكون هو المسألة الاصوليّة وهي في المقام دلالة النهي على الفساد، أو وجود الملازمة بين النهي والفساد، واخرى المسألة الفقهيّة وهي في المقام نظير النهي عن الصّلاة وقت النداء، فهيهنا مقامات أربع:

المقام الأوّل: في الأصل اللّفظي بالنسبة إلى المسألة الاصوليّة

فنقول: لا يوجد أصل لفظي يستفاد منه دلالة النهي على الفساد أو وجود الملازمة بين النهي والفساد، أو يستفاد منه عدم دلالته عليه أو عدم وجود الملازمة من إطلاق أو عموم، وهذا ممّا لا خلاف فيه.

المقام الثاني: في الأصل العملي في المسألة الاصوليّة

قد يقال: إنّ مقتضى استصحاب عدم الدلالة أو عدم وجود الملازمة إثبات المسألة

انوار الأصول، ج 1، ص: 579

الاصوليّة، أي إثبات عدم دلالة النهي على الفساد أو إثبات عدم وجود ملازمة بين النهي والفساد.

ولكن من الواضح عدم جريان هذا الاستحصاب، لأنّ عدم الدلالة أو عدم وجود الملازمة ليس من المتيقّن سابقاً إلّاأن يتمسّك بذيل العدم الأزلي، ولا إشكال في أنّ استصحاب العدم الأزلي لو سلّم حجّيته في محلّه ليس جارياً في المقام لعدم ترتّب أثر شرعي عليه بلا واسطة، حيث إنّ عدم الدلالة أو عدم وجود الملازمة من الآثار العقليّة فيكون الأصل حينئذٍ مثبتاً كما لا يخفى.

المقام الثالث: في الأصل اللّفظي بالنسبة إلى المسألة الفرعيّة

وفيه فرق بين باب العبادات وباب المعاملات، أمّا في العبادات فلا أصل لفظي من عموم أو إطلاق يدلّ على صحّة العبادة المنهي عنها أو فسادها عند الشكّ، وأمّا في المعاملات فيمكن أن يستدلّ للصحّة فيها بإطلاق «اوفوا بالعقود» أو «أحلّ اللَّه البيع» وغيرهما من الإطلاقات المذكورة في محلّه وهذا واضح لا إشكال فيه.

المقام الرابع: في الأصل العملي بالنسبة إلى المسألة الفرعيّة

أمّا بالنسبة إلى المعاملات فبعد فرض عدم عموم أو إطلاق يقتضي الصحّة فيها فمقتضى الأصل الفساد كما هو المشهور، لأنّه بعد أن تعلّق النهي بها وشكّ في دلالته على فسادها بعد تحقّقها في الخارج- لا محالة يقع الشكّ في حصول الأثر المترتّب عليها من ملكيّة أو زوجيّة ونحوهما فيستصحب عدم حصوله.

وأمّا بالنسبة إلى العبادات فكذلك مقتضى الأصل العملي هو الفساد وهو أصالة الاشتغال، فإنّه بعد تعلّق النهي بالعبادة بالخصوص كما في صوم العيدين نقطع بعدم كونها بخصوصها مأموراً بها، لأنّ المفروض أنّ النهي تعلّق بصيام العيدين بالخصوص، ولذلك لا يشمله أيضاً إطلاق الأمر المتعلّق بمطلق صيام كلّ يوم حتّى يحرز الملاك من هذا الطريق ويكون الصّيام صحيحاً من طريق قصد الملاك.

وبالجملة: إنّ تعلّق النهي بالعبادة بالخصوص يوجب انقطاع الأمر من أصله، ومعه لا أمر ولا محرز للملاك حتّى يمكن به تصحيحها.

انوار الأصول، ج 1، ص: 580

بقي هنا شي ء:

وهو ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله بالنسبة إلى المقام الرابع من التفصيل بين ما إذا كان الشكّ من قبيل الشبهة الموضوعيّة، وإليك نصّ كلامه: «إن كان الشكّ في صحّتها وفسادها من قبيل شبهة موضوعيّة فمقتضى قاعدة الاشتغال فيها هو الحكم بفساد المأتي به وعدم سقوط أمرها، وأمّا إذا كان لأجل شبهة حكميّة فالحكم بالصحّة والفساد عند الشكّ يبتني على الخلاف في جريان البراءة والاشتغال في

الجزئيّة أو الشرطيّة أو المانعية» «1».

وقد أورد عليه:

أوّلًا: بأنّ محلّ الكلام في المقام إنّما هو فيما إذا شكّ في صحّة عبادة بعد الفراغ عن كونها منهياً عنها، فتكون الشبهة دائماً حكميّة، فلا يعمّ محلّ النزاع ما إذا كان أصل تعلّق النهي أيضاً مشكوكاً فيه حتّى تدخل فيه موارد الشبهة الموضوعيّة أيضاً.

وثانياً: ليس الشكّ في صحّة العبادة وفسادها ناشئاً دائماً من الشكّ في الجزئيّة والشرطيّة والمانعية حتّى يكون الحكم بالصحّة والفساد مبتنياً على الخلاف في جريان البراءة والاشتغال فيها، بل قد يكون ناشئاً من الشكّ في أصل مشروعيّة العبادة لأنّ النهي تعلّق بمجموعها.

الأمر التاسع: في أقسام تعلّق النهي بالعبادة وتعيين محلّ النزاع فيها
اشارة

إنّ متعلّق النهي تارةً: يكون نفس العبادة كالنهي عن الصّلاة في أيّام الحيض أو النهي عن الصّوم في يوم العيدين، واخرى: يكون متعلّق النهي جزء من أجزاء العبادة كما إذا نهى عن سور العزائم في الصّلاة الواجبة، وثالثة: يتعلّق النهي بشرط العبادة كالنهي المتعلّق بلبس الحرير إذا كان هو الساتر لعورة المصلّي، ورابعة: يتعلّق النهي بوصف من أوصاف العبادة الملازمة لها كما إذا نهى عن الجهر بالقراءة، وخامسة: يتعلّق بوصفها غير الملازم كالنهي عن الصّلاة في المكان المغصوب، فهيهنا خمس صور.

لا إشكال في أنّ القسم الأوّل داخل في محلّ النزاع، وهكذا القسم الثاني لأنّ جزء العبادة عبادة، نعم لا بدّ من البحث فيه عن أنّ الفساد هل يسري من الجزء إلى الكلّ أو لا؟ فقال المحقّق الخراساني رحمه الله بعدم السراية إلّافي صورتين:

انوار الأصول، ج 1، ص: 581

الصورة الاولى: ما إذا اكتفى بإتيان المنهي عنه ولم يأت بالجزء في ضمن فرد آخر كما إذا أتى بسورة من سور العزائم واكتفى بها.

الصورة الثانيّة: ما إذا لم يكتف بالمأتي به ولكن كان المبني بطلان الصّلاة بالزيادة

مطلقاً سواءً كانت من كلام الآدمي أو لم يكن.

ولكن قد أورد عليه المحقّق النائيني رحمه الله بأنّ «فساد الجزء يسري إلى الكلّ مطلقاً ببيان أنّ جزء العبادة إمّا أن يؤخذ فيه عدد خاصّ كالوحدة المعتبره في السورة بناءً على حرمة القرآن، وإمّا أن لا يؤخذ فيه ذلك، أمّا الأوّل فالنهي المتعلّق به يقتضي فساد العبادة لا محالة لأنّ الآتي به في ضمن العبادة إمّا أن يقتصر عليه فيها أو يأتي بعده بما هو غير منهي عنه، وعلى كلا التقديرين لا ينبغي الإشكال في بطلان العبادة المشتملة عليه، فإنّ الجزء المنهي عنه لا محالة يكون خارجاً عن إطلاق دليل الجزئيّة أو عمومه، فيكون وجوده كعدمه، فإن اقتصر المكلّف عليه في مقام الامتثال بطلت العبادة لفقدها جزئها، وإن لم يقتصر عليه بطلت من جهة الاخلال بالوحدة المعتبرة في الجزء كما هو الفرض، ومن هنا تبطل صلاة من قرأ إحدى العزائم في الفريضة سواء اقتصر عليها أم لم يقتصر، بل لو بنينا على جواز القرآن لفسدت الصّلاة في الفرض أيضاً، لأنّ دليل الحرمة قد خصّص الجواز بغير الفرد المنهي عنه، فيحرم القرآن بالإضافة إليه لا محالة، هذا مضافاً إلى أنّ تحريم الجزء يستلزم أخذ العبادة بالنسبة إليه بشرط لا.

ومن هنا (أي هذا الوجه الأخير) تبطل الصّلاة في الفرض الثاني أيضاً وهو ما إذا لم يؤخذ في الجزء عدد خاصّ، فإنّ تحريم الجزء يستلزم أخذ العبادة بالإضافة إليه بشرط لا، فإن لم يقتصر بالجزء الحرام يخلّ بهذا الشرط، وإن اقتصر به بطلت العبادة لفقدها جزئها» «1» (انتهى ملخّصاً).

أقول: يرد عليه:

أوّلًا: أنّ ظاهر أدلّة حرمة القرآن أنّ الحرمة مستندة إلى نفس القرآن لا إلى ذات السورة، ولازمه أن تكون قراءة

هذه السورة وحدها جائزة وتلك السورة أيضاً وحدها جائزة، والحرام إنّما هو إيجاد المقارنة بينهما.

انوار الأصول، ج 1، ص: 582

وبعبارة اخرى: إنّ تلك الأدلّة منصرفة عن ما إذا كانت إحدى السورتين محرّمة بذاتها.

ثانياً: إنّ تحريم جزء ليس معناه أخذ العبادة بشرط لا بالنسبة إلى ذلك الجزء بل لعلّ معناه عدم جواز الاكتفاء به ولزوم الإتيان بجزء آخر معه فيكون نظير رمي الجمرة في مناسك الحجّ بالحجر المغصوب الذي يكون المراد منه عدم جواز الاكتفاء به، فلو أتى بعده بما هو مباح كفاه.

فظهر أنّ ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله في القسم الثاني من التفصيل يكون في محلّه.

أمّا القسم الثالث: وهو ما إذا تعلّق النهي بالشرط- فحاصل كلام المحقّق الخراساني رحمه الله أنّ حرمة الشرط كما لا تستلزم فساده لا تستلزم فساد العبادة المشروطة به أيضاً إلّاإذا كان الشرط عبادة، فإنّه قد فصّل بين ما إذا كان الشرط توصّلياً كالستر وغيره فيكون خارجاً عن محلّ البحث أي لا يضرّ لبس الحرير المنهي عنه مثلًا بصحّة الصّلاة مع قطع النظر عن الأدلّة الخاصّة، وبين ما إذا كان الشرط تعبّديّاً فيوجب النهي عنه فساد نفسه ثمّ فساد العبادة المشروطة به.

وذهب المحقّق النائيني رحمه الله إلى خروج الشرط عن محلّ النزاع، أي عدم إيجاب النهي عنه بطلان المشروط به مطلقاً سواء كان تعبّديّاً أو توصّلياً، وذلك ببيان أنّ شرط العبادة الذي تعلّق به النهي إنّما هو المعنى المعبّر عنه باسم المصدر، فشرط الصّلاة إنّما هي الطهارة المراد بها معنى اسم المصدر المقارنة معها زماناً، وأمّا الأفعال الخاصّة من الوضوء والتيمّم والغسل فهي بنفسها ليست شرطاً للصّلاة وإنّما هي محصّلة لما هو شرطها، فما هو عبادة- أعني بها نفس الأفعال- ليس

شرطاً للصّلاة وما هو شرط لها- أعني به نفس الطهارة- فهو ليس بعبادة بل حاله حال بقيّة الشرائط في عدم اعتبار قصد القربة فيها، ولذلك يحكم بصحّة صلاة من صلّى غافلًا عن الطهارة فإنكشف كونها مقترنة بها، ولا إشكال في أنّ النهي إنّما تعلّق بالمعنى المصدري لا اسم المصدري، فلا يوجب بطلان المشروط إلّاإذا كان النهي عنه نهياً عن نفس الصّلاة المشروط به حيث لا إشكال حينئذٍ في فساد العبادة «1».

أقول: الصحيح هو قول ثالث، وهو دخول الشرط في محلّ البحث مطلقاً من دون فرق بين التعبّدي والتوصّلي، أمّا ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله. ففيه:

أوّلًا: إنّ الشرط وإن كانت ذاته خارجة عن المشروط لكن التقيّد به جزء له ويوجب انوار الأصول، ج 1، ص: 583

تكيّف العبادة وتلوّنها، به وحينئذٍ إذا كان الشرط مقارناً للعبادة كعدم التستّر بالحرير يوجب النهي عنه فساد العبادة المشروطة به لأنّه إذا تستّر بالحرير، أي لم يأت بالشرط، فقد أتى بفعل محرّم وصارت عبادته مقيّدة به، والتقيّد بالحرام يوجب فسادها، وهو نظير ما إذا أمر الطبيب بشرب الدواء في الغداء قبل الغذاء حيث إنّ تقيّد الشرب بهذا الزمان يوجب حدوث حالة وكيفية جديدة في الدواء التي يستلزم عدمها عدم تأثير الدواء في المعالجة.

وثانياً: أنّه قد مرّ سابقاً أنّه ربّما لا يكون شي ء جزءً للصّلاة ولكن يسري قبحه إلى الصّلاة عرفاً ويوجب عدم إمكان التقرّب بها، وقد مرّ أيضاً أنّ عباديّة شي ء ومقرّبيته أمر عقلائي عرفي وأنّه لا يمكن التقرّب بشي ء ما لم يكن مقرّباً عند العرف والعقلاء.

وأمّا ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله ففيه: أنّ كون الشرط في التعبّديات المعنى اسم المصدري لا المصدري لا أثر له في المقام، لأنّ المعنى

المصدري الذي يكون متعلّقاً للنهي وإن لم يكن شرطاً للعبادة بل يكون محصّلًا لشرط العبادة ولكن النهي الذي تعلّق به يوجب فساد نفسه، ثمّ عدم تأثيره في حصول الشرط، وهو المعنى اسم المصدري، وتصير العبادة بالنتيجة باطلة وإن كان موجب بطلانها عدم تحقّق شرطها رأساً لا بطلان شرطها.

بقي هنا شي ء:

وهو ما أفاده في المحاضرات من «أنّ الظاهر من الأدلّة من آية الوضوء والرّوايات هو أنّ الشرط للصّلاة نفس تلك الأفعال (المعنى المصدري) والطهارة اسم لها وليست أمراً آخر مسبّباً عنها (المعنى اسم المصدري) وإنّ ما ورد في الرّوايات من أنّ الوضوء على الوضوء نور على نور وإنّه طهور ونحو ذلك ظاهر في أنّ الطهور اسم لنفس تلك الأفعال دون ما يكون مسبّباً عنها» «1».

ولكنّه بعيد جدّاً ومخالف لظواهر عشرات الرّوايات الواردة في أبواب نواقض الوضوء حيث إنّه لا معنى للنقض بالنسبة إلى نفس الغسلتين والمسحتين فإنّ الشي ء لا ينقلب عمّا وقع عليه، بل الظاهر جدّاً من جملة «لا ينتقض الوضوء إلّابفلان» والتعبير ب «كنت على وضوء» أو التعبير ب «أنا على غير وضوء» أنّ الوضوء حالة معنويّة يمكن أن تستمرّ وتبقى ما لم يحدث انوار الأصول، ج 1، ص: 584

حدث للمتوضّي ء كما يمكن أن تنتقض بوقوع الحدث، ولا يخفى أنّ إرتكاز المتشرّعة أيضاً يساعد عليه.

أمّا القسم الرابع: كالنهي عن الجهر أو الاخفات في الصّلاة حيث إنّه وصف ملازم للقراءة ولا يمكن التفكيك بينهما، وإن كان تبديل أحد الوصفين بالآخر ممكناً فهو أيضاً داخل في محلّ النزاع، لأنّه من الممكن أن يسري النهي عرفاً من الوصف إلى الموصوف لعدم انفكاكهما خارجاً.

أمّا القسم الخامس: فالأولى التمثيل له بالنهي عن النظر إلى الأجنبيه حال الصّلاة فإنّه وصف غير ملازم

للصّلاة، والتمثيل بالنهي عن الصّلاة في الدار المغصوبة فهو صحيح بناءً على جواز الاجتماع لعدم اتّحاد الصّلاة مع الغصب حينئذٍ في الخارج، خلافاً على مبنى الامتناع لأنّ عليه تتّحد الصّلاة مع الغصب، ولذلك اعترف القوم بأنّ باب اجتماع الأمر والنهي تحصل به صغرى باب النهي في العبادات.

وفي مثل المقام لا يسري قبح أحدهما إلى الآخر إلّافي بعض الموارد وهو ما اكتنف الحرام بالعبادة جدّاً بحيث لا يراها العقلاء من أهل العرف مناسباً لشأن المولى مع هذه المقارنات، كما أنّ فعل أنواع المحرّمات بيده ورجله وسمعه وبصره مقارناً للصّلاة من أوّلها إلى آخرها.

بقي هنا أمران:

الأمر الأوّل: هل تتصوّر هذه الأقسام في المعاملات أيضاً أو لا؟

إذا كان المراد من المعاملة هو السبب وهو صيغة العقد فلا إشكال في إمكان تصوير الأقسام المزبورة في المعاملات أيضاً، لأنّ للعقد جزءً وشرطاً ووصفاً كالعبادات، نعم يشكل الظفر بمثال للنهي عن الجزء أو الشرط أو الوصف فيها في مقام الإثبات بل ينحصر النهي في هذا المقام بما تعلّق بذات الفعل، وإن كان المراد منها المسبّب فالمتصوّر فيها حتّى في مقام الثبوت إنّما هو النهي المتعلّق بذاته لا غير، وذلك لأنّ المسبّب، أمر بسيط لا يتصوّر فيه الجزء أو الشرط أو الوصف بل أمره دائر دائماً بين الوجود والعدم.

الأمر الثاني: ربّما يتعلّق النهي بالكلّ لأجل الجزء، أي الجزء واسطة في الثبوت، كأن يقال:

لا تصلّ صلاة تشتمل على سورة من العزائم، وحينئذٍ لا يخفى أنّه داخل في القسم الأوّل، أي انوار الأصول، ج 1، ص: 585

النهي المتعلّق بذات العبادة لأنّها هي متعلّق النهي حقيقة وإن صار الجزء واسطة في تعلّقه بها- هذا كلّه ما أردناه من المقدّمات.

أدلّة الأقوال في المسألة

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ الأقوال في

المسألة كثيرة جدّاً، والمهمّ منها أربعة:

1- الفساد مطلقاً سواء كان المنهي عنه عبادة أو معاملة.

2- الصحّة مطلقاً وهو ما نقل عن أبي حنيفة.

3- التفصيل في المعاملة بين النهي عن السبب والنهي عن المسبّب وأنّه يوجب الفساد في الأوّل دون الثاني، وهو ما ذهب إليه المشهور ومنهم المحقّق الخراساني رحمه الله.

4- التفصيل بين العبادة والمعاملة وأنّه يوجب الفساد في الاولى دون الثانيّة.

ثمّ اعلم أنّ محلّ النزاع في المسألة هو النهي المولوي لا الإرشادي كما مرّ، كما أنّه بحث في مقام الثبوت لا الإثبات، أي النزاع في أنّه لو فرض نهي وكان مولويّاً فهل يوجب الفساد أو لا؟ فلا يبحث عن مقام الإثبات وأنّه متى يكون النهي إرشاديّاً ومتى يكون مولويّاً، والعجب من بعض الأعاظم حيث وقع الخلط في كلماته بين المقامين.

وكيف كان فالحقّ أنّ النهي يوجب الفساد في العبادات وذلك لجهتين:

الاولى: أنّ العبادة مركّبة حقيقة وروحاً من أمرين: الحسن الفعلي والحسن الفاعلي، والمراد من الحسن الفعلي صلاحية ذات العمل للتقرّب به إلى اللَّه تعالى، ومن الحسن الفاعلي قصد الفاعل التقرّب به إلى اللَّه، والنهي ينافيها في كلتي المرحلتين لأنّه يكشف أوّلًا: عن كون الفعل مبغوضاً للمولى وأنّه لا حسن له عنده، وثانياً: عن عدم كون الفاعل متقرّباً به إلى اللَّه تعالى لأنّه كيف يمكن للفاعل قصد التقرّب بما لا يصلح للتقرّب به إلى اللَّه.

نعم إذا كان جاهلًا بتعلّق النهي أمكن حينئذٍ أن يصدر منه قصد التقرّب كما لا يخفى، ولكن هذا من ناحية حسنه الفاعلي، وأمّا الحسن الفعلي وعدمه فلا إشكال في أنّه لا ربط له بعلم المكلّف وجهله، فيوجب عدمه في حال الجهل أيضاً بطلان العمل.

ثمّ إنّ المحقّق الخراساني رحمه الله أورد هيهنا إشكالًا وأجاب

عنه بوجوه عديدة، أمّا الإشكال فحاصله أنّ اقتضاء النهي الفساد في العبادات إنّما يتمّ فيما إذا كان النهي المتعلّق بها دالًا على انوار الأصول، ج 1، ص: 586

الحرمة الذاتيّة، ولا يعقل تحريمها ذاتاً لأنّ المكلّف إمّا أن يقصد القربة أو لم يقصدها، فإن لم يقصدها فلا عبادة كي تحرم بالنهي ذاتاً وتفسد، وإن قصدها فهذا غير مقدور له، إذ لا أمر في البين كي يقصده ويتحقّق به العبادة وتحرم ذاتاً وتفسد إلّاإذا قصد القربة تشريعاً، ومعه يتّصف الفعل بالحرمة التشريعيّة دون الذاتيّة لامتناع اجتماع المثلين.

وأمّا جوابه:

أوّلًا: ما مرّ في بعض المقدّمات من أنّ المراد من العبادة في المسألة إنّما هو العبادة الشأنيّة، أي ما لو تعلّق الأمر به كان أمره عباديّاً ولا يسقط إلّابقصد القربة، ومن المعلوم أنّ تحريم ذلك ذاتاً بمكان من الإمكان.

وثانياً: أنّه ينتقض بالعبادات الذاتيّة كالركوع والسجود حيث إنّهما- كما مرّ- لا تحتاج في عباديتها إلى تعلّق أمر بها، فيمكن تعلّق الحرمة بذاتها كحرمة السجود للصنم لأنّها ثابتة وإن لم يقصد بها القربة ولا يضرّ بعباديتها حرمتها شرعاً وإن أضرّت بمقربيتها.

وثالثاً: أنّه لا منافاة بين الحرمة الذاتيّة والحرمة التشريعيّة ولا يستلزم منهما اجتماع المثلين، لأنّ الحرمة التشريعيّة تتعلّق بفعل القلب وهو الاعتقاد بوجوب العمل، والحرمة الذاتيّة تتعلّق بذات الفعل الخارجي، فهما لا تجتمعان في محلّ واحد حتّى يلزم اجتماع المثلين.

ورابعاً: لو سلّمنا أنّ النهي في العبادات لا يكون دالًا على الحرمة الذاتيّة نظراً إلى الإشكال المزبور، إلّاأنّ النهي فيها ممّا يدلّ على الفساد من جهة الحرمة التشريعيّة فلا أقلّ من دلالتها على سقوط الأمر عن العبادة وأنّها ليست مأمور بها من أصلها، وهو يكفي في فسادها.

أقول: يرد عليه:

أوّلًا: إنّ قضيّة امتناع اجتماع المثلين

تتصوّر في الامور التكوينيّة لا الامور الاعتباريّة حيث لا مانع عقلًا من اجتماع المثلين في الاعتباريات كما لا مانع من اجتماع الضدّين فيها، فإنّ البحث فيها بحث عن الحسن والقبح واللغويّة وعدمها لا عن الإمكان والاستحالة كما مرّ بيانه كراراً.

وثانياً: إنّ اجتماع الملاكين من الحرمة في مورد يوجب اندكاك أحدهما في الآخر وتأكّده به، فتكون هناك حرمة واحدة مؤكّدة متعلّقة بفعل واحد وإن كان فيه ملاكان للحرمة، وهو نظير ما إذا تعلّق النذر بفعل واجب، حيث لا إشكال في انعقاده وتأكّد وجوب الواجب به.

انوار الأصول، ج 1، ص: 587

وبهذا يظهر أنّ الوجه الثالث من الوجوه الأربعة التي أجاب بها المحقّق الخراساني رحمه الله عن الإشكال في غير محلّه.

مضافاً إلى أنّ البدعة والتشريع ليس مجرّد عمل للقلب بل إنّه يتشكّل من عمل خارجي كالصيام في العيدين ومن عقد القلب بكونه مشروعاً.

وإن شئت قلت: إنّ الاعتقاد القلبي يكون سبباً لانطباق عنوان التشريع على العمل الخارجي، وعلى أيّ حال: يتّحد متعلّق الحرمة الذاتيّة مع متعلّق الحرمة التشريعيّة فيعود المحذور الذي في كلام المستشكل.

وهكذا الوجه الأوّل والثاني، أمّا الأوّل: فلأنّه مبني على تعلّق النهي في لسان الأدلّة على ذات الأفعال المنهي عنها مع أن الظاهر أنّه تعلّق بالصّلاة مع قصد القربة في مثل قوله عليه السلام:

«دعي الصّلاة أيّام أقرائك» فليست العبادة الواردة في لسان الأدلّة العبادة الشأنيّة بل إنّها ناظرة إلى مقام الفعل والقصد.

وأمّا الثّاني: (وهو النقض بالعبادات الذاتيّة) فلأنه التزام بنفس الإشكال وإقرار بأنّه لو لم تكن العبادة ذاتيّة كان الإشكال وارداً، فيكون الجواب أخصّ من الإشكال.

فالوجه الصحيح والتامّ من الوجوه الأربعة إنّما هو الوجه الرابع وهو كفاية الحرمة التشريعيّة لفساد العمل.

ثمّ إنّ للمحقّق الحائري قدس سره في المقام

تفصيلًا آخر، وهو التفصيل بين ما إذا تعلّق النهي بنفس المقيّد وهي الصّلاة المخصوصة مثلًا (كأن يقال مثلًا لا تصلّ في الحمّام) وما إذا تعلّق النهي بأمر آخر يتّحد مع الطبيعة المأمور بها (كأن يقال مثلًا «كون صلاتك في الحمّام حرام» أو «كون صيامك في العيدين حرام») ففي الصورة الاولى يوجب النهي الفساد من جهة عدم إمكان كون الطبيعة من دون تقييد ذات مصلحة توجب المطلوبيّة، والطبيعة المقيّدة بقيد خاصّ ذات مفسدة توجب المبغوضيّة، لأنّ الجهة الموجبة للمبغوضيّة ليست مباينة لأصل الطبيعة حتّى في عالم الذهن، فلا يمكن أن تكون مبغوضاً ويكون أصل الطبيعة محبوبة من دون تقييد.

وبعبارة اخرى: لو بقيت المحبوبيّة التي هي ملاك الصحّة في العبادة في المثال يلزم كون الشي ء الواحد خارجاً وجهةً محبوباً ومبغوضاً وهو مستحيل، وأمّا الصورة الثانيّة فالصحّة والفساد فيها يبتنيان على كفايّة تعدّد الجهة في تعدّد الأمر والنهي ولوازمها من القرب والبعد

انوار الأصول، ج 1، ص: 588

والإطاعة والعصيان والمثوبة والعقوبة وحيث اخترنا كفاية تعدّد الجهة في ذلك فالحقّ في المقام الصحّة» «1».

أقول: يرد عليه:

أوّلًا: أنّ باب الاجتماع يتصوّر في ما إذا كان في البين عنوانان مستقلّان وهو ليس صادقاً في المقام لأنّ كون الصّلاة في الحمّام هو من الخصوصيّات الفرديّة واللوازم الوجوديّة للصّلاة فلا يعدّ عنواناً مستقلًا عن عنوان الصّلاة.

وثانياً: لو سلّم صحّة هذا التفصيل ثبوتاً فلا يصحّ في مقام الإثبات حيث لا أظنّ في هذا المقام وجود مورد في لسان الشرع تعلّق النهي فيه بالخصوصيّة الخارجة عن الذات، أي بأمر آخر يتّحد مع الطبيعة المأمور بها بل الظاهر أنّ جميع النواهي الشرعيّة هي من موارد الصورة الاولى، أي تعلّق النهي فيها بنفس المقيّد كقوله «لا تصلّ في الحمّام»

وقوله «لا تصمّ في السفر» وغير ذلك.

بقي هنا شي ء:

وهو أنّ محلّ النزاع ما إذا كان النهي ظاهراً في المولويّة، وأمّا النواهي الظاهرة في الإرشاد فهي خارجة عن محلّ الكلام، ولا إشكال في دلالتها على الفساد كجميع الأوامر والنواهي التي تعلّقت بالأجزاء والشرائط حيث إنّها ظاهرة في الإرشاد بظهور ثانوي وإن كان ظاهرها بالطبع الأوّلي هو المولويّة من باب أنّ الناهي فيها إنّما هو مولى مفترض الطاعة، وبالجملة أنّ العبادات مخترعات شرعيّة لا بدّ من بيان أجزائها وشرائطها ضمن أوامر ونواهي، وهذا أوجب انقلاب ظهورها في المولويّة إلى الظهور في الإرشاد فقول الشارع المقدّس: «أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ» إرشاد إلى شرطيّة الوقت للصّلاة، وقوله تعالى:

«وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا» إرشاد إلى شرطيّة الطهارة كما أنّ قوله عليه السلام: «لا تصلّ في وبَر ما لا يؤكل لحمه» إرشاد إلى مانعية وبَر ما لا يؤكل لحمه للصّلاة.

هذا تمام الكلام في العبادات.

النهي في المعاملات:

وأمّا المعاملات فالنزاع فيها أيضاً يختصّ بالنهي المولوي، وأمّا الإرشادي منه فلا إشكال في دلالته على الفساد كما في العبادات، كما أنّ النزاع فيها إنّما هو في وجود الملازمة بين النهي والفساد عقلًا ولا دخل للغة والعرف فيها، فقول المحقّق الخراساني رحمه الله من «أنّ النهي الدالّ على حرمتها لا يقتضي الفساد لعدم الملازمة فيها لغة وعرفاً بين حرمتها وفسادها أصلًا» في غير محلّه، بل الصحيح أن يقال: أنّه لا يقتضي الفساد لعدم الملازمة بين حرمة المعاملة وفسادها عقلًا من باب عدم اعتبار قصد القربة فيها كما كان معتبراً في العبادات.

نعم لا بدّ من التفصيل بين أقسام النهي المتعلّق بالمعاملات فإنّه على أقسام أربع:

القسم الأوّل: النهي المتعلّق بالسبب كما في قوله تعالى: «إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ

مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ» وقوله عليه السلام «لا تبع وقت النداء» بناءً على ما هو الصحيح في محلّه من أنّ أسامي العقود وضعت للأسباب لا المسبّبات.

القسم الثاني: النهي المتعلّق بالمسبّب كأن يقال: «لا تملّك الكافر المصحف» أو يقال: «لا تملّك الكافر العبد المسلم» فإنّ المنهي عنه المبغوض للشارع فيهما إنّما هو سلطة الكافر المسبّب عن بيع المصحف أو بيع العبد المسلم، حيث إنّ اللَّه لن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلًا.

القسم الثالث: النهي عن التسبّب، أي إيجاد المعاملة بسبب خاصّ وبآلة خاصّة كأن يقال:

«لا تتملّك شيئاً بالربا» فإنّ أصل التملّك ليس مبغوضاً للشارع بل المبغوض إنّما هو التملّك من طريق الأخذ بالربا.

القسم الرابع: النهي المتعلّق بالنتيجة كأن يقال: «لا تأكل ثمن الخمر» أو «ثمن العذرة سحت» فإنّ النهي تعلّق بالثمن الذي هو نتيجة للعقد.

أمّا القسم الأوّل: فلا إشكال في عدم دلالة النهي فيه على الفساد لنفس ما مرّ من عدم وجود ملازمة بين النهي عن شي ء وفساده عقلًا.

وأمّا القسم الثاني: فذهب المحقّق الخراساني رحمه الله إلى عدم دلالته أيضاً على الفساد، ولكن المحقّق النائيني رحمه الله اختار دلالته على الفساد بدعوى أنّ النهي عن المسبّب تعجيز للعبد، فكأنّه يرى ظهوراً عرفياً للنهي عن المسبّب في التعجيز أو ملازمة عقليّة بينه وبين التعجيز، وقد أنكر عليه المحقّق العراقي رحمه الله، والمنسوب إلى شيخنا الأعظم الأنصاري رحمه الله التفصيل بين ما إذا

انوار الأصول، ج 1، ص: 590

كانت الأسباب عقليّة كشف عنها الشارع فتصحّ المعاملة في مثل بيع المصحف أو المسلم من الكافر ثمّ يجبر الكافر بإخراج المسلم أو المصحف عن ملكه، وبين ما إذا كانت الأسباب شرعيّة فتبطل المعاملة لأنّ جعل السبب بعيد مع

مبغوضيّة متعلّقه ومسبّبه.

وقال في تهذيب الاصول توضيحاً لكلامه: «الظاهر أنّ مراده من كون الأسباب عقليّة هو كونها عقلائيّة إذ لا يتصوّر للسبب العقلي الاعتباري هنا معنى سوى ما ذكرنا» «1».

أقول: التعبير بالكشف لا الإمضاء في كلام الشّيخ الأعظم رحمه الله شاهد قطعي على أنّ مراده من كون الأسباب عقليّة ليس كونها عقلائيّة اعتباريّة كما لا يخفى، فمرجع كلامه حينئذٍ إلى أنّ في باب المعاملات يوجد نحو تأثّر وتأثير واقعيين بين الأسباب والمسبّبات كعقد النكاح والزوجيّة، نظير ما قد يدّعي في باب تداخل الأسباب والمسبّبات من أنّ الأسباب الشرعيّة أسباب واقعية عقليّة كشف عنها الشارع.

وكيف كان فالإنصاف في هذا القسم ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله من دلالة النهي على الفساد ببيان «أنّ صحّة المعاملة تتوقّف على ثلاثة امور:

الأوّل: كون كلّ من المتعاملين مالكاً للعين أو بحكمه ليكون أمر النقل بيده ولا يكون أجنبياً عنه.

الثاني: أن لا يكون محجوراً عن التصرّف فيها من جهة تعلّق حقّ الغير بها أو لغير ذلك من أسباب الحجر ليكون له السلطنة الفعليّة على التصرّف فيها.

الثالث: أن يكون إيجاد المعاملة بسبب خاصّ وآلة خاصّة، وعلى ذلك فإذا فرض تعلّق النهي بالمسبّب وبنفس الملكيّة المنشأة مثلًا كما في النهي عن بيع المصحف والعبد المسلم من الكافر كان النهي معجزاً مولويّاً للمكلّف عن الفعل ورافعاً لسلطنته عليه فيختلّ بذلك الشرط الثاني» «2».

أقول: أضف إلى ذلك أنّ فساد المعاملة في هذا القسم هو مقتضى الحكمة العقلائيّة في القوانين المجعولة عندهم حيث إنّ المقنّن الحكيم لا يمضي عقداً يكون مسبّبه مبغوضاً عنده والعقلاء يذمّون من أمضى عقداً ثمّ أجبر المشتري بالبيع ثانياً، وهذا بخلاف القسم الأوّل، أي انوار الأصول، ج 1، ص: 591

النهي عن السبب، فلا

دليل فيه على الفساد لعدم كون المسبّب فيه مبغوضاً عند الشارع على الفرض بل المبغوض فيه إنّما هو أمر آخر خارج عن المسبّب كوصف المزاحمة للصّلاة في قوله «لا تبع وقت النداء».

ثمّ إنّه أجاب في تهذيب الاصول عن مقالة الشّيخ الأعظم رحمه الله بأنّ «ما ذكره رحمه الله من- أنّ جعل السبب بعيد مع مبغوضيّة متعلّقه- غير مجد لأنّ الجعل لم يكن مقصوراً بهذا المورد الخاصّ حتّى يتمّ ما ذكره من الاستبعاد بل الجعل على نحو القانون الكلّي الشامل لهذا المورد وغيره، نعم اختصاص المورد بالجعل مع مبغوضيّة مسبّبه بعيد» «1».

ولكن قد مرّ كراراً أنّ الحقّ هو انحلال الأحكام القانونيّة الكلّية بعدد مصاديقها وأفرادها، فينحلّ إمضاء الشارع في قضيّة «أحل اللَّه البيع» مثلًا إلى إمضاءات متعدّدة بعدد أفراد البيع، فيشمل إمضائه مثل بيع المصحف من الكافر وحيث إنّه منافٍ للحكمة بالبيان المزبور فنستنتج عدم شمول إمضائه لمثل هذا المورد.

أمّا القسم الثالث: فأيضاً يدلّ النهي فيه على الفساد لنفس ما مرّ في القسم الثاني، فإنّ إمضاء الشارع الحكيم إيجاد معاملة بسبب خاصّ مع كون التسبّب به مبغوضاً عنده، ينافي حكمته.

أمّا القسم الرابع: فلا إشكال ولا خلاف في دلالة النهي على الفساد فيه أيضاً لأنّ مبغوضيّة الأثر وكونه سحتاً مثلًا عند المولى في مثل «ثمن العذرة سحت» يدلّ بالانّ على الفساد عرفاً فإنّ لازم حرمة الأثر والنتيجة عند العرف بقاء الثمن في ملك المشتري، وهذا من قضايا قياساتها معها، ولذلك نرى كثيراً ما تعبّر الشارع عن بطلان معاملة لا خلاف في بطلانها بلسان حرمة النتيجة.

بقي هنا شي ء:

وهو ما أفاده وإدّعاه في هامش أجود التقريرات من أنّ حرمة المعاملة لا تدلّ على فسادها مطلقاً وإنّه لا سببية في

باب إنشاء العقود والايقاعات أصلًا وأنّه لا معنى لأنّ يكون النهي انوار الأصول، ج 1، ص: 592

متعلّقاً بالمعنى المعبّر عنه بالمصدر تارةً، وبالمعنى المعبّر عنه باسم المصدر اخرى، ببيان أنّ هناك ثلاثة امور:

الأمر الأوّل: اعتبار الملكيّة مثلًا بمن بيده الاعتبار أعني به الشارع.

الأمر الثاني: اعتبار الملكيّة القائم بالمتبايعين مع قطع النظر عن إمضاء الشارع له وعدم إمضائه له.

الأمر الثالث: إظهار المتبايعين اعتبارهما النفساني بمظهر خارجي من لفظ أو غيره، أمّا الاعتبار القائم بالشارع فهو غير قابل لتعلّق النهي به ليقع الكلام في دلالته على الفساد وعدم دلالته عليه، ضرورة أنّ الاعتبار القائم بالشارع خارج عن تحت قدرة المكلّف واختياره فكيف يعقل تعلّق النهي به؟ فإذا فرض في مورد أنّ الاعتبار المزبور مبغوض له لم يصحّ نهي المكلّف عنه، بل الشارع بنفسه لا يوجد مبغوضه، وهذا ظاهر لا يكاد يخفى، وأمّا الاعتبار القائم بالمتبايعين مثلًا فهو وإن كان قابلًا لتعلّق النهي به إلّاأنّه لا يدلّ على عدم إمضاء الشارع له لأنّ سلب القدرة عن المكلّف في مقام التكليف لا يستلزم حجر المالك وعدم إمضاء اعتباره على تقدير تحقّقه في الخارج، لأنّ النهي إنّما يتكفّل بإظهار الزجر عن تحقّق متعلّقه في الخارج من دون تعرّض لإمضائه على تقدير تحقّقه وعدم إمضائه، فإذا كان لدليل الإمضاء إطلاق بالإضافة إلى الفرد المنهي عنه لم يكن مانع من الأخذ به أصلًا، وأمّا النهي المتعلّق بذات ما يكون به إظهار الاعتبار من المتبايعين كالنهي عن البيع المنشأ باللفظ أثناء الاشتغال بصلاة الفريضة أو النهي المتعلّق بمظهر الاعتبار المزبور بما هو مظهر، فعدم دلالتهما على عدم كون الاعتبار النفساني القائم بالمتبايعين ممضي عند الشارع ظاهر لا سترة عليه، فالصحيح أنّ حرمة المعاملة لا

تدلّ على فسادها مطلقاً نعم إذا كان النهي عن معاملة ما ظاهراً في كونه في مقام الردع عنها وعدم إمضائها كان دالًا على فسادها مطلقاً إلّاأنّ ذلك خارج عمّا هو محلّ الكلام بين الأعلام» «1» (انتهى).

أقول: يرد عليه:

أوّلًا: بالنسبة إلى مبناه في باب الإنشاء ما حقّقناه في محلّه من أنّ الإنشاء إيجاد، أي أنّه انوار الأصول، ج 1، ص: 593

عبارة عن إيجاد أمر عقلائي واعتباره بأسبابه الخاصّة، وليس من قبيل الإظهار.

وثانياً: ما مرّ آنفاً من وجود ملازمة عرفيّة عقلائيّة (لو لم تكن عقليّة) بين النهي عن الاعتبار القائم بالمتبايعين وبين عدم إمضائه وإن أمضاه المتعلّق مع كونه مبغوضاً يخالف الحكمة عند العقلاء.

إلى هنا تمّ البحث بحسب ما يقتضيه العقل وبناء العقلاء.

وأمّا بحسب الأدلّة النقليّة فإنّ هناك روايتين ربّما يستدلّ بهما على عدم دلالة النهي على الفساد، (وقد وردتا في باب عدم نفوذ نكاح العبد من دون إذن مولاه وإنّ صحّته موقوفة على إجازته) وذهب جماعة منهم المحقّق الخراساني رحمه الله إلى عدم دلالتهما لا على الفساد ولا على الصحّة، وادّعى بعض دلالتهما على الصحّة:

إحديهما: ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال سألته عن مملوك تزوّج بغير إذن سيّده فقال: «ذاك إلى سيّده إن شاء أجازه وإن شاء فرّق بينهما» قلت: أصلحك اللَّه إنّ الحكم بن عيينة وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون: إنّ أصل النكاح فاسد ولا تحلّ إجازة السيّد له، فقال أبو جعفر عليه السلام: «إنّه لم يعص اللَّه وإنّما عصى سيّده فإذا أجازه فهو له جائز» «1»

. (وهي معتبرة سنداً).

ثانيتهما: ما رواه زرارة أيضاً عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن رجل تزوّج عبده امرأة بغير إذنه فدخل بها ثمّ إطّلع على ذلك

مولاه قال: «ذاك إلى مولاه إن شاء فرّق بينهما وإن شاء أجاز نكاحهما فإن فرّق بينهما فللمرأة ما أصدقها ... وإن أجاز نكاحه فهما على نكاحهما الأوّل» فقلت لأبي جعفر عليه السلام: فإنّ أصل النكاح كان عاصياً فقال أبو جعفر عليه السلام: «إنّما أتى شيئاً حلالًا وليس بعاص اللَّه، إنّما عصى سيّده ولم يعص اللَّه إنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم اللَّه عليه من نكاح في عدّة وأشباهه» «2»

. (وهي غير معتبرة من ناحية السند لمكان موسى بن بكر).

فاستدلّ بقوله عليه السلام «إنّما عصى سيّده ولم يعص اللَّه» لدلالة النهي على الفساد بدعوى أنّ مفهومه فساد النكاح لو كان عصى اللَّه ووجود الملازمة بين عصيان اللَّه في المنهي عنه وفساده،

انوار الأصول، ج 1، ص: 594

واستدلّ بهما أيضاً للصحّة ببيان أنّ عصيان السيّد ملازم لعصيان اللَّه تعالى، لأنّ طاعة السيّد واجب شرعاً، فإذا لم يوجب عصيان السيّد الفساد لم يوجبه عصيان اللَّه أيضاً.

أقول: الظاهر أنّ منشأ الخلاف في مدلول الرّوايتين إنّما هو أنّ العصيانين الواردين في الرّوايتين هل هما تكليفيان، أو أنّهما وضعيان، أو أحدهما وضعي والآخر تكليفي؟ فكأنّ القائل بدلالتهما على الفساد يرى أنّ كليهما تكليفيان، والقائل بالصحّة يرى عصيان السيّد تكليفيّاً فحسب وعصيان اللَّه المنفي في الرّواية وضعيّاً، ولازمه أن يكون مدلول الرّواية أنّ الذي يوجب بطلان النكاح وفساده إنّما هو العصيان الوضعي لا التكليفي، ومحلّ النزاع في المقام إنّما هو النواهي التكليفية وإنّها هل تدلّ على الفساد أو لا، لا الوضعيّة.

ومن هنا يرد عليه ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله من أنّ مقتضى وحدة السياق وحدة العصيانين في المعنى «1»، فلا يتمّ القول بدلالتهما على الصحّة، وأمّا القول الأوّل، وهو دلالتهما على الفساد.

فيرد عليه:

أنّ الإنصاف أنّ المراد من كلا العصيانين في الرّوايتين العصيان الوضعي، أمّا بالنسبة إلى عصيان اللَّه فلأنّ جميع المحرّمات في باب النكاح محرّمات وضعية كما يظهر بالتتبّع فيها، وأمّا ما ورد فيها من الوعيد بالعذاب والعقاب فهو أيضاً ناشٍ من الحرمة الوضعية وما يترتّب على بطلان النكاح، ويؤيّد ذلك ما ورد في ذيل الرّواية الثانيّة من قوله عليه السلام: «إنّ ذلك ليس كإتيان ما حرّم اللَّه عليه من النكاح في عدّة وأشباهه» حيث إنّ حرمة النكاح في العدّة وضعية بلا إشكال.

وأمّا بالنسبة إلى عصيان السيّد فلأنّه لا إشكال في أنّه ليس لازم اعتبار الاذن من السيّد حرمة مجرّد إجراء صيغة النكاح تكليفاً على العبد وإلّا يستلزم حرمة التكلّم وأشباهه أيضاً ممّا لا يعتبر فيه الاذن من السيّد قطعاً بل غاية ما يقتضيه كون عقد النكاح فضولياً وغير تامّ بحسب الوضع، فيصير صحيحاً بلحوق الاجازة، ولازم هذا الحرمة الوضعية فقط.

بقي هنا أمران:

الأمر الأوّل: ما حكي عن أبي حنيفة والشيباني من دلالة النهي على الصحّة، وظاهره انوار الأصول، ج 1، ص: 595

دلالته عليها مطلقاً سواء في المعاملات والعبادات، وحكي عن فخر المحقّقين موافقته لهما بل وافقهما المحقّق الخراساني رحمه الله في بعض شقوق المعاملة وفي تهذيب الاصول في جميعها، ولكن خالفهما المشهور، والحقّ أنّ كلامهما هذا ساقط عن الاعتبار مطلقاً كما سيأتي بيانه.

وكيف كان فهيهنا ثلاثة أقوال: دلالة النهي على الصحّة مطلقاً، وعدم دلالته عليها مطلقاً، والقول بالتفصيل، أي دلالته عليها في الجملة.

أمّا القول الأوّل: فاستدلّ له بأنّ النهي لا يصحّ إلّاعمّا يتعلّق به القدرة، والمنهي عنه هو وقوع المعاملة مؤثّرة صحيحة، فلو كان الزجر عن معاملة مقتضيّاً للفساد للزم أن يكون سالباً لقدرة المكلّف، ومع عدم قدرته

يكون لغواً، فلو كان صوم يوم النحر والنكاح في العدّة مثلًا ممّا لا يتمكّن المكلّف من إتيانهما كان النهي عنهما لغواً لتعلّقه بأمر غير مقدور.

وإن شئت قلت: أنّ الانزجار عن الفعل المنهي عنه حاصل لعدم القدرة عليه، فالنهي عنه حينئذٍ تحصيل للحاصل.

وأجاب عنه المحقّق الخراساني رحمه الله بالتفصيل بين ما إذا كان النهي في المعاملات عن المسبّب أو التسبّب، فيدلّ على الصحّة لاعتبار القدره في متعلّقه عقلًا كالأمر وإنّه لا يكاد يقدر على المسبّب أو التسبّب إلّافيما إذا كانت المعاملة مؤثّرة صحيحة، وبين ما إذا كان النهي فيها عن السبب فلا يدلّ على الصحّة لأنّ المكلّف قادر على السبب، أي على إجراء الصيغة على أيّ حال: سواء كان صحيحاً أو فاسداً.

هذا كلّه في المعاملات وأمّا العبادات فقد قسّمها إلى قسمين:

أوّلهما: ما كان منها عبادة ذاتيّة كالركوع والسجود ممّا لا تحتاج عباديتها إلى تعلّق أمر بها، فذهب إلى كونها مقدورة صحيحة ولو مع النهي عنها كما إذا كانت مأموراً بها لأنّ عباديتها لا تتوقّف على تعلّق الأمر به لكي لا يمكن تحقّقها إذا تعلّق النهي بها ولم تكن مأموراً بها.

ثانيهما: ما كان منها عبادة لتعلّق الأمر بها ولاعتبار قصد القربة في عباديتها فذهب في هذا القسم إلى عدم كونه مقدوراً مع النهي عنه لأنّ المبغوض لا يكون مقرّباً فيدلّ النهي فيه على الفساد.

وأورد عليه في تهذيب الاصول توجيهاً لقول أبي حنيفة والشيباني بأنّ مورد نظرهما ليس نفس السبب بما هو فعل مباشري إذ ليس السبب متعلّقاً للنهي في الشريعة حتّى يبحث عنه بل انوار الأصول، ج 1، ص: 596

مورد النظر هو المعاملات العقلائيّة المعتدّ بها لولا نهي الشارع عنها، أعني العقد المتوقّع منه ترتّب الأثر والمسبّب عليه

«1».

أقول: مقصوده أنّ النهي يتعلّق بالسبب بما هو سبب وبوصف السببيّة لا بذات السبب، فلا وجه للتفريق بين النهي عن السبب والنهي عن المسبّب أو التسبّب في كلام المحقّق الخراساني رحمه الله.

ولكن يرد عليه: أنّ لازم هذا رجوع النهي عن السبب إلى النهي عن المسبّب أو النهي عن التسبّب، وهو خلاف التقسيم المفروض في كلام المحقّق الخراساني رحمه الله.

وكيف كان، فالحقّ عدم دلالة النهي على الصحّة مطلقاً بل غاية ما يدلّ عليه إنّما هو صحّة العمل المنهي عنه لولا تعلّق النهي به، وهذا يكفي في الخروج عن محذور تحصيل الحاصل ومحذور تعلّق النهي بأمر غير مقدور، وذلك لأنّ الشارع يسلب القدرة عن المكلّف تعبّداً بنهيه عنه نظير ما يلاحظ في باب النذر فيما إذا تعلّق بترك عبادة مكروهة مثلًا، حيث إنّ الناذر يسلب القدرة عن نفسه تعبّداً وشرعاً لا تكويناً وخارجاً، وفي ما نحن فيه إذا نهى الشارع المقدّس عن بيع المصحف من الكافر فقد سلب عن المكلّف القدره الشرعيّة على البيع التي كانت له قبل النهي، والذي تقتضيه حكمة الشارع الحكيم إنّما هو صحّة المعاملة لولا تعلّق النهي وقبل تعلّقه، وأمّا بعد تعلّقه فالحكمة تقتضي عقلًا أو عقلائيّاً الفساد لوجود الملازمة بين المبغوضيّة المستفادة من النهي والفساد عند العرف والعقلاء كما مرّ.

وبعبارة اخرى: عدم دلالة النهي على الفساد مستلزم للغويّة لا أنّ عدم الفساد مستلزم لها، لاقتضاء الحكمة العقلائيّة أن يكون المبغوض فاسداً.

ثمّ إنّ المصرّح به في كلمات جماعة من المحقّقين ومنهم المحقّق الخراساني والمحقّق النائيني رحمهما الله أنّ متعلّق النهي في العبادات ليس هو العبادة الفعليّة أي العبادة الصحيحة من جميع الجهات بل إنّما يتعلّق النهي بشي ء لو تعلّق الأمر به لكان أمراً

عباديّاً، فإنّ الشرائط الآتية من قبل الأمر خارجة عن المدلول بل مطلق الشرائط على التحقيق كما صرّح به في تهذيب الاصول «2».

أقول: إنّ الظاهر من النواهي المتعلّقة بالعبادات كالنهي عن الصّلاة في أيّام العادة أنّها

انوار الأصول، ج 1، ص: 597

تتعلّق بالعبادة الجامعة لجميع الشرائط حتّى قصد القربة كما مرّ في بعض الأبحاث السابقة، فمعنى قوله عليه السلام «لا تصلّ في أيّام اقرائك» «لا تصلّ صلاة كنت تأتين بها قبل أيّام العادة» أي الصّلاة الجامعة لجميع شرائط الصحّة.

هذا- مضافاً إلى كونه مقتضى ما اخترناه في مبحث الصحيح والأعمّ من أنّ الألفاظ الشرعيّة وضعت للصحيح وما يكون مبدأً للآثار، حيث إنّه يقتضي كون متعلّق النهي تلك العبادة الجامعة لتمام شرائط الصحّة، نعم يستلزم النهي سلب القدرة عن إتيانها، وبعبارة اخرى: النهي يتعلّق بالعبادة الفعليّة قبل النهي لا بعده.

وبهذا يظهر أنّ دلالة النهي على الفساد- أي بطلان كلام أبي حنيفة والشيباني في باب العبادات- ليست متوقّفة على عدم كون المراد من الصحيح الصحيح من جميع الجهات وعلى عدم كون المراد من الصحّة هو الصحّة الفعليّة كما ذهب إليه جماعة من الأعلام بل النهي يدلّ على الفساد في باب العبادات ولو كان المراد من الصحّة الصحّة الفعليّة لأنّ المقصود منها الفعليّة قبل النهي لا بعده كما مرّ آنفاً.

الأمر الثاني: أنّه قد مرّ شمول النزاع في المسألة للأعمّ من النهي التحريمي والتنزيهي، ونتيجته دلالة النهي على الفساد مطلقاً حتّى إذا كان تنزيهياً لأنّه الوجه في دلالته على الفساد وجود الملازمة بين المبغوضيّة وعدم الإمضاء من جانب الشارع، ولا إشكال في أنّ النهي التنزيهي أيضاً يدلّ على مبغوضيّة متعلّقه ولو كانت بدرجة أقلّ من التحريمي.

وإن شئت قلت: لا بدّ لكون العبادة مقرّبة

من أن يكون العمل محبوباً، والنهي التنزيهي دالّ على عدم كون المتعلّق محبوباً على الأقلّ وإن لم يكن دالًا على كونه مبغوضاً.

إن قلت: فكيف الحكم بصحّة العبادات المكروهة؟

قلنا: قد مرّ البحث مستوفى عن العبادات المكروهة وأنّ الكراهة فيها ليست هي الكراهة المصطلحة فراجع.

هذا بالنسبة إلى العبادات، وأمّا المعاملات فلا دليل على دلالة النهي التنزيهي فيها على الفساد كالنهي عن بيع الأكفان والنهي عن تلقّي الركبان، حيث إنّ المفروض جواز العمل المكروه في الكراهة المصطلحة من ناحية الشارع، فكيف تلازم عدم الإمضاء من جانبه؟

وكيف تكون منافية للحكمة بعد ملاحظة عدم اعتبار قصد القربة في المعاملات؟ حيث لا

انوار الأصول، ج 1، ص: 598

يمكن أن يقال حينئذٍ: «أنّ النهي التنزيهي يدلّ على الأقلّ على عدم كون المتعلّق محبوباً فلا يكون مقرّباً» كما يقال به في باب العبادات التي تعلّق بها النهي التنزيهي.

إلى هنا تمّ الكلام في مباحث النواهي والحمد للَّه أوّلًا وآخراً.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.