الاخلاق فى القرآن

اشارة

سرشناسه : مکارم شیرازی ناصر، 1305 - عنوان و نام پديدآور : الاخلاق فی القرآن/ناصر مکارم شیرازی ؛ لمساعده مجموعه من الفضلاء ؛ تعریب الموسسه الاسلامیه للترجمه. مشخصات نشر : قم: مدرسه الامام علی بن ابی طالب (ع 1425ق 1384. مشخصات ظاهری : 3ج. فروست : نفحات القرآن؛ الدوره الثانیه. شابک : 90000 ریال: دوره 964-8139-27-X ؛ ج.1 964-8139-05-9 ؛ ج.2 964-8139-26-1 ؛ ج.3 964-8139-25-3 ؛ 80000 ریال (دوره، چاپ دوم) يادداشت : عربی. يادداشت : عنوان اصلی: پیام قرآن دوره دوم: اخلاق در قرآن. عربی. يادداشت : ج. 3(چاپ سوم: 1428ق=1386). يادداشت : ج. 1 - 3 (چاپ دوم: 1426ق. = 1385). یادداشت : کتابنامه. مندرجات : ج.1. اصول المسائل الاخلاقیه. -ج.2-3. فروع المسائل الاخلاقیه. موضوع : قرآن -- اخلاق موضوع : اخلاق اسلامی موضوع : احادیث اخلاقی -- قرن 14 شناسه افزوده : موسسه اسلامی ترجمه شناسه افزوده : مدرسه الامام علی بن ابی طالب (ع). رده بندی کنگره : BP103/3 /م7پ9043 1383 رده بندی دیویی : 297/159 شماره کتابشناسی ملی : 1153409

الجزء الثالث

الإعراض عن الأخلاق إعراض عن كل شي ء

مقدمة:

في هذا الوقت الذي أكتب فيه هذه المقدمة، يدور الحديث في الأوساط العالمية عن العمليات الإرهابية التي وقعت في أمريكا وأضرارها على ذلك البلد وعلى جميع العالم، ثم الحديث عن الحملات الانتقامية التي تزمع أمريكا القيام بها ضد أفغانستان ومناطق اخرى.

الجميع يتحدث عن الآثار السياسية والاقتصادية المترتبة على هذه العمليات الإرهابية المدمّرة على المدى القصير والبعيد، ولكن قلّما نجد من يتحدث عن المعطيات الأخلاقية لهذه الحادثة الفريدة.

واحدى هذه المعطيات هو أنّ أكبر قدرة عالمية يمكنها أن تكون الأضعف بين دول العالم بحيث ينهار رمز عظمتها وشموخها فجأة بواسطة هجوم عدّة أشخاص.

والمعطى الآخر يشير إلى عدم إمكان الاعتماد على شي ء في هذا

العالم، حيث يمكن أن تتبدل جميع الحسابات والمعادلات بواسطة حادثة ارهابية قام بها أشخاص معدودون بحيث أذلّت رقاب المقتدرين وفضحت إدعاءات المستكبرين ودوّخت أذهان المدبّرين واستغفلت عقول الحاكمين بحيث لم ينتبهوا إلّابعد أن انتهى كل شي ء.

والآخر، أنّ الإنسان المعاصر وبسبب ضعف دعائم الأخلاق الفردية والاجتماعية يدفع ثمناً باهضاً في حركة الحياة ويرى كل شي ء في خطر المحق والانهيار.

عندما ينهار قصر «العدالة» البهيج وتحل محلّه اطلال الظلم والجور، وافرازات الأنانية وحبّ الجاه والسلطة لقوى الانحراف ويصل النصل إلى العظم لدى المحرومين والمعدمين ويعيشون الاختناق في هذه الظروف العصيبة.

وعندما لا تسمح حالات الغرور والتكبر بإدراك الحقائق الموجودة على أرض الواقع من موقع الوضوح في الرؤية بحيث يعجز الإنسان عن إدراك ما يجري حوله من تفاصيل الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 6

الحياة، فانّ مثل هذه الحوادث لا تكون خارج اطار التوقع، الحوادث التي أحدثت اهتزازاً في صرح قوى الاستكبار والظلم وجعلتهم يعيشون التخبّط والتشنّج لأيّام وشهور عديدة.

ألم يحن الوقت الذي ينكشف لنا أنّ العالم المادي قد وصل إلى طريق مسدود، ولابدّ له من العودة إلى أجواء المعنويات والأخلاق الإنسانية ليتسنى لها تجميد عناصر الارهاب من جهة، واشاعة أجواء الحب والودّ والصفاء من جهة اخرى.

إنّ التغافل عن الواقعيات لا يؤدّي إلى زوالها، فما دامت أشكال الظلم والجور والعدوان والأنانية موجودة في العالم، فلابدّ أن نتوقع حدوث مثل هذه الوقائع بل أشدّ منها.

إنّ الحديث في هذا المجال واسع وكثير التفاصيل والتحاليل لا يسعنا استعراضها في هذه المقدمة القصيرة، والغرض هو الإشارة فقط إلى هذه المسألة لنعيش اليقظة، ولنعلم جميعاً أنّ إصلاح الوضع الخطير في العالم المعاصر لا يجدي فيه القيام بعمليات انتقامية حيث تؤدّي إلى إلقاء الزيت على النار وتفضي

إلى زيادة الهجمات الإرهابية، ولإلقاء اللائمة على هذا وذاك.

لابدّ أن يتحمل الجميع مسؤوليتهم ويتحركوا من موقع الإذعان لمبادي ء الأخلاق الإنسانية ولزوم تجسيدها في حياة الفرد والمجتمع لنيل الحياة السعيدة والمفعمة بالأمن والتقدم.

ومن هنا نمدّ أيدينا إلى الباري تعالى ونبتهل إليه ونشكره لتوفيقه لإتمام الجزء الثالث والأخير لكتاب «الأخلاق في القرآن» حيث يمكننا أن نخاطب البشرية من هذا الموقع ونقول:

* هذه هي أخلاقنا الإسلامية!

* هذه هي طريقة حياتنا ومعالم مسيرتنا!

* هذا هو دستور النجاة من الأزمات والمشاكل!

قم/ الحوزة العلمية

ناصر مكارم الشيرازي 1380 ه ش الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 7

حبّ الجاه

تنويه:

تختلف الميول الإنسانية من شخص إلى آخر فالبعض يحب المال والبعض الآخر يحب الجمال وآخر يحب الكمال، وآخر يطلب المقام والجاه، أي يطلب الوجاهة، فيجب أن يحترمه الناس وينحنون له، ويريد أن يشيرون إليه بالبنان ويطلبون منه حوائجهم، وبعبارة أدق يحس بأنّه أرفع شأناً من الباقين، له الكلام الأول والأخير وإن كان أقل فهماً ودرايةً، ويسمى مثل هذا الشخص بالراغب للوصول لأعلى المراتب أو محب الجاه.

هذه الصفة تتوفر في الكبار أكثر منها لدى الشباب والصغار، وفي بعض الأحيان ترافق الإنسان حتى الممات، فتتلاشى كل قواه إلّاحبّ الجاه فهو راسخ في القلب بل يزداد رسوخاً وقوّة كلما امتد العمر في الإنسان.

هذه الرذيلة هي مصدر لكثير من المفاسد والفردية، فهي تبعد الإنسان عن الخَلق والخالق، ولأجل الوصول لأهدافه المشؤومة تقحمه في المهالك، والأنكى من ذلك أنّها تظهر في الغالب بصورة حسنة مثل الاحساس بالمسؤولية والعزم على أداء الواجبات الاجتماعية ولزوم الإرادة الصحيحة وما شابه ذلك، فقد جاء في الحديث: «آخرُ ما يَخرُجُ مِنْ قُلوبِ الصِّدِّيقِينَ حُبُّ الجاهِ».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 8

ويبين هذا الحديث خطورة هذهِ الرذيلة الأخلاقية.

والجدير

بالذكر أنّ هذه الصفة لها صلة وثيقة مع الرياء والتكبر والعُجب وغالباً ما يُشتبه بينها وبين مثيلاتها.

وبهذه الإشارة نعود لنستوحي ما ورد عن عللها وعواقبها في القرآن الكريم:

1- في حادثة السامري التي جاءت في سورة طه في الآيات 85 و 88 و 95 و 96 تبين أنّ حبّ الجاه هو السبب في ضلال السامري وجمع غفير معه من بني اسرائيل حيث قال:

«قالَ فَانا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السامِرِىُّ ... فَاخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسَى فَنَسِىَ ...

قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ- قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي» «1».

2- «وَاذْ قُلْتُمْ يا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَاخَذَتْكُمُ الصاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» «2».

«وَقالَ الَّذْينَ لايَرْجُونَ لِقائَنا لَوْلا انْزِلَ عَلَيْنا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنا لَقَد اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً» «3».

3- «وَنادَى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ قالَ يا قُومِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ* أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِى هُوَ مَهْينٌ وَلا يَكادُ يُبِيْنُ» «4».

4- «قالَ إِنَّما اوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي ... فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذينَ يُرْيدُونَ الْحَيوةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما اوتِيَ قارُونَ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» «5».

5- «قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهاً غَيْري لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ» «6».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 9

6- «أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِى السَّماءِ وَلَنْ نُؤمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّى تُنَزِّلُ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ» «1».

«تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذيْنَ لايُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ» «2».

تفسير واستنتاج:

ذم طُلاب الجاه

كما أشرنا سابقاً أنّ حبّ الجاه يعني التعلق الشديد بالمكانة والمنزلة

الاجتماعية والسعي لنيلها بأي صورة كانت، وهو من الرذائل الخطيرة التي لا تؤثر على الجوانب الروحية للانسان فحسب بل تجعل الشخص منبوذاً اجتماعياً، ويعيش العزلة القاتلة.

ولقد رأينا على مدى تاريخ الأنبياء عليهم السلام والأقوام السالفة، كم كانت هذه الرذيلة منتشرة ومتفشية فيهم، بحيث تحدث عنها القرآن الكريم في أكثر من آية وسورة.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ كثيراً من الرذائل لها مفاهيم مشتركة، وكما يقول المثل وجهان لسكة واحدةٍ، بحيث يمكن أن يصدر فعل قبيح من الإنسان يكون مصداقاً لعدّة صفات رذيلة، وقد نزلت في مثل ذلك آيات من القرآن الكريم تعكس هذا المعنى لبعض الرذائل كالتكبر والغرور والأنانية والعجب والرياء وحب الجاه.

وعلى أية حال، نرى في الآيات الاولى قصة السامري المعروفة لدى الجميع، فللسامري سمعة قبيحة عند بني اسرائيل، وكان محبّاً للجاه بشكل غريب، حيث استغل غياب النبي موسى عليه السلام وذهابه للقاء ربّه في طور سيناء، فصنع من حلّي بني اسرائيل عجلًا جسداً له خوار، فعندما كانوا يضعونه في اتجاه الهواء تصدر منه أصواتاً غريبة، أو يقال أنّه جمع مقداراً من التراب الذي كان تحت أقدام جبرائيل عليه السلام أو مركبه الذي ظهر به عندما

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 10

اغرق فرعون وجنوده في اليم، فوضع ذلك التراب داخل العجل الذهبي، والصوت الذي كان يصدر منه من بركة ذلك التراب. وبعدها دعى السامري الناس لعبادة ذلك العجل ولم يمرّ وقت طويل حتى استجاب له بعضهم وعبدوا العجل وسجدوا له.

وقال اللَّه تعالى في القرآن الكريم: «قالَ فَانا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السامِرِيُّ».

فرجع موسى غضبان أسفاً إلى قومه وعاتب أخاه هارون عتاباً شديداً، وتبرأ القوم من فعلهم واتهموا السامري فقال سبحانه وتعالى: «فَاخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا

جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسَى فَنَسِىَ ...».

وتوجه بعدها موسى عليه السلام إلى السامري: «قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ- قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي».

كان هدف السامري من تلك الفتنة المضلّة هو الوصول إلى الجاه والمنصب والمقام، فعاقبه الباري تعالى بالطرد من المجتمع والإنزواء «قالَ فَاذْهَبْ فَانَّ لَكَ فِي الْحَيوةِ أَنْ تَقُوْلَ لا مِساسَ».

فكان في الشريعة الموسوية وقوانينها الجنائية، أنّ الإنسان، إذا ما أذنب ذنباً كبيراً، ينظر إليه وكأنّه رجس خبيث نجس فلا يحق أن يمسّه أحد ولا يمس هو أحداً.

ويقال: إن السامري ابتلي بمرض نفسي ووسواس شديد بحيث كان يخاف من جميع الناس وإذا ما تقرب إليه أحد يصيح ويقول «لا مساس»، نعم فهذا هو جزاء من يحب الجاه ويتلاعب بالدين لأجل أغراضه الدنيوية.

وتتطرق الآيات القرآنية في «الآية الثانية» إلى نوع آخر من حبّ الجاه والمقام لبني اسرائيل، فقد طلبوا أمراً عجيباً من موسى عليه السلام، فقالوا: «ارنا اللَّه جهرةً» وإلّا لن نؤمن لك أبداً، فأخذتهم الصاعقة، ولولا لطف الباري تعالى لماتوا إلى الأبد، وفيها قال تعالى في قرآنه الكريم:

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 11

«وَاذْ قُلْتُمْ يا مُوسَى لَنْ نُؤمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَاخَذَتْكُمُ الصاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».

ولكن ما هي الصاعقة؟

إنّها رعد وبرق ينتج نتيجة اصطدام الغيوم ببعضها، فهي تحمل الكهربائية الموجبة وعند وصولها للأرض تبحث عن الكهربائية السالبة فتتحد معها بدرجة حرارة تصل إلى 15000 مئوية فتحدث صوتاً مهيباً وإذا ما اصابت مكاناً ما فستدمره تدميراً كاملًا.

في قصة بني اسرائيل عندما وقعت الصاعقة على بني اسرائيل وتجلّى الباري للجبل وجعله دكّاً مات جميع

من اختارهم موسى عليه السلام من بني اسرائيل وعددهم (70) نفراً من شدة الخوف والهلع الذي أصابهم، وبقي موسى على قيد الحياة ولكنه غاب عن الوعي وعندما أفاق، طلب من الباري تعالى العفو والمغفرة ودعا لهم بالحياة فاستجاب الباري دعاءه وأحياهم وعلم هؤلاء القوم المعاندين إلى أنّهم ليسوا بشي ء أمام قدرة الباري تعالى.

أشار القرآن الكريم إلى هذهِ الحادثة في مكان آخر وآية اخرى فقال:

«يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ».

فيمكن أن يكون ذلك الطلب من التذرع أو من حبّ الجاه أو من الاثنين معاً، ويستمر القرآن الكريم ويقول قد سألوا أكبر من ذلك «1» «فَقَدْ سَئَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهمُ الصاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ».

فهذه التعبيرات وما شابهها تبيّن مدى تغلغل حبّ الجاه والكبر والغرور والعناد في قلوب بني اسرائيل، ولذلك كانوا دائماً يتذرعون ويتحججون في كل وقت، وهي نفس الصفات الرذيلة التي نراها عند اليهود في وقتنا الحاضر، ولحد الآن يعتبرون أنفسهم شعب اللَّه المختار، ويفكرون في السيطرة على اقتصاد العالم، مع عدم قدرتهم وكفائتهم على ذلك.

ولم يكن حبّ الجاه متغلغلًا في قلوب بني اسرائيل فحسب، فالفراعنة ونمرود كانوا

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 12

أيضاً من مصاديق ذلك، فنقرأ في القسم الثالث من الآيات، أنّ الباري تعالى قال عن فرعون:

«وَنادَى فِرْعَوْنُ فِي قَومِهِ قالَ يا قُوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ* أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِنْ هذَآ الَّذي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبينُ فَلَولا الْقِيَ عَلَيْهِ اسْورَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقتَرِنينَ».

وقد جمع فرعون في هذه الآية عدّة رذائل، الغرور، التكبر، حبّ الجاه واغفال البُسطاء من الناس، والغريب في الأمر أنّ فرعون شاهد معجزات

النبي موسى عليه السلام بعينه ولكنه أصرّ واستكبر وتمسك بمسألة الطبقة الاجتماعية والأسورة من الذهب، ولثغة موسى عليه السلام في الكلام (بالرغم من أن اللثغة قد زالت منه بعد البعثة بعد ما طلب موسى ذلك من اللَّه تعالى).

وعلى أيّة حال فإن فرعون لم يزد قومه إلّاضلالًا.

وفي «الآية الرابعة» من هذه الآيات نواجه قصة «قارون» فهو من النماذج البارزة للأشخاص الذين يعيشون حبّ الجاه عند بني اسرائيل، وهي الصفة القبيحة التي أودت بحياته وأرسلته إلى الحضيض.

فيا للعجب من الغرور وحبّ الجاه كيف يضع الحجب على بصيرة وفهم الإنسان ويمنعه من درك أكثر الامور بداهةً، فعندما وعضه بعض بني اسرائيل وقالوا له: بما أنّ اللَّه قد أنعم عليك فابتغ فيما آتاك اللَّه من النعم الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا، فكل شي ء آيلٌ إلى الزوال وإيّاك أن تستعمل هذه الأموال للإفساد في الأرض ومحاربة الرسول عليه السلام.

فقال ذلك الرجل المغرور في جوابه: «قَالَ اوتيتُهِ عَلى عِلمٍ عِندي ...» قال ذلك واستمر في عناده وجموحه، ولأجل أن يرضي غريزة حبّ الجاه عنده، خرج على قومه بزينة من الخيل والخدّام وكثرة الغلمان الذين كانوا يجلسون على سرجٍ من ذهب ويلبسون أنواع الحُلي الذهبية.

وقد أخذ مثل ذلك المنظر البرّاق والمخادع بقلوب وعقول بني اسرائيل فقالوا: «قالَ الَّذِينَ يِرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما اؤتِيَ قارُونَ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظيمٍ».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 13

ولكن وكما صرّح القرآن الكريم في هذه الآيات فإنّ اللَّه تعالى خسف بقارون الأرض ودفنت كل أمواله وقصوره والزينة التي كانت عليه وكأن شيئاً لم يكن، لا قارون ولا امواله ولا زينته المبهرة للعقول!!

وعندها انتبه الذين تمنوا مقام قارون، انتبهوا من غفلتهم ورجعوا عن

قولهم واستعاذوا باللَّه تعالى من أقوالهم. نعم فإنّ حبّ الجاه والغفلة والغرور، تغوي الإنسان وتورثه الغفلة عن أبسط الامور البديهية للحياة، وبما أنّ الإنسان خلق ضعيفاً، فانّ أوهى عنوان أو أمتياز يعرض عليه يغير حياته ويقلبها رأساً على عقب ويفضي به إلى الهلكة لأنّه سرعان ما يدعي القدرة والاستقلال، بل يتعداها إلى مقام الالوهية.

وفي «الآية الخامسة» من الآيات تتحدث عن فرعون، وتصوّر لنا حبّ الجاه وأعماله الجنونية حيث خاطب موسى عليه السلام قائلًا: «قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهاً غَيْري لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ» بلا شك، أنّ فرعون بادعائه للربوبية لم يكن من السذاجة بدرجة لا يدرك فيها دعوة موسى عليه السلام المنطلقة من التعريف باللَّه ربّ العالمين، فهو الحاكم على أرض مصر الوسيعة.

وبديهي أن الأنانية والتكبر وحبّه للجاه، لم تكن لتسمح له بقبول الحق والمنطق السليم الصادر من اللَّه تعالى على لسان نبيه موسى عليه السلام.

وهذا هو طريق الطغاة وأفعالهم فدائماً ما يقابلون الحق بالقوّة، والدليل والبرهان بالسجن!

ولكن عقوبة السجن في مثل هذه المواد لم تكن أداة رادعة في دائرة التصدي لخط الرسالة والنبوة بقيادة موسى عليه السلام الذي ضعضع أركان حكومة فرعون، ولهذا ذكر بعض المفسرين أنّ سجن فرعون لم يكن بالسجن الذي يخرج منه الإنسان حيّاً، فالمسجون فيه يلاقي شتى أنواع العذاب حتى يموت فيه.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 14

و يدور الحديث في «الآية السادسة» من هذهِ الآيات، عن مشركي العرب فبدلًا من أن يطلبوا الدليل والبرهان والمعجزة من الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله كانوا يتذرعون بأنواع الذرائع من موقع الانكار والجحود، فتارة يطلبون منه تفجير الينابيع والعيون من الصحاري المقفرة اليابسة والحارة من أرض الحجاز، وتارة يطلبون جنات من أعناب ونخيل تجري

من تحتها الأنهار، وتارة يطلبون انزال الحجارة من السماء واخرى حضور الباري تعالى والملائكة والبيوت من الذهب؟ وبعدها يقولون:

«أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِى السَّماءِ وَلَنْ نُؤمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّى تُنَزِّلُ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ».

فاولئك بطلباتهم تلك، قد كشفوا عن واقعهم الزائف حيث يعيشون منتهى الكبر وحبّ الجاه الذي ملأ قلوبهم، واثبتوا أنّ الإنسان عندما يقع في سلوكه الأخلاقي والفكري تحت تأثير تلك الصفات الذميمة، فسوف يتحرك بعيداً عن العقل والمنطق.

اختلف المفسرون بأن ما المراد من كلمة (بيت من زخرفٍ)؟

فاحتملوا فيها أمرين: الأول أنّ المراد من الكلمة هو بيت ملي ء بالذهب أو أشياء مصنوعة من الذهب، والثاني: أنّ المراد هو بيت منقوش بالزخارف الذهبية، ولكن التفسير الأول أوفق لسياق الآية وذلك بالنظر إلى عبارة (من زخرفٍ).

في «الآية السابعة» والأخيرة من هذهِ الآيات التي وردت عقيب الحديث عن قارون، صدر أمر إلهي عام فقال:

«تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لايُريُدونَ عُلُوّاً فِى الْارْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقينَ».

نعم فإن عاقبة محبّي الجاه والمستكبرين، نفس عاقبة قارون الذي باع كل شي ء من أجل حبّه للجاه والمقام وعاش مغضوباً عليه، وختم حياته باللعن الإلهي إلى الأبد.

ويمكن الاستفادة من عطف الفساد على العلو في الأرض في الآية أنّ المتكبرين الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 15

ومحبّي الجاه والمقام سيفسدون في الأرض في نهاية المطاف كي يشبعوا عطشهم وغرائزهم، ولن يتوقفوا عند أي جناية يرتكبونها.

ومن الجدير بالذكر أنّ الإمام علي عليه السلام عندما آلت اليه الخلافة كان يخرج بنفسه إلى السوق، فيرشد الضّال ويساعد الضعيف وعند مروره بجانب الباعة والكسبة كان يقرأ عليهم هذهِ الآية: «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لايُريُدونَ عُلُوّاً فِى الْارْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقينَ».

وفي حديث آخر عن الإمام

الصادق عليه السلام أنّه عندما تلا هذه الآية بكى وقال: «ذَهَبَتِ واللَّهِ الأَمانيُّ عِندَ هذهِ الآيةِ» «1».

ويمكن أن يكون مراد الإمام عليه السلام أنّه بما أنّ الباري تعالى جعل الآخرة للّذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا يريدون الرئاسة، وهو أمر صعب جدّاً، فسوف لا تبقى امنية للشخص المؤمن في حركة الحياة الدنيوية.

ويستفاد من مجموع الآيات التي ذكرت سابقاً وما شابهها من الآيات أن طلب الجاه والرئاسة، وخصوصاً إذا ما اقترن بالكبر والغرور والعناد فانّه سيفضي بالحياة الإنسانية إلى السقوط، وسوف لا تؤثر على الفرد فقط بل تطال المجتمع ايضاً.

حبّ الجاه في الروايات الإسلامية:

ورد الحديث عن هذه الرذيلة مرّةً تحت عنوان (حبّ الجاه) ومرّة تحت عنوان (حبّ الرئاسة) واخرى بعنوان «الشرف»، ونختار قسماً من تلك الروايات الكثيرة:

1- الروايات التي تتحدث عن مدى تأثير وتخريب هذهِ الرذيلة في دائرة الدين والمعتقد، بحيث جاء في الحديث النبوي الشريف: «ما ذِئبانِ ضاريانِ ارسِلا فِي زَرِيبَةِ

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 16

غَنَمٍ أكثرَ فَساداً فِيها مِنْ حُبِّ المالِ وَالجاهِ فِي دِينِ الرِّجُلِ المُسلِمِ» «1».

وتأسيساً على ذلك، فإنّ حبّ الجاه والثروة وعبادة المقام تمثل عناصر خطيرة على مستوى عملية هدم الدين وتخريب الإيمان في أعماق النفس، كما هو الحال في علاقة الذئب والغنم.

2- ونقرأ في حديث آخر عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أيضاً أنّه قال: «حُبُّ الجاهِ وَالمالِ يُنبِتانِ النِّفاقَ فِي القَلبِ كَما يُنبِتُ الماءُ البَقلَ» «2».

3- وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «مَنْ طَلَبَ الرِّئاسَةَ هَلَكَ» «3».

4- قد أولت الروايات الإسلامية أهمية كبرى لهذهِ المسألة من موقع التحسس لظهور أبسط العلامات لحبّ الجاه وحذّرت منها، ففي حديث عن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً: «إِيّاكُم وَهَؤلاءِ الرُّؤساءِ الَّذِينَ

يَتَرَأسُونَ فَواللَّهِ ما خَفَقْتِ النِّعالُ خَلفَ رَجُلٍ إلّاهَلَكَ وأَهلَكَ» «4».

ويجب التنوية إلى أن المستضعفين والمحرومين غالباً ما كانوا حفاة الأقدام في ذلك الزمان والنعال مختص بالغني، ومن البديهي أنّ هؤلاء لا يتبعون شخصاً في سبيل اللَّه ومن أجل الخير!

5- في حديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وفي معرض حديثه عن الجذور الأصلية للذنوب: «أَوّلُ ما عُصِي اللَّهُ تَباركَ وَتَعالى بِستِّ خِصالٍ حُبِّ الدُّنيا وَحُبِّ الرِّئاسَةِ وَحُبِّ الطَّعامِ وَحُبِّ النِّساءِ وَحُبِّ النَّومِ وَالرَّاحَةِ» «5».

6- وعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «إِنّ حُبَّ الشّرفِ وَالذِّكرِ لايَكُونانِ فِي قَلبِ الخائِفِ الرَّاهِبِ» «6».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 17

7- وعن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً: «مَنْ طَلَبَ الرِّئاسَةَ بِغيرِ حَقٍّ حُرِمَ الطَّاعَةَ لَهُ بِحَقٍ» «1».

ومن ذلك البيان يتبين أنّ حبّ الجاه والمقام يتقاطع دائماً مع الحق، ومنه يتبيّن أيضاً أنّ حبّ الرئاسة على نوعين:

الرئاسة بالحق والرئاسة بالباطل:

نقرأ في بعض الآيات أنّ «عباد الرحمان» يطلبون من الباري تعالى أن يجعلهم للمتقين إماماً «واجعَلنا لِلمُتَّقِينَ إِماماً» «2».

ومنه يتبيّن أنّ حبّ الرئاسة لا يقع في الدائرة الذميمة دائماً، كما ذكر هذا المعنى العلّامة المجلسي قدس سره في كتابه بحار الأنوار، حيث قسّم الرئاسة إلى نوعين: «رئاسة بالحق» و «رئاسة بالباطل»، بعدها ضرب مثالًا لرئاسة الحق وهو التصدي لمقام الفتوى والتدريس والوعظ، ويعقب قائلًا: إنّ الذي له الأهلية لذلك وهو عالم بالكتاب والسنة وهدفه هداية الخلق وتعليم الناس، فيجب عليه إمّا عيناً أو كفايةً التصدي لذلك المقام، ولكن الذي لا علم له ولا اطلاع بالمسائل وليس له هدف إلّاالشهرة وتحصيل المال والمقام، فتلك الرئاسة الباطلة، وهذا هو فعل المبتلين بالصفة الرذيلة وهي حبّ الجاه.

وبعدها نقل عن بعض المحققين أن معنى كلمة «الجاه»

هو تملك القلب والتأثير عليه، فحكمها حكم تملك الأموال، كل هذهِ الامور هي من أهداف الحياة، وتنتهي بالموت، والدنيا مزرعة الآخرة، فالذي يجعل من تلك زاداً له في الآخرة فهو السعيد والمنعم، والذي يجعل منها وسيلة لإتباع الأهواء فهو الشقيّ الفقير «3».

وفي الواقع أنّ الذين يطلبون الرئاسة لأغراض اجتماعية وإنسانية، أو بعبارة اخرى الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 18

يطلبون الجاه للوصول للاهداف الإلهيّة وليس لحب المقام والرئاسة بالذات، اولئك في الحقيقة السائرون على خط الإمام علي عليه السلام الذي يقول: «أما وَالَّذي فَلَقَ الحَبّةَ وَبرَأ النَّسمَةَ لَولا حُضُورِ الحاضِرِ وَقِيامِ الحُجَّةِ بِوجُودِ النَّاصِرِ وَما أَخَذَ اللَّهُ عَلَى العُلَماءِ أَلّا يُقارُّوا عِلى كِظّةِ ظالِمٍ وَلا سَغبِ مَظلُومٍ لأَلقَيتُ حَبلَها عَلى غَارِبِها وَلَسَقَيتُ آخِرها بِكأسِ أَولِها» «1».

علامات حبّ الجاه:

يمكن معرفة الأفراد الذين يحبون الجاه والمقام عن طريق حركاتهم وكلماتهم وسلوكهم، فكل ما يفعلوه من خير يرغبون في اظهاره والإعلان عنه، حتى تكون لهم المنزلة والمقام عند الناس.

وعلى هذا فالذين يحبّون الجاه يتحرّكون في سلوكهم الأخلاقي نحو الرياء غالباً، لأنّ حبّهم للجاه لا يمكن اشباعه إلّابالرياء، ولذلك فإنّ بعض كبار علماء الأخلاق، ادرجوا عنوان الرياء وحب الجاه سويةً في كتبهم «2».

وكثير من الذين يحبّون الجاه يحبّون أن يحمدوا بما لم يفعلوا وبهذا جاءت الآية الشريفة: «يُحِبُّونَ أَن يُحمَدُوا بِما لَم يَفعَلُوا» «3» فهدفهم الشهرة والوجاهة والإشارة إليه بالبنان، عن أي طريق كان، وليس هدفهم من الوجاهة هو التحرك باتّجاه تفعيل الخير في المجتمع من موقع الإصلاحات الاجتماعية، ولكن الهدف هو مدح الناس وخضوعهم لهم والإشارة إليهم بالبنان كما قلنا، فهم يسعون للأعمال التي فيها الشهرة وإن كان مردودها قليلًا، ولا يسعون أبداً للأعمال التي لا تحقق لهم الوجاهة والسمعة

وإن كانت تلك الأعمال تعود بالنفع الكثير للمجتمع.

محبو الجاه يتوقعون أن يُمدحوا دائماً، ولا يرغبون بالنقد والتأنيب وينتظرون الاحترام الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 19

من الجميع في المجالس وغيرها ولا يحبون أن يجلس أحد في مكان أعلى منهم، أو يقاطعهم في أثناء كلامهم ويجب أن يكون كلامهم هو الكلام الأول والأخير، ومن قدّم إليهم صنوف المدح وآيات الاحترام والتبجيل فهو إنسان شريف ويعترف بالجميل، ومن لم يكن كذلك فهو لئيم وناكر للجميل، ولذلك فإن مثل هؤلاء الأشخاص غالباً ما يكونون منبوذين ومكروهين، ورجوع بعض المحتاجين إليهم هو من باب الإجبار وعدم الحيلة.

مثل هؤلاء الأفراد يعرفون بسرعة، وجاء في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام: «إنَّ شِرارَكُم مَن أَحبَّ أن يُوطّأ عَقِبَهُ» «1».

ونقرأ في حديث آخر عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: «مَنْ أَحبَّ أن يُمثّل لَهُ الرِّجالُ فَليَتَبَوءَ مَقعَدَهُ مِنَ النَّارِ» «2».

ومن العلامات الاخرى لهم، أنّهم يعيشون في حالة الوهم والشخصية الخيالية الضاربة في أحلام اليقظة، فما لا يحصلونه في عالم الواقع من المنزلة والجاه والاحترام يجدونه حاضراً في عالم الوهم والخيال.

أسباب ومقاصد حبّ الجاه:

في بحث «حبّ الجاه» علّق المرحوم «الفيض الكاشاني» تعليقاً لطيفاً، فقال: «إنّ تعلق الناس بحب الجاه والمقام، أو بعبارة اخرى أنّ حبّ التسلط على القلوب أقوى من حبّ المال والثروة، لأنّ الوصول للمال والثروة يكون عن طريق الجاه، أسهل منه عن طريق المال للجاه، حيث يوجد الكثير من المتمولين لكن لا سيطرة لهم على قلوب الناس، ولكن الذين يستطيعون التأثير على القلوب، يكون تحصيل المال والثروة أسهل لهم.

ثانياً: الأموال تكون معرضة للتلف والحفاظ عليها يعدّ أمراً صعباً لكن الذي يملك الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 20

القلوب يكون المحافظة عليها أسهل (وإن

كانت في هذا الطريق أسهل).

ثالثاً: التسلط على القلوب يزداد يوماً بعد يوم بدون تجشم عناء كبير، ونفس مدح وثناء الناس كفيل بنشرها، ولكن جمع وزيادة الأموال يحتاج إلى تجشم العناء الكبير» «1».

ولقد ذكر المرحوم الفيض الكاشاني هذا الكلام لبيان ميل الإنسان لحالة «الجاه والمقام»، ولكن إذا دققنا النظر فسنرى أنّه يمكن أن نعتبرها من الدوافع «لحب الجاه»، لانّه عندما يكون الجاه والمقام سبباً لزيادة الأموال والوصول إلى جميع الأماني والأهواء، علاوةً على خضوع الناس وتواضعهم، فمن الطبيعي أن تتوجه الأنظار إليه، بحيث يمكن القول أنّه لا يكاد أن ينجو منه أحد، وإن كان بمرتبةٍ أضعف عند بعض الناس، وقد ورد في كلمات أهل المعرفة والحكمة أنّه: «آخِرُ ما يَخرُجُ مِنْ قُلُوبِ الصُّدِيقِينَ حُبُّ الجاهِ» «2».

ومن الأسباب الاخرى لحبّ الجاه هو «حبّ الذات» المفرط عند الإنسان، حيث يتحرّك الإنسان لارضاء هذا الدافع المترسخ في أعماق النفس بكل وسيلة تمكنه من تحصيل ذلك الغرض، ومنها المقام والمنزلة في واقع المجتمع.

وهناك دوافع اخرى لهذه الحالة النفسية مثل الشعور بالحقارة والدونية، فالأشخاص الذين ذاقوا مرارة الحقارة وعاشوا الإهانة من الآخرين لأي سبب كان فإنّهم يسعون وعن طريق حبّ الجاه والأماني الكاذبة لتعويض ذلك النقص.

وكذلك الحسد والحقد والانتقام يمكنها أن تكون من الأسباب وعلل حبّ الجاه، فإنّ من يعيش الحسد تجاه الآخر يتحرّك من موقع طلب الرياسة والمنزلة الاجتماعية ليكون الآخر في موقع أسفل منه في دائرة العلاقات الاجتماعية ويستغل الفرصة لتنفيذ ما في قلبه من الحسد والحقد والانتقام.

والخلاصة أنّ حبّ الجاه من الرذائل المعقدة التي لها جذور ومشتركات مع كثير من الرذائل الاخرى

علاج حبّ الجاه:

بالنظر للأبحاث التي مرّت بنا في الوقاية أو معالجة الرذائل الأخلاقية اتضح لدينا أصل كلّي وهو

أن المبتلين بتلك الرذائل الأخلاقية إذا ما تنبهوا للعواقب السيئة لهذهِ الصفات، فإنّهم في الأغلب الأعم سيفكرون في طرق العلاج لها وتركها.

وهذا الأصل يصدق أيضاً في مورد حب الجاه، فإذا ما انتبه المبتلي بحبّ الجاه الى أنّ هذهِ الرذيلة لا تبعده عن الخالق فحسب بل عن المخلوق ايضاً، فيهرب منه الصديق ويبتعد عنه الناس، وأنّ هذه الصفة ستجرّه للرياء الذي هو من أخطر الذنوب أو ربّما يصبح «كالسامري» و «قارون» اللذان كفرا وعادا نبي اللَّه عليه السلام، وإذا ما علموا أنّ تأثير حبّ الجاه على الإيمان القلبي للإنسان كمثل الذئب الضاري في قطيع الغنم، فلا يسلم دين وإيمان للإنسان في حركة الحياة الروحية ويستبدله بالنفاق الذي ينبت في قلب المحب للجاه كما ينبت الزرع في الأرض السهلة، فإذا علم الإنسان بكل هذه المخاطر والآثار المخرّبة لهذه الرذيلة فسوف يجدد النظر في سلوكياته وأعماله قطعاً.

وإذا فكر هذا الشخص بعدم ثبات هذهِ الدنيا والتفت إلى قصر العمر وأنّ النعم مواهب مؤقتة وعارية مستردة أو على حد تعبير بعض علماء الأخلاق، أنّ كل الناس شرقاً وغرباً لو سجدوا للإنسان لمدّة طويلة فلا يلبث أن يموت الساجد والمسجود له، فمن الأكيد أنّه سينتبه من غفلته ويرعوي من سلوكه.

ومن الدروس الاخرى النافعة في التخلص من حبّ الجاه والسلطة هو مطالعة أحوال وحياة فرعون ونمرود وقارون والسامري، ونهاية حياتهم المؤسفة، هذا من جهة، ومن جهة اخرى فإنّ حب الجاه ناشي ء من ضعف الإيمان خصوصاً الإعتقاد بالتوحيد الأفعالي، فبتقوية دعائم الإيمان في أعماق القلب سيزول حب الجاه، فمن يدرك عظمة اللَّه تعالى، يوقن أنّ العالم بأسره لا يساوي شيئاً في مقابل ذاته المُقدّسة، وأن العزّة والذلة والعظمة والحقارة بيد اللَّه تعالى، والأهم

من ذلك كلّه أن القلوب بيد خالقها، فلا يمكن الاعتماد على اقبال الناس وإدبارهم، فإن إقبالهم وإدبارهم لا ثبات فيه مطلقاً ولا يعتمد عليه، فالبعض الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 22

يمثّلهُ بالقِدر فيه ماء وصل الى درجة الغَليان فهو في حالة تَغيّر مستمر، ومن يتحرّك في تدبير اموره على ذلك الأساس فَمثله مثل الذي يريد البناء على أمواج البحر، والمراهنة على معطيات رضا الناس وحالة الاعتماد عليهم لا ينتج الضرر الاخروي فقط، بل لا ينسجم حتى مع خط العقل في سلوكياتنا الدنيوية أيضاً.

كل ما ورد هي طرق العلاج من الناحية العلمية، وأمّا من الناحية العملية، فطريقة علاج حب الجاه هو أن يضع الشخص نَفْسَه في حالة يميتُ فيها «حب الجاه»، فمثلًا يجلس في المجالس العامة مع الأفراد العاديين وليس مع الشخصيات المرموقة، وعلى مستوى اللباس، يجب أن يتّخذه من النوع المتوسط وكذلك بيته ومركبه وطعامه وأمثال ذلك.

ويعتقد بعض اعاظم علماء الأخلاق، أنّ أفضل طريقة لقطع حب الجاه هو العزلة عن الناس، بشرط ان لا تكون العزلة بدورها وسيلة لكسب الجاه عند الناس بطريقة غير مباشرة.

وقد كان كثير من المتصوفة ودعاة العرفان، ولأجل كسر حب الجاه في نفوسهم يتصرفون في واقع الممارسة بسلوكيات لا يقبلها الشرع، والعجيب أنّهم كانوا يسمّون مثل هذهِ الذنوب الجلية بالذنوب «الصورية» القابلة للصفح والتسامح، وينقل المرحوم «الفيض الكاشاني» أنّ أحد الملوك القدماء قرر الذهاب الى زاهد زمانه، وعندما أحسّ ذلك الزاهد قرب وصول الملك أمر بأن يأتوه بالخبز والخضروات، وأخذ يأكل بنهمٍ وحرص ويكبر اللّقمة في يده، وعندما رأى الملك ذلك المنظر، سقط الزاهد من عينه وعاد إدراجه بدون أن يكلمه بشي ء، فقال الزاهد: «الحَمدُ للَّهِ الّذِي صَرَفَكَ عَنّي».

وينقل عن بعضهم

أنّهم كانوا يأخذون بعض الأشربة ويضعونها في آنية ملوّنة كي يتصور الناس أنّهم يشربون الخمر وبذلك يسقطون من أعينهم.

وينقل أيضاً عن آخر عرف بالزهد بين الناس وأصبح محطّاً للأنظار، فدخل الحمّام يوماً ولبس ثياب شخص آخر تعمداً ووقف في وسط الطريق فعرفه الناس فأخذوه وضربوه واخذوا الثياب منه وأعادوها لصاحبها، وقالوا هذا رجل كذّاب ومخادع، وابتعدوا عنه!!

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 23

بلا شك أن هذهِ الأعمال وما شابهها قد تكون من الموارد المحرمةً قطعاً وفي اخرى من المكروهات، ولم يبيح الشارع المقدس أبداً أن يضع الإنسان المسلم نفسه في هذهِ المواضع حتى يلوّث سمعته ويسقط من أعين الناس، وكما أنّ سوء الظن بالناس محرم في الاسلام، فكذلك توفير عوامل سوء الظن هو بدوره من المحرمات.

وعليه يجب أن تكون الطرق في تهذيب الأخلاق مشروعة ومطابقة للموازين الإسلامية والعقلية، ومع وجود الطرق الشرعية لا داعي لسلوك السبل غير المشروعة.

والعجيب في الأمر أن المرحوم «الفيض الكاشاني» عندما ذكر تلك الامور عقّب قائلًا:

إنّ وضع الشراب المحلل في آنية توهم الناظر بالشرب للمحرم هو محل تأملٍ من الناحية الفقهية ولكن أهل الحب والهوى يمكن أن يعالجوا أنفسهم بامورٍ لا يفتي بها الفقيه أبداً، ويعتبرونها من طرق إصلاح القلب، فبعد ارتكابهم لتلك الذنوب «الصورية» كانوا يجبرونها بالأعمال الخيريّة، وبعدها يذكر قصة سارق الحمّام «1».

لو كان هذا الكلام من بعض المتصوفة لما كان محلًا للتعجب، ولكن يصدر من فقيه معتبر كالفيض الكاشاني، فهو غير متوقع منه، فالتسلط على أموال الآخرين ولبس ثياب شخص آخر في الحمام هو من الذنوب القطعية، وهو ليس بالذنب الصوري، وارتكاب الذنب لا يناسب أهل الحب والهوى ولا يُصلح القلب، علاوة على ذلك فمع وجود الطرق المشروعة فما

الداعي للتوسل بتلك الطرق الملتوية؟

والأقرب للحق أنّ هذا العالم الكبير تأثر بكلمات الغزالي في كتابه «احياء العلوم» فالغزالي لديه كثير من هذهِ الشطحات في دائرة السلوك والممارسة الصوفية، ولعل قصد المرحوم الفيض الكاشاني هو نقل الكلام عن الغزالي وليس تأييداً لمثل تلك السلوكيات.

وهناك فرقة «الملامتية» «2» وهي من الفرق الصوفية المعروفة، حيث انتخبوا تلك الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 24

الطريقة لتخريب سمعتهم وتشويه شخصيتهم أمام الغير، ومن المؤكد أنّ الإسلام لا يقرّ مثل هذهِ الأعمال البعيدة عن المنطق والعقل والشرع، ويريد من الإنسان الوصول للحق عن طريقه المشروع لا غير.

إنّ المرحوم الفيض الكاشاني لم يقرّ أعمال وطرق الملامتية، الذين كانوا يرتكبون الكبائر لكي يسقطوا في أعين الناس، بل حرّمها في أماكن اخرى من كتابه.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 25

التبرير والعناد

تنويه:

إنّ حالة التبرير للأخطاء تعتبر من أهم الموانع لدرك الحقيقة، لأنّها السبب في عدم وصول الإنسان للحق بل وتركسه في أو حال الباطل.

والقصد من اسلوب التبرير والعناد، ليس هو الاصرار على مستوى كشف الحقائق وطرح السؤال تلو السؤال، بل إنّ السؤال هو المفتاح لكشف الحقائق، ولكن المقصود هو أنّ الإنسان وبعد انكشاف الحقائق والبراهين، يبقى مصراً على الباطل ويتهرب من الحق بتشبثه بالحجج الواهية وايراد المغالطات الغير المنطقية.

يمكن أن تظهر هذهِ الرذيلة في فردٍ ما بصورةٍ خاصة، أو تصبح سيرة وعادة لقوم من الأقوام.

وقد أثبت التاريخ من بين الأقوام السابقة، أنّ قوماً من بني اسرائيل كانوا أكثر عناداً من من غيرهم، ولذلك تطرقت كثير من آيات القرآن الكريم لعنادهم واصرارهم في خط الزيغ والخطأ وسنتطرق لبحثها في تفسيرنا للآيات إن شاء اللَّه تعالى.

ويمكن القول أننا نجد هذهِ الرذيلة متمكنة ومتجذرة في جميع الأقوام الذين يعيشون الجهل

والانانية حيث لا يتركون أعمالهم القبيحة ولا يقلعون عنها بسهولةٍ.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 26

وعلى أية حال فانّ هذا الخُلق القبيح من أسوأ الأخلاق الشيطانية، ويمكن القول إنّ أول درس تلقاه المعاندون على مستوى الاصرار على الخطأ كان بواسطة الشيطان، أمّا نتائج وافرازات هذا الخلق الذميم فكبيرة جداً لدرجةٍ أنّ الكثير من الحروب الدامية التي ذهبت بالأنفس والأموال ودمرت فيها المدن العامرة كانت بفعل هذه الخطيئة.

بهذهِ الإشارة نعود للقرآن الكريم والروايات الإسلامية ونستعرض العوامل المسببة لهذا الخُلق القبيح وآثاره الضارّة وطرق علاجه:

1- «وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجّوا فِى طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ» «1».

2- «امَّنْ هذَا الّذِي يَرْزُقُكُم إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ» «2».

3- «قالَ أَنْظِرنِى إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* قالَ إِنّكَ مِنْ المُنْظَرينَ قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ» «3».

4- «قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً* فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائي إِلّا فراراً* وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا إِسْتِكْباراً» «4».

5- «فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظالِمُونَ* ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ* قالَ أَفَتَعْبُدونَ مِنْ دوُنِ اللَّهِ ما لايَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ ... قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلينَ» «5».

6- «وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً، قالُوا أَتَتَّخُذُنا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهِلِينَ ... فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ» «6».

7- «وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصاعِقَةُ وَأَنْتُمْ الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 27

تَنْظُرُونَ* ثُمَّ بَعَثْنكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» «1».

8- «قالُوا يا مُوسى إِنا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا

ههُنا قاعِدُونَ» «2».

9- «وَقالوا يا أَيُّهَا الساحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ* فَلَما كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ» «3».

10- «أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِى السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا» «4».

تفسير واستنتاج:

«الآية الأولى تتكلم عن الكفّار المعاندين، فإذا ما أنعم اللَّه عليهم ورحمهم وكشف عنهم البلاء لغرض تنبههم لأخطائهم نراهم على العكس يزدادون غروراً، ويصرون على غيّهم وطغيانهم «وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجّوا فِى طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ».

نعم فإن هذه الفئة التي تتعامل مع الحق والواقع من موقع العناد والاصرار على الباطل، مرّة يتهمون الرسول صلى الله عليه و آله بالجنون وتارة يطلبون منه التسليم لكلامهم، وعندما يرون المعجزات كانوا يصرون ويستكبرون وينكرون كل شي ء. فاللَّه تعالى شأنه ولأجل تنبيههم، جعلهم عرضة للبلاء والتمحيص مرّة، ومرّة اخرى يغدق عليهم من نعمهِ ورحمته، فلم ينفع كل ذلك لا البلاء والتمحيص ولا اغداق النعم، وكل ذلك كان بسبب جهلهم وعنادهم وتعصبهم.

وقال بعض المفسرين: إنّ الطغيان له أشكال مختلفة، طغيان العلم هو التفاخر، وطغيان الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 28

المال البخل، وطغيان العبادة الرياء، وطغيان النفس اتباع الشهوات «1»، فيصاب الإنسان بكل هذه الامور على أثر اللجاج والعناد.

وتتحرك «الآية الثانية» لتتناول بالبحث المشركين اللجوجين ايضاً الذين لم يكونوا ليسلموا بأية قيمة كانت للمنطق السليم والواضح للرسول صلى الله عليه و آله، ولا استعداد عندهم لترك آلهتهم المصنوعة بأيديهم.

فيقول القرآن الكريم في هذه الآية: «امَّنْ هذَا الّذِي يَرْزُقُكُم إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ».

كرّر القرآن الكريم هذا القول مراراً للمشركين من أنّ أصنامكم لا فائدة منها،

فلا يدفعون عنكم عدوّاً، ولا يرزقونكم، ولا يكلمونكم، ولا ينفعونكم ولا يضرونكم ولا عقل لهم ولا شعور.

ومع ذلك كلّه أي دليل لديهم لعبادة تلك الأصنام؟ وعلى الرغم من فقدان الدليل الحاسم على سلوكهم المخالف للعقل والفطرة، استمروا بلجاجةٍ على عبادة الأصنام.

وتتعرض «الآية الثالثة» من هذهِ الآيات إلى أول لجوج ومتعصب في مقابل الحق، ألا وهو الشيطان، عندما تكبّر وطرد من قبل الباري تعالى وفقد مقامه الرفيع والمنزلة التي كانت لديه بين الملائكة، وقد كان عليه أن يلتفت لخطأه الكبير، ويعود إلى اللَّه تعالى من موقع الندم، ويغسل ذنبه بماء التوبة، ويطفى ء النار التي أججها بدموع الخجل، ولكنه أبى واستكبر وأصرّ على البقاء في دائرة المعصية أكثر وأكثر ولم يكن ذلك إلّابسبب التكبّر والحسد واللجاجة، وقرّر أن ينتقم من آدم عليه السلام وذرّيته، ويضلّهم بوساوسه، وليس ليوم أو ساعة أو شهر ولكنه سيستمر إلى نهاية الدنيا، في تكريس الإثم والخطيئة وعناصر

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 29

الانحراف والزيغ في كل المجتمعات فلا يسلم من منزلقات البؤس والفساد لا الكبير ولا الصغير ولا الرجل ولا المرأة.

فطلب من اللَّه تعالى: «قالَ أَنْظِرنِى إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* قالَ إِنّكَ مِنْ المُنْظَرينَ قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَاقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ».

ومن المؤكّد أن العمر الطويل له فائدة كبرى لكل شخص يزيد من حسناته، ويصحح أخطاءه، وإذا كان له ماضٍ أسود يبدّله إلى مستقبل سعيد ونوراني، ولكن العمر الطويل للطغاة والصعاليك والمعاندين على العكس من ذلك فله نتائج عكسية.

ولعل إجابة دعائه بالعمر الطويل من رحمة اللَّه تعالى التي تستوعب الخاطئين، أو ربّما كان تقديراً من اللَّه وجزاءً لعبادته للَّه آلاف السنين، ولعله يعود عن غيّه، لكن هذهِ النعمة عندما تقع في أيدي الطغاة والصعاليك والمعاندين فستتحول إلى

نقمةٍ عليهم.

وتأتي «الآية الرابعة» لتتحدث عن قوم نوح عليه السلام وعنادهم في مقابل دعوة نبيّهم الرحيم بهم، فدعاهم ليلًا ونهاراً في الخلاء والملأ لينجيهم من العذاب، وكلما ألحّ عليهم في قبول دعوة الحق، ازدادوا غيّاً وعناداً.

فاشتكى نوح عليه السلام إلى اللَّه وقال: «قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً* فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائي إِلّا فراراً* وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا إِسْتِكْباراً».

فأي تعصب وعناد هذا الذي يضع الإنسان اصابعه في آذانه حتى لا يسمع الحق ويلفّ وجهه ويغطيه بثوبه حتى لا يرى من يدعوه إلى الحق والسعادة والخير، بل يتحرّك بعيداً عنه ويتهرب من مواجهته؟!

فالهروب من الحق له حدود، ولكنهم تعدّوها إلى أبعد شي ء ولم يتخذوا غير طريق المعاندة والتعصب والإستبداد.

فكيف يجوز للإنسان المريض أن يفرّ من الطبيب، وللغارق في الظلمات أن يتهرب من النور، وللغريق أن يتملّص من المنقذ له؟ إنّه أمر محيرٌ حقّاً، ولكن العناد واللجاج الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 30

والإستكبار يقف وراء الكثير من هذا القبيل من السلوكيات الغارقة في الوهم والزيف.

ولا نجد أحداً من الأنبياء عليهم السلام دعا قومه كما دعا نوح عليه السلام إذ عمّر فيهم 950 سنةً وأكّد عليهم دعوته الإلهية مراراً وتكراراً، وعبارة «الليل والنهار» يمكن أن تكون إشارة إلى مجالسهم العمومية التي كانوا يجلسون فيها بالليل والنهار، فكان يدعوهم إلى اللَّه تعالى في كل وقت، ولم يؤمن له إلّاقليل، وعلى حد تعبير البعض أنّ معدل من كان يؤمن به من قومه فرد واحد لكل اثني عشرة سنةً.

تعبير: «جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ»، هو وضع رؤوس الأصابع في الآذان لمنع السماع، أو هو إشارة لشدّة موقفهم في الهروب من الحق، وكأنّهم كانوا

يريدون أن يدخلوا أصابعهم كلها في الآذان حتى لا يسمعوا الحق.

تعبير: «فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائي إِلّا فراراً»، يبين أنّ دعوة نوح النبي عليه السلام كانت لها نتيجةً عكسية عندهم، نعم فإن المشاكسين والمستكبرين يصرون على أفعالهم عند سماعهم للحق، ومثلهم كمثل المزابل عند هطول المطر عليها حيث تزداد عفونة وتشتد رائحتها النتنة.

«الآية الخامسة» تشير إلى عناد قوم ابراهيم عليه السلام من عبدة الأوثان في بابل بعدما أثبت لهم ابراهيم عليه السلام بدليل قاطع زيف آلهتهم، فحطّم الأصنام كلها إلّاكبيرهم وطلب منهم أن يسألوا الكبير عمّن فعل بآلهتهم تلك الفعلة الشنيعة؟؟

لقد تنبهوا للأمر في واقعهم ولاموا أنفسهم واستيقظوا للحظة، ولو قدّر أن تستمر هذهِ اللحظة لتغير موقفهم من الشرك إلى الإيمان، ولكن عنادهم ولجاجتهم وتعصبهم لم يمنحهم الفرصة للتفكير السليم وتقول الآية: «ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ».

فقال إبراهيم عليه السلام: «أَفَتَعْبُدونَ مِنْ دوُنِ اللَّهِ ما لايَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ افٍّ لَكُم وَلِما تَعبُدُونَ أَفَلا تَعقِلُونَ».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 31

إذا تجرّد الإنسان من تعصبه وعناده، ورأى بامِّ عينيه أنّ الذي كان يعوّل عليه دائماً في المحن والصعاب، أصبح لا قيمة له اليوم وتبيّن زيفه بحيث لا يستطيع معرفة من عمل على تخريبه وتحطيمه، أليس من الجدير بذلك الشخص أن يستيقظ من نومته تلك ويتحرّك بعيداً عن تلك السلوكيات الغارقة في الزيف ويتجنب هذهِ الخرافات والاعتقادات السخيفة ويطهر فكره منها؟!

نعم فإن التعصب واللجاج يضع حجاباً قوياً على عين وقلب الإنسان فينكر اوضح المسائل.

واللطيف في الأمر أنّ الآية الاولى ذكرت: «فَرجِعُوا إِلى أَنْفُسِهُم» وهو تعبير حاكي عن الاستيقاظ والانتباه، ولكن الآية الثانية تقول: «ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُوسِهُم» وهو تعبير عن تراجع من موقع الوضوح في

الرؤية وبدوافع جاهلية وغير منطقية مترسبة في دوافع النفس.

«الآية السادسة»، تستعرض عناد بني اسرائيل الذي يضرب به المثل ففي، هذه الآية وما قبلها اشارة إلى قصة القتل المُبهم الذي وقع في قوم بني اسرائيل، وكاد أن يفضي إلى إقتتال الطوائف فيما بينها.

فقال موسى عليه السلام: بأمرٍ من اللَّه سوف نعرّف القاتل، فاذبحوا بقرة ولامسوا بقسم من بدنها ببدن المقتول، فسيقول لكم من هو القاتل.

حيّر هذا الاقتراح العجيب بني اسرائيل، ولكنه في نفس الوقت بعث الأمل في نفوسهم، وحان الوقت لتنفيذ أوامر النبي موسى عليه السلام وانهاء المسألة، ولكن بني اسرائيل وبصورة غريبة أخذوا يستشكلون ويتساءلون من موقع العناد وعدم الرغبة في الامتثال، فمرّة يسألون عن عمرها ومرّة عن لونها واخرى عن نوعها وعملها، فبأسألتهم تلك ضيّقوا فرصة العثور على مثل هذهِ البقرة لحظة بعد لحظة وبالتالي وبعد عناد كبير وسعرٍ خيالي وجدوا البقرة بتلك الأوصاف المطلوبة، ولو أنّهم لم يسألوا ولم يستشكلوا وذبحوا أول بقرة وقعت في أيديهم، لأنحلت المشكلة، لأنّه لو كان (المأمور به) مشروطاً بشرائط معينة لوجب البيان الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 32

في مقام الحاجة، وكما يقول الاصوليون: «أن تأخير البيان عن وقت الحاجة قبيحٌ». وفي الحقيقة إنّ هذهِ الأسئلة والتدقيق في المسألة يدلّ على عدم إيمانهم بحكمة اللَّه تعالى، والحكيم لابدّ وأن يبيّن كل ما هو لازم وضروري من الشرائط والقيود، ولا يحتاج للسؤال، ويمكن أن يكون قصدهم من ذلك هو عدم وجود تلك البقرة حتى يستمروا بمغامراتهم التي يتحرّكون من خلالها في دائرة العناد دوماً في مقابل الإمتثال للحق، فقال القرآن الكريم:

«وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً، قالُوا أَتَتَّخُذُنا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ

الجاهِلِينَ».

فتبيّن هذهِ الآيات مدى النزاع الذي حصل بين بني اسرائيل لمعرفة القاتل، وعلى ذلك كان يتوجب عليهم تنفيذ أوامر موسى عليه السلام بسرعة ليجدوا القاتل، ولكن اللّجاج الذي دخل فيه بنو اسرائيل لم يعطهم الفرصة لانهاء الأمر فسألوا وسألوا حتى صعّب عليهم الباري تعالى الأمر فأصبح البحث عن تلك البقرة أمراً مستعصياً جداً، فهي بقرة، صفراء بالكامل تسرُّ الناظرين، لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك، ولا ذلول وتثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلّمةً لاشيَةَ فيها، فمن البديهي عدم توفّر مثل هذه الأوصاف في بقرة واحدة إلّابصعوبةٍ، ولكن كان عليهم أن يدفعوا ثمن لجاجهم وعنادهم، فاضطروا لشرائها بثمنٍ باهظ جدّاً، فذبحوها وضربوا بعضها ببدن الميت فعادت الحياة إليه باذن اللَّه ودلّهم على قاتله.

«الآية السابعة» أيضاً تتحدث عن بني اسرائيل وعنادهم العجيب حيث أخذوا باطراف موسى عليه السلام وطلبوا من نبيّهم المحال وقالوا: «وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً».

الظاهر أنّهم كانوا يعلمون أنّ اللَّه تعالى ليس بجسمٍ ولا جهة له ولا مكان، ولكن كلامهم كان بسبب طغيانهم وعتوّهم، ومن أجل أن يبيّن اللَّه تعالى جيداً مسألة استحالة رؤيته، ولتأديب اولئك القوم المعاندين أمر بسبعين من رؤوسائهم أن يخرجوا مع موسى عليه السلام للميعاد في جبل الطور، ليتلقوا الجواب على سؤالهم العجيب هناك وينقلوا ما سيشاهدوه الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 33

لقومهم، وعند وصولهم لجبل الطور، سأل موسى عليه السلام بالنّيابة عنهم أن يتجلّى اللَّه تعالى لهم جهرةً، فقال: «رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي»، فأخرج هذه الفكرة من رأسك الى الأبد.

فصعقت صعقة شديدة ملأت الكون، وزلزل الجبل وتلاشى، ومات ال 70

نفر إلّا موسى عليه السلام فقد فَقَدَ الوعي كما ذكر القرآن في ذيل الآية: «فَأَخَذَتْكُمُ الصاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ».

وعندما استيقظ موسى عليه السلام، طلب من الباري تعالى إعادة الحياة إليهم، لئلا تعود المشاكل بينه وبين بني اسرائيل: «قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّاىَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا» واستجاب اللَّه دعاءه وأعادهم للحياة كما صرّح بها القرآن الكريم فيما بعدها من الآيات «ثُمَّ بَعَثناكُم مِنْ بَعدِ مَوتِكُم لَعَلَّكُم تَشكُرُونَ».

ويتبيّن ممّا ذكر آنفاً أنّ موسى عليه السلام لم يطلب هذا الأمر من تلقاء نفسه، ولكن نزولًا عند رغبة بني اسرائيل، حتى يُلَقّنوا درساً عملياً ويفهموا ان الذي لا يستطيع أن يشاهد الصاعقة كيف يمكن له أن يرى الباري تعالى شأنه؟

وهو أيضاً عقاباً وتأديباً لهم حتى لا يطلبوا اموراً مستحيلةً.

«الآية الثامنة» من الآيات التي وردت في مقام الحديث عن عناد بني اسرائيل بعدما نصرهم اللَّه على عدوّهم وخلّصهم من شر فرعون وجنوده حيث توجهوا نحو الديار المقدسة يعني بيت المقدس، التي كانوا يتمنون الوصول إليها، وعندما وصلوا على مقربة من الأرض المقدّسة جاءهم الأمر أن ادخلوا هذهِ الأرض ولا تخافوا ممّا سيحدث فيها، ولكنّهم قالوا لموسى عليه السلام: إنّ فيها اناس يسمّون (بالعمالقة) أشداء أقوياء ولن ندخلها حتى يخرجوا منها. فقال لهم بعض المؤمنين من موقع النصيحة والمسؤولية بأنّكم إذا دخلتم الباب عليهم فسينصركم اللَّه على العمالقة بفضله وعنايته.

ولكن بني اسرائيل ظلّوا على غيّهم وكما جاء في الآية الكريمة «قالُوا يا مُوسى إِنا

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 34

لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا ههُنا قاعِدُونَ».

وهنا أيضاً ذاق بنو اسرائيل طعم عنادهم ولجاجتهم، فأخذ اللَّه تعالى النصر عنهم ودخول بيت المقدس أربعين

سنةً، وتاهوا في الصحاري القريبة منها، فسمّوا تلك الصحاري بأرض «التيه» التي كانت قسماً من صحاري (سيناء).

والمسألة المهمّة والتي يجب الإشارة اليها هو أن الّلجاج وعدم الانصياع يفضي إلى التعامل مع الباري تعالى من موقع الاهانة والاستهزاء، حيث قالوا: «فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا ههُنا قاعِدُونَ»، فالإهانة والاستهزاء في هذا الكلام يتجليان بكل وضوح، ولكن الجاهل والأناني واللجوج لا يعرف منطق أفضل من هذا.

والواقع أنّ التيه أربعين سنة في تلك الصحاري، كان حكمة ورحمة إلهية، وبهدف تغيير النسل الذي نشأ في مصر، والذي لم يستطع عمل موسى عليه السلام الثّقافي والفكري الدؤوب أن يغيّر فيه الكثير، فجاء نسل جديد نشأ في الصحراء وفي وسط المشكلات فحصلت فيه التغييرات الداخلية اللازمة لتحرير الديار المقدسة من الاعداء وإقامة الحكومة الإلهية، وفي الحقيقة أن هذهِ العقوبة كانت في الواقع رحمة ربانية ولطف إلهي، وأكثر العقوبات الإلهية هي من هذا القبيل.

في «الآية التاسعة» من الآيات نقرأ حديثاً عن قوم فرعون الذين آتاهم اللَّه تعالى «بتسع آيات» «1» إلهية على مستوى الاعجاز، ولم يكونوا بأقل عنادٍ واصرار على الانحراف من بني اسرائيل حتى أنّهم قالوا لموسى «وَقالوا يا أَيُّهَا الساحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ* فَلَما كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ».

تعبيرات الآية واضحة جدّاً، فكلها تبيّن وتعكس العناد الذي كانوا عليه، فأولها نعتوا موسى عليه السلام بالساحر ومع ذلك يلجأون إليه لكي يخلصهم من البلاء، وتعبير «ربّك» علامة اخرى على العناد. وتأكيدهم على الإيمان بموسى عليه السلام على فرض انقاذهم من البلاء واضح الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 35

من كلمة (إننا لمهتدون) وتعبير (ينكثون) التي وردت بصورة الفعل المضارع تبيّن أنّهم أبرموا العهود ونقضوها مرّات عديدة،

وهو دليل على عنادهم أيضاً.

وبالتالي فانّهم ذاقوا عقاب عنادهم ولجاجتهم، حيث اغرقهم الباري تعالى بجميع عدّتهم وعددهم ورؤسائهم في اليمِّ «1».

«الآية العاشرة» والأخيرة من هذه الآيات، ناظرة لعناد المشركين العرب حيث كانوا يصرّون على عنادهم ويتهربون من قبول دعوة الرسول صلى الله عليه و آله والتي كانت مدعمة بالآيات والمعجزات، ولو كان عندهم ذرّة من روح الحب للحقيقة، لقبِلوا احدى تلك المعجزات الكبيرة التي اتى بها الرسول الاعظم صلى الله عليه و آله ومن جملتها القرآن الكريم المعجزة الخالدة للرسول الكريم صلى الله عليه و آله، ولكنهم كانوا في كل يوم يطلبون معجزةً جديدة، ومع ذلك لا يؤمنون بها أيضاً، إلى أن وصلوا إلى أقصى درجات اللجاجة والعناد، «أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِى السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ».

هذا الكلام هو دليل واضح على التعامل مع الموقف من موقع العناد، وفيه أيضاً نقطة مهمّة، ألا وهي أنّهم كانوا يتصوّرون أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله يقول: إني افعل ما اشاء ومتسلط على جميع الكون، لكنّ الحقيقة أنّ المعجزات دائماً تتحقق بأمرٍ إلهي وكيفما يشاء الباري تعالى، لذا نقرأ في آخر الآيات: «قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا».

ويذكر في شأن النزول أنّ قوماً من مشركي مكّة وعلى رأسهم (الوليد بن المغيرة وابو جهل) اجتمعوا عند الكعبة الشريفة وأخذوا يتحدثون عن النبي وكيفية مواجهته، وبالتالي قرّروا أن يذهب أحدهم إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، ويقترح عليه أن يتوجّه إليهم يكلمهم ويكلمونه حول الدين الجديد، فأسرع إليهم الرسول على أمل قبولهم للحق، لكنّه سمع الكلام الآنف الذكر، بالإضافة إلى مجابهتهم له بامور واهية ومهينةً

اخرى

ومن المؤكد أنّهم لو كانوا يطلبون الحق ويريدونه، لتوجب على الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 36

النزول عند رغبتهم، أو على الأقل تنفيذ إحدى المعجزات، ولكنهم طالما شاهدوا المعجزات من الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله لم يذعنوا للحق، اضافة إلى أنّهم بطلبهم هذا اعترفوا إنّهم لن يؤمنوا لرقيّ الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله في السماء أمام أعينهم حتى ينزل عليهم كتاباً من السماء ليقرؤوه، ولو نزل الرسول صلى الله عليه و آله عند رغبتهم وآتاهم بالمعجزة هذه لما آمنوا، لأنّ سابقة عنادهم ومواقفهم السلبية من الدعوة هي أفضل دليل، فعندما كانوا يشاهدون المعاجز الباهرة، يقولون هذا من السحر وإنّ الرجل لساحر، وهكذا يجهضون أي أثر للمعجزات في وعيهم بتعاملهم معها بلغة الاتهام الذي ينطلق من موقع العناد.

فتبيّن من مجموع الآيات الآنفة الذكر أنّ مسألة اللّجاج والعناد على مرّ العصور وتاريخ البشر كانت ولا تزال من أهم الموانع في طريق الحق، حيث كان وجود هذه الحالة النفسية السلبية يمثل مشكلة عويصة تمتد في أعماق نفوس المشركين في الأقوام السابقة، وعليه فلو تحرك الإنسان في عملية الوصول إلى الحق والحقيقة فعليه أن يزيل هذه الصفة الذميمة من محتواه الداخلي ويتخلص منها.

اللجاج والمماراة في الروايات الإسلامية:

أشرنا فيما تقدم إلى الأبحاث المتعلقة بالتعصب واللجاج، وأوضحنا ما يترتب على هذه الحالة الأخلاقية من خلال الآيات الكريمة، من العواقب الوخيمة الناشئة من التعصب والتقليد الأعمى أمّا في هذا البحث فسنتكلم عن المماراة واللجاج في دائرة الجدل، أو بتعبير آخر التمسك بمسألة خاطئة لا للتعصب القومي الاعمى، ولكن بسبب تجذّر العناد الطفولي في النفس والذي قد نشاهده في بعض الأفراد، فلا يسلّمون للحق

بل يريدون التهرب منه.

وكما رأينا في الآيات السابقة فان هذهِ الرذيلة الأخلاقية أحرقت فرص السعادة والحياة الكريمة لكثير من الأقوام. فوقعوا في مستنقع البؤس والرذيلة، ونرى في الأحاديث الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 37

الإسلامية ابحاث موسّعة حول هذا الموضوع:

1- في حديث عن الرسول الكريم صلى الله عليه و آله: «الخَيرُ عادَةٌ وَالشَّرُّ لَجاجةٌ» «1».

2- في حديث عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: «إِيَّاكَ وَمَذمُومَ اللَّجاجِ فإنّهُ يُثِيرُ الحُرُوبَ» «2».

فتعبير اللجاج المذموم يعني أنّ الإنسان ربّما يصرّ على امور الخير وبصورةٍ منطقية فهو بلا شك أمر محمود ورمز للموفقيّة. ولكن الاصرار على اللجاج المذموم، هو سبب لاستفزاز الآخرين، والمداومة عليه يؤدي إلى التعامل مع الآخرين من موقع العقدة والخصومة وإثارة الحروب وسفك الدماء.

3- في حديث آخر عن الإمام علي عليه السلام: «جِماعُ الشَّرِّ اللَّجاجُ وَكَثرَةُ المُمارَاةِ» «3».

وفي الواقع أنّ كثيراً من المشكلات والمصائب الاجتماعية لا مصدر لها إلّاهذه الامور، فيقوم البعض بمناقشة الامور بدافع البحث والجدال والمماراة، ويقوم البعض الآخر ونتيجةً للجهل بالردّ عليهم من هذا المنطلق نفسه، فينشأ النزاع والصداع دون أن يكون لهم هدف معين على مستوى الكشف عن الحقيقة وتحصيل الواقع، ولو أنّهم سلكوا طريق العقل والتدبر، لاستطاعوا القضاء على كثير من المفاسد الاجتماعية من خلال الحوار المشترك الذي ينطلق من دوافع إنسانية في واقع الإنسان والحياة.

4- وفي حديث آخر عن نفس الإمام الهمام عليه السلام: «خَيرُ الأخلاقِ أَبعَدُها عَنِ اللَّجاجِ» «4».

يستفاد من هذا التعبير أنّ روح اللجاج والمماراة لها علاقة وثيقة بجميع الصفات الرذيلة، فإمّا أن يتأثر بها أو يؤثر بواسطتها.

5- ونقل عنه عليه السلام أيضاً: «لا مَرْكَبَ أجمَحَ مِنَ اللَّجاجِ» «5».

ويستفاد من هذا الحديث، أنّ اللجاج يؤدي بصاحبه إلى منزلقات سحيقةٍ

في حركة

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 38

الواقع الأخلاقي للإنسان، فمرة يجرّه الى الكذب، واخرى إلى التكبر، وثالثة إلى الخداع والحيلة، ورابعة إلى الحرب والجدال كما جاء في الروايات السابقة.

6- جاء في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّ موسى بن عمران عليه السلام عندما أراد أن يترك استاذه الخضر عليه السلام، طلب منه النصيحة والموعظة، فقال له: «إِيَّاكَ وَاللَّجاجَةَ أوْ تَمشِي فِي غَيرِ حاجَةٍ أَو تَضْحكَ مِنْ غَيرِ عَجبٍ وَاذكُرْ خَطِيئَتَكَ وَإِيَّاكَ وَخَطايا الناسِ» «1».

في هذا الحديث وضع اللجاج موضع من يمشي بلا هدف والتدخل بما لا يعني الإنسان، وهو دليل على أنّ اللجوج لا يتبع العقل والمنطق بتاتاً.

7- ونختم هذا البحث بحديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال: «مَن لَجَّ وَتَمادى فَهُوَ رَاكِسٌ الَّذِي رانَ اللَّهُ عَلَى قَلبِهِ وَصارَتْ دَائِرَةُ السُّوءَ عَلَى رَأسِهِ» «2».

وعلى أيّة حال فان الأحاديث في ذم هذه الرذيلة كثيرة جدّاً.

والأحاديث التي أوردناها هي غيض من فيض، وهي تبيّن أنّ هذهِ الرذيلة لا تسلك بصاحبها سوى سبيل البؤس والدمار وتبعده من الحق وتقربه من الباطل، وتكون عاقبته أليمة وموحشة.

دوافع وعواقب اللجاج والمماراة:

من المعلوم أنّ هذه الصفة الأخلاقية هي من أخلاق الصبيّان، ولكنها قبل كل شي ء تنشأ من الجهل وقصر النظر، فذوا العقول يتحرّكون في حركة الواقع من خلال التدبّر والتفكر الذي ينطلق من موقع المنطق والدليل، فإذا ما ثبت لهم بالبرهان المنطقي، أنّ أمراً ما لا يتوافق مع الحقيقة فسرعان ما يتركونه ويقلعون عنه رغم اعتقادهم به لسنوات متمادية.

ولكن الأفراد الجهّال والقصيري النظر لا يقلعون عن شي ء يعتقدون به ويمثل لديهم مفردة على مستوى المعتقد والدين، ولا يفيد معهم الدليل ولا المنطق.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 39

ومن الأسباب الاخرى لتكريس حالة اللجاج

والعناد هو مواجهة الشخص الذي ارتكب مخالفة معينة باللّوم المفرط والتقريع الزائد عن الحدّ وأمام الملأ العام، فانّ ذلك من شأنه أن يدفعه نحو الاصرار والعناد لإثبات أنّه ليس على خطأ ويتحرّك في مواجهة الآخرين من خلال التمسك برأيه، وبالتدريج يعتقد أنّه على صواب ويبقى على ما هو عليه، والعكس صحيح فإذا ما عومل بلطف ولين ومحبّةٍ فسيرتدع ويعود إلى رشده.

ولذلك نقرأ في حديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: «الإِفراطُ فِي المَلامَةِ يَشُّبُ نِيرانُ اللَّجاجَةِ» «1».

العامل الثالث لظهور هذه الصفة: هو احساس الإنسان بالحقارة والدونية، فعقدة الحقارة تمنع الأفراد من الاستماع والإنصياع للآخرين توكيداً لشخصيتهم، فلا يقبلون الكلام المنطقي ويصرّون على سلوكهم وعملهم الباطل.

أما الأفراد الذين لا يعيشون هذه العقدة ويمتازون بشخصية قوية، فلا حاجة لهم إلى هذا السلوك الباطل وسرعان ما يسلّمون للبرهان والمنطق السليم ولا يجدون في أنفسهم حاجة للاصرار على أفعالهم الخاطئة.

ضعف الإرادة واهتزاز الشخصية يمكن اعتباره عامل رابع للّجاج، ومن البديهي أنّ إقلاع الشخص من عادة تعودها لمدّة طويلة ليس بالأمر السهل، والإعتراف بالخطأ ليس بالأمر الهيّن أيضاً، ويحتاج إلى قوة الإرادة والشجاعة، والأشخاص الذين يعيشون الحرمان من تلك الفضيلتين سيجدون في أنفسهم دوافع لا شعورية لسلوك طريق العناد واللجاج.

«حبّ الراحة» يمكن أن يكون العامل الخامس، لأن ترك المسير الذي سار عليه الإنسان ولمدّة طويلة ليس بالأمر السهل، وخصوصاً لدى الشخص المنعّم والمحبّ للراحة.

ومن اليقين أنّ التحرك على خلاف حالة الاسترخاء الفكري والكسل النفسي لا يلائم مذاقهم.

فهذه من العوامل التي يمكن الإشارة إليها في دائرة اللجاج والمماراة.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 40

وأمّا آثارها السلبيّة فليست خافيةً على أحد، فهي تورط الإنسان في مشاكل بعيدة عنه كل البعد، كما تورط بنو اسرائيل

بالبقرة من خلال البحث عن التفاصيل الدقيقة في دائرة الطاعة وامتثال الأمر، وما ترتب من صعوبة البحث عنها وثمنها الباهض، فقد جاء في الحديث أنّهم جمعوا أموالهم كلها لشرائها، وبعدها جاؤوا لموسى عليه السلام يبكون ويشتكون بأننا قد أفلسنا وافتقرت قبيلتنا وأصبحنا نستعطي من الناس بسبب العناد، فَرَقَّ لهم النبي موسى عليه السلام وعلّمهم دعاءً يعينهم على مشاكلهم «1».

ومن افرازات هذه الرذيلة ومردوداتها السلبية على النفس هو الحرمان من فهم الحقائق التي تتولى تهيئة الأرضية لتكامل الإنسان، لأنّ اللجاج لا يعطي الفرصة للإنسان لإصلاح الخطأ والإذعان للحقائق، وعلى أثرها لا يستطيع التقدم والرقي في درجات الكمال.

والأثر الثالث لهذا الخلق الردي ء، هو العزلة الاجتماعية وابتعاد الناس عن الشخص الذي يعيش حالة العناد، فالناس عموماً لا يحبّون اللجوج وينفرون منه، وليس لديهم استعداد للتعاون معه والدخول معه في أجواء حقيقية من التكافل الاجتماعي، لأنّ التعاون الاجتماعي يحتاج للمرونة والسماحة وغض النظر، وهي أمور لا تتوفر في اللجوج.

وفوق هذا وذاك فمثل هؤلاء الأشخاص المغرورين ينعتون بالجهل وخفّة العقل في المجتمع، ونفس سوء السمعة هذهِ يكون سبباً في عزلتهم وانزوائهم، كما هو معروف في حديث دعائم الكفر عن الإمام علي عليه السلام حيث قال: «وَمَنْ نازَعَ فِي الرَّأي وَخاصَمَ شَهُرَ بِالمَثلِ (بالفشل) مِنْ طُولَ اللِّجاجِ» «2».

وخلاصة القول أنّ اللجاج والمماراة يبعد الإنسان عن اللَّه والناس، بل حتى عن نفسه، ولن تصبح للإنسان مكانةً بين الناس إلّابترك هذا الخلق السيّ ء.

الفرق بين الإستقامة واللجاج:

إذا ما اختار الإنسان طريق الخير ومسير الحق وثبت عليه، فيكون قد عَمِل بأفضل الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 41

الامور وهي بعينها فضيلة الصبر والاستقامة والتي تحدثنا عنها سابقاً، وإذا ما اختار الإنسان طريق الباطل وسبيل الانحراف مع عدم المرونة

للتغيير بحيث إنّه يعتبر الجميع على خطأ وهو وحده الصحيح، ولا يتحرّك في سبيل تصحيح الخطأ وجبران الزيغ، فيكون قد اختار طريق الّلجاج، وهو من أسوأ الأخلاق.

طريقة العلاج:

بصورة عامّة وكما هو معلوم فإنّ طريق العلاج للإمراض الأخلاقية يتمثل في أمرين:

«الأول»: الطريق العلمي وذلك من خلال تحليل عواقب تلك الرذيلة الأخلاقية، ومن هذا الطرق يمكن للشخص أن يعرف آثارها السلبية، ويعلم أنّها ستبعده من اللَّه تعالى والناس وتقف عقبة في طريق تكامله وتمنعه من إدراك الحقائق وتعزله عن الناس، وتضع الحجب على القلب، وحينئذٍ يتحرّك هذا الإنسان من موقع الابتعاد عن هذه الرذيلة ويقلع جذورها من نفسه.

اللجاج والمماراة لا ينسجم مع الإيمان كما قال الإمام الصادق عليه السلام: «سِتَّةٌ لاتَكُونُ فِي المُؤمُنِ قِيلَ وَما هِي؟ قَالَ العُسرُ وَالنَّكدُ وَاللّجاجَةُ وَالكِذبُ وَالحَسَدُ وَالبَغي» «1».

و «الطريق الآخر» لمحاربة تلك الرذيلة هو الحلّ العملي والتصدي لها في ميدان الممارسة والعمل، فعندما يرى نفسه قد توفّرت على عناصر ومقدمات ظهور الرذيلة في دائرة الحوار والنقاش، فعليه أن يُسلّم فوراً للحق ويشكر المتحدث، وإذا ما عاند وشاكس فليعتذر، ولا يعيد الكلام من لجاجةٍأبداً، وإذا ما تكلم سهواً فليسكت ويستعذ باللَّه من الشيطان الرجيم، وبتكرار هذا البرنامج العملي ستنكسر حدة اللجاج في نفسه وتندثر.

ثم عليه أن يبتعد عن الأفراد اللّجوجين، ولا يترك الجدال والبحث أو المِراء، وليقرأ عن العظماء كيف كانوا يقبلون الحق ولو من الصغير أو العبيد أو تلامذتهم، ويجلّوهم ويحترمونهم لأنّهم قالوا الحق.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 42

وبما أنّ من آثارها المباشرة هو الرياء والجهل فكلّما استطاع الإنسان أن يكسِر شوكة هاتين الصفتين في نفسه فستقل لجاجته، وليتذكر حالات الأقوام السابقة وكفرهم ومقابلتهم للأنبياء واختيارهم الكفر على الإيمان واستحقاقهم العذاب

الإلهي لا لشي ء إلّا لأنّهم لجّوا في باطلهم وأصروا على زيفهم، ولئلا يصاب بما أصاب اولئك القوم من قبل، وكيف أن بني اسرائيل باعوا كل ما لديهم ليشتروا تلك البقرة بحيث أفضى بهم إلى الاستجداء وذهبوا لموسى عليه السلام ليساعدهم في التخلص من هذه الورطة، فعلمهم دعاء يعينهم على دنياهم «1»، وكل ذلك كان بسبب لجّتهم وعنادهم.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 43

الشكر وكفران النعمة

تنويه:

«شكر النعمة» يمكن أن يكون باللسان أو بالعمل، وعليه فإنّ «الكفران» هو عدم الاعتناء بالنعم وتحقيرها وتضييعها، وهو أيضاً من الرذائل الأخلاقية ذات العواقب الوخيمة، سواء كانت على الصعيد الفردي أو الاجتماعي، والواقع أنّ الشكر يقرّب القلوب ويحكّم المحبّة في المجتمع، والكفران يقطع أواصر المحبّة والوئام ويجعل من المجتمع جهنّماً لا يطاق يعيش فيه الانسان حالات من العداوة والبغض والحقد!

كفران النعمة مانع كبير أمام تكامل الروح الإنسانية وتهذيبها والسير إلى اللَّه تعالى، حيث يتسبب في ذبول عناصر الخير في الضمير ويطفي ء النور الباطني الممتد في أعماق الوجدان ويلّوث الروح.

و «شكر النعمة» هو قضية فطرية، اودعت في الإنسان لتفتح له آفاق التوحيد ومعرفة اللَّه تعالى، ولهذا نجد أنّ كثيراً من علماء العقائد يفتتحون بحوثهم بمسألة «ضرورة معرفة المنعم»، وسيأتي شرحها في المستقبل إن شاء اللَّه تعالى.

بهذه الإشارة نعود للقرآن الكريم لنستعرض فيه الآيات التي تذم حالة الكفران، وتمدح حالة الشكر للنعمة:

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 44

1- «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ» «1».

2- «وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِىٌّ كَرِيمٌ» «2».

3- «وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ حَمِيدٌ» «3».

4- «وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ* وَلَئِنْ

أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ» «4».

5- «وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُوراً» «5».

6- «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ* جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ» «6».

7- «وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ» «7».

8- «لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ* فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْ ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ* ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ» «8».

تفسير واستنتاج:

«الآية الاولى» تستعرض كلام النبي موسى عليه السلام مع بني اسرائيل، حيث يذكرهم بأمر

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 45

إلهي مهم: «وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ»، فذكّرهم النبي عليه السلام بقضية الشكر ومعطياته والكفران وآثاره السلبية وذلك بعدما انتصروا على فرعون ونالوا الاستقلال وذاقوا طعم الحرية والعظمة وظهرت منهم بوادر كفران النعمة.

جملة «لأزيدنّكم» فيها أنواع من التأكيدات، فهي وعد إلهي قطعي للشاكرين، بأنّه سيزيدهم من فضله، واللطيف في الأمر أنّ اللَّه تعالى لم يخاطب كفّار النعمة بالقول:

«لُاعذّبنكم» بل قال: «إنّ عذابي لشديد» وهو نهاية اللطف والرحمة في دائرة التعامل المولوي تجاه المخلوقين، وفي نفس الوقت تهديد شديد ووعيد مخيف لكفّار النعم بأنّ عليهم أخذ العبرة من قصة بني اسرائيل عندما كفروا أنعُم اللَّه «فتاهوا» في الصحراء أربعين سنة.

في «الآية الثانية» يدور الحديث عن النبي سليمان عليه السلام وقومه، عندما اقترح عليهم أن

يأتوه بعرش ملكة «سبأ»، فقال له أحد حواريه وكان عنده علم من الكتاب: «أنا آتِيكَ بِهِ قَبلَ أن يَرتدَّ إلَيكَ طَرفُكَ»، فشعر سليمان عليه السلام بالفرح يغمر نفسه لوجود مثل هذه الشخصيات في بلاطه ولديهم الروحيات والمعنويات القوية، فقرر أن يشكر الخالق تعالى، فقال:

«وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِىٌّ كَرِيمٌ».

والجدير بالذكر أنّ ثواب الشاكر ذكر في هذه الآية بوضوح، ولكن عقاب من يكفر بالنعمة ذكر بصورة غير مباشرة «وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِىٌّ كَرِيمٌ» حيث ركزت الآية على كرم اللَّه تعالى، وهو نهاية رحمة اللَّه ولطفه في دائرة التخاطب مع الإنسان.

ويمكن استفادة نقطة مهمّة اخرى من الجملة الانفة الذكر، وهي أنّ اللَّه تبارك وتعالى يحذّر عباده من الكفر ويدعوهم للشكر لا لحاجة منه إليهم، وحتى على فرض كفران النعمة فإنّه يفيض من كرمه ولطفه على الناس لعلّهم يرجعون عن غيّهم ولا يحرمون أنفسهم من أنعُم اللَّه تعالى.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 46

وأساساً فإنّ الكتب الإلهية تعود بالنفع على العباد أنفسهم، فهي بمثابة دروس لهم، لتربية أنفسهم، فالباري تعالى غنيٌّ بذاته ولا يحتاج إلى أحد، لا لطاعة العباد ولا عصيانهم ولا يضرونه بالعصيان شيئاً.

«الآية الثالثة» تحمل مضمون الآية السابقة حيث تستعرض لنا قصة «لقمان الحكيم»:

«وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ حَمِيدٌ».

الحكمة التي أتاها اللَّه تعالى للقمان تشمل معرفة أسرار الكون والعلم بطرق الهداية والصلاح، والطريقة المثلى للحياة الفردية والاجتماعية، التي جاءت بصورة نصائح لقمان لابنه في سورة لقمان، وهي موهبة إلهية ونعمة روحية أكّد اللَّه تعالى على أهميّتها، كما ذكر في الآية التي قبلها على أحدى النعم المعنوية، حتى لا يغرق الناس في منزلقات النعم المادية ويتصورون أنّ

النعم والمواهب الإلهية تنحصر في الماديّات فقط.

ويجدر هنا الإشارة إلى نقطتين:

«الأولى» إنّ الشكر أتى بصورة الفعل المضارع، والكفران بصيغة الماضي، وهي إشارة إلى أنّ مسير التكامل والرقيّ والقرب إلى اللَّه تعالى يحتاج إلى المداومة على الشكر في حين أنّ لحظة من كفران بإمكانها أن تفضي إلى نتائج وخيمة وعواقب مؤلمة.

و «الثاني» إنّ الآية ركّزت على صفتي (الغني الحميد)، بينما كان التركيز في آية النبي سليمان عليه السلام على صفتي (الغني والكريم) وهذا الفرق يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ اللَّه تعالى غنيٌّ عن شكر المخلوقين، فالملائكة تسبح بحمده وتقدسه على الدوام، وإن كان غنيّاً عنهم أيضاً، ولكن العباد بشكرهم يستوجبون المزيد من النعم عليهم.

«الآية الرابعة» انطلقت للحديث عن الأشخاص الذين يعيشون ضيق الافق وعدم الإيمان والتقوى، فهم يعيشون الكفران للنعمة بكل وجودهم:

«وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ* وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 47

بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ».

نحن نعلم أنّ القرآن الكريم عندما يتحدث عن الإنسان في واقعه السي ء ويصفه بصفات ذميمة بصورة مطلقة، إنّما يقصد الإنسان المنفصل عن اللَّه في حركة الحياة ومن يعيش عدم الإيمان أو ضعف الإيمان، ولهذا ورد في الآية التي جاءت بعد الآيات مورد بحثنا: «إلَّا الّذِينَ صَبَروا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ اولئِكَ لَهُم مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَرَيمٌ».

بهذا الاستثناء يتبيّن أنّ الأفراد الذين يعيشون حالة اليأس من رحمة اللَّه والغافلين والكفورين، أفراد لم يصلوا في واقعهم النفسي لمرحلة الإيمان بعد.

وعلى العموم يمكن أن نستنتج من الآيات الآنفة الذكر، أنّ الكفران وعدم الشكر تؤدي بالإنسان إلى التلّوث بصفات سيئة اخرى تحرمه المغفرة والأجر الكبير.

تعبير «لئن أذقنا» تعبير لطيف في الموردين فيقول: إنّ ضعاف

النفوس والإيمان إذا سلبت منهم نعمة من النعم، فسرعان ما يجري على ألسنتهم الكفر ويدب اليأس في قلوبهم، وإن جاءتهم نعمة إذا بهم يغترّون ويتحركون في أجواء الغفلة والطغيان، والدنيا هي كلها شي ء صغير وحقير، وما يصل إلى الإنسان منها أصغر وأحقر، ومع ذلك فإنّهم يتأثرون بسرعة لضعف نفوسهم وضيق آفاق إيمانهم.

ولكن الإيمان باللَّه تعالى ومعرفة ذاته المقدسة اللّامتناهية في القدرة والعلم، تمنح الإنسان عناصر القوة والحركة وتعينه على مواجهة أكبر الحوادث السيئة والحسنة دون أن تؤثر في نفسه شيئاً.

وتنطلق «الآية الخامسة» لتشير إلى الأفراد الذين يتوجهون إلى اللَّه تعالى عند وقوع المصيبة ويدعونه ويتوسلون بلطفه بكل وجودهم، وبمجرّد انقشاع سحائب الأزمة ينسون كل شي ء ويكفرون مرّة اخرى:

«وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُوراً»

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 48

وطالما جرّبنا هذا الأمر في حياتنا الشخصية وشاهدنا ضعيفي الإيمان عندما يمحصون بالبلاء، كالمرض والفقر والمصائب الاخرى، يتوجهون باخلاص للباري تعالى وبمجرّد انكشاف تلك المصائب وعودة المياه إلى مجاريها تراهم يتغيّرون ويسلكون طريق الكفر والحال أنّ الإنسان في هذه الأحوال أيضاً يجب عليه التوجه والإلتجاء إلى الذات المقدسة أكثر من ذي قبل.

وفي تكملة الآية الكريمة يعبّر القرآن الكريم بتعبير جميل جدّاً حيث يقول: «أَمْ أَمِنتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنْ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَاتَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً».

فهنا إشارة إلى أنّه كيف يمكن أن تكفروا وتتغيّروا فأينما تذهبوا فأنتم تحت سلطته، وبإمكانه أن يعذبكم في أي مكان كنتم فيه سواء في البرّ أو في البحر؟

ويجب التوجه إلى أنّ كلمتي «الخسف» و «الغرق» في هذه الآية لهما مفهوم مترادف فالأولى يراد

بها الاختفاء في الأرض، والثانية الاختفاء في البحر.

«الآية السادسة» من الآيات تتوجه بالخطاب إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وتشرح عاقبة كفران النعم:

«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ» وبعدها يضيف:

«جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ».

هذه التعبيرات تبيّن أنّ كفران النعم الإلهية، يمكن أن يؤدي بقوم أو بمجتمع بأكمله إلى قعر جهنّم ولا يستبعد نزول العذاب الدنيوي فيها حيث تبدل دنياهم إلى جحيم لا يطاق.

وقد اختلف المفسّرون في المقصود من النعمة في هذه الآية، فبعض قال: إنّها بركة وجود الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله فالعرب المشركون قد كفروا بالنعمة بانكارهم لدعوته ورفضهم الاذعان لرسالته فاحلّوا قومهم دار البوار، وفسّرها البعض الآخر بأهل البيت عليهم السلام حيث كفر بهم البعض أمثال بني امية، ولكن على الظاهر أنّ مفهوم الآية أوسع من هذه الدوائر والاطر

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 49

في مصاديق الآية ويشمل جميع النعم الإلهية، وما ذكر آنفاً يعدّ من مصاديقها الواضحة، على الرغم من تصريح الآيات التي وردت بعدها بالأشخاص الذين تركوا الإسلام والتوحيد واختاروا الشرك وعبادة الأصنام، ولكن هذه النماذج تعتبر أيضاً من مصاديقها البارزة.

وقال البعض الآخر: مثل الفخر الرازي والمرحوم الطبرسي في مجمع البيان، إنّ سبب النزول لهذه الآية ناظر لأهل مكّة الذين أعطاهم اللَّه تعالى أنواع النِعم وأهمها بعثة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله من بين ظهرانيهم، ولكنهم لم يقدّروا تلك النعمة وكفروا بها، فأصبحت عاقبتهم أليمة، فكفرهم بنعمة الرسول صلى الله عليه و آله هو نفس كفرهم باللَّه والرسالة!

ولكننا نعلم أنّ شأن النزول لا يخصص مفهوم الآية بمورد خاص.

وتأتي «الآية السابعة» لتتحدث عن جماعة أنعم اللَّه تعالى عليهم بنعمة ظاهرة وباطنة، نعمة الأمان

والرزق الكثير والنعم المعنوية والروحية التي نزلت عليهم بواسطة نبيّهم ولكنّهم كفروا تلك النعم فعاقبهم اللَّه تعالى بعقاب الجوع والخوف:

«وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ»

اختلف المفسّرون بأن هذه الآية هل تشير إلى مكان بالخصوص أم إنّها مثال عام كلي، فبعض يعتقد أنّها أرض مكّة، وتعبير «يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ...»، يقوي ذلك الاحتمال، لأنّه ينطبق بالكامل على أحوال وشرائط مكّة، إذ هي أرض جافة وصحراء قاحلة غير ذات زرع وماء ولكن اللَّه سبحانه قد باركها وأنزل عليها النعم من كل مكان.

وتعبير «كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً» هو قرينة اخرى على أنّها مكّة، فأرض الحجاز غالباً ما كانت أرضاً غير آمنة إلّامكّة وذلك ببركة وجود الكعبة الشريفة.

وعندما وصلت النعم المادية على أهل مكّة إلى الذروة أتمها اللَّه تعالى ببعثة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، ولكنّهم كفروا النعم الماديّة والمعنوية، فابتلاهم اللَّه تعالى بالقحط والخوف، وهذا هو مصير من كفر بأنعم اللَّه تعالى.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 50

ومع ذلك فإنّ مفهوم الآية يمكن أن يكون أعم فيستوعب في مضمونه جميع من يكفر بالنعمة وأرض مكّة هي أحد مصاديق هذه الآية، حيث ورد في الروايات أن القحط والجوع أخذ منهم مأخذاً كبيراً بحيث كانوا يتغذّون على أجساد الموتى لسدّ جوعهم، وكذلك في الغزوات الإسلامية، حيث أضرّت بهم كثيراً.

«الآية الثامنة» من الآيات، تتطرق إلى قوم من أكفر الناس، وهم (قوم سبأ) حيث حباهم اللَّه تعالى: بأفضل النعم وأحسنها، ولكن غرورهم وغفلتهم واتباعهم لأهوائهم، أعماهم وأضلّهم، فكفروا، فأخذهم اللَّه بذنوبهم ومحق تلك النعم من أيديهم، فقال:

«لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ

آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ».

وقد ذكر المفسّرون أنّه على الرغم من أنّ أرض اليمن خصبة ولكن لفقدان الأنهار فيها، كانت أغلب أراضيها بائرة لا يستفاد منها، ففكر القوم ببناء سدّ يمنع السيول القادمة من الجبال، فبنوا عدّة سدود وأهمها (سد مأرب) حيث كان يقف أمام السيول بين جبلي بلق العظيمين، فتجتمع خلفه مياه كثيرة استطاعوا بواسطتها أن يزرعوا ويسقوا به جنائن وبساتين كثيرة قامت على طرفي السدّ، ونشأت حولها القرى وأصبحت مركزاً عظيماً للنشاط التجاري وتجمع الناس، فالقرى كانت متصلة ببعضها بحيث أن ظلال الأشجار كانت متصلة على طول الطريق ووفور تلك النعم كان مقترناً مع الأمان الاجتماعي والرفاه الاقتصادي، فكانت حياتهم هانئة جدّاً، اجتمعت فيها كل متطلبات الحياة آنذاك ومثل هذه الأجواء كان من شأنها أن تفضي لإطاعة اللَّه تعالى والتكامل الروحي.

ويستمر القرآن الكريم، فيقول إنّ النعم أصبحت كثيرة جدّاً ممّا حدى بهم لأنّ تتحرك فيهم عناصر الطغيان فنسوا ذكر اللَّه تعالى وأخذوا يتفاخرون ويقسّمون الناس إلى طبقات، ولكنهم بالتالي ذاقوا وبال أعمالهم فأرسل الباري تعالى عليهم سيل العرم:

«فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 51

وَشَيْ ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ* ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ».

ومن عجائب هذه القصّة أنّ المفسّرين ذكروا هجوم الجرذان الصحرواية على السدّ فأخذت تنخر فيه من الداخل دون أن يراها الناس المغرورون المشتغلون بالملذّات وكفران النعم، وفجأة أمطرت السماء مطراً شديداً، وتحرّك سيل عظيم وتجمعت المياه خلف السدّ، ولكن جدران السد لم تتحمل كل هذا الضغط، فانهارت وأخذ السيل طريقه للقرى والأراضي الزراعية، فلم يُبق لها شي ء، لا

مزارع ولا أنعام، وتبدل كل شي ء إلى صحراء قاحلة لا ينمو فيها سوى النباتات البرية، ففرت الطيور الجميلة وحلّت محلّها الغربان والبوم، وتفرق الناس إلى الأطراف وأصبحوا من أفقر الناس يأسفون على ماضيهم الجميل، ولكن هيهات، حيث لا تفيد ساعة ندم.

نعم فهذه هي حال الأقوام التي تغفل عن ذكر اللَّه وتكفر بأنعمه.

والطريف في الأمر أنّ الأثرياء منهم اعترضوا على قرب المسافات بينهم، حيث يستطيع أن يسافر كل أحد لقرب المسافة ووفرة الخير في الطريق، فقالوا: أصبح بإمكان الفقير أن يسافر معنا أيضاً، فطلبوا من اللَّه تعالى أن يباعد بين أسفارهم حتى لا يستطيع الفقراء السفر معهم أيضاً، نعم فقد وصلوا إلى أعلى مراتب الطغيان، فعاقبهم اللَّه تعالى بأشدّ العقاب، فتفرق جمعهم وأصبحوا مضرباً للأمثال وخصوصاً في الفرقة، فقالوا فيهم: (تفرقوا أيادي سبأ).

من مجموع الآيات محل البحث تتبين خطورة وبشاعة كفران النعم، حيث تناولت الآيات هذه المسألة وآثارها السيئة على الفرد والمجتمع وخاصة ما أحلّ الكفران بالأقوام السابقة من نتائج مدمرة وعواقب مشؤومة في حركة الإنسان والحياة.

كفران النعم في الروايات الإسلامية:

اشارة

تناولت الروايات الإسلامية هذه المسألة بصورة واسعة ومفصلّة وتكلّمت عن آثار حالة الكفران المشؤومة وأضرارها، وكذلك تناولت بركات الشكر للنعم والمواهب الإلهية، ومنها:

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 52

1- جاء في حديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «أَسرَعُ الذُّنُوبِ عُقُوبَةً كُفرانُ النِّعْمَةِ» «1».

2- ونقرأ في حديث عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّه قال: «سَبَبُ زَوالِ النِّعَمِ الكُفرانُ» «2».

3- وعنه أيضاً عليه السلام: «كُفرُ النِّعْمَةِ مُزيلُها وَشُكرُها مُستَدِيمُها» «3».

4- في حديث آخر عنه عليه السلام: «كُفرانُ النِّعَمِ يُزِلُّ القَدَمَ وَيَسلُبُ النِّعَمَ» «4»

5- وأيضاً عنه عليه السلام: «آفَةُ النِّعَمِ الكُفرانِ» «5».

6- وعنه عليه السلام أيضاً: «كافِرُ

النِّعْمَةِ كافِرُ فَضلِ اللَّهِ» «6».

7- والاستدراج هو أحد عقوبات الباري تعالى ويعني أنّ اللَّه تعالى يغدق على عبده الكافر نعمه ثم يسلبها منه حتى يحس بالألم والعناء الشديدين، وقد جاء في حديث عن الإمام الحسين عليه السلام: «الإِستِدراجُ مِنَ اللَّهِ سُبحانَهُ لِعَبدِهِ أَنْ يُسْبِغَ عَلَيهِ النِّعَمَ وَيَسلُبَهُ الشُّكرَ» «7».

8- عن الإمام السجاد علي بن الحسين عليه السلام أنّه قال: «الذُّنُوبُ الَّتِي تُغَيُّرُ النِّعَمَ البَغيُ عَلَى النّاسِ والزَّوالُ عَنِ العادَةِ فِي الخَيرِ واصطِناعُ المَعرُوفِ، وَكُفرانُ النِّعَمِ وَتَركِ الشُّكْرِ» «8».

9- وفي حديث عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنّه قال: «كُفرُ النِّعْمَةِ لُؤمٌ وَصْبَةُ الأحمَقِ شُؤمٌ» «9».

10- وختاماً نختم بحثنا بهذا الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام في معرض حديثه عن جنود العقل وجنود الجهل، حيث أمر أصحابه بأن يتعرفوا على جنود العقل وجنود الجهل، وعندما سأله بعض أصحابه عنه قال: «إنّ اللَّهَ جَعَلَ للِعَقلِ خَمساً وَسَبعينَ جُندِياً وَضِدَهُ الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 53

الجَهلُ إلى أن قال- والشُّكرُ وضِده الكُفرانُ» «1».

ما ذكر في الروايات العشر السابقة، يبيّن مدى خطورة هذه الرذيلة وآثارها السيئة على مستوى الحياة الفردية والاجتماعية وكيف أنّ الإنسان ينحدر من أوج الكرامة وذروة النعمة إلى قعر الذلّة والمسكنة، وتسلب منه التوفيقات الإلهية ويبتعد عن اللَّه تعالى ويقترب من الشيطان.

وهنا يجدر الإشارة إلى عدّة نقاط:

1- معنى كفران النعمة

الكفر يعني في الأصل الإخفاء، وبما أنّ الكافر يسعى في إخفاء وتغطية النعمة، وقيمتها فسمّي عمله بالكفران.

ومن البديهي أنّ الكفران مرّة يكون بالقلب واخرى باللسان واخرى بالعمل.

ففي قلبه لا يستشعر الإنسان أهمية تلك النعمة، ويصرّح بلسانه بقلّة النعمة وعدم أهميتها، وفي العمل لا يتحرك من موقع الاهتمام بمواهب اللَّه عليه، وبدلًا من أن يستعملها بالخير، يستعملها بالشر ولذلك قال

كبار علماء الأخلاق:

«الشُّكْرُ صَرفُ العَبدُ جَمِيعَ ما أَنْعَمَهُ اللَّهُ تَعالى فِي ما خُلِقَ لأجلِهِ».

لذلك فالكفران هو استعمال النعم في غير محلها، فالعين التي وهبها اللَّه تعالى للإنسان ليرى بها طريق الحق والآيات الإلهية ويشخص بها الطريق السوي من البئر لئلا يقع فيه، فإذا به يستعملها في موارد الحرام، وكذلك اليد والاذن وغيرها من الجوارح أو المال والثروة.

وكأنّ هذا الكلام مقتبس من كلام الإمام الصادق عليه السلام، حيث يقول: «شُكرُ النِّعمَةِ إجتِنابُ المَحارمِ» «2».

وبهذا يتبيّن لنا معنى الشكر وعدم الشكر.

2- عواقب الكفران

الكفران بالنعمة يفضي إلى نتائج سيئة كثيرة في دائرة الماديات والمعنويات في حياة الإنسان فمن ذلك أنّه يتسبب في زوال النعم، لأنّ الباري تعالى حكيم، لا يعطي شخصاً شيئاً بدون حساب ولا يسلب أحداً شيئاً بلا مبرر، فالذين يكفرون بالمنعم فلسان حالهم يقول:

بأننا لا نليق ولا نستحق هذه النعم، فتوجب الحكمة الإلهية سلب تلك النعم منهم، والذين يشكرون النعم فلسان حالهم يقول: إننا نستحق تلك النعم الإلهية وزد علينا يا ربّ، مثلًا عندما يرى الفلاح أنّ في بستانه أشجاراً مورقة أكثر من غيرها فسوف يعتني بها أكثر من غيرها حتى تنمو وتكبر بسرعة وتثمر، وإذا شاهد أشجاراً لا تثمر ولا تورق ولا ظلّ لها مهما أهتم بها وبذل لها العناية في مجال السقي والتهذيب، فكفران الأشجار للنعمة يدعو الفلاح لعدم الاعتناء بها وتركها لحالها.

وقد ورد في حديث عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال:

«مَنْ شَكَرَ النِّعَمَ بِجِنانِهِ استَحَقَّ المَزيدَ قَبْلَ أَن يَظهَرَ عَلَى لِسانِهِ» «1».

وجاء في روايات اخرى نقلت عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه وبمجرّد الحمد والثناء يصدر الباري تعالى أمره بزيادة النعم على ذلك العبد، فقال: «ما أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبدٍ مِنْ نِعمَةٍ فَعَرَفَها بِقَلبِهِ

وَحَمِدَ اللَّهَ ظاهِراً بِلِسانِهِ فَتَمَّ كَلامُهُ حَتّى يُؤمَرَ لَهُ بِالمَزيدِ» «2».

وبديهي أنّ الكفران يفضي إلى نتائج معاكسة كذلك، ويمكن أن يلطف به اللَّه تعالى ويؤخر عنه سلب النعمة ولكن وعلى أية حال إذا لم يتنبه الإنسان وبقي على ما هو عليه في دائرة الغفلة والجحود للنعمة، فستسلب منه بالتأكيد، لأنّ ذلك من لوازم الحكمة الإلهية.

ومن جهة اخرى فإنّ الكفران يسبب البعد من اللَّه تعالى وهو الخسران الأكبر، فعظماء علماء الكلام في أول أبحاثهم ذهبوا إلى أن شكر المنعم هو من أول الدوافع لمعرفة الباري تعالى وأنّ شكر المنعم أمر وجداني، فعندما يرى الإنسان نفسه غارقاً بالنعم الظاهرة

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 55

والباطنة، وأنّها ليست منه فسيسعى لشكر المنعم من خلال البحث عن مصدر النعمة، وهذا هو الذي يُمهد الطريق لمعرفة اللَّه تعالى، ولكنّ الناكرين لأنعم اللَّه والذين لا يقدّرون المنعم فسيحرمون من معرفة اللَّه تعالى، بالإضافة إلى ذلك فإنّ عدم شكر الخالق يفضي بدوره إلى عدم شكر المخلوق، فلا يقيم وزناً لجميل الآخرين ومعروفهم، وكأنّه هو الذي له الحق عليهم، ممّا يسبّب نفور الناس منه وكراهيتهم له، وبالتالي سيؤدي إلى العزلة والإنزواء في حركة الواقع الاجتماعي وقلّة الصديق والناصر في مقابل المشكلات وتحديات الواقع الصعبة.

أسباب ودوافع الكفران وطرق علاجه:

التقصير في الشكر ينشأ من عدم معرفة الإنسان بالمنعم بصورة كاملة، وأساساً فانّه لا يتحرك في طريق التدبّر في النعم الإلهية، فمثلًا عندما ننظر إلى بدننا وما فيه من عجائب ودقائق وتفاصيل على مستوى الخلقة فسنتوجه إلى أهمية تلك النعم ويتحرك فينا حسّ الشكر للَّه تعالى.

وعلى سبيل المثال إذا استطاع البشر أن يصنع مثل الأجهزة الموجودة في الإنسان (مثل القلب والكبد والكلية والرئتين) فستكون قطعاً أقل كيفية من صنع خالقها، وستكلفه

الكثير جدّاً، وعلى هذا فإذا أردنا حساب قيمة ما يوجد لدينا من أعضاء وجوارح بدنية فسيتبين أنّ لدينا وبحوزتنا ثروة كبيرة جدّاً.

أمّا النعم الخارجية، فيمكن أن تكون جرعة ماء تساوي الدنيا بما فيها، وقد نقل عن بعض العلماء أنّه دخل على أحد الملوك وكان بيد الملك قدح ماء فأراد أن يشرب فتوجه للعالم الكبير وقال له عِظني، فقال له العالم: إذا كنت في يوم من الأيّام عطشاناً لدرجة الموت وجاؤوك بالماء بشرط أن تتنازل عن الملك، فهل ستتنازل؟ فقال نعم، فلا حيلة في ذلك.

فقال له: كيف تتعلق بُملك وحكومة تساوي شربة ماء؟

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 56

ويرى الإنسان حيناً آخر مريضاً يصرخ من شدّة الألم بحيث يتمنى الموت على هذا الألم، فلو اعطيت للإنسان الدنيا بأسرها وهو على ذلك المرض، فلن يقبل بذلك، بل يرضى أن يأخذوا منه كلّ شي ء إلّاالعافية.

هناك نعمٌ ظاهرها غير مهم لكنّها إن فقدت فستتعرض حياة الإنسان للخطر، مثل غدد اللّعاب التي ترطب الشفاه والفم وتلين الأكل وتسهل عملية البلع، فإذا توقفت هذه الغدد في يوم ما فسيجف الفم ويعسر عليه الأكل ويتوقف عن الكلام وتصبح الحياة مستحيلة، فذلك الجزء الصغير من بدن الإنسان أهم بكثير من ثروات الدنيا أجمع.

وكذلك في نعمة الشمس والهواء والنباتات والمواهب الاخرى العظيمة وعلى حدّ تعبير القرآن الكريم: «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَاتُحْصُوهَا» «1».

ويجب التنبه أنّ كثيراً من النعم الإلهية لا يتسنى للإنسان معرفتها، لأنّها لن تُسلب منه، فبعض النعم والمواهب تعيش مع الإنسان فاذا سلبت منه عرفها وأقرّ بعظمتها، وبعضها سيبقى في الكتمان وهي كثيرة جدّاً.

مثلًا مسألة الجاذبية فلم يكن أحد يعرف قبل السفر إلى الفضاء وفقدان الجاذبية هناك، كم هي مهمّة هنا على الأرض،

إذ لولاها لما استطاع الإنسان أن يفعل شيئاً لا زراعة ولا صناعة ولا حركة، فأقل حركة من الإنسان سيرتطم بالسقف والجدار وستتناثر الأطمعة والأشربة من المائدة ولن يستطيع الإنسان أن يأكل أو يشرب شيئاً، فحركة الأرض تؤدي إلى قدف كل شي ء في الفضاء لولا الجاذبية وستتحول الأرض إلى صحراء قاحلة محرقة، فتفكروا إننا لو قضينا العمر في شكر هذه النعمة فهل سنؤدّي شكرها؟

وإذا أضفنا إليها النعم المعنوية وهداية الأنبياء وكلام المعصومين عليهم السلام ونزول الكتب الإلهية، والتي هي أعلى وأهم من النعم الماديّة، فسنعرف مدى عظمة وقيمة مواهب الرحمن وسنعرف قدرتنا على الشكر كم هي ضعيفة وضئيلة.

فالتوجه لهذه الامور تقلع جذور الكفران وتحيي فيه روح الشكر.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 57

ومنها نعرف طريقة العلاج، ولذلك قالوا: إنّ أول طريق للشكر هو المعرفة والتفكير بالمواهب والصنائع الإلهية وأنواع نعمه الظاهرة والباطنة «1».

الطريقة الاخرى: هي النظر في دائرة النعم والمواهب المادية إلى المستويات الدنيا للناس، فكلما فكّر الإنسان فيها فستبعث فيه روح الشكر، ولكن إذا نظر إلى من هو أعلى منه من حيث الثروة والنعمة فسوف تستولي عليه الوساوس الشيطانية وتؤذيه.

ومن جهة ثالثة إذا ابتلي بمصائب الدنيا، فليعلم أنّه يوجد مصائب أكبر من التي اصابته وليشكر اللَّه أنّه لم يتورط بالأكبر والأشد منها.

وقد نقل عن شخص أنّه اشتكى عند أحد العظماء أنّ السارق قد أتى وسرق كل شي ء، فقال له: اذهب واشكر اللَّه تعالى إذ لم يأت الشيطان الى بيتك بدلًا من السارق، فلو أخذ منك إيمانك فما كنت تفعل؟ «2»

وقد ذكر الإمام الصادق عليه السلام في كتاب «التوحيد» المعروف بتوحيد المفضل حقائق توحيدية هامة من موقع تحليل ماهية النعم الإلهية في تفاصيلها الدقيقة ومن خلالها ينفتح

الإنسان على المنعم الحقيقي.

ومن جملتها نعمة الكلام والكتابة وقد اعتبرها الإمام الصادق عليه السلام عمود الحضارة الإنسانية: وبعد شرح طويل لها قال:

«فَإنّه لَو لَم يَكُن لَهُ لِسان مُهيأ للكَلامِ وَذِهن يَهتَدِي بِهِ للُامورِ لَم يَكُن لِيتَكَلَّمَ أَبَداً، وَلَو لَم يَكُن لَهُ مُهيأةً وَأَصابِعَ للِكِتابَةِ لِيَكتُبَ أَبداً، واعتَبر ذَلِكَ مِنَ البَهائِمِ الّتي لاكَلامَ لَها ولا كِتابَةَ، فَأصلِ ذَلِكَ فَطرَةِ الباري عَزَّوجَلَّ وما تَفضل بِهِ عَلَى خَلقِهِ، فَمن شَكَرَ اثِيبَ، وَمَنْ كَفَرَ فإنَّ اللَّهَ غَنِيٌ عَنِ العالَمِينَ» «3».

الشكر قناة موصلة للنعم الإلهية:

النقطة المقابلة للكفران، هي شكر الإله، ومفهومها تقدير النعم بالقلب واللسان والعمل، أمّا التي بالقلب فهي معرفة الخالق والتسليم إليه والرضا بعطائه وذكر الامور التي تبيّن تقدير وشكر الخالق من قبل المخلوق في مقابل نعمه تبارك وتعالى، أمّا من الناحية العملية فهو وضع النعم والمواهب الإلهية في المكان اللائق والذي خلقها اللَّه تعالى لأجله.

يقول الراغب في المفردات: الشكر هو بمعنى التصور للنعمة واظهارها، وقال البعض أن الكلمة في الأصل كانت «كشر» بمعنى الإظهار والابراز (والدابة الشكورة) تطلق على الحيوان الذي يواظب ويهتم بالزرع والماء وتسمن يوماً بعد يوم، و «العين الشكراء» بمعنى العين المليئة بالماء ولذلك فإنّ الشكر بمعنى امتلاء وجود الإنسان من ذكر المنعم للنعم.

والشكر على نوعين: شكر تكويني وشكر تشريعي، الشكر التكويني هو شكر المخلوق للمواهب والنعم التي بحوزته وتحت تسلطه، لتنمو كالشجر والورد والثمرة تكون تحت إشراف الفلّاح الخبير الذي يعرف كيف تثمر الثمار الجيدة، والكفران هو عدم ظهور أثر للمحافظة والمراقبة فيها من قبل الفلّاح.

لذلك فإنّ الذي يستعمل النعم الإلهية في طريق العصيان فقد كفرها تكوينيّاً.

الشكر التشريعي هو أن يقوم الإنسان بشكر الخالق بالقلب واللسان.

وذكرنا سابقاً أنّ الإنسان لا يستطيع أن يؤدّي شكر الخالق ونعمه،

لأنّ نفس هذا التوفيق للشكر هو نعمة منه تعالى وهو نفسه يحتاج لشكر آخر، ولذلك جاء في رواياتنا الإسلامية أنّ أفضل شكر الإنسان هو أظهار العجز عن شكر اللَّه في مقابل نعمه والمعذرة عن ذلك التقصير، لأنّه لا يستطيع أحد أن يؤدّي ما يستحقه الباري تعالى.

وذكرنا سابقاً الكثير من مطالب الشكر وما يقابلها من الكفران، ولتكميل هذا البحث نذكر بعض من الآيات والروايات عن المعصومين عليهم السلام، ونكتفي بهذا القدر منها:

«وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ* إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ» «1».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 59

وشبيه لهذا التعبير جاء في آيات اخرى.

ومرّة يشير إلى العين والسمع والعقل فإنّها أهمّ وسيلة للمعرفة الإنسانية فيقول:

وأمّا القرآن الكريم فقد جعل الصبر والشكر أحدهما قرين للآخر وهما وسيلتان لتفتح العلم والإيمان في قلب الإنسان فقال:

«وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» «1».

فالقرآن الكريم أشار في موارد عديدة لوجود هذه الفضيلة (فضيلة الشكر عند الأنبياء العظام)، وأمرهم بالشكر «2» ومرّة يخاطب آل داوود:

«اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ» «3».

ويقول في مكان آخر أنّ شرط رضا الباري تعالى هو الشكر: «إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ» «4».

الآيات حول الشكر في القرآن الكريم كثيرة وتصل إلى حوالي ال 70 آية، والجدير بالذكر أنّ صفة الشكور نسبت للَّه تعالى في سورة النساء الآية 147:

«مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً».

مفهوم الآية يبيّن أنّ الشكر إذا صدر بصورة ومعنى حقيقي فإنّ العذاب الإلهي سيرتفع بالكامل، علاوة على أنّ صفة الشكور نسبت للَّه تعالى، فإنّ الشكر هو من الصفات المشتركة مع الباري

تعالى، والفرق أن الإنسان بوضع النعمة في موضعها السليم يكون قد أدّى شكرها، وفي المقابل يكون شكر الباري تعالى بزيادة المواهب لعباده.

وجاء في بعض الآيات القرآنية أن التوجه والانتباه للنعم الإلهية هو السبب في حثّ الإنسان على الشكر ويكون هو الرادع عن الذنوب، ونقرأ في سورة الأعراف في خطابه للاقوام السابقة، الآية 74: «فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 60

وفي الآية 69 من نفس السورة يقول: «فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ».

وهذا التعبير صريح بأن الشكر يكون سبباً للفلاح.

خلاصة القول، أنّ أساس كل سعادة وبركة إلهية هو الشكر، لأنّه يقرّب الإنسان يوماً بعد يوم من اللَّه تعالى، ويحكم أواصر المحبّة بين العباد وخالقهم، وهو طريق التقوى والفلاح.

فلسفة الشكر:

الإنسان المنعم قد يتوقع الشكر من الطرف الآخر، أو ربّما يحتاجه في بعض الأحيان، سواء كان احتياجاً مادياً أو معنوياً، أو لأجل موقعه ومركزه الإجتماعي.

ولكن الباري تعالى، هو الغني عن العالمين، حتى ولو كفر الناس جميعاً، فهو لا يحتاج لشكرهم، ومع ذلك فقد أكد على الشكر، فمثله كمثل باقي العبادات، ونتيجته تعود على نفس الإنسان، وإذا ما دققنا النظر قليلًا فستتوضح فلسفته.

إذا قدّر الشخص النعم الإلهية سواء كان بالقلب أو اللسان أو بالعمل، فهو يستحق تلك النعمة، واللَّه سبحانه وتعالى هو الحكيم لا يسلب النعمة من أحد من دون دليل ولا يعطي لأحد من دون دليل، فعندما يشكر الإنسان النعم فلسان حاله يقول إنني مستحق للنعم، وحكمة الباري لا توجب له النعمة فقط بل تزيده أيضاً.

ولكن لسان حال الكافر يقول: إننّي غير مستحق للنعمة وحكمة الباري تعالى توجب سلب تلك النعمة منه، وإذا شكر يوماً وكفر يوماً، فسيتعامل معه كالتالي:

«ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ

يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» «1».

وعندما نقول أنّ الشكر سبب في دوام النعمة فدليله هذا بعينه، وفي حديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: «بِالشُّكرِ تَدُومُ النِّعَمِ» «2».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 61

وفي حديث آخر قال: «ثَمَرَةُ الشُّكرِ زِيادَةُ النِّعَمِ» «1».

وعلاوة على ذلك عندما يتم غرس روح الشكر عند الإنسان، فتصل إلى شكر المخلوق، فشكر المخلوق في مقابل ما يؤدّيه من أعمال جيدة، يكون سبباً مؤثراً في حركة المجتمع وتفتح الاستعدادات الخلّاقة وفي أعماق الإنسان وبالتالي فسيتحرك المجتمع لشكر الخالق ومنه يفتح باب معرفته، فتتعمق العلاقة بين الإنسان وربّه، وكما أشرنا سابقاً فإنّ أول مسألة تبحث في علم الكلام هي معرفة اللَّه عزّ اسمه، وأهمّ دليل فيها هو مسألة شكر المنعم والتي هي بدورها نابعة من الوجدان أو كما يقال بأنّ: قياساتها معها.

عملية الشكر بالإضافة إلى أنّها تعرف الواهب، فإنّها تعرف النعم نفسها أيضاً، فالنعمة كلّما إزداد حجمها وكيفيتها، تستدعي شكراً أكبر وأكثر، ولأداء شكر المنعم تكون معرفة النعمة أمراً ضرورياً، وبالتالي تؤدي إلى توثيق الأواصر بين الخالق وعباده وتشغل نيران الحب له في القلوب، وكم استتبعت المواهب المادية، مواهب معنوية أعلى وأسمى!

الشكر في مصادر الحديث

الروايات في هذا المجال لا تعد ولا تحصى، ونختار طائفة منها للقارى ء الكريم:

1- في حديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله:

«الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ لَهُ مِنَ الأجَرِ كَأَجرِ الصَّائِمِ المُحتَسِبُ والمُعافِى الشاكِرُ لَهُ مِنَ الأَجرِ كأَجرِ المُبتلى الصابِرِ والمُعطى الشاكِرُ لَهُ مِنَ الأَجرِ كأجر المَحرُومِ القانِعِ» «2».

2- في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:

«مَكْتُوبٌ فِي التُوراةِ الشُّكرُ مِنَ النِّعَمِ عَلَيكَ، وَأَنعِم عَلى مَنْ شَكَرَكَ فَإنَّهُ لازَوالَ لِلنَّعماءِ إِذا شُكِرَتْ وَلا بَقاءَ لَها

إِذا كُفِرَتْ» «3».

3- فيبيّن هذا الحديث أنّ اللَّه تعالى وحده لا يزيد النعم فقط عند الشكر، بل وعلى الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 62

الإنسان أن يزيدها عند الشكر أيضاً.

3- وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:

«ثَلاثٌ لايَضُرُّ مَعَهُنَّ شَي ءٌ، الدُّعاءُ عِندَ الكَربِ، والاستِغفارُ عِندَ الذَّنْبِ، والشُّكْرُ عِندَ النِّعمَةِ» «1».

وأهمية الدعاء والاستغفار في الثقافة الإسلامية معلومة، ومع ما تقدم من الروايات أعلاه تتبيّن أهمية الشكر للإنسان وأنّ أمامه ثلاث حالات لا رابع لها، فإمّا أن يكون قد اصيب بمصيبة، أو وصلته نعمة، فهو خائف بسبب الحفاظ عليها، أو يزلّ ويصدر منه ما يغضب الربّ، ودواء كل واحد منها ذكر في الروايات، فالمشاكل تزول بالدعاء والذنوب بالاستغفار، وتثبيت النعم بالشكر، وجاء في هذا المجال حديث عن الإمام عليه السلام: «نِعمَةٌ لا تُشكَرُ كَسَيِّئةٍ لا تُغفَرُ» «2».

4- في حديث آخر عنه عليه السلام أيضاً، أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله كان في يوم من الأيّام راكباً ناقته وفجأة نزل وسجد خمس سجدات، وعندما قام وركب مركبه، قلت له: يا رسول اللَّه رأيت منك اليوم أمراً لم أره من قبل، فقال: «نِعَمٌ إستَقبَلَني جِبرئِيلُ فَبَشَّرنِي بِبشاراتٍ مِنْ اللَّهِ عَزَّوَجَلَّ فَسَجَدتُ للَّهِ شكُراً لِكُلِّ بُشرى «3».

ونستوحي من هذا الحديث أنّ القادة الإلهيين يؤدّون شكر كل نعمة على حدة مهما استطاعوا.

5- وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه أمر بشكر جامع وكامل فقال: «إِذا أَصبَحتَ وَأَمسَيتَ فَقُلْ عَشرَ مَرّات: اللَّهُمَّ ما أَصبَحتْ بِي مِنْ نِعمَةٍ أو عافِيةٍ مِنْ دِينٍ أو دُنيا فَمِنكَ وَحدَكَ لاشَرِيكَ لَكَ، لَكَ الحَمدُ وَلَكَ الشُّكرُ بِها عَلَيَّ ياربَّ حَتّى تَرضى وَبَعدَ الرّضا» «4».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 63

وبعدها قال

الإمام الصادق عليه السلام: إنّك إن فعلت ذلك فتكون قد أدّيت شكر النعم التي وافتك في ذلك اليوم.

6- عن أميرالمؤمنين عليه السلام في أحاديثه القصار والمليئة بالمعاني الجميلة، فيقول:

«شُكرُ النِّعمَةِ أَمانٌ مِنْ تَحلِيلِها وَكَفِيلٌ بِتأييدِها» «1».

7- وقال عليه السلام في حديث آخر: «شَرُّ النّاسِ مَنْ لايَشكُرُ النِّعمَةَ وَلا يرعى الحُرُمَةَ» «2».

والأحاديث في هذا المجال كثيرة جدّاً ولا يسعها هذا المختصر وما ذكر سابقاً هو نزر يسير منها.

الشكر في سيرة المعصومين عليهم السلام:

نحن نعلم أنّ احدى أشكال الحديث، هو فعل وتقرير المعصوم، وكما أنّ قوله يوضّح ويبيّن لنا معالم الدين ومعارفه، فكذلك بعمله وسكوته في المواقع والمواضع التربوية المختلفة، سيرسم لنا معالم الطريق الصحيح للأحكام والمعارف والأخلاق خصوصاً في مجال الشكر، والأمثلة عليه كثيرة:

1- قال الإمام الباقر عليه السلام: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله عِندَ عائِشة لَيلَتها فَقالَتْ: يا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ تَتعَب نَفسَكَ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ ما تَقَدمَ مِنْ ذَنبِكَ وَما تأَخرَ؟ فَقَالَ: يا عائِشة أَلا أَكُونَ عَبدَاً شَكُوراً؟» «3».

ومنه يتبيّن أن الدافع لعبادة الأولياء هو الشكر، ونقلت هذه الجملة كثيراً عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله في أحاديثه المختلفة، وهي «أَفلا أَكُنْ عَبدَاً شَكُوراً».

2- في حديث عن هشام بن الأحمر أنّه قال: «كُنتُ أَسِيرُ مَعَ أَبي الحَسن عليه السلام (الكاظم) فِي بَعضِ أَطرافِ المَدِينةِ إذ ثَنّى رِجلَهُ عَن دابَّتِهِ فَخَرَّ ساجِداً، فَأَطالَ وَطالَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 64

وَرَكَبَ دابَّتَهُ فَقُلتُ: جُعلتُ فداك قَد أَطلتَ السُّجُودَ؟ فَقالَ:

«إنّني ذَكَرتُ نِعمَةً أَنعَمَ اللَّهُ بِها عَلَيّ فأَحبَبتُ أَنْ أَشكُرَ رَبِّي» «1»

ويعلم من هذه الرواية أنّ الأئمّة عليهم السلام، كانوا ملتزمين بأداء الشكر لكل نعمة، وكانوا يوصون مريديهم ومحبّيهم بذلك أيضاً، حيث جاء

في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «إِذا ذَكَرَ أَحَدُكُم نِعمَةَ اللَّهِ عَزَّوجَلَّ فَليَضَع خَدَّهُ عَلى التُّرابِ شُكراً للَّهِ، فَإِنْ كانَ راكِباً فَليَنزِل فَليَضَعَ خَدَّهُ عَلَى التُّرابِ، وإِنْ لَم يَكُن يَقدَرُ عَلَى النُّزُولِ للشُّهرَةِ فَليَضَع خَدَّهُ عَلى قَربُوسِه، وإن لَم يَقدر فَليَضَع خَدَّهُ عَلى كَفِّهِ ثُمَّ لِيحمِدَ اللَّهَ عَلى ما أَنعَم عَليهِ» «2».

3- في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال لأحد أصحابه واسمه أبو بصير: «إِنَّ الرَّجُلَ مِنكُم لَيشرَبَ الشِّربَةَ مِنَ الماءِ فَيُوجِبُ اللَّهُ لَهُ بِها الجَنَّةَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ لَيأَخُذ الإِناءَ فَيَضَعهُ عَلى فِيهِ فَيُسمِّي ثُمَّ يَشرَبُ فَيُنَحِّيهِ وهُوَ يَشتَهيهِ، فَيَحمدُ اللَّهَ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَشرَب، ثُمَّ يُنَحِّيهِ فَيحمُدُ اللَّهَ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَشرَب، ثُمَّ يُنَحِّيهِ فَيَحمُدُ اللَّه، فَيُوجِبُ اللَّهُ عَزَّوَجَلَّ لَهُ بِها الجَنَّةَ» «3».

كيف يتمّ الشكر:

قلنا في تعريف الشكر أنّه التقدير وعرفان الحرمة سواء كان باللسان أم بالقلب، والكفر هو التحقير للنعمة، وتضييعها، وعدم الاعتناء بالمنعم لها.

وأهمّ قسم من مراحل الشكر، هو الشكر العملي، وكم يوجد أفراد يشكرون باللسان ولكنهم يخالفون عملًا، ويكفرون بأنعم اللَّه تعالى.

فالمسرفين والمبذّرين والبخلاء والمتفاخرين والطاغين كل اولئك من مصاديق الجاحدين للنعم الإلهية، ويمشون في طريق كفران النعم، بعكس اولئك الذين ينفقون أموالهم سرّاً وعلانية، ويتواضعون للَّه وللناس رغم سعة أموالهم وتراثهم، ولا يريدون تضييع ما آثرهم اللَّه تعالى به من فضله ويضعون الشي ء موضعه، أو كما قال اللَّه تعالى: «فِي أموالِهِم حَقٌّ مَعُلومٌ لِلسَّائِلِ وَالَمحرُومِ» اولئك المؤدّون شكر النعم حقّها في مقابل المعطي الحقيقي الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 65

لها، بل ويستحقون الزيادة، «وَلَئِن شَكَرتُم لأَزِيدَنَّكُم» وورد في الروايات الإسلامية اشارات لطيفة لمراحل الشكر الثلاثة.

نقرأ في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «مَنْ أَنعَمَ اللَّهُ عَلَيهِ

بِنِعمَةٍ فَعَرَفَها بِقَلبِهِ فَقَد أَدّى شُكرَها» «1».

ومن البديهي أنّ معرفة النعمة وأهميتها وقيمتها، يؤدّي إلى معرفة الواهب لها ويحثّ على تأدية شكرها بالعمل واللسان.

وورد في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّه قال لأحد أصحابه: «ما أَنعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبدٍ بِنِعمَةٍ صَغُرَتْ أَو كَبُرَتْ فَقَالَ الحَمدُ للَّهِ إلّاأَدّى شُكْرَها» «2».

ومن المؤكد أنّ القصد من القول الحمد للَّه، ليس هو لقلقة اللسان بل الحمد الحقيقي النابع من القلب والروح.

ولذلك فإننا نقرأ في حديث ثالث عنه عليه السلام، أنّ أحد أصحابه سأله: «هَلْ لِلشُّكرِ حَدٌّ إِذا فَعَلَهُ العَبدُ كَانَ شاكِراً؟ قَالَ: نَعم، قُلتُ: ما هُوَ؟

قَالَ: يَحَمدُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ نِعمَةٍ عَلَيهِ فِي أَهلٍ وَمالٍ وإِن كانَ فِيما أَنعَمَ عَلَيهِ فِي مالِهِ حَقٌّ أَداهُ، وَمِنهُ قَولُهُ عَزَّوَجَلَّ: «سُبحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هَذا وَما كُنّا لَهُ مُقرِنِينَ» ...» «3».

وكذلك في حديث آخر عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «شُكرُ العالِمِ عَلى عِلمِهِ، عَمَلُهُ بِهِ وَبَذْلُهُ لِمُستَحِقِّهِ» «4».

فهذه اشارات للشكر العملي في مقابل النعم الإلهية، وبالطبع إنّ العالم الذي لا يعمل بعلمه، أو يحجب علمه عن الآخرين، فهو عبد لا يؤدّي شكر النعم، ولسان حاله يقول: أنني لا أستحق هذه النعم العظيمة.

ويجب الإشارة إلى أنّ الشكر العملي يختلف باختلاف الأفراد ويتغيّر شكله من مكان الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 66

إلى مكان، وكما قال أميرالمؤمنين عليه السلام في حديثه القصير القيم، حيث أشار إلى أربع نماذج، فقال:

«شُكرُ إِلهكَ بِطُولِ الثَّناءِ، شُكرُ مَنْ فَوقَكَ بِصِدقِ الولاءِ، شُكرُ نَظِيرَكَ بِحُسنِ الإِخاءِ، شُكرُ مَنْ دُونَكَ بِسَببِ العَطاءِ» «1».

واحدى فروع الشكر العملي، وهو عندما ينتصر الإنسان على عدوّه، أو بعبارة اخرى العفو عند المقدرة على العدو ما لم يكن خطراً فعلياً، وليجعل العفو عنه

هو علامة لشكر اللَّه تعالى وانتصاره عليه، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: «إِذا قَدَرتَ عَلَى عَدوِّكَ فاجعَلِ العَفوَ عَنهُ شُكراً للقُدرَةِ عَلَيهِ» «2».

كما وتجدر الإشارة إلى أنّ أفضل طرق الشكر العملي للنعم، هو الانفاق منها في سبيل اللَّه تعالى، وقال علي عليه السلام في هذا المجال: «أحسَنُ شُكرِ النِّعَمِ الإنعامُ بِها» «3».

والطريقة الاخرى لشكر النعم العملي هي العبادة والدعاء، بل هو وحسب ما جاء في الروايات الإسلامية أفضل دافع للعبادة، والحال أنّ العبادة لأجل الحصول على الجنّة هي من عبادة التّجار والعبادة خوفاً من النار تعتبر من عبادة العبيد، فإذا كان الدافع للعبادة هو الشكر، فتلك هي عبادة الأحرار، وقال علي عليه السلام: «إِنّ قَوماً عَبَدُوهُ شُكراً فَتِلكَ عِبادَةُ الأَحرارِ» «4».

دوافع الشكر:

يمكننا تقوية روح الشكر ودوافعه، بطرق مختلفة متعددة، وأولها معرفة النعم،

نحن نعلم أنّ اللَّه تعالى قد أغرق الإنسان بنعمه ظاهرة وباطنة وفردية واجتماعية، ولحسن الحظ فإنّ تقدم العلوم من عجائب ونعم اللَّه المحيطة بنا، من عجائب صنع الكون الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 67

والعالم إلى عجائب خلقة الإنسان وكل واحدةٍ منها تعتبر نعمة عظيمة كبيرة تستحق الإجلال والوقوف عندها، فمثلًا الكل يعرف في وقتنا الحاضر جسم الإنسان وتركيبه وأنّه مكوّن من مليارات الخلايا الصغيرة، وهي بدورها لها هيكل وشكل معقد محير للعقول، وكل خليّة منها تعتبر نعمة تستحق الشكر، هذا بالنسبة للخلايا، وأمّا الدم فهو أيضاً يتكون من مكوّنات عديدة أحدها كريّات الدم البيض والتي القي على عاتقها مهمّة الدفاع عن الجسم في مقابل الميكروبات والأمراض المختلفة التي تهجم عليه نتيجة لتعامل الإنسان مع البيئة التي يعيش فيها، وإذا ما قيل قديماً أنّ كل نفَس يستنشقه الإنسان يتألف من نعمتين وكل نعمة تستحق الشكر،

اليوم وفي وقتنا الحاضر استحدثت آلاف بل ملايين النعم وكل واحدة منها تستحق الشكر فعلًا وحقاً.

وإذا قال القدماء بأنّ العوامل الأربعة من الشمس والأرض والمطر والرياح تلتقي مع بعضها لتولّد لك رغيف الخبز، فنحن اليوم وبسبب تقدّم العلوم نعلم جيداً أنّ العوامل التي تهب لنا رغيف الخبز لا تقتصر على هذه العوامل الأربعة بل هناك ألالاف من العوامل البيئية والبشرية تلتقي لتولّد لنا هذه النعمة والموهبة الإلهية.

وعليه فانّ دوافع المعرفة التي تتصل من خلال المعرفة تتسع يوماً بعد آخر وتأخذ أبعاداً جديدة ومتنوعة، وعلى هذا الأساس فإنّ استمرار حالة الشكر للنعم الإلهية يحصل ويتعمّق في وجود الإنسان من خلال التدبّر ودوام التفكّر في هذه النعم الإلهية في حركة الحياة والواقع.

الدافع الآخر للشكر هو أنّ الإنسان لابدّ أن ينظر في الموارد الدنيوية إلى ما دونه من الناس ليدرك عظيم نعمة اللَّه عليه وما حباه من كثير المنّة وما أعطاه من القابليات والقوى والإمكانات التي يفتقدها الآخرون لأسباب مختلفة، وفي ذلك نقرأ في الحديث الشريف الوارد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في كتابه لأحد أصحابه المعروفين (حارث الهمداني) يقول:

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 68

«وَأَكثِر أَنْ تَنظُرَ إِلى مَنْ فُضِّلتَ عَلَيهِ فَإنَّ ذَلِكَ مِنْ أَبوابِ الشُّكرِ» «1»

في حين أنّ الإنسان لو نظر إلى من فوقه من الأشخاص المثرين فإنّ ذلك سوف يتسبب له بتفعيل روح الطمع وعدم الشكر وبالتالي تتحرّك الوساوس الشيطانية في نفسه لتثير فيه حالة الابتعاد عن اللَّه تعالى ونسيان النعمة، ومن الدوافع المهمّة الاخرى مطالعة بركات وآثار شكر النعمة والمنعم وما يترتب عليه من زيادة النعمة ودوامها كما تقدم ذلك بالتفصيل في الأبحاث المتقدمة.

ومن أفضل الطرق لتفعيل حالة الشكر بين الناس تجاه أحدهم الآخر

أن يتحرك الناس باتجاه مكافأة المحسن وتقدير الأشخاص الذين يساهمون في حركة الخدمة والإحسان في المجتمع سواءً كان التشجيع والثناء كلامياً أو فعلياً ولذلك قال الإمام علي عليه السلام في عهده المعروف لمالك الأشتر: «ولا يَكُونَنَّ المُحسِنُ والمُسِى ءُ عِندَك بِمَنزِلَةٍ سواءِ فإنَّ فِي ذَلِكَ تَزهِيداً لأَهلِ الإِحسانِ فِي الإِحسانِ وَتَدرِيباً لأَهلِ الإِساءَةِ عَلَى الإِساءةِ» «2».

شكر الخالق وشكر المخلوق:

لا شكّ أنّ الشكر للنعمة كما هو خُلق جميل بالنسبة للَّه لشكر اللَّه تعالى فكذلك هو خُلق جميل ومطلوب من الإنسان تجاه المخلوق أيضاً، فالشخص الذي يؤدّي خدمة إلى الآخر ويتحرك في سبيل ايصال نعمة أو يتنازل عن خير من نفسه إلى الآخر فإنّ وظيفة الآخر الذي حصل على هذا الخير أن يشكر هذا الإنسان الذي تسبب في إيصال النعمة له رغم أنّه لا يريد ولا يتوقّع الشكر من الآخر، فقد ورد في الرواية المعروفة عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام قوله: «مَن لَم يَشْكُرِ المُنعِمَ مِنَ المَخلُوقِينَ لَم يَشكُرِ اللَّهَ عَزَّوَجَلَّ» «3».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 69

إنّ العبارة المعروفة: «مَنْ لَم يَشكُرِ المَخلُوقَ لَم يَشكُرِ الخالِقَ» رغم أنّها لم ترد في الروايات الإسلامية بهذا النص إلّاأنّ هذا المضمون والمفهوم قدورد في الروايات الشريفة عن المعصومين، ويمكن أن يكون لها معنيان وتفسيران:

الأول: أنّ ترك شكر المخلوق هو شاهد ودليل على روح العناد وكفران النعمة لدى هذا الشخص وبسبب ذلك فإنّه لا يعيش التقدير والاحترام للآخرين بل أحياناً تستولي عليه حالة انتظار الاحسان من الناس ويرى أنّهم مقصّرون في حقّه، ومثل هذا الإنسان سوف لا يعيش الشكر للخالق جلّ وعلا، ولا سيّما أنّ النعم والخيرات التي تصل إلى الإنسان عن طريق الآخرين تكون محدودة ولذلك يشعر بها الإنسان ويلمسها من

قريب لأنّها تقع بين الفينة والاخرى، أمّا المواهب الإلهية فكثيرة ولا متناهية وتحيط بوجود الإنسان تماماً ولذلك فإنّها لشدّة ظهورها تكاد تخفى على الإنسان الغارق في النعمة فلا يكاد يشعر بها.

والآخر: أنّ شكر المخلوق هو في الواقع شكر اللَّه تعالى، لأنّ شكر المخلوق ما هو إلّا واسطة للفيض وانتقال النعمة من اللَّه تعالى إلى الآخرين، وعليه فإنّ من لم يشكر المخلوق فهو في الواقع لم يشكر اللَّه تعالى.

وعلى كل حال فقد ورد التأكيد على هذا المعنى في الروايات الإسلامية وأنّ المسلم لابدّ أن يعيش الشكر للمخلوق الذي أوصل إليه النعمة، وللخالق الذي هو أصل النعمة بل وينبغي اعطاء الشاكر مزيداً من النعمة تشجيعاً لواقع الشكر كما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله، أنّه ورد في التوراة: «اشكُرْ مَنْ أَنعَمَ عَلَيكَ وَأَنعِمْ عَلَى مَنْ شَكَرَكَ» «1».

ونقرأ في المفاهيم القرآنية أنّ اللَّه تعالى يأمر بتقديم الشكر للمخلوقين إلى جانب شكره تعالى: «وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَىَّ الْمَصِيرُ» «2».

ولا شكّ أنّ الوالدين لا يختصّون بإيصال الخير للإنسان أو أنّهما أصحاب الحق فقط عليه (رغم أنّ حقهما عظيم) فإنّ كل من كان له حق معنوي أو مادّي على الإنسان فلابدّ من تقديم الشكر له.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 70

ونشاهد هذا المعنى في حالات وسيرة القادة الإلهيين حيث يشكرون الآخرين على أيّة خدمة مهما كانت ضئيلة ويجزلون العطاء على أقل نعمة تصل إليهم من الغير ومن ذلك ما ورد في قصة احدى جواري الإمام الحسين عليه السلام التي أهدت له وردة جميلة فما كان من الإمام عليه السلام إلّاأن أعتقها جزاء صنيعها هذا، وعندما سئل عن سبب ذلك

وأنّ هذا الجزاء الكبير لا يتلاءم مع تلك الخدمة الصغيرة من الجارية قال: «كذا أدّبنا اللَّه» «1».

وكذلك القصّة المعروفة الاخرى عن الثلاثة الكرام وهم الإمام الحسن عليه السلام والإمام الحسين عليه السلام وعبداللَّه بن جعفر الذين كانوا في قافلة فتأخروا يوماً عنها فلجأوا في الصحراء إلى خيمة عجوز منفردة فسقتهم الماء وأطعمتهم من لحم الشاة الوحيدة لديها فلّما انتهوا من الطعام وأرادوا الرحيل عنها قالوا لها: إذا وردت المدينة فأتي إلى دورنا لنجازيك على هذه الخدمة الكبيرة، ثم مضت أعوام من القحط الشديد في تلك الصحراء إلى درجة أنّ الأعراب وأهل الخيام في تلك الصحراء جاءوا إلى المدينة طلباً للطعام والغذاء، وفي أحد الأيّام وقعت عين الإمام الحسن عليه السلام على تلك العجوز في أزقّة المدينة تطلب لها طعاماً، فناداها الإمام وذكّرها بنفسه وأنّه قدم عليها مع أخيه وابن عمّه إلى خيمتها فاطعمتهم من ذلك الطعام ولكن العجوز لم تتذكر شيئاً ورغم ذلك فإنّ الإمام قال لها: إذا لم تذكري ذلك فأنا أذكره ثم إنّه وهب لها مالًا كثيراً وأغناماً كثيرة وبعثها إلى أخيه الإمام الحسين عليه السلام، فقام الإمام الحسين عليه السلام بمثل ما قام به أخيه الإمام الحسن عليه السلام من العطاء والكرم إلى هذه المرأة الكريمة، ثم أرسلها إلى عبداللَّه بن جعفر الذي صنع مثل ما صنع الحسن والحسين عليهما السلام حتى أنّ هذه المرأة (صارت من أغنى الناس) كما ورد في ذيل الحديث «2».

ونقرأ أيضاً قصّة (شيماء) بنت حليمة السعدية واُخت النبي الأكرم صلى الله عليه و آله من الرضاعة حيث حباها النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وتقدّم لها بفائق الاحترام والشكر جزاء للخدمة التي تقدّمت بها امّها حليمة

السعدية للنبي صلى الله عليه و آله في طفولته، فقد ذكر المؤرخون بأنّ طائفة كبيرة من قبيلة

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 71

بني سعد قبيلة حليمة السعدية وقعوا أسرى بيد المسلمين في حرب حنين، وعندما رأى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله شيماء بين الأسرى تذكّر خدماتها هي وامّها في أيّام طفولته، فنهض من مكانه إحتراماً لها وفرش عباءته على الأرض وأجلس شيماء عليها وأخذ يسألها بكل لطف ومحبّة عن أحوالها وقال: أنت صاحبة الفضل عليّ وكذلك امّك، في حين أنّه قد مرّ على ذلك ستون سنة تقريباً، وهناك طلبت شيماء من النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أن يطلق سراح أسرى قبيلتها فقال: أنا اوافق على هذا الطلب من سهمي، فعندما سمع المسلمون ذلك وهبوا حصّتهم كذلك من الأسرى لشيماء، وبالتالي تم تحرير جميع أسرى هذه القبيلة بسبب تلك المحبّة والخدمة التي عاشها النبي صلى الله عليه و آله في مرحلة الطفولة «1».

ومثال آخر على ذلك هو ما ورد في سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله من أنّه كانت هناك امرأة تدعى (ثويبة) التي نالت شرف ارضاع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قبل «حليمة السعدية» من لبن ولدها «مسروح»، فعندما هاجر النبي صلى الله عليه و آله ورزقه اللَّه المال كان يرسل لها بعض الثياب والهدايا إلى آخر حياتها حيث توفيت بعد واقعة «خيبر».

والعجيب أنّه جاء في بعض التواريخ أنّ هذه الامرأة «ثويبة» كانت أَمة «أبي لهب» وعندما بشرت أبا لهب بولادة رسول اللَّه أعتقها أبو لهب (ومعلوم أنّ أبا لهب في ذلك الزمان قام بهذا العمل بسبب رابطة القرابة بينه وبين رسول اللَّه صلى الله عليه و آله،

حيث فرح أبو لهب لمّا رزق أخوه عبداللَّه).

وعندما مات أبو لهب بعد سنوات من العداء والأذى لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله رآه أخوه العباس في عالم الرؤيا، فسأله عن حاله، فقال: أنا معذّب في النار، ولكن يخفّف عني العذاب في ليالي الأثنين بحيث أشرب الماء من بين أصابعي، لأنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ولد يوم الأثنين، وعندما بشرتني أمتي ثويبة بولادته وعلمت أنّها أرضعته لعدّة أيّام أعتقتها» «2».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 72

الغيبة، التنابز بالألقاب وحفظ الغيب

تنويه:

تقدّم في الجزء الأول من هذا الكتاب والذي يبحث عن الاصول العامة للقيم الأخلاقية بحث حول علاج آفات اللسان على أساس أنّها أول خطوات إصلاح الأخلاق وتهذيب النفس والسير والسلوك إلى اللَّه تعالى، وقد وعدنا هناك أن نفصّل الحديث عن هذه الحالة ونذكر جزئيات اخرى في البحوث اللاحقة، وأحد افرازات آفة اللسان هذه هي مسألة (الغيبة) التي هي من أخطر المفاسد الأخلاقية وأكثرها إتّساعاً وشيوعاً حيث تتسبب في هتك حُرمة الآخرين، وكشف أسرارهم، وإشاعة الفحشاء، وتمادي المذنبين والمجرمين في سلوكهم، وبالتالي تفضي إلى تزلزل إعتماد الناس وثقتهم بالبعض الآخر، ولا ريب أنّ لكثير من الناس عيوب ونقاط ضعف مستورة غالباً، فإذا اتّضحت هذه العيوب ونقاط الضعف فسوف تتزلزل الثقة العامة بين الناس وتنتشر المفاسد الأخلاقية العديدة التي ذكرناها آنفاً في الوسط الاجتماعي، ولذا نهى الإسلام عن ذلك بشدّة، وجاء في كتب علماء الأخلاق أنّ الغيبة من أسوأ آفات اللسان (رغم أنّ الغيبة لا تنحصر بذكر الطرف الآخر باللسان، بل قد تتحقق بالقلم أو الإشارة أو التعرض بشكل من الأشكال للآخر).

وبما أنّ السلوك إلى اللَّه تعالى لا يمكن أن يتحقق للإنسان ولا يرى المجتمع الإنساني الاخلاق فى القرآن، ج 3،

ص: 74

السعادة والصلاح بدون إزالة هذه الرذيلة الأخلاقية بين أفراد المجتمع فلذلك نجد أنّ النصوص الدينية قد اهتمت بهذا الأمر إهتماماً بالغاً.

إنّ تسمية الأشخاص الآخرين بأسماء وقحة وألقاب قبيحة في غيابهم يعتبر فرع من فروع الغيبة المحرّمة، رغم أنّه قد يذكر بعنوان مستقل، ولذلك ذكرناهما تحت عنوان واحد.

النقطة المقابلة للغيبة حفظ الغيب، أي أنّ الإنسان يذكر الآخرين من موقع المدح والثناء ويدافع عنهم في حال تعرضهم للغيبة لحفظ كرامتهم وسمعتهم بما ستأتي الإشارة إليه، وهذه احدى الفضائل الأخلاقية المهمّة وتتضمّن بركات كثيرة على مستوى الفرد والمجتمع.

على أية حال ونظراً لأهمية الموضوع، فقد تطرق القرآن الكريم في مواضع عديدة إلى هذه المسألة وأصدر أحكاماً مشددة عليها:

1- «وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ» «1».

2- «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ» «2».

3- «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» «3».

4- «لَايُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً» «4».

تفسير واستنتاج:

تنطلق «الآية الاولى» لتتحدث بصراحة عن ثلاث أشياء نهى القرآن الكريم عنها، الأول: سوء الظن، ثم التجسس، ثم الغيبة، ومعلوم أنّ سوء الظن يقود الإنسان إلى التجسس على أحوال الآخرين وكشف أسرارهم، وبما أنّ كل إنسان لا يخلو من نواقص ونقاط

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 75

ضعف، فسوف تنكشف من خلال التجسس، وبالتالي تكون موضوعاً للغيبة.

هذا وأنّ القرآن الكريم اهتمّ بمسألة الغيبة في هذه الآية أكثر من اهتمامه بمسألة سوء الظن والتجسس حيث تحرك في استجلاء مضمونها من موقع الاستدلال وقال:

«وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ».

هذا التشبيه يشكل في الواقع دليلًا منطقياً يبيّن جميع أبعاد المسألة، فالشخص

الغائب قد شبّه هنا بالميت، والرابطة معه هي رابطة الاخوة، وسمعته وشخصيته بمثابة جسده، وغيبته بمثابة أكل لحمه، وهو العمل الذي ينفر منه وجدان كل فرد مهما كان ضعيفاً، ولا يجد كل إنسان الاستعداد لارتكابه حتى في أشدّ الظروف وأقسى الحالات.

وهذا التشبيه يمكن أن يكون إشارة إلى نكات اخرى كثيرة: فمن جهة أنّ الشخص الغائب مثل الميت في عدم قدرته على الدفاع عن نفسه، والتهجم على من لا يقدر على الدفاع عن نفسه يعدّ من أسوأ الحالات الأخلاقية في الدناءة والحقارة.

ولا شك أيضاً أن تناول الميتة لا يتسبب في سلامة البدن والروح، بل يفضي إلى الابتلاء بأنواع الأمراض، وعليه فإنّ المستغيب إذا ما استطاع اطفاء نار حسده وحقده بواسطة الغيبة وبصورة مؤقتة، فسوف لا يمضي وقت طويل حتى تورق بذور المفاسد الأخلاقية التي زرعها في قلبه وتعمل على زيادة قلقه وتوتره النفسي.

وكما أنّ الحيوان أو الإنسان الآكل للميتة يتسبب في انتشار الأمراض والميكروبات في الوسط الذي يعيش فيه، فكذلك الشخص المستغيب يعمل على إشاعة الفحشاء والمنكر بين المسلمين بذكره عيوب وذنوب الآخرين المستورة.

عندما يذكر القرآن الكريم هذا المثال بتفاصيله الدقيقة فإنّه يروم إلى تثوير وجدان الإنسان وفطرته تجاه هذا الذنب الكبير، ولعل هذا هو السبب في حكاية الآية المثال المذكور بصيغة سؤال لكي يجد الإنسان الجواب بنفسه في أعماق وجدانه وبالتالي يكون تأثيره أكبر في واقع الإنسان وأحاسيسه حيث تقول الآية: «أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً؟».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 76

وضمناً فانّ الآية يمكن أن تكون إشارة إلى هذه الحقيقة، وهي أن موارد الاستثناء من حكم الغيبة وجوازها (من قبيل التظلم والمشورة وإصلاح ذات البين) هي في الواقع من قبيل المضطر لتناول الميتة

حيث ينبغي به أن يقنع بالحدّ الأقل منها.

ولكن قد يثار هذا السؤال، وهو أننا لا نرى في جميع انحاء العالم من يتناول لحم إنسان ميت (فكيف إذا كان أخاه)، فانّ شناعة هذا الفعل وقبحه ممّا لا يكاد يخفى على أحد، في حين أنّ ممارسة الغيبة تعدّ من الامور المتعارفة والمنتشرة في المجالس إلى درجة أنّها تعدّ أحد وسائل الترفيه والفكاهة، فكيف نفسّر هذا الاختلاف بين هذين الحالين؟

الظاهر أنّ هذا الأمر لا دليل له سوى تفشي الغيبة وكثرة تداولها بين الناس بحيث أدّى إلى التقليل من قبحها إلى هذه الدرجة.

وتتحرك «الآية الثانية» من موقع التهديد الشديد لمن يمارس الغيبة (السخرية والاستهزاء) في حق الآخرين وتقول بأنّ العذاب العظيم ينتظر هؤلاء الأشخاص الذين يسخرون من المؤمنين ويلمزونهم بألسنتهم أو حركات أيديهم أو يغمزونهم بأعينهم من موقع التهمة والخصومة: «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ».

كلمة «لمزة» من مادة لمز على وزن رمز وكلمة «همزة» بنفس الوزن كليهما من صيغ المبالغة، واختلفوا هل أنّهما بمعنى واحد، أو يختلفان في المعنى؟ هناك كلام بين المفسّرين، بعض يرى أنّهما بمعنى واحد، وبعض آخر يرى أنّ الهمزة بمعنى الغيبة واللمزة بمعنى التعيير، وذهب ثالث إلى عكس هذا المعنى، ورابع إلى أنّ الهمزة تقال لمن يعيب على الآخرين بالإشارة بينهما اللمزة تقال لمن يقوم بهذا العمل باللسان، وخامس يرى بأنّ الاولى هي تعيير الشخص بالعلن والثانية وبالخفاء وبعض يرى أنّ «الهُمزة» تقال لمن يعيب الشخص في حضوره بينما «اللمزة» تقال لمن يعيب شخصاً في غيابه.

ويذكر بعض المفسّرين أنّ مقولة «الهمز واللمز» عبارة عن صفتين رذيلتين مركبتين من حالات الجهل والغضب والتكبّر، لأنّهما تتسببان في إيذاء الآخرين وجرح عواطفهم الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 77

وشخصيتهم وكذلك

تتضمّنان نوع من حالة التفوّق وطلب العلو، وبما أنّ مثل هذا الإنسان لا يرى في نفسه فضيلة وصفة حسنة فإنّه يتحرّك لجبران هذا النقص من موقع ذكر عيوب الآخرين ونقائصهم ليحرز بذلك تفوّقه «1».

وقد ذكرت بعض التفاسير وطبقاً لحديث شريف أنّ هاتين الصفتين هما من صفات المنافقين «2»، والتعبير بكلمة (ويل) في بداية هذه الآية والتي وردت في سبع وعشرين مورداً في القرآن الكريم هي إشارة إلى اللعن والهلاك وأنواع العذاب لمن يرتكب مثل هذه الأفعال، وما يقال من أنّ هذه الكلمة إشارة إلى بئر أو وادي عميق في جهنّم ملتهب بالنيران هو في الواقع من قبيل تفسير الكلي بمصداقه.

وهذه الكلمة وكذلك كلمة (ويس) و (ويح) كلّها تأتي لبيان حالة التأسف التي تصيب الإنسان، غاية الأمر أنّ (الويل) تأتي في الموارد الشديدة القُبح و (ويس) تأتي في مقابل حالة التحقير، و (ويح) تأتي في مقام الترحّم «3».

ومع الالتفات إلى موارد استعمال كلمات (ويل) في القرآن الكريم يتّضح جيداً أنّ هذه المفردة تستخدم في الموارد التي يكون فيها العمل قبيحاً جدّاً، ومنه يتّضح كذلك أنّ الغيبة والتنابز بالألقاب يعتبر في دائرة المفاهيم القرآنية من أقبح الأعمال.

«الآية الثالثة» تتحدث عن الذين يشيعون الفحشاء بين الناس من موقع الذم لهم والتهديد الشديد بالعذاب الأليم لمرتكب هذه الرذيلة وتتضمّن كذلك ذم الغيبة لأنّ إشاعة الفحشاء تتمّ غالباً من خلال الغيبة أو التهمة فتقول: «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»

وبالطبع فإنّ شأن نزول هذه الآية إنّما هو في مورد التهمّة التي نسبهما المنافقون لبعض زوجات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، ولكن مسألة إشاعة الفحشاء بين الناس لها مفهوم عام

يستوعب الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 78

موارد كثيرة لا سيما الغيبة.

وفي الحقيقة إنّ الآية الاولى من الآيات المذكورة آنفاً تتحدث عن البعد الفردي لحق الناس بالنسبة إلى الغيبة ومن هذه الآية نستوحي الآفاق السلبية الاجتماعية لظاهرة الغيبة، لأنّه في كل مورد يقوم الناس بارتكاب الخطايا والذنوب في الخفاء ثم يفتضح أمرهم فإنّ الكثير من الأشخاص الذين يعيشون ضعف الإيمان واهتزاز القيم الأخلاقية في واقعهم سوف يجدون في أنفسهم ميلًا ورغبة لإرتكاب مثل هذه الذنوب.

«الفاحشة» من مادة فحش، وهي في الأصل تعني كل فعل خرج عن حدّ الاعتدال وأضحى فاحشاً، وعليه فإنّ هذه الكلمة تشمل جميع المنكرات والسلوكيات القبيحة في دائرة الأخلاق رغم ورود هذه الكلمة في القرآن الكريم في عدّة موارد وكذلك في المصطلح المتداول بين الناس بمعنى الانحراف الجنسي والتلّوث بأنواع المحرّمات للشهوة الجنسية، ولكن هذا لا يمنع من عمومية الفاحشة لموارد اخرى، وفي الحقيقة إنّ استعمالها في خصوص الانحرافات الجنسية هو من قبيل استعمال الكلي في مصداقه البارز، وعليه فإنّ اشاعة الفحشاء الوارد في هذه الآية لا ينحصر بالانحراف الجنسي، بل يرد في موارد اخرى تأتي غالباً عن طريق الغيبة.

وفي الآية 45 من سورة العنكبوت نقرأ عن الصلاة: «إنّ الصّلاةَ تَنهى عنِ الفَحشَاءِ والمُنكَرِ».

ولهذا السبب ورد في ذيل هذه الآية حديثاً شريفاً يقول: «مَنْ قالَ فِي مُؤمِنٍ ما رَأَتْهُ عَيناهُ وَسَمِعَتْهُ اذُناهُ فَهُوَ مِنْ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّوَجَلَّ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفاحِشَةُ فِي الِّذينَ آمَنُوا لَهُم عَذابٌ أَلَيمٌ»

والجدير بالذكر أنّ القرآن الكريم يذكر في الآية أعلاه أنّ جزاء مثل هؤلاء الأشخاص هو العذاب الأليم في الدنيا والآخرة، وهذا يوكّد أنّ الغيبة وإشاعة الفحشاء لها آثار مخربّة في حياة الإنسان على المستوى

الفردي والاجتماعي.

وآخر ما يقال في تفسير الآية محلّ البحث أنّ القرآن الكريم ولغرض التأكيد على هذه الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 79

المسألة المهمّة لم يقل إنّ الذين يشيعون الفحشاء لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة بل قال:

« «إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»

وفي «الآية الرابعة» والأخيرة من الآيات محلّ البحث نقرأ إستثناءاً لحرمة الغيبة، وهو ما إذا كانت الغيبة صادرة من مظلوم يريد أن يأخذ بحقّه من الظالم ومن ذلك يتّضح جيداً أنّ الغيبة لا تجوز بدون مبّرر ومسوّغ فتقول الآية: «لَايُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً».

والمراد بالجهر من القول هو أي نحوٍ من الإظهار اللفظي سواءاً كان بصورة شكوى أو حكاية أو غيبة أو لعن وذم وأمثال ذلك، وعليه فإنّ من وقع مظلوماً يحقّ له ولغرض الدفاع عن نفسه أن يفضح هؤلاء الظالمين ويذكر أعمالهم العدوانية للآخرين.

ومن أجل، أن لا يسي ء الناس الاستفادة من هذا الاستثناء ويتحرّكون من موقع الغيبة والوقيعة بالآخرين بحجّة أنّهم مظلومون فإنّ الآية الكريمة تعقّب في آخرها بقوله تعالى:

«وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً»، فهو مطلّع على نيّات الأشخاص وأفكارهم ودوافعهم في أعمالهم هذه.

وممّا تقدّم من الآيات الكريمة نستوحي قبح وشناعة الغيبة وبالتالي فإنّ عواقبها الدنيوية والاخروية ستكون أليمة للغاية.

الغيبة في الروايات الإسلامية:

وقد ورد في المصادر الروائية وكتب الأخلاق روايات كثيرة في ذم الغيبة، حيث تقرّر هذه الروايات في مضامينها حقيقة مذهلة حول الآثار الوخيمة للغيبة وعقوبتها الأليمة إلى درجة أنّه قلّما نجد بين الذنوب والمحرّمات ما ورد في حقّه مثل هذه الكلمات والتعبيرات، ونحن نختار منها عشر روايات:

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 80

1- نقرأ في حديث شريف

أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله خطب يوماً في المسلمين ونادى بصوتٍ رفيع بحيث سمعته النساء في بيوتهنّ وقال: «يا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسانِهِ وَلَم يُؤمِنْ بِقَلبِهِ لا تَغتابُوا المُسلِمِينَ وِلا تَتَبِّعُوا عَوراتَهُم فَإِنَّ مَنْ تَتَبَّعَ عَورةَ أَخِيهِ يَتَتَبَّعُ اللَّهُ عَورَتَهُ حِتّى يَفْضَحَهُ فِي جَوفِ بَيتِهِ» «1».

2- وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه و آله أيضاً أنّه خطب يوماً بالمسلمين وتحدّث عن ذم الربا حتى أنّه ذكر أنّ الدرهم من الربا أشدّ من ستة وثلاثين زنية ثم قال: «إنّ أَربا الرِّبا عِرضُ الرَّجُلِ المُسلِمِ» «2».

هذا التعبير الذي يقرّر أهميّة ووخامة الغيبة بالنسبة إلى الزنا حيث ورد في روايات متعددة وفي بعضها ذكر السبب في ذلك وهو: «أمّا صاحب الزنا فيتوب فيتوب اللَّه عليه، وأمّا صاحب الغيبة فلا يتوب اللَّه عليه حتى يكون صاحبه الذي يحلّه» «3».

3- في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام يقول: «الغَيبَةُ حَرامٌ عَلى كُلِّ مُسلِمٍ وَأَنَّها لَتأكُلُ الحَسناتِ كَما تأكلُ النّارَ الحَطَبَ» «4».

وهذه الخصوصية تترتب على الغيبة وكما سيأتي في البحوث اللآحقة بسبب أنّ الغيبة تتعرّض لحقّ الناس وبالتالي فإنّ حسنات المغتاب سوف تنتقل إلى صحيفة أعمال الشخص الآخر الذي وقع مورد الغيبة لجبران الخسارة والضرر الذي تحمّله من هذه الغيبة.

4- وجاء في حديث قدسي أنّ اللَّه تعالى خاطب نبيّه موسى عليه السلام وقال: «مَن ماتَ تائِباً مِنَ الغَيبَةِ فَهُوَ آخِرُ مَنْ يَدخُلِ الجَنَّةَ ومَن ماتَ مُصِرّاً عَلَيه، فَهُوَ أَوّلُ مَنْ يَدخُلُ النَّارَ» «5».

وفي حديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله نجد تعبيراً مذهلًا عن مخاطرة الغيبة حيث قال:

«مَن مَشى فِي غَيبَةِ أَخِيهِ وَكَشفِ عَورَتِهِ كانَ أَوَّلَ خُطوَةٍ خَطاها وَضَعَها فِي جَهَنّمَ» «6».

الاخلاق فى

القرآن، ج 3، ص: 81

6- وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه و آله أيضاً أنّه قال: «ما عُمّرَ مَجلِسٌ بِالغَيبَةِ إلّاخُرِّبَ بِالدِّينِ فَنَزِّهُوا أَسمَاعَكُم مِنْ اسْتِماعِ الغَيبَةِ فَإِنَّ القائِلَ وَالمُستَمِعَ لَها شَريكَانِ فِي الإثْمِ» «1».

7- وفي حديث آخر أيضاً عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يتحدّث فيه عن الأضرار المعنوية الكبيرة للغيبة ويقول: «مَن إِغتابَ مُسلِماً أَو مُسلِمَةً لَنْ يَقْبَلَ اللَّهُ صَلاتَهُ وَلا صِيامَهُ أَربَعِينَ لَيلَةً إلّا أَنْ يَغْفِرَ لَهُ صاحِبُهُ» «2».

8- ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام: «مَن رَوى عَلى مُؤمُنٍ رَوايَةً يُريدُ بِها شَينَهُ وَهَدْمَ مُرُوَّتِهِ لِيَسْقُطَ مِنْ أَعيُنِ النّاسِ، وَأَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنْ وِلايَتِهِ إِلى وِلايَةِ الشَّيطانِ فَلا يَقْبَلُهُ الشَّيطانُ» «3».

ومن الواضح أنّ المصداق البارز للرواية أعلاه هوالشخص المغتاب الذي يهدف من الغيبة إظهار عيوب المؤمنين المستورة ويعمل على هدم شخصيتهم الاجتماعية واسقاطهم بين الناس، فعذاب مثل هؤلاء الأشخاص عظيم إلى درجة أنّ الشيطان نفسه يستوحش من قبول ولاية هؤلاء ويتبرأ من رفقته وصحبته.

9- وفي الحديث الوارد في مناهي النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «نَهى عَنِ الغَيبَة وَقالَ مَنْ إِغتابَ امرءً مُسلِماً بَطَلَ صَومُهُ وَنَقَضَ وَضُوءُهُ، وَجاءَ يَومَ القيامَةِ يَفُوهُ مِنْ فِيهِ رائِحَةٌ أَنتنَ مِنَ الجِيفَةِ يَتَأَذَّى بِهِ أَهلَ المَوقِفِ» «4».

10- ونختم هذا البحث بحديث عن أميرالمؤمنين عليه السلام رغم وجود روايات كثيرة اخرى في هذا المجال ولكننا نكتفي بهذا المقدار الممكن من بيان عواقب الغيبة وآثارها الوخيمة الدنيوية والاخروية حيث يقول: «إِيّاكَ والغَيبَةِ فَإنّها تُمقِتُكَ إلى اللَّهِ والنّاسِ وَتَحبِطُ أَجرَكَ» «5».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 82

ومن المعلوم أنّ حديثاً واحداً من هذه الأحاديث يكفي للأحاطة بأهميّة هذه المعصية وخطرها على واقع الإنسان وحياته

المعنوية فكيف لو ضممنا وجمعنا هذه الأحاديث بعضها إلى البعض الآخر؟

ولا شكّ أنّه مضافاً إلى القرآن الكريم وتواتر الروايات الإسلامية وإجماع المسلمين على حرمة الغيبة، فإنّ العقل أيضاً يقرّر قبح هذه الخطيئة ويذمّها باعتبارها أنّها من المصاديق البارزة للظلم والعدوان الذي هو من المستقلات العقلية، وعليه فإنّ حرمة الغيبة تقوم عليه جميع الأدلة الأربعة الفقهية.

وبقيت هنا مسائل مهمّة لابدّ من استعراضها وبحثها:

تعريف الغيبة:

ورد تعريف الغيبة لأرباب اللغة والفقهاء وعلماء الأخلاق تعاريف وتفاسير مختلفة تعود في حقيقتها إلى معنى واحد رغم اختلافها على مستوى التعميم والتخصيص وغير ذلك.

يقول في صحاح اللغة أنّ الغيبة هي أن يذكر الإنسان عيب الآخر وعمله في حال عدم حضوره بحيث لو سمعه ذلك الشخص لتألم وتأثر.

ويقول في المصباح المنير: أنّ الغيبة هي كشف العيوب المستورة للآخرين بحيث يتألمون منها وذلك غيبتهم.

وينقل الشيخ الأنصاري قدس سره عن بعض كبار العلماء أنّ الإجماع والأحاديث الشريفة تدلّ على أنّ الغيبة في حقيقتها هي (ذكر أخاك بما يكره) في غيبته «1».

وهذا المضمون ورد أيضاً في حديث نبوي شريف، وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام في تعريف الغيبة يقول: «الغَيبَةُ أَنْ تَقُولَ فِي أَخِيكَ ما قَد سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيهِ ...» «2».

ويستفاد ممّا ذكر آنفاً أنّ للغيبة عدّة أركان، أوّلها أن يكون الكلام في حال غيبة الشخص الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 83

المذكور، فلو قيل هذا الكلام في حضوره فإنّه يكتسب عنواناً آخر (كعنوان الايذاء أو التهتك وأمثال ذلك) والآخر أن يكون الكلام من قبيل ذكر عيوب الشخص المستورة والخفيّة فلو كانت من العيوب البارزة والظاهرة لم تكن من الغيبة رغم أنّها قد تكون محرّمة بعناوين اخرى، والثالث أن يكون الكلام بحيث إذا سمعه الشخص

المذكور بالغيبة فسوف يتألم ويتأثر، ولكن الظاهر أنّ هذا القيد قيد توضيحي فحسب، لأنّ إظهار العيوب المستورة للآخرين وخاصة في غيبتهم تورث التألم والأذى، وقد يكون هناك بعض الأراذل الذين لا يمتعضون بذكر معايبهم ونشر فضائحهم بين الناس ولكن مثل هؤلاء الأشخاص قلّة نادرة.

وممّا تقدمّ آنفاً تتضح لنا هذه الحقيقة جيداً، وهي أنّه عندما يقال لبعض العوام من الناس: لماذا ترتكب غيبة الشخص الفلاني وتذمّه وراء ظهره؟ يقول: إنني أتحدث بهذا الكلام أمامه أيضاً وفي حضوره، فهذا من قبيل العذر أقبح من الذنب، لأنّ التحدّث بذلك أمامه وفي حضوره لا يجوّز غيبته أبداً، فذلك أيضاً ذنب كبير بدوره لأنّه يدخل تحت عنوان أذى المؤمن وكذلك هتك حرمته بين الناس وهدم شخصيته في المجتمع.

ونقرأ في حديث شريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه ذكر بين يديه رجل فقال بعض الحاضرين: أنّه رجل عاجز وضعيف فقال: رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: لقد اغتبتموه، فقالوا: يا رسول اللَّه لقد ذكرنا صفته فقال: «إِنْ قُلتُم ما لَيسَ فِيهِ فَقَد بَهَتّموه» «1».

والعذر الآخر الذي يذكره بعض الجهّال كمسوّغ للغيبة ويتذرّعون به أمام من ينهاهم عن الغيبة يقولون: إنّما نقوله هو حق وليس بكذب، فالشخص الفلاني لديه هذا العيب، وهذه الذريعة لا تقل قبحاً عن سابقتها لأنّه لو لم يكن هذا العيب في الطرف الآخر لدخل تحت عنوان التهمة لا الغيبة، فالغيبة كما ذكرنا هي ذكر العيوب الخفيّة للآخرين في غيبتهم.

ولابدّ من الإشارة أيضاً إلى أنّه يستفاد من بعض كلمات الأعاظم وعلماء الأخلاق أنّ الغيبة لا تقع بالنسبة إلى جميع المؤمنين، بل تقع في مورد الأشخاص الذين تابوا من ذنوبهم وندموا على خطيئتهم وعادوا إلى جادة

الصواب، وأمّا الفاسق والمذنب والمتجاهر بالإثم،

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 84

فإنّ غيبته مباحة حتى لو كان ذنبه مستوراً ويتمسّكون في هذا بالرواية الواردة عن الإمام الصادق عليه السلام حيث أنّه قال: «مَنْ عامَلَ النّاسَ فَلَم يَظلِمهُم، وَحَدَّثَهُم فَلَم يَكذِبْهُم، وَوَعَدَهُم فَلَم يُخْلِفْهُم كَانَ مِمَّنْ حُرِّمَ غَيبَتُهُ وَكَمُلَتْ مُرُوَّتُهُ وَظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ وَوَجَبَتْ إخُوتُهُ» «1».

وبهذا فإنّ الغيبة تكون محرّمة إذا كانت بالنسبة إلى الشخص العادل بينما الشخص الفاسق فيجوز غيبته حتى لو كان يمارس الذنب في الخفاء.

العلّامة المجلسي قدس سره يميل إلى هذا الرأي أيضاً في الجزء 72 من بحار الانوار باب كتاب العشرة رغم أنّه عدل عن هذا الرأي في ذيل كلامه أيضاً «2».

ولكن من المسلّم أنّ هذه الرؤية تسبب في أن يكون أكثر الناس تجوز غيبتهم وهذا على خلاف اطلاق الآية القرآنية والروايات العديدة في مجال حرمة الغيبة.

ومضافاً إلى الروايات الكثيرة التي تقرّر أنّ عدّة طوائف من الناس تجوز غيبتهم أو لا غيبة عليهم ومنهم الفاسق المتجاهر بالفسق ومن جملة ذلك ما ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «أَربَعَةٌ لَيسَتْ غَيبَتُهُم غَيبَةٌ، الفاسِقُ المُعلِنِ بِفِسقِه، ....» «3».

ونفس هذا المضمون ورد في رواية اخرى عن الإمام الباقر عليه السلام أيضاً.

ويقول الإمام الصادق عليه السلام في هذا الصدد: «إذا جاهَرَ الفاسِقُ بِفِسقِهِ فَلا حُرمَةَ لَهُ عَلى غَيبَةٍ» «4».

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام أنّه قال: «مَن أَلقى جِلبَابَ الحَياءِ فَلا غَيبَةَ لَهُ» «5»

، وهناك أحاديث متعددة اخرى صريحة في هذا المعنى، وبمقتضى مفهوم الوصف لهذه الأحاديث، بل مفهوم الشرط حيث يكون الكلام في مقام الاحتراز ونفي الغير يتّضح جيداً أنّه إذا إرتكب الشخص

الذنب في الخفاء فلا يجوز غيبته، وكما سوف يرد

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 85

في بحث إستثناءات الغيبة أنّ الشخص المتجاهر بالفسق تجوز غيبته في خصوص الذنب الذي تجاهر به لا بالنسبة إلى جميع أفعاله الاخرى.

ومضافاً إلى أنّ حرمة الغيبة ثابتة بدليل العقل أيضاً لأنّها نوع من الظلم والعدوان على الآخرين وإفشاء أسرارهم وإسقاط شخصيتهم بين الناس، ولا شكّ أنّه لا فرق بين الفاسق والعادل في هذا المجال إلّاأن تكون الغيبة في موارد النهي عن المنكر أو دفع الخطر أو الضرر عن المجتمع الإسلامي وحينئذٍ لا فرق أيضاً بين الفاسق والعادل.

وسيأتي في بحث إستثناءات الغيبة تفصيل أكثر حول هذا الموضوع.

أقسام الغيبة:

أحياناً يتصوّر أنّ الغيبة تقع باللسان فحسب، في حين أنّ حقيقة الغيبة كما إتّضح آنفاً هي اظهار العيوب المستورة للشخص الآخر بحيث إذا سمع بذلك تألّم وتأثر منها، وهذا العمل يمكن أن يحصل بواسطة اللسان أو بواسطة القلم أو حتى بالإشارة باليد والعين والحاجب، وأحياناً تتخذ الغيبة صبغة المزاح واخرى صبغة الجد، وكم من الذنوب والآثام التي يرتكبها البعض في لباس المزاح والسخرية حيث تكون أخطر من الذنوب التي تلبس لباس الجد، لأنّ الإنسان يتحرّك بحرية أكثر في حالة المزاح بخلاف حالة الجد، حيث لا يكون قادراً على بيان المطلب المراد بصورة وافية فيذكره بصبغة المزاح والإثاره للتفكّه والضحك.

مضافاً إلى أنّ الغيبة تارةً تقع بتعبيرات صريحة (وبالاصطلاح المنطقي بالدلالة المطابقية والتضمنية) واخرى بالدلالة الالتزامية والتعبيرات الكنائية التي قد تكون أبلغ من التصريح، مثلًا عندما يتحدّث الشخص عن أحد المؤمنين يقول: سامحه اللَّه لنسكت عن هذا فإنّ الشرع المقدس قد أغلق أفواهنا، وبهذه الكلمات يريد أن يفهم الآخرين على أنّ ذلك الشخص قد إرتكب أفعالًا قبيحة وعظيمة،

وقد يكون التصريح بها لا يثير المستمع كما هو الحال في الكناية، ولكن بما أنّ مثل هذا الكلام يثير تصوّرات مجملة عن الموضوع فإنّ الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 86

ذهن المستمع قد يتصوّر ذنوباً متنوعة وكثيرة يكون الشخص المذكور بريئاً منها.

أو يقول: إنّ الشخص الفلاني له صفات جميلة وأفعال حسنة ولكن ... ويسكت عن إكمال الحديث.

وأحياناً اخرى يتحرّك المتكلّم من موقع النصيحة والتحرق القلبي ويقول: سامح اللَّه فلان وجعل عاقبته إلى خير، أو يقول: أنا خائف من عاقبة أمره، فهو في الحقيقة يعرض الذنب بلباس الطاعة والشر بثياب الخير، وكما يقول بعض العلماء أنّه بذلك يكون قد ارتكب إثماً مضاعفاً، فيكون قد اغتاب من جهة وارتكب الرياء من جهة اخرى، فمن جهة قد إغتاب الشخص الآخر بتلميحه لمعايب كثيرة ونسبتها إلى الطرف الآخر، وتحرّك من موقع الرياء حيث تظاهر بأنّه ليس من أهل الغيبة، بل من أهل التقوى والطاعة لأوامر اللَّه تعالى.

دوافع الغيبة:

إنّ للغيبة عوامل كثيرة ودوافع متعددة يكاد كل واحد منها يكون سبباً كافياً لإرتكاب الغيبة، ومن ذلك:

1- الحسد.

2- الأنانية والعجب ورؤية الذات.

3- الغرور والكبّر.

4- الحرص.

5- الحقد.

6- حبّ الجاه.

7- حبّ الدنيا والثروة والمقام.

8- الرياء.

9- تزكية النفس واظهار الطهارة والتقوى.

10- طلب الترفيه عن النفس بأمور غير مشروعة.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 87

11- سوء الظن.

12- حبّ الانتقام.

13- التشفي وإطفاء سورة الغضب.

14- السخرية والاستهزاء، وغير ذلك من أمثال هذه الدوافع النفسية.

والقدر المشترك بين هذه الامور هو أنّ الإنسان يسعى لتسقيط الشخص الآخر وكسر شخصيته وموقعيته الاجتماعية ليضحى في أنظار الناس ذليلًا ولا قيمة له، ومن هذا الطريق يجبر نقصه ويهدأ غضبه ويشيع حالة الانتقام من الطرف الآخر، أو يتحرك لحرمانه من المقام والثروة أو لاظهار الزهد والقداسة

الزائفة أو يتحرك من موقع إثارة الضحك والسخرية أو يرى لنفسه امتيازاً ومقاماً على الآخرين.

ومن هنا يتّضح أولًا: أنّ الغيبة مفهوم واسع الأطراف ولها عوامل متنوعة وكثيرة، ففي الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «أَصلُ الغَيبَةِ تَتَنوَّعُ بِعَشرَةِ أَنواعِ، شِفاءِ غَيظٍ وَمُساعَدَةِ قَومٍ وَتُهمَةٍ، وَتَصدِيقِ خَبَرٍ بِلا كَشفِهِ، وَسُوءِ ظَنٍّ وَحَسَدٍ وَسُخرِيَّةٍ وَتَعَجُّبٍ وَتَبَرُّمٍ وَتَزَيُّنٍ، فَان أَرَدتَ السَّلامَةَ فَاذكُرِ الخالِقَ لاالمَخلُوقَ فَيَصِيرُ ذلِكَ مَكانَ الغَيبَةِ عِبرَةً وَمَكانَ الإِثمِ ثَواباً» «1».

ومن الواضح أنّ الإمام هنا في صدد بيان قسماً من العوامل المهمّة للغيبة لأنّه كما تقدّم أنّ دوافع الغيبة متعددة وكثيرة غير ما ذكر في الحديث الشريف.

العواقب السلبية للغيبة:

للغيبة آثار سلبية ونتائج مخربّة كثيرة على الفرد والمجتمع البشري فلو تساهل الناس معها لأزداد الحال خطورة، ومضافاً إلى ذلك العواقب الوخيمة المعنوية والعقوبات الإلهية المتربتة على هذه المعصية كما سبقت الإشارة إليها في الروايات الشريفة.

وبالنسبة إلى المورد الأول يمكن الإشارة إلى مايلي:

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 88

1- إنّ الغيبة تقوم بأتلاف أهم رأسمال للمجتمع البشري، والذي يتمثل بتبادل الثقة والاعتماد بين الأفراد، لأنّ أغلب الأشخاص لديهم نقاط ضعف يسعون لكتمانها وسترها ليحفظوا ثقة الناس واعتمادهم، وقبح هذه النواقص ونقاط الضعف من شأنه أن يقطع أواصر الاعتماد والثقة بين الناس.

ومن المعلوم أنّ الأساس في ظاهرة التعاون الاجتماعي والتفاعل الإيجابي والعاطفي بين الناس يتمثل في الاعتماد المتقابل بين أفراد المجتمع وبدون ذلك يتبدل المجتمع إلى جحيم لا يطاق من كثرة المشاكل الاجتماعية.

2- إنّ الغيبة تتسبب في سوء الظن بين الأفراد، لأنّ العيوب المستورة للأشخاص عندما تنكشف للناس فتتسبب في زوال حسن الظن لدى الإنسان بالنسبة لجميع الأسوياء والصالحين أيضاً حيث يقول: إنّ هؤلاء قد يمارسون مثل هذه

الأعمال الشنيعة في الخفاء ويتظاهرون بالصلاح والخير فلا نعلم من حقيقة حالهم.

3- إنّ الغيبة هي أحد أسباب إشاعة الفحشاء والمنكر، لأنّ الذنوب المستورة إذا ظهرت بسبب الغيبة فإنّ ذلك سيؤدي إلى تشجيع الآخرين على إرتكابها، وأساساً فإنّ إظهار الذنوب والكشف عنها من شأنه أن يزيل حالة الخشية منها فيستصغرها الناس ويكون ذلك عذراً للفسّاق في تبرير ذنوبهم وممارساتهم الخاطئة وأنّه إذا قمنا بارتكاب هذا الذنب فإنّ غيرنا ومن هو أفضل منّا وأعلم قد إرتكبه قبلنا.

ونقرأ في حديث شريف عن الإمام الصادق أنّه قال: «مَنْ قالَ فِي مُؤمِنٍ ما رَأَتْهُ عَيناهُ وَسَمِعَتْهُ اذُناهُ فَهوَ مِنَ الَّذِينَ قالَ اللَّهُ عَزَّوَجَلَّ: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُم عَذابٌ أَلِيمٌ» «1».

4- إنّ الغيبة من شأنها أن تبعث الجرأة في نفوس المذنبين على ارتكاب الذنوب وكسر حاجز الحياء، لأنّ أعمال الإنسان مادامت مستورة فإنّ الحياء يمنعه من إرتكاب الأشنع منها والتجاهر بها خوفاً من الفضيحة والخزي أمام الآخرين، فلو أنّه إفتضح أمره، فحينئذٍ

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 89

يزول مانع الحياء من نفسه ويتجرّأ أكثر على ارتكاب الذنب.

5- إنّ الغيبة تورث الحقد والعداوة والبغضاء بين الناس لأنّ أهم رأسمال للإنسان في المجتمع هو حيثيته وشخصيّته الاجتماعية، والغيبة بإمكانها أن تذيب وتحرق رأس المال هذا فلا يبقى للإنسان شيئاً يعتدّ به في حركة الحياة الاجتماعية، ولذا تسبب الغيبة العداوة الشديدة والحقد العميق في قلب الشخص المستغاب (فيما لو سمع بذلك).

6- إنّ الغيبة من شأنها أن تسقط المستغيب في أنظار الآخرين، لأنّهم سوف يتصوّرون أن هذا الشخص الذي يتحدّث لهم عن عيوب الآخرين سوف يتحدّث عن عيوبهم أيضاً للآخرين ويغتابهم، ولذلك ورد في الرواية عن أمير المؤمنين أنّه قال:

«مَنْ نَقَلَ إِلَيكَ نَقَلَ عَنكَ» «1».

وفي حديث آخر نقرأ: «لا مُرُوَّةَ لِمُغتابٍ» «2».

7- إنّ الغيبة من شأنها أن تكون عذراً لتبرير خطايا وذنوب الشخص المستغيب، فمن أجل أن يكون في أمان من اعتراض الناس وهجومهم، فإنّه يتحرّك لممارسة هذا الذنب ويستغيب الآخرين لدفع التهمة عن نفسه.

(وأمّا الآثار المعنوية السلبية) للغيبة فأكثر من أن تحصى في هذا البيان، ولكن نشير إلى بعض ما ورد في الروايات الإسلامية عن ذلك:

1- تقدّم في الروايات السالفة أنّ الغيبة تمحق الحسنات وتبطل الأعمال الخيّرة كما تحرق النار الحطب، ويقول العالم الكبير الشيخ البهائي قدس سره في أحد كتبه: إنّ الغيبة كالصاعقة التي تحوّل الحسنات إلى رماد في لمح البصر ثم يقول: إن الشخص الذي يرتكب الغيبة هو كمن نصب منجنيقاً واستهدف به حسناته لتحطيمها وتدميرها «3».

2- إنّ الغيبة تعمل على تدمير إيمان الإنسان ودينه وتشويه قلبه كما يصنع مرض الجدري بجلد الإنسان.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 90

3- إنّ المرتكب للغيبة في حالة العفو عنه سيكون آخر شخص يدخل الجنّة، وفي حالة عدم العفو عنه سيكون أول من يدخل النار.

4- إنّ الغيبة تتسبب في فضيحة الإنسان، فقد ورد في الحديث النبوي الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «يا مَعْشَرَ مَن آمَنَ بِلِسانِهِ وَلَم يُؤمِنْ بِقَلبِهِ لاتَغتَابُوا المُسلِمِينَ وَلا تَتَبَّعُوا عَوراتِهم فَإنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَورَةَ أَخِيهِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَورَتَهُ وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَورَتَهُ يَفضَحُهُ فِي جَوفِ بَيتِهِ» «1».

5- إنّ الغيبة تؤدّي إلى انتقال حسنات الشخص المغتاب إلى كتاب أعمال الطرف الآخر، وكذلك تؤدّي إلى انتقال سيئات الطرف الآخر المستغاب إلى كتاب أعمال المستغيب فنقرأ في رواية عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «يُؤتى

بِأَحَدٍ يَومَ القِيامَةِ يُوقَفُ بَينَ يَدَي اللَّهُ يُدفَعُ إِلَيهِ كِتابُهُ فَلا يَرى حَسَناتَهُ فَيَقُولُ إِلهي لَيسَ هذا كِتابِي فَإِنِّي لاأرى فِيها طاعَتِي فَقالَ إِنَّ رَبَّكَ لايُضِلُّ ولا يَنسى ذَهَبَ عَمَلُكَ بِاغتِيابِ النّاسِ ثُمَّ يُؤتى بِآخَرَ وَيُدفَعُ إِلَيهِ كِتابُهُ فَيَرى فِيها طاعاتٍ كَثِيرَةٍ، فَيَقُولُ إِلَهي ما هذا كِتابِي فَإنِّي ما عَمِلتُ هذِهِ الطاعاتِ، فَيَقُولُ: إِنَّ فُلاناً إِغتَابَكَ فَدُفِعَتْ حَسَناتُهُ إِلَيك» «2».

ومن هذا المنطلق نقل عن بعض الشخصيات المعروفة السالفة أنّه أرسل إلى شخص إستغابه طبقاً من التمركهدية له وقال: إنّك قد أرسلت إليّ حسناتك وأهديتها لي فأردت جبران صنيعك هذا بهذه الهدية.

ونقل عن شخص آخر أنه كان يقول: أَنّني إذا أردت أن أستغيب أحد الأشخاص فإنّ امّي هي الأولى بذلك لأنّها أولى بحسناتي من الآخرين.

6- إنّ الغيبة تتسبب في أن لا تقبل صلاة المغتاب وصومه لمدّة أربعين يوماً كما ورد هذا المعنى في الحديث النبوي الشريف قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «مَنْ إِغتابَ مُسلِماً أو مُسلِمَةً لَم يَقبَل اللَّهُ تَعالى صَلاتَهُ ولا صِيامَهُ أَربَعِينَ يَوماً وَلَيلَةً إلّاأَنْ يَغْفِرَ لَهُ صاحِبُهُ» «3».

علاج الغيبة:

اشارة

إنّ علاج هذا المرض الأخلاقي الخطير يشبه من جهات علاج سائر الأمراض الأخلاقية الاخرى، ويختلف عنها من بعض الجهات، وفي المجموع لابدّ من رعاية الامور التالية للوقاية من الوقوع في هذا المرض أو علاجه:

1- إنّ العلاج الحقيقي لكل مرض بدني أو نفسي أو أخلاقي يتمثّل بالعثور على الجذور والأسباب الكامنة وراء الابتلاء بهذا المرض والسعي لإزالتها والقضاء عليها، وبما أنّ عوامل حصول هذه الصفة القبيحة في النفس كثيرة ومتعددة فلابدّ من التوجه إلى تلك العوامل والاسباب، وقد رأينا أنّ من العوامل المهمّة هو: الحسد، الحقد، الأنانية، حبّ الانتقام، التكبّر والغرور وأمثال

ذلك، وما دامت هذه الحالات النفسية السلبية موجودة في أعماق النفس ومادام الإنسان لا يتحرّك على مستوى إزالتها من واقعه وذاته فإنّ هذه الحالة الرذيلة أي- الغيبة- لا تنقلع ولا تزول.

وعندما لا يجد الإنسان في نفسه حسداً على أحد ولا يعيش حالة الحقد والكراهية والمقت تجاه الآخرين ولا يرى في نفسه إمتيازاً ولا تفوّقاً على الغير فلا مسوّغ له للتلّوث بخطيئة الغيبة ولا يجد في ذاته رغبة وميلًا إلى ارتكاب هذا الفعل الذميم.

2- ومن الطرق الاخرى لعلاج هذه الرذيلة الأخلاقية هو الالتفات والتفكّر في عواقبها السلبية على المستوى المادي والمعنوي، والفردي والاجتماعي، فإنّ الإنسان متى ما إلتفت إلى أنّ الغيبة ستؤدّي به إلى المهانة والسقوط في أنظار الناس فيعرفونه بأنّه شخص خائن، ضعيف النفس، ويشعر بالدونية والحقارة، فإنّهم سوف يتحرّكون في الإرتباط معه من موقع عدم الثقة وسوف تهتز شخصيته ومكانته الاجتماعية لدى الآخرين، وأنّ الغيبة سوف تتلف حسناته وتهدر طاقاته وتنقل سيئات الآخرين إلى صحيفة أعماله، ولا تقبل عباداته لمدّة أربعين يوماً وهو أول من يدخل النار، وفيما لو تاب وقبلت توبته يكون آخر من يدخل الجنّة.

وأيضاً عليه أن يلتفت إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ الغيبة هي حق الناس لأنّها تتسبب في الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 92

هدم سمعتهم والذهاب بماء وجوههم، ونعلم أنّ قيمة ماء الوجه مثل قيمة النفس والمال لدى الإنسان أو أكثر وما لم يرض عنه صاحب الحق، فإنّ اللَّه تعالى لا يرضى عنه، وربّما لا يتسنى له التوصل إلى كسب رضى الطرف الآخر أبداً وحينئذٍ سيتحمل وزر هذا الفعل مدى الحياة.

أجل، فلو أنّ الإنسان تدبّر في هذه الامور جيداً فسوف يندم بالتأكيد على عمله ويتحرّك بعيداً عن هذا السلوك المنحرف،

والأشخاص الذين يعيشون ممارسة الغيبة في مجالسهم وبهدف الترفيه والتفريح واللهو إذا ما فكّروا في عواقب الغيبة فسوف يتحوّلون عنها بالتأكيد ولا يقتربون من ممارسة هذا السلوك السلبي والعدواني.

3- يجب أن ينتبه المستغيب إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ طاقات الإنسان محدودة، فلو أنّه بدلًا من إتلاف هذه الطاقات وصرفها في تسقيط شخصية الآخرين وهدم مكانتهم الاجتماعية كان يستخدم هذه الطاقات والقابليات والمواهب الإلهية في خط الكمال المعنوي والمنافسة السلمية والصحيحة بينه وبين الآخرين فقد لا تمضي فترة قصيرة إلّا ويحرز التوفيق في الكمالات الإنسانية والمعنوية على الخير ويصل إلى مراتب سامية في حركة الحياة والتكامل المعنوي والمادي من دون أن يجد حاجة إلى تسقيط الآخرين والعدوان عليهم وبالتالي سوف ينقذ نفسه من نتائج الغيبة وعواقبها الوخيمة في الدنيا والآخرة.

وبعبارة اخرى أنّ الأفضل للإنسان أن يقوم باعمار بيته وبناء داره بدلًا من تخريب بيوت الآخرين ليعيش في منطقة عامرة وفي دارٍ مشيّدة، ولكن الشخص الذي يتحرّك دائماً من موقع تخريب بيوت الآخرين فإنّ نتيجته سوف تكون تخريب بيوت المنطقة وتخريب بيته أيضاً فيعيش في الأطلال والخرائب.

يجب أن يلتفت المستغيب إلى هذه الحقيقة وهي أنّ الغيبة هي احدى العلامات البارزة لضعف الشخصية وفقدان الهمّة والمروءة وأنّه يعيش عقدة الحقارة والدونيّة، ولذلك فهو يمارس الغيبة لجبران هذا الضعف النفسي وفي الحقيقة يقوم باظهار هذه العيوب الذاتية

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 93

والصفات الباطنية ويجهر بها أمام الناس، فهو يقوم بتدمير شخصيته وتحطيم كيانه قبل أن يحطّم شخصية الآخرين الذين يغتابهم.

وهناك ملاحظة جديرة بالاهتمام وهي أنّه لابدّ لترك الغيبة وخاصة فيما لو أصبحت عادة لدى الشخص، أن يقوم قبل كل شي ء بفرض الرقابة الشديدة على لسانه وكلماته ويتحرّك من موقع

الضغط الأخلاقي في دائرة الكلام، وكذلك ينبغي له أن يتجنّب معاشرة الأصدقاء الذين لا يجدون حرجاً في ممارسة الغيبة ويدفعونه بهذا الاتجاه ويترك المجالس المهيئة للغيبة، بل وجميع الامور التي توسوس له في ممارسة الغيبة.

وفي حديث شريف عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «ما عُمِّرَ مَجلِسٌ بالغَيبَةِ إلّاخَرِبَ مِنْ الدِّينِ» «1».

الملاحظة الاخرى هي أنّ أحد دوافع الغيبة هو السعي لتبرئة الذات والدفاع عنها، مثلًا أن يقول: إذا كنت قد إرتكبت هذا الذنب، فإنّ من هو أفضل منّي وأعلم قد ارتكبه أيضاً، والحال أنّ تبرئة الذات لها طرق اخرى كثيرة لا تنتهي بهذا الذنب الكبير أي- الغيبة- وأساساً فإنّ الاعتراف بالخطأ في هذه الموارد يكون أسلم عذر وأفضل سبيل لتدارك الخطأ، مضافاً إلى أنّ أحد الأخطاء الكبيرة لدى الإنسان أن يقارن بينه وبين الفاسقين والأراذل من الناس ويترك المقارنة بينه وبين الأخيار والصلحاء من أفراد المجتمع.

أحياناً يتحرّك الشخص لتبرئة نفسه وتبرير سلوكه إلى التشبث بهذا العذر وهو أنني عندما رأيت العالم الفلاني قد إنحرف على مستوى السلوك وارتكب الذنوب زالت عقيدتي وضعف إيماني وأصبحت في أمر العقيدة بالمبدأ والمعاد غير مكترث، هذه المعاذير والتبريرات هي المصداق الأتم لمقولة العذر أقبح من الذنب، ويترتب على ذلك عواقب خطرة جدّاً، فما أحرى بالإنسان أن يعترف بخطئه ويسعى في تعامله مع الآخرين في حمل سلوكياتهم وأفعالهم على الصحة، وعلى فرض أنّ أحد القادة أو العلماء أو الجهّال تصرّف من موقع الإنحراف وارتكب بعض الذنوب، فلا يكون ذلك مسوّغاً للآخرين على سلوك هذا

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 94

المسلك وتبريره بتلك الذريعة الشيطانية، بل يجب على الإنسان أن يجعل الصلحاء والأولياء اسوة له في دائرة السلوك والتكامل المعنوي والأخلاقي.

بقي من موضوع الغيبة

عدّة امور مهمّة لابدّ من التعرّض لها:

1- استماع الغيبة

كما أنّ التحدّث بالغيبة من الذنوب الكبيرة فكذلك المشاركة في مجلس الغيبة والاستماع للمغتاب في تعرضّه للمؤمنين والوقيعة بالآخرين أيضاً من الذنوب الكبيرة، لأنّ جميع المفاسد المترتبة على الغيبة تتعلق بطرفين، المغتاب والمستمع للغيبة، فلو أنّ الشخص لم يجد في نفسه استعداداً لسماع الغيبة فمضافاً إلى أنّه قد تقدّم خطوة في طريق النهي عن المنكر، فكذلك لا يمكن للغيبة أن تتحقّق في الواقع، فلا يجد المغتاب من يستمع له ليكشف عن عيوب الناس ولا يتمكن من تسقيط شخصية الآخرين ولا هتك حرماتهم ولا يترتب على ذلك المفاسد الاجتماعية الاخرى.

ولهذا السبب نجدالروايات الإسلامية قد شاركت المستمع للغيبة وجعلته أحد المغتابين كما ورد في أحد الروايات عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «المُستَمِعُ أحدُ المُغتَابِينَ» «1».

وورد عن الإمام علي عليه السلام قوله: «السّامِعُ للغَيبَةِ أَحَدُ المُغتَابِينَ» «2».

وفي حديث آخر عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّه عندما رأى أحد الأشخاص يرتكب الغيبة في حضور ولده الإمام الحسن عليه السلام فقال له: «يابُنَي نَزِّهِ سَمعَكَ عَنْ مَثلِ هذا فَإنَّهُ نَظَرَ إلى أَخبَثِ ما فِي وِعائِهِ فَأَفرَغَهُ فِي وِعائِكَ» «3».

وكذلك ورد في الروايات الشريفة أنّ المستمع للغيبة يجب أن يتحرك من موقع الدفاع عن أخيه المسلم وذلك من خلال حمل سلوكه على الصحّة.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 95

وفي حديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله يقول: «مَنْ أُغتِيبَ عِندَهُ أَخُوهُ المُسلِمُ فاستَطاعَ نَصرَهُ وَلَم يَنصُرهُ خَذَلَهُ اللَّهُ فِي الدُّنيا والآخِرةِ» «1».

وفي حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أيضاً أنّه قال: «إذا وَقَعَ فِي رَجُلٍ وَأَنْتَ فِي مَلاءٍ فَكُنْ لِلرَّجُلِ ناصِراً وَلِلقَومِ

زاجِراً وَقُم عَنهُم» «2».

وأيضاً ورد في الحديث النبوي الشريف قوله: «الساكِتُ شَرِيكُ المُغتَابِ» «3».

ونختم هذا البحث بالحديث الشريف الوارد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أيضاً حيث قال: «ألا وَمَنْ تَطَوَّلَ عَلى أَخِيهِ فِي غَيبَةٍ سَمِعَها فِيهِ فِي مَجلِسٍ فَرَدَّها عَنهُ رَدَّ اللَّهُ عَنهُ أَلَفَ بابٍ مِنَ الشَّرِّ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ فإنْ هُوَ لَم يَرُدَّها وَهُو قادِرٌ عَلى رَدِّها كانَ عَلَيهِ كَوِزرِ مَنْ إِغتابَهُ سِبعِينَ مَرَّةً» «4».

ويمكن أن تكون هذه الرواية ناظرة إلى الموارد التي يكون فيها الشخص المستمع من أصحاب النفوذ والمكانة الاجتماعية في حين أنّ المغتاب ليس كذلك، ومن الواضح أنّ سكوت مثل هذا الشخص يترتب عليه نتائج وخيمة على مستوى هتك حرمة ذلك الشخص المسلم حيث يكون استماعه لذلك أكثر ضرراً من كلام المغتاب نفسه.

2- الغيبة حق الناس أو حق اللَّه؟

وطبقاً لما ورد في تعريف الغيبة سابقاً يتّضح أنّ الغيبة من حقوق الناس لأنّها تتسبب في هتك حرمتهم وتسقيط شخصيتهم وإزهاق سمعتهم: ونعلم أنّ ماء وجه المسلم له من القيمة كما هو الحال في روح المسلم وماله وعرضه.

ومن التشبيه الوارد في الآية من سورة الحجرات حول الغيبة وأنّها كمن يأكل لحم أخيه ميتاً يتّضح جيداً أنّ الغيبة من حق الناس؛ ومن الأحاديث الكثيرة يمكننا أن نستوحي هذا

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 96

المفهوم أيضاً وهو أنّ الغيبة نوع من الظلم والعدوان على الآخرين والذي يجب التحرك على مستوى جبران هذا العدوان وتعويض الطرف الآخر لجبران الظلم الذي وقع عليه، ومن ذلك:

1- أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال في حجة الوداع: «أَيُّها النّاسُ إِنَّ دِمائَكُم وَأَموالَكُم وَأَعراضَكُم عَلَيكُم حَرامٌ كَحُرمَةِ يَومِكُم هذا فِي شَهرِكُم هذا فِي بَلَدِكُم هذا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الغَيبَةَ كَما حَرَّمَ

المَالَ وَالدَّمَ» «1».

ولا شك أنّ كل دم برى ء يسفك لابدّ من جبرانه، وكل مال مشروع يتُم اتلافه من قِبل شخص آخر يجب عليه أن يقوم بتعويضه، والغيبة أيضاً ومن خلال هذا المنطلق يجب العمل على تلافيها وجبرانها بأي نحو ممكن.

وأساساً فإنّ جعل عرض المؤمن إلى جانب ماله ودمه لهو دليل واضح على أنّ تسقيط شخصية الإنسان وهتك حرمته إنّما هي من حق الناس.

2- وفي حديث آخر عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله بعد أن قارن الغيبة بالزنا وأنّها أشدّ إثماً منه قال: «إنّ صاحِبَ الغَيبَةِ لا يُغفَرُ لَهُ حتّى يَغفِرَ لَه صاحِبُهُ» «2».

3- وجاء في كتاب مجموعة ورام أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قال: «كُلُ المُسلِمِ عَلَى المُسلِمِ حَرامٌ وَدَمُهُ وَمالُهُ وَعِرضُهُ، والغَيبَةُ تَناوُلِ العِرضِ» «3».

العبارة الأخيرة من هذا الحديث الشريف وهي أنّ (الغيبة تناول العرض) مصداق التعرّض لناموس الشخص سواء كانت من كلمات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أو كلمات الرواة، فإنّها على أي حال يمكن أن تكون شاهداً على المقصود.

والشاهد الآخر على هذا المعنى هوالروايات الشريفة التي تتحدث عن أنّ الغيبة تسبب في نقل حسنات المغتاب من صحيفة أعماله إلى صحيفة أعمال المغتاب، ونقل سيئات المستغاب إلى الشخص المرتكب للغيبة (كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك) وهذا يعني أنّ الغيبة

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 97

هي من حق الناس، لأنّ نقل الحسنات والسيئات لجبران الضرر الذي لحق بالمستغاب يعني أنّ الغيبة من حقوق الناس.

وبعد أن اتّضح هذا المفهوم وأنّ حق الناس يجب أن يجبر ويعوّض يثار في الذهن هذا السؤال، وهو أنّ المغتاب كيف يتمكن من جبران خطئه وذنبه؟

ويستفاد من بعض الروايات أنّ المستغاب لو علم بذلك وسمع

بأنّ المستغيب يذكره بسوء، فيجب على المستغيب أن يذهب إليه ويطلب منه أن يرضى عنه ويجعله في حِلّ وإلّا لو لم يتصل به فيجب عليه أن يستغفر اللَّه تعالى، ويدعو للمستغاب بالرحمة والمغفرة (ليتم له التعويض عن ذلك الظلم في حق أخيه المؤمن) وهذا المضمون ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام حيث قال: «فَإنَّ اغتِيبَ فَبَلَغَ المُغتابَ فَلَم يَبقَ إلّاأَن تَستَحِلَّ مِنهُ وإنْ لَم يَبلُغْهُ وَلَمْ يَلحَقهُ عِلمَ ذَلِكَ فاستَغْفِرِ اللَّه لَهُ» «1».

ويتّضح من هذا الحديث الشريف أنّه لو لم تصل الغيبة إلى مسامع المستغاب فإنّ نقل هذا الخبر إليه قد يتسبب في أذاه أكثر ويترتب على ذلك مسؤولية أكبر، ولهذا السبب نجد أنّ الوارد في الحديث الشريف هو الاستغفار فحسب، وعليه ففي الموارد التي لا يتأثر فيها المستغاب من خبر الغيبة فلا يبعد وجوب طلب التحلل منه وكسب رضاه.

ومن هنا يتّضح جيداً ما ورد في الروايات الشريفة أنّه: «كَفَّارَةُ الإغتِيابِ أَنْ تَستَغفِرَ لِمَنْ إِغتَبتَهُ» «2».

والشاهد الآخر ما ذكر آنفاً هو الحديث الشريف عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله حيث قال: «مَنْ كانَتْ لأخِيهِ عِندَهُ مَظلَمَةٌ فِي عِرضٍ أَو مالٍ فَليَتَحَلَّلها مِنهُ مِنْ قبلِ أَنْ يَأتِي يَومٌ لَيسَ هُناكَ دِينارٌ وَلْا دِرهَمٌ إِنَّما يُؤخَذُ مِنْ حَسَناتِهِ فَإن لَم تَكُن لَهُ حَسَناتٌ اخِذَ مِنْ سَيئَاتِ صاحِبِهِ فَزِيدَتْ عَلَى سَيئَاتِهِ» «3».

وجاء في أدعية أيّام الاسبوع للإمام زين العابدين عليه السلام الواردة في ملحقات الصحيفة

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 98

السجادية عبارات واضحة لهذا المفهوم في دعاء يوم الإثنين حيث يقول فيه الإمام (من خلال كونه اسوة للآخرين): «وَأَسأَلُكَ فِي مَظَالِمِ عِبادِكَ عِندِي، فَأَيُّما عَبدٍ مِنْ عَبِيدِكَ، أَو أَمَةٍ مِنْ إِمائِكَ كانَتْ لَهُ قِبَلِي

مَظلَمَةٌ ظَلَمتُها إِيَّاهُ فِي نَفْسِهِ أَو عِرضِهِ أَو فِي مالِهِ أَو فِي أَهلِهِ وَوَلَدِهِ، أو غَيبَةٍ اغتَبتُهُ بِها، أو تَحامُلٌ عَلَيهِ بِمَيلٍ أو هَوىً، أو أنَفَةٍ أو حَمِيَّةٍ أو رِياءٍ أَو عَصَبِيةٍ غائِباً كانَ أَو شاهداً، حَيَّاً كانَ أَو مَيتاً، فَقَصُرتْ يَدِي وَضاقَ وسِعِي عَنْ رَدِّها إِلَيهِ، وَالتَّحلُّلِ مِنهُ.

فَأَسأَلُكَ يا مَنْ يَملِكُ الحاجاتِ وَهِيَ مُستَجِيبَةٌ لِمَشِيَّتِهِ وَمُسرِعَةٌ إِلى إِرادَتِهِ أَن تُصَلِّي عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وأَن تُرضِيَهُ عَنِّي بِما شِئتَ ...» «1».

وعلى أيّة حال فإنّ احتمال كون الغيبة من حق الناس قوي جدّاً، ولذلك فإنّه لو لم يكن أمامه مشكل في طلب الرضا والتحلل منه وجب عليه ذلك.

وهناك ملاحظة مهمّة وهي أنّ أحد طرق جبران الغيبة هو أن يقوم المستغيب بالحضور في مجلس يحوي الأشخاص الذين كانوا قد حضروا مجلسه السابق، فيقوم بإعادة الشريط وتبرير سلوك أخيه المؤمن بما يوافق الأخلاق الحسنة والشرع المقدّس ويحمله على الصحة بحيث تزول من الأذهان آثار الغيبة وتعود المياه إلى مجاريها.

3- مستثنيات الغيبة

يتفق علماء الأخلاق وكذلك الفقهاء على أنّ هناك موارد تجوز فيها الغيبة وقد تصبح واجبة أحياناً، وذلك بسبب طروء عوارض معينة على الغيبة ممّا يغيّر حكمها الأصلي.

وبعبارة اخرى أنّ الغيبة بعنوانهاالأولي حرام بلا شك ومن الذنوب الكبيرة وفي ذلك يتفق علماء الإسلام، ولكن هناك عناوين ثانوية تطرأ على هذا الفعل بإمكانها أن تكون حاكمة على العنوان الذاتي والأولي ممّا يفضي إلى أن تكون الغيبة جائزة بل واجبة، وذلك في الموارد التي تكون فيها المصلحة أهم ويكون حفظ هذه المصلحة غالب على المفاسد

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 99

الكبيرة المترتبة على الغيبة. ومن جملة هذه الموارد التي تدخل في مستثنيات الغيبة ما يلي:

1- أن يكون الإنسان في حالة التظلّم وطلب

حقّه من الآخر ويسعى لرفع هذه الظلامة بحيث لو أنّه لم يتعرّض لذكر الطرف الآخر بالسوء ولم يصرّح للآخرين بسلوك ذلك الظالم فإنّه لا يصل إلى حقّة.

وهذا هو ما ورد في القرآن الكريم من قوله تعالى: «لَايُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً» «1».

2- في موارد النهي عن المنكر، أيّ في حالة ما إذا لم يتحرّك الإنسان لفضح الطرف الآخر ويكشف عن أعماله السيئة، فإنّ ذلك المذنب سوف يستمر في غيّه ويقوم على ذنبه، فهنا ترجح مصلحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على مفسدة الغيبة، بل قد تكون واجبة في بعض الحالات.

3- في مورد أهل البدع وكذلك الذين يحيكون المؤامرات ضدّ المسلمين بحيث لو أنّ أعمالهم الخفيّة تجلّت وكشفت للمسلمين، فإنّ الناس سوف يتصدّون لهم ويتحركون من موقع دفعهم وابطال مؤامراتهم، فهنا تكون غيبة مثل هؤلاء الأشخاص جائزة، بل واجبة.

4- في مورد ما إذا كان المسلم يعيش الخطر على نفسه أو ماله أو عرضه من شخص آخر وهذا المسلم لم يكن على علم بالخطر المحيط به، وهنا يكون إخباره بهذا الخطر جائز، بل واجباً أحياناً.

5- في مورد المشورة، بمعنى أنّ أحد الأشخاص أراد مثلًا الزواج من مسلمة وأراد طلب يدها من والديها أو أراد شخص تشكيل شركة أو السفر إلى أحد البلدان، وطلب من شخص آخر أن يشير عليه بما يراه صلاحاً له، فهنا لا يمكن القول بأنّ الكشف عن عيوب الطرف الآخر حرام، بل إنّ أمانة المشورة تقتضي أن يقول المستشار ما يعلمه وما هو مطلّع عليه من نقاط القوّة والضعف، ولا ينبغي أن يحجم عن النصح والمشورة لأخيه المؤمن خوفاً

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 100

من الوقوع في

الغيبة، لأنّ ستر مثل هذه المعايب يعتبر خيانة للمستشير والخيانة في المشورة حرام.

6- في مورد الشهادة، وذلك عندما يطلب من الإنسان أن يدلي بشهادته في موقع التحكيم أو المحكمة، فهنا تجوز الغيبة، لأنّ مصلحة الشهادة أقوى، وكذلك في موارد إجراء الحدود الإلهية، فلو أنّ عدّة أشخاص رأوا بأنّ الشخص الفلاني يشرب الخمر أو يزني فلهم أن يأتوا إلى حاكم الشرع ويشهدوا عليه بذلك ليجري عليه الحدّ، وكذلك فيما لو شهد أشخاص على أمر معيّن وكان هؤلاء الشهود في الواقع فسّاق ولم يكن الحاكم يعلم بخبرهم وحالهم، وهنا يجوز فضح هؤلاء الشهود، وبعبارة اخرى يجوز جرح الشهود (وطبعاً فإنّ جميع هذه الموارد هي فيما لو كان عدد الشهود كافياً لإثبات الموضوع).

4- حكم المتجاهر بالفسق

يتفق علماء الأخلاق والفقهاء العظام عادةً على جواز غيبة المتجاهر بالفسق ويرون أنّها من مستثنيات الغيبة ويصرّحون بأنّ غيبة مثل هؤلاء الأشخاص الذين مزّقوا ستار الحياء وأجهروا بالمعاصي أمام الناس، فإنّهم لا غيبة لهم وقد تمسكوا في ذلك بروايات في هذا الباب.

ففي حديث عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله يقول: «أَربَعَةٌ ليستْ غَيبَتُهُم غَيبَة الفاسِقُ المُعلِنُ بُفسقِهِ ...» «1».

وفي حديث آخر عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «ثَلاثَةٌ لَيسَ لَهُم حُرمَةٌ صحِبُ هَوىً مُبدِعٍ والإمامُ الجائِرُ والفاسِقُ المُعلنُ الفِسقَ» «2».

وفي حديث عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام أنّه قال: «مَن أَلقى جِلبَابَ الحَياءِ فَلا غَيبَةَ لَهُ» «3».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 101

وفي حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «أَتنزَعُونَ عَنْ ذِكرِ الفاجِرِ أَنْ تَذكُرُوه، فَاذكُرُوهُ يَعرِفُهُ النّاسُ» «1».

والأحاديث في هذا الباب كثيرة.

ولكن الظاهر أنّ مثل هؤلاء الأفراد خارجون بالتخصص من موضوع الغيبة لا أنّ

حكم الغيبة يشملهم أولًا ثم يدخلون في مستثنيات الغيبة، لأنّ للغيبة شرطين:

الأول: أن يكون العيب مستوراً وهذا الشرط لا يتوفر في هؤلاء الأشخاص.

الثاني: كراهية الطرف الآخر لأن يذكر بسوء، وهذا الشرط أيضاً غير متوّفر فيما نحن فيه لأنّ المتجاهر بالفسق لو كان يتأثر ويتألم من ذكره بسوء لم يكن يرتكب ذلك العمل علانية وجهراً، وبتعبير علماء الاصول أنّ خروج مثل هؤلاء الأشخاص يكون بالتخصص لا بالتخصيص.

وهنا تثار عدّة أسئلة في هذا الصدد، الأول هو أنّه هل أنّ جواز غيبة المتجاهر بالفسق يختص بالذنوب التي تجاهر بها أو يستوعب جميع الذنوب فتكون غيبته جائزة مطلقاً؟

والآخر هو أنّه إذا كان يتجاهر بالفسق عند جماعة معينة أو في مكان خاص ولكنه لا يرتكب ذلك المنكر أمام جماعة اخرى أو في مكان آخر فهل يجوز غيبة هذا الشخص أيضاً؟

والثالث هو هل أنّ جواز غيبة المتجاهر بالفسق مشروط بوجود شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي أن تكون الغيبة مؤثرة في عملية الردع وإلّا فلا تجوز؟

ونظراً لما تقدّم من بيان حالة هؤلاء الأفراد من الناحية الشرعية يتّضح الجواب عن هذه الأسئلة جميعاً، وهو أنّ غيبة هؤلاء الأشخاص إنّما تجوز في موارد التجاهر بالفسق، ولكن بالنسبة إلى الأعمال الاخرى أو الوسط الآخر والأجواء الاخرى، فلا تجوز، لأنّ أدلة حرمة الغيبة لا تشمل المتجاهر بالفسق ومن المعلوم أنّ حالة التجاهر لا يستوجب توّفر شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا ضرورة لها لأنّ عناصر تشكيل الغيبة غير متوّفرة.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 102

ويحتمل كذلك أنّ المقصود بالمتجاهر بالفسق هو الشخص الذي قام بتمزيق ستار الحياء وتحرّك في ارتكابه للمعاصي والذنوب من موقع الجرأة على الدين والمجتمع الإسلامي، فمثل هؤلاء الأفراد لا احترام

لهم، بل يجب التعريض بهم وفضحهم ليكون الناس على حذر منهم وفي أمان من أعمالهم كما ورد في الحديث الشريف المتقدّم: «مَن أَلقى جِلبَابَ الحَياءِ» فحينئذٍ يقول الحديث «فاذكروه يعرفه الناس» فهو ناظر إلى هذا المعنى.

و على هذا الأساس يمكن القول بأنّ المتجاهر بالفسق على نحوين:

الأول: أن يكون متجاهراً بعمل معيّن فحينئذٍ تجوز غيبته في ذلك العمل بالخصوص، والآخر: الأشخاص الذين قاموا بتمزيق لباس العفة والحياء وانطلقوا وراء ارتكاب الذنوب بكل صلافة وجرأة من دون رعاية القيم الاجتماعية والدينية، فمثل هؤلاء الأشخاص لا احترام لهم أبداً من فضحهم وكشف واقعهم أمام الناس كيما يحذر الآخرون من أخطارهم ومفاسدهم.

ونتخم هذا الكلام بذكر ملاحظتين:

الاولى: هي أنّنا نعلم أنّ أحد العلوم الإسلامية المعروفة هو علم الرجال حيث يبحث فيه صدق وكذب الرواة وحالتهم على مستوى كونهم ثقة أو غير ثقة، وهناك بعض من لا خبرة له بالامور يتجنّب الخوض في علم الرجال ويرفض تعلّم هذا العلم لأنّه بحسب تصوّره أنّه يفضي إلى الخوض في الغيبة في حين أنّ من الواضح أنّ حفظ حريم الشرع والأحكام الإسلامية من المواضيع الكاذبة والأخبار المختلفة أهمّ كثيراً من التعرّض لبعض الرواة وجرحهم، وهذا الهدف السامي هو الذي يبيح لنا أن نتحرّك على مستوى التحقيق في سوابق الرواة وحالاتهم والبحث عن نقاط ضعفهم وإثباتها في كتب الرجال لكي نأمن على الشريعة المقدّسة من الأخبار المزيفة ولكي تكون الأحكام الإلهية في مأمن من تدخل الأهواء والنوازع الذاتية لبعض الرواة.

والاخرى: هي أنّ المسائل الاجتماعية والسياسية والمناصب الحساسة في المجتمع الإسلامي تقتضي أحياناً إفشاء بعض نقاط الضعف للمسؤولين، فهذا المعنى وإن كان في حدّ

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 103

ذاته مشمولًا لعنوان الغيبة ومصداقاً من مصاديقها إلّاأنّ

أهمية حفظ النظام الإسلامي وكشف وإبطال المؤامرات الموجهة إلى المجتمع الإسلامي أهم بكثير ولذلك لا إشكال في ذلك، بل قد يكون واجباً أحياناً، والأشخاص الذين يتسترون على عيوب هؤلاء لكي لا يقع في ورطة الغيبة هم في الواقع يضحّون بمصالح المجتمع الإسلامي من أجل الأفراد، وقد تقدّم في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه ذمّ هؤلاء وقال: «أَتنزَعُونَ عَنْ ذِكرِ الفاجِرِ أَنْ تَذكُرُوه، فَاذكُرُوهُ يَعرِفُهُ النّاسُ»، وأمر بفضحهم ليعرفهم الناس.

ولكن هذا لا يعني أن يقوم بعض الناس بهتك حرمة الأفراد وفضحهم بدون مبرّر أو يتحرّكون في هذا السبيل أكثر من اللازم ويتعرّضون لحيثية الأفراد ويتجاوزون حدودهم الشرعية.

وما تقدّم آنفاً يوضّح وظيفة الأجهزة الخبرية والمخابراتية في الدوله الإسلامية، فإن كان نشاط هذه الأجهزة والمجاميع التجسسية تصب في غرض الكشف عن الخطر الذي يهدّد سلامة المجتمع الإسلامي وسلامة المناصب الحساسة في غ الدولة الإسلامية، فلا ينبغي أن يتجاوزوا الحدود المشروعة، وحينئذٍ فانّ عمل هؤلاء لا يحسب في دائرة التجسس ولا يكون مشمولًا لعنوان الغيبة المحرمة، بل هو أداء للوظيفة الشرعية والواجب الإنساني.

5- شمول دائرة الغيبة

لا شك في حرمة غيبة الشخص المؤمن البالغ العاقل، ولا شك في جواز غيبة الكافر الحربي الذي ينوي هدم الإسلام ويتحرّك من موقع التعرّض للمجتمع الإسلامي، لأنّه لا حرمة لمثل هذا الشخص.

ولكن هل أنّ غيبة سائر فرق المسلمين وأهل الذمة (وهم الذين لديهم كتاب سماوي من غير المسلمين ويعيشون في داخل إطار المجتمع الإسلامي) جائزة أو أنّ غيبتهم حرام كما هم محترمون في أنفسهم وأموالهم؟

بعض الفقهاء مثل المحقق الأردبيلي والعلّامة السبزواري يرون حرمة الغيبة بشكل عام الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 104

ويتمسكون بالروايات الواردة بعنوان (المسلم) أو الناس وذهبوا إلى أنّ

حرمة غيبة هؤلاء ليست عجيبة، لأنّ أموالهم وأنفسهم محترمة فلماذا لا يكون عرضهم كذلك؟

ولكن المرحوم صاحب الجواهر قدس سره خالف ذلك بشدّة وقال: «بأنّ ظاهر الروايات يدلّ بضم بعضها إلى بعض على أنّ حرمة الغيبة مختصة بالمؤمنين وأتباع أهل البيت عليهم السلام وحتى أنّه استدل بالسيره المستمرة بين العلماء والعوام أيضاً.

إذا كان مقصود هذا الفقيه الكبير من المخالفين لأهل البيت عليهم السلام هم النواصب وأعداء المؤمنين والمسلمين فلا شك في عدم حرمتهم وحرمة غيبتهم، ولكن إذا كان الكلام عن الفرق الإسلامية التي من المقرر حفظ واحترام أنفسهم وأموالهم وكذلك أهل الكتاب من أهل الذمة فإنّ رأي المحقق الأردبيلي قدس سره هو الأقرب إلى الصواب، لأنّه في كل مورد تكون نفس الإنسان وماله محترماً، فكذلك عرضه وماء وجهه فلا يجوز التعرّض له بالغيبة، وتوجيه الخطاب للمؤمنين في الآية 12 من سورة الحجرات (آية الغيبة) أو التعبير بالمؤمن في بعض الروايات لا يدلّ على عدم شمول حكم الغيبة بالنسبة إلى الآخرين، وبعبارة اخرى إنّ إثبات الشي ء لا ينفي ما عداه.

وعلى هذا الأساس يجب اجتناب غيبة جميع الأشخاص الذين تكون نفوسهم وأموالهم وأعراضهم محترمة وجميع هؤلاء يشملهم حق الناس، وطبعاً هذا في صورة ما إذا لم يكن متجاهراً بالفسق ولم يكن يتحرّك من موقع المؤامرة والدسيسة على الإسلام والمسلمين، بل كانت لهم عيوب وذنوب مستورة وخاصة بهم، فيكون فضحهم والكشف عن هذه العيوب وإراقة ماء وجههم ليس مسوّغ شرعي قطعاً.

وأمّا بالنسبة إلى الطفل المميّز الذي يتألم من الغيبة فأيضاً يجب القول بأنّ غيبته حرام كما أشار إلى ذلك الشيخ الأنصاري قدس سره في المكاسب المحرّمة وقال: إنّ عنوان الأخ المؤمن صادق عليه أيضاً كما قال تعالى عن الأيتام:

«وإنْ تُخالِطُوهُم فَاخوانُكُم» «1».

ولكنّ الصواب هو أنّه لا ينبغي تقييد المورد بالمميّز، لأنّ كشف العيوب المستورة للطفل الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 105

غير المميز يعدّ هتكاً لشخصيته المستقبلية أو هتكاً لحيثية اسرته، وهو عمل مخالف للقيم الأخلاقية، ولهذا السبب فإنّ الشهيد الثاني قدس سره في كتابه (كشف الريبة) لم يفرّق بين الصغير والكبير، بعبارة اخرى أنّ أطفال المؤمنين كالمؤمنين أنفسهم من حيث حرمة النفس والمال والعرض.

ومن هنا يتّضح حكم المجانين والسفهاء أيضاً.

6- الغيبة العامة والخاصة

أحياناً تكون الغيبة عن شخص خاص أو أشخاص معيّنين حيث تبيّن حكمها في الأبحاث السابقة من جهات مختلفة، ولكن هناك موارد اخرى تكون الغيبة ذات جهة عامة وكلية، مثلًا يقول: إنّ أهل المدينة الفلانية بخلاء، أو جهلاء، أو سفهاء، أو يقول إنّ أهالي القرية الفلانية لصوص أو مدمنين أو متحلّلين أخلاقياً وأمثال ذلك.

فهل أنّ جميع أحكام الغيبة ترد في مثل هذه الموارد أم لا؟

يمكن القول أنّ الغيبة لها عدّة صور ووجوه:

1- فيما إذا كانت الغيبة متوجّه لشخص أو أشخاص معدودين لا يعرفهم المخاطب، كأن يقول: إنّ في المدينة أو القرية الفلانية عدّة أشخاص يشربون الخمر أو يرتكبون الأعمال المنافية للعفة، فلا شك في عدم جريان أحكام الغيبة هنا، لأنّ المتكلم لم يذكر في كلامه عيباً مستوراً عن شخص معيّن.

2- أن يكون المورد من قبيل الشبهة المحصورة (وكما يصطلح عليه شبهة القليل بالقليل أو الكثير بالكثير) مثلًا يقول: أنني رأيت أحد هؤلاء الأربعة أشخاص يشرب الخمر (أو يذكر أسماء هؤلاء الأربعة أو يقول أنّ أولاد زيد وأمثال ذلك) أو يقول: أنّ جماعة كثيرة من أهالي القرية الفلانية يرتكبون هذا العمل بحيث أنّ التهمة تتوجه إلى الجميع من موقع الشك فيهم.

والظاهر أنّ أدلة حرمة الغيبة

تشمل هذا المورد، وعلى فرض عدم اطلاق اسم الغيبة

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 106

عليها من حيث أنّها تعدّ كشفاً ناقصاً عن العيب المستور، فهي حرام من جهة هتك احترام المؤمن وجعله في قفص الإتّهام.

3- أن ينسب إلى جميع أهل البلدة أو القرية أمراً قبيحاً ومخالفاً للشرع والأخلاق، فلا شك في جريان أحكام الغيبة على هذا المورد أو على الأقل صدق عنوان هتك احترام المؤمنين سواء كان مقصوده جميع أهالي البلدة بدون استثناء أو الأكثرية منهم.

وعلى هذا الأساس لا يجوز نسبة بعض الصفات أو الممارسات القبيحة لأهالي بلدة معيّنة إلّاأن يكون هناك قرينة على أنّ مقصوده بعض الأشخاص القلّة منهم، وكما يصطلح عليه شبهة القليل في الكثير أوالشبهة غير المحصورة، أو يكون كلامه عنهم معروفاً لدى الجميع وفي نفس الوقت لم يكن قاصداً لهتكهم وذمّهم.

7- الدفاع في مقابل الغيبة

هل يجب على الشخص المستمع للغيبة أن يدافع عن أخيه المؤمن الذي تعرّض للغيبه ويرد على المستغيب أم لا؟ مثلًا يقول في دفاعه: أنّ الإنسان غير معصوم وكل شخص يتعرّض لارتكاب الخطأ أو يقول: أنّ من الممكن أن يكون قد صدر هذا الفعل منه سهواً أو نسياناً أو كان في نظره حلالًا وهكذا يحمل فعل أخيه المسلم على الصحة، وعليه فلو كان الفعل قابلًا للتبرير فإنّه يتحرّك في تبريره وتوجيهه، وإن لم يكن كذلك قال: من الأفضل أن نستغفر له بدل أن نقع في غيبته لأننا جميعاً معرّضين لمثل هذه الأخطاء.

بعض الفقهاء الكبار يرون وجوب الدفاع ومنهم شيخنا الأعظم العلّامة الأنصاري قدس سره في بحث الغيبة في المكاسب المحرّمة.

وهناك روايات كثيرة أيضاً تتحدّث عن لزوم ردّ الغيبة وقد ذكرها المرحوم صاحب كتاب وسائل الشيعة في الباب 156 من أبواب أحكام العشرة

في الحج ومنها:

في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «يا عَلي مَنْ اغتِيبَ عِندَه أخوهُ المُسلِمُ الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 107

فاستَطاعَ نَصرَهُ وَلَم يَنصُرهُ خَذَلَهُ اللَّهُ فِي الدُّنيا والأَخِرَةِ» «1».

ونفس هذا المضمون أو ما يشبهه ورد في روايات متعددة عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله والإمام الصادق عليه السلام.

وفي حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال في خطبة له أمام الناس: «مَنْ ردّ عَنْ أَخِيهِ فِي غَيبَةٍ سَمِعَها فِيهِ فِي مَجلِسٍ رَدَّ اللَّهُ عَنهُ أَلَفَ بابٍ مِنَ الشَّرِّ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ فإنْ لَم يَرُدَّ عَنهُ وأَعجَبَهُ كانَ عَلَيهِ كَوِزرِ مَنْ إِغتابَهُ» «2».

وفي حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أيضاً أنّه قال: «مَنْ رَدَّ عَنْ عِرضِ أَخِيهِ كانَ لَهُ حِجاباً مِن النّارِ» «3».

ولكنّ الصحيح أنّه لا يستفاد وجوب الدفاع من هذه الروايات، بل غاية ما يستفاد منها هو الاستحباب المؤكّد، لأنّ التعبير لكلمة (خذله اللَّه) الوارد في عدّة روايات من هذا الباب لا يقرّر أكثر من أنّ اللَّه تعالى لا يعين هذا الشخص ويتركه لحاله (لأنّ معنى الخذلان هو ترك النصرة والمساعدة) وكذلك ما ورد في الثواب والجنّة أو النجاة من النار في بعض الروايات فانّه في قوله: «كانَ عَلَيهِ كَوِزرِ مَنْ إِغتابَهُ» قد تدل على وجوب الدفاع ولكنّ الوارد في هذه الرواية هو أنّ الإثم لا يقتصر على الاستماع وعدم الدفاع فقط بل ينشرح ويفرح من سماعه لهذه الغيبة، وعلى أية حال فسواء كان الدفاع عن المسلم في مقابل الغيبة واجباً أو مستحباً مؤكّداً فانّه يعدّ وظيفة مهمّة في دائرة المفاهيم الإسلامية، وإذا كان الدفاع نهياً عن المنكر

فهو واجب قطعاً.

8- غيبة الأموات

أحياناً يتصوّر البعض أنّ مفهوم الغيبة الوارد في الروايات الشريفة ناظر إلى الأحياء من المسلمين ولا يشمل الأموات، وعليه يجوز غيبة الأموات، ولكنّه خطأ فاحش، لأنّ الوارد في الروايات الإسلامية أنّ «حرمة الميت كحرمته وهو حي» بل يمكن القول بأنّ غيبة الميت أقبح وأشنع من بعض الجهات من غيبته وهو حي لأنّ الأحياء يمكن أن يصل إليهم خبر الغيبة ويتحرّكون من موقع الدفاع عن أنفسهم ويردّون على من إغتابهم، ولكنّ الميت غير قادر على الدفاع أبداً، مضافاً إلى أنّ الشخص المرتكب للغيبة قد يرى الطرف الآخر فيما بعد ويطلب منه الصفح وأن يكون في حلّ ولكن هذا المعنى لا يصدق على الأموات.

ومضافاً إلى ذلك الأوامر والإرشادات الدينية الواردة في ضرورة احترام جسد الميت المسلم من قبيل الأمر بغسله وتكفينه والصلاة عليه والمفاهيم الواردة في الصلاة عليه ودفنه وزيارة أهل القبور وحرمة هتك قبر المؤمن وأمثال ذلك كلّها يدلّ على وجوب حفظ حرمة الميت المسلم.

حسن الخلق وسوء الخلق

تنويه:

حسن الخلق بمعناه الخاص هو أن يعيش الإنسان في تفاعله الاجتماعي وعلاقاته مع الآخرين بصورة حسنة وكلام طيب ووجه بشوش وسلوكيات قابلة للمرونة والتلاءم مع الآخرين ويتحدّث معهم من موقع المحبّة واللطف وترتسم على شفتيه الابتسامة والانفتاح، وكل هذه تعتبر من الفضائل الأخلاقية المؤثرة إيجابياً في تعميق الروابط الاجتماعية.

(وعلى العكس من ذلك سوء الخلق ومواجهة الآخرين بوجه خشن والتقطيب في وجوههم والجفاف في معاملتهم والخشونة في التحدّث معهم، فهو من الرذائل الأخلاقية التي تمتد في جذورها إلى أعماق النفس الإنسانية وتبعث على تنفّر الآخرين وإبتعادهم عن هذا الشخص وتؤدّي بالتالي إلى إرباك العلاقات الاجتماعية وضعف الروابط الأخوية بين الأفراد.

وهناك مطالب كثيرة في هذا المجال في القرآن الكريم والروايات الشريفة وسيرة المعصومين

عليهم السلام تحكي عن الأهمية البالغة لهذه الفضيلة وتلك الرذيلة على مستوى الفرد والمجتمع.

ومن المعلوم أنّ جانباً مهمّاً من نجاح الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله في مهمّته ورسالته، وكذلك الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 110

سائر المعصومين وكبار العلماء والقادة المصلحين مدين لهذه الخلّة الحسنة في تعاملهم مع أفراد المجتمع وهي (حسن الخلق)، ومن الأسباب المهمّة في عدم موفقيّة بعض القادة والعظماء في التاريخ البشري رهين لسوء خلقهم أيضاً، إنّ تاريخ الأنبياء والأولياء والمعصومين وسائر القادة المصلحين في العالم ملي ء بشواهد حيّة على هذا الموضوع.

وبهذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته الشريفة ما يرشدنا في هذا الطريق ويسلّط الضوء على زواياه المعتّمة:

1- «فَبَما رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» «1».

2- «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» «2».

3- «وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ* وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ» «3».

4- «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ» «4».

5- «اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى* فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى» «5»

6- «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ* وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» «6».

تفسير واستنتاج:

«الآية الاولى» وردت مسألة (حسن الخلق) بعنوان أنّها أحد الخصوصيات للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله وأحد العوامل المهمّة لتقدّم وتكامل الدعوة الإسلامية في المجتمع العربي آنذاك الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 111

فتقول الآية: «فَبَما رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ

وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ...».

وعلى هذا الأساس فانّ حسن خلق النبي الأكرم صلى الله عليه و آله هو في الحقيقة رحمة إلهية له ولُامّته، وبديهي أنّ هذا الخلق الحسن وقابلية الانعطاف ومداراة الآخرين تعد من البركات والمواهب الإلهية على كل إنسان يتحلّى بهذه الخصال والسلوكيات الحميدة.

ومن التعبير أعلاه في الآية الشريفة نجد النقطة المقابلة لهذا السلوك، وهو أن يكون الإنسان غليظ القلب وسي ء الخلق وخشناً في التعامل مع الآخرين حيث تشير الآية إلى نتائج مثل هذا السلوك السلبي، وهي تفرّق الناس وانفضاضهم عن هذا الإنسان الخشن وإبتعادهم عنه، وبعبارة اخرى أنّ (حسن الخلق) يمثّل اللبنة الاساسية في شد أوصال المجتمع وتقوية وشائج المحبّة بينهم، وسوء الخلق عامل لتفرّق الأفراد وإيجاد الخلل في العلاقات الاجتماعية ويؤدّي إلى نفور الناس.

إنّ كلمة (فظ) و (غليظ القلب) يأتيان بمعنى واحد ويراد بذلك التأكيد، ويمكن أن يكون لهما معنى مختلف عن الآخر، ويقول (الطبرسي) في مجمع البيان في كلمة جامعة: «وقيل إنّما جمع بين الفظاظة والغلظة وإن كانا متقاربين لأنّ الفظاظة في الكلام فنفي الجفاء عن لسانه والقسوة عن قلبه» وعليه فكلا الكلمتين تردان بمعنى الخشونة والجفاء، وأحدهما في الكلام، والاخرى في السلوك والفعل.

وعلى أي حال فانّ اللَّه تعالى قد وهب نبيّه الكريم حالة اللّيونة والانعطاف والبشاشة وحسن التعامل مع الآخرين بحيث أنّه كان يسلك هذا السلوك مع أعتى الناس وأخشنهم وأقساهم قلباً، وبهذه الطريقة جذب هؤلاء القساة إلى الإسلام فاعتنقوا الإسلام من موقع الرغبة والشوق والإنجذاب لهذا الخلق الرفيع.

وبتبع ذلك توجّه الآية سلسلة إرشادات وأوامر عملية تخرج حالة (حسن الخلق) والبشاشة من صورتها الظاهرة وتلبسها ثياباً عملية على مستوى الممارسة والتطبيق وتقول: «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ

لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 112

وعلى هذا الأساس استقطب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أبعد الناس عن اللَّه تعالى والدين والأخلاق وجذبهم إليه وأصبح قدوتهم وأسوتهم في حسن الأخلاق.

إنّ سياق هذه الآيات يشير إلى أنّ هذه الآية متعلقة بالآيات النازلة في معركة أحد حيث كان النبي الأكرم صلى الله عليه و آله والمسلمين يعيشون أشدّ الظروف وأقسى الحالات النفسية طيلة هذه الحرب، وبديهي إنّ عملية العفو والاستغفار والانفتاح على الآخرين من موقع المحبّة واللطف جعلت النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في أسمى مراتب حسن الخلق وحسن التعامل الكريم مع الغير، وقلّما نجد إنساناً يتمكّن في مثل تلك الظروف الصعبة والتحديّات الشرسة أن يحافظ على حسن أخلاقه ولا ينفعل أمام تحديّات الواقع الصعب.

وتأتي «الآية الثانية» لتشير إلى حسن الخلق العجيب للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله حيث تعبّر عنه بالخلق العظيم وتقول: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ».

(خُلُق) على وزن افق، مفرد وهو مع كلمة خُلْق (على وزن كُفر) بمعنى واحد، ويستفاد من مفردات الراغب أنّ خَلْق (على وزن حلق) تشترك في جذر واحد معها غاية الأمر أنّ (خَلْق) تطلق على الصفات الظاهرية، و (خُلْق) تطلق على الصفات الباطنية.

ويرى بعض أرباب اللغة أنّ كلمة (خُلْق) و (خُلُق) تردان بمعنى الدين والطبع والسجية حيث يقصد بها الصورة الباطنية للإنسان «1».

وعلى أيّة حال فانّ وصف النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بأنّه ذو خلق عظيم يدلّ على أنّ هذه الصفة الأخلاقية من أعظم صفات الأنبياء، ويرى بعض المفسّرين أن الخلق العظيم للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله يتمثّل في صبره وتحمّله

في طريق الحق وسعة بذله وكرمه، وتدبير امور الرسالة والدعوة، والرفق والمداراة للناس وتحمّل الصعوبات الكبيرة في مواجهة تحدّيات الواقع الصعب في طريق الدعوة إلى اللَّه والجهاد في سبيله وترك الحرص والحسد والتعامل مع الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 113

الأعداء والأصدقاء من موقع العفو واللطف والمحبّة «1» وكل هذه الامور تشير إلى أنّ الخلق العظيم لا ينحصر بالبشاشة والانعطاف في مواجهة الآخر، بل هو مجموعة من الصفات الإنسانية السامية والقيم الأخلاقية الرفيعة، وبعبارة اخرى: يمكن القول بأنّ جميع الأخلاق الحسنة الرفيعة جُمعت في عبارة (خلق عظيم).

وممّا يؤيد هذا المعنى ما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «إنّ اللَّهَ عَزَّوَجَلَّ أَدّبَ نَبِيَّهُ فَأَحسَنَ أَدَبَهُ فَلَمّا أَكمَلَ لَهُ الأَدَبَ قالَ إِنَّكَ لَعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» «2».

وعندما نقرأ في بعض الروايات أنّ الخلق العظيم يراد به الإسلام أو الآداب القرآنية إنّما هو لأنّ الإسلام والقرآن يحويان جميع الفضائل الأخلاقية، في حين أنّ بعض الروايات الواردة في تفسير هذه الآية فسّرت (حسن الخلق) بالبشاشة والمداراة ومن ذلك الحديث الذي أورده (نور الثقلين) في ذيل هذه الآية عن الإمام الصادق عليه السلام حيث سئل عن حسن الخلق في هذه الآية فقال: «تَلِينُ جانِبَكَ وَتُطَيِّبُ كَلامَكَ وَتلِقى أَخاكَ ببُشرِ حسنٍ» «3».

ولكن الظاهر عدم التنافي بين هذين المعنيين.

وآخر ما يقال في هذا المورد والجدير بالتأمل في هذه الآية هو أنّ بعض المفسّرين إستفادوا من كلمة (على) في قوله «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» والتي تفيد مفهوم التسلّط والقدرة أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله له تسلط كامل على الفضائل الأخلاقية وكأنّ الأخلاق والقيم الإنسانية جزء من كيانه الشريف حيث يتحرّك من هذا الموقع بدون تكلّف وتصنّع.

وتستعرض «الآية

الثالثة» وصايا ونصائح (لقمان الحكيم) لولده حيث يذكر له أربعة امور مؤكّداً عليها:

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 114

الأول: قول: «وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ».

ثم أضاف «وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ»

وفي الثالث والرابع من هذه النصائح القيمة يوصي لقمان ابنه بالاعتدال في المشي وعدم رفع الصوت ويقول: «وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ».

وهذه الامور الأخلاقية تمثّل جزءاً مهمّاً من (حسن الخلق) في التعامل مع الآخرين وطريقة السلوك الاجتماعي بين الناس والمقترنة بالبشاشة والتواضع والإتّزان في الكلام والسلوك، ونستوحي من ذلك أنّ اللَّه تعالى قد إهّتم بكلمات لقمان الحكيم هذه بحيث ضمّنها في كتابه الكريم.

(تصعر) من مادة (صَعَرَ) على وزن خطر، وهي في الأصل نوع من الأمراض التي تصيب الابل فتلوي أعناقها، ثم اطلقت على أي نوع من ميل العنق، وهذا التعبير يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى وهو أنّ سوء الخلق نوع من المرض الذي يشبه في سلوكه سلوك الحيوان، والملفت للنظر أنّ هذا النهي عن هذا العمل لا يقتصر على المؤمنين بل يستوعب جميع أفراد البشر ويقول: «وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ». وعلى أيّة حال فإنّ جعل هذه الصفة الرذيلة إلى جانب التكبّر والافراط في المشي والصوت يبيّن أنّ جميع الصفات الرذيلة تؤدّي بشكل من الأشكال إلى نفور الناس وامتعاضهم.

وفي الرواية الواردة عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير عبارة «وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ» قال: «أَي لاتَذُل للنَّاسِ طَمعاً فِيما عِندَهُم وَلا تَمشِي فِي الأَرضِ مِرَحاً أي فَرحاً» «1».

«الآية الرابعة» من هذه الآيات محل البحث نقرأ خطاباً إلهياً لبني اسرائيل على أساس من العهد الإلهي للمخاطبين بعد التأكيد على التوحيد الخالص والاحسان للوالدين والأقربين واليتامى

والمساكين، يقول تعالى: «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ».

فهذا الخطاب يبيّن التوحيد من جهة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة من جهة اخرى يبيّن الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 115

أهميّة حسن المعاملة ومداراة الناس والتعامل بالأخلاق الحسنة، وبهذا يكون حسن الخلق في عملية التفاعل الاجتماعي وعلى مستوى الروابط الأخلاقية الحسنة للآخرين في عداد أهم التشريعات الإسلامية والمقرّرات الدينية.

وفي الواقع بما أنّ مال الإنسان محدود ولا يمكن أن يصل باحسانه المادي إلى المحتاجين كافة من الأقرباء والأصدقاء وسائر الفقراء فقد ورد جبران ذلك بالبشاشة وحسن الخلق مع الناس حيث يمثّل كنزاً لا يفنى كما ورد في الحديث المعروف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إِنّكُم لاتَسَعُونَ النّاسَ بِأَموالِكُم وَلَكن يَسَعُهُم مِنكُم بَسطَ الَوجهِ وَحُسنِ الخُلقِ» «1».

وفي حديث آخر عن الإمام الباقر في تفسير هذه الآية أنّه قال: «قُولُوا للنّاسِ أَحسَنِ ما تُحِبُّونَ أَن يُقالُ لَكُم» «2».

وصحيح أنّ المخاطبين بهذه الآية هم بنو اسرائيل، ولكنّ خصوصية المورد لا تخصّص الآية بهؤلاء المخاطبين حيث إنّ هدف القرآن الكريم هو بيان أصل كلّي لجميع أفراد البشر.

«الآية الخامسة» تتحرّك من خلال بيان مسألة البشاشة والتعامل مع الآخرين حتّى لو كانوا أعداءاً ولا سيّما في مقام دعوتهم إلى الحق والطريق القويم، ومن ذلك نجد أنّ الأمر الإلهي لموسى عليه السلام بايصال الرسالة الإلهية إلى فرعون الطاغية الذي إستعبد بني اسرائيل وأنّ الآية تتحدّث عن خطاب اللَّه تعالى لموسى وهارون عليهما السلام: «اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى* فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى».

هذا التعبير يبيّن أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الحق لابدّ أن تكون مقرونة باللّيونة واللطف والتعامل من موقع المحبّة والرحمة لا سيما

مع الاشخاص الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 116

المنحرفين بأمل أن يؤثر هذا السلوك الأخلاقي والإنساني في قلوبهم.

وهنا يثار هذا السؤال، وهو ما الفرق بين قوله: «يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى»؟

ويمكن القول بأنّ المقصود من ذلك أنّكما إذا حدثتماه بكلام ليّن وفي نفس الوقت ذكرتم له بصراحة ووضوح مضمون الدعوة الإلهيّة وبدلائل منطقيّة فلعله يقبل ويؤمن بها من أعماق قلبه، ولو لم يؤمن فلا أقل فانه سيخاف من العقوبة الإلهية بسبب العناد والاصرار على الكفر والابتعاد عن طريق الحق:

ويقول (الفخر الرازي): «نحن لا نعلم لماذا أرسل اللَّه تعالى موسى إلى فرعون مع أنّه يعلم أنّه لا يؤمن أبداً؟ ثم يقول: في مثل هذه الموارد ليس لنا سوى التسليم في مقابل الآيات القرآنية ولا سبيل إلى الاعتراض» «1».

ولكن جواب هذا السؤال واضح ولا ينبغي أن يخفى على من مثل الفخر الرازي، لأنّ اللَّه تعالى يهدف إلى إتمام الحجة، أي حتّى بالنسبة إلى الأشخاص الذين لا يؤمنون قطعاً فإنّ اللَّه تعالى يتمّ الحجّة عليهم كي لا يقفوا في الآخرة موقف الاعتراض على العقاب الاخروي وأنّهم لم يصل إليهم النداء الإلهي ولم يجدوا رسولًا أو نبيّاً يخبرهم بالخبر كما ورد هذا المضمون في الآية 165 من سورة النساء حيث يقول تعالى: «رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئلّا يَكُونَ للنّاسِ عَلى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعدَ الرُّسُلِ».

وأمّا قوله لعله (يتذّكر أو يخشى) فهو بمعنى أنّ طبيعة التبليغ لابدّ وأن تكون مقرونة باللين والمداراة ليصل الإنسان إلى النتيجة المتوخّاة، رغم أنّه قد يواجه النبي الإلهي موانع صعبة تنبع من ذات الأفراد، وبعبارة اخرى أنّ التبليغ المقرون باللّين والمحبّة هو مقتضي للقبول لا علّة تامّة.

وبديهي أنّه بالرغم من أنّ المخاطب في هذه الآية هو موسى وهارون فحسب ولكن مفهوم

الآية شامل لجميع المبلّغين لرسالات اللَّه والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وهكذا يتّضح أنّ الإنسان قد يتحرّك من موقع هداية الناس باللّين والعطف والمداراة ويحقّق الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 117

نجاحاً أكبر بكثير ممّا لو استخدم طرق اخرى مقرونة بالخشونة والجفاء الروحي لتحقيق هذا الهدف، وهذا المعنى مجرّب على مستوى الممارسة بكثرة.

«الآية السادسة» والأخيرة من الآيات محل البحث تقرّر أنّ المداراة واللّين محبّذة حتى مع الأعداء الشرسين وتؤثر في أعماق نفوسهم تأثيراً بالغاً وتقول الآية: «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ».

وبالطبع فإنّ دفع السيئات بالحسنات له طرق ومصاديق مختلفة، أحدها أن يتعامل الشخص من موقع المداراة والأدب والبشاشة مع عدوّه المعاند والحقود إلى درجة بحيث يمكن أن ينقلب هذا الإنسان الحقود إلى صديق محبّ ويتحوّل بصورة تامّة من حالة العداوة والبغضاء إلى حالة الصداقة والمحبّة.

والملفت للنظر أنّ الآية التي تليها تؤكد على أنّ هذه المرتبة هي من شأن الصابرين والذين يتمتّعون بحظ وافر من الإيمان والتقوى والتوفيق وتقول: «وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ».

وطبعاً فالوصول إلى هذه المرتبة من حسن الخلق بحيث يواجه الإنسان السيئات بعكسها من الحسنات ليست من شأن كلّ إنسان لأنها تحتاج إلى تسلط كامل على قوى النفس ولا يستطيع ذلك إلّا من اوتي حظاً عظيماً من سعة الصدر وتخلّص من عقدة الانتقام.

ومن مجموع الآيات محل البحث نستوحي هذا المفهوم القرآني في دائرة الأخلاق الإسلامية وهو أنّ القرآن الكريم دعى الناس إلى حسن الخلق والتعامل فيما بينهم من موقع المحبّة والمداراة، وفي ذلك كان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله اسوة ونموذجاً كاملًا في هذا السلوك الإنساني بحيث يمكن القول

بأنّ أحد معجزات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله هي سلوكه الأخلاقي العظيم.

أهميّة حسن الخلق في الروايات الإسلامية:

هناك روايات كثيرة مذكورة في المصادر الإسلامية حول حسن الخلق مع الناس وكيفية التعامل معهم في حركة التفاعل الاجتماعي، والتعبيرات الواردة في هذه الروايات عن هذه الفضيلة الأخلاقية إلى درجة من الكثرة والتأكيد أننا قلّما نجد نظيراً لها في النصوص الإسلامية، وهذا يبيّن مدى إهتمام الإسلام في هذه الخصلة الحميدة، ونختار من بين الروايات الكثيرة ما يلي:

1- ورد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «الإِسلامُ حُسنُ الخُلُقِ» «1».

2- ونقرأ عن الإمام علي عليه السلام في حديث لطيف يقول: «عِنوانُ صَحِيفَةُ المُؤمنُ حُسنُ خُلُقِهُ» «2».

ونعلم أنّ ما يذكر في عنوان الصحيفة وكتاب عنوان أعمال الإنسان هو أفضل ما يمكن ذكره في هذه الصحيفة، وبعبارة اخرى يكتب في العنوان القدر الجامع والمشترك لجميع مفردات الأعمال والسلوك الأخلاقي في واقع الإنسان ونفسه.

3- وفي حديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «أَكثَرُ ما تَلِجُ امَّتِي الجَنَّةَ التّقوى وَحُسنُ الخُلُق» «3».

4- وفي حديث آخر عن أميرالمؤمنين عليه السلام قال: «أَكْمَلُكُم إِيماناً أَحسَنَكُم خُلقاً» «4».

وما ذكر آنفاً من الأحاديث الشريفة هو بعض الروايات في أهميّة حسن الخلق.

والآن نستعرض قسماً آخر من الروايات التي تتحدّث عن النتائج والآثار الماديّة والمعنوية على هذا السلوك الأخلاقي:

1- نقرأ في حديث عن الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «الخُلْقُ الحَسَنُ يُذِيبُ السَّيِّئَةَ» «5».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 119

2- وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه و آله قال: «إِنَّ صاحِبَ الخُلقِ الحَسَنِ لَهُ مِثلُ أَجرِ الصَّائِمِ» «1».

3- ورد في حديث ثالث عن الإمام الصادق عليه السلام: «إِنَّ اللَّهَ تَبارَكَ وَتَعالى لَيُعطي

العَبدَ مِنَ الثَّوابِ عَلى حُسنِ الخُلقِ كَما يُعطي المُجاهِدُ فِي سَبيلِ اللَّهِ» «2».

وبهذا يتبيّن أنّ صاحب الخلق الحسن يتميّز على من يقوم الليل في العبادة والمجاهد في سبيل اللَّه ويضاهيهما في الثواب حيث يطهّر حسن الخلق النفس الإنسانية من أدران الذنوب وتلوّثات الأهواء والنوازع الدنيوية، هذا بالنسبة إلى النتائج المعنوية لحسن الخلق، أمّا بالنسبة إلى الآثار والنتائج المادية والدنيوية فقد وردت تعبيرات مهمّة في النصوص الدينية منها:

4- نقرأ في حديث عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «حسُنُ الخُلقِ يُثبِتُ المَوَدّةَ» «3».

5- وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: «لا عَيشَ أَهنَأَ مِنْ حُسنِ الخُلقِ» «4».

6- ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «البِرُّ وَحُسنُ الخُلقِ يَعمُران الدِّيارَ وَيَزِيدانِ فِي الأَعمارِ» «5».

7- وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: «حُسنُ الخُلقِ يُدِرُّ الأرزاقَ» «6».

8- وفي حديث آخر عنه عليه السلام قال: «فِي سَعَةِ الأخلاقِ كُنُوزُ الأرزَاقِ» «7».

ومن مجموع هذه الروايات الإسلامية المذكورة أعلاه ندرك جيداً الأهميّة البالغة لحسن الخلق في حركة الحياة المادية والمعنوية للإنسان، ويتّضح من خلال ذلك تأكيد الإسلام على هذا الأمر المهم، وفي الواقع أنّ جميع النتائج الإيجابية والبركات المادية والمعنوية مترتبة على حسن الخلق مع الناس بحيث يمكن القول بأنّ حسن الخلق أحد الاسس في الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 120

دائرة المفاهيم الإسلامية والتعليمات الدينية.

وهنا ينبغي الإشارة إلى بعض النقاط:

تعريف حسن الخلق:

لعل من الامور الواضحة هو مفهوم حسن الخلق فلا حاجة إلى تعريفه لوضوح معناه ومداه لدى الناس، ولكن لغرض إستجلاء هذا المفهوم أكثر نقول: إنّ حسن الخلق عبارة عن مجموعة من الصفات والسلوكيات التي تتمثّل بمداراة الناس، البشاشة، الكلام الطيب وإظهار المحبّة، ورعاية

الأدب، التبسّم، والتحمّل والحلم مقابل أذى الآخرين وأمثال ذلك، فلو إمتزجت هذه الصفات مع العمل وترجمها الإنسان في حركة الواقع الخارجي سمّي ذلك حسن الخلق.

وفي حديث جامع جميل عن الإمام الصادق عليه السلام في تعريف حسن الخلق ورد أنّ أحد أصحاب الإمام سأله: ما حَدُّ حُسنِ الخُلقِ؟

قال الإمام عليه السلام: «تَلِينُ جانِبَكَ وَتُطَيِّبُ كَلامَكَ وَتلقى أَخاكَ ببُشرٍ حسنٍ» «1».

وفي حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في تفسير حسن الخلق قال: «إِنَّما تَفسِيرُ حَسنُ الخُلقِ ما أَصابَ الدُّنيا يَرضى وَإِن لَم يُصِبهُ لَم يَسخَطْ» «2».

النتائج المترتبة على حسن الخلق:

قرأنا في الروايات المذكورة آنفاً نقاط مهمّة تتحدّث عن النتائج والآثار المادية والمعنوية لحسن الخلق في حركة الإنسان والواقع الاجتماعي وتحتاج إلى شي ء من التفصيل والتحليل.

ومن الآثار الاجتماعية والدنيوية لهذه السمة الأخلاقية هو أنّ حسن الخلق يتسبب في الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 121

كسب محبّة الآخرين وتعاطفهم مع صاحب هذا الخلق، وهذه المسألة ثابتة بالتجربة للجميع تقريباً وأنّه يمكن اصطياد قلوب الناس من خلال التعامل معهم من موقع المحبّة وحسن الخلق ورعاية الأدب وليس فقط أنّ الأشخاص العاديين ينجذبون إلى حسن الخلق بل أهل النظر والمعرفة والعلم كذلك.

ومن النتائج الاخرى أنّ حسن الخلق والبشاشة تعمّر الديار وتطيل العمر، لأنّ خراب الديار معلول للتضارب والنزاع وحالات الصراع بين الأفراد، فإذا أخلى النزاع والصراع الاجتماعي مكانه لحسن الخلق والتعامل باللطف والمحبّة بين الأفراد، فإنّ ذلك كفيل بتعميق أواصر الاخوة وتعميق عنصر التعاون بين الأفراد والذي يعتبر محور الخير وعامل مهم من عوامل البناء، مضافاً إلى ذلك فإنّ حسن الخلق يورث الإنسان الهدوء النفسي والاطمئنان الروحي الذي يعتبر من النتائج المباشرة للتعامل الأخلاقي الحسن مع الناس وعاملًا مهمّاً من عوامل

طول العمر، لأنّ من الثابت علميّاً هو أنّ من العوامل المهمّة لسرعة الموت وكثرته هو عنصر القلق والاضطراب الروحي الذي يعيشه الإنسان في مقابل تحدّيات الواقع الصعبة وبالتالي تكون منشأ لكثير من الأمراض المختلفة، ومن المسلّم أنّ حسن الخلق والتعامل باللّطف والمحبّة مع الناس يقللّ من شدّة الضغط العصبي والقلق النفسي وبالتالي يسبب طول العمر، والشي ء الآخر أنّ حسن الخلق يسبّب زيادة الرزق وكثرة العوائد المادية والموفقيّة في الكسب والتجارة، لأنّ التاجر والكاسب أو الطبيب لا يكون موفّقاً في عمله إلّابكسب المراجعين والمشترين، وأحد عوامل كسب الثقةوالاطمئنان بالشخص هو حسن خلقه وأدبه مع الطرف الآخر، فالكثير من الأشخاص يفضّلون شراء البضاعة وما يحتاجونه من السوق من امور المعاش من الكاسب الحسن الاخلاق والمعاملة مع المشتري ويرجّحونه على الشخص العبوس والحاد المزاج، ولهذا السبب فإنّ المؤسسات والشركات الاقتصادية الكبيرة تسعى إلى تعليم موظفيها على كيفية التعامل مع الزبائن بالصورة المطلوبة، ومن خلال ذلك يتحرّكون في كسب ثقة الزبائن بمؤسساته التجارية وشركاته الصناعية.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 122

وقد رأينا كثيراً في الرحلات الجوية أنّ بعض الشركات تقدّم لزبائنها ومسافريها بعض لعب الأطفال وقطع الحلوى مجّاناً لأطفالهم المسافرين معهم، ولعلّ قيمة هذه اللّعب ليست بكثيرة ولكنّها ذات أثر عميق في نفسيّة الأفراد وهذه الطريقة من التعامل مع الزبائن تورث في أنفسهم حسن الظن والثقة للطرف الآخر.

وطبعاً فالإسلام يؤيّد حسن الخلق من موقع الصفاء الذاتي والتعامل الإنساني لا كما هو السائد من الرياء والتظاهر في العالم المادي المعاصر، ولكن في نفس الوقت فانّه يعتبر أنّ حسن الخلق له آثار مادية ودنيوية كثيرة تمثّل في زيادة النعمة والبركة في حركة الحياة والواقع المادي.

وبالنسبة إلى البعد المعنوي فإنّ الثواب المترتّب على

حسن الخلق يعادل ثواب المجاهدين في سبيل اللَّه، ودليل ذلك واضح لأنّ المجاهد يسعى لنشر راية الإسلام ويتحرّك في هذا السبيل لأعلاء كلمة اللَّه، وصاحب الخلق الحسن أيضاً يتسبب في تعميق الثقة والانفتاح على الإسلاك في قلوب الناس، وقد ورد في الروايات الشريفة أيضاً أنّ أجر صاحب الخلق الحسن مثل أجر الصائم القائم، لأنّ الصائم القائم يتحرّك في هذا السلوك العبادي من موقع تهذيب النفس وتصفيتها، فكذلك الأشخاص الذين يتعاملون في مواجهة تحدّيات الواقع الصعب من موقع غلبة الأهواء وحفظ النفس في اطار الضوابط الأخلاقية والشرعية في سبيل اللَّه تعالى.

والخلاصة أنّ صاحب الخلق الحسن يكون محبوباً عند اللَّه تعالى وعند الخلق كذلك، ويكون موفقاً في حياته الشخصية والفرديّة وكذلك موفّقاً في حياته الاجتماعية.

ومن المعلوم أنّ حسن الخلق يعدّ أحد أركان عناصر الإدارة ولو أنّ عشرات من الشروط المتوفّرة في المدير المدبّر من دون عنصر حسن الخلق لما تسنى لهذا المدير أن يكون موفّقاً في عمله وتدبيره في حين أنّه لو كان حسن الخلق فانّ هذه الصفة بإمكانها العمل على ستر الكثير من نقاط الضعف أو جبرانها.

منابع حسن الخلق:

إنّ بعض الناس يتمعتون بحسن الخلق بشكل طبيعي، وهذا يعدّ من المواهب الإلهية للإنسان التي لا تكاد تكون من نصيب كل شخص، وعلى هذا الإنسان أن يشكر اللَّه تعالى بجميع وجوده على هذه الموهبة العظيمة.

ولكن الكثير من الناس ليسوا كذلك، فعليهم أن يقوموا بتعميق وتوكيد حسن الخلق في نفوسهم من خلال التمرين والممارسة على أرض الواقع العملي بحيث يكتسبوا طبيعة ثانية لهم ويكون حسن الخلق نافذاً وراسخاً في وجودهم وواقعهم النفسي، وأفضل طريق إلى نيل هذه الصفة الأخلاقية والمرتبة الكمالية هو أن يتفكّر الإنسان في الآثار المعنوية والمادية لهذه

الصفة الأخلاقية ويطالع الروايات الشريفة المذكورة سابقاً في هذا الباب ويتأمل فيها ويقوم بتكرارها بين الحين والآخر لتترسخ مضامينها في أعماق نفسه.

ومن جهة اخرى يجب أن يتحرّك الإنسان على المستوى العملي لتطبيق وترجمة هذه الصفة في سلوكه الخارجي، لأنّ الفضائل الأخلاقية كالقابليات البدنية تقوى وتشتد بالتمرين والتكرار كما نرى في الرياضين أنّهم بعد مدّة من التمرين يتمتعون بأبدان قوية وجميلة فكذلك الرياضة الأخلاقية بإمكانها أن تقوّي روح الإنسان.

ويقول علماء الأخلاق في صدد تربية الأفراد البخلاء على صفة الكرم أنّ الإنسان البخيل يجب أن يضغط على ميوله النفسي وحرصه على الأموال، ويتحرّك على مستوى بذل المال للآخرين في البداية، ورغم أنّ هذا العمل يكون عسيراً في البداية إلّاأنّه تدريجياً يصبح ميسوراً وبالتالي يعتاد الإنسان على حاله البذل والكرم بحيث أنّه لو لم يبذل من أمواله يوماً لوجد في نفسه امتعاضاً.

وكذلك يوصي علماء الأخلاق الشخص الجبان بأن يحضر إلى ميادين القتال والمواجهة مع العدو حتى تزول عنه حالة الخوف والجبن بالتدريج ويحل محلّها صفة الشجاعة والجرأة والإقدام.

وهكذا بالنسبة لأصحاب الخلق السي ء، فإنّهم من خلال التمرين والممارسة المستمرة

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 124

لموارد ومصاديق حسن الخلق فإنّهم سيتمكّنون في المستقبل من توفير رأس مال كبير من هذه الصفة الإنسانية وينتفعون من بركاتها ونتائجها الإيجابية في حياتهم النفسية والاجتماعية.

ومضافاً إلى كل ذلك ونظراً إلى أنّ أحد عوامل سوء الخلق هو التكبّر والغرور وكذلك الحدّة والغضب وروح الانتقام وأحياناً يكون بسبب الحرص والبخل والحسد، فلو أنّ الإنسان أراد أن يكون حسن الخلق في جميع موارد الحياة الفردية والاجتماعية لوجب عليه أن يدفع ويزيل هذه الصفات والحالات السلبية عن واقعه النفسي.

عليه أن يراعي حدّ الاعتدال في القوّة الغضبيّة والشهوية وأن تكون

له سعة الافق وشرح الصدر ليتمكّن بذلك من تطهير قلبه وروحه من الأنانية والحسد والبخل وبالتالي يورثه ذلك حسن الأخلاق ويكون في أمان من سوء الخلق مع الناس.

وعليه فإنّ تحصيل هذه الفضيلة الأخلاقية الكبيرة تتطلب وجود وتوّفر مجموعة من الصفات الحسنة في واقع الإنسان النفسي حيث إنّه بدونها لا يكون حسن الخلق في سلوكه الأخلاقي.

ويقول (الغزالي) في هذا الصدد: كما أنّ صاحب الوجه الحسن لا يكون كذلك بجمال العين فقط بل لابدّ أن يضم إليه جمال الأنف والفم وجميع أعضاء الوجه، ليكون جميلًا وكاملًا في مجال الجمال البدني والمادي، فكذلك حال الجمال الباطني والمعنوي فما لم يصل الإنسان إلى حد الاعتدال في قواه الأربعة ... العلم والغضب والشهوة والعدالة، فإنّه لا يصل إلى مقام الجمال الباطني.

ولا شك أنّ عامل (الوراثة) يوثّر في سلوك الإنسان الأخلاقي حيث يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: «حُسنُ الخُلقِ بُر هانُ كَرمِ الأعراقِ» «1».

ويقول عليه السلام في مكان آخر: «أطهَرُ النّاسِ أَعراقَاً أَحسَنُهُم أَخلاقاً» «2».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 125

وهناك ملاحظة ينبغي الالتفات إليها في البحوث الأخلاقية وهي، أنّ الفضائل الأخلاقية لا يمكن إكتسابها وتحصيلها من دون التوفيق الإلهي والامداد الربّاني، فيجب الاستمداد من اللَّه تعالى في سبيل تحصيل هذه الملكات الأخلاقية الفاضلة وغرسها وتنميتها في واقع الإنسان وروحه.

ونقرأ في حديث شريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «الأخلاقُ مَنائِحُ مِن اللَّهِ عَزَّوَجَلَّ فَإذا أَحَبَّ عَبداً مَنَحَهُ خُلُقاً حَسَناً وَإِذا أَبغَضَ عَبدَاً مَنَحَهُ خُلقاً سَيِّئاً» «1».

سيرة الأولياء:

ومن أفضل الطرق لكسب فضيلة حسن الخلق وملاحظة نتائجها الإيجابية على واقع الإنسان هو التحقيق في سيرة الأولياء العظام.

1- نقرأ في حديث عن الإمام الحسين عليه السلام أنّه قال: «كَانَ

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله دَائِمُ البُشر، سَهلُ الخُلق، لَينُ الجَانبِ، لَيسَ بِفَظٍّ ولا غلِيظٍ ولا سَخّابٍ، ولا فَحّاشٍ، ولا عيّابٍ، ولا مَدّاحٍ، ولا يَتَغافَلُ عَمّا لايَشتَهِي، ولا يُؤيس مِنهُ، قَد تَركَ نَفسَهُ مِنْ ثَلاث: كَانَ لايَذُّمُ أَحداً، ولا يُعيّرُه، ولا يَطلُبُ عَورَتَهُ، ولايَتَكَلَّمُ إِلّا فَيما يَرجُو ثَوابَهُ، إِذا تَكَلَّمَ أَرقَ جُلساؤُهُ كَأَنّما عَلى رُؤوسِهِم الطَّيرُ، وإذا تَكَلَّمَ سَكَتُوا وإذا سَكَتَ تَكَلَّمُوا لايُسارِعُون عِندَهُ بِالحَديثِ، مَن تَكَلَّمَ نَصتُوا لَهُ حَتّى يَفرَغَ حَدِيثُهُم عِندَهُ حَديث إِلَيهم، يَضحَكُ ممّا يَضحَكُونَ مِنهُ، وَيَتَعَجَّبُ ممّا يَتَعَجَّبُونَ مِنهُ، يُصبِّرُ الغريبَ عَلى الجَفوةِ فِي المنطِقِ، وَيَقُولُ: (إِذا رَأَيتُم صاحِبَ الحَاجَة يَطلُبُها فَأَرفِدُهُ)، ولا يَقبَلُ الثَّناءَ إلّامِنْ مُكافي ء، ولا يَقطَعُ عَلَى أَحدٍ حَدِيثَهُ حَتّى يَجُوزَهُ فَيَقطَعُهُ بِانتهاء أَو قِيام» «2».

2- ونقرأ في حالات الإمام علي عليه السلام في الرواية المعروفة أنّ الإمام كان قاصداً الكوفة فصاحب رجلًا ذميّاً فقال له الذمّي: أين تريد يا عبداللَّه، قال: اريد الكوفة، فلما عدل الطريق الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 126

بالذمّي عدل معه علي عليه السلام، فقال له الذمي: أليس زعمت تريد الكوفة؟ قال: بلى.

فقال له الذمي: فقد تركت الطريق، فقال عليه السلام: قد علمت، فقال له: فلم عدلت معي وقد علمت ذلك؟

فقال له علي عليه السلام: «هذا مِن تمام الصُّحبةِ أَن يُشيِّعَ الرّجلُ صاحِبهُ هُنيئةً إذا فارَقَهُ وَكَذلِكَ أَمرنا نَبيِّنُا».

فقال له الذمي: هكذا أمركم نبيّكم؟ فقال: نعم، فقال له الذمّي: لا جرم إنّما تبعه من تبعه لأفعاله الكريمة، وأنا أشهد على دينك، فرجع الذمّي مع الإمام علي عليه السلام، فلما عرفه أسلم» «1».

3- وفي حديث آخر في تفسير الإمام الحسن العسكري أنّه قال: حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء عليها السلام فقالت: إنّ

لي والدة ضعيفة وقد لبس عليها في أمر صلاتها شي ء وقد بعثتني إليكِ فأجابتها فاطمة عليها السلام عن ذلك فثنت فأجابت ثم ثلثت إلى عشرة فأجابت ثم خجلت في الكثرة فقالت: لا أشق عليك يا ابنة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قالت فاطمة: هاتي وسلي عمّا بدا لك، أرأيت من اكترى يوماً يصعد إلى سطح بحمل ثقيل وكراه مائة ألف دينار يثقل عليه؟ فقالت: لا، فقالت: اكتريت أنا لكل مسألة بأكثر من ملأ ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤاً فأحرى أن لا يثقل عليَّ، سمعت أبي صلى الله عليه و آله يقول: «علماء شيعتنا يحشرون فيخلع عليهم خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجدهم في إرشاد عباد اللَّه ..» «2».

وهذا الصبر العجيب والتعامل الملي ء بالمحبّة واللطف وهذا التشبيه الجميل الباعث على إزالة الحياء من السائل من كثرة سؤاله كل واحدة منها مثال جميل على حسن خلق الأولياء العظام حيث ينبغي أن يكون درساً بليغاً وعبرة نافعة في طريق إرشاد الناس إلى سلوك مثل هذه الممارسات الأخلاقية.

4- وممّا ورد عن حلم الإمام الحسن عليه السلام أنّ شامياً رآه راكباً (في بعض أزقة المدينة)

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 127

فجعل يلعنه والحسن لا يردّ، فلمّا فرغ أقبل الحسن عليه السلام فسلّم عليه وضحك فقال:

«أيُّها الشّيخ أَظُنُّك غَريباً، وَلَعلَّك شُبّهت، فَلَو استَعتَبتَنا أَعتَبناكَ، وَلَو سَأَلتَنا أَعطَيناكَ، وَلَو استَرشَدتَنا أَرشدناك، وَلَو استَحمَلتَنا أَحملناكَ، وإن كُنتَ جائِعاً أَشبَعنَاك، وَإِن كُنتَ عُرياناً كَسوناك، وإِن كُنتَ مُحتاجاً أَغنَيناكَ، وإِن كُنتَ طِريداً آويناكَ، وإن كانَ لَكَ حاجَةً قَضيناها لَكَ، فَلَو حَركتَ رَحلَكَ إِلينا وَكُنتَ ضَيفَنا إِلى وَقتِ إرتحالِك كانَ أَعود عَلَيكَ، لأنَّ لَنا مَوضِعاً رَحِباً وَجاهاً عَريضاً وَمالًا كَثَيراً».

فلمّا سمع الرجل كلامه

بكى، ثم قال أَشهدُ أَنّك خَليفة اللَّه في أرضه، اللَّهُ أَعلَمُ حيثُ يَجعلُ رسالتهُ وكنتَ أَنت وأبوك أبغضُ خلق اللَّه إليَّ، والآن أَنت وأبُوكَ أحبُّ خلق اللَّهِ إليَّ، وَحوّل رحله إليه، وكان ضيفه إلى أن ارتحل، وصار معتقداً لمحبتهم «1».

5- وجاء في كتاب «تحف العقول»: أنّ رجلًا من الأنصار جاء إلى الإمام الحسين عليه السلام يريد أن يسأله حاجة، فقال عليه السلام: «يا أخا الأنصار صُن وجَهك عَن بَذلِ المسألةِ وارفع حاجتَك فِي رقعةٍ فإنّي آت فِيها ما ساركَ إن شاء اللَّه»، فكتب الأنصاري: يا أبا عبداللَّه إنّ لفلان عليَّ خمسمائة دينار وقد الجّ بي فكلّمه ينظرني إلى ميسرة، فلما قرأ الإمام الحسين عليه السلام الرقعة، دخل إلى منزله فأخرج صرّة فيها ألف دينار وقال عليه السلام له: «أَما خمسمائة فاقض بِها دينك وأمّا خمسمائة فاستعن بِها على دَهرِكَ ولا تَرفع حاجتَكَ إلّاإِلى أحد ثلاث: إِلى ذِي دين، أَو مروّة، أو حسب، فأمّا ذو الدين فَيصُون دِينُهُ، وأَمّا ذو المُروة فإنّه يستحي لمروّته، أَمّا ذو الحسب فيعلم أنّك لم تكرم وجهكَ أن تَبذلُه فِي حاجتِكَ فَهو يَصون وَجهكَ أن يردَك بِغير قضاءِ حاجتِك» «2».

6- ونقرأ في حالات الإمام زين العابدين أنّه وقف على علي بن الحسين عليه السلام رجل من أهل بيته فأسمعه وشتمه فلم يكلّمه، فلما انصرف قال لجلسائه: قد سمعتم ما قال هذا الرجل وأنا احب أن تبلغوا معي إليه حتّى تسمعوا منّي ردي عليه.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 128

فقالوا له: نفعل ولقد كنّا نحبّ أن تقوله له ونقول، قال: فأخذ نعليه ومشى وهو يقول:

«... وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الُمحْسِنِينَ» «1».

فعلمنا أنّه لا يقول له شيئاً قال: فخرج إلينا متوثباً

للشر وهو لا يشك أنّه إنّما جاءه مكافياً له على بعض ما كان منه فقال له علي بن الحسين عليه السلام: «يا أَخي إنَّكَ كُنتَ قَد وَقفتَ عليَّ آنفاً قُلتَ وَقُلتَ فإن كُنتَ قَد قُلتَ ما فيَّ فأنا استغفرُ اللَّهَ مِنهُ وإن كُنتَ قُلتَ ما لَيس فيَّ فَغفرَ اللَّهُ لَكَ».

قال (الراوي) فقبل الرجل بين عينيه وقال: بلى قلت فيك ما ليس فيك وأنا أحق به.

قال الراوي الحديث: والرجل هو الحسن بن الحسن عليه السلام «2».

7- ونقرأ في حالات الإمام الباقر: عن محمد بن سليمان عن أبيه قال: كان رجل من أهل الشام يختلف على أبي جعفر عليه السلام (الإمام الباقر) وكان مركزه بالمدينة يختلف إلى مجلس أبي جفعر يقول له: يا محمد ألا ترى أنّي إنّما أغشى مجلسك حياء منك ولا أقول أنّ أحداً في الأرض أبغض إليَّ منكم أهل البيت، وأعلم أنّ طاعة اللَّه وطاعة رسوله وطاعة أميرالمؤمنين في بغضكم ولكن أراك رجلًا فصيحاً لك أدب وحسن لفظ، فإنّما اختلافي إليك لحسن أدبك.

وكان أبو جعفر عليه السلام يقول له خيراً ويقول: لن تخفى على اللَّه خافية فلم يلبث الشامي إلّا قليلًا حتى مرض واشتدّ وجعه، فلمّا ثقل دعا وليّه وقال له: إذا أنت مددت عليَّ الثوب فأت محمد بن علي عليه السلام وسله أن يصلّي عليَّ واعلمه إنّي أنا الذي أمرتك بذلك.

قال: فلمّا أن كان في نصف الليل ظنّوا أنّه قد برد وسجّوه، فلمّا أن أصبح الناس خرج وليّه إلى المسجد، فلمّا أن صلّى محمد بن علي عليه السلام وتورّك وكان إذا صلّى عقب في مجلسه، قال له: يا أبا جعفر إنّ فلان الشامي قد هلك وهو يسألك أن تصلي عليه.

فقال أبوجعفر عليه السلام:

كلّا إنّ بلاد الشام بلاد صرد والحجاز بلاد حر لهبها شديد انطلق فلا

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 129

تعجلنّ على صاحبك حتى آتيكم ثم قام عليه السلام من مجلسه فأخذ وضوءاً ثم عاد فصلّى ركعتين ثم مدّ يده تلقاء وجهه ما شاء اللَّه ثمّ خرّ ساجداً حتّى طلعت الشمس ثم نهض فانتهى إلى منزل الشامي، فدخل عليه فدعاه فأجابه ثم أجلسه وأسنده ودعا له بسويق فسقاه وقال لأهله: املؤوا جوفه وبرّدوا صدره بالطعام البارد. ثمّ انصرف عليه السلام، فلم يلبث إلّا قليلًا حتّى عوفي الشامي فأتى أبا جعفر عليه السلام فقال: اخلني فأخلاه، فقال: أشهد أنّك حجّة اللَّه على خلقه وبابه الذي يؤتى منه فمن أتى من غيرك خاب وخسر وضلّ ضلالًا بعيداً.

قال له أبو جعفر عليه السلام: وما بدا لك؟

قال: أشهد أنّي عهدت بروحي وعاينت بعيني فلم يتفاجأني إلّاومناد ينادي اسمعه بأذني ينادي وما أنا بالنائم ردّوا عليه روحه فقد سألنا ذلك محمد بن علي.

فقال له أبوجعفر عليه السلام: «أَما عَلِمتَ أَنّ اللَّهَ يُحبُّ العَبدَ ويُبغِضُ عَمَلهُ ويُبغض العبد ويحبّ علمه؟»، (أي كما أنّك كنت مبغوضاً لدى اللَّه لكنّ عملك وهو حبّنا مطلوباً عنده تعالى).

قال الراوي: فصار بعد ذلك من أصحاب أبي جعفر عليه السلام «1».

8- ورد في الحديث المعروف في حالات الإمام الصادق المذكور في مقدمة (توحيد المفضل) أنّ المفضل بن عمر قال كنت ذات يوم بعد العصر جالساً في الروضة وبين القبر والمنبر وأنا مفكّر فيما خصّ اللَّه به سيّدنا محمداً من الشرف والفضائل، وما منحه وأعطاه وشرّفه به وحباه لا يعرفه الجمهور من الامّة، وما جهلوه من فضله وعظيم منزلته وخطر مرتبته، فإنّي لكذلك إذ أقبل ابن أبي العوجاء فجلس بحيث أسمع

كلامه، فلمّا استقرّ به المجلس إذا رجل من أصحابه قد جاء فجلس إليه فتكلّم ابن أبي العوجاء؟ فقال: لقد بلغ صاحب هذا القبر العزّ بكماله، وحاز الشرف بجميع خصاله، ونال الحظوة في كل أحواله، فقال له صاحبه: إنّه كان فيلسوفاً إدّعى المرتبة العظمى والمنزلة الكبرى، وأتى على ذلك بهجرات بهرت العقول، وضّلت فيها الأحلام، وغاصت الألباب على طلب علمها في بحار الفكر فرجعت خاسئات وهي حسير، فلمّا استجاب لدعوته العقلاء والفصحاء والخطباء

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 130

دخل الناس في دينه أفواجاً فقرن اسمه باسم ناموسه، فصار يهتف به على رؤوس الصوامع في جميع البلدان ...

فقال ابن أبي العوجاء: دع ذكر محمد، فقد تحيّر فيه عقلي، وضلّ في أمره فكري، وحدثنا في ذكر الأصل الذي يمشي به، ثمّ ذكر ابتداء الأشياء وزعم أنّ ذلك باهمال لا صنعة فيه ولا تقدير، ولا صانع له ولا مدبّر، بل الأشياء تتكوّن من ذاتها بلا مدبّر، وعلى هذا كانت الدنيا لم تزل ولا تزال.

قال المفضّل: فلم أملك نفسي غضباً وغيظاً وحنقاً، فقلت: يا عدوّ اللَّه ألحدت في دين اللَّه، وأنكرت الباري جلّ قدسه الذي خلقك في أحسن تقويم، وصوّرك في أتمّ صورة، ونقلك في أحوالك حتى بلغ بك إلى حيث انتهيت.

فقال ابن أبي العوجاء: يا هذا إن كنت من أهل الكلام كلّمناك، فإن ثبت لك حجّة تبعناك، وإن لم تكن منهم فلا كلام لك، وإن كنت من أصحاب جعفر بن محمد (الصادق)، فما هكذا يخاطبنا، ولا بمثل دليلك يجادلنا، ولقد سمع من كلامنا أكثر ممّا سمعت، فما أفحش في خطابنا ولا تعدّى في جوابنا، وإنّه للحلوم الرزين العاقل الرصين لا يعتريه خرق ولا طيش ولا نزق، ويسمع كلامنا ويصغي إلينا

ويستعرف حجّتنا حتى إذا استفرغنا ما عندنا وظننا أن قد قطعناه أدحض حجّتنا بكلام يسير وخطاب قصير يلزمنا به الحجّة، ويقطع العذر، ولا نستطيع لجوابه ردّاً، فان كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه «1».

9- ونقرأ في حالات الإمام موسى بن جعفر أنّ رجلًا من ولد عمر بن الخطاب كان بالمدينة يؤذيه ويشتم علياً عليه السلام قال: وكان قد قال له بعض حاشيته دعنا نقتله فنهاهم عن ذلك أشدّ النهي وزجرهم أشدّ الزجر وسأل عن العمري فذكر له أنّه يزرع بناحية من نواحى المدينة، فركب إليه في مزرعته فوجده فيها فدخل المزرعة بحماره فصاح به العمري لا تطأ زرعنا فوطئه بالحمار حتى وصل إليه فنزل فجلس عنده وضاحكه وقال له: كم غرمت في زرعك هذا قال له: مائة دينار قال: فكم ترجو أن يصيب، قال له: أنا لا أعلم الغيب، قال: إنّما

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 131

قلت لك كم ترجو أن يجيئك فيه قال: أرجو أن يجيئني مائتا دينار، قال: فأعطاه ثلاثمائة دينار، وقال: هذا زرعك على حاله، قال: فقام العمري فقبل رأسه وانصرف.

قال الراوي: فراح المسجد فوجد العمري جالساً فلمّا نظر إليه قال: اللَّه أعلم حيث يجعل رسالته، قال: فوثب أصحابه فقالوا له: ما قصتّك؟ قد كنت تقول خلاف هذا، قال: فخاصمهم وشاتمهم، قال: وجعل يدعو لأبي الحسن موسى كلّما دخل وخرج، قال فقال أبو الحسن موسى الكاظم عليه السلام لحاشيته الذين أرادوا قتل العمري: «أيما كان خير ما أردتم أو ما أردت أصلح أمره بهذا المقدار» «1».

10- وهكذا ورد في سيرة الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام وكيفية تعامله مع الناس من موقع المحبّة واللطف، نقل عن اليسع بن حمزة، قال: كنت في

مجلس أبي الحسن الرضا عليه السلام احدثه وقد اجتمع إليه خلق كثير يسألونه عن الحلال والحرام، إذ دخل عليه رجل طوال آدم فقال: السلام عليك يابن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله رجل من محبيك ومحبّي آبائك وأجدادك مصدري من الحج وقد افتقدت نفقتي وما معي ما أبلغ به مرحلة، فإن رأيت أن تنهضني إلى بلدي وللَّه عليَّ نعمة، فإذا بلغت بلدي تصدقت بالذي توليني عنك فلست بموضع صدقة.

فقال له الإمام عليه السلام: اجلس يرحمك اللَّه، واقبل على الناس يحدثهم حتّى تفرقوا وبقي هو وسليمان الجعفري وخيثمة وأنا، فقال: أتأذنون لي في الدخول؟

فقال له سليمان: قدم اللَّه أمرك، فقام ودخل الحجرة وبقي ساعة ثم خرج ورد الباب وأخرج يده من أعلى الباب، وقال اين الخراساني؟ فقال: ها أناذا.

فقال عليه السلام: خذ هذه المأتي دينار فاستعن بها في مؤنتك ونفقتك وتبرك بها ولا تصدق بها عنّي واخرج فلا أراك ولا تراني، ثم خرج، فقال سليمان الجعفري: جعلت فداك لقد اجزلت ورحمت فلماذا استرت وجهك عنه؟

فقال عليه السلام: مخافة أن أرى ذلّ السؤال في وجهه لقضائي حاجته، أما سمعت حديث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «المُستَترُ بِالحسنَةِ تَعدِلُ سَبعِينَ حِجَّةً، وَالمُذِيعُ بِالسيئَةِ مَخذُولٍ، وَالمُستَترُ

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 132

بِها مَغفُورٌ لَهُ»، أَما سمعت قول الأول:

متى آته يوماً اطالب حاجة رجعت إلى أهلي ووجهي بمائه «1».

11- ونقرأ في حالات الإمام الجواد عليه السلام، عن علي بن جرير قال: كنت عند أبي جعفر ابن الرضا عليهما السلام جالساً وقد ذهبت شاة لمولاة له فأخذوا بعض الجيران يجرّونهم إليه ويقولون:

أنتم سرقتم الشاة، فقال أبو جعفر الإمام الجواد عليه السلام: ويلكم خلّوا عن جيراننا فلم يسرقوا شاتكم الشاة

في دار فلان، فاذهبوا فأخرجوها من داره، فخرجوا فوجدوها في داره، وأخذوا الرجل وضربوه وخرقوا ثيابه، وهو يحلف أنّه لم يسرق هذه الشاة إلى أن صاروا إلى أبي جعفر عليه السلام فقال: ويحكم ظلمتم الرجل فإنّ الشاة دخلت داره وهو لا يعلم بها، فدعاه فوهب شيئاً بدل ما خرق من ثيابه وضربه «2».

12- وكذلك ورد في سيرة الإمام الهادي عليه السلام عن أبي هاشم الجعفري قال: أصابني ضيقة شديدة فصرت إلى أبي الحسن علي بن محمد (الإمام الهادي عليه السلام) فأذن لي فلمّا جلست قال: يا أبا هاشم أي نعم اللَّه عزّوجلَّ عَلَيكَ تُريدُ أَن تُؤدّي شُكرَها؟ قال أبو هاشم: فوجمت فلم أدري ما أقول له.

فأبتدأ عليه السلام فقال: «رَزقَك الإيمانَ فَحرَّمَ بَدَنَك عَلى النّارِ، وَرَزَقَكَ العافِيةَ فَأعانَتكَ عَلَى الطَّاعَةِ، وَرَزَقَكَ القنُوعَ فَصانَكَ عَن التَّبَذُّلِ، يا أبا هاشم إِنَّما ابتدأتُكَ بِهذا لأَنّي ظننتُ تُريدُ أن تَشكُو لِي مَن فَعَلَ بِكَ هذا، وَقَد أَمرتُ لَكَ بِمائةِ دينار فَخُذها» «3».

13- وأورد (الكليني) في الجزء الأول من اصول الكافي- حول الإمام العسكري عليه السلام- أنّه قال: «حُبِس أبو مَحمّد (الإمام العسكري) عِندَ عَلي بن نارمش وهَو أنصب الناس وأشدّهم عَلى آل أبي طالب وَقِيلَ لَهُ: افعل به وافعل- يعني مِن السوء وَالاذى- فما أقام- الإمام- عِندَهُ إلّايَوماً حَتّى وَضَعَ خديَّه لَه، وَكانَ لايَرفَع بَصره إليهِ إجلالًا وإعظاماً فَخرجَ الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 133

مِن عِندِهِ وهو أحسنَ النّاسَ بَصيرة وَأحَسنهم فِيهِ قَولًا» «1».

14- وجاء في الروايات عن الإمام المهدي أرواحنا فداه وحسن خلقه وعنايته بالأشخاص الذين يتشرفون بلقائه روايات وقصص كثيرة، منها ما ذكره المرحوم (المحدّث النوري) في كتابه (جنّة المأوى) عن أحد علماء النجف الأشرف أنّه قال:

كان في النجف الأشرف رجل مؤمن يسمّى الشيخ محمد حسن السريرة، وكان في سلك أهل العلم ذا نية صادقة، وكان معه مرض السعال إذا سعل يخرج من صدره مع الأخلاط دم، وكان مع ذلك في غاية الفقر والاحتياج لا يملك قوت يومه، وكان يخرج في أغلب أوقاته إلى البادية إلى الأعراب الذين في اطراف النجف الأشرف ليحصل له قوت ولو شعير وما يتيسر ذلك، وكان يكفيه مع شدّة رجائه وكان مع ذلك قد تعلق قلبه بتزويج امرأة من أهل النجف، وكان يطلبها من أهلها وما أجابوه إلى ذلك لقلّة ذات يده، وكان في هم وغم شديد من جهة ابتلائه بذلك، فلما اشتدّ به الفقر والمرض وأيس من تزوج البنت عزم على ما هو معروف عند أهل النجف من أنّه من أصابه أمر فواظب الرواح إلى مسجد الكوفة أربعين ليلة أربعاء، فلابدّ أن يرى صاحب الأمر عجّل اللَّه فرجه من حيث لا يعلم ويقضي له مراده، فواظب على ذلك أربعين ليلة أربعاء، فلما كان الليلة الأخيرة وكانت ليلة شتاء مظلمة وقد هبّت ريح عاصفة فيها قليل من المطر وأنا جالس في الدكة التي هي داخل باب المسجد وكانت الدكة الشرقية المقابلة للباب الأول تكون على الطرف الأيسر عند دخول المسجد ولا أتمكن الدخول في المسجد من جهة سعال الدم ولا يمكن قذفه في المسجد وليس معي شي ء اتقي فيه عن البرد وقد ضاق صدري واشتد عليَّ همّي وغمّي وضاقت الدنيا في عيني وافكر أن الليالي قد انقضت وهذه آخرها وما رأيت أحداً ولا ظهر لي شي ء وقد تعبت هذا التعب العظيم وتحملت المشاق والخوف في أربعين ليلة أجيى ء فيها من النجف إلى مسجد الكوفة ويكون لي الاياس

من ذلك، فبينما أنا افكر في ذلك وليس في المسجد أحد أبداً وقد أوقدت النار

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 134

لأسخن عليها قهوة جئت بها من النجف لا أتمكن في تركها لتعودي عليها وكانت قليلة جدّاً إذا بشخص من جهة الباب الأول متوجهاً إليَّ، فلما نظرته من بعيد تكدرت وقلت في نفسي هذا اعرابي من أطراف المسجد قد جاء إليَّ ليشرب من القهوة أبقى بلا قهوة في هذا الليل المظلم ويزيد عليَّ همّي وغمّي، فبينما أنا افكر إذا به قد وصل إليَّ وسلّم عليَّ باسمي وجلس في مقابلي فتعجبت من معرفته باسمي وظننته من الذين أخرج إليهم في بعض الأوقات من أطراف النجف أسأله من أي العرب يكون؟ قال: من بعض العرب، فصرت أذكر له الطوائف التي في أطراف النجف فيقول: لا لا وكلما ذكرت له طائفة قال: لا لست منها فاغضبني، وقلت له: أجل أنت من طريطرة مستهزءاً هو لفظ بلا معنى، فتبسّم عليه السلام من قولي ذلك وقال: لا عليك من اين كنت ما الذي جاء بك إلى هنا، فقلت: وأنت ما عليك السؤال عن هذه الامور؟

فقال: ما ضرّك لو أخبرتني فاعجبت من حسن أخلاقه وعذوبة منطقه فمال قلبي إليه وصار كلّما تكلم ازداد حبّي له فعملت له السبيل من التتن وأعطيته فقال: أنت اشرب فأنا لا أشرب وصببت في الفنجان قهوة وأعطيته فأخذه وشرب شيئاً قليلًا منه ثم ناولني الباقي وقال: أنت اشربه فأخذته وشربته ولم التفت إلى عدم شربه تمام الفنجان، ولكن ازداد حبّي به آناً فآناً.

فقلت له: يا أخي قد ارسلك اللَّه إليَّ في هذه الليلة تأتيني أفلا تروح معي إلى أن نجلس في حضرة مسلم عليه السلام ونتحدّث؟ فقال: أروح

معك فحدّث حديثك.

فقلت له: أحكي لك الواقع أنا في غاية الفقر والحاجة مذ شعرت على نفسي ومع ذلك معي سعال أتنخع الدم وأقذفه من صدري منذ سنين ولا أعرف علاجه وما عندي زوجة وقد علق قلبي بامرأة من أهل محلتنا في النجف ومن جهة قلّة ما في اليد ما تيسّر أخذها.

وقد غرّني هؤلاء الملائية وقالوا لي: اقصد في حوائجك صاحب الزمان وبت أربعين ليلة أربعاء في مسجد الكوفة فانك تراه ويقضي لك حاجتك وهذه آخر ليلة من الأربعين وما رأيت فيها شيئاً وقد تحملت هذه المشاق فى هذه الليالي فهذا الذي جاءني هنا وهذه حوائجي.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 135

فقال لي وأنا غافل غير ملتفت: أمّا صدرك فقد برأ وأمّا الامرأة فتأخذها عن قريب، وأمّا فقرك فيبقى على حاله حتى تموت وأنا غير ملتفت إلى هذا البيان أبداً.

فقلت: ألا تروح إلى حضرة مسلم؟ قال: نعم فقمت وتوجّه أمامي فلّما وردنا أرض المسجد فقال: ألا تصلّي تحية المسجد، فقلت: افعل فوقف هو قريباً من الشاخص الموضوع في المسجد وأنا خلفه بفاصلة فاحرمت الصلاة وصرت أقرأ الفاتحة.

فبينما أنا أقرأ وإذا يقرأ الفاتحة قراءة ما سمعت أحداً مثلها أبداً، فمن حسن قراءته قلت في نفسي لعله هذا هو صاحب الزمان وذكرت بعض كلمات له تدل على ذلك ثم نظرت إليه بعدما خطر في قلبي ذلك وهو في الصلاة وإذا به قد أحاطه نور عظيم منعني من تشخيص شخصه الشريف وهو مع ذلك يصلّي وأنا أسمع قراءته وقد ارتعدت فرائصي ولا استطيع قطع الصلاة خوفاً منه فأكملتها على أي وجه كان وقد علا النور من وجه الأرض فصرت اندبه وأبكي واتضجر واعتذر من سوء أدبي معه بباب المسجد وقلت

له: أنت صادق الوعد وقد وعدتني الرواح معي إلى مسلم.

فبينما أنا اكلم النور وإذا بالنور قد توجّه إلى جهة مسلم فتبعته فدخل النور الحضرة وصار في جو القبة ولم يزل على ذلك ولم ازل أندبه وأبكي حتى إذا طلع الفجر عرج النور.

فلّما كان الصباح التفت إلى قوله، أمّا صدرك فقد برأ وإذا أنا صحيح الصدر وليس معي سعال أبداً، وما مضى اسبوع إلّاوسهّل اللَّه علي أخذ البنت من حيث لا أحتسب وبقي فقري على ما كان كما أخبر صلوات اللَّه وسلامه عليه وعلى آبائه الطاهرين «1».

وما ذكر أعلاه نماذج ونقاط مضيئة من سيرة الأئمّة والأولياء العظام وبما يكون بمثابة تجلّيات نورانية لسلوكهم الأخلاقي السامي وحسن تعاملهم مع الصديق والعدو، وهذه النماذج القليلة تدل على مدى تأكيد هؤلاء العظام والقادة على هذه السجية وأهميّتها في حياة الإنسان المعنوية، وما ورد في القرآن الكريم حكاية عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله من حسن الخلق العظيم نجده مترجماً في سلوكيات الأئمّة الكرام عليهم السلام في دائرة العمل والسلوك الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 136

الأخلاقي، نعم فإنّ الدعوة إلى حسن الخلق لا تكون باللسان فقط ومن خلال التوصيات والإرشادات الكلامية، بل إنّ الممارسة الأخلاقية والتحرّك الأخلاقي العملي يمثّل أسمى نداء أخلاقي وإرشاد تربوي في عملية التكامل المعنوي والحضاري للبشرية.

نتائج سوء الخلق:

النقطة المقابلة لحسن الخلق في واقع الإنسان وسلوكه الأخلاقي هي (سوء الخلق) حيث يمكن أن يفسّر على مستوى الخشونة والحدّة وسوء الكلام.

الأشخاص الذين يعيشون سوء الخلق مع الناس هم بمثابة بلاء عظيم على أنفسهم واسرتهم ومجتمعهم الذي يعيشون فيه.

إنّ سوء الخلق من أهم عوامل إيجاد الكراهية والتنفّر والتفرّق بين أفراد المجتمع، والأشخاص الذين يعيشون الابتلاء بهذه الحالة السيئة،

فإنّهم غالباً ما يعيشون الانزواء في المجتمع حيث يبتعد الناس عنهم ويتجنّبون معاشرتهم، وحتى لو اجبروا على معاشرتهم بسبب بعض الواجبات الاجتماعية أو بسبب مقامهم ومكانتهم الاجتماعية فإنّهم يشعرون بالنفور منهم في قلوبهم ويجدون في أنفسهم الرغبة في الابتعاد عنهم مهما أمكنهم ذلك.

وعندما يتوفّر هذا الخلق السي ء والمرض النفسي لدى علماء الدين ورجال المذهب، فإنّ ذلك يمثّل خطراً كبيراً على الدين والمجتمع ويتسبب في سوء ظن الناس بأساس الدين وفرارهم من التعاليم والإرشادات الدينية وهذا بحدّ ذاته ذنب عظيم جدّاً لا يمكن جبرانه.

ولهذا السبب ورد في الروايات تعبيرات شديدة تتحدّث عن سوء الخلق وأحياناً نقرأ فيها كلمات مذهلة ومخيفة عن النتائج الوخيمة والآثار السلبية لهذا المرض الأخلاقي، ومن ذلك نقرأ ما ورد في بعض هذه الروايات:

1- جاء في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله: «إيّاكُم وَسُوءَ الخُلقِ فإَنَّ سُوءَ الخُلقِ فِي النَّارِ لامَحالَةَ» «1».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 137

2- وفي حديث آخر- عبرّ عنه بأنّه لا توبة لصاحب الخلق السي ء- وعنه صلى الله عليه و آله قال: «أَبى اللَّهُ لِصاحِبِ الخُلقِ السَّي ء بِالتَّوبَةِ»

قيل: وكيف يا رسول اللَّه؟

قال: «لأنّهُ إذا تابَ مِنْ ذَنبٍ وَقَعَ فِي أَعْظَمَ مِنَ الذَّنبِ الَّذِي تابَ مِنهُ» «1».

ويمكن أن يكون المقصود من هذا الحديث الشريف أنّ الشخص السي ء الخلق عندما يتوب في مورد من الموارد ويقلع عن بعض الممارسات الأخلاقية، فإنّ ذلك من شأنه أن يوقعه فيما هو أسوأ من ذلك، لأنّ جذور هذا المرض لا زالت موجودةً في أعماق نفسه ممّا يزيد في عقدته النفسيّة، ولهذا السبب فإنّه لا يوفّق للتوبة الكاملة إلّابالاقلاع عن هذه الرذيلة الأخلاقية واجتثاث جذور من واقعه النفسي وباطنه المعنوي.

3- وجاء عن الإمام

علي عليه السلام في تقريره لحالة سوء الخلق أنّ: «أشَدُّ المَصائِبِ سُوءُ الخُلقِ» «2».

وهل هناك مصيبة أعظم من أن يكون الإنسان منزوياً ومعزولًا في مجتمعه وبين أرحامه ومعارفه ويقطع الصلة بينه وبين الخلق والخالق على السواء.

4- ونقرأ في الرواية الواردة عن هذا الإمام العظيم أنّه قال: «لا وَحشَةَ أَوحَشُ مِنْ سُوء الخُلقِ» «3».

ودليل ذلك واضح وهو أنّ الإنسان السي ء الخلق يغرق في الوحدة الموحشة ويعيش وحيداً منقطعاً عن الآخرين، ولهذا السبب ورد في حديث آخر أنّه قال: «لا عَيشَ لِسَّيِّى ء الخُلقِ» «4».

لأنّه يعيش دائماً حالة الضجر والتعب في نفسه ويودّي أيضاً إلى تعب المعاشرين له.

6- وشبيه هذه الرواية مع اختلاف يسير ما ورد في الحديث الشريف عن الإمام أمير

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 138

المؤمنين أيضاً أنّه قال: «لا سُؤدَدَ لِسَّيِّى ءِ الخُلقِ» «1».

فالإنسان السي ء الخلق لا يكون كبيراً في مجتمعه ودليل ذلك واضح أيضاً، لأنّ من أول شروط تحصيل المكانة الاجتماعية والسيادة والعزّة لدى الأهل والعشيرة هو التعامل الأخلاقي الحسن مع الآخرين ومراعاة الأدب واللّيونة واللطافة، فمن إفتقد رأس المال هذا فإنّه لا يصل إلى ذلك المقام.

7- وورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً قوله: «المُؤمِنُ لَيِّنُ الأرِيكَةَ، سَهلُ الخَلِيقَةَ، والكَافِرُ شَرِسُ الخَلِيقَةَ سَيِّى ءُ الطَّرِيقَةَ» «2».

علاج سوء الخلق:

إنّ ما أوردنا في الروايات أعلاه وروايات اخرى كثيرة لم نذكرها حرصاً على الايجاز وعدم الأطالة هو شاهد على أنّ سوء الخلق يعتبر أحد أسوأ الصفات النفسية والأخلاقية في واقع الإنسان وسلوكه الاجتماعي حيث يترتب عليها نتائج وخيمة في حركة الإنسان والمجتمع ويفضي إلى تدمير افق الحياة السعيدة ويبدّل عناصر الخير والسعادة في حياة الإنسان إلى الشر والشقاء.

وعلى هذا فإنّ الأشخاص الذين يعيشون هذه الرذيلة الأخلاقية يجب عليهم علاج

أنفسهم بأسرع ما يمكن، والاستفادة من كلمات ونصائح علماء الأخلاق في هذا المجال ومنها قولهم:

إنّ من يبتلى بهذه الصفة الرذيلة يجب عليه أن يفكّر ويتدبّر في عواقبها الوخيمة في كل يوم ويقرأ باستمرار الروايات التي تتحدّث عن آثارها السلبية في الدنيا والآخرة كما تقدمت الإشارة إليها، ويشاهد ما يجري في حياة المبتلين بهذا المرض وكيف أنّ الناس تنفر منهم وتبتعد عنهم وبذلك يعيشون حالة الوحشة والصعوبة في مقابل تحدّيات الواقع فلا

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 139

يشاركهم أو يواسيهم أحد من الناس فيما يصيبهم من بأساء وضرّاء في حركة الحياة، والخلاصة أنّه يتّعظ من حياة هؤلاء الذين يعيشون العزلة على اللَّه والخلق.

وما يجدر ذكره هو أنّه ينبغي لغرض قلع جذور الصفات الأخلاقية القبيحة من واقع الإنسان وروحه أن يتحرّك الإنسان على مستوى التمرّن وممارسة الرياضة المعنوية والاصرار في سلوك هذا الطريق وإن كان بواسطة التصنّع ليكون حسن الخلق له بصورة عادة وملكة، وفيما إذا وجد في نفسه عناصر وعوامل نفسية تبعث على سوء الخلق فانّه يتحرّك فوراً لازالتها وتطهير نفسه منها وذلك من خلال ممارسة الصلاة والعبادة وزيارة المراقد المقدّسة أو يتحرّك من موقع الترفيه السليم والألعاب المسلّية المشروعة ليدرأ هذا المرض وهذه العوامل السلبية من كيانه وشخصيته.

وكذلك يتحرّك الإنسان في طريق تهديد نفسه من خلال التلقين، وذلك بالايحاء إلى نفسه بأنّه صاحب خلق حسن ويتّصف بحسن التعامل والطيبة واللطف مع الآخرين، فمن شأن هذا التلقين أن يؤثّر أثره بالتدريج فيغرس في قلبه نبتة حسن الخلق ويعمل على تقويتها وتعميقها وإزالة عناصر الشر وعوامل سوء الخلق من ذاته.

وأحياناً يتحقّق سوء الخلق في النفس بسبب الجوع والعطش أو بعض الأمراض البدنية حيث ينبغي على هذا الإنسان أن

يعالج هذه المسألة من الأساس والجذور ويحاول الابتعاد عن الناس والتعامل معهم في هذه الحالة الاستثنائية مهما أمكن.

وأحياناً تنقل هذه الرذيلة الأخلاقية الإنسان من رفاقه وأصدقائه من الأراذل والأخلاء السيّى ء الخلق، فينبغي عليه أن يقطع أواصر الصداقة مع هؤلاء ويحاول الإرتباط من موقع الصداقة والمودّة مع من هم أهل لذلك ويعيشون الفضيلة وحسن الخلق مع الناس، وهكذا فإنّ أسوأ الناس أخلاقاً إذا تحرّك في اصلاح نفسه في علاج مرضه الأخلاقي من خلال ممارسة هذه التعليمات المذكورة آنفاً وعزم على تحقيق هذه الملكات الأخلاقية في نفسه بإرادة قويّة وسعى لإصلاح نفسه بتصميم راسخ فإنّه سوف يحصل على النتائج المرجوّة حتماً.

المزاح:

لقد ورد في الروايات الإسلامية وكذلك كلمات علماء الأخلاق بحوث واسعة عن (المزاح) حيث يتوصّل الإنسان من خلال مطالعتها ودراستها إلى هذه النتيجة، وهي أن المزاح إذا كان في حدّ الاعتدال ولم يكن ملوّثاً بالإثم والمعصية فإنّه ليس فقط غير قبيح، بل يمكن اعتباره من مصاديق حسن الخلق والأخلاق الفاضلة وحسن المعاشرة مع الناس، ولا شك أن الافراط في ذلك إمّا أن يوقع الإنسان في المعصية والإثم يتحول إلى أحد الرذائل الأخلاقية، وأحياناً يكون خطره أكثر من خطره في الكلام إذا كان من موقع الجد، لأنّ في المزاح نوع من الحرية لا توجد في الكلام الجدّي والذي ينطلق من موقع المسؤولية.

ويستفاد من سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله والأئمّة المعصومين عليهم السلام وعلماء الدين أنّهم كانوا يمارسون المزاح بشكل معتدل في معاشرتهم مع الناس.

وبهذه الإشارة نستعرض بعض الروايات التي تقرر حسن المزاح بصورة عامّة، ثم نستعرض الروايات التي تذم المزاح، ثم نذكر طريق الجمع بين هاتين الطائفتين من الروايات الشريفة:

1- ما ورد في الحديث

عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله لَيَسُرُّ الرَّجُلَ مِنْ أَصحابِهِ إِذا رَآهُ مَغمُوماً بِالمُدَاعَبَةِ» «1».

أجل فإنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله كان يستخدم المزاح لتحقيق الأغراض الإنسانية وادخال السرور على القلوب المهمومة والنفوس الكئيبة.

2- ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام حيث قال لأحد أصحابه: «كَيفَ مُداعَبَةِ بَعضُكُم بَعضاً».

قلت: قليل.

فقال الإمام عليه السلام: «أَفَلا تَفعَلُوا فإنّ المُداعَبَةَ مِنْ حُسنُ الخُلقِ وَإنَّك لَتُدخلُ بِها السُّرورَ

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 141

عَلى أَخِيكَ وَلَقَد كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله يُداعِبُ الرَّجُلَ يُريدُ أَن يَسُرَّهُ» «1».

3- وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً أنّه قال: «ما مِنْ مُؤمُنٍ إلّاوَفَيهِ دُعابَةٌ، قلت: وَما الدُّعابَةُ؟ قال: المِزاح» «2».

ويستفاد من هذا التعبير أن المؤمن لا ينبغي أن يكون جافّاً، بل إنّ أغصان حسن الخلق هو المزاح وطبعاً مقرون بالتقوى.

4- ويستفاد من الروايات الشريفة أنّ المعصومين عليهم السلام أحياناً كانوا يتحرّكون لحث الآخرين للتمازح في مجلسهم ليتمّ بذلك إدخال السرور على قلوب المؤمنين، ففي كتاب الكافي للمرحوم (الكليني قدس سره) نقرأ حديثاً شريفاً يرويه عن معمر بن خلّاد قال: سألت أبا الحسن عليه السلام قلت: جعلت فداك الرجل يكون مع القوم فيجري بينهم كلام يمزحون ويضحكون؟

فقال عليه السلام: «لا بأسَ ما لَم يَكُن، فَظَننتُ أَنّه عنى الفحش، ثُمَّ قال: إنّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله كانَ يَأتِيهِ الأعرابِي فَيَهدِي لَهُ الهديَّةَ ثُمَّ يَقُولُ مكانَهُ: أَعطِنا ثَمَنَ هَديتِنا فَيضحَكُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله وَكَانَ إِذا اغتَمَّ يَقُولُ: ما فَعَلَ الأَعرابي لَيتَهُ أتانا» «3»

5- وقد ورد في الأحاديث الشريفة نماذج من موارد مزاح

النبي الأكرم صلى الله عليه و آله مع أصحابه منها ما ورد عن امرأة تدعى (ام أيمن) جاءت إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالت: إنّ زوجي يدعوك، فقال: ومن هو أهو الذي بعينه بياض، فقالت: واللَّه ما بعينه بياض، فقال: بلى أنّ بعينه بياضاً، فقالت: لا واللَّه.

فقال صلى الله عليه و آله: ما أحد إلّاوبعينه بياض»

.وفي مقابل هذه الأحاديث هناك أحاديث كثيرة تنهى عن المزاح منها:

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 142

1- في الحديث الوارد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «إِيّاكُم وَالمَزاحَ فَإنَّهُ يَذهَبُ بِماءِ الوَجهِ وَمَهابَةِ الرِّجالِ» «1».

2- وأيضاً في حديث آخر عن هذا الإمام أنّه قال: «إِذا أَحبَبتَ رَجُلًا فَلا تُمازِحهُ وَلا تُمارِهِ» «2».

3- وفي حديث شريف عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «إِيّاكُم وَالمَزاحَ فَإنَّهُ يَجُرُّ السَّخِيمَةَ وَيُورِثُ الضَّغِينَةَ وَهُو السَّبُّ الأصغَرُ» «3».

4- وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «لا تُمازِح فَيُجتَرَءُ عَلَيكَ» «4».

***

وعلى هذا الأساس يمكن القول أنّ المزاح يبعث على الذهاب بوقار الإنسان والحط من شخصيّته أمام الناس ويسبب العداوة والبغضاء بينهم ويوجب تجرّؤ الجهّال ويعرّض شخصية الإنسان إلى المهانة والضعف والاهتزاز.

ومن خلال مطالعة التعبيرات الواردة في روايات الطائفة الاولى المادحة للمزاح وروايات الطائفة الثانية الناهية عنه يمكن معرفة السبل إلى الجمع بين هاتين الطائفتين، وتوضيح ذلك أنّ المزاح أمر معقّد وأحياناً يتّسم بأنّه أشدّ من حالة الجدية في الكلام وبعبارة اخرى أنّ المزاح أمر رقيق جدّاً بحيث أنّه إذا خرج قليلًا عن حدّ المقرّر، فإنّ له آثار مخرّبة مدمّرة.

إذا كان المزاح في الأطار المقبول ولم يخرج عن حدّ الاعتدال وكان لغرض رفع السأم والتعب والحزن عنهم مع رعاية الجهات

الشرعية فإنّه يقع مطلوباً ومورد رضا اللَّه تعالى.

ولكن إذا كان المزاح لغرض الانتقام والسخرية بالطرف الآخر وبدافع الحقد والكراهية وخاصة إذا كان بلباس الجدّية فإنّه لا يحقق الامور المذكورة فحسب، بل إنّ البعض قد يهدف إلى أغراض شيطانية من خلال المزاح فلا شك في أنّه يقع مبغوضاً ومنفوراً وأحياناً

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 143

يكون أشدّ من السب والشتم.

وكذلك إذا استخدمت في المزاح كلمات واهنة ومبتذلة فلا شك أنّها تتسبب في هتك حرمة الإنسان وإزهاق شخصيته.

وهكذا إذا كان المزاح أمام أشخاص ليست لهم قابلية على تقبّله أو لا يحفظون حريم شخصيّة الإنسان ممّا يؤدّي إلى جرأتهم وتطاولهم على الكبير فيقولون من موقع المزاح ما يوهن شخصيته ويطعن في احترامه.

ومثل هذه الانحاء من المزاح ليست فقط غير مطلوبة بل أحياناً تقع في دائرة الذنوب الكبيرة أيضاً.

فعلى السالكين طريق الحق والذين يتحرّكون في تهذيب النفس وتزكيتها يجب عليهم الانتباه فلا يشطبون على المزاح تماماً ويحذفونه من حياتهم ويتحوّلوا إلى أشخاص جامدين ويعيشون الجفاف الروحي والعواطف البشرية واللطافة والمحبّة مع الآخرين، ولا يتورّطون مقابل ذلك في الذنوب أو الأعمال المنافية للمروءة عند ممارسة المزاح، فكثيراً ما رأينا بعض الأشخاص المتدينين حسب الظاهر عندما يتحدّثون في مجالسهم ويتمازحون مع الآخرين يطلقون ألسنتهم بالحكايات المبتذلة التي يشمّ منها رائحة الغيبة أحياناً أو التهمة أو إشاعة الفحشاء أو يتسبب كلامهم في إهانة بعض المسلمين وجرح كرامتهم.

وحتى لو كان المزاح يخلو من أي مطلب منافي للشرع، فإنّ الإكثار منه يسّبب آثار سلبية وكما يقول بعض العلماء (المَزاحُ فِي الكلامِ كَالمِلحِ فِي الطَّعامِ)، فلو كان أكثر من اللازم أو أقل منه لما كان الطعام سائغاً وطيّباً.

ومضافاً إلى ذلك فإنّ من يكثر من المزاح فانّ

كلامه الجدّي سوف يكون بدون قيمة، ولا يقبل الناس كلامه الجدّي كما يرام، وهذا المضمون ورد في الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين قال: «مَن كَثُرَ هَزَلُهُ بَطَلَ جِدُّهُ» «1».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 144

والملاحظة الجديرة بالذكر أنّ المزاح أحياناً يهدف إلى أغراض معقولة ومهمّة، فلو كانت هذه الأهداف الجديّة تدخل في المسائل التربوية والبنّاءة لكان مفيداً جدّاً، مثلًا أن يسعى الشخص لافهام الطرف الآخر من خلال المزاح أن يواظب على المسائل الدينية والقيم الأخلاقية، فمثل هذا العمل مفيد جدّاً، ولكن لو كان الهدف الجدّي المتضمّن للمزاح يؤدّي إلى مفسدة أو كان لغرض الانتقام وتخريب شخصية الآخرين، فإنّ ذلك المزاح يكون مبغوضاً ومذموماً جدّاً وذلك بأن يقوم الإنسان بهتك حرمة الأشخاص في لباس المزاح ويهدم شخصيّتهم ويعمل على تسقيطهم بهذه الوسيلة.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 145

الأمانة والخيانة

تنويه:

(الأمانة) من أهمّ الفضائل الأخلاقية والقيم الإسلامية والإنسانية والتي وردت كثيراً في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة، وقد أولاها علماء الأخلاق والسالكون إلى اللَّه تعالى أهميّة كبيرة على مستوى بناء الذات والشخصية، وعلى العكس من ذلك (الخيانة) التي تعدّ من الذنوب الكبيرة والرذائل الأخلاقية في واقع الإنسان وسلوكه الإجتماعي.

الأمانة هي في الحقيقة رأس مال المجتمع الإنساني والسبب في شدّ أواصر المجتمع وتقوية الروابط بين الناس في نظامهم الاجتماعي وحياتهم الدنيوية والاخروية في حين أنّ الخيانة بمثابة النار المحرقة التي تحرق جميع العلاقات الاجتماعية وتؤدّي إلى الفوضى والفقر والشقاء وبالتالي تخريب الاطر الإنسانية والحضارية في المجتمعات البشرية.

الأمانة من الصفات التي تربط الإنسان من جهة مع اللَّه تعالى وكذلك تربطه مع غيره من أفراد البشر، ومن جهة ثالثة ترسم علاقته مع نفسه أيضاً ومع الطبيعة والبيئة كذلك وقد اعتبرت الكتب السماوية والشرائع الإلهية أنّها

أمانة بيد البشر.

إنّ جميع النعم المادية والمواهب المعنوية الإلهية على الإنسان في بدنه ونفسه هي في الحقيقة أمانات بيد الإنسان.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 146

وهكذا الأموال والثروات المادية والمقامات والمناصب الاجتماعية والسياسية هي أمانات بيد الناس ويجب عليهم مراعاتها من موقع الحفظ وأداء المسؤولية.

الأولاد أمانة أيضاً بيد الوالدين، والطلاب أمانة بيد المعلمين، الماء والتراب والهواء وجميع ما خلقه اللَّه تعالى من الكائنات الطبيعية لتيسير حياة الإنسان في حياته الدنيا كل ذلك يعتبر أمانة غالية بيد الإنسان والتي يعدّ التفريط فيها وعدم أداء حقّها خيانة بالنسبة إلى هذه المواهب ومن الذنوب الكبيرة.

ونظراً إلى سعة مفهوم الأمانة والخيانة وإستيعابها لأبعاد مختلفة وواسعة من حياة الإنسان ندرك جيداً أهميّة هذه الفضيلة الأخلاقية.

بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته الحكيمة ما يلقي الضوء على صفة الأمانة والخيانة في حركة الإنسان والمجتمع.

إنّ «الأمانة» وردت في القرآن الكريم مرّات متعددة بصورة مفردة أحياناً وبصورة جمع أحياناً اخرى.

وقد وردت بالنسبة إلى ستة من الأنبياء الكبار بعبارة: «إِنّي لَكُم رَسُولٌ أَمِينٌ» عن النبي نوح عليه السلام في سورة (الشعراء، 107) والنبي هود عليه السلام (الشعراء، 125) والنبي صالح عليه السلام (الشعراء، 143) والنبي لوط عليه السلام (الشعراء، 162) والنبي شعيب (الشعراء، 178) والنبي موسى (الدخان، 18) وهذا يدلّ دلالة واضحة على أهميّة هذه الفضيلة الأخلاقية إلى جانب مهمّة إبلاغ الرسالة الإلهية، وبدون ذلك لا يمكن لهؤلاء الأنبياء من كسب ثقة الناس واعتمادهم على أقوالهم.

ومضافاً إلى ذلك فهناك آيات متعددة في سور مختلفة تتحدّث عن أهميّة الأمانة ولزوم رعايتها في سلوك الإنسان الفردي والاجتماعي حيث نستعرض الآن هذه الآيات ونفسّرها:

1- «وَالَّذِينَ هُمْ لِامَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ» «1».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 147

1-

«إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً» «1».

3- «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَاتَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» «2».

4- «فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ» «3».

5- «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولًا» «4»

تفسير وإستنتاج:

«الآية الاولى» تتحرّك من خلال بيان أوصاف المؤمنين الحقيقيين وضمن تبشيرهم بالفلاح والنجاة في الآخرة، وبعد بيان أهميّة الصلاة والأبتعاد عن اللغو والكلام لفارغ وأداء الزكاة واجتناب أي لون من ألوان الانحراف الجنسي يشير القرآن الكريم في الآية الخامسة والسادسة إلى مسألة حفظ الأمانة والالتزام بالعهد ويقول: «وَالَّذِينَ هُمْ لِامَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ».

ونفس هذا التعبير ورد في سورة المعارج الآية 32 ضمن بيان أوصاف الإنسان الجميلة والفضائل الأخلاقية ومنها الأمانة والوفاء بالعهد.

والملفت للنظر أنّ (الأمانات) الواردة في هذه الآية ذكرت بصورة الجمع وهي إشارة إلى أنّ الأمانة لها أنواع وأشكال مختلفة والكثير من المفسّرين ذكروا أنّ مفهوم الأمانة في هذه الآية لا يقتصر على الأمانة المالية بل يشمل الأمانات المعنوية كالقرآن الكريم والدين الإلهي والعبادات والوظائف الشرعية وكذلك النعم الإلهية المختلفة على الإنسان في حركة الحياة المادية والمعنوية.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 148

ومن هنا يتّضح أنّ المؤمن الواقعي والإنسان الذي يتمتع باللّياقة الكاملة هو الذي يتحرّك في سلوكه من موقع مراعاة الأمانة بصورها المختلفة ويهتم بالحفاظ عليها من موقع المسؤولية وأداء الوظيفة.

أمّا عطف الوفاء بالعهد على حفظ الأمانة فيبيّن هذه الحقيقة، وهي أنّ هذين المفهومين يعودان إلى جذر واحد ويشتركان في الأصل، لأنّ نقض العهد يعتبر نوع

من الخيانة في العهد والميثاق، ورعاية الأمانة نوع من الوفاء بالعهد والميثاق أيضاً.

وتعبير (راعون) مأخوذ من مادة (رعاية) وهي من مادة (رعى) التي يراد بها رعي الأغنام ومراقبتها في عملية سوقها إلى حيث الماء والكلاء في الصحراء، وهذا إنّما يدلّ على أنّ المقصود من هذه العبارة في الآية الكريمة هو أكثر من أداء الأمانة في مفهومها الظاهري، أي النظر والمحافظة والمراقبة للشي ء من جميع الجوانب.

وبديهي أنّ الأمانة تارة تكون ذات بعد فردي وتسلّم بيد شخص معين (كالأمانات المالية التي يودعها الإنسان لدى الآخرين) وتارة اخرى لها بعد جماعي مثل حفظ القرآن الكريم من التحريف والدفاع عن الإسلام والمحافظة على كيان الدول الإسلامية، فهي كلّها أمانات وضعت بيد المسلمين وعليهم أن يتحرّكوا بصورة جماعية ويتكاتفوا فيما بينهم من أجل حفظ وصيانة هذه الأمانات الإلهية.

وتتحرك «الآية الثانية» لتثبيت أمرين إلهيين:

الأول: يتحدّث عن أداء الأمانة.

الثاني: يتحدّث عن الحكم بالعدل فتقول الآية: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً».

ومع أنّ مسألة الحكومة العادلة أو التحكيم الصحيح والسليم بين الناس له مكانة سامية في نظر القرآن الكريم، ولكن في نفس الوقت ورد الأمر بأداء الأمانة قبله وهذا يبيّن الأهميّة

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 149

العظيمة للأمانة وأنّ لها مفهوم عام يستوعب في مضمونه التحكيم بين الناس من موقع العدل وأنّه أحد مصاديق أداء الأمانة، لأنّ الأمانة بمفهومها العام تشمل جميع المقامات والمناصب الاجتماعية التي تعتبر أمانات إلهية، وكذلك أمانات بشرية من قبل الناس بيد أصحاب المناصب هذه.

والتأكيدات الواردة في ذيل الآية الشريفة تقرّر من جهة أنّ الأمر بالأمانة والعدالة ما هي إلّا موعظة

إلهية حسنة للناس، ومن جهة اخرى تحذّر الجميع بأنّ اللَّه تعالى يراقب أعمالكم وسلوكياتكم، وهذا يعطي أهميّة مضاعفة على هذين المفهومين وهما رعاية الأمانة والعدالة.

ونقرأ في التفسير الكبير للفخر الرازي أنّ الأمانة لها ثلاث موارد وفروع:

الأمانة الإلهية، وأمانة الناس، وأمانة النفس، ثم يتطرّق الفخر الرازي إلى شرح كل واحدة من هذه الفروع والأغصان للأمانة بالتفصيل ومن جملتها أداء الواجبات وترك المحرمات حيث يعتبرها من موارد الأمانات الإلهية، ويقسّمها إلى تقسيمات عديدة، منها أمانة اللسان، أمانة العين والاذن (أي أنّ الإنسان يجب أن لا يتحرّك بالمعصية، والعين لا تنظر بنظر الخيانة، والاذن لا تسمع الكلام المحرّم).

أمّا الأمانات البشرية فهي من قبيل الودائع التي يضعها بعض الناس لدى البعض الآخر وكذلك ترك التطفيف في الميزان وترك الغيبة ورعاية العدالة من جهة الحكّام والامراء وعدم تحريك العوام من موقع التعصّب للباطل وأمثال ذلك، أمّا أمانة الإنسان بالنسبة إلى نفسه فيرى الفخر الرازي أنّ على الإنسان أن يختار لها خير الدين والدنيا ولا يستسلم لدوافع الشهوة والغضب وما يترتب عليهما من ذنوب وآثام. «1»

إنّ سعة مفهوم الأمانة وشمولها لكثير من الوظائف المهمّة والنعم الكثيرة قد ورد في الكثير من التفاسير المهمّة، منها تفسير (أبو الفتوح الرازي) و (القرطبي) وتفسير (في ظلال القرآن) وتفسير (مجمع البيان) وغيرها من التفاسير الاخرى.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 150

وقد ورد التصريح بهذا المعنى أيضاً في الروايات الإسلامية التي سوف نشير إليها لاحقاً.

أمّا ما ورد في شأن نزول هذه الآية فأنّه يشير بوضوح إلى سعة مفهوم الأمانة أيضاً، لأنّ سبب نزول هذه الآية كما ورد في الروايات هو أنّ النبي صلى الله عليه و آله عندما دخل مكّة منتصراً جاءه (عثمان بن طلحة) خازن الكعبة

بأمر من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وسلّم إليه مفاتيح الكعبة ليطهرها من الأصنام الموجودة في داخلها، وبعد أن تمّ تطهير الكعبة من الأوثان جاء العباس عمّ النبي صلى الله عليه و آله وطلب من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أن يكون خازن بيت اللَّه وأن يسلّمه مفاتيح الكعبة والذي يعتبر منصباً مهمّاً لدى المجتمع العربي والإسلامي آنذاك، ولكن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لم يوافق على هذا الطلب وأعاد المفتاح إلى (عثمان بن طلحة) ثم تلى هذه الآية الشريفة ( «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ...» هذا في حين أنّ عثمان بن طلحة لم يعتنق الإسلام بعد.

«الآية الثالثة» تتحرّك من موقع النهي عن ثلاثة أشياء مخاطبة المؤمنين في هذا النهي وهي: خيانة اللَّه، خيانة الرسول، خيانة أمانات الناس، وتقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ «1» وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ».

والمشهور بين المفسرين أنّ المقصود بحفظ أمانة اللَّه ورسوله والنهي عن خيانتهما هو عدم إفشاء أسرار المسلمين حيث قام بعض الأفراد من ضعفاء الإيمان إلى إفشاء أسرار المسلمين إلى المشركين بهدف حفظ منافعهم الشخصية ولكنّ اللَّه تعالى أعلم بيّنة ذلك، وكنموذج على هذا المضمون هو قصة (أبو لبابة) الذي أخبر عن بعض الأسرار العسكرية للمسلمين وكشفها لأعدائهم من اليهود من (بني قريظة)، أو قصة حركة النبي لفتح مكّة وإفشاء هذا السر لأبي سفيان، والمراد من الخيانة في أماناتكم الوارد في الآية الشريفة هو

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 151

الأمانات المتداولة بين الناس.

ويرى بعض آخر من المفسّرين أنّ المراد من خيانة اللَّه هي ما يتعلق بالوظائف والواجبات الدينية والشرعية، أمّا الخيانة للنبي فهي ما يتعلق بالسنن

والسلوكيات الأخلاقية، وأمّا خيانة أمانات الناس فهي ما يتعلّق بأموالهم المودعة لدى الآخرين.

وهناك احتمال آخر أيضاً أفضل وأشمل من الاحتمالات السابقة، وهو أنّ مفهوم الآية عام وشامل لجميع مصاديق ومفردات الأمانات المعنوية والمادية والمالية وغير المالية، وعلى هذا الأساس فالخيانة محرّمة لجميع أشكال الأمانة: الإلهية منها وأمانة النبي وهو الدين الذي أودعه النبي لدى امته، وكذلك أمانات الناس بيد بعضهم للبعض الآخر سواءً كانت متعلّقة بالامور المالية أو بأسرار المعيشة والحياة الشخصية لدى الأشخاص، ولذلك ورد في الحديث النبوي أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال لأبي ذر رضى الله عنه: «يا أبا ذر المَجالِس بِالأمانَةِ وإفشاءِ سرّ أَخِيكَ خِيانَة» «1».

وتوضح الآية 28 من سورة الأنفال هذه اللاحقة لهذه الآية أنّ الخيانة محرّمة حتى لو عرّضت أموال الإنسان ومنافع أولاده إلى الخطر (كما قرأنا في قصة أبي لبابة وأنّ وجود أمواله وأولاده لدى اليهود هو السبب في إفشاءه أسرار المسلمين العسكرية للعدو) فتقول الآية «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ» وعلى هذا فالأمانات الإلهية والبشرية ليست شيئاً يمكن التضحية والتساهل معه وخيانة هذه الأمانات بأعذار وتبريرات مختلفة.

«الآية الرابعة» تتعرض للأمانات والودائع المالية لدى الناس وتتحدّث في سياقها عن لزوم تنظيم الوثائق والمستندات بالنسبة إلى هذه الودائع وتقول: «فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ».

أي يمكنه ذلك بدون كتابة السند أو أخذ الرهن، وفي هذه السورة على الأمين حفظ

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 152

الأمانة وردّها إلى صاحبها بالموقع المناسب وعليه أن يخاف اللَّه فيما لو تحدّثت له نفسه بالخيانة.

أنّ تعبير الأمانة في الآية أعلاه يمكن أن يكون إشارة إلى القروض المالية التي يقرضها المسلم لأخيه المسلم

من دون كتابة وثيقة أو تأمين وديعة ورهن وذلك بسبب الثقة المتبادلة بين الأفراد، أو أنّها إشارة الى الأموال التي توضع لدى الشخص بعنوان الرهن، أو كليهما، وعلى كل حال فانّ الآية فيها دلالة واضحة على لزوم احترام الأمانة وأدائها في أيّة حالة.

أمّا «الآية الخامسة» والأخيرة من الآيات مورد البحث فتتحدّث أيضاً عن الأمانة الإلهية العظيمة التي عجزت السماوات والأرض والجبال عن حملها وحفظها ولكن الإنسان حملها لوحده وتقول: «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولًا».

فما هي هذه الأمانة العظيمة التي خشيت السماوات مع عظمتها والأرض مع سعتها والجبال مع صلابتها أن يحملنها في حين أنّ الإنسان الضعيف والصغير جدّاً قد حملها؟

ولقد أورد المفسّرون من القدماء والمعاصرين احتمالات كثيرة في تفسير هذه الآية، ولكنّ ما يقرب للنظر هو أنّ المقصود من الأمانة الإلهية الكبيرة هذه هو المسؤولية والتكليف الملقى على عاتق الإنسان حيث لا يتيسّر ذلك إلّابوجود العقل والحرية والإرادة.

أجل فإنّ التكليف والمسؤولية أمام اللَّه تعالى والناس والنفس هي وظيفة ثقيلة لا يكاد يتحملها ولا يليق بحملها أي موجود آخرسوى الإنسان، وبتبع ذلك فقد جعل اللَّه تعالى العقل والحرية والإرادة في عملية الانتخاب هي الثواب والعقاب، ومجموع هذه الصفات الثلاث تبيّن عظمة الإنسان بين المخلوقات بحيث إختاره الله لمقام الخلافة الإلهية وميزه على سائر المخلوقات الاخرى في عالم الوجود.

ولكن هذا الإنسان الظلوم والجهول لم يقدّر هذا المقام الرفيع وتورّط في منزلقات الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 153

الشهوة والأهواء الرخيصة وبذلك ظلم نفسه وحرمها من نيل السعادة العظيمة التي تنتظره في حركته التكاملية نحو الحق والانفتاح على اللَّه.

وعلى هذا الأساس فكون الإنسان ظلوماً وجهولًا إنّما

هو لم يكن بسبب قبول هذه الأمانة الإلهية، لأنّ قبولها علامة العقل وسبب الافتخار، ومن دون ذلك لا يصل إلى مقام الخلافة الإلهية، بل كونه ظلوماً وجهولًا بسبب عدم حفظ هذه الأمانة وسلوكه طريق الخيانة في أداء هذه المسوؤلية الكبيرة.

أجل فإنّ الأمانة التي من شأنها أن توصله إلى ذروة السعادة الحقيقية في حال حفظها، فإنّ خيانتها يتسبب كذلك في سقوط هذا الإنسان في مستنقع الذلّة والمسكنة والشقاء حتى أنّه يكون مصداق (بَل هُم أَضَلُ مِنَ الأنعامِ والدّوابِ).

وبعبارة اخرى: أنّ السموات والأرض والجبال مع عظمتها وسعتها ليست لها القابلية على قبول هذه الأمانة الإلهية، وأعلنت عدم صلاحيتها لذلك بحالتها التكوينية وبلسان حالها، ولكن الإنسان وبسبب وجود هذه القابلية والقوى الكريمة التي منحه اللَّه تعالى إيّاها أصبح لائقاً تكوينياً لقبول هذه المنحة والأمانة الإلهية، وهذا بحدّ ذاته إفتخار عظيم للإنسان من بين المخلوقات.

ولكن بما أنّ أكثر الناس لم يراعوا حق هذه الأمانة الإلهية ولم يتحرّكوا في سبيل حفظها وأدائها فلذلك إستحقوا عنوان الظلوم والجهول، لأنّهم ظلموا أنفسهم أشدّ الظلم بحرمانها من نيل هذا الإفتخار العظيم الذي منحه اللَّه تعالى للإنسان وعاشوا الغفلة عن هذه الموهبة الإلهية العظيمة وتركوها وراء ظهورهم.

وفي ذيل هذه الآية نجد إشارة إلى هذه النقطة المهمّة، وهي أنّ الخيانة في الأمانة إنّما تنشأ من الظلم والجهل، وهذا هو ما نسعى لتحقيقه وتقريره في هذا البحث الأخلاقي، أجل فانّ حفظ الأمانة يدل على العقل والعدالة، بينما الخيانة هي دليل على الظلم والجهالة.

وممّا تقدّم آنفاً يتّضح جيداً أنّ المراد من كون الإنسان ظلوماً وجهولًا هم الأشخاص الذين يعيشون حالة الكفر أو الذين يعيشون ضعف الإيمان والتقوى، وإلّا فإنّ أولياء اللَّه الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 154

تعالى

والصالحين من العباد الذين يتحرّكون في سلوكهم الأخلاقي والاجتماعي تبعاً للأنبياء والأولياء فإنّهم يراعون حق هذه الأمانة ويسعون لأدائها والقيام بهذه المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتقهم، وفي الحقيقة إنّ هؤلاء يمثّلون الهدف الأسمى من وجود عالم الخليقة ووجود الإنسان.

ومن مجموع ما ورد من الآيات أعلاه يتّضح جيداً أهميّة حفظ الأمانة (سواءً الأمانات الإلهيّة أو الإنسانية) وجعله من علامات العقل والإيمان والعدالة.

الأمانة والخيانة في الروايات الإسلامية:

أمّا ما ورد من الأحاديث الشريفة عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله والأئمّة المعصومين عليهم السلام فإنّه يحكي عن الأهميّة البالغة لهذه المسألة حيث وردت الأمانة تارة بعنوان أنّها من الاصول والمبادي ء الأساسية المشتركة بين جميع الأديان السماوية، وتارة اخرى بعنوان أنّها علامة للإيمان، وثالثة بعنوان أنّها سبب نيل الرزق والثروة والثقة والاعتماد لدى الناس وسلامة الدين والدنيا والغنى وعدم الفقر وأمثال ذلك، وفيما يلي نختار من هذه الروايات الشريفة ما يتضمّن هذه المعاني والمفاهيم العميقة:

1- ورد في حديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال للإمام علي عليه السلام: «يا أبا الحَسَنِ أَدِّ الأَمانَةَ للِبِرِّ والفاجِرِ فِي ما قَلَّ وَجَلَّ حتّى فِي الخَيطِ وَالمَخِيطِ» «1».

ويقول الإمام علي عليه السلام أنّ النبي قال لي ذلك في الساعة الأخيرة من حياته وكررها عليّ ثلاث مرّات.

2- وفي حديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «لا إِيمانَ لِمَنْ لاأَمانَةَ لَهُ» «2».

3- وفي حديث آخر عن الإمام الصادق أنّه قال: «إنّ اللَّهَ عَزَّوَجَلَّ لَم يَبعَثً نَبِيّاً إلّابِصِدقِ الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 155

الحِدِيثِ وَأَداءِ الأَمانَةِ إِلىَ البِرِّ وَالفاجِرِ» «1».

وهذا التعبير يوضّح أنّ جميع الأديان السماوية قد جعلت الصدق والأمانة جزءً مهمّاً من تعليماتها الدينية والإنسانية ومن الاصول الثابتة

في الأديان الإلهية.

4- ورد عن الإمام أيضاً على مستوى إمتحان إيمان الناس أنّه قال: «لا تَنظُروا إلى طُولِ رُكُوعِ الرَّجُلِ وَسُجُودِهِ فَإنَّ ذَلِكَ شَي ءٌ إِعتادَهُ فَلَو تَرَكَهُ إِستَوحَشَ لِذلِكَ وَلَكِنْ انظُرُوا الى صِدقِ حَدِيثِهِ وَأَداءِ أَمانِتِهِ» «2».

5- ومثل هذا المعنى ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تعبير شديد حيث قال: «لا تَنظُروا إلى كَثْرَةِ صَلاتِهِم وَصَومِهِم وَكَثْرَةِ الحَجِّ وَالمَعرُوفِ وَطَنطَنَتِهِم بِالَّليلِ وَلَكِنْ انظُرُوا إِلى صِدقِ الحَدِيثِ وَأَداءِ الأَمانَةِ» «3».

والهدف من هذا التعبير ليس هو أنّ هؤلاء لا يهتمّون بصلاتهم وصومهم أو يستخفّون بحجّتهم وإنفاقهم بل الهدف هو أنّ هذه الامور ليست هي العلامة الوحيدة لإيمان الفرد بل هناك ركنان أساسيان لدين الشخص أي الصدق والأمانة.

6- وورد عن الإمام زين العابدين عليه السلام في هذا المجال تعبير عجيب حيث يقول لشيعته:

«عَلَيكُم بِأَداءِ الأَمانَةِ فَوالَّذي بَعَثَ مُحَمَّداً صلى الله عليه و آله بِالحَقِّ نَبِيَّاً لَو أَنَّ قاتِلَ أَبِي الحُسَينِ ابنِ عَلَيٌّ عليه السلام ائتَمَننِي عَلَى السَّيفِ الَّذِي قَتَلَهِ بِهِ لَأَدَّيتُهُ إِلَيهِ» «4».

7- ومثل هذا المعنى ولكن بتعبير آخر ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً: «إَنَّ ضارِبَ عَلِيٌّ بِالسَّيفِ وَقاتِلَهُ إِذا إِئتَمَننِي وَاستَنصَحَنِي وَاستِشارَنِي ثُمَّ قَبِلتُ ذَلِكَ مِنهُ لأَدَّيتُ إِلَيهِ الأمانَةَ» «5».

8- وفي حديث آخر عن الإمام أيضاً يستفاد أنّ الوصول إلى المقامات السامية حتّى الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 156

للأئمّة المعصومين عليهم السلام مثل الإمام علي عليه السلام يتم عِبر صدق الحديث وأداء الأمانة، حيث يقول الإمام الصادق لأحد أصحابه ويدعى (عبد اللَّه بن أبي يعفور): «انظُر ما بَلَغَ بِهِ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه و آله فَأَلزَمَهُ» ثم قال: «فَإنَّ عَلِيّاً عليه السلام إِنّما بَلَغَ ما بَلَغَ عِندَ رَسُولِ اللَّه صلى

الله عليه و آله بِصدقِ الحَدِيثِ وَأداءِ الأمانَةِ» «1».

9- ونقرأ في حديث آخر بالنسبة إلى الآثار والنتائج الدنيوية المهمّة للأمانة والخيانة فقد ورد عن علي عليه السلام أنّه قال: «الأمانَهُ تَجُرُّ الرِّزقَ وَالخِيانَةُ تَجُرُّ الفَقرَ» «2».

10- وفي حديث مختصر وعظيم المعنى عن هذا الإمام عليه السلام أيضاً أنّه قال: «رَأَسُ الإسلامُ الأَمانَةُ» «3»

11- وورد شبيه لهذا الحديث مع اختلاف يسير عن لقمان الحكيم حيث أنّه قال: «يا بُنَيَّ أَدِّ الأَمانَةَ تَسلُمُ لَكَ الدُّنيا وَآخِرَتُكَ وَكُنْ أَمِيناً تَكُن غَنِيّاً» «4».

12- ونختم هذا البحث بحديث شريف آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «لا تَزَالُ امَتِي بِخَيرٍ ما تَحابُوا وَتَهادُّوا وَأَدُّوا الأَمانَةَ وَاجتَنبُوا الحَرامَ وَوَقَّرُوا الضَّيفَ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتوا الزَّكاةَ فَاذا لَم يَفَعَلُوا ذَلِكَ إبتَلَوا بِالقَحطِ وَالسِّنِينَ» «5».

***

هذه الروايات ما هي إلّاموارد مختارة من المصادر الإسلامية الواردة في باب الأمانة وتوضّح جيداً أن هذا المفهوم الأخلاقي على درجة عالية من الأهمية من بين التعليمات الإسلامية، وكذلك الصفة التي تقع في مقابل الأمانة أي الخيانة ومدى اضرارها بدين الإنسان وشخصيته من موقع تخريب الإيمان وأنّها تورث الشقاء والبعد عن اللَّه تعالى، وكل واحدة من هذه الروايات المذكورة آنفاً تشير إلى أحد الأبعاد والآثار البنّاءة للأمانة أو

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 157

الأبعاد والنتائج السلبية والمخربّة للخيانة، بحيث إنّ الإنسان عند مطالعتها والتأمل والتدبّر فيها يستوحي الكثير من المفاهيم الإسلامية والقيم الأخلاقية والاجتماعية المهمّة والبنّاءة في حركة الحياة والمجتمع.

فروع الأمانة:

عندما نتحدّث عن الأمانة فإنّ أغلب الناس يتبادر إلى أذهانهم الأمانة في الامور المالية، ولكن كما تقدّم في تفسير الآيات الواردة عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام أنّ الأمانة لها مفهوم واسع جدّاً بحيث تستوعب جميع المواهب الإلهيّة

والنعم الربانيّة على الإنسان.

هذه النعم والمواهب الإلهيّة المندرجة في مفهوم الأمانة تشتمل على مصاديق لا تعد، فهي ترد بالنسبة إلى القرآن الكريم والإسلام والإيمان والولاية وحتّى إلى أقل النعم والمواهب المادية والمعنوية.

الأحاديث الشريفة التي تؤكد على أنّ الأمانة تورث الغنى، وأنّ الخيانة تورث الفقر ناظرة إلى الأمانة المالية والمادية، ولكنّ الآية الشريفة وبعض الروايات التي تشير إلى عرض الأمانة على السموات والأرض لا تقصد الأمانة المادية والمالية قطعاً بل تمتد أبعد من ذلك وتنظر إلى الأمانات المعنوية.

ونقرأ في حديث عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام عندما يحين وقت الصلاة فإنّ حاله يتغيّر وعندما سئل عن ذلك قال: «جاءَ وَقتُ الصَّلاةِ، وَقتُ أَمانَة عَرضَها اللَّهُ عَلَى السَّمواتِ وَالأَرضِ فأَبَينَ أنْ يَحمِلنَها وأَشفَقنَ مِنها» «1».

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «إِنَّ اللَّهَ تَباركَ وَتَعالى خَلَقَ الأَرواحَ قَبَلَ الأَجسادِ بِأَلفَي عامٍ فَجَعَلَ أَعلاها وَأَشرَفَها أَرواحَ مُحَمَّدٍ وَعَليٍّ وَفاطِمَةَ وَالحَسنِ والحُسَينِ وَالأَئِمَةُ بَعدَهُم صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيهِم فَعَرضَها عَلى السَّمواتِ والأرضِ وَالجِبالِ ...

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 158

إلى أن يقول: فولايَتُهُم أَمانَةٌ عِندَ خَلقِي» «1».

ويستفاد من أحاديث اخرى أنّ مفهوم خلافة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «2» أيضاً مصداق مهم من مصاديق الأمانة.

وكذلك الصلاة والزكاة والحج هي أمانات وودائع إلهيّة. «3»

وكذلك الزوجة أيضاً أمانة إلهيّة «4».

ونقرأ في نهج البلاغة في كتاب أمير المؤمنين عليه السلام إلى الأشعث بن قيس، يقول له: «وإنَّ عَمَلَكَ لَيسَ لَكَ بِطُعمَةٍ وَلَكِنَّهُ فِي عُنُقِكَ أَمانَةً» «5».

وكذلك نقرأ في الحديث النبوي الشريف الذي ذكرنا فيما سبق أنّ «المَجالِس بِالأمانَةِ»»

، لأنّ في المجالس الخصوصية تذكر أسرار تخص المجلس.

وحتى ورد في بعض الروايات أنّ غسل الجنابة (بعنوان أنّه تكليف إلهي) هو أمانة إلهية

لدى المسلم «7».

وعلى أي حال فإنّ الأمانة والخيانة لا تختصان بعمل معيّن ومصداق خاص ومحدود، لأنّ النتائج المترتبة على هاتين الصفتين لا تتحدد بالامانة والخيانة المالية.

معطيات الخيانة والأمانة:

إنّ أهمّ معطيات الأمانة على المستوى الاجتماعي هي مسألة الاعتماد وكسب ثقة الناس، ونعلم أنّ الحياة الاجتماعية مبتنيّة على أساس التعاون والتكاتف بين أفراد المجتمع الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 159

لحل المشاكل والتخفيف من تحدّيات الواقع والظروف القاهرة والاستفادة الأفضل من مواهب الحياة والطبيعة، ولهذا فإنّ مسألة الثقة والاعتماد لها دور أساس في تأصيل هذا المفهوم الاجتماعي لأنّه لولا وجود الاعتماد المقابل فإنّ المجتمع سيتحوّل إلى جهنّم لا يطاق، ويتعامل الأفراد بينهم من موقع التوحّش والأنانية، ويسود قانون الغاب في مثل هذا المجتمع، وبدلًا من أن تتكاتف القوى والطاقات على مستوى بناء المجتمع والتصدي لتحدّيات الظروف القاهرة فإنّ هذه القوى سوف تتحرّك بالجهة المقابلة لتعميق التوحّش والتنفّر في المجتمع.

وبعبارة اخرى: إنّ المجتمع البشري سيفقد كل شي ء بدون وجود حالة الاعتماد المتقابل بالرغم من توفّر كافة الأمانات والمواهب الطبيعية الاخرى، وبعكس ذلك إنّ المجتمع الذي تتوفّر فيه حالة الاعتماد المتقابل سيحصل على كل شي ء بالرغم من فقدانه للإمكانات والموارد الطبيعية.

وهذا الاعتماد الاجتماعي يرتكز على ركنين:

1- الأمانة.

2- الصدق.

وما ورد في الروايات المذكورة آنفاً أنّ الأمانة تورث الغنى وعدم الحاجة والخيانة تورث الفقر فإنّ ذلك إنّما يشير إلى هذا الدليل.

وأمّا ما ورد في الروايات الشريفة أنّ جميع الأنبياء الإلهيين جعلوا من الأمانة وصدق الحديث محوراً لتعليماتهم فهو أيضاً ناظر إلى هذا المعنى.

ويذكر الكليني في (الكافي) قصّة جميلة في هذا الصدد ويقول: عن الحسين بن محمد، عن محمد بن أحمد النهدي، عن كثير بن يونس، عن عبدالرحمن بن سيّابة قال: لما هلك أبي سيّابة،

جاء رجل من إخوانه إليَّ فضرب الباب عليَّ، فخرجت إليه فعزّاني، وقال لي: هل ترك أبوك شيئاً فقلت له: لا، فدفع إليَّ كيساً فيه ألف درهم وقال لي: أحسن حفظها وكُلْ فضلها، فدخلت إلى امّي وأنا فرح، فأخبرتها، فلمّا كان بالعشيّ، أتيت صديقاً كان لأبي فاشترى لي بضائع سابري، وجلت في حانوت فرزق اللَّه جلّ وعزّ فيها خيراً كثيراً، وحضر

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 160

الحج، فوقع في قلبي، فجئت إلى امّي وقلت لها: إنّه قد وقع في قلبي أن أخرج إلى مكّة؟

فقالت لي: فردّ دارهم فلان عليه فهاتها، وجئت بها إليه فدفعتها إليه فكأني وهبتها له، فقال: لعلّك استقللتها فأزيدك؟

قلت: لا، ولكن قد وقع في قلبي الحج فأحببت أن يكون شيئك عندك، ثم خرجت فقضيت نسكي، ثمّ رجعت إلى المدينة فدخلت مع الناس على أبي عبداللَّه عليه السلام- وكان يأذن إذناً عاماً- فجلست في مواخير الناس وكنت حدثاً، فأخذ الناس يسألونه ويجيبهم، فلما خفّ الناس عنه، أشار إليَّ فدنوت إليه، فقال لي: ألك حاجة؟ فقلت: جُعلتُ فداك أنا عبدالرحمن بن سيّابة، فقال لي: ما فعل أبوك؟ قلت: هلك، قال: فتوجّع وترحّم، ثم قال: قال لي: أفترك شيئاً قلت: لا، قال: فمن أين حججت؟ قال: فابتدأت وحدثته بقصّة الرجل، قال فما تركني أفرغ منها حتّى قال لي: فما فعلت في الألف؟ قال: قلت: رددتها على صاحبها، قال: فقال لي: قد أحسنت، قال لي: ألا اوصيك؟ قلت: بلى جُعلت فداك.

قال عليه السلام: «عَلَيكَ بِصدقِ الحَديثِ، وَأَداءِ الأمانَةِ تُشرك النّاسَ فِي أَموالِهِم هكذا- وجمع بين أصابعه-»، فحفظت ذلك عنه، فزكيّت ثلاثمائة ألف درهم «1».

ونحن أيضاً رأينا في حياتنا أشخاصاً مثل هؤلاء الأشخاص فقد كان هناك تاجر متدّين في

النجف الأشرف يعرفه الكثير من المعاصرين أيضاً وبسبب إشتهاره بالأمانة فإنّ الناس كانوا يودعون عنده أموالهم وودائعهم مطمئنون إلى حد أنّ الكثير من العلماء والفضلاء وطلّاب العلوم الدينية كانوا يسجّلون سندات بيوتهم بإسمه لأنّه كان يمتلك الجنسيةالعراقية ولعلّه كان عند وفاته قد بلغ عدد البيوت المسجّلة باسمه ما يربو على الخمسماة بيت لهؤلاء العلماء والطلّاب ولم يواجه أي واحد منهم مشكلة في هذا المورد.

ومن جهة اخرى عندما تسود الأمانة في المجتمع وفي العائلة فإنّها ستكون سبباً لمزيد من الهدوء والسكينة الفكرية والروحية، لأنّ مجرّد احتمال الخيانة فإنّ ذلك يسبب القلق والخوف للأفراد بحيث يعيشون حالة من الإرتباك في علاقاتهم مع الآخرين ومن الخطر

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 161

المحتمل الذي ينتظر أموالهم أو أنفسهم أو أغراضهم أو مكانتهم الاجتماعية، ومن المعلوم أنّ الاستمرار في مثل هذه الحياة المربكة والموحشة عسير جدّاً وقد يورثهم الكثير من الأمراض الجمسية والروحية أيضاً.

ومن جهة ثالثة فإنّ الأمانة تقلل كثيراً من نفقات المعيشة ومصاريف الحياة وتسبب في الاقتصاد في الوقت والعمر والمال، لأنّ الخيانة إذا فتحت طريقها إلى المجتمع فانّ المسؤولين وأصحاب المواقع الاجتماعية يضطرون إلى تخصيص نفقات باهظة لإيجاد سجّلات خاصة ومحاسبين ومفتشين لدرء احتمال الخيانة في حساباتهم، وأحياناً يضطرون إلى إيجاد مفتشين على المفتشين الأوائل لضبط أعمالهم ويشرفوا على حساباتهم، ومع ذلك فانّ مثل هذه الامور لا تستطيع أن تحلّ المشاكل الناشئة من الخيانة تماماً، ولكن على أي حال يقتضي الواقع المفروض تخصيص هذه النفقات للتصدّي إلى هذه المشكلة، ونشاهد في مجتمعنا الحالي أيضاً مثل هذه الامور الأليمة بالنسبة إلى الامور المالية وعدم الأمن الاقتصادي وكثرة من يلقى في السجن بسبب زوال الثقة وعدم الاعتماد المتقابل بين الناس، ولو

أنّ أفراد المجتمع تحلّوا بقليل من الصدق والأمانة بدلًا من هذه النفقات والمصروفات والجهود المهدورة، فاننا سوف لا نبتلى بمثل هذا الاسراف الفضيع وإتلاف الثروات الاجتماعية الكبيرة.

ومن جهة رابعة فإنّ الأمانة قد تسبب في كسب المحبّة وتعميق أواصر الصداقة بين الأفراد، في حين أنّ الخيانة تعتبر عاملًا للكثير من الجرائم والحوادث السلبية وأشكال الخلل الاجتماعي، وإذا طالعنا وثائق المحاكم والسجون لرأينا أنّ الكثير من هذه الجرائم معلولة لحالة الخيانة، وعندما ندرس ظاهرة كثرة الطلاق وحالة إنحلال الأُسر وتلاشي العوائل نرى أنّ الكثير من هذه الحالات يعود إلى خيانة أحد الزوجين بالنسبة للآخر.

وفي بعض الروايات إشارة لطيفة إلى هذا المعنى حيث يقول النبي الأكرم صلى الله عليه و آله: «لا تَزَالُ امَتِي بِخَيرٍ ما تَحابُوا وَتَهادُّوا وَأَدُّوا الأَمانَةَ وَاجتَنبُوا الحَرامَ وَوَقَّرُوا الضَّيفَ وَأَقامُوا

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 162

الصَّلاةَ وَآتوا الزَّكاةَ فَاذا لَم يَفَعَلُوا ذَلِكَ إبتَلَوا بِالقَحطِ وَالسِّنِينَ» «1».

ومن جهة خامسة فإنّ مفهوم الأمانة يمتد ويتسع ليشمل الموارد والمسائل العلمية، فإنّ تطور العلوم والمعارف البشرية كان بسبب وجود العلماء الذين كانوا يتحرّكون من موقع الأمانة والصدق في تحقيقاتهم ومطالعاتهم وتجاربهم العلمية فكانوا يقدّمون للآخرين ما اكتسبوه من تجارب ثمينة وعلوم جديدة بأمانة وصدق، وهذا هو الذي أدّى إلى التطور الحضاري والعلمي في عالمنا المعاصر في حين أنّه لو لم يكن أصل الأمانة في المطالعات العلمية فإنّ ذلك قد يفضي إلى التيه العلمي ويتسبب في اضلال الناس ووقوعهم في التخبط الثقافي والعلمي.

ونقرأ في هذا الصدد حديث عن الإمام الصادق عليه السلام يقول: «كُلُّ ذِي صَناعَهٍ مُضطَرٌّ إِلى ثَلاثِ خِلالٍ يَجتَلِبُ بِها المَكسَبَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حاذِقاً بِعَمَلِهِ مُؤَدِّياً لِلأَمانَةِ فَيهِ، مُستَمِيلًا لَمَنْ إِستَعمَلَهُ» «2».

والجدير بالذكر أنّ الأمانة تدعو

الإنسان إلى صدق الحديث أيضاً كما أنّ صدق الحديث يدعو الإنسان إلى الأمانة في الجهة المقابلة، لأنّ صدق الحديث نوع من الأمانة في القول، والأمانة نوع من الصدق في العمل، وعلى هذا الأساس فإنّ هاتين الصفتين يرتبطان بجذر مشترك ويعبّران عن وجهين لعملةٍ واحدة، ولذلك ورد في الأحاديث الإسلامية عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «الأمانَةُ تُؤدِّي إِلى الصُّدقِ» «3».

وفي حديث آخر عن هذا الإمام عليه السلام أيضاً أنّه قال: «إذا قَويَتْ الأَمانَةُ كَثُرَ الصّدقُ» «4».

دوافع الأمانة والخيانة:

إنّ أغلب الأشخاص الذين يتحرّكون في سلوكياتهم من موقع الخيانة ويفضّلونها على الأمانة فأنّهم يعيشون ضيق الافق في منافعهم ومصالحهم ويفكّرون في المنافع العاجلة فحسب، لأنّ الخيانة تؤفّر لهم في الكثير من الموارد هذه المنافع العاجلة وتحقق لهم بعض المصالح الفردية على حساب اهتزاز كرامتهم المعنوية ومن دون أن يتفكّروا في العواقب الوخيمة لهذا السلوك في المستقبل على المستوى الدنيوي والاخروي ومكانتهم الاجتماعية.

هؤلاء الأفراد يعيشون في سجن الحرص والطمع فلذلك قليلًا ما يفكّرون في عواقب الخيانة، لأنّ المنافع العاجلة حجبت أعينهم وعقولهم عن مشاهدة ما يترتب على ذلك من سلبيات كثيرة في المستقبل.

هؤلاء وبسبب ضعف الإيمان وعدم الالتفات إلى القدرة الإلهيّة المطلقة التي تكفّلت برزق الناس جميعاً ووعدت من يعيش الأمانة والصدق منهم بالثواب العاجل والآجل فإنّهم قد حجبوا بصيرتهم عن ذلك جميعاً وتحرّكوا من موقع التغافل عن الوجدان وعن تحذيرات الشرع وتورّطوا في شراك الخيانة وفخاخ الشيطان.

وعلى هذا الأساس يمكننا في هذا الصدد ذكر دوافع الخيانة فيما يلي:

1- ضعف الإيمان وإهتزاز العقيدة وعدم التوجّه إلى حالة التوحيد الأفعالي للَّه تعالى وحاكميته المطلقة على جميع الأشياء.

2- غلبة الأهواء والشهوات وحبّ الدنيا.

3- تسلّط حالة الحرص والطمع على الإنسان.

4- عدم التفكّر في

نتائج الخيانة في حركة الحياة المادية والمعنوية.

5- ترك السعي المستمر والعمل الدؤوب لتحصيل المقاصد الدنيوية بطرق مشروعة وذلك بسبب التكاسل وحبّ الراحة وضعف الإرادة.

وعند الإلتفات إلى هذه الامور تتّضح النقطة المقابلة لها، وهي دوافع الأمانة وذلك:

إنّ الأمانة تنبع من الإيمان واليقين بقدرة اللَّه تعالى وعلمه المطلق والاعتماد عليه في جميع الامور.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 164

الأمانة تعدّ من معطيات العقل والتدبّر السليم والإلتفات إلى عواقب الامور ونتائج الأفعال.

الأمانة هي دليل على أنّ الإنسان يعيش الواقع الحاضر ويرى حقائق الامور ويترك الخوض في الأوهام والخرافات والتصورات الزائفة.

الأمانة تنبع من شخصية الإنسان السامية وتمثّل نتيجة لحالة التفاني والتعالي في الروح الإنسانية، لأنّ مثل هذا الإنسان لا يكون مستعداً لئن يبيع شخصيته ووجدانه لتحصيل المال والمقام وزخارف الدنيا عن طريق الخيانة.

وبكلمة واحدة فإنّ الأمانة وليدة الفهم والشعور والعقل والإيمان والاخلاص وأصالة الشخصية، وأحياناً يكون الفقر والظلم عاملان من عوامل الخيانة، فمن لا يحصل على حقوقه المشروعة في المجتمع من الطرق الصحيحة ويقع تحت طائلة الفقر والعوز فإنّه قد يؤدّي به إلى التلّوث بالخيانة، ولهذا نرى أن التعاليم الدينية أكّدت على أن يموّل القاضي من بيت المال بشكل تام كيما يحفظ أمانته في القضاء بين الناس، ونقرأ في عهد الإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام لمالك الأشتر أنّه يقول: «وَافسَحْ لَهُ فِي البَذلِ ما يُزِيلُ عِلَّتَهُ، وَتَقِلُّ مَعَهُ حاجَتُهُ إِلَى النَّاسِ، وَأَعطِهِ مِنَ المَنزِلَةِ لَديكَ ما لايَطمَعُ فِيهِ غَيرُهُ مِنْ خاصَّتِكَ لَيأَمَنَ بِذَلِكَ إِغتِيالَ الرِّجالَ لَهُ عِندَكَ فَانظُر فِي ذَلِكَ نَظَراً بَلِيغاً» «1».

ونختم هذا البحث بحديث مهم عن الإمام الصادق عليه السلام في هذا الصدد يشير فيه إلى مصادر الخيانة المتنوعة ويوصي بالتوجّه إليها لحفظ الأمانة في واقع الإنسان

والمجتمع فيقول: «مَنْ اؤتُمِنَ عَلى أَمانَةٍ فَأَدّاها فَقَد حَلَّ أَلفَ عُقدَةٍ مِنْ عُقَدِ النّارِ، فَبادِرُوا بِأَداءِ الأَمانَةِ، فَإنَّ مَنْ اؤتِمِنَ عَلى أَمانَةٍ وَكَّلَ بِهِ إبلِيسَ مِائةَ شَيطانٍ مِنْ مَردَةِ أَعوانِهِ لِيُضِلُّوهُ وَيُوسوِسُوا إِلَيهِ حتّى يُهلِكُوه إلّامَنْ عَصَمُ اللَّهُ عَزَّوَجَلَّ» «2».

طرق الوقاية والعلاج:

إنّ تعميق روح الأمانة في أفراد المجتمع والوقاية من الخيانة لا يتسنى إلّافي ظل التقوى والإيمان والالتزام الديني والأخلاقي، لأنّه كما تقدّم في الأبحاث السابقة أنّ أحد جذور الخيانة هو الشرك وعدم الاعتقاد الكامل بقدرة اللَّه تعالى ورازقيته، ولهذا فالأشخاص الذين يعيشون ضعف الإيمان ويتصوّرون أنّهم سوف يعيشون الفقر في حالة تحلّيهم بالأمانة والصدق وأنّهم سوف لا يحصلون على ما يحتاجونه إلّابواسطة الخيانة يكبلون أنفسهم بطوق الخيانة، ولكن عندما يتحرّكون من موقع تقوية دعائم الإيمان في قلوبهم وتعميق حالة التوكّل والاعتماد على اللَّه تعالى والثقة بوعده، فانّ ذلك يتسبب في تصحيح مسارهم في عملية الوصول وتحصيل مواهب الحياة.

ومن جهة اخرى فبما أنّ أحد العوامل المهمّة للخيانة هي الحاجة فاذن لابدّ للإنسان من تدبير حاجاته وحاجات من يلوذ به المعقولة والمشروعة بصورة حسنة لئلّا يضطرّ إلى كسر قيود الأمانة والتلّوث بالخيانة بدافع من حاجاته المادية والنفسانية.

ومن جهة ثالثة فانّ من الأسباب والعوامل المهمّة في الوقاية من التورط بالخيانة هو التفكّر في عواقبها الوخيمة في الدنيا والآخرة وما يترتب عليها من فضيحة وحرمان وزوال الثقة وماء الوجه أمام الخلق والخالق وبالتالي الابتلاء بالفقر المزمن الذي سعى إلى الفرار منه بارتكاب الخيانة، ومن المعلوم أنّ التأمل في هذه النتائج والافرازات السلبية لسلوك طريق الخيانة سوف يضعف الدافع في الإنسان لارتكابها.

عندما يتأمل الشخص نصيحة لقمان لابنه على مستوى بيان معطيات الأمانة حيث يقول: «يا بُنَيَّ أَدِّ الأَمانَةَ تَسلُمُ لَكَ

الدُّنيا وَآخِرَتُكَ وَكُنْ أَمِيناً تَكُن غَنِيّاً» «1».

فعندها يعيش الشوق في وجوده نحو تحصيل هذه الفضيلة الأخلاقية أي الأمانة ويجتنب التحرّك في خط الخيانة، ولو تأملنا كذلك كلام أمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول:

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 166

«رَأسُ الكُفِر الخِيانَةُ» «1».

ويقول في مكان آخر: «رَأسُ النِّفاقِ الخِيانَةُ» «2».

ويقول أيضاً في حديث آخر: «جانِبِ الخِيانَةَ فَإنَّها مُجانِبَةِ الإِسلامِ» «3»

فعندها يسيطر عليه الخوف من الخيانة ويدرك عظمة هذا الذنب الكبير الذي يساوق في إثمه وابتعاده عن اللَّه تعالى والإسلام الكفر والنفاق، وحينئذٍ سيتحرّك بعيداً عن ممارسة الخيانة أوالتفكير بها.

وإذا أردنا أن نتعمّق في خطر الخيانة وشؤمها فلنستمع إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله في حديثه المثير عن بعض عناصر الشر وعوامل الانحراف حيث يقول: «أَربَعٌ لاتَدخُلِ بَيتاً وِاحُدَةٍ مِنهُنَّ إلّاخَرَبَ وَلَم يَعمُرْ بِالبَرَكَةِ الخِيانَةِ والسَّرقَةُ وَشُربُ الخَمرِ والزِّنا» «4».

ومن المعلوم أنّ المجتمع الذي يعيش أحد هذه العناصر الأربعة أو كلّها فانّه يكون مصداقاً لهذا الحكم النبوي وسوف يخلو من البركة وبالتالي يصيبه الدمار والاندثار.

ومن الملفت للنظر أنّه كما أنّ الشخص الأمين يجب أن لا يخون الأمانة، فكذلك المودع للأمانة وصاحب المال يجب أن يكون ذكيّاً ولا يودع أمانته عند أي شخص كان، فإذا وضع أمانته تحت تصرّف شخص سي ء السمعة ثمّ خانه هذا الشخص فعليه أن يلوم نفسه كما ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم أنّه قال: «من أئتمن غير أمين فليس له على اللَّه ضمان لأنّه قد نهاه أن يأتمنه».

ويقول الإمام الباقر عليه السلام: «من إتمن غير مؤتمن فلا حجه له على اللَّه».

وعلي هذا الأساس يجب على جميع الإداريين وأصحاب المسؤوليّات في المجتمع الإسلامي أن يكونوا على درجة من الذكاء والحنكة ولا يضعوا

امور الناس والمناصب الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 167

الحسّاسة في الحكومة والتي هي أهم أمانة إلهيّة بيدهم عند الأشخاص الذين يشم منهم رائحة الخيانة، فإنّه عند ذلك سوف يفسد دينهم ودنياهم ويكونون مسؤولين أمام اللَّه تعالى.

الأمانة والخيانة في بيت المال:

إنّ الأمانة خلق محمود ومطلوب في أي مكان ومورد، ولكن بالنسبة إلى بيت المال ورؤوس الأموال المادية والمعنوية المتعلّقة بالمجتمع لا بشخص معيّن فقد ورد التأكيد على الأمانة فيها بشكل خاص في النصوص الدينية، والحكمة في ذلك واضحة لأنّه أولًا: أنّ البعض يتصوّر أنّ مثل هذه الأموال بما أنّها لا تقع في دائرة الممتلكات لشخص معيّن بل هي ملك عموم الناس فإنّهم أحرار في تصرفاتهم وتعاملهم بها.

وثانياً: إذا تفشّت الخيانة بالنسبة إلى الأموال العامة وبيت المال فإنّ نظم المجتمع سوف يتلاشى وينهار، فلا يرى مثل هذا المجتمع البشري وجه السعادة أبداً.

ومن أجل درك أهميّة هذا الموضوع يكفي مطالعة قصّة (الحديدة المحماة) حيث ورد أنّ عقيل رضى الله عنه جاء إلى أخيه علي بن أبي طالب عليه السلام وطلب منه أن يزيده قليلًا من حصّته وسهمه من بيت المال دون مراعاة ضوابط العدالة والمساواة بين المسلمين على أساس العلاقة الاخويّة بينه وبين الإمام علي عليه السلام، فما كان من الإمام علي عليه السلام إلّاأن أحمى له حديدة وقرّبها منه، صرخ عقيل من حرارتها فقال له الإمام عليه السلام: «يا عَقِيلُ أَتَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحماها إِنسانَها لِلَعبِهِ وَتَجِرُّنِي إِلى نارٍ سَجَرَها جَبارُها لِغَضَبِهِ، أَتَئِنُّ مِنْ الأَذى وَلا أَئِنُّ مِنْ لَظى «1».

وقال أمير المؤمنين عليه السلام في مكان آخر كلاماً مثيراً بالنسبة إلى عطايا عثمان من بيت المال إلى أقربائه وذويه حيث عزم الإمام علي عليه السلام على ردّها جميعاً إلى

بيت المال وقال:

«وَاللَّهِ لَو وَجَدته قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّساءُ ومُلِكَ بِهِ الإِماءُ لَرَدَدتُهُ، فَإنَّ فِي العَدلِ سَعَةً، وَمَنْ ضاقَ عَلَيهِ العَدلُ فَالجَورُ عليه أَضيَقُ» «2».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 168

وعندما اقترح عليه استخدام الأشخاص المعروفين في تدبير أمر الحكومة وزيادة رواتبهم وعطاياهم من بيت المال لغرض الإستعانة بهم في امور الدولة والحكومة (ولا أقل في بداية خلافته) فقال: «أَتَأمُرُنِي أَنْ أَطلُبَ النَّصرَ بِالجَورِ فِيمَن وُلِّيتُ عَلَيهِم وَاللَّهِ لاأَطُورُ بِهِ ما سَمَرَ سَمِيرٌ وَما أَمَ نَجمٌ فِي السَّماءِ نَجمَاً، وَلَو كانَ المَالُ لِي لَسَويَّتُ بَينَهُم فَكَيفَ وَإِنَّما المَالُ مالُ اللَّهِ» «1».

بل إنّ الإمام علي عليه السلام تحرّك لحفظ الأمانة في بيت المال من موقع التهديد الشديد لأقرب المقرّبِينَ إليه حتّى يتّعظ بذلك الأبعد من الناس ويعلم أنّ المسألة هنا جدّية فلا مهادنة في بيت المال، ولذلك نقرأ في الكتاب الذي أرسله أمير المؤمنين عليه السلام إلى بعض امرائه في البلد الإسلامي الذي أساء الاستفادة من بيت المال وأنفقه في موارد اخرى، فكتب له الإمام يقول: «فَاتَّقِ اللَّهَ واردُد إلى هَؤلاءِ القَومِ أَموالَهُم فَإِنَّكَ إنْ لَم تَفعَل ثُمَّ أَمكَننِي اللَّهُ مِنكَ لأَعذِرنَّ إِلى اللَّهِ فِيكَ وَلأَضرِبَنَّكَ بِسَيفِي الَّذِي ما ضَربَتُ بِهِ أَحَداً إِلّا دَخَلَ النَّارَ، وَوَاللَّهِ لَو أَنَّ الحَسَنَ والحُسَينَ فَعَلا مِثلَ الَّذِي فَعَلتَ ما كَانَتْ لَهُما عِندِي هَوادَةٌ، ولا ظَفِرَا مِنِّي بِأرَادَةٍ حَتّى آخُذَ الحَقُّ مِنهُما» «2».

ونعلم أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله عندما فتح مكّة قد عفى عن قريش وجميع المجرمين والجناة من قريش وغير قريش الذين حاربوه قرابة عشرين سنة وسفكوا دماء الكثير من المسلمين ورغم ذلك فقد أصدر النبي أمره بالعفو عنهم وإسدال الستار على ما مضى من جرائمهم وعداوتهم، ولكن

مع ذلك فقد استثنى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله عدّة أشخاص من هذا العفو وأهدر دمهم وأمر بقتلهم في أي مكان كانوا، وأحد هؤلاء هو (ابن خطل) وكان ذنبه أنّه اعتنق الإسلام في الظاهر وهاجر إلى المدينة، فجعله النبي صلى الله عليه و آله على الزكاة وجمعها وأرسل معه شخصاً من قبيلة خزاعة، فعندما ذهب لجمع الزكاة واجتمع لديه مقدار مهم من الزكاة قتل صاحبه وهرب بالأموال إلى مكّة، وعندما سأله المشركون في مكة عن سبب رجوعه قال:

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 169

«لم أجد ديناً أفضل من دينكم»، وأخذ يهجو النبي بقصائد من الشعر وكانت لديه بعض الجواري المغنيّات والراقصات، فكان يجلس مجالس الطرب واللّهو ويشترك معه مجموعة من المشركين فيشربون الخمر ويهجون النبي بهذه الأشعار، وبما أنّه بلغ من الوقاحة والخيانة في بيت المال إلى هذه الدرجة العظمية حتّى أنّ هذه الخيانة تسببت في إرتداده عن الإسلام وهتكه لحرمة النبي الأكرم، فلذلك أصدر النبي أمره هذا، فلّما سمع بذلك التجأ إلى الكعبة، وبما أنّ من يلوذ بالكعبة سوف يصان دمه، فلذلك سحبوه إلى خارج الحرم وقتلوه «1».

فهذه التصريحات الشديدة والأحاديث المثيرة تشير إلى أنّ الخيانة في بيت مال المسلمين ورغم أنّ البعض يتصوّر أنّها سهلة ويسيرة فإنّها من أعظم الذنوب والخطايا، وعقوبتها من أشدّ أنواع العقوبات الدنيوية والاخروية.

ونختم هذا البحث بالإشارة إلى حادثة وقعت في زمان رسول اللَّه حيث تبيّن الأهميّة الكبيرة لبيت المال، والحادثة هي أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عندما عاد من خيبر ووصل إلى وادي القرى كان معه غلام أهداه له رفاعة بن زيد الجذامي قال: فواللَّه إنّه ليضع رحل رسول اللَّه صلى الله عليه و

آله إذا أتاه سهم غرب فأصابه فقتله، فقلنا: هنيئاً له الجنّة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله:

«كَلّا والذي نفس محمد بيده إنّ شَملتّهُ الآن لتحترق عليه في النار كان غلها من في ء المسلمين يوم خيبر».

قال: فسمعها رجل من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأتاه فقال: يا رسول اللَّه أصبت شراكين لنعلين لي، قال:

فقال عليه السلام: «يُقد لك مثلهما من النار» «2».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 170

الصدق

تنويه:

إنّ هذه الصفة هي أحد العلائم المهمّة في عناصر الشخصية لكل إنسان، وعندما يجتمع الصدق مع الأمانة تشكل من ذلك أساس الشخصية الإنسانية السويّة والكاملة بحيث لا يمكن اطلاق اسم الإنسان الحقيقي عند من يخلو من هاتين الصفتين الأخلاقيتين.

وهاتان الصفتان لهما جذر وأصل مشترك، لأنّ الصدق ليس شيئاً سوى الأمانة في القول، والأمانة ليست شيئاً سوى الصدق في العمل، ولهذا السبب فقد وردت في الروايات الإسلامية وكلمات المعصومين عليهم السلام هاتان الصفتان أي (صدق الحديث وأداء الأمانة) سوية.

وإلى جانب هذه الصفة نرى وجود صفات ممتازة اخرى في منظومة القيم الأخلاقية لدى الإنسان والتي هي في الواقع من قبيل اللازم والملزوم، لأنّ الصادقين هم عادة يتحلّون بالشجاعة، صراحة اللهجة، قلّة الطمع، الأخلاص، الابتعاد عن الافراط في الحب والبغض والتعصب، في حين أنّ من يعيش الكذب في سلوكه وأقواله فهو يتحلّى عادة بصفة الخوف، الرياء، التعصّب واللجاجة، الطمع، والافراط في الحب والبغض.

الإنسان يعيش الانضباط في حياته باصول أخلاقية ويتحرّك من موقع المسؤولية مع الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 172

الآخرين في حين أنّ الشخص الكاذب منافق عادة ويعيش الحالة الانتهازية في تعامله مع الناس.

وبكلمة واحدة يمكن القول: إنّ الصدق والأمانة مفتاحان للكشف عن باطن الأشخاص في أبعاد

مختلفة، ولذلك كما سوف يأتي في البحث الروائي في كلمات المعصومين أنّ هاتين الصفتين يمثلان الأداة البليغة لأختبار الأشخاص، فلو أردت معرفة حسن الشخص أو سوئه فعليك بأمتحانه واختباره بالصدق وأداء الأمانة.

وبهذه الإشارة نعود إلى الآيات القرآنية والروايات الإسلامية الشريفة التي تتحدّث في أجواء الصدق والدوافع والنتائج المترتبة على هذه الصفة الأخلاقية وبعض النقاط المتعلّقة بهما ثمّ نستعرض بعض ما يتعلق بصفة الكذب وآثاره السلبية في حركة الإنسان والمجتمع.

وقد وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم تتحدّث عن أهميّة الصدق منها:

1- «قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» «1».

2- «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» «2».

3- «لِيَجْزِىَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً» «3».

4- «إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ ... أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً» «4».

5- «طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ» «5».

6- «وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ» «6».

تفسير واستنتاج:

إنّ العبارات الواردة في الآيات الكريمة التي تتحدّث عن أهميّة الصدق لا نجد مثيلًا لها في دائرة المفاهيم القرآنية الكريمة، ومن جملة التعابير الشديدة الواردة في هذه الصفة الأخلاقية هو ما ورد في «الآية الاولى» من الآيات محل البحث والتي جاءت بعد بيان مفصّل عن ظاهرة انحراف النصارى عن دائرة التوحيد وسؤال اللَّه تعالى المسيح يوم القيامة عن سبب هذا الانحراف وتبرئة المسيح لنفسه عن هذه التهمة وحينئذٍ تقول الآية: «قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ»

وهذه إشارة إلى أنّ اتصافهم

بالصدق في الحياة الدنيا سوف ينفعهم في حياتهم الاخروية يوم القيامة ويكون سبباً لنجاتهم من النار (لا أنّ صدقهم يوم القيامة سيكون سبباً لنجاتهم في ذلك اليوم لأنّه لا تكليف يوم القيامة).

ثمّ تستمر الآية الشريفة في استعراض ما يترتب من النتائج الايجابية والثواب العظيم على هؤلاء الصادقين وتقول: «لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».

فمن جهة سوف ينالون الجنّة ويتمتعون بعظيم نعيمها ومواهبها الخالدة، ومن جانب آخر ينالون رضا اللَّه تعالى عنهم، والتعبير بالفوز العظيم في الآية يدلّ بوضوح على عظمة مقام الصادقين، ولعلّه لهذا السبب فإنّه بالإمكان جمع كافة أعمال الخير والصلاح وإدخالها في دائرة الصدق، أو بتعبير آخر أنّ الصدق هو مفتاح لكافّة أعمال الخير والصلاح.

ومن البديهي أنّ اللَّه تعالى إذا رضي عن عبد فإنّه سوف يعطيه ما يريد، وطبيعي أنّ الإنسان إذا أعطي كل ما يريد فإنّه سيعيش حالة السعادة المطلقة وعليه فإنّ رضى اللَّه تعالى سيتسبب في رضا العبد، وهذا الرضا المتقابل يعدّ نعمة عظيمة لا تصل إليها أي نعمة اخرى، وهي موهبة إلهية للصادقين من الناس.

وعبارة (رضي اللَّه عنهم ورضوا عنه) وردت في القرآن الكريم في أربع موارد والتوفيق فيها يبيّن عظمة هذا المفهوم السامي، ففي أحد الموارد يتحدّث القرآن الكريم عن الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 174

المهاجرين والأنصار والتابعين، وفي مكان آخر يتحدّث عن حزب اللَّه تعالى، وفي مورد ثالث يتحدّث عن (خير البرية)، وفي هذه الآية محل البحث يتحدّث عن الصادقين، وهذا يدلّ على أنّ الصادقين هم حزب اللَّه تعالى وخير البرية، ومن المهاجرين والانصار والتابعين.

«الآية الثانية» تخاطب جميع المؤمنين من موقع الأمر بتقوى اللَّه تعالى الذي يقترن

مع الصدق وتقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ».

ونظراً إلى أنّ مثل هذه الخطابات القرآنية وكما ورد في الاصطلاح أنّها خطابات المشافهة فإنّها تستوعب في دائرتها ومصاديقها جميع المؤمنين في كل زمان ومكان، ومن الواضح أنّ الكون مع الصادقين وظيفة وواجب على الجميع في أي مكان وزمان، وهذا يدلّ على أنّ الإنسان إذا أراد التحرّك في خط التقوى والإيمان والاستقامة فعليه أن يعيش مع الصادقين ويلتزم بهم.

أمّا المقصود من الصادقين في هذه الآية ما هو؟ فهناك تفاسير متعددة لذلك، فالبعض ذكر أنّ المقصود هو النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وأصحابه، وذهب البعض الآخر إلى أنّ مراد الآية من الصادقين هم الأشخاص الذين يتمتعون بصدق النيّة والصلاح في العقائد والأعمال، وأورد آخرون تفاسير اخرى لهذه العبارة.

ولكن عند الرجوع لسائر الآيات القرآنية نجد أنّ القرآن نفسه يفسّر المراد من هذه الآية حيث يقول في سورة الحجرات: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ» «1»

وهكذا نرى أنّ هذه الآية قد ذكرت للصادقين صفات سامية كالإيمان الذي لا يشوبه أي شك وريب والجهاد في سبيل اللَّه بالمال والنفس وأمثال ذلك.

وقد ذكرت الآية 8 من سورة الحشر أحد المصاديق البارزة للصادقين وهم المهاجرون الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 175

الذين تركوا أموالهم وبيوتهم وهاجروا في سبيل اللَّه وكانوا ينصرون دين اللَّه ونبيّه الكريم دائماً.

ونقرأ في الآية 117 من سورة البقرة صفات مهمّة اخرى لهؤلاء الصادقين من قبيل الإيمان باللَّه تعالى ويوم القيامة والكتب السماوية والأنبياء وإنفاق الأموال في سبيل اللَّه وإقامة الصلاة وأداء الزكاة والوفاء بالعهد والصبر على المشكلات والصعوبات التي يواجهها المؤمن في حالات

الجهاد.

ومن مجموع هذه الصفات الكريمة يتبيّن جيداً أنّ الصادقين ليس هم الصادقين في الكلام فقط، بل الصدق في الإيمان والعمل من خلال التقوى والتضحية وطاعة اللَّه تعالى والتحرّك في خط الإيمان، رغم أنّ هذا المفهوم يمتد ليستوعب دائرة واسعة من المفاهيم الأخلاقية لكن النموذج الأكمل والأتم لذلك هم المعصومون عليهم السلام ولذلك ورد في الروايات الشريفة من طرق الشيعة وأهل السنة في تفسير هذه الآية أن المقصود بها علي بن أبي طالب عليه السلام وأصحابه، وكذلك ورد أنّ المقصود علي بن أبي طالب وأهل بيته عليهم السلام.

وقد أورد العلّامة (الثعلبي) في تفسيره عن ابن عباس أنّه قال: «مَعَ الصّادِقِينَ يَعنِي مَعَ عَلي بن أَبِي طالب وَأصحابِهِ» «1».

وقد ذكرت جماعة اخرى من علماء أهل السنة مثل العلّامة الگنجي في كفاية الطالب وسبط ابن الجوزي في التذكرة نفس هذا المعنى والمضمون مع تفاوت أنّه بدل كلمة الأصحاب وأورد ذكر أهل البيت عليهم السلام حيث يقول في ذيل هذه الرواية: «قَالَ ابنُ عَباس:

عَلِيٌّ سَيِّدُ الصَّادِقِينَ» «2».

وجاء في الرواية الشريفة عن جابر بن عبداللَّه الأنصاري رضى الله عنه عن الإمام الباقر عليه السلام في تفسير الآية أنّه قال: «أَي آلُ مُحَّمد» «3».

وقد استوحى الكثير من المفسّرين من اطلاق هذه الآية أنّ هذا الأمر يشمل جميع الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 176

المسلمين في كل زمان ومكان، وبما أنّ الصادق المطلق هو الإمام المعصوم فالآية تدلّ على أنّه يجب وجود إمام معصوم في كل زمان (والتعبير بصيغة الجمع «الصادقين» لغرض أنّ المخاطب هو كافة الناس في كل زمان).

والنتيجة المستوحاة من هذه الآية هي أننا جميعاً مطالبون في أن نكون دائماً مع الصادقين، وهم الذين وردت أوصافهم في الآيات أعلاه والمصداق الأكمل

لهم هم المعصومون عليهم السلام.

«الآية الثالثة» تتحدّث عن الثواب الذي ينتظر الصادقين يوم القيامة وقد جعلتهم الآية في مقابل المنافقين، وبعد أن بيّنت حال المؤمنين الصادقين والذين استشهدوا في سبيل اللَّه وكذلك من ينتظر الشهادة منهم فتقول: «لِيَجْزِىَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً».

وبهذا يتبيّن الثواب العظيم على المستوى المادي والمعنوي الذي ينتظر الصادقين في الجنّة، وهم الصادقون في القول والعمل والعقيدة، وأمّا من خرج من دائرة الصدق وسلك في خط الباطل والكذب فإنّه يسقط في وادي النفاق والضلال.

«الآية الرايعة» من الآيات محل البحث تشير إلى عشرة طوائف مبشّرة إيّاهم بالمغفرة والثواب الجزيل، والطائفة الرابعة منهم هم الصادقون والصادقات، وهذا يعني أنّ الإنسان بعد إعتناق الإسلام والإيمان والطاعة للَّه تعالى فلا فضيلة بعدها أعلى من الصدق في السلوك العملي حيث تبيّن هذه الآية إلى أية درجة يرتقي الصدق بالإنسان سواء الرجل أو المرأة، وقد ورد في الحديث النبوي المعروف: «لا يَستَقِيمُ إِيمانُ عَبدٍ حَتّى يَستَقِيمَ قَلبُهُ وَلا يَستَقِيمُ قَلبُهُ حَتّى يَستَقِيمَ لِسانُهُ» «1».

ويستفاد من هذا الحديث أنّه حتى الإيمان الكامل لا يحصل للإنسان إلّابعد الصدق الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 177

وإصلاح اللسان والقول، وأمّا الأشخاص الذين يعيشون الكذب في كلامهم فهم الفارغون من الإيمان الكامل.

«الآية الخامسة» وبعد الإشارة إلى الحالة السلبية للمنافقين وتذبذبهم وتناقضهم في القول والعمل وخوفهم العظيم من الجهاد في سبيل اللَّه تعالى الذي هو في الحقيقة أصل العزّة والفخر للإنسان المؤمن تقول الآية: «طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ».

فهؤلاء كانوا يقولون أننا عندما ينزل علينا الأمر بالجهاد فسوف نتحرّك من موقع الطاعة ولا نقول سوى المعروف والصدق، ولكن

عندما يحين الوقت وينزل الأمر بالجهاد يتجلّى حينئذٍ عدم صدقهم وتهافتهم وتخاذلهم في حين أنّهم لو صدقوا اللَّه لكان خيراً لهم.

هذا التعبير يدلّ على أنّ الكذب هو أحد علامات المنافقين، فقبل أن يواجهوا الأمر الواقع وتحين لحظة الحسم فأنّهم ينطلقون من موقع الوعد بالجهاد والثبات والانطلاق من موقع المسؤولية، ولكن عندما تحين اللحظة الحاسمة يتّضح كذبهم ونفاقهم، أي أنّ هذه الرذيلة الأخلاقية وهي الكذب تعدّ باباً ومفتاحاً للنفاق.

«الآية السادسة»: «وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ».

ولا شك أنّ أصحاب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قد تجاوزوا اختبارات صعبة في ميدان العمل والواقع، وأحد أهم هذه الاختبارات هي مسألة الهجرة، التي تعني ترك البيوت والأموال وغض الطرف عن الأوطان وجميع التعلّقات التي ألفها الإنسان في وطنه والانتقال إلى مكان آخر يبدأ فيه الحركة والحياة من نقطة الصفر ويعيش هناك مع أنواع الحرمان والنقص في موارد المعيشة، وفي حالة ما إذا لم تهاجر معه الزوجة والأطفال فالصعوبات التي يواجهها هذا الإنسان المهاجر ستتضاعف وتشتد.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 178

القرآن الكريم يتحرّك في هذه الآية من موقع التحذير لأصحاب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وأنّ هذه الهجرة هي إمتحان إلهي كبير (فاذا بقوا في مكّة فسوف ينالهم أنواع التعذيب من قبل المشركين ولو هاجروا إلى المدينة فسيواجهون أنواع الحرمان والفاقة) فيقول لهم القرآن الكريم أنّه لا تتصوّروا أنّ هذا الامتحان العسير في مواجهة تحدّيات الواقع من تعذيب المشركين أو الهجرة إلى المدينة أو الجهاد في سبيل اللَّه ومواجهة الأعداء في ميدان القتال وأمثال ذلك منحصر بكم، فقد سبق أن اختبرنا الأقوام السالفة بأنواع الاختبارات والابتلاءات، وأساساً فإنّ الحياة الدنيا تدور

حول الإمتحان والاختبار الإلهي ليتبيّن الصادق في إيمانه من الكاذب والمدّعي.

وفي الواقع أنّ هذه الآية تتحدّث عن الصدق بعنوان أنّه علامة الإيمان والكذب علامة النفاق والكفر.

وطبعاً إنّ الصدق والكذب في هذه الآية هو الصدق والكذب في العمل لا في القول، العمل الذي ينسجم ويتوافق مع ا دّعاءات الإنسان السابقة ويرسم له سلوكه الاجتماعي في حركة الحياة، والكاذب هنا هو الذي لا يتحرّك في سلوكه بما ينسجم مع إدعاءاته، وأيضاً الصدق والكذب في العمل وفي القول لهما جذر مشترك، لأنّ الصدق هو بيان الحقيقة والكذب على العكس من ذلك، وهذا التبيّن تارة يكون بوسيلة القول واخرى بوسيلة العمل.

ومن مجموع الآيات أعلاه يتبيّن الأهميّة الكبيرة للصدق والصادقين وأنّ هذه الصفة تعد فضيلة أخلاقية من الفضائل التحتية للبناء الأخلاقي الفوقاني للإنسان، نعم فإنّه متى ما وجد الصدق فإنّ الصفاء والأمانة والثقة والاعتماد والشجاعة سوف تحصل للإنسان بالتبع، ولو لم يكن الصدق في واقع الإنسان فإنّ جميع هذه الصفات ستتبخّر وتتلاشى ويعيش الإنسان بدونها حالة الفراغ الروحي والجفاف المعنوي وحتّى أنّ الإيمان والعقيدة سوف لا تبقى سليمة كما هو المطلوب، والملفت للنظر أنّ الآيات الكريمة تذكر الصدق بعنوان أنّه صفة من الصفات الأصلية للقادة الإلهيين كما أشارت إلى ذلك الآيات أعلاه وهذا إنّما يدلّ على أنّ سائر فضائل الإنبياء والأولياء تدور حول محور الصدق وعلينا إذا أردنا معرفتهم والاطّلاع الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 179

على أحوالهم أن نتحرّك لتتبع أثر هذه الصفة الأخلاقية فيهم.

الصدق في الروايات الإسلامية:

اشارة

إنّ أهميّة هذه الفضيلة الأخلاقية في الروايات الإسلامية أكثر من أن يقال أو يذكر في هذا المختصر، فالأحاديث الشريفة الواردة عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله والأئمّة المعصومين عليهم السلام في هذا المجال

تجاوزت حد الحصر، ولكننا نكتفي في هذا الفصل بذكر نماذج منها لبيان أهميّة هذه الصفة من بين الصفات الأخلاقية للإنسان حيث يستفاد جيداً من الروايات أنّ جميع الفضائل الإنسانية تنبع من حالة الصدق.

1- ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في بيان أهميّة الصدق والذي تقدّم ذكره في الفصل السابق ولكننا نذكره مرة اخرى لأهميته: «لا تَنظُروا إلى كَثْرَةِ صَلاتِهِم وَصَومِهِم وَكَثْرَةِ الحَجِّ وَالمَعرُوفِ وَطَنطَنَتِهِم بِالَّليلِ وَلَكِنْ انظُرُوا إِلى صِدقِ الحَدِيثِ وَأَداءِ الأَمانةِ» «1».

2- ونقرأ في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام: «إِن اللَّهَ لَم يَبعَثْ نَبيّاً إلّابِصدقِ الحَدِيثِ وَأَداءِ الأمانةِ إِلَى البِرِّ والفاجِرِ»».

3- وفي حديث آخر عن هذا الإمام يقول حول تأثير الصدق في جميع أعمال الإنسان وسلوكياته «وَمَن صَدَقَ لِسانُهُ زكَى عَمَلُهُ» «3»

، لأنّ الصدق يمثل الجذر والأساس لجميع الأعمال الصالحة، وسوف يأتي لاحقاً بيان هذا المطلب بالتفصيل.

4- ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق أيضاً في كتابه إلى أحد أصحابه ويُدعى عبداللَّه بن أبي يعفور حيث قال له: «انظُر ما بَلَغَ عَلَيٌّ بِهِ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه و آله فَأَلزَمَهُ، فَإنَّ عَلِيّاً عليه السلام إِنّما بَلَغَ ما بَلَغَ عِندَ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه و آله بِصدقِ الحَدِيثِ وَأَداءِ الأمانَةِ» «4».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 180

هذا التعبير يدلّ على أنّ الإنسان حتّى لو كان شخصية كبيرة وعظيمة مثل علي بن أبي طالب عليه السلام إنّما وصل إلى هذا المقام السامي عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ببركة هاتين الصفتين: صدق الحديث، وأداء الأمانة.

5- وقد ورد في الحديث الشريف أنّه سُئل أميرالمؤمنين عليه السلام: «أي النّاسِ أَكرمُ؟ فَقَالَ:

مَنْ صَدَقَ فِي المَواطِن» «1».

ونظراً إلى أنّ

القرآن الكريم يقول: «إنّ أَكرَمَكُم عِندَ اللَّهِ أَتقاكُم» «2» يتضّح أنّ روح التقوى هي الصدق في الحديث.

6- وفي حديث آخر عن أميرالمؤمنين عليه السلام يتحدّث فيه عن تأثير الصدق في نجاة الإنسان من الأخطار والمشكلات حيث يقول: «ألزموا الصدق فإنّه منجاة».

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام ورد تشبيهاً جميلًا عن الصدق حيث يقول:

«الصِّدقُ نُورٌ غَيرَ مُتَشَعشِعٍ إِلّا فِي عالَمِهِ كَالشَّمْسِ يَستَضي ءُ بِها كُلُّ شَيٍّ يَغْشَاهُ مِنْ غَيرِ نُقصانٍ يَقَعُ عَلى مَعناها».

ويقول الإمام عليه السلام في ذيل هذا الحديث: «الصِّدقُ سَيفُ اللَّهِ فِي أَرضِهِ وَسَمائِهِ أَينما هَوى بِهِ يُقَّدُّ» «3».

7- وعن أهميّة الصدق يكفي أن نذكر الحديث الشريف الوارد عن أمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول: «الصِّدقُ رأسُ الدِّينِ».

ويقول في حديث آخر: «الصِّدقُ صَلاحُ كُلِّ شَي ءٍ».

ويقول في حديث آخر أيضاً: «الصِّدقُ أَقوى دَعائِمُ الإِيمانِ».

وفي رواية اخرى يقول: «الصِّدقُ جَمالُ الإنسانِ وِدَعامَةُ الإيمانِ».

وأخيراً يضيف إلى ذلك تعبيراً مهمّاً آخر عن الصدق ويقول: «الصِّدقُ أَشرَفُ خَلائِقِ المُؤمِنِ» «4».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 181

8- ونختم هذا البحث الطويل بحديث شريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يتحدّث فيه عن مفتاح الجنّة والنار ويقول: «إِنّ رَجُلًا جاءَ إِلى النَّبِيِّ فَقالَ يا رَسُولَ اللَّهِ ما عَمَلُ الجَنَّةِ؟ قالَ: الصِّدقُ، إِذا صَدَقَ العَبدُ بِرَّ وإذا بَرَّ آمَنَ، وإذا آمَنَ دَخَلَ الجَنَّةَ قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ وَما عَمَلُ النَّارِ؟ قَالَ: الكِذبُ، إِذا كَذِبَ العَبدُ فَجَرَ، وَإِذا فَجَرَ كَفَرَ، وإِذا كَفَرَ دَخَلَ النَّارَ» «1».

والملفت للنظر أنّ هذا الحديث الشريف يعدّ الصدق منبع الخير والصلاح وبالتالي فهو منبع الإيمان أيضاً، وما ذلك إلّالأنّ الفاسق يتحرّك في تبرير أعماله الدنيئة من موقع الكذب والدجل والخداع، هذا من جهة، ومن جهة اخرى فإنّ

روح الإنسان ستضعف بسبب الكذب وتدريجياً يضعف الإيمان أيضاً وبالتالي يفضي ذلك إلى الكفر والسقوط من درجة الإنسانية كما قال القرآن الكريم: «ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون» «2».

9- ونقرأ في حديث آخر عن أميرالمؤمنين عليه السلام قوله «إذا أَحَبَّ اللَّهُ عَبدَاً أَلهَمَهُ الصِّدقَ» «3».

10- ونختم هذا البحث بحديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «أَربَعٌ مَنْ اعطِيَهُنَّ اعطِي خَيرَ الدُّنيا وَالآخِرَةِ صِدقُ حَدِيثٍ وَأَداءُ أَمانَةٍ وَعِفَةُ بَطنٍ وَحُسنُ الخُلقٍ» «4».

ومن مجموع هذه الأحاديث الشريفة يمكننا أن نستوحي نكات مهمّة في دائرة هذه الصفة الأخلاقية:

إنّ الصدق هو أحد الطرق التي تتجلّى فيها شخصية الإنسان وإيمانه وبذلك يمكن اختباره من هذا السبيل.

إنّ الدعوة إلى الصدق هي أحدى البنود الأساسية لدعوة الإنبياء والمرسلين في خط

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 182

التكامل المعنوي والإلهي.

إنّ الصدق يتسبب في طهارة الأعمال وقبول الأفعال.

إنّ المقام المعنوي للإنسان عند اللَّه تعالى يدور مدار الصدق.

إنّ أكرم الناس هم الصادقون.

إنّ الصدق يتسبب في النجاة في الآخرة.

إنّ الصدق أقوى دعائم الدين.

إنّ الصدق مفتاح الجنّة.

الصدق علامة محبوبية الإنسان لدى اللَّه تعالى.

إنّ الإنسان الصادق سينال خير الدنيا والآخرة.

ونظراً إلى هذه النتائج والمعطيات العشرة للصدق يتّضح جيداً أنّ هذه الصفة الأخلاقية المهمّة لا تلحقها صفة اخرى بهذه المعطيات الكثيرة.

بقي هنا في هذا الموضوع المهم أن نذكر عدّة امور (رغم أنّه قد أشرنا إليها في ضمن الأبحاث السابقة).

1- تأثير الصدق في حياة الإنسان

بالرغم من أنّ تأثير الصدق في حياة الإنسان يعدّ بديهيّاً وتوضيح هذا الأمر يعدّ من توضيح الواضحات، ولكن عندما ندخل تفاصيل المسألة نواجه المعطيات الإعجازية الكبيرة للصدق في جميع مفاصل الحياة البشرية، والالتفات إلى هذه المعطيات المهمّة بإمكانه أن يكون دافعاً قوياً للتحلّي

بهذه الصفة الأخلاقية الكبيرة.

وأول تأثير للصدق في حياة الإنسان هو مسألة الثقة وجلب الاطمئنان والاعتماد المتقابل بين أفراد المجتمع في حركة التفاعل الاجتماعي.

ونعلم أنّ أساس الحياة الاجتماعية للإنسان هو العمل على المستوى الجماعي ولا يتسنى ذلك إلّابأن يتعامل أفراد المجتمع فيما بينهم من موقع الثقة المتبادلة واعتماد البعض الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 183

على البعض الآخر، وهذا المعنى لا يتحصّل إلّابتوفر عنصر الصدق والأمانة بينهم، أجل فإنّ أهم وسيلة مؤثّرة في جذب إعتماد الناس هو الصدق، وأخطر وسيلة وأداة لهدم العلاقات الاجتماعية وتخريب أواصر المودّة بين الأفراد هو الكذب، ولا فرق في هذا الأمر بين المجالات العلمية والثقافية والاقتصادية والسياسية.

فالرجل السياسي المحنّك والذي يعتمد عليه الناس إذا تورط في مورد أو عدّة موارد من الكذب وسمع منه الناس ذلك، فإنّهم سيتباعدون عنه وبهذا يخسر نفوذه وشخصيته بين الناس.

والعالم أو المكتشف إذا تلّوث بالكذب في تحقيقاته العلمية فقد إعتماد المحافل العلمية باختراعاته وتحقيقاته وبالتالي تذهب أتعابه أدراج الرياح وتكون تحقيقاته المدوّنة حبراً على ورق.

المؤسسات الاقتصادية أيضاً إذا تعاملت في الأعلان عن منتوجاتها وبضائعها من موضع الكذب والدجل فإنّ الناس سوف لا يثقون بمنتوجاتها بعد ذلك وسوف تخسر هذه المؤسسات زبائنها سريعاً.

وفي دائرة الإدارة إذا لم يصدق المدير مع مرؤوسيه وموظفيه فإنّ نظم هذه الدوائر أو المؤسسة سوف يتلاشى بالتأكيد، وعلى هذا نصل إلى هذه النتيجة وهي أنّ أساس جميع أشكال التقدّم المعنوي والمادي في المجتمع يتمثّل بالاعتماد المتقابل بين الأفراد والذي يعتمد بدوره على الصدق.

ولذلك ورد في الرواية الشريفة عن أمير المؤمنين أنّه قال: «الصِّدقُ صلاح كُلِّ شي ءٍ والكِذبُ فَسادُ كُلِّ شَي ءٍ» «1».

وقال أيضاً في حديث آخر: «الكَذِّابُ والمَيِّتُ سَواءٌ فإنَّ فَضِيلَةَ الحَيِّ عَلَى المَيِّتِ الثِّقَةُ

بِهِ، فَإذا لَمْ يُوثَقُ بَكلامِهِ فَقَد بَطَلَتْ حَياتُهُ» «2».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 184

والأمر الآخر هو أنّ الصدق يهب لصاحبه شخصية اجتماعية مرموقة في حين أنّ الكذب يتسبب في فضيحته وذهاب ماء وجهه وسمعته، والإنسان الصادق يعيش حياة العزّة والكرامة دائماً أمّا الكاذب فيعيش حالة الدناءة والحقارة والانتهازية.

ولهذا ورد عن أميرالمؤمنين أنّه قال: «عَلَيكَ بِالصِّدقِ فَمَنْ صَدَقَ فِي أَقوالِهِ جَلَّ قَدرُهُ» «1».

ومن جهة ثالثة نجد أنّ الصدق والأمانة يهبان للإنسان الشجاعة والشهامة في حين أنّ الكذب والخيانة يجرّان الإنسان إلى السقوط في هوة الخوف والفزع من إنكشاف أمره وافتضاح حاله وبالتالي خسران جميع ما أعدّه سلفاً لحياة كريمة وسعيدة من خلال الكذب والخداع والخيانة.

ومن جهة رابعة فإنّ الصدق بإمكانه أن ينقذ الإنسان من كثير من الذنوب والآثام، لأنّه في حال ما لو ارتكب ذنباً معيناً ثمّ سأل عنه فإنّه لا يستطيع الإقرار بهذا الذنب والاعتراف به، فمن الأفضل له أن لا يرتكبه سلفاً.

وقد ورد في الحديث الشريف المعروف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه جاء رجل إليه صلى الله عليه و آله وقال: أنا يا رسول اللَّه استسر بخلال أربع، الزنا، وشرب الخمر، والسرقة، والكذب، فأيّتهنّ شئت تركتها لك، قال صلى الله عليه و آله: «دع الكذب».

فلما ولى هم بالزنا فقال: يسألني فان جحدت نقضت ما جعلت له وإن أقررت حددت، ثم هم بالسرقة ثم بشرب الخمر ففكر في مثل ذلك فرجع إليه فقال: قد أخذت عليَّ السبيل كلّه فقد تركتهنّ أجمع «2».

ومن جهة خامسة نجد أنّ الصدق يعمل على حلّ الكثير من المشاكل والأزمات في المجتمع ويسهّل للإنسان الوصول إلى مقصده ويقلّل من نفقات المسير ويهب الناس هدوءاً وطمأنينة ويزيل الاضطراب

والقلق والتوتر الذي ينشأ من حالات احتمالات الكذب في الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 185

أقوال الطرف الآخر ويوطد أركان المحبّة ويعمّق وشائج المودّة بين أفراد المجتمع وبذلك يفضي على شخصية هؤلاء الأفراد نوراً وبهاءاً أكثر، وقد أشارت الروايات الكريمة إلى هذا المعنى أيضاً وأنّ شخصية الإنسان الذاتية هي التي تدعو لئن يكون الإنسان صادقاً كما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: «أَحسَنُ مِنَ الصِّدقِ قائِلُهُ وَخَيرٌ مِنَ الخَيرِ فاعِلُهُ» «1».

ونختم هذا الكلام بحديث شريف عن أمير المؤمنين عليه السلام كشاهد صدق على هذا المطلب حيث يقول: «يَكتَسِبُ الصَّادِقُ بِصِدقِهِ ثَلاثاً، حُسنُ الثِّقَةِ والمَحَبَّةِ لَهُ وَالمَهابَةُ مِنهُ» «2».

2- دوافع الصدق

إنّ هذه الفضيلة الأخلاقية كسائر الفضائل الأخلاقية الاخرى لها جذور ودوافع في أعماق روح الإنسان منها:

الف: الاعتماد على النفس وعدم الشعور بالحقارة والدونية، حيث تدعوه هذه الحالة النفسية الإيجابية إلى الصدق والتعامل مع الآخرين من موقع الثقة بالنفس والواقع.

ب: الشجاعة والشهامة الذاتية والإكتسابية فلا يخاف من ذكر الامور الواقعية.

ج: الطهارة القلبية من أدران الذنوب وعدم وجود نقطة ضعف في شخصية الإنسان تدعوه إلى قلب الواقع، في حين أنّ الملّوث بالعيوب والخطايا قد يدعوه ذلك إلى الكذب لتغطية نقاط الضعف هذه.

د: والأهم من ذلك جميعاً هو أن يتجلّى الإنسان بالإيمان باللَّه والآخرة ويتحرّك في خط التقوى والاستقامة، فذلك من شأنه أن يكون عاملًا أساسياً للصدق، ولهذا السبب ورد في الحديث المعروف في نهج البلاغة قوله عليه السلام: «أَن تُؤثِرَ الصِّدقَ حَيثُ يَضُرُّكَ عَلَى الكِذبِ حَيثُ يَنفَعُكَ» «3».

3- مفهوم الصدق

ورغم أننا نفهم من هذه المفردة وضوح المعنى والمفهوم، ولكن في نفس الوقت هناك الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 186

خلاف كثير بين العلماء في تعريفها، فالبعض ذهب إلى أنّ الصدق هو مطابقة محتوى الكلام للواقع، في حين ذهب البعض الآخر إلى أنّ الصدق هو مطابقة الكلام لاعتقاد الشخص واستدل بالآية الشريفة من سورة المنافقين حيث يقول تعالى: «إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ» «1».

ومن البديهي أنّ المنافقين الذين يشهدون على نبوّة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله تكون شهادتهم هذه مطابقة للواقع، ولكن بما أنّها غير مطابقة لاعتقادهم، فلذلك ذكرهم اللَّه تعالى بأنّهم كاذبون ونسبهم إلى الكذب، لأنّ هؤلاء يستخدمون هذه الشهادة بنبوّة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله كأداة للتغطية على شخصيتهم حيث يكون مفهوم

كلامهم أنّ هذه الشهادة مطابقة لاعتقادهم الباطني، وبما أنّ هذا الكلام غير مطابق لواقعهم، فلذلك كانوا كاذبين، أي أنّ هؤلاء يكذبون في ادعاءاتهم أنّ هذه الشهادة مطابقة لمعتقدهم الباطني، وعلى هذا الأساس يتبيّن أنّ الصدق على كل حال هو تطابق الكلام مع الواقع سواءاً كان الواقع الخارجي أو الباطني.

ولكننا نقرأ في الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين عليه السلام تعريفاً آخر للصدق والكذب وهو ناظر إلى بعد العبودية للَّه تعالى حيث يقول: «الصِّدقُ مُطابَقَةُ المنَطِقِ لِلوَضعِ الإِلَهي والكِذبُ زَوالُ المَنطِقِ عَنِ الوَضعِ الإِلَهي» «2».

والمقصود من الوضع الإلهي ظاهراً هو وضع عالم الخلقة والوجود، الذي يتحرّك بإرادة اللَّه تعالى، وعليه فإنّ هذا التعريف لا يخرج عن إطار التعريف السابق إلّابدخوله في دائرة المضمون التوحيدي.

وبالطبع فإنّ الصدق والكذب كما يجريان في كلام الشخص فكذلك يجريان في عمله وسلوكه أيضاً، فالأشخاص الذين يخالف عملهم ظاهرهم فإنّهم كاذبون من هذه الجهة، والأشخاص الذين يتطابق ظاهرهم مع باطنهم وأعمالهم، فإنّهم صادقون أيضاً.

الكذب وآثاره وعواقبه

تنويه:

كان من المفروض أن نبحث الصدق والكذب في فصل واحد للملازمة الشديدة بينهما، ولأنّ أحدهما لا يعرف بدون الآخر، ولكن بما أنّ هذه المسألة وردت في الآيات والروايات الشريفة وكلمات علماء الأخلاق بصورة منفصلة رأينا أنّ من الأفضل التفكيك بينهما لنؤدي المطلب حقّه من البحث والتفصيل.

أجل فإنّ المفاهيم الإسلامية تؤكّد كثيراً على مسألة محاربة الكذب والدجل إلى درجة أنّ الكاذبين في النصوص الدينية في عداد الكفّار والملحدين وأنّ الكذب هو مفتاح جميع الذنوب كما ورد التصريح بذلك في الروايات الشريفة، بل إنّ الإنسان ما لم يترك الكذب بشتى أنواعه وأقسامه لن يذوق طعم الإيمان أبداً.

ونكتفي بهذه الإشارة إلى آثار الكذب وأخطاره لنعود إلى القرآن الكريم ونستوحي من آياته ما يتعلّق بهذا

المفهوم والصفة الأخلاقية الذميمة:

1- «إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ» «1».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 188

2- «إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ» «1».

3- «إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ» «2».

4- «فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ» «3».

5- «وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ» «4».

وفي مسألة التكذيب الإلهي الذي هو أيضاً نوع من الكذب، وردت تعابير مهمّة في القرآن الكريم، منها:

6- «قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَايُفْلِحُونَ» «5».

7- «ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ» «6».

تفسير واستنتاج:

«الآية الاولى» تتحدّث عن أنّ الكاذب هو الشخص الذي إنعدم فيه الإيمان باللَّه تعالى وأنّ الكاذب الحقيقي هو غير المؤمنين فتقول: «إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَاذِبُونَ».

وهذا في الوقت الذي كان فيه أعداء الإسلام من المشركين الجاهليين عندما يرون بعض آيات القرآن الكريم قد نسخت بسبب تغيير الظروف الزمانية وإستبدلت الأحكام السابقة بأحكام جديدة، فكان ذلك ذريعة لديهم في إتهامهم النبي صلى الله عليه و آله بالكذب، وقولهم أنّ هذا النبي له معلّم يعلّمه هذه الآيات (ومرادهم من المعلّم غلامين نصرانيين أحدهما يدعى يسار، والآخر جبر، أو رجل نصراني يدعى بلعام الرومي) في حين أنّ القرآن الكريم نزل الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 189

بلسان عربي فصيح وهؤلاء كانوا من الأعاجم.

القرآن الكريم في مقام الجواب على إدّعاءات المشركين الواهية يقرّر أنّ النبي الأكرم يتلقى الوحي الإلهي الذي ينزل به روح القدس من اللَّه تعالى وأنّ آثار الإيمان والصدق جليّة في كلامه، والأشخاص الذين يكذبون في كلامهم لا يؤمنون باللَّه تعالى، أي أنّ الإيمان لا يجتمع مع الكذب، والمؤمن الحقيقي لا

يتحرّك لسانه من موقع الكذب اطلاقاً.

وجملة (يفتري الكذب) في الواقع تأكيد على كذبهم، أي أنّهم يرتكبون الكذب والتهمة في نفس الوقت، أو كما يقول الطبرسي في مجمع البيان بمعنى (يخترع الكذب) وهذا يعني أنّهم يختلقون كلاماً لا أصل له (الافتراء بمعنى فرية، هو في الأصل بمعنى قطع، ثم استعمل في كل عمل سلبي ومذموم ومنه الشرك والكذب والتهمة).

وفي الواقع فإنّ النسبة بين الكذب والافتراء هي نسبة العموم والخصوص المطلق، فالكذب يعني كل كلام مخالف للواقع، ولكنّ الافتراء أو التهمة هي أن يكون الكلام يحتوي في مضمونه على نسبة عمل مذموم إلى شخص معيّن.

ويحتمل أنّ قوله (يفتري الكذب) إشارة إلى رؤساء المشركين وقادة الكفر حيث يختلقون الكذب والعناوين من قبيل شاعر وساحر وينسبونها إلى النبي صلى الله عليه و آله ويتبعهم الآخرون بذلك.

وعلى أية حال فإنّ الآية أعلاه تبيّن بوضوح أنّ الكذب لا يجتمع مع الإيمان اطلاقاً، ولذلك ورد في تفسير هذه الآية رواية عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله عندما سُئل: «يا رَسُولَ اللَّهِ المُؤمِنُ يَزني؟ قال: بلى، قالوا: المُؤمِنُ يَسرُقُ؟ قال: بلى، قالوا: المُؤمِنُ يَكذِبُ؟ قال: لا، ثُمَّ قرأ هذه الآية ..» «1».

وبالطبع فلابدّ من ملاحظة أنّ الإيمان له مراحل ومراتب مختلفة.

«الآية الثانية» من الآيات محل البحث تصّرح «إِنَّ اللَّهَ لَايَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 190

ومن المعلوم أنّ الهداية والضلالة هما بيد اللَّه تعالى حتى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله لا يتمكن أن يهدي شخصاً ما لم تتعلّق بذلك مشيئة اللَّه تعالى وإرادته كما ورد في الآية الشريفة: «إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» «1».

ولكن هذا لا يعني أنّ

اللَّه تعالى يجبر بعض الناس على الهداية والبعض الآخر على الضلالة والانحراف، ثمّ يهب الجنّة ونعيمها الدائم الى الطائفة الاولى ويرسل الطائفة الثانية إلى النار، فهذا هو مذهب الجبر الذي لا ينسجم مع العقل والمنطق ولا مع العدل الإلهي.

والمقصود من ذلك أنّه متى ما تهيأت الأرضية للهداية والضلالة في الإنسان بواسطة أعماله وأفعاله فإنّ اللَّه تعالى سيمدّه بما يتوافق مع لياقته وقابلياته، فيعين الطائفة الاولى للوصول إلى كمالهم المعنوي في خط الإيمان والعبودية والطاعة ويزيدهم من فضله ولطفه، ويرفع يده عن الطائفة الثانية ليبقوا في حيرتهم وفي دوّامة من السلوكيات المنحرفة والعقائد الباطلة التي لا يصلون معها إلى مقصودهم النهائي.

ومن أهم الامور التي توفّر الأرضية للضلالة والزيغ والانحراف هو الكذب والاسراف وكفران النعمة التي وردت في هاتين الآيتين حيث يفهم بوضوح من سياق هاتين الآيتين أنّ من يقول بالجبر وأنّ اللَّه تعالى هو الذي يهدي ويضل عباده دون أن يكون لهم الخيرة في ذلك فإنّ كلامهم هذا واعتقادهم مجانب للحق والصواب كثيراً وأنّ استدلالهم بهاتين الآيتين هو في الواقع خلاف الظاهر من جو هاتين الآيتين وسياقهما.

أجل، فإنّ الكذب يعتبر من أهم العوامل في اضلال الإنسان وشقائه.

ويمكن أن يكون مورد هاتين الآيتين هو نسبة الكذب إلى اللَّه تعالى والانحراف عن أصل التوحيد، ولكنّ المورد لا يخصص الوارد كما في الاصطلاح، أي أنّ خصوصية المورد لا تمنع من عمومية الحكم الوارد في هاتين الآيتين.

أمّا العلاقة بين الكذب وكفران النعمة الوارد في الآية الاولى فهو يشير إلى هذه الحقيقة وهي أنّ بني اسرائيل كفروا بنعمة وجود موسى عليه السلام فيما بينهم لهدايتهم وكذّبوه، والعلاقة بين الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 191

الاسراف والكذب في الآية الثانية هو من جهة

أنّ الفراعنة تحرّكوا من موقع عصيان الأمر الإلهي وظلمهم لبني اسرائيل وقتل أولادهم، فهؤلاء سلكوا طريق الاسراف وكذّبوا بنبوّة موسى عليه السلام.

«الآية الرابعة» تستعرض اسلوب المنافقين في التظاهر بالإيمان والعمل الصالح وتتحدّث عن (ثعلبة بن حاطب الأنصاري) الذي كان قد عاهد اللَّه تعالى أنّه إذا رزقه مالًا كثيراً فإنّه سيتصدّق على الفقراء والمساكين ولكنّ سلوكه العملي كان مخالفاً لقوله ووعده حيث نقض عهده مع اللَّه تعالى بعد أن رزقه المال والثروة وأصبح من الموسرين، ويقول اللَّه تعالى في هذه الآية: «فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ».

ثم تضيف الآية أنّ ذلك كان بسبب نقضهم للعهد وكذبهم على اللَّه تعالى: «بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ».

والجدير بالذكر أنّ نقض العهد مع اللَّه تعالى يعتبر نوع من الكذب العملي.

وعلى أية حال فالآية أعلاه تصرح بأنّ نقض العهد كذب يورث الإنسان روح النفاق في قلبه إلى آخر حياته، وما أشدّ هذه العقوبة في دائرة أركان الشخصية ودعائمها.

أمّا العلاقة بين هذين الذنبين (نقض العهد والكذب) وبين النفاق فواضحة، لأنّ النفاق ليس شيئاً سوى اختلاف الظاهر والباطن وأن يكون الإنسان ذا لسانين كما في اصطلاح الروايات، ونقض العهد والكذب أيضاً هو عبارة عن التظاهر بالتمسك والانضباط بالوعد وبالميثاق من موقع المسؤولية والتعهد القلبي في حين أنّ الواقع الباطني لا يتطابق مع هذا الظاهر الخادع.

أجل، فإنّ الكثيرين من أمثال ثعلبة بن حاطب الأنصاري عندما يعيشون حالة الضيق والعسر في حركة الحياة يلجأون إلى اللَّه تعالى بجميع وجودهم وكيانهم ليحل لهم مشكلاتهم ويبذلون له العهود والمواثيق والنذور في هذا السبيل، ولكن عندما يستجيب اللَّه تعالى لهم وتنفرج الأزمة ويحصلون على ما يريدون يتعاملون مع عهودهم ومواثيقهم من الاخلاق فى القرآن،

ج 3، ص: 192

موقع النسيان والتغافل، وهذا هو المصداق لنقض العهد والكذب والنفاق في عملية التعامل مع الحياة والواقع (نسأل اللَّه تعالى أن يحفظنا من شرّ هذه الآثام والسلوكيات الدنيئة).

«الآية الخامسة» تتحدّث عن صفات وأعمال المنافقين القبيحة وتسلّط الضوء خاصة على مسألة الكذب وتقول: «فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ فَزَادَهُم اللَّهُ مَرضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ».

فهذه الآية لم تتحدّث بشكل دقيق عن نوع الكذب الذي كانوا يرتكبونه ولعله إشارة إلى الكذب الذي أشارت إليه الآية السابقة، ومن ذلك إدّعائهم الإيمان باللَّه في حين أنّهم غير مؤمنين في قلوبهم، والآخر الخداع والغش الذي كانوا يمارسونه مع المؤمنين ويستغفلونهم في عملية التعامل معهم، والأهم من ذلك أنّهم كانوا يستفيدون من كل فرصة في سبيل تكذيب الرسالة الإلهية والرسول الكريم، ولكن على أيّة حال، فإنّ هذه الآية تقول: إنّ العذاب الأليم الذي ينتظر هؤلاء هو بسبب كذبهم، وهذا يدل على أنّ أشدّ وأشنع أعمال المنافقين هو أنّهم كانوا يرتكبون الكذب ويخترعون الإفك، بالرغم من أنّهم كانوا يرتكبون ذنوباً كثيرة إلى جانب الكذب.

ومن الواضح أنّ المقصود بالمرض في هذه الآية هو مرض النفاق الذي يعدّ مرضاً أخلاقياً ناشئاً من انفصام شخصية المنافق واهتزاز وجدانه بحيث يعيش بين الناس بلسانين ووجهين وظاهره يختلف عن باطنه.

«الآية السادسة» تتحرّك على مستوى بيان قسم خاص من أقسام الكذب، وهو الكذب على اللَّه تعالى، حيث تخاطب الآية الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وتقول: «قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَايُفْلِحُونَ».

أساساً فانّ الكذب لا يجتمع مع الفلاح والموفقّية في حركة الحياة وخاصّة إذا كان الكذب على اللَّه والأنبياء الإلهيين، والمراد من الكذب على اللَّه في هذه الآية (وبقرينة

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 193

الآيات

السابقة لها) هو أنّ المشركين كانوا يعتقدون بأنّ الملائكة هم بنات اللَّه، وقيل أنّ المراد هو دعوى المسيحيين بأنّ المسيح ابن اللَّه، وكذلك دعوى اليهود بأنّ عزير إبن اللَّه، وعلى أية حال فانّ نسبة هذه الامور إلى اللَّه تعالى من الكذب الفاضح والجلي، لأنّ اللَّه تعالى ليس بجسم ولا يتصف بالعوارض الجسمانيّة وليست له زوجة وأبناء.

وأساساً فانّ فلسفة وجود الابن تكون معقولة في دائرة نظام الخلقة على مستوى الإنسان وحاجاته الفطرّية والطبيعية، فانّ الإنسان يحتاج إلى الأبناء لبقاء النسل والقيام بمعونته وإسناده في حركة المعيشة الشاقّة أمام تحدّيات الواقع والحياة، أمّا مفهوم الأبن بالنسبة إلى اللَّه تعالى وهو الغني على الاطلاق والقادر على كل شي ء فلا معنى له في دائرة العقل والمنطق.

ومن الجدير بالتأمّل أنّ الآية المذكورة اعتبرت عمل المشركين مصداقاً للكذب والإفتراء، وهذا يعني أنّ الكذب له مفهوم واسع يستوعب في مضمونه الإفتراء أيضاً (وكما في الأصطلاح أنّ النسبة بينهما نسبة العموم والخصوص المطلق) فالكذب هو أن يتحدّث الإنسان بكلام مخالف للواقع سواءً كان يتحدّث عن شخص معيّن أو شي ء آخر، ولكنّ التهمة والإفتراء هو نسبة عمل قبيح وغير واقعي إلى شخص معيّن، فهنا يتحقق مصداق الكذب ومصداق التهمة أيضاً.

ونفس مضمون هذه الآية ورد في الآية 116 من سورة النحل حيث تقول الآية: «إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَايُفْلِحُون»

«الآية السابعة» والأخيرة من الآيات مورد البحث تستعرض واقعة المباهلة المعروفة والتي تستبطن في طيّاتها الكلام عن قسم خاص من أقسام الكذب، أي نسبة الكذب إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، ويترتّب على ذلك لعنة اللَّه على الكاذبين حيث تقول الآية: «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ

أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 194

(المباهلة) في الأصل من مادّة بهل (على وزن سهل) بمعنى الترك للشى ء، وقد ورد في التفاسير أنّ المباهلة تعني في المصطلح الديني أن تجتمع فئتان كل واحد منهما على مذهب معيّن فيتحاجون وأخيراً يتلاعنون ويدعون اللَّه تعالى بأن ينزل لعنته على الطرف الآخر الكاذب، وأي فئة تحقّق في موردها اللّعن ونزل عليها العذاب فهذا دليل على حقّانيّة الطرف الآخر، وقد حدث ذلك في صدر الإسلام بين نبي الإسلام صلى الله عليه و آله ونصارى نجران، فعند ما تقررّت المباهلة بينهما جاء النبي صلى الله عليه و آله ومعه الإمام علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام إلى ساحة المباهلة وكانت تبدوا على سيماهم المباركة آثار إستجابة الدعاء، فتراجع النصارى عن إدّعائهم وصالحوا النبي الأكرم صلى الله عليه و آله على أمور مذكورة بالتفصيل في التفاسير الشريفة ذيل هذه الآية ولذلك لا حاجة إلى الإطالة والتفصيل.

والمراد من قوله: «فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ»، لبيان عظمة الكذب وأنّه يستحق نزول اللّعنة على صاحبه.

والآية أعلاه والتي إستعرضت تأكيدات قرآنية مهمّة بالنسبة إلى قبح الكذب وآثاره المشؤمة وعواقبه الوخيمة توضّح جيداً أنّ هذا الذنب إلى أي درجة من القبح والشر في دائرة المفاهيم القرآنية، فينبغي على المؤمنين في المجتمع الإسلامي أن يعيشوا حالة التنفّر والكراهية لهذا النوع من السلوك الخاطي ء والخلق الذميم ويتحرّكوا على مستوى تطهير مجتمعهم من شر هذه الخطيئة.

الكذب في الروايات الإسلامية:

ونقرأ في الروايات الإسلامية تعابير مثيرة ومدهشة تتحدث عن قبح الكذب وشناعته وفيما يلى نماذج منها:

1- يستفاد من بعض الروايات أنّ الكذب مفتاح الذنوب، كما ورد عن الإمام الباقر عليه السلام قوله:

«إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ لِلشّرَّ اقْفالًا وَجَعَلَ مَفاتِيحَ تِلْكَ الأَقْفالِ الشَّرابَ، وَالْكِذْبُ شَرٌّ مِنَ الشَّرابِ» «1».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 195

2- وورد في حديث آخر عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام قوله: «جُعِلَتِ الْخَبائِثُ كُلُّها فِي بَيْتٍ وَجُعِلَ مِفْتاحُهُ الْكِذْبَ» «1».

والعلّة في ذلك جليّة، وهي أنّ الإنسان الكاذب عندما يجد نفسه في معرض الفضيحة فأنّه يتحرك في عمليّة التغطية على نقائصه ومعايبه من موقع الكذب والخداع، وبعبارة اخرى: إنّ الكذب يبيح له إرتكاب أنواع الذنوب من دون أن يخاف الفضيحة، في حين أنّ الإنسان الصادق سيجد نفسه مضطراً إلى ترك سائر الذنوب لأنّ الصدق لا يسوغ له إرتكاب الذنب، والخوف من الفضيحة بسبب الصدق يدعوه إلى ترك الذنوب.

وكما سبق وأن ذكرنا الحديث المعروف عن الرجل الذي جاء إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وهو ملّوث بأنواع الذنوب وطلب منه النبي صلى الله عليه و آله أن يترك الكذب فقط فقبل منه ذلك، وكان هذا سبباً في أن يترك جميع الذنوب «2».

3- ويستفاد من الأحاديث الاخرى أنّ الكذب لا ينسجم اطلاقاً مع الإيمان كما نقرأ في الحديث الشريف: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه و آله يَكُونُ الْمُؤمِنُ جُبانَاً؟ قالَ: نَعَمُ؛ قَيلَ وَيَكُونُ بَخِيلًا؟ قالَ نَعم، قِيلَ يَكُونُ كَذاباً قالَ: لَا»».

ونفس هذا المضمون ورد بصورة اخرى عن أميرالمؤمنين عليه السلام حيث يقول: «لا يَجِدُ الْعَبْدُ طَعْمَ الإِيِمانِ حَتّى يَتْرُكَ الْكِذْبَ هَزْلَهُ وَجِدَّهُ» «4».

ولكن لماذا لا ينسجم الكذب مع الإيمان؟ لأنّ الكذب إمّا أن يكون لغرض تحصيل الإنسان لمنفعة معيّنة أو للخلاص من مشكلة وأزمة، فلو كان إيمان الإنسان قوياً ومستحكماً في القلب فأنّه يرى أنّ الخير والشر كلاهما بيد اللَّه تعالى وهو الذي

بأمكانه حلّ مشكلاته وإنقاذه من الازمات التي يمر بها في مواجهة تحدّيات الواقع والحياة وهو الذي يدفع عن الإنسان أنواع البلايا والمخاطر، فلو أنّ الإنسان تمسك بغصن من أغصان التوحيد

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 196

الأفعالي واعتقد بذلك بصدق فلا يجد نفسه بحاجة إلى التمسّك بذيل الكذب حينئذٍ.

4- ونقرأ في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «وَشَرُّ الْقُولِ الْكِذُبُ» «1»

، لأنّ آثاره السلبية والمدّمرة أشد من كل ذنب آخر.

5- ونقرأ أيضاً في حديث آخر عن الإمام علي عليه السلام حيث يقرّر أنّ الكذب من أعظم الخطايا ويقول: «أَعْظَمُ الْخِطايا عِنْدَ اللَّهِ الْلِسانُ الْكَذُوبِ وِشَرُّ النَّدامَةِ نَدامَةُ يَوْمِ الْقِيامَةِ» «2».

6- وورد في حديث آخر أنّ الكذب مصدر الفجور ومنبع الفحشاء وسبب الدخول في النار كما في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله حيث يقول: «إِيَّاكُم وَالكِذبَ فإنَّ الكِذبَ يَهدِي إِلَى الفُجُورِ وَإنَّ الفُجُورَ يَهدِي إِلَى النّارِ» «3».

7- إنّ الكذب لا يتناغم ولا ينسجم مع العقل كما ورد هذا المضمون في الحديث الشريف عن الإمام الكاظم عليه السلام أنّه قال: «إِنَّ العاقِلَ لايَكذِبُ وَإِن كانَ فَيهِ هَواهُ» «4».

8- إنّ الكذب يبعد ملائكة الرحمة عن هذا الإنسان الكاذب ففي حديث عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إِذا كَذِبَ العَبدُ تَباعَدَ المَلَكُ مِنهُ مَسيرَةَ مِيلٍ مِنْ نَتِنِ ما جاءَ بِهِ» «5».

لأنّ الإنسان إذا تحرّك في تعامله مع الآخرين من موقع الكذب، فإنّه يتظاهر في نفس الحال بمظهر الصدق في حين أنّ باطنه يختلف عن ذلك، وهذا الاختلاف بين الظاهر والباطن نوع من أنواع النفاق، ولذلك كان الكذب من جملة الأعمال الشائعة لدى المنافقين.

10- إن الكاذب يخسر اعتماد الناس وثقتهم به

كما نقرأ ذلك في الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين عليه السلام: «مَنْ عُرِفَ بِالكِذبِ قَلَّتْ الثِّقَةُ بِهِ» «6».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 197

والنقطة المقابلة لذلك وردت أيضاً في كلمات أميرالمؤمنين عليه السلام حيث قال: «مَنْ تَجَنَّبَ الكِذبَ صَدَّقَتْ أَقوالُهُ» «1».

11- ونختم هذا البحث الطويل بحديث آخر من الأحاديث الحكيمة لأمير المؤمنين عليه السلام حيث يحذّر الناس من الصداقة والتعامل مع الكاذبين ويقول: «وَإِيَّاكَ وَمُصادَقَةَ الكَذَّابِ فَإِنَّهُ كَالسَّرابِ يُقَرِّبُ عَلَيكَ البَعِيدَ وَيُبَعِّدُ عَلَيكَ القَرِيبَ» «2».

ويستفاد من الروايات أعلاه أنّ الكذب منبع الذنوب والمعاصي المختلفة وعنصر اهتزاز الإيمان باللَّه والثقة بين الناس ويعتبر أشنع أقسام الكلام وفرع من فروع النفاق ويفسد العلاقة بين أفراد المجتمع ويعمل على هدم إتّحادهم ومروءتهم وقلّما نجد مثل هذه الآثار الذميمة لذنب آخر من الذنوب الفردية والاجتماعية.

بقيت هنا نقاط مهمّة نذكرها بشكل مختصر:

الآثار السلبية للكذب:

بالرغم من أنّ الآيات والروايات المذكوره آنفاً قد درست هذه المسألة بشكل مفصّل وكشفت الستار عن نقاط مهمّة فيها، ولكن أهميّة هذا الموضوع يحتاج إلى دراسة أكثر وأعمق.

وأول: أثر من الآثار المضرّة والسلبية للكذب هي الفضيحة وذهاب ماء الوجه وانهيار المكانة الاجتماعية للشخص الكاذب وسلب الثقة منه لدى الناس.

وكما يقول المثل المعروف: (الكاذب قرين النسيان) فإنّ التجارب تثبت أنّ الكلام الكاذب لا يمكن أن يستمر لمدّة طويلة في حجبه الحقيقة عن الناس، وقد تطوى المسألة في زاوية النسيان إذا لم تكن ذات أهميّة، ولكن إذا كانت المسألة مهمّة فإنّ الحقيقة سوف الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 198

تتجلّى في دائرة ويفتضح الكاذب حينئذٍ لا من أجل أنّ الكاذب ينسى ما قاله سابقاً، بل من أجل أنّ الكذب بنفسه لا يتأطر بأطار الحافظة، لأنّ الحادثة الواقعة في الخارج ترتبط بسلسلة من الحوادث

الاخرى ومن موقع العلّة والمعلول وترتبط بما حولها من الحوادث بروابط عديدة وحتميّة، فالشخص الذي يصوغ حادثة مختلقة يجد نفسه مضطراً إلى أن يربطها بما قبلها وبعدها من ظروف الزمان والمكان والأشخاص والحوادث المحيطة بها وكل ذلك يجب أن يختلقة بما ينسجم مع هذه الحالة الكاذبة، وبما أنّ هذه الروابط ليس لها حد وحصر، وعلى فرض أنّه استطاع أن يختلق عدّة حوادث وروابط منسجمة مع بعضها إلّا أنّه قد يترك ثغرات في كلامه حيث يتّضح من ذلك كذبه مثل ما رأينا من قصّة يوسف عليه السلام حيث جاء الأُخوة بقميصه الدامي إلى أبيهم واختلقوا قصّة أكل الذئب له، ولكنّهم نسوا أن يمزقوا القميص من عدّة أماكن، وهكذا إتّضح كذبهم من بقاء القميص سالماً، أو مثل زوجة عزيز مصر عندما إدّعت كذباً بأنّ يوسف كان يقصد بها سوء ولكنّها نسيت أنّ قميص يوسف عليه السلام قد قُدَّ من خلفه، وهذا دليل واضح على كذبها وأنّها هي التي كانت تلحق يوسف عليه السلام لا العكس.

وفي هذا العصر فإنّ المحققين في عالم الجريمة يستطيعون بكل سهولة ومن خلال الأسئلة المتعددة عن الحادثة ولوازمها وخصوصياتها أن يكشفوا صدق أو كذب المدّعي بحيث نادراً ما يفلت منهم كاذب دون أن يفتضح، أجل فإنّ الكاذب ليست له حافظة قويّة، وسوف يفتضح سريعاً على أيّة حال.

الثاني: من النتائج السلبية للكذب هو أنّه يجر الإنسان إلى أن يكذب مرّات عديدة أو يرتكب ذنوباً اخرى للتغطية على كذبته الاولى أو يرتكب حماقات خطيرة لهذا الغرض.

الثالث: من مضرّات الكذب هو أنّه يبيح للشخص الكاذب أن يغطي على خطيئته وإثمه ولو بشكل مؤقت ويتستر على سلوكياته المنحرفة في حين أنّه لو كان يتحرّك من موقع الصدق

فإنّه يجد نفسه مضطراً إلى ترك هذه الأعمال القبيحة.

الرابع: من مضرّات الكذب هو أنّه يدفع بصاحبه إلى أن يسلك في خط النفاق ويصبح من الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 199

زمرة المنافقين، لأنّ الكذب فرع من فروع النفاق، والكاذب هو الذي يظهر غيرما يبطن ويتكلم بخلاف الواقع وبخلاف ما يعلمه في نفسه، فهذا الاختلاف بين الظاهر والباطن سوف يسري بالتدريج إلى سائر أعماله وسلوكياته حتى يمسي منافقاً كاملًا.

وقد ورد في الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «الكذب يؤدي إلى النفاق».

الخامس: من مضرات الكذب هو أنّه لو كان الشخص يتمتع بلياقات كثيرة وطاقات ايجابية يمكنه إستخدامها في حركة التفاعل الإجتماعى فأنّه لو كان كاذباً في هذا المجال فسوف لا يستطيع الناس الإستفادة من لياقاته وطاقاته الإيجابيّة لأنهم سوف يتعاملون معه من موقع الشك والترديد في سلوكياته وكلماته.

ولهذا السبب نجد أنّ الروايات الإسلامية إعتبرت الكاذب مثل الميّت حيث ورد:

«الكَذَّابُ والمَيِّتُ سَواءٌ فإنَّ فَضِيلَةَ الحَيِّ عَلَى المَيِّتِ الثِّقَةُ بِهِ، فَإذا لَمْ يُوثَقُ بَكلامِهِ فَقَد بَطَلَتْ حَياتُهُ» «1».

السادس: من النتائج السلبية المترتبة على الكذب هو أنّ الإنسان وبالإستفادة من أداة الكذب يمكنه أن يرتكب أعمالًا قبيحة اخرى، فالحسود والحاقد والبخيل كل منهم يجد في الكذب وسيلة للتغطية على أعمالهم وسلوكيّاتهم وهكذا الحال في سائر الذنوب الاخرى، مثلًا عند ما يأتي إليه شخص ويطلب منه قرضاً فأنّه يكذب عليه ويقول: لقد إقترضت الآن مبلغاً من المال وليس لدي ما أعطيك منه، أو عندما يطلب منه أن يصف شخصاً من الأشخاص فأنّه وبسبب الحسد لا يذكر منه سوى صفاته السلبيّة والحال أنّ ذلك الشخص هو إنسان شريف وثقة.

السابع: هو ما نراه من الآثار المخربة في دائرة العلوم والمعارف البشرية، فلو

أنّ المحققين والمخترعين والعلماء تحرّكوا من موقع الكذب في تحقيقاتهم واكتشافاتهم فانّ جميع الكتب والدراسات العلميّة سوف يلحقها فيروس الشك والترديد وبالتالي لا يضحى الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 200

هناك إعتماد على تحقيقات ودراسات الآخرين فتتوقف حركة التطور الحضاري والعلمي في المجتمع البشري.

وهناك نتائج سلبية ومضرات كثيرة اخرى تترتب على الكذب في حركة الحياة الفردية.

ومضافاً إلى هذه النتائج والآثار في حركة الحياة للإنسان فانّ هناك مضرات معنوية تترتب على الكذب وردت الإشارة إليها في الروايات الشريفة ومن ذلك:

أنّ الملائكة تبتعد عن الإنسان كما قرأنا ذلك سابقاً في الحديث عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام حيث قال: «إِذا كَذِبَ العَبدُ تَباعَدَ المَلَكُ مِنهُ مَسيرَةَ مِيلٍ مِنْ نَتِنِ ما جاءَ بِهِ» «1».

والآخر إنّ الكاذب يحرم من صلاة الليل كما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: «انَّ الَّرجُلَ لَيَكْذِبُ الْكِذْبَةَ فَيُحرَمُ بِها صَلاةَ الْلَيْلِ، فَاذا حُرِمَ صَلاةُ اللَيْلِ حُرِمَ بِها الرِّزْقُ» «2».

والثالث أنّ الكذب يؤدّي إلى عدم قبول بعض العبادات، كما ورد في الصوم في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «فَإذا صُمتُم فَاحفَظُوا أَلسِنَتَكُم عَنِ الكِذبِ وَغُضُّوا أَبصارَكُم» «3».

وهذا الحديث يدلّ على أنّ مثل هذه الأعمال المنافية للأخلاق تقلّل من قيمة الصوم.

والآخر أنّ الكذب يتسبب في قطع البركات الإلهية على الإنسان كما نقرأ ذلك في الحديث الشريف عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام: «إِذا كَذِبَ الولاةُ حُبِسَ المَطرُ» «4».

وقد وردت بعض الآثار السلبية للكذب في الروايات والتي لها بعد معنوي مضافاً إلى البعد الاجتماعي والظاهري، ومن ذلك ما يستفاد من الروايات المتعددة من أنّ الكذب يتسبب في حرمان الإنسان من الرزق ويؤدّي به إلى الوقوع في هوّة الفقر والمسكنة.

الاخلاق فى

القرآن، ج 3، ص: 201

ففي الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين قال: «إعتِيادُ الكِذبِ يُورثُ الفَقرَ» «1».

وفي حديث آخر عن رسول اللَّه أنّه قال: «الكِذْبُ يُنقِّصُ الرِّزقَ» «2».

وهذا النقصان في الرزق يمكن أن يكون له نتائج وخيمة في دائرة الرزق المعنوي أو في العلاقات الاجتماعية، لأنّ الكذب يسلب اعتماد الناس وثقتهم من هذا الشخص الكاذب، وبذلك سوف تتحدّد فعّاليته الاقتصادية ويتراجع نشاطه الاقتصادي وبالتالي يؤدّي إلى نقصان رزقه المادي أيضاً.

دوافع الكذب:

إنّ الكذب كما هو في سائر الصفات الرذيلة له أسباب ودوافع مختلفة وأهمّها:

1- ضعف الإيمان والعقيدة، لأنّه لو كان الكاذب عالماً بأنّ اللَّه تعالى قادر رحيم وعالم بأمره فإنّه لا يجد في نفسه حاجة إلى الكذب في سبيل تحصيل المال أو نيل الجاه والمقام، ولا يرى أنّ توفيقه في حركة الحياة مرتبط بالكذب ولا يخاف من الفقر ولا من تفرق الناس من حوله وزوال موقعيته الاجتماعية وقدرته على الكسب والرزق بل يرى ذلك مرتبط باللَّه تعالى فلا يحتاج إلى الكذب في نيل تحصيلها ولذلك ورد في الرواية الشريفة عن الإمام الباقر عليه السلام قوله: «جانِبُوا الكِذْبَ فإنَّ الكِذْبَ مُجانِبُ الإيمانَ» «3».

2- والآخر من دوافع الكذب هو ضعف الشخصية وعقدة الحقارة، فالأشخاص الذين يعيشون هذه الحالة من ضعف الشخصية والحقارة يضطرون إلى التستر على ضعفهم ودناءتهم من خلال استخدام الكذب، وقد ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «لا يَكذِبُ الكَاذِبُ إِلّا مِنْ مَهانَةِ نَفسِهِ عَلَيهِ» «4».

3- ومن دوافع الكذب أيضاً حالات الحسد والبخل والتكبّر والغرور والعداوة بالنسبة

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 202

إلى الآخرين حيث يدفعه ذلك إلى إتهامهم بما ليس فيهم أو التحدّث عنهم من موقع الكذب، وما دامت هذه الحالات السلبية تعتلج في

ذات الإنسان وباطنه فإنّه سوف لا يجد خلاصاً من الكذب.

ولهذا نرى أنّ المنافقين يتوسلون بحبل الكذب للتغطية على واقعهم السي ء كما تقدّمت الإشارة إليه سابقاً.

4- وممّا يورث الكذب لدى البعض هو الأمراض الأخلاقية والاجتماعية والتلّوث بأنواع الذنوب والانحراف عن خط الحق والفطرة بحيث يصل به الحال إلى أن يقول: إنني إذا لم أكذب فسوف لا أستطيع التعامل مع الآخرين ونيل الموفقية في حركة الحياة الاجتماعية من الكسب والتجارة وأمثال ذلك.

5- الدوافع الاخرى لشيوع الكذب هو العلاقة الشديدة بالدنيا وحفظ المقامات الاجتماعية وحتّى أنّه قد يتوسل إلى ذلك بالكذب على اللَّه ورسوله.

ونقرأ في الخطبة 147 من نهج البلاغة قول أميرالمؤمنين عليه السلام: «وإِنّه سَيأتِي عَلَيكُم بَعدِي زَمانٌ لَيسَ فِيهِ شَي ءٌ أَخفَى وَلا أَظهَرَ مِنَ الباطِلِ وَلا أَكثَرَ مِنَ الكِذبِ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ».

طرق علاج الكذب:

لابدّ لعلاج هذه الرذيلة الأخلاقية وقطع جذورها من واقع النفس من سلوك الطريق المستخدم لعلاج سائر الرذائل الأخلاقية الاخرى، أي التعرّف في البداية على جذورها ودوافعها، فما لم يستطع الإنسان من إقتلاع جذور هذه الرذيلة من نفسه فإنّ هذه الشجرة الخبيثة سوف تبقى وتشتد في المستقبل، فلو كان الدافع للكذب هو ضعف الإيمان والاعتقاد بالنسبة إلى التوحيد الأفعالي، فيجب عليه تقوية دعائم الإيمان في نفسه وباطنه وليعلم أنّ اللَّه تعالى قادر على كلّ شي ء وأنّ مفاتيح الرزق والموفقية والعزّة والكرامة بيده فقط، ولذلك يتسنى له جبران عناصر الضعف في دائرة الإيمان وبالتالي يصدّه ذلك عن الكذب، وإذا كان الدافع لذلك هو الحسد والبخل والتكبّر والغرور وأمثال ذلك من الحالات الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 203

السلبية في دائرة الأخلاق، فيجب عليه السعي لعلاجها، وليعلم أنّه ما لم يقطع عن نفسه جذور هذه الحالات السلبية ويداوي

هذه الأمراض الأخلاقية فإنّه لا يتسنى له أن يعيش الصدق والكرامة والشرف في حياته الفردية والاجتماعية.

ومن جانب آخر يجب عليه التفكّر في الآثار السيئة والأضرار الوخيمة للكذب والتي تسبب له الفضيحة في الدنيا والآخرة، ومن المعلوم أنّ كل شخص يتفكّر ويتدبّر جيداً فيما ذكرناه سابقاً من هذه الأضرار للكذب وخاصة ما ورد في الروايات الشريفة في هذا الباب فإنّ ذلك سيكون رادعاً قوياً له عن سلوك هذا الطريق المنحرف.

إنّ لقادة المجتمع وكبار الأشخاص في الاسرة دوراً مهمّاً في دفع الناس والأفراد نحو سلوك طريق الصدق، لأنّه لو رأى الناس أو أفراد الاسرة أنّ كبيرهم وقائدهم لا يتحرّك في تعامله مع الآخرين إلّامن موقع الصدق، فإنّهم سوف يتحرّكون كذلك في تعاملهم وسلوكهم الاجتماعي، بخلاف ما لو رأوا أنّ الكبار يتعاملون مع الآخرين بالكذب والدجل والخداع، فإنّ أفراد المجتمع والاسرة سرعان ما يتلوثوا بهذه الصفة الرذيلة.

كما نقرأ في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ضمن بيانه عدم تلقين الناس الكذب حيث يقول: «لا تُلَقِّنُوا النّاسَ فَيَكذِبُونَ فَإنَّ بَنِي يَعقُوبَ لَمْ يَعلَمُوا إِنَّ الذِّئبَ يَأَكُلُ الإِنسانَ فَلَمّا لَقَّنَهُم إِنِّي أَخافُ أَنْ يَأَكُلُهُ الذِّئبُ، قَالُوا أَكَلَهُ الذِّئبُ» «1».

أجل، فإنّ ترك الأولى هذا قد صار ذريعة بيد أبناء يعقوب ليتحرّكوا من موقع الكذب في مواجتهم للمشكلة.

وأحد الطرق المؤثرة في علاج الكذب هوإيجاد قوّة الشخصية لدى الأفراد لأنّه كما سبقت الإشارة إليه أنّ أحد العوامل المهمّة للكذب هو الشعور بالحقارة وضعف الشخصية، فالكاذب يريد جبران هذا النقص من خلال الكذب، فلو أنّه كان يجد الثقة في نفسه ويعيش حالة قوة الشخصية ويرى أنّه قادر على كسب المقامات العالية في المجتمع بما لديه من قابليات وملكات إيجابية فلا

يجد في نفسه حاجة إلى اختلاق شخصية كاذبة عن نفسه الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 204

والظهور إلى الآخرين بغير واقعه.

وخاصة إذا التفت المربّون والمصلحون إلى هذه الحقيقة في دائرة تربية الأفراد على الصدق، وهي أنّ الصادق في كلامه سيكون في مرتبة المقرّبين والصديقين عند اللَّه تعالى، يحشر مع الإنبياء والشهداء يوم القيامة، فبديهي أنّ ذلك سيكون مشجعاً وحافزاً على إقبال الناس نحو الصدق، ويقول القرآن الكريم: «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً» «1».

والجدير بالذكر أن توغّل حالة الكذب الذميمة في باطن الإنسان كما هو الحال في الصفات الذميمة الاخرى يبتدأ من صغائر الامور وبالتدريج تجرّه إلى ما هو أخطر وأعظم كما قال الإمام زين العابدين عليه السلام: «إِتَّقُوا الكِذبَ فِي صَغِيرِ وَكَبيرِ فِي كُلِّ جِدٍّ وَهَزَلٍ فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذا كَذِبَ فِي صَغِيرِ إِجتَرأَ عَلَى الكَبِيرِ» «2».

إستثناءات الكذب:

وبالرغم من أنّ الكذب من أهمّ الذنوب وأخطرها بحال الإنسان على المستوى المادي والمعنوي، والفردي والاجتماعي، ولكن مع ذلك هناك موارد عديدة وردت في الروايات الإسلامية وكلمات الفقهاء وعلماء الأخلاق على شكل إستثناء من قبح الكذب.

وهذه الموارد عبارة عن:

1- الكذب لإصلاح ذات البين.

2- الكذب لخداع العدو وفي ميادين القتال.

3- الكذب في مقام التقية.

4- لدفع الظالمين.

5- الكذب في جميع الموارد التي يجد الإنسان نفسه وناموسه في خطر محدق ولا نجاة له إلّابالتوسل بالكذب.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 205

ففي جميع هذه الموارد يمكننا استخلاص قاعدة كلية، وهي أنّه إذا كانت الأهداف الأهم في خطر ولا يجد الإنسان لدفع هذا الخطر إلّابواسطة الكذب فيجوز له ذلك، وبعبارة اخرى: إنّ جميع هذه الموارد مشمولة لقاعدة الأهم والمهم، وعلى سبيل المثال فلو

ابتلى الإنسان بجماعة متعصبة وجاهلة ومتوحشة وسألوه عن مذهبه، فلو أنّه قال الحقيقة لهم فأنّهم سوف يسفكون دمه فوراً، فالعقل والشرع هنا لا يبيحان له أن يصدقهم في جوابه بل يجوز له الكذب حينئذٍ لإنقاذ نفسه من شرّهم، أو في الموارد التي يكون هناك اختلاف شديد بين شخصين ويجد الإنسان لحلّ هذا الاختلاف والمشكلة العالقة بينهما طريقاً إلى ذلك بالاستعانة بالكذب (كأن يقول لأحدهما أنّ الشخص الفلاني يحبّك ويذكرك بالخير دائماً في المجالس) ممّا يثير في نفس الطرف الآخر أجواء المحبّة والصفاء والصلح بينهما، وهكذا في أمثال هذه الأهداف المهمّة والغايات الخيّرة، لا أنّ الإنسان وبدافع من منافعه الشخصية والمصالح الجزئية يستخدم الكذب، فهذا الاستثناء لقبح الكذب تدخل في دائرة الضرورة ولا يصح أن تكون مسوّغاً وذريعة بيد الأفراد لاستخدام أداة الكذب في كل مورد من الموارد الجزئية.

وفي الحقيقة فإنّ اباحة الكذب في هذه الموارد الضرورية هي من قبيل حلّية (أكل الميتة) في المواقع الضرورية حيث يجب التناول منها بمقدار الضرورة ولا يسلك الإنسان هذا الطريق إلّافي مواقع الضرورة.

والدليل على هذه الاستثناءات مضافاً إلى القاعدة العقلية المذكورة أعلاه (قاعدة الأهم والمهم) هو الروايات المتعددة المذكورة في المصادر الإسلامية عن المعصومين عليهم السلام:

1- ففي حديث معروف عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: «لَيسَ شَي ءٌ مِما حَرَّمَ اللَّهُ إلّاوَقَد أَحَلَّهُ لِمَنِ اضطُرَّ إلَيهِ» «1».

2- وقد ورد عن الإمام علي عليه السلام عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أيضاً أنّه قال: «إحلِفْ بِاللَّهِ كاذِباً ونَجِّ أَخاكَ مِنَ القَتلِ» «2».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 206

3- وفي حديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أيضاً أنّه قال: «كُلُّ الِكذبِ يَكتُبُ عَلَى إبنِ آدَمِ إلّا رَجُلٌ كَذَبَ

بَينَ رَجُلَينِ يُصلِحُ بَينَهُما» «1».

4- ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «الكِذبُ مَذمُومٌ إلّافِي أَمرَينِ دَفعُ شَرِّ الظَّلَمةِ وَإصلاحُ ذاتِ البَينِ» «2».

5- وفي حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «كُلُّ الكِذْبِ مَكتُوبٌ كِذباً لامَحالَةَ إلّا أَنْ يَكذِبَ الرَّجُلُ فِي الحَربِ فَإِنَّ الحَربَ خُدعَةٌ أَو يَكُونَ بَينَ رَجُلَينِ شَحناءَ فَيُصلِحُ بَينَهُما أَو يُحَدِّثُ إِمرأَتَهُ يِرضِيها» «3».

والمراد من الجملة الأخيرة ليس هو أنّ الإنسان متى ما أراد الكذب على زوجته جاز له ذلك، بل ناظرة إلى موارد تكون الزوجة لها توقّعات كثيرة وغير معقولة من زوجها أو أنّ إمكانات الزوج لا تستوعب كلّ هذه التوقّعات ولذلك يتحرّك الزوج في تعامله معها من موقع الكذب والوعد بتحقيق مطالبها ليسكت اعتراضها وليهدّي ء من ثورتها ويحتمل أن تنسى ذلك فيما بعد وتنتهي المنازعة فيما بينهما.

ويصدق هذا المعنى أيضاً على توقّعات الزوج غير المنطقية كما وردت الإشارة إلى ذلك في بعض الروايات أيضاً.

طريق الفرار من الكذب (التورية):

التورية (على وزن توصية) تقال للكلام الذي يثير في نفس المستمع معنىً آخر غير ما يقصده القائل، أو بتعبير آخر: الكلام الذي يحتمل وجهين، ويتعلق به الأشخاص الذين يجدون في أنفسهم حرجاً من الكذب، فمن جهة لا يرتكبون ذنب الكذب، ومن جهة اخرى لا يخبرون السامع بسرهم.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 207

والأمثلة التالية توضّح هذا المعنى بصورة كاملة:

1- إذا سأل الإنسان: هل إرتكبت المعصية الفلانية، فيقول في مقام الجواب: استغفر اللَّه، (فالمستمع يفهم من هذه العبارة النفي في حين أنّ مراد المتكلّم هو الاستغفار من إرتكابه لذلك العمل).

2- وقد يسأل شخص من آخر: هل أنّ فلاناً قد استغابني وتكلّم عنّي بسوء أمامك؟

فيجيب: وهل أنّ هذا ممكن ومعقول

(فالمستمع يفهم من هذا الكلام النفي في حين أنّ مقصود المتكلّم هو الاستفهام لا غير).

3- إذا جاء شخص إلى باب دار شخص آخر وقال: هل أنّ فلاناً موجود في البيت؟

فيقول الآخر في مقام الجواب مشيراً إلى مكان معيّن: كلا ليس هنا (فالمستمع يتصوّر أنّه غير موجود في البيت في حين أنّ مراد القائل أنّه غير موجود في ذلك المكان بالخصوص).

4- وقد سئل من أحد العلماء عن الخليفة الحق بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله من هو؟ ولم يكن ذلك العالم في حالة تسمح له بالجواب بصورة صحيحة وشفافة فقال في جوابه: (من بنته في بيته).

فتصوّر المستمع أنّ المراد هو أبا بكر الذي كانت إبنته عائشة في بيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في حين أنّ مراد القائل هو أنّه إبنته أي إبنة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فاطمة في بيته، أي بيت علي بن أبي طالب عليه السلام.

5- ونقرأ في قصة محادثة سعيد بن جبير مع الحجّاج عندما سأله الحجاج عدّة أسئلة كذريعة لقتله فكان ممّا سأله: كيف تجدني في نظرك؟ فقال: أنت عادل (والعادل في نظر العرب ترد في معنيين) أحدهما بمعنى العدالة والآخر بمعنى العادل عن الحق، أي الكافر أو الذي يرى عديلًا أو شريكاً للَّه تعالى كما ورد ذلك في القرآن الكريم: «ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ» «1».

أي يجعلون له عديلًا وشريكاً.

وممّا تقدّم آنفاً يتّضح أنّ التورية ليست من الكذب، لأنّ القائل ليس في نيّته سوى الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 208

الصدق وإرادة الجانب الصادق من كلماته، رغم أنّ المستمع يتصوّر المعنى الآخر من ذلك الكلام، ومن الواضح أنّ اشتباه المستمع في فهم معنى كلام القائل لا

ربط له بالقائل نفسه.

وهنا يتّضح أيضاً أنّه في الموارد التي يجد الإنسان ضرورة للاستفادة من الكذب إذا يمكن من التورية وجب عليه استخدامها للتخلّص من الوقوع في الكذب، وعلى هذا الأساس فإنّ الكذب لا يكون مباحاً في موقع الضرورة إلّافيما لو كانت أبواب التورية موصدة أيضاً، والاصطلاح العلمي أنّه لا تكون لديه مندوحة.

ومن هنا يتّضح أيضاً خطأ ما ذهب إليه الغزالي من عدّه التورية من مصاديق الكذب، ولكنّه قال بأنّ قبحها وفسادها أدقّ من مصاديق الكذب الاخرى، إلّاأن يكون مراده من التورية أمر آخر بحيث تعدّ من مصاديق الكذب واقعاً.

وعلى أيّة حال فإنّ قبح الكذب وفساده إلى درجة كبيرة بحيث أنّ الإنسان لابدّ له من إجتنابه بالمقدار الممكن حتّى لو تمكّن إجتنابه عن طريق التورية.

ونلاحظ في كلمات الأنبياء الواردة في القرآن الكريم والروايات الشريفة أنّهم قد يتخلّصون من الكذب بالتورية في بعض الحالات من قبيل ما نراه من محاججة إبراهيم عليه السلام لقومه من عَبَّدْة الأوثان عندما سألوه عن الشخص الذي إرتكب عملية تحطيم الأوثان والأصنام فقال في مقام الجواب: «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ» «1».

فرغم أنّ السامع لهذا الكلام يمكن أن يفهم منه أنّ إبراهيم عليه السلام نسب تحطيم الأصنام إلى كبيرهم أي الصنم الكبير ولكنّ جملة (إن كانوا ينطقون) جاءت بعنوان شرط للمراد من الكلام، أي أنّهم لو كانوا ينطقون فإنّ هذا الفعل من فعل كبيرهم.

وكذلك جملة «إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ» التّي قالها عمال يوسف لأخوته، فمع ملاحظة الآيات السابقة قد ينعكس إلى الذهن أنّ هؤلاء الأخوة هم الذين سرقوا مكيال الملك في حين أنّ مرادهم هو سرقة الأخوة ليوسف من أبيهم في كنعان.

وخلاصة الكلام أنّ التورية والتكلّم بكلام يحتمل وجهين ليس

من مصاديق الكذب الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 209

اطلاقاً رغم أنّ السامع قد يفهم منه شي ء آخر غير ما يقصده المتكلّم وغير ما يتطابق مع الواقع، ويكون مراد المتكلم صحيحاً ومتطابقاً للواقع، وأمّا من يرى في معيار الصدق والكذب هو ظاهر الكلام لا المراد والمقصود القلبي للمتكلم فيمكن أن يعتبر التورية نوع من الكذب الخفيف في حين أنّها ليست كذلك، فمعيار الصدق والكذب هو المراد الجدّي للمتكلم الذي يتطابق مع محتوى ومضمون العبارة.

مثلًا قد يسأل شخص من آخر: هل أنّ هذا اللباس قد أهداه لك الشخص الفلاني؟ في حين أنّ المخاطب قد لا يكون راغباً في نفي هذا المطلب بصراحة فيقول في جوابه من موقع التورية: أطال اللَّه عمره، فيحسب السامع من هذا الكلام أنّ المتكلم قد أجاب بالإيجاب في حين أنّ المتكلم لم يكن يقصد ذلك بل دعا إلى ذلك الشخص فقط.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 210

الوفاء بالعهد ونقض العهد

تنويه:

رأينا سابقاً أنّ أهم رأسمال وأقوى دعامة في حياة المجتمع الانساني هو الأعتماد المتبادل بين الأفراد، فكل شي ء يؤدّي إلى تقوية هذا الإعتماد والثقة المتبادلة فانّ ذلك من شأنه أن يحقق للجميع السعادة والتطور الحضاري والإنساني، وعلى العكس من ذلك فانّ كلّ شي ء يفضي إلى ارباك هذا العنصر المهم فأنّه يؤدّي إلى إنحطاط المجتمع وسقوطه.

ومن أهم الامور التي تعمل على تقوية دعائم الثقة العامة والخاصة بين الأفراد هو (الوفاء بالعهد والميثاق) الذي يعد من الفضائل الأخلاقية المهمة في حركة الإنسان التكاملية، وبعكس ذلك (نقض العهد) الذي يعد من أسوأ الخصال والرذائل الأخلاقية.

إنّ لزوم الوفاء بالعهد يعدّ ركناً من أركان الفطرة الإنسانية السليمة، وبتعبير آخر إنّ هذا المفهوم هو من الأمور الفطرية غير القابلة للإنكار.

والفطرة هي من الامور

التي يدركها كل إنسان ويقبلها كل شخص بدون الحاجة إلى دليل وبرهان، من قبيل حسن العدل وقبح الظلم وكذلك أهمية الوفاء بالعهد وقبح نقض العهد حيث تعتبر من أوضح الامور الفطرية لدى الناس، وكل إنسان عندما يراجع وجدانه يرى صحة هذه المفاهيم ويسلم بها من موقع القبول والإذعان الوجداني، ولهذا السبب فانّ هذه الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 212

المفاهيم يقبل بها كل قوم من الأقوام البشرية سواءاً كانوا على دين معين ومذهب سماوي أولم يكونوا كذلك، فانّ الوفاء بالعهد مطلوب عند جميع الأمم والشعوب حتى أنّ الذي يتحرك على مستوى نقض العهد يسعى إلى ذريعة وحجة لتبرير هذا التصرف حتى لا يتهم بنقض العهد ولا يزول إعتباره وشخصيته بين الآخرين، لأنّه يعلم أنّ الناس لا ترضى بنقض العهد ولا تحب المرتكب لهذا الفعل حيث لا تبقى قيمة وإعتبار لديهم لمن يتهم بنقض عهده ووعده وسيفقد بذلك تأييد الناس وحبّهم وتعاونهم معه.

وحتى في الأقوام الجاهلية نرى أنّ الوفاء بالعهد والميثاق يعدّ من الوظائف والواجبات الحتمية للأفراد حيث نجد سعيهم الكبير في حفظ عهودهم والتعامل مع الآخرين من موقع الوفاء بالعهد والميثاق، ونقرأ في الآيات القرآنية والروايات الإسلامية في هذا الباب تعابير قوية وشديدة تبين الوفاء بالعهد وتذم الذين ينقضون العهد والميثاق.

وبهذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته وضوحاً أكثر في هذا الباب:

1- «وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا» «1».

2- «وَالَّذِينَ هُمْ لِامَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ» «2».

3- «وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا» «3».

4- «بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ»»

.5- «إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ» «5».

6- «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ

اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا» «6».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 213

7- «وَمَا وَجَدْنَا لِاكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ» «1».

8- «أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَايُؤْمِنُونَ» «2».

تفسير وإستنتاج:

«الآية الأولى» من الآيات محل البحث تتحدث عن الأساس والأصل لجميع أعمال الخير والصلاح وتذكر ستة صفات وعناوين لذلك، الأول منها هو الإيمان باللَّه تعالى ويوم القيامة والملائكة والأنبياء والكتب السماوية، ثم تأتي بعدها مسألة الأنفاق في سبيل اللَّه وتشير أيضاً إلى إقامة الصلاة وأداء الزكاة، وتذكر في الصفة الخامسة من هذه الصفات (الوفاء بالعهد) وفي الصفة السادسة تأتي أهمية الصبر والأستقامة في مقابل تحدّيات الواقع الصعبة والمشاكل التي تواجه الإنسان في حركة الحياة والصبر في ميدان القتال، وبالنسبة إلى الوفاء بالعهد تقول «وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا».

وهذا التعبير يوضّح، أنّ الوفاء بالعهد في دائرة المفاهيم الإسلامية والقرآنية مهم إلى درجة أنّه وقع رديفاً للإيمان باللَّه والصلاة والزكاة.

ومع ملاحظة أنّ المادة الأصلية لهذه الكلمة (وفى هي أن يصل الشي ء إلى حدُّ الكمال والتمام، فعندما يترجم الشخص عهده ووعده عملياً على أرض الواقع يقال له (وفى بعهده) أو (أوفى بعهده)، وعليه فإنّ الثلاثي المجرّد أو المزيد لهذه المفردة يأتيان بمعنى واحد.

وكلمة (عهد) تأتي في الأصل بمعنى (الحفظ) ولهذا فإنّها تقال لكل شي ء لابدّ من حفظه والاهتمام به فيقال (عهد) لذلك.

والجدير بالذكر أنّ القرآن الكريم حث على وجوب الوفاء بالعهد في هذه الآية بدون أي قيد وشرط، وعليه فإنّه يشمل جميع أشكال العهد مع اللَّه تعالى ومع الناس، سواءً كانوا مسلمين أو غير مسلمين، أي مادام الشخص قد ارتبط بعهد وميثاق مع المسلمين، فيجب الاخلاق فى القرآن، ج 3،

ص: 214

عليهم مراعاة عهده والوفاء به.

«الآية الثانية» تستعرض صفات المؤمنين الحقيقيين وتفتتح السورة آياتها بالقول «قَد أَفلَحَ المُؤمِنُونَ» ثم تذكر سبع صفات من الصفات المهمّة والأساسية للمؤمنين، وفي الصفة الخامسة والسادسة تقول: «وَالَّذِينَ هُمْ لِامَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ».

وفي هذه الآية والتي وردت في القرآن الكريم في سورتين نجد أنّها أشارت إلى الأمانة والعهد بصورة مقترنة، ولعل ذلك إشارة إلى أنّ الأمانات هي نوع من العهد والميثاق كما أنّ العهد هو نوع من الأمانة.

والتعبير بكلمة (راعون) المأخوذة في الأصل من (رعى) يتضمّن مفهوماً أعمق من مفهوم الوفاء بالعهد، لأنّ الرعاية والمراعاة تأتي بمعنى المراقبة الكاملة من موقع المحافظة بحيث لا يصل أي مكروه أو ضرر للشي ء، فالإنسان الذي قبل الأمانة أو ارتبط مع غيره بعهد وميثاق يجب عليه مراعاته بحيث لا يصل أي ضرر لهذه الأمانة والعهد.

وطبعاً فإنّ الأمانة لها مفهوم واسع جدّاً وكذلك العهد أيضاً حيث ستأتي الإشارة إلى ذلك لاحقاً.

«الآية الثالثة» تتحدّث عن مسألة لزوم الوفاء بالعهد بتعبير جديد وتقول: «وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا».

وقد ذكر المفسّرون تفسيرات عديدة في جملة «إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا».

أحدها: ما ذكرنا آنفاً من أنّ الإنسان هو المسؤول، والعهد مسؤول عنه، يعني أنّه يسأل الإنسان عن وفائه بعهده.

والآخر: أنّ نفس العهد يكون مسؤولًا، كما ورد في عبارة الموؤدة التي يسأل عنها «إذا المَوؤُدةُ سُئِلتْ» وكأنّه إشارة إلى الموجودات العاقلة والحية التي يسأل منها، هل نالت حقّها ووفى الإنسان لها أم لا؟

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 215

وهذا هو نوع من المجاز الذي يستعمل للتأكيد.

ولكن التفسير الأول أقرب لسياق الآية وأكثر إنسجاماً معها.

وضمناً يجب الالتفات إلى أنّ سورة الاسراء وردت في بيان أهم الأحكام الإسلامية من الآية 22 إلى 39، من

مسألة التوحيد إلى حق الوالدين إلى قتل النفس والزنا وأكل أموال اليتامى والوفاء بالعهد وحتى مسؤولية العين والاذن والقلب، وهذا يبيّن أنّ مسألة الوفاء بالعهد جاءت ضمن إطار أهم الأحكام الإسلامية.

واللطيف أنّ هذه الأحكام ختمت بقوله تعالى: «ذَلِكَ مِما أَوحَى إِلَيكَ رَبُّكَ مِنَ الحِكمَةِ».

وفي «الآية الرابعة» بعد أن يذم القرآن الكريم طائفة من أهل الكتاب الذين لم يراعوا الأمانة في تعاملهم تقول: «بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ».

وهنا نجد أنّ الوفاء بالعهد وقع رديفاً للتقوى التي هي أفضل زاد السالك إلى اللَّه تعالى وسبب ورود الإنسان إلى الجنّة والمعيار الأتم لشخصية الإنسان ومقامه عند اللَّه تعالى.

وهذا التعبير يدلّ على أنّ الوفاء بالعهد هو أحد الفروع المهمّة للتقوى، وتعبير الآية هنا هو من قبيل ذكر العام بعد ذكر الخاص.

«الآية الخامسة» من الآيات مورد البحث تتحدّث عن ضرورة احترام العهود من قبل المسلمين تجاه المشركين وتأمرهم بالوفاء بعهودهم ما دام المشركون لم يتحرّكوا في تعاملهم مع المسلمين من موقع النقض لهذه العهود (رغم أنّ الصارف المقابل هم من الكفّار المشركين)، فتقول الآية: (بعد إعلان البراءة من المشركين كافّة) «إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ».

ونعلم أنّ مراسم البراءة من المشركين وقعت في السنة التاسعة للهجرة وبعد فتح مكّة

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 216

واستقرار الإسلام في ربوع الحجاز والجزيرة العربية حيث أمر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله الإمام علي عليه السلام بقراءة الآيات الاولى من سورة براءة لمراسم الحج أمام جميع الناس والإعلان للمشركين بأنّه بقيت لهم فرصة أربعة أشهر فأمّا أن يتركوا الشرك ويدخلوا في الإسلام أو

يمتنعوا من الدخول إلى المسجد الحرام، وبعد انقضاء الأشهر الأربعة عليهم فيما لو لم يتركوا الشرك وعبادة الأوثان أن يستعدوا لمواجهة المسلمين عسكرياً.

ولكن مع هذا الحال فإنّ بعض المشركين كانت تربطهم بالمسلمين رابطة العهد والميثاق فأمر اللَّه تعالى أن يحفظوا لهم عهودهم إلى انتهاء مدّتهم.

وهنا يتبيّن من خلال إستثناء هذه الطائفة إلى جانب ما ورد من التعبير الشديد في بداية سورة التوبة، يتبيّن من ذلك الأهميّة الكبيرة التي يوليها الإسلام للوفاء بالعهد، ويتبيّن أيضاً ضمن هذا الاستثناء أنّه عندما يلغي النبي الأكرم صلى الله عليه و آله عهده وميثاقه مع بعض الطوائف الاخرى فالسبب في ذلك أنّهم كانوا قد بدأوا نقض العهد أولًا، وإلّا فلا دليل على اختلاف تعامل النبي الأكرم صلى الله عليه و آله معهم عن غيرهم.

وفي ذلك اليوم كانت وظيفة الإمام علي عليه السلام هي أن يعلن للناس في مراسم الحج أربع مواضيع:

1- إلغاء العهود مع المشركين الذين سبق وأن نقضوا عهدهم مع المسلمين.

2- منع المشركين من الاشتراك في مراسم الحج للسنة القادمة.

3- منع ورود المشركين إلى بيت اللَّه الحرام.

4- منع الطواف في حالة التعرّي والتي كانت سائدة في ذلك الزمان.

وعلى أية حال ونظراً إلى أنّ هذه الواقعة كانت بعد فتح مكّة وأنّ المسلمين كانوا قد سيطروا على تلك المنطقة سيطرة تامّة ولا تستطيع أي قدرة أن تقف في مقابلهم إلّاأنّهم في نفس الوقت احترموا عهودهم مع طائفة من المشركين، وبذلك يتّضح أنّ مسألة الوفاء بالعهد لا تقبل المساومة تحت أية ظروف «1».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 217

والملفت للنظر أنّ مدّة العهد الباقية لهذه الطائفة (قبيلة بني خزيمة) عشر سنوات منذ صلح الحديبية، وكان قد بقي لديهم من هذا الزمان وهو عام

الفتح سبع سنين، حيث يجب على المسلمين تحمّل وجودهم إلى نهاية هذه المدّة الطويلة، فمع أنّ موقف الإسلام الشديد تجاه مسألة الشرك والوثنية إلّاأنّه مع ذلك أوجب على المسلمين رعاية هذا الحق في هذه المدّة الطويلة.

«الآية السادسة» تخاطب جميع المسلمين وتأمرهم بالوفاء بعهد اللَّه وتقول: «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمْ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا».

أمّا المراد من عهد اللَّه تعالى في هذه الآية ما هو؟ فهناك اختلاف بين المفسّرين، فمنهم من ذهب إلى أنّ معناه هو العهود التي يبرمها الناس مع اللَّه تعالى، أو البيعة مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، في حين ذهب البعض الآخر إلى أنّ المراد هو جميع العهود التي يبرمها الإنسان مع اللَّه تعالى أو مع الناس أو النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، وعليه يكون لها مفهوم عام وأنّ اللَّه تعالى أمر بذلك، فهو نوع من عهد اللَّه تعالى، أو يكون المراد العهود التي تبرم بين الأشخاص في ظل اسم اللَّه تعالى كما يشبه الإيمان القسم الذي يورده الإنسان باسم اللَّه مع الآخرين.

وعلى كلّ حال فإنّ مفهوم الآية سواء كان عامّاً أو خاصّاً فإنّه يدل على أهمية الوفاء بالعهد في دائرة المفهوم القرآني والإسلامي.

واللطيف أنّ القرآن الكريم بعد أن ذكر مسألة الوفاء بالعهد والقسم في هذه الآية فإنّه يتابع ذلك بالقول: «وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ» «1».

ويستفاد من هذا التعبير أنّ عدم الالتزام باليمين والعهد من موقع الوفاء والانضباط هو نوع من الحماقة والسفه، وكذلك الحال في الاستفادة من العهود لغرض الخيانة والخداع والفساد.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 218

ودليل ذلك واضح، لأنّه لو تزلزلت

أركان الوفاء بالعهد واليمين في المجتمع البشري فإنّ ذلك من شأنه أن يثير الفوضى وعدم الثقة بالآخرين، وفي الواقع فإنّ الناقضين للعهود يضربون جذورهم بأيديهم، ولهذا فلا يوجد عاقل يرتكب مثل هذه الحماقة.

ونظراً إلى أنّ بعض الأقوياء أو الفئات المتنفّذة في المجتمع تبيح لنفسها أحياناً نقض العهد بذرائع واهية وتتحرّر من قيود القيم والتعهدات الفردية والاجتماعية لذلك يقول القرآن الكريم: «أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ» وهو في الحقيقة إشارة إلى هذا المعنى، وهو أنّه إذا كانت فئة من الناس أقوى وأكثر عدداً من فئة اخرى فلا ينبغي ذلك أن يكون مسوّغاً لنقض العهد من قبلهم، لأنّ ذلك سوف يتسبب فيما بعد بالحاق الضرر لهم، فالآخرون عندما تسنح لهم الفرصة ويكونون أقوياء في المستقبل سوف يعاملوهم بنفس المعاملة.

وهذه الآية لا تقرّر ضرورة الوفاء بالعهد في الإطار الفردي فحسب، بل تتسع لتشمل البنود والمواثيق الجماعية والعالمية أيضاً كما تشير إلى ذلك هذه العبارة من الآية الشريفة:

«أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ».

وفي «الآية السابعة» يشير القرآن الكريم إلى سيرة الأقوام السالفة وعاقبتهم المؤلمة ويذكر بعض نقاط ضعفهم وانحرافهم، ومن ذلك يشير إلى أمرين مهمين في دائرة السلوكيات السلبية الذميمة، يقول: «وَمَا وَجَدْنَا لِاكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ».

وهذا العهد هو العهد العام الذي أخذه اللَّه على الامم السابقة ولكنّهم نقضوه ولم يفوا به، ولكن ما هو ذلك العهد العام؟

هناك اختلاف وكلام بين المفسّرين في هذا المجال، فذهب البعض إلى أنّ المراد منه العهد والميثاق الفطري الذي قرّره اللَّه تعالى في واقع الفطرة لجميع الناس أن يتحرّكوا في خط التوحيد والتقوى والاستقامة، مضافاً إلى أنّ النعم والمواهب الإلهية المعطاة للإنسان الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص:

219

من العقل والعين والاذن وغير ذلك، فإنّ مفهومها أنّ الإنسان يستخدمها في طريق الخير والصلاح ويفتح أبواب عقله وفكره على الحقائق والامور الواقعية ويذعن لها من موقع الطاعة والإيمان ولا يستسلم أمام الأوهام والخرافات ولا يتحرّك بوحي الأهواء والشهوات.

وكذلك يمكن أن تكون إشارة إلى العهد والميثاق الذي أخذه الأنبياء عليهم السلام على الناس في بداية الدعوة ولكن الكثير من الناس الذين يقبلون بهذه الدعوة السماوية في البداية، فإنّهم ينقضونها فيما بعد ويتحرّكون في خط الانحراف والباطل.

ويمكن أن تكون إشارة إلى جميع العهود والمواثيق المذكورة آنفاً سواءً الفطرية والتشريعية.

وعلى أيّة حال فإنّ الآية الشريفة محل البحث شاهدة على هذه الحقيقة، وهي أنّ مسألة نقض العهد وعدم الالتزام بالمواثيق هي أحد العوامل المؤثّرة في شقاء الامم وانحطاطهم وسلوكها في خط الانحراف والضياع كما نجد هذا الحال في الامم الدنيوية المعاصرة التي تلتزم بالعهود والمواثيق مادامت ضعيفة ولكن إذا وجدت في نفسها قوّة وقدرة على الطرف الآخر فإنّها لا تعترف بأي عهد وميثاق، بل تكون الرابطة بينهما هي رابطة القوة، والقانون هو قانون الغاب.

«الآية الثامنة» والأخيرة من الآيات مورد البحث بعد أن تتحدّث عن بعض جرائم اليهود وأزلامهم تقول: «أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ»، ونقض العهد هذا من جانبهم يدلّ على كفرهم وعدم إيمانهم.

فمن جهة نرى أنّهم قد أخذ عليهم العهد بأن يؤمنوا بالنبي الموعود الذي وردت البشارة به في التوراة، ولكنهم ليس لم يؤمنوا به فحسب بل أنهم نقضوا العهود مع هذا النبي بعد هجرته إلى المدينة وانضمّوا إلى صفوف أعدائه وخاصة في حرب الأحزاب حيث إتحد اليهود مع المشركين ضد رسول اللَّه والمسلمين في المدينة وأجهروا بعداوتهم واستعدوا

الاخلاق فى القرآن، ج 3،

ص: 220

للمشاركة في قتال المسلمين.

وهذا هو خلق اليهود القديم حيث ينقضون العهود والمواثيق دائماً؛ وينسون جميع المقررات والعهود فيما لو تعرضت مصالحهم إلى الخطر في أي زمان ومكان.

وفي هذا العصر أيضاً نجد صدق قول القرآن الكريم في هذا الوصف لليهود والصهاينة وأنهم كلما تعرضت منافعهم إلى الخطر فأنهم يسحقون جميع العهود والمواثيق التي أمضوها مع مخالفيهم وحتى إنّهم لا يلتزمون بالمعاهدات الدولية في دائرة الروابط بين الشعوب والدول والتي اشتركت في تدوينها وإمضائها جميع الدول، فنجدهم يتمسكون بذرائع واهية وتبريرات سخيفة ليتحرّكوا في تعاملهم من موقع نقض العهود والمواثيق، وهذه المسألة واضحة في عصرنا الحاضر إلى درجة أنّ بعض المفسرين ذكر في تفسير الآية أعلاه أنّ هذه الآية معجزة قرآنية حيث أخبرت عن المستقبل البعيد وكأنّنا نرى بأمّ أعيننا نقض العهود والمواثيق لبني إسرائيل حاضراً، كما كانوا في عصر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

لقد كان لهؤلاء عهود ومواثيق كثيرة مع نبيّهم موسى والإنبياء الذين جاءوا من بعده وكذلك مع النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، ولكنهم لم يفوا بواحدة من تلك العهود والمواثيق.

والتعبير بكلمة (فريق) في بداية الآية، وكذلك التعبير (أكثرهم) في ذيل الآية يشير إلى أنّ المراد بالفريق هنا هو أكثر هذه الطائفة من الناس، وكذلك يشير إلى أنّ العلاقة بين نقض العهد وعدم الإيمان هي علاقة وثيقة.

إنّ سياق الآيات الشريفة المذكورة آنفاً يدل بصراحة على أنّ الوفاء بالعهد والميثاق له منزلة رفيعة ومكانة سامية من بين المفاهيم الإسلامية والتعاليم القرآنية، فهو أحد علائم الإيمان ويقع في مرتبة التقوى والأمانة، وعلى درجة من الأهمية بحيث أنّ المسلمين وغير المسلمين سيان في ذلك، أي أنّ المسلم أو جماعة المسلمين إذا إرتبطوا بعهدٍ

وميثاق مع آخرين فيجب عليهم الألتزام بذلك العهد والميثاق سواءاً كان الطرف الآخر مسلماً أو كافراً مادام ذلك الطرف ملتزماً بذلك العهد، وأيضاً تدل هذه الآيات على أنّ أحد أهم العوامل الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 221

والأسباب في شقاء الإنسان وإنحطاطه هو نقض العهد وعدم الوفاء به.

الوفاء بالعهد في الروايات الإسلامية:

اشارة

وقد وردت في النصوص الدينية تعبيرات مهمّة ورائعة جدّاً في هذا الباب يمكنها أن تكون درساً لنا في تبيين معالم هذه الصفة الأخلاقية الكريمة.

وهنا نختار بعض النماذج من هذه الأحاديث لنضعها بين يدي القاري ء الكريم:

1- ما ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قوله في جملة مختصرة: «لا دِينَ لِمَنْ لاعَهدَ لَهُ» «1».

وهذا التعبير يشير إلى أنّ جميع معالم الدين وأركانه يتلخص بالوفاء بالعهد بالنسبة إلى الخالق والخلق وعلى الأقل أنّه أحد الأركان المهمّة للدين، ولذلك ورد في حديث آخر عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «أَصلُ الدِّينِ أَداءُ الأَمانَةِ وَالوَفَاءِ بِالعُهُودِ» «2».

2- وفي حديث آخر عن أميرالمؤمنين عليه السلام أيضاً: «ما أَيقَنَ بِاللَّهِ مَنْ لَم يَرع عُهُودِهِ وَذِمَّتِهِ» «3».

لأنّ الناقض للعهد يرى منافعه ومصالحه في دائرة عصيان اللَّه تعالى ومخالفته، وهذا إنّما يدلّ على عدم توحيده واهتزاز عقيدته في دائرة التوحيد الأفعالي.

3- ونقرأ في عهد الإمام علي عليه السلام المعروف لمالك الأشتر رضى الله عنه حيث أَكّد الإمام علي عليه السلام على مسألة الوفاء بالعهد في مقابل أي إنسان وأي طائفة من البشر باعتباره من أهم المسائل على مستوى الحكومة والتعامل مع الناس حيث قال: «وإنَّ عَقَدتَ بَينَكَ وَبَينَ عَدُوِّكَ أَو أَلبَستَهُ مِنكَ ذِمَّةً فَحُطَّ عَهدَكَ بِالوَفاءِ وَارعَ ذِمَّتَكَ بِالأَمانِةِ، وَاجعَلْ نَفسَكَ جُنَّةً دُونَ ما أَعطَيتَ فَإِنَّهُ لَيسَ مِنْ فَرائِضِ اللَّهِ شَي ءٌ النَّاسُ أَشَدُّ عَلَيهِ

إِجتِماعاً مَعَ تَفَرُّقِ أَهوائِهِم وَتَشَتُّتِ آرائِهِم مِنْ تَعظِيمِ الوَفاءِ بِالعُهُودِ وَقَدْ لَزِمَ ذَلِكَ المُشرِكُونَ فِيما بَينَهُم دُونَ المُسلِمِينَ لِمَا

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 222

استَوبَلُوا مِنْ عَواقِبِ الغَدرِ» «1».

4- ونقرأ في حديث آخر قول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «أَقرَبُكُم غَداً مِنِّي فِي المَوقِفِ أَصدَقُكُم لِلحَدِيثِ وَأَدّاكُم لِلأَمانَةِ وَأَوفاكُم وَأَحسَنُكُم خُلقاً وَأَقرَبُكُم مِنَ النّاسِ» «2».

5- ونقرأ في حديث آخر حول أهميّة الوفاء بالعهد والعواقب الوخيمة لنقض العهد عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «أَيُّها النَّاسُ إِنَّ الوَفاءِ تَوأَمُ الصِّدقُ، وَلا أَعَلَمُ جُنَّةً أَوفى مِنهُ وَما يَغدِرُ مَنْ عَلِمَ كَيفَ المَرجَعُ، وَلَقَد أَصبحنا فِي زَمانٍ أَتَّخَذَ أَكثَرَ أَهلِهِ الغَدرَ كَيساً، وَنَسَبَتهُم أَهلُ الجَهلِ فِيهِ إِلى حُسنِ الحِيلَةِ، ما لَهُم قاتَلَهُم اللَّهُ قَد يَرَى الحُوَّلُ القُلَّبُ وَجهَ الحَيلَةِ وَدُونَها مانِعٌ مِنْ أَمرِ اللَّهِ وَنَهيهِ» «3».

فهنا نجد أنّ الإمام عليه السلام يشكو من تغيّر الحال في عصره وزمانه وكيف أنّ الناس يرون في المنكر والحيلة ونقض العهود من كمال العقل والتدبير ويعتبرون التقوى والصدق والوفاء بالعهد نوع من الضعف وكما يقول الشاعر:

غاضَ الوفاءُ وفاضَ الغدرُ واتّسعتْ مسافَةُ الخُلفِ بَينَ القَولِ وَالعَملِ ونجد في عصرنا الحاضر أنّ الوفاء بالعهد قليل جدّاً، بل نادر حيث يسود نقض العهود في ما يتعلق بالروابط بين الأفراد والمجتمعات البشرية وأنّ الفاصلة بين القول والعمل كبيرة جدّاً.

6- ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الباقر عليه السلام قوله: «ثَلاثٌ لَم يَجعَلِ اللَّهُ عَزَّوَجَلَّ لِأَحِدٍ فِيهِنَّ رَخصَةً أَداءِ الأَمانِةِ إِلَى البَرِّ وَالفاجِرِ، وَالوَفاءِ بِالعَهدِ لِلبَرِّ وَالفاجِرِ، وَبِرُّ الوالِدينِ برِّينَ كانا أَو فاجِرينِ» «4».

وجاء نفس هذا المضمون في رواية اخرى عن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً «5».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 223

وهذا الحديث يدلّ بوضوح على

أنّ قانون الوفاء بالعهد وأداء الأمانة والإحسان إلى الوالدين لا يقبل الاستثناء أبداً.

7- وجاء في حديث آخر عن الإمام عليه السلام يُشبّه العهد بالطوق المحيط برقبة الإنسان ويقول: «إنَّ العُهُودَ قَلائِدُ فِي الأعناقِ إِلى يَومِ القِيامَةِ فَمَنْ وَصَلَها وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ نَقضَها خَذَلَهُ اللَّهُ» «1».

8- وجاء في حديث آخر أنّ شخصاً سأل الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام قال: «أَخبِرنِي بِجَمِيعِ شَرايعِ الدِّينِ»

قال الإمام في جوابه: «قَولُ الحِقِّ وَالحُكمِ بِالعَدلِ وَالوَفاءِ بِالعَهدِ» «2».

9- وورد في حديث مختصر وعميق المحتوى عن أمير المؤمنين أنّه قال: «أَشَرَفُ الخَلائِقِ الَوفاءِ» «3».

10- ونختم هذا البحث بحديث مهم آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله (رغم وجود أحاديث كثيرة في هذا الباب) حيث قال: «إِذا نقَضَوا العَهدَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيهِم عَدُوِّهِم» «4».

وهنا نرى حقائق مهمّة فيما ورد من الروايات الشريفة أعلاه عن أهميّة الوفاء بالعهد ومعطياته الكثيرة وآثاره العميقة في حياة الإنسان الفرديّة والاجتماعية بحيث أنّ الوفاء بالعهد يعدّ (أساس الدين) و (علامة اليقين) و (سبب القرب من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يوم القيامة) و (الدرع الحصينة مقابل الحوادث الاجتماعية)، مضافاً إلى الروايات الإسلامية التي تصّرح بأنّ الوفاء بالعهد هو قانون إلهي شامل للمسلم والكافر، وأنّ الوفاء بالعهد (علّة الفلاح والنصر والعزّة) وأنّ نقض العهد سبب في (الحرمان من الألطاف الإلهية).

1- المعطيات الفردية والاجتماعية للوفاء بالعهد

رأينا فيما تقدّم أنّ جميع أشكال التطور العلمي والثقافي والاقتصادي الذي ناله الإنسان إنّما هو وليد الحياة الاجتماعية للبشر، حيث تلتقي تجارب الأفراد وتنظم أفكارهم بعضها إلى بعض وتتلاقح عقولهم وبذلك تتولّد المنتوجات الصناعية المتنوعة وأشكال التمدن والحضارة البشرية في حركة الامم الحضارية.

فلو أنّ أفراد البشر عاشوا متفرّقين كل على إنفراد فعلى

فرض أن يكسبوا تجارب في حركة حياتهم الفردية، إلّاأنّهم سوف يذهبون بها معهم إلى القبر، فلا حركة ولا علامة على وجود تحوّل حضاري وتطور علمي في البشرية، ولهذا السبب بالذات فإنّ الإسلام أعطى أهميّة فائقة لتحكيم وتقوية دعائم الحياة الاجتماعية بين الأفراد وتعميق أواصر العلاقات بينهم، ومن المعلوم أنّ كل شي ء يؤدّي إلى تقوية هذه العلاقات الاجتماعية، فإنّه مطلوب وممدوح في نظر الإسلام، وكلّ شي ء يتسبب في أضعاف هذه العلاقات فإنّه منفور ومذموم.

وبديهي أنّ أول عنصر يتسبب في تقوية هذه الروابط والعلاقات بين أفراد البشر وبالتالي يترتّب عليه زيادة التعاون والتكاتف في المجتمع هو مسألة الوفاء بالعهود والمواثيق، فلو أنّ هذه المسألة قد تركت ليوم واحد بين الأفراد وبين الشعوب العالميّة فإنّ مفاصل الحضارة البشرية سوف تتعرّض للأهتزاز والارتباك وتتوقف بذلك مسيرة الحضارة الإنسانية والتكامل البشري، ولهذا ورد في الحديث الشريف عن الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «لا تَعتَمِد عَلى مَودَّة مَنْ لا يَفِي بِعَهدِهِ» «1».

وأساساً يمكن القول بأنّ ميزان موفقيّة الأشخاص في حياتهم الدنيوية يرتبط بمدى التزامهم بعهودهم، فما كان منهم أكثر وفاءً بعهده فهو أعزّ وأشرف في نظر الناس، وفي ذلك يقول أميرالمؤمنين عليه السلام في حديث آخر: «الوَفاءُ حِصْنُ السُّؤدَدِ» «2».

وفي النقطة المقابلة نجد أنّ نقض العهد إذا ساد في أجواء المجتمع البشري، فإنّه يفضي الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 225

إلى سلب الثقة بين أفراد المجتمع ويتلاشى عنصر الإتّحاد والتكاتف فيما بينهم وبالتالي فإنّهم لا يستطيعون التصدي للعدو، ولهذا نقرأ في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إِذا نَقَضُوا العَهدَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيهِم عَدُوَّهُم» «1».

إنّ الوفاء بالعهد يتسبب في أن يعتمد الناس على هذا الشخص

وبذلك يضعوا عنده رؤوس أموالهم من موقع الثقة به للإتّجار بها فينتفع هو وكذلك الآخرون من نشاطه الاقتصادي، فينال بذلك الرفاه والسعة في معيشته، ولهذا نجد أنّ جميع الدول في العالم تسعى إلى تحقيق هذا المعنى أي الالتزام بالعهود والمواثيق من أجل ترشيد وضعهم الاقتصادي والاجتماعي وإلّا يكون نصيبهم الانزواء والعزلة والتلف عن الحركة الصناعية والتجارية في العالم، وحتى بالنسبة إلى الدول التي عاشت حالة الثورة على النظام السابق، فإنّ قادة الثورة عندما يستلمون زمام الامور يعلنون التزامهم بجميع العهود والمواثيق التي كانت من النظام السابق حتّى لو كانت تلك العهود على خلاف ذوقهم ومسيرتهم، لأنّه ليس لهم طريق سوى كسب الثقة العالمية من خلال هذا الالتزام الإنساني والأخلاقي، وهذه المسألة تصدق أيضاً على الأفراد والأشخاص، ومضافاً إلى ذلك فانّ أصل العدالة الذي هو من بديهيات الأصول الأخلاقية والاجتماعية لا يتحقق بدون الوفاء بالعهد في دائرة المجتمعات البشرية، وبذلك فانّ ناقضي العهد يعدون من زمرة الظالمين وكل إنسان يتعامل معهم من موقع الذم والتحقير واللوم وذلك بدافع من الفطرة الإلهية في وجوده، وهذا يدل على أنّ لزوم الوفاء بالعهد هو أمر فطري.

2- دوافع الوفاء بالعهد ونقضه

بما أنّ معرفة دوافع الصفات الأخلاقية الإيجابية والسلبية له دورمهم في تحصيل الفضائل الأخلاقية، وعلاج الرذائل، فمن الجدير بنا في هذا البحث أنّ نتتبع الدوافع للوفاء بالعهد والدوافع على نقضه.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 226

لا شك أنّ الإيمان الحقيقي والإعتقاد بالتوحيد الأفعالي في واقع الإنسان وقلبه يعد أحد الأسباب المهمة للوفاء بالعهد والألتزام به، لأنّ من ينقض العهد فأنه يرتكب هذه الخطيئة من موقع الجهل بقدرة اللَّه ورازقيته وبدافع من منفعته العاجلة فينسى ما وعد به اللَّه تعالى على الوفاء بالعهد.

ولهذا نقرأ في

الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين عليه السلام قوله: «مِنْ دَلائِلِ الإِيمانِ الْوَفاءُ بِالْعَهْدِ» «1».

وفي حديث آخر عنه أيضاً يقول: «ما ايْقَنَ بِاللَّهِ مَنْ لَمْ يَرْعَ عُهُودَهُ وَذِمَّتَهُ» «2».

مضافاً إلى ذلك فانّ شخصية الإنسان الذاتية تستدعي الوفاء والالتزام بالعهد أيضاً، ولذلك فانّ الأشخاص الذين يتمتعون بقوة الشخصية لا يبيحون لأنفسهم نقض العهد مع أي شخص كان اطلاقاً ويرون أنّ نقض العهد علامة الضعف والحقارة وفقدان الشخصية، ولهذا نقرأ في الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين عليه السلام ما يشير إلى أنّ الوفاء بالعهد هو أحد علائم الصالحين والطاهرين من الناس حيث يقول: «بِحُسْنِ الْوَفاءِ يُعْرَفُ الْابْرارُ» «3».

ومن الدوافع النفسية على إرتكاب نقض العهد هي الجهل والغفلة وعدم الاطلاع على العواقب المشؤومة لنقض العهد في حياة الناس الفردية والاجتماعية، كما هو حال الشخص الذي يتناول طعاماً لذيذاً في الظاهر ولكنه مسموم في الحقيقة، فيتناوله بشوق ورغبة بدون أن يعلم عاقبته المؤلمة.

والأشخاص الذين يتمتعون بعقل أكبر وعلم أوفر ويرون المعطيات الحسنة للوفاء بالعهد والأضرار المترتبة على نقض العهد فأنّهم لا يتركون هذه الفضيلة الأخلاقية اطلاقاً ولا يذلون أنفسهم بأرتكاب تلك الصفة الرذيلة وهي نقض العهد أبداً كما ورد عن أميرالمؤمنين عليه السلام قوله: «الْوَفاءُ حِلْيَةُ الْعَقْلِ وَعُنْوانُ النُّبْلِ» «4».

علاج نقض العهد:

رأينا فيما تقدم (من بحث الدوافع) أنّه بالإمكان معرفة الطرق لتحصيل فضيلة الوفاء بالعهد وكذلك يمكن معرفة طرق الوقاية من ضدها وعلاج مرض نقض العهد.

إنّ الإنسان الناقض للعهد إذا أراد واقعاً إصلاح هذا الخلل في نفسه وشخصيته فيجب عليه قبل أي شي ء العمل على تقوية دعائم الإيمان في قلبه، لأننا نعلم أنّ نقض العهد هو من إفرازات ضعف الإيمان أو فقدانه كما تقدم، فلو أنّ معرفة الإنسان باللَّه تعالى وإيمانه وصل إلى

درجة بحيث يرى أنّ جميع الامور بيد اللَّه تعالى فانّه لا يتحرك اطلاقاً بصدد تحصيل المال والمقام والجاه من خلال التوسل بهذه الرذيلة الأخلاقية.

وكذلك إذا فكرَّ في النتائج المشؤومة على هذا الفعل القبيح فرغم أنّه يترتب عليه بعض الربح والمنفعة على المدى القصير، ولكنه وعلى المدى الطويل يتسبب في سقوط شخصيته ومكانته بين الأصدقاء والأقرباء وأخيراً يتسبب في فضيحته في المجتمع ويخسر بذلك أهم رأس ماله أي إعتماد الناس وثقتهم به، وكذلك يفتضح أمام اللَّه تعالى وأمام خلق اللَّه، وقد رأينا نماذج عينية في حياتنا المعاصرة وفي طول تاريخ الحياة البشرية لأمثال هذه الموارد، أجل كلما تفكر الإنسان وتدبر في هذه الامور فأنّه سيزداد قوة وعزماً على ترك هذه الرذيلة حتماً، وهذا هو ما ورد في الحديث الشريف عن الإمام على أنّه قال: «وَالْخُلْفُ يُوجِبُ الْمَقْتَ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الناسِ» «1».

ولهذا السبب نجد أنّ الكثير من المجتمعات البشرية التي تعيش الجهل بالدين والإبتعاد عن اللَّه تعالى فإنّها تسعى للتعامل فيما بينها من موقع الإلتزام بالعهود والمقررات والمواثيق، وكذلك ما نراه في الشركات الأقتصادية العالمية والمنظمات الدولية فإنّها ومن أجل جذب الزبائن وكسب حسن السمعة وبالتالي زيادة الأرباح والمكاسب يهتمون بمسألة الوفاء بالعهد، ويترتب على ذلك أيضاً النتائج الإيجابية المثمرة.

أقسام العهد:

هناك أنواع وأقسام للعهد حيث يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:

1- العهد مع اللَّه.

2- العهد مع الناس.

3- العهد مع النفس.

أما العهد مع اللَّه تعالى فالكثير من الفقهاء ذكروا في كتبهم الفقهية بحث العهد إلى جانب بحث النذر، وذكروا أنّه لو أراد الشخص أن يعاهد اللَّه على أمر من الامور فعليه إجراء صيغة العهد وهي أن يقول مثلًا: «عاهَدْتُ اللَّهَ أَنَّهُ مَتى شَفانِي اللَّهُ أَصومُ ثَلاثَةَ أَيامٍ أَوْ

أَتَصَدَّقُ بِكَذا وَكَذا».

وحينئذ يجب عليه الوفاء بعهده هذا ولو إرتكب ما ينقض هذا العهد عليه دفع كفارة، وكفارته على المشهور هي كفارة إفطار يوم من شهر رمضان المبارك.

وعلى هذا فانّ العهد مع اللَّه تعالى ليس لازماً من الناحية الأخلاقية فقط بل من الناحية الفقهية أيضاً ونقضه يستوجب الكفارة، وحتى إذا لم يقرأ المكلف صيغة العهد هذه بل نوى في قلبه ذلك فمن الأفضل له أن يوفي بعهده مع اللَّه تعالى.

القرآن الكريم يقول في ذم طائفة من المؤمنين الضعيفي الإيمان أو من المنافقين الذين لم يشتركوا في حرب الأحزاب: «وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤولًا» «1».

يقول في مكان آخر: «وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ».

وبعض المفسرين ذكروا في تفسير هذه الآية أنّ العهد هنا يعنى البيعة مع النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، وذهب بعض آخر إلى أنّه يعني الجهاد في سبيل اللَّه، وذهب آخرون إلى أنّ معناه هو القسم باللَّه تعالى، وبعض آخر ذهب إلى أنّه يعنى كل عمل واجب بحكم العقل أو النقل «2».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 229

وأمّا العهد مع الناس فيشمل كل أشكال العقود والمواثيق بين أفراد البشر، وفيما لو تأطرت بقوالب شرعية وعقلائية فالوفاء بها واجب، ولكن بعض أشكال العهد الذي يقع من جانب واحد كأن يتعاهد الإنسان أن يبذل المعونة لشخص آخر فمثل هذه العهود تسمى (عهود إبتدائية) وكذلك أشكال الوعد الذي يقوم من جانب واحد، فالوفاء بهذا العهد أو الوعد غير واجب من الناحية الفقهية بل مستحب مؤكد، ولكن في المنظور الأخلاقي فالالتزام بها واجب ولازم وإلّا فيحرم الإنسان من نيل الفضائل الإخلاقية والمقامات العالية الإنسانية.

وقد ورد في بعض الروايات أنّ الإنسان

المؤمن إذا وعد غيره بشى ء فإنّه بمنزلة النذر رغم عدم وجوب الكفارة عند عدم الوفاء به، كما يقول الإمام الصادق عليه السلام: «عِدَةُ الْمُؤْمِنِ أَخاهُ نَذْرٌ لاكَفارَةَ لَهُ فَمَنْ أَخْلَفَ فَبِخُلْفِ اللَّهِ بَدَءَ وَلَمِقْتِهِ تَعَرَّضَ وَقَوْلُهُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لاتَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أِنْ تَقولُوا ما لاتَفْعَلُونَ» «1».

وفي حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَفِ إِذا وَعَدَ» «2».

أما عهد الإنسان مع نفسه فهو أن يتعاهد الإنسان بأن يلتزم خط تهذيب النفس وإصلاحها في طريق التكامل الأخلاقي والمعنوي والتحلي بالصفات الحسنة والأعمال الصالحة، وهذا العهد له دور مؤثر وبناء في سلوك خط التهذيب النفسي، وقد ذكره العرفاء الإسلاميون بأنّه أول مراتب السير والسلوك وذكروه تحت عنوان المشارطة، وهو أنّ الإنسان يتعاهد مع نفسه كل صباح بأن يسير في خط الطاعة والإيمان وإجتناب الذنوب والإبتعاد عن الموبقات والآثام، ثم يتحرك في سلوكه اليومي من موقع المراقبة الدقيقة لأعماله وسلوكياته ليطمئن على وفائه بذلك الشرط والعهد الذي أخذه على نفسه صباح اليوم، ثم تصل النوبة إلى المحاسبة في آخر اليوم وقبل النوم وهل أنّه قد إرتكب ما يخالف الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 230

ذلك الشرط الذي إشترطه على نفسه أم لا؟

ولا شك أنّ الإنسان القوى الشخصية ومن يتمتع بوجدان يقظ يهتم كثيراً بمثل هذه العهود والشروط مع نفسه وغير مستعد لنقضها بسهولة.

وعليه يمكن القول أنّ الالتزام بالعهود التي يقطعها الإنسان مع نفسه يعدّ أحد طرق تهذيب النفس ونيل الفضائل الأخلاقية في حركة التكامل المعنوي للإنسان.

إلتزام المسلمين بالعهود والمواثيق:

إنّ التقدم المذهل للمسلمين في العصور الأولية من تاريخ الإسلام كانت ولا زالت مثار تعجب المؤرخين

في الشرق والغرب، ولكنهم إذا تفكروا في أسباب وعوامل هذا التقدم السريع لأدركوا بسرعة سرّه.

ومن البديهى أنّ أحد علل التقدم السريع هو التزام جيش الإسلام بالمواثيق والعهود وهذا هو ما أكد عليه القرآن الكريم ونبي الإسلام صلى الله عليه و آله مراراً، وهذه المسألة على درجة من الأهمية بحيث كان الجيش الإسلامي يضحي من أجلها بالكثير من الإنتصارات السريعة على الكفار.

أنّ القانون المهم (الأمان) الذي يعد أحد التعاليم الإسلامية يؤكد هذا المعنى أيضاً وأنّ كل جندي من جنود الإسلام وفي أى رتبة كان يمكنه أن يعطى الأمان لبعض رجال العدو بشكل مؤقت ويجب على جميع المسلمين في الجيش الإسلامي إحترام هذا الأمان وكأنّه عهد مقطوع ولازم الوفاء.

وهناك نماذج كثيرة ذكرها المؤرخون في تاريخ الإسلام تحكي هذا المعنى ومنها:

1- ما ذكره ياقوت الحموي في (معجم البلدان) عن فتح مدينة (سهرياج) «1» من القصة

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 231

العجيبة حيث بعث الخليفة في ذلك الزمان الجيش إلى هذه المدينة لفتحها.

يقول فضل بن زيد الرقاشي: حاصرنا سهرياج في أيام عبداللَّه بن عامر وقد سار إلى فارس افتتحها، وكنّا ضمنا أن نفتحها في يومنا وقاتلنا أهلها ذات يوم فرجعنا إلى معسكرنا وتخلف عبد مملوك منّا فراطنوه، فكتب لهم أماناً ورمى به في سهم فرحنا إلى القتال وقد خرجوا من حصنهم وقالوا: هذا أمانكم فكتبنا بذلك إلى عمر، فكتب إلينا: إنّ العبد المسلم من المسلمين ذمته كذمتكم، فلينفذ أمانه، فأنفذناه»

.ومصدر هذه القصة هو ما ورد من الحديث النبوي المعروف في حجة الوداع حيث قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله للمسلمين كافة: «المُؤمِنُونَ إِخْوَةٌ تَتَكافَأُ دِمائُهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ يَسْعى بِذِمَّتِهِمْ أَدْناهُمْ» «2».

2- وورد في التواريخ الإسلامية أنّ

المسلمين في عصر الخليفة الثاني هزموا الساسانيين وقبضوا على (هرمزان) قائد الجيوش الفارسية وجاءوا به إلى عمر بن الخطاب، فقال له الخليفة: لقد نقضت العهود معنا دائماً فلماذا إرتكبت هذا العمل؟ فقال الهرمزان:

أخاف أن تقتلني قبل أنّ أقول لك سبب ذلك، فقال له الخليفة: لا تخف.

وفي هذه الأثناء طلب الهرمزان الماء فجيى ء له بإناء فيه ماء فقال الهرمزان: لو أعلم بأنني أموت من العطش فأنني لا أشرب من هذا الأناء أبداً.

فقال لهم عمر: إذهبوا وأتوه بماء في إناءٍ يقبل أن يشرب منه، فجاؤوا له بقدح فيه ماء وناولوه بيده، فنظر إلى ما حوله ولم يشرب وقال: أنني أخاف أن أقتل وأنا أشرب الماء.

فقال له عمر: لا تخف فأنا أعطيك الإمان من القتل إلى أن تنتهى من شرب الماء.

فما كان من الهرمزان إلّاأن ألقى بالقدح من يده فانسكب الماء على الأرض، فقال عمر وهو يتصور أنّ القدح سقط من يده بدون اختيار: ناولوه قدحاً آخر ليشرب.

فقال الهرمزان: أنا لا أريد الماء بل كان مقصودي أن أحصل منك على الإمان، فقال له الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 232

الخليفة: ولكني سأقتلك لا محالة.

فقال الهرمزان في جوابه: إنك قد أعطيني الإمان من القتل.

فقال الخليفة: أنت تكذب فأنا لم أعطك الإمان.

وكان (أنس) حاضراً فقال: صدق الهرمزان لقد أعطيته الإمان إلى أن ينتهى من شرب الماء.

فتفكر الخليفة في ذلك وقال للهرمزان: لقد خدعتني ولكني سوف أقبل خدعتك هذه لكي تعتنق الإسلام، فلما رأى الهرمزان هذه الحالة (وهي إلتزام المسلمين بعهودهم ومواثيقهم) شع نور الإيمان في قلبه وأسلم «1».

والملفت للنظر أنّه يستفاد من الروايات الإسلامية أنّه حتى شبهة العهود والأمان يجب الوفاء بها، ففي الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام: «لَوْ

أَنَّ قَوْماً حاصَرُوا مَدينةً فَسَألُوهُمُ الأَمانَ فَقالُوا: لافَظَنُّوا أَنَّهُمْ قالُوا: نَعَمْ فَنَزِلُوا إِلَيْهِمْ كانُوا آمِنِينَ» «2».

وبهذا ترى أنّه ليس فقط العهد والأمان يجب الوفاء به بل إحتمال وجود العهد الوفاء به أحياناً.

10

البحث المنطقي والجدال والمراء

تنويه:

إنّ أفضل طريق لتبيين الحقائق والوصول إلى الأفكار الصحيحة والنتائج السليمة هو البحث المنطقي الخالي من كل أشكال التعصب والعناد، لأنّ الأفكار عندما تتلاقح وتضم بعضها إلى البعض الآخر وتتصل القابليات والعقول فسيسطع نور المعرفة ليضي ء كل شي ء.

ولكن إذا كانت أجواء البحث يسودها التعصّب واللجاجة والأنانيّة والخشونة، وبكلمة واحدة المراء، فإنّ ذلك من شأنه أن يغطي على الحقائق الواضحة ويسدل ستار الظلمة على الواقعيات، فمهما استمر البحث والجدال فإنّ الحجب تزداد على وجه الواقع.

ولهذا السبب فإنّ الإسلام وقف من الجدال والمراء، أو بتعبير آخر: التعصّب بالبحث وإثبات تفوّق الأنا على الطرف المقابل وليس ذلك لغرض تبين الحق وكشف الحقيقة، موقفاً سلبياً وعدّ ذلك من الذنوب الكبيرة، لأنّ المراء بإمكانه أن يجعل سدّاً كبيراً في طريق فهم الحقيقة والوصول إلى الواقعيات.

وبالطبع سوف نشير لاحقاً إلى الفرق بين الجدال والمراء باذن اللَّه تعالى، ولكنّ الهدف هنا الإشارة السريعة إلى موقف الإسلام السلبي من هذا الخلق الذميم أي الجدل والمراء، وموقفه الإيجابي وثنائه على الأشخاص الذين يتحرّكون في بحثهم العلمي ومناقشاتهم الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 234

الفكرية من موقع البحث المنطقي لغرض الكشف عن الحقيقة وتوخّي العدالة.

وبهذه الإشارة السريعة نعود إلى القرآن الكريم لنرى موقفه من هاتين الخصلتين:

1- «يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ» «1».

2- «وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْ ءٍ جَدَلًا» «2».

3- «وَمِن النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ

شَيْطَانٍ مَرِيدٍ» «3».

4- «وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدىً وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ» «4».

5- «إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» «5».

6- «وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ» «6».

7- «وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ» «7».

8- «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ» «8».

9- «أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ» «9».

10- «وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ» «10».

تفسير واستنتاج:

«الآية الإولى»: من الآيات محل البحث تتعرض لطائفة من المؤمنين الضعيفي الإيمان من موقع الذم والتوبيخ بسبب ترددهم وجبنهم في ميدان القتال وتثاقلهم عن الجهاد في سبيل اللَّه فتقول: «يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمُوتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ».

القرائن تشير إلى أنّ جماعة من المسلمين الجدد الذين لم تكن لهم تجربة كافية في الحرب قد تملكهم الخوف وسيطر عليهم الجبن عندما سمعوا الأمر بالجهاد في سبيل اللَّه، ومع أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قال لهم بصراحة: أنا مأمور بأمر من اللَّه تعالى في هذا الطريق، ورغم ذلك فإنّهم يجادلون النبي صلى الله عليه و آله ليثنوه عن عزمه ويعيدوه إلى المدينة وكأنّما يرون الموت على بعد خطوات منهم، وفي الواقع فإنّ ضعف الإيمان والخوف من الموت والشهادة في سبيل اللَّه دفعهم إلى التذرع بالحجج الواهية والتبريرات المختلفة لإضعاف عزم النبي صلى الله عليه و آله، القرآن الكريم يذم هذه الحالة ويصرح في الآيات اللاحقة أنّ مشيئة اللَّه قد قررت تقوية الحق

وقطع جذور الكافرين (رغم سيطرة الأوهام والتخيلات على هذه الفئة من ضعفاء الإيمان).

ويستفاد جيداً من هذه الآية أنّ أحد أسباب الجدل والمراء والمناقشات غير المنطقية هو ضعف النفس والخوف من تحديات الواقع والحالة الإنهزامية لدى الشخص في مواجهة الظروف الصعبة.

وقد ورد في التواريخ الإسلامية المعروفة أنّه عندما سمع المسلمون بخبر تحرك جيش قريش من مكة لأنقاذ القافلة التجارية المتحركة في الطريق إلى مكة حيث تعرضت لتهديد المسلمين فانّ جماعة من ضعفاء المسلمين أصروا على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أن يعود إلى مكة لأنّ المسلمين في نظرهم ليست لديهم القدرة الكافية على مواجهة جيش المشركين، وأساساً أنّهم لم يخرجوا طلباً للحرب والقتال.

ويذكر أنّ أبا بكر قام فقال: يا رسول اللَّه، إنّها قريش وخيلاؤها، ما آمنت منذ كفرت، وما

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 236

ذلّت منذ عزّت، ولم تخرج على هيئة حرب ..

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: اجلس، فجلس، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: اشيروا عليَّ.

فقام عمر فقال: مثل مقالة أبي بكر.

فأمره النبي صلى الله عليه و آله بالجلوس فجلس.

ثم قام المقداد فقال: يا رسول اللَّه، إنّها قريش وخيلاؤها، وقد آمنّا بك وصدقناك، وشهدنا أنّ ما جئت به حقّ من عند اللَّه، واللَّه لو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا (نوع من الشجر الصلب) وشوك الهراس لخضناه معك، ولا نقول لك ما قالت بنو اسرائيل لموسى: إذهب أنت وربّك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكنا نقول: إذهب أنت وربّك فقاتلا، وإنّا معكم مقاتلون ... الخ.

فأشرق وجه النبي صلى الله عليه و آله ودعا له وسرّ لذلك «1»

والعجيب أنّ إبن هشام في سيرته والطبري أوردا قصة الشورى التي شكلها النبي صلى

الله عليه و آله قبيل غزوة بدر ولكن عندما وصلا إلى كلام الخليفة الأول والثاني قالا بكثير من التلخيص:

«قالَ أَبُوبَكُر وَاحْسَنَ، ثُمَّ قامَ عُمَرُ بْنَ الْخَطابِ وَقالَ وَأَحْسَنَ».

واكتفيا بذلك دون أن يذكرا كلام الأول والثاني في حين أنّه لو كان الأول والثاني قد أحسنا في كلامهما لكان المفروض من هذين المؤرخين أن يذكرا مقولتهما، والحال أنّهما ذكرا كلام المقداد بتمامه، ومن هنا يتبين أنّ نقل هذين المؤرخين لا يخلو من تعصب مذهبي بإمكانه تزييف الحقائق التاريخية.

«الآية الثانية»: تتحدث عن جميع الأشخاص الذين يتحركون في حياتهم من موقع العناد والتعصب وعدم النضج الفكري والنفسي وتقول:

«وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذا الْقُرآنِ لِلناسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْانْسانُ اكْثَرَ شَى ءٍ جَدَلًا».

فلأجل هداية الناس فقد صرفنا وذكرنا في القرآن الكريم قصص الأوائل وحوادث الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 237

التاريخ البشري وحياة الأقوام التي عاشت الظلم والجور، ولكن الإنسان يعيش حالة الجدل أمام الحق وبذلك يقطع على نفسه طريق الوصول إلى الحقيقة ويوصد أبواب نور المعرفة أمامه ويستفاد جيداً من هذا التعبير أنّ الأشخاص الذين يعيشون الطفولة الفكرية وعدم النضج في شخصيتهم هم أكثر الموجودات جدلًا ومراءاً، وعلى أية حال فانّ هذا التعبير يشير إلى أنّ الإنسان إذا إنحرف عن فطرته السليمة فأنّه يتّجه صوب الجدل ويتحرك في خط المراء والباطل ويقف أمام الحق بدافع من التعصبات والأهواء الذاتية ويوصد طريق الهداية أمامه، وهذا يمثل أكبر بلاء على الإنسان في طول التاريخ البشري.

وتستعرض «الآية الثالثة»: تعريفاً واضحاً للمجادلة بالباطل وتبيّن مصير أهل الجدل والمراء وتقول: «وَمِنَ الناسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ».

ورغم أنّ شأن نزول هذه الآية كما ذكره جماعة من المفسرين أنها نزلت في (النظر

بن الحارث) الذي كان من المشركين المعاندين والمتعصبين جداً وكان يتحدث عن القرآن بكلمات واهية ويتصور أنّ الملائكة هم بنات اللَّه، ولكن من الواضح أنّ مفهوم هذه الآية عام وشامل لجميع الأشخاص الذين يناقشون ويجادلون بدافع من التعصب والعنادومن دون علم ومعرفة.

واللطيف أنّ الآية تذكر في آخرها أنّ هؤلاء المجادلين يتحركون في خط الشيطان المتمرد ويتبعونه، وهذا التعبير يشير إلى أنّ الجدال بالباطل هو طريق الشيطان، بل إنّ الشيطان الرجيم ينفذ في كل شخص يسعى لإثبات وجهة نظره من موقع التعصب والعناد فيسيره إلى حيث يريد.

أما وصف الشيطان بأنّه (مريد) أي المتمرد، فهو يبين هذه الحقيقة، وهي أنّ الذين يتحركون من موقع الجدل والمراء هم في صف واحد مع المتمردين على اللَّه والحق ويمثلون جبهة واحدة مقابل جبهة الحق.

والمراد من جملة (يجادل في اللَّه) هو الجدال في صفة من صفات اللَّه أو في أصل وجود

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 238

اللَّه أو في قدرته وعلمه أو في أفعاله، وعلى أيّة حال فإنّ الآية الشريفة تنطلق من موقع الذم الشديد للجدال بالباطل.

قد ورد وهذا المعنى نفسه مع بعض الإضافات كذلك في (الآية الثامنة) من سورة الحج حيث تقول الآية: «وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدىً وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ»

وهذه إشارة إلى أنّ البحث والنقاش إذا كان مقترناً مع العلم والمعرفة، أو مع هداية أولياء الدين والإنبياء الإلهيين، أو يكون مستنداً إلى كتاب من الكتب السماوية فليس لا ضرر فيه فحسب بل يمكنه أن يكون مفتاحاً لحل الكثير من المشاكل والأزمات الفكرية والعقائدية.

ولكن عندما لا تكون هذه العناصر الثلاثة الإيجابية على طاولة البحث والنقاش (أي العلم الشخصي، وهداية الأولياء، والإستناد إلى الكتب السماوية) فانّ الجدال

سوف ينزلق في طريق الأهواء والتعصبات ويتحرك الإنسان معه في خط الباطل والإنحراف وبالتالي لا تكون نتيجته سوى الضلال والشقاء.

ويستفاد من الآية التاسعة من هذه السورة التي وردت بعد هذه الآية محل البحث أنّ أحد دوافع الجدال بالباطل هو التكبر والغرور والعجب والذي يتسبب في إضلال الآخرين أيضاً، فمثل هؤلاء الأشخاص يكون مصيرهم إلى الفضيحة في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة كما تقول الآية: «ثَانِىَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْىٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ».

«الآية الخامسة»: من الآيات محل البحث وضمن وصفها وتعريفها لمفهوم المجادلة بالباطل تشير إلى أحد الدوافع والجذور الأصلية لهذه الرذيلة الأخلاقية في واقع الإنسان وتقول: «إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ» هؤلاء لا يوجد في قلوبهم سوى التكبر والغرور حيث يريدون تحقيق نظراتهم من وحي الأهواء والتعصّب ولكنّهم لا يصلون إلى مرادهم ومقصودهم: «إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ».

كلمة (سلطان) تستعمل في مثل هذه الموارد بمعنى الدليل والحجّة والبرهان والتي الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 239

وردت في الآية السابقة وتشمل العلم الشخصي، وهداية الأولياء، وإرشاد الكتب السماويّة، ومن الملفت للنظر أنّ الآية تقول: أنّ المصدر الأصلي للمجادلة والعناد هو حالة التكبر التي يعيشها هؤلاء الأشخاص حيث يريدون التوصّل إلى غاياتهم وطموحاتهم الدنيوّية من خلال المجادلة بالباطل ولكنّهم بدلًا أن يحققوّا ذلك لأنفسهم في حياتهم فأنّهم سوف يعيشون الذّلة والمهانة.

وبما أنّ هذه الرذيلة الأخلاقيّة هي أحد المصائد الخطرة للشيطان الرجيم فانّ الآية الكريمة تقول في ختامها: «فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ»

وتنطلق «الآية السادسة»: لتتحدّث عن المشركين الذّين يتحرّكون في شركهم وكفرهم من موقع الأصرار والعناد ويجادلون النبي الأكرم صلى الله عليه و

آله في عمليّة تبرير أعمالهم وسلوكيّاتهم الخاطئة وعندما يقول لهم القرآن الكريم: إنّكم وما تعبدون من دون اللَّه حصب جهنّم فأنّهم يجادلون في ذلك ويقولون: «وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ».

ثمّ إنّ القرآن الكريم يضيف إلى ذلك أنّ هؤلاء يدركون الحقيقة جيّداً ولكنّهم يتكلّمون معك من موقع الجدل والخصام والعناد: «مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ».

ثمّ يبيّن القرآن الكريم الفرق بين المسيح والأصنام فيقول بالنسبة إلى المسيح: «إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ» «1».

وهو إشارة إلى أنّ المسيح هو عبدٌ من عبيد اللَّه لا يقبل أن يعبده النصارى أبداً، ولو أنّ بعض الناس إنحرف عن جادّة الصواب وتصوّر أنّ المسيح أحد الأقانيم الثلاثة في مقام الالوهيّة فلا ذنب على المسيح نفسه ولا ينبغي أن يكون من أهل النار، وعليه فانّ هذا المثل لا يقبل المقارنة مع الأصنام أو الأشخاص من أمثال فرعون وجملة: «بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ» تشير إلى أنّ أحد مصادر ودوافع الجدال بالباطل هو حالة الخصومة والعداوة التي يعيشها الإنسان الجاهل وغير المنطقي، والغالب أنّه يعلم أنّه يسير في خط الباطل الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 240

ولكنّ الحقد والعداوة لا يسمحان له بالتسليم في مقابل الحق والإذعان للحقيقة.

«الآية السابعة»: وبعد الإشارة إلى حرمة الميتة والأنعام التي ذبحت للاصنام أو ما ذبح بدون أن يذكر إسم اللَّه عليه فتقول «وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ» «1».

ثمّ تشير إلى أنّ الشياطين يوحون إلى أتباعهم بمفاهيم خاطئة لتبرير أفعالهم وتقول:

«وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ».

المجادلة بالباطل هنا كما يذكر جماعة من المفسّرين الكبار أمثال الطبرسي وأبو الفتوح الرازي وسيد قطب هو أنّهم كانوا يقولون أننا إذا أكلنا من لحوم الميتة، فإنّ ذلك بسبب أنّ

اللَّه تعالى قد قتلها وبالتالي فهي أفضل من لحوم الحيوانات التي نقتلها بأيدينا، وفي الحقيقة فانّهم أهملوا تحريم الميتة الوارد في الشريعة الإلهية من هذا الموقع الزائف.

وهذا التبرير السخيف والباطل لأكل الميتة هو ما أوحى به شياطين الإنس والجن لأوليائهم وأتباعهم ليعينوهم على مجادلة كلام الحق بمثل هذه التبريرات الزائفة ويقارنوا بين اللّحوم الملّوثة والميتة مع اللّحوم الطاهرة التي ذبحت على اسم اللَّه تعالى ويفضّلون الاولى على الثانية.

ويستفاد من هذه العبارة أنّ مثل هذه المجادلة بالباطل تنطلق من دوافع شيطانية.

ويستفاد من بعض الروايات أنّ هذه التبريرات الواهية قد كتبها بعض المجوس في كتاب وأرسلها إلى المشركين من قريش.

«الآية الثامنة»: تتحدّث عن الجدال في حالة الاحرام للحج وتقول: «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ».

ونعلم أنّ حالة الاحرام هي حالة معنويّة وروحانية سامية تصعد بالإنسان إلى حيث القرب الإلهي وأن يعيش أجواء الملكوت، ولهذا السبب فإنّ الكثير من الأعمال المباحة

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 241

تصبح ممنوعة في حالة الاحرام هذه، بل إنّ بعض الامور المحرّمة تتضاعف حرمتها في هذه الحالة المقدّسة.

والمعروف حرمة 25 عمل أثناء الإحرام وأحدها هو الجدال، ورغم أنّ المشهور بين الفقهاء هو أنّ المراد من الجدال هنا هو قول (بلى واللَّه) أو قول (لا واللَّه) فالأول لإثبات المطلب والثاني لنفي المطلب، والمراد من الفسوق الكذب والتهمة والسب والشتم وإظهار التفوق على الآخرين في حال الإحرام، ولكن لا يبعد أن تكون كلمة (جدال) شاملة لكل أنواع المجادلة والمخاصمة الكلامية، وعلى أية حال فإنّ المنع من الجدال في حال الإحرام يشير إلى أنّ هذا العمل يتقاطع بشدّة مع هذه العبادة الروحانية المهمّة وتبعد الإنسان عن اللَّه تعالى.

وتتابع

الآية بالقول في جملة خبريّة بأنّه (لا جدال في الحج) ممّا يبيّن تأكيداً أكثر على هذا الموضوع وكأنّها تقول: (إنّ هذا العمل يتنافى مع روح الحج).

«الآية التاسعة»: تتحدّث عن (المراء) وهو كلام يشبه الجدال وتقول: «أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ».

وبديهي إنّ الهداية تتفرع في واقعها على أن يكون الإنسان طالباً للحق بحيث يقبله من أي مكان ويتقبّله برحابة صدر دون أن يجد في نفسه تعصّباً وتكبراً عليه، وكلّما عاش الإنسان حالة الكبر والغرور والتعصّب فإنّ ذلك من شأنه أن يكون مانعاً جدياً من التسليم أمام الحق وأن ينزلق الإنسان في وادي الضلالة والانحراف الشديد.

أمّا الفرق بين الجدال والمراء وكذلك النقاط المشتركة بينهما فسيأتي لاحقاً.

«الآية العاشرة»: والأخيرة من الآيات مورد البحث تتحدّث عن عناد قوم لوط وأنّ نبيّهم الكريم حذّرهم من عذاب اللَّه وأنّ هذا العذاب ينتظرهم بالتأكيد إذا استمروا على غيّهم وعصيانهم، فلم يقبلوا كلامه وقاموا بوجهه من موقع المجادلة والمراء، تقول الآية: «وَلَقَدْ

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 242

أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ».

وكان هذا هو السبب في أن يبقى قوم النبي لوط عليه السلام في حجاب الغفلة والجهل إلى أن صدر أمر اللَّه تعالى بعذابهم فأصاب الزلزال الشديد مدنهم وأمطرت عليهم السماء حجارة فلم يبق من بيوتهم وأجسامهم إلّاالدمار والخراب، أجل فإنّ هذه هي نتيجة الجدال والمراء في مقابل الحق.

هذه الآيات الشريفة توضح جيداً أخطار هاتين الرذيلتين الأخلاقيتين وتبيّن كيف أنّ الإنسان وبسبب الجدال والمراء يتأخر عن قافلة الهداية والرشاد ويكون من أتباع الشيطان ويلبس ثياب ولايته ويتحرّك في الضلال البعيد ويقع بالتالي في دوامة العذاب الإلهي الخالد.

الفرق ين الجدال والمراء والخصومة:

إنّ كلمة (جدل) و (جدال) كما يقول الراغب في مفرداته (جدلت الحبل) أي شددته

والجدل شدّة الفتل، وكأنّ المجادل يريد من خلال كلامه الجاد مع الخصم أن يبعده بالقوة من أفكاره وعقائده.

وذكر البعض أنّ (الجدال) في الأصل بمعنى المصارعة والسعي للتغلب على الآخر وطرحه على الأرض، وبما أنّ الشجار اللفظي والكلامي يشبه هذا المعنى إلى حدٍ كبير استخدمت هذه الكلمة في هذا المعنى.

وبالطبع فإنّ الجدال على قسمين: الجدال بالحق والجدال بالباطل، والأول ممدوح والثاني مذموم، ومن ذلك نجد أنّ القرآن الكريم يقول في مورد: «وَجادِلهُم بِالّتِي هِي أَحسَن» «1».

وهنا نجد أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله مأمور بجدالهم بالحق وورد ذلك إلى جانب الحكمة والموعظة الحسنة.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 243

أمّا الجدال بالباطل فهو ما ورد في الآيات المذكورة آنفاً من أنّ بعض الأشخاص يتحرّكون في كلامهم ونقاشهم من موقع التعصب والعناد، وبذلك ينكرون أوضح دلائل الحق من خلال هذا الجدال، وأمّا (المراء) على وزن حجاب، فهو بمعنى المحادثة والمكالمة في شي ء يكون فيه مرية أي شك وترديد، ويقول الراغب في مفرداته: إنّها في الأصل من (مريت الناقة) أي حلبتها، ثم قيلت لكل كلام يكون في موضوعه الشك والترديد (ولعل ذلك يتناسب مع كون الإنسان متردداً في وجود اللّبن في ضرع الناقة أو لا) وذهب بعض إلى تعبير أدق من ذلك حيث يرى أنّ الجذر الأصلي لهذه الكلمة في قولهم (مريت الناقة) هو فيما لو حلبت الناقة قبل ذلك ثم جاء أحدهم بأمل أن يكون من اللبن بقية في الضرع فيحلبها مع هذا الشك والترديد، وهكذا أطلقت على المناقشة الكلامية في البحوث المقترنة مع الشك.

ولكن هذه المفردة استخدمت بعد ذلك في كل نوع من البحث الكلامي وعن أي موضوع كان محل شك وترديد سواءاً كان بحثاً إيجابّياً

وطلباً للحق، أو كان بدافع من العناد والخصومة واللجاجة.

ومن الموارد التي استخدم فيها المراء بالمعنى الإيجابي ما ورد في الآية الشريفة 22 من سورة الكهف حيث تخاطب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله حول مجادلته عن أصحاب الكهف مع مخالفية وتقول: «فَلا تُمارِ فيهِمْ الَّا مِراءًظاهِراً» «1».

أمّا الموارد المستعملة في المعنى السلبي فكثيرة ومنها ما تقدم من الآيات أعلاه.

والجدير بالذكر أنّ مفردة (مرية) على وزن جزية وقرية، بمعنى الترديد في العزم والتصميم، وبعض ذهب إلى أنّها بمعنى الشك المقترن بقرائن التهمة مثل (الريبة).

الجدال والمراء في الروايات الإسلامية:

نظراً إلى أنّ الجدال بالباطل يتسبب في إخفاء الحق وزيادة عناصر التعصب والخشونة

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 244

وما يترتب على ذلك من المفاسد والاضرار الكثيرة، نرى أنّ الروايات الإسلامية قد نهت عن الجدال والمراء بشدّة خاصّة إذا كان بالنسبة إلى الامور الدينيّة ومن ذلك:

1- ما ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «ما ضَلَّ قَومٌ بَعدَ أَنْ هَداهُمُ اللَّهُ إلّااوتُوا الجَدَلَ» «1».

2- وهذا المضمون ورد أيضاً في حديث آخر مع تفاوتٍ يسير عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أيضاً حيث قال: «ما ضَلَّ قَومٌ إلّاأَوثَقُوا بالجَدَلَ» «2».

3- وقد ورد في حديث عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «لَعَنَ اللَّهُ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي دِينِهِ اولئِكَ مَلعُونُونَ عَلى لِسانِ نَبِيِّهِ» «3».

4- وفي حديث آخر عن هذا الإمام عليه السلام أيضاً أنّه قال: «الجَدَلُ فِي الدِّينِ يُفسِدُ اليَقِينَ» «4».

5- في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «إِيّاكُم وَالخُصُومَةَ فِي الدِّينِ فَإنَّها تُشغِلُ القَلبَ عَنْ ذِكرِ اللَّهِ عَزَّوَجَلَّ وَتُورثُ النِّفاقِ، وَتَكسِبُ الضَّغائِنَ، وَتَستَجِيرُ بالكِذبَ» «5».

والتعبير بالخصومة في الدين رغم أنّها لا تنطوي تحت عنوان الجدال ولكنّها من

الموارد الشبيهة بهذا المعنى.

6- ونظير هذا المعنى ما ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام أنّه قال: «إِيَّاكَ وَالخُصُومَةَ فَإنَّها تُورثُ الشَّكَّ وَتَحبِطُ العَمَلَ وَتُردِي بِصاحِبِها» «6».

7- ومن نصائح لقمان الحكيم لابنه في ترك الجدال: «يا بُنَيَّ لاتُجادلِ العُلَماءَ فَيَمقُتُوكَ» «7».

8- ونقرأ في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام: «مَنْ طَلَبَ الدِّينَ بِالجَدَلِ تَزَندَقَ» «8».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 245

9- قال الإمام على بن موسى الرضا عليه السلام لأحد أصحابه: «أَبلِغْ عَنِّي أَولِيائِي السَّلامَ وَقَلْ لَهُم أَنْ لايَجعَلُوا لِلشِّيطانِ عَلى أَنفُسِهِم سَبِيلًا وَمُرهُم بِالصِّدقِ فِي الحَدِيثِ وَأَداءِ الأَمانَةِ وَمُرهُم بِالسُّكُوتِ وَتَركِ الجِدالِ فِيما لايَعنِيهم» «1».

10- نختم هذا البحث بحديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن نسبة الإيمان والمراء والجدال، حيث يقول: «لا يَستَكمِلُ عَبدٌ حَقِيقَةَ الإِيمانِ حتَّى يَدَعَ المِراءَ وَالجَدَلَ وإِن كانَ مُحِقّاً» «2».

أمّا المراء الذي سبق وأن قلنا بالفرق بينه وبين الجدال فحاصل الكلام هو أنّ الجدال يعني كل شكل من أشكال الشجار اللفظي والنزاع الكلامي، في حين أنّ المراء يأتي بمعنى المباحثة في شي ء يكون فيه شك وترديد، فتارة تكون هذه المباحثة بدافع من طلب الحق وتوضيح المطلب، واخرى تكون بدافع من التعصّب واللّجاجة وإظهار التفوّق والفضل على الطرف الآخر، وهذه الحالة مذمومة جداً، وفي الروايات الإسلامية ينصب الذم على هذا النوع من المباحثة اللفظية، رغم عدم وجود تفاوت كبير بينه وبين الجدال.

1- ورد في الحديث الشريف معنى المراء بما تقدم أعلاه، فعن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قال: «لا يَستَكمِلُ عَبدٌ حَقِيقَةَ الإِيمانِ حتَّى يَدَعَ المِراءَ وَالجَدَلَ وإِن كانَ مُحِقّاً» «3».

وهذا إشارة إلى أنّ المناقشة والمنازعة اللفظية من موقع اللجاجة وبدافع من إظهار التفوّق والفخر

على الآخر حتّى في المسائل الحقّة تكون سبباً في سقوط الإنسان على المستوى الأخلاقي والعقائدي.

2- وفي حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أيضاً بواسطة عدّة أشخاص من الصحابة الذين قالوا: دخل رسول اللَّه يوماً علينا ونحن نتمارى في شي ء من أمر الدين فغضب غضباً شديداً لم يغضب مثله ثم قال: «إِنّما هَلَكَ مَنْ كانَ قَبلَكُم بِهذا، ذَرُوا المِراءَ فَإِنَّ المُؤمِنَ لإ

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 246

يُمارِي، ذَرُوا المِراءَ فَإنَّ المِماري قَدْ تَمَّتْ خَسارَتُهُ، ذَرُوا المِراءَ فَانا المِماري لاأَشفَعُ لَهُ يَومَ القِيامَةِ، ذَرُوا المِراءَ فَانا زَعِيمٌ بِثَلاثَةِ أَبياتٍ فِي الجَنَّةِ فِي رِياضِها وَأَوسَطِها وَأَعلاها لِمَنْ تَرَكَ المِراءِ وَهُوَ صادِقٌ، ذَرُوا المِراءَ فَإنَّ أَوَّلَ ما نَهانِي عَنهُ رَبِّي بَعدَ عِبادَةِ الأَوثانِ المِراءُ» «1».

3- وفي حديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «ذَرُوا المِراءَ فَإنّه لاتَفهَمُ حِكمَتُهُ وَلا تُؤمَنُ فِتنَتَهُ» «2».

وهو إشارة إلى أنّ الشخص المماري يرى أنّه لم يعرف نفسه ولا الآخرين، ومثل هذا الشخص يعيش أجواء الحرمان من إدراك الحقائق الدينية قطعاً.

5- وجاء في حديث آخر أنّ رجلًا قال للإمام الحسين عليه السلام اجلس اناظرك في الدين، فأجابه الإمام: «يا هذا أَنَا بَصِيرٌ بِدِينِي مَكشُوفٌ عَلَيَّ هُداي فَإن كُنتَ جاهِلًابِدِينِكَ فَاذهَبْ وَاطلُبهُ، مالِي وَللمُماراتِ وإِنَّ الشَّيطانَ لِيُوسوِسُ لِلرَّجُلِ وَيُناجِيهِ وَيَقُولُ ناظِرِ النَّاسَ فِي الدِّينِ كَي لايَظُنُّوا بِكَ العَجزَ وَالجَهلَ»».

6- وفي حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «أَربَعٌ يُمِتْنَ القُلُوبَ الذِّنبُ عَلى الذَّنبِ وَكَثرَةُ مُناقشَةِ النِّساءِ يَعنِي مُحادَتَهُنَّ وَمُماراتُ الأَحمَقِ تَقُولُ وَيَقُولُ وَلا يَرجَعُ إِلى خَيرٍ وَمُجالَسَةُ المَوتى فَقِيلَ: يا رَسُولُ اللَّهِ وَما المَوتى قَالَ: كُلُّ غَنِيٍ مُترَفٌ» «4».

7- جاء

عن أميرالمؤمنين قوله: «إِيّاكُم وَالمِراءِ وَالخُصُومَةَ فَإِنَّهُما يَمرُضانِ القُلُوبَ عَلَى الإِخوانِ وَينبِتُ عَلَيهِما النِّفاقِ» «5».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 247

8- ولهذا فقد ورد في حديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال في خطاب له أمام حشدٍ من المسلمين: «أَورَعُ النّاسِ مَنْ تَرَكَ المِراءَ وَإِنْ كانَ مُحِقاً» «1».

9- وفي رواية عن الإمام أميرالمؤمنين صلى الله عليه و آله أنّه قال: «جِماعُ الشَّرِّ اللِّجاجُ وَكَثرَةُ المِمارَاةِ» «2».

10- ونختم هذا البحث بحديث آخر عن سلمان الفارسي عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال:

«لا يُؤمِنُ رَجُلُ حَتّى يُحِبُّ أَهلِ بَيتِي وَحَتّى يَدَعَ المِراءَ وَهُوَ مُحِقٌّ فَقَالَ عُمَرُ بنُ الخَطابِ:

ما عَلامَةُ حُبِّ أَهلِ بَيتِكَ؟ قالَ: هذا، فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلى عَليِّ بنِ أَبِي طالِبٍ عليه السلام» «3».

ولا شك أنّ هذين الموضوعين يرتبطان ببعضهما برابطة وثيقة حيث ذكرهما النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في كلامه مقترنين، ولعل هذه الرابطة من جهة أنّ دلائل فضل الإمام علي وأهل بيته عليهم السلام إلى درجة من الوضوح والبداهة بحيث يقبلها كل إنسان يتحرّك من موقع الإنصاف ويبتعد عن الجدال والمراء والخصومة ويهدف إلى طلب الحقيقة.

***

إنّ الروايات الشريفة في ذمّ المراء كثيرة جدّاً، وما ذكر من الروايات العشر أعلاه إنّما هي نماذج وعيّنات من هذا الباب والنظر الدقيق في هذه الأحاديث والروايات يكفي لكي يحيط الإنسان بأخطار هذا الخلق الذميم وعواقبه الوخيمة وآثاره المخرّبة على المستوى الفردي والاجتماعي.

الآثار السلبية للجدال والمراء:

إنّ التأكيدات الكثيرة الواردة في الآيات القرآنية والروايات المتواترة الإسلامية في ذم الجدال والمراء والخصومة في المباحثات الكلامية إنّما هي من أجل أنّ أول نتائج هذا العمل المضرّة وهذا الخلق السي ء هو التستّر والتغطية على الحقائق بحيث يجعل بين

الإنسان وبين الحقيقة حجاباً سميكاً وسحابة سوداء على بصيرة الإنسان بحيث لا يدرك معها أوضح البديهيّات ويتحرّك في مناقشاته من موقع إنكار الامور الضرورية أو يدافع عن الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 248

بعض المواضيع التي تدعو للسخريّة، وليس هذا إلّابسبب أنّ الإنسان عندما تتصاعد عنده روح الجدال وتشتد حرارة الكلام فيه فأنّه يقوم بإنكار كل ما لا يراه مصيباً في نفسه ولا يتوافق مع كلامه.

وبما مرّ علينا من الروايات الشريفة تقرّر أنّ الخصومة والجدال والمراء تمرض القلب فإنّه من الممكن أن تكون إشارة إلى هذا المعنى، لأنّ القلب يأتي بمعنى العقل، ومرض القلب بمعنى عدم درك الحقائق والواقعيات، ولذا رأينا في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّ الأشخاص الذين يعيشون الجدال والمراء تكون عاقبتهم ومصيرهم إلى الكفر، أو أنّ الجدال يسبب الشك في دين اللَّه وفساد اليقين، كل هذا إشارات لطيفة إلى ما تقدّم آنفاً من أضرار الجدال والمراء.

والآخر من الآثار السلبية لهذه الصفة الأخلاقية الذميمة هوإيجاد العداوة والبغضاء بين الأصدقاء ونسيان ذكر اللَّه تعالى وجرّ الإنسان إلى الكثير من أنواع الكذب في الكلام حيث مرّت الإشارة إلى ذلك في الأحاديث الشريفة السابقة، والسبب في ذلك واضح، لأنّ الشخص الذي يريد إثبات تفوّقه على أقرانه من خلال الجدال والمراء فإنّه يعمل على تحريك الطرف الآخر ضدّه ليحمى وطيس النقاش وغالباً ما نجد في كلامه عناصر التحقير والسخرية بالطرف الآخر، وهذه من أسوأ أسباب النفاق وإيجاد العداوة بين الأشخاص وحتّى أنّه أحياناً ومن أجل تبرير كلامه يتوسّل بأنواع الكذب، وهذا بحد ذاته بلاء كبير آخر، ومجموع هذه الامور تؤدّي بالإنسان إلى الابتعاد عن اللَّه تعالى ويسقط في فخاخ الشيطان وشراكه وبالتالي يكون مصيره إلى

الهلاك المعنوي والسقوط الإنساني.

ولهذا قرأنا في الأحاديث السابقة أنّ الإنسان لا يصل إلى حقيقة الإيمان إلّاإذا ترك المراء والجدال حتى لو كان محقّاً، لأنّ النزاع اللفظي حتى في مسائل الحق والدين يتسبب في إيجاد أنواع الخصومات والعدوان وأحياناً يجر الإنسان إلى ارتكابه الكثير من الذنوب من قبيل: تحقير المؤمن وإهانته بالكلام أو بالإشارة باليد والعين والكذب والتكبّر وحبّ التفوّق وأمثال ذلك.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 249

مضافاً إلى هذا أنّ الجدال والمراء يذهب وقار الإنسان ويكسر من شخصيته ومروءته بحيث ينفتح عليه لسان الجهلاء إذا اشترك في مجادلة معهم ويتسبب في هتك حرمته والإهانة له، وإذا جادل العلماء فإنّه يذوق مرارة الهزيمة ويفتضح أمره ويكشف عن جهله وحقارته.

ومن مجموع ما مرّ وكما قرأنا في الروايات السابقة أنّ الجدال والمراء يعدّ أحد الامور الأربعة التي تؤدّي إلى مرض قلب الإنسان وروحه.

فما أحسن بالإنسان أن يتباحث مع الآخرين من موقع المحبّة والصداقة والتواضع وبدافع من طلب الحق والحقيقة حيث يؤدّي ذلك إلى زيادة علمه ومعرفته والاستفادة من علوم الآخرين لإيضاح الحقيقة أكثر وحل المشاكل العلميّة العويصة والقيود المعرفيّة التي بأمكانها أن توصل الإنسان إلى أجواء المعرفة والإطّلاع على المجهول، وهذا هو الجدال بالحق.

دوافع الجدال والمراء:

ونظراً إلى وجود علاقة وثيقة بين الصفات الرذيلة في واقع الإنسان حيث ترتبط غالباً فيما بينها بعلاقة العلّة والمعلول، يتّضح من ذلك أنّ هذه الصفة الذميمة، أي الجدال والمراء والخصومة من موقع الجهالة، تنشأ من صفات قبيحة اخرى:

1- إنّ من العوامل المهمّة للجدال والمراء هو حالة الكبر والغرور في النفس والتي لا تسمح للإنسان أن يذعن أمام الحق، بل تدفعه لغرض حفظ التفوّق على الطرف الآخر إلى سلوك طريق الجدال والمراء وإنكار ما يتّضح له

أنّه الحق، ولذلك ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه الكرام عليهم السلام: «إِنّ مِنَ التَّواضُعِ أَنْ يَرضى الرَّجُلُ بِالمَجلِسِ دُونَ المَجلِسِ وَأَنْ يُسَلِّمَ عِلى مَنْ يَلقى وَأَنْ يَترُكَ المِراءَ وَإِنْ كانَ مُحِقَّاً وَلا يُحِبَّ أَنْ يُحمَدَ عَلَى التَّقوى «1».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 250

2- وأحد الدوافع الاخرى للجدال والمراء والنزاعات اللّفظية هو الظهور بمظهر العالم المتفوّق وإظهار الفضل على الآخرين، وهذه الحالة متداولة كثيراً في أجواءنا الاجتماعية وخاصّة في المجلس الذي يحضره جماعة من العوام ويريد هذا الشخص أن يظهر نفسه وفضيلته أمامهم أو يريد أن يفتح له مكاناً بين أرباب العلم والمعرفة، وجاء في الحديث الشريف الذي ذكرناه سابقاً عن الإمام الحسين عليه السلام قوله: «وإِنَّ الشَّيطانَ لِيُوسوِسُ لِلرَّجُلِ وَيُناجِيهِ وَيَقُولُ ناظِرِ النَّاسَ فِي الدِّينِ كَي لايَظُنُّوا بِكَ العَجزَ وَالجَهلَ» «1».

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام حيث يقسّم طلّاب العلم إِلى ثلاثة أقسام، وطائفة منهم طلبوا العلم للجدال والمراء، وطائفة اخرى للفخر على الناس، وثالثة لغرض فهم الحقيقة والتعلّم والعمل بذلك، ثمّ يصف الإمام حال الطائفة الاولى ويقول: «فَصاحِبُ الجَهلِ والمِراءِ مُوذٍ مُمارٍ مُتَعَرِّضٍ لِلمَقالِ فِي أَندِيةِ الرِّجالِ».

وفي ذيل هذا الحديث الشريف يلعن الإمام مثل هذا الشخص ويقول: «فَدَقَّ اللَّهُ مِنْ هذا خَيشُومَهُ» «2».

3- ومن الدوافع الاخرى للجدال والمراء والتعصّب الكلامي هو الجهل بمقام الذات ومقام الآخرين، لأنّه يرى نفسه أكبر وأعلم من واقعه ويرى الآخرين يعيشون الجهل وعدم العلم، ولذلك ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام والذي ذكرناه فيما سبق بعد أن يعدّ الإمام المراء بأنّه أحد الأمراض الخطرة لقلب الإنسان وأنّه من الأخلاق الشيطانية يقول: «فَلا يُمارِي فِي أَيِّ حالٍ إلّامَنْ

كانَ جاهِلًا بِنَفسِهِ وَبِغَيرِهِ» «3».

4 و 5- حبّ الانتقام والحسد يعتبران من العوامل المهمّة الاخرى التي تدفع بالإنسان إلى الجدال والمراء، فلغرض تسقيط شخصية الطرف المقابل والانتقام منه وإشباع حالة الحسد في نفسه أو تضعيف مكانة الطرف الآخر أمام الانظار فإنّه يستخدم أداة الجدل الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 251

والبحث العلمي المقترن مع الأهانة والتحقير ليستطيع بهذه الوسيلة أن يروي ظمأه إلى الانتقام من الطرف الآخر ويصب الماء على نار الحقد والحسد المستعرة في قلبه.

6- ومن العوامل المهمّة الاخرى التعصّب واللّجاجة، لأنّ الشخص المتعصّب واللّجوج غير مستعد أن يقبل التنازل عن عقائده الفاسدة بسهولة، ولذلك يجد في نفسه تعصّباً للتوقف عليها وحفظها والدفاع عنها بالمجادلة والبحث الكلامي ويتشبّث بكل وسيلة لإثبات صحّة كلامه وبطلان كلام الطرف الآخر، وهذا هو ما نجده في سلوك الكثير من الكفّار والمشركين أمام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وسائر الأنبياء الكرام عليهم السلام حيث تقدّم مثال واضح لذلك من مباحثة عبدة الأوثان ونمرود مع النبي ابراهيم عليه السلام، وذلك عندما وجدوا أنفسهم أمام الكلام المنطقي والرصين لأبراهيم عليه السلام فوقعوا في حيرة من الأمر وانتبهوا مؤقتاً من نوم الغفلة ولكن حالة التعصّب واللّجاجة أسدلت على عقولهم وقلوبهم سحابة ظلمانية منعتهم من قبول الحقيقة والإذعان وانطلقوا مرّة اخرى في تأكيد معتقداتهم السخيفة من موقع الدفاع عنها بالأدلة الواهية والجدال الأجوف.

7- ومن العوامل المهمّة للجدال والمراء أيضاً (حبّ الدنيا) الذي يعدّ عاملًا أساسياً لجميع الذنوب أو أكثرها، فالأشخاص الذين يعيشون هذه الصفة الرذيلة يريدون كسب المقام والوجاهة الاجتماعية من خلال سلوك هذا الطريق لإثبات أعلميّتهم وذكائهم وبذلك يتمكّنوا من نيل أهدافهم الدنيوية وتحصيل بعض المقامات الوهميّة والعناوين الزائفة.

وخلاصة الكلام هي

أنّ العوامل السلبية الكثيرة تتفق مع بعضها لدفع الإنسان إلى الخوض في الجدال والمراء بعيداً عن الأدب والخلق الإنساني والإنصاف وتجرّه إلى الدخول في دائرة اللّجاجة والعناد أمام الحق والدفاع عن الباطل.

أقسام المراء والجدال:

يمكن تقسيم الجدال والمراء إلى قسمين:

الجدال والمراء على المستوى الإيجابي، أي أن يتباحث مع الآخرين على مستوى البحوث المنطقية لغرض تبييّن الحقائق وتوضيح ما أشكل من المسائل الغامضة والاطّلاع الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 252

على نظرات الآخرين والوصول إلى الواقعيات من هذا الطريق.

أمّا المراء والجدال على المستوى السلبي فيعني المباحثات والنزاعات الكلامية التي تنطلق بوحي من عقدة الخصومة والتي لا تهدف إلى غرض معيّن وصحيح ولا تسير في خط تبيين الحقائق، بل الهدف منها هو تكريس الخصومة والتعصّب واللّجاجة وإثبات التفوّق وإظهار الفضل على الآخرين.

وهذا التقسيم نجده منعكساً في آيات القرآن الكريم حيث يقول في الآية 48 من سورة العنكبوت: «وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ».

ويقول في مكان آخر في الآية 125 من سورة النحل: «وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ».

ويقول في مكان آخر في مقام الذم لجماعة من الكافرين: «يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ».

وأمّا في مورد المراء الإيجابي فنقرأ في (قصة أصحاب الكهف) وعددهم قوله تعالى:

«فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً» «1».

أي بالنسبة إلى عدد أصحاب الكهف فلا ينبغي أن تتباحث حولهم إلّابالكلام المنطقي المقترن بالدليل.

وأمّا في مورد المراء السلبي فيقول تعالى: «أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ» «2».

وهناك تقسيمات اخرى أيضاً على حسب الأشخاص في طرفي المباحثة وكذلك بالنسبة إلى المواضيع والمسائل التي تدور في أجواء البحث والجدال.

ومن ذلك أن يكون طرف المناظرة إنساناً عاقلًا وفاهماً لكي تكون المباحثة معه مثمرة من خلال الاستدلال المنطقي والعلمي كما

ورد في وصيّة أميرالمؤمنين عليه السلام قوله: «دَعْ المُمارَاةَ وَمُجارَاتَ مَنْ لاعَقلَ لَهُ وَلا عِلمَ» «3».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 253

ويجب أن يكون المناظر إنساناً مطّلعاً على الامور، لأنّ الأشخاص الذين يعيشون الجهل بالامور إذا أرادوا الدفاع عن الحق والورود في ميدان المجادلة، فإنّهم وبسبب ضعف معلوماتهم وقلّة إطّلاعهم سوف يذوقون الهزيمة ويغلبوا في هذه المبارزة، وبالتالي ينعكس ذلك سلبياً على الحق والحقيقة.

ولذلك نقرأ في الحديث الشريف أنّ محمد بن عبداللَّه المعروف بالطيّار جاء إلى الإمام الصادق عليه السلام وقال له: «بَلَغَنِي أَنَّكَ كَرِهتَ مُناظَرَةَ النّاسِ»،

قال الإمام عليه السلام: «أَمّا كَلامُ مِثلِكَ فَلا يَكرَهُ، مَنْ إِذا طارَ يَحسُنُ أَنْ يَقَعَ وإِنْ وَقَعَ يَحسُنُ أَنْ يَطِيرَ، فَمَنْ كانَ هكَذا لانَكرَهُهُ» «1».

أمّا لقب الطيّار الذي يطلق على هذا الصحابي المعروف للإمام الصادق عليه السلام، فهو إشارة إلى هذا المعنى أيضاً، لأنّه كان قوياً جدّاً في مجال المباحثة والجدل وكان يتحرّك في دفاعه عن الحق بكل قدرة ومهارة.

وهنا ينبغي على جميع الأشخاص الذين ليس لديهم إطّلاع كافٍ حول مسائل الدين ومعارفه العميقة ولا يجدون في أنفسهم القدرة على الدفاع عنه أن لا يدخلوا في مناظرة ومباحثة مع المخالفين، لأنّهم سوف ينهزمون في هذه المباحثة، وهزيمتهم توجب وهن مباني المذهب الحق في نظر الآخرين.

ومن هنا فإنّ الافراط والتفريط غالباً موجود في سلوكيات هؤلاء الأفراد الجهلاء، فهناك الأشخاص الذين يسلكون طريق الافراط عن جهل ويقولون: بما أنّ الجدال والمراء مذموم في الإسلام ومحرّم بشدّة، فنحن لا ندخل في أي بحث علمي وكلامي مع أي شخص من الأشخاص حتّى لو كان البحث مستدلًا ويقوم على قواعد منطقية من الأدلة والبراهين في طريق إثبات الحق والدفاع عنه، ويختارون السكوت بدل البحث أو

الاستدلال، ويسمّون ذلك من باب القيل والقال.

وهذا أيضاً انحراف كبير عن جادّة الصواب، لأنّ تبيّن الحقائق لا يتسنى إلّافي ظلّ الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 254

البراهين المنطقية والدلائل المتينة، وإيصاد هذا الطريق على الناس يعني حرمانهم أو حرمان طائفة كبيرة منهم من الوصول إلى الحقائق وتحصيل الواقعيّات.

ونختم هذا الكلام بحديث جميل عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام عن جدّه الإمام الصادق عليه السلام حيث وقعت في محضره مجادلة كلامية في أمر الدين وأنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والأئمّة المعصومين عليهم السلام كانوا قد نهوا عن ذلك، فقال الإمام الصادق عليه السلام: «لَمْ يَنهْهُ عَنْهُ مُطلَقاً لَكِنَّهُ نَهى عَنْ الجِدالِ بِغَيرِ الَّتِي هِي أَحسنِ، أما تَسمَعُونَ اللَّهَ تَعالى يَقُولُ: «وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» «1»، وَقَوله: «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِوَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» «2»، فَالجِدالُ بِالَّتِي هِي أَحسَنُ قَد قَرَنَهُ العُلَماء بِالدِّينِ وَالجِدالِ بِغَيرِ الَّتِي هِي أَحسنُ مَحَرمٌ وَحَرَّمَهُ اللَّهُ تَعالى عَلى شِيعَتِنا، وَكَيفَ يُحَرِّمُ اللَّهُ الجِدالَ جملَةً وَهُوَ يَقُولُ: «وَقَالُوا لَن يَدخُلِ الجَنَّةَ إلّامَنْ كانَ هُوداً أو نصارى ، قالَ اللَّهُ تعالى «تِلكَ أَمانِيهِم قُل هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ» «3».

فَجَعلَ عَلمَ الصِّدقِ والإيمانِ بِالبُرهانِ وَهَل يُؤتى بِالبُرهانِ إلّافِي الجِدالِ بِالَّتِي هِي أحسَنُ؟

قِيل: يا ابنَ رَسُولِ اللَّهِ فَما الجِدالِ بِالَّتِي هِي أَحسَن وَالَّتِي لَيسَتْ بِأَحسَنَ؟

قالَ: أَمّا الجِدالَ بِغَيرِ الَّتِي هِي أَحسنُ أَن يُجادِلَ مُبطلًا فَيُوردُ دَلِيلًا باطِلًا فَلا تَردَّهُ بِحُجَةِ قَد نَصَبَها اللَّهُ تعالى وَلكن تَجحَد قَولَهُ ... وَأَمَّا الجِدالُ بالَّتِي هِي أَحسَنُ فَهُوَ ما أَمَرَ اللَّهُ تعالى بِهِ نِبِيَّهُ أَن يُجادِلَ بِهِ مَنْ جَحَدَ البَعثَ بَعدَ المَوتِ وَإِحياءُهُ لَهُ فَقالَ اللَّهُ حاكِياً عَنهُ: «وَضَرَبَ

لَنَا مَثَلًا وَنَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْىِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيم* قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ» «4» «5».

طرق علاج هذه الرذيلة الأخلاقية:

كلّما وجد الإنسان نفسه يعيش حالة الخصومة في مباحثة مع الآخرين ويكثر من الجدل والبحث العقيم وبتعبير الروايات: الجدال غير الحسن بحيث أصبح هذا السلوك بمثابة العادة والخلق له، فإنّ إيمانه وتقواه ودينه يتعرّض لخطر الذوبان والمحق، وينبغي عليه الاسراع في انقاذ نفسه من هذه الرذيلة والتخلّص من هذا الخلق الذميم والتحرّك بصدد العلاج قبل أن تتجذّر هذه الصفة في أعماق نفسه.

والطريق الأول للعلاج ولعلّه يعدّ من مقدمات العلاج لتسكين هذه الحالة المؤذية كيما يتسنى للإنسان علاجها فيما بعد هو اختيار السكوت في كل مورد يحتمل فيه أن يكون الجدال بالباطل، وكلّما استمر هذا السكوت مدّة أطول وتحّمل الضغط النفسي وتحدّيات الحالة المزاجية، فإنّ ذلك سيوفّر الأرضية المساعدة للتخلّص من شرّ هذه الحالة السلبية ومعالجة هذه الصفة في النفس.

وطبعاً فإنّ السكوت يعدّ علاجاً للكثير من الرذائل (من قبيل الحسد والحقد والنميمة والرياء وكفران النعمة والتهمة والكذب وحبّ التفوّق وغيرها من الرذائل الأخلاقية التي تتجلّى في سلوك الإنسان من خلال الكلام والنطق) فالسكوت يمكنه أن يكون عنصر الوقاية من جميع هذه الموارد، ولهذا السبب فإنّ الروايات الإسلامية قد مدحت السكوت كثيراً وقد تقدّم تفصيل هذا الموضوع في الجزء الأول من هذا الكتاب.

الطريق الآخر لعلاج هذه الفضيلة الأخلاقية هو التفكّر الدقيق في النتائج السلبية والعواقب الوخيمة المترتبة على هذه الصفة من قبيل أن يكون الإنسان محجوباً عن درك الحقائق ويعيش في زحمة الأوهام والتعصّبات والعداوات بين الأصدقاء ويبتعد بذلك عن حقيقة الإيمان وبالتالي سيكون مورداً للغضب الإلهي وزهوق شخصيته وسقوط حيثيته بين الخاص والعام.

ومن اليقين

أنّ التفكّر في مثل هذه العواقب السيئة سيكون له تأثير عميق في وقاية الإنسان عن الوقوع في متاهة الجدال بالباطل، فكيف يمكن أن يعلم الإنسان بأنّ هذا الغذاء

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 256

مسموم ويتناوله في نفس الوقت؟ فالشخص الذي يتناول غذاء مسموماً هو الذي لا يدرك آثاره وعواقبه ولا يعلم بحاله.

إنّ إصلاح جذور الخلل في واقع النفس وتطهير الذات من الدوافع والنوازع التي تجرّ الإنسان للخوض في الجدل يعدّ أحد طرق العلاج لهذا الخلق الذميم، وعندما نقول الدافع للجدال والمراء فهذا يعني التكبّر وحب التفوّق والتظاهر والحسد وحبّ الانتقام وحبّ الدنيا والتعصّب واللجاجة، ومن المعلوم أننا إذا استطعنا أن نبعد هذه الحالات السلبية والصفات الذميمة عن أنفسنا ونطهّر قلوبنا من أدرانها فإنّ ذلك من شأنه أن يقلع جذور حالة الجدال والمراء من النفس، ولكن مع وجود هذه الصفات في أعماق النفس، فإنّ إزالة هذه الصفة الأخلاقية سيكون عسيراً جداً.

ومن الطرق الاخرى للعلاج هو إبتعاد الشخص عن الأفراد المتعصّبين والذين يحبّون الخوض بالباطل وكذلك الامتناع عن مناقشة مثل هؤلاء الأشخاص حيث سيجرّ الإنسان إلى الجدال والمراء وإن كان غير قاصد لذلك.

وقد ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «مَنْ جالَسَ الجاهِلَ فَليَستَعِدَّ لِقِيلٍ وَقالٍ» «1».

ومن البديهي أنّ الإنسان قبل كل ذلك يجب عليه أن يوقظ في نفسه الإرادة والعزم القاطع على ترك المراء والجدال واجتناب هذه الرذيلة الأخلاقية، فاذا وجد الإنسان في نفسه ذلك وعزم بجدية على ترك المراء فانّه سيفلح في النهاية.

الإنصاف في الكلام:

النقطة المقابلة للمراء والجدال هي الانصاف في البحث والكلام، أي أنّ الإنسان ينظر إلى كلام الآخرين كما ينظر إلى كلامه ويدافع عنه كما يدافع عن كلامه، وبتعبير آخر أن يكون

طالباً للحق فيبحث عنه ويطلبه من أي شخص كان ومن كل مكان حتّى لو كان الناطق الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 257

به شخصاً من العوام وكان هو عالماً كبيراً ومعروفاً، بل حتى لو سمع كلام الحق من طفل أو كافر أو ظالم فعليه قبوله من موقع الإذعان للحق والحقيقة.

وأمّا الانصاف في الروايات الإسلامية الذي ورد الثناء البالغ عليه فالمراد منه أن يرى الشخص مصالح الآخرين كمصالحه، ولكن أحد أغصان شجرة الانصاف هو الانصاف في الكلام، حيث ورد في الحديث المعروف عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: «سَيِّدُ الأَعمالِ ثَلاثَةُ:

إِنصافُ النّاسِ مِنْ نَفْسِكَ حَتّى لاترضى بِشَي ءٍ إلّارَضِيتَ لَهُم مِثلَهُ وَمُواساتِكَ الأَخَ فِي المَالِ وَذِكُرُ اللَّهِ عَلى كُلُّ حالٍ» «1».

والملفت للنظر أنّ بعض الروايات الواردة عن الإمام الصادق عليه السلام تتحدّث عن أنّ الإمام عندما ضمن أربعة قصور في الجنّة لمن يعمل أربعة أعمال، فإنّه عدّ ترك المراء ثالث عمل وانصاف الناس من النفس العمل الرابع، ويحتمل أن يكون إشارة إلى الانصاف في الكلام.

النميمة وإصلاح ذات البين

تنويه:

إنّ الحياة الاجتماعية تتزامن دائماً مع أشكال التضاد والنزاع بين أفراد المجتمع، وأحد فروع التضاد والتزاحم بين الأفراد هو النزاع الكلامي الذي قديمتد ويتعمّق إلى أن يصل إلى شجار وصراع بين الأطراف وقد يصل أحياناً إلى سفك الدماء أيضاً.

فالواجب على أفراد المجتمع أن يتحرّكوا من موقع إصلاح ذات البين ورفع سوء التفاهم وتهيئة الأرضية لايجاد جو حسن الظن بين الأطراف المتنازعة وكما في الاصطلاح: يصبوا الماء على نار الصراع ويعملوا على تهدئة التوتر الناشي ء من حالات الشجار والتضاد.

ولكن مع الأسف فإنّ بعض الناس وبدوافع مختلفة يتحرّكون على العكس من هذا الاتّجاه وكأنّهم يريدون صبّ الزيت على النار ويرغبون في إتساع دائرة الحريق، ومن

المعلوم أنّهم سيشتركون في جميع المفاسد المترتبة على هذا النزاع والصراع بين أفراد المجتمع، هؤلاء يتحرّكون في هذا الاطار على مستوى إيصال كلام هذا الطرف إلى الطرف الآخر وبالعكس وقد يضيفون بعض الكلام من أنفسهم ويوصلونه إلى الطرف المتخاصم، وهذا هو معنى (النميمة) التي هي من أسوأ الأخلاق الذميمة في النفس البشرية في حين أنّ الفئة الاولى هم المصلحون الاجتماعيون الذين يعدّ عملهم في مرتبة الجهاد في سبيل اللَّه.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 260

وقد ورد في الروايات الشريفة أنّه: «أنَّ أَجرَ المُصلِحِ بَينَ النّاسِ كَأجرِ المُجاهِدِ بَينَ أَهلِ الحِربِ» «1».

إنّ النميمة كلّما تكرّرت في سلوك الفرد فإنّ من شأنها أن تكون خلقاً وملكة وسجيّة في هذا الإنسان، ومن رذائله الأخلاقية القبيحة، وقد وردت في الآيات الكريمة والروايات الإسلامية إشارات كثيرة إلى هذه الرذيلة الأخلاقية على مستوى ذمّها وتقبيح المرتكب لها، وعلى العكس من ذلك فقد ورد المدح الكثير لعملية إصلاح ذات البين.

وبهذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من اياته ما يتعلق بهاتين الصفتين الأخلاقيتين ثمّ نستعرض كل واحدة منهما من موقع الدوافع والنتائج والآثار الإيجابية والسلبية وطرق علاج صفة النميمة وكذلك تقوية ضدّها وهي إصلاح ذات البين:

1- «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ» «2».

2- «وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ* هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ* مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ* عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ» «3».

3- «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ» «4».

4- «مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقِيتاً» «5».

5- «يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأَنْفَالِ قُلْ الْأَنْفَالُ للَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا

اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ» «6».

6- «وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِايْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» «7».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 261

7- «لَاخَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً». «1»

8- «... إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» «2».

تفسير واستنتاج:

«الآية الاولى»: تحذّر الأشخاص الذين يتحرّكون في تعاملهم مع الآخرين من موقع السخرية والإستهزاء: «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ».

أمّا تفسير (همزة) و (لمزة) والفرق بينهما هناك كلام كثير بين المفسّرين وقد تحدثنا عنه في التفسير الأمثل ذيل الآية الشريفة، والمهم هو أنّه على أحد التفاسير فإنّ المراد من الآية أعلاه هو الإشارة إلى الأشخاص الذين يتحرّكون على مستوى النميمة بين الأفراد، وقد سئل ابن عباس عن المقصود من هذه الآية، ومن هم هؤلاء الذين يهدّدهم اللَّه تعالى بالويل، فقال: ابن عباس: «هُم المَشاؤونَ بِالنَّمِيمَةِ المَفَرِّقُونَ بَينَ الأَحِبَّةِ النَّاعِتُونَ لِلنّاسِ بِالعَيبِ».

ويذكر المرحوم الطبرسي في (مجمع البيان) هذا المعنى بعنوان أول تفسير له لهذه الآية، والفخر الرازي يذكره بعنوان التفسير التاسع والأخير لهذه الآية، ونظراً للمفهوم الواسع الذي يدخل في مضمون (همزة ولمزة) فإنّ كل أشكال الغيبة والنميمة والسخرية تندرج تحت مفهوم هذه الآية، وهنا نرى أنّ اللَّه تعالى قد وعد هؤلاء الأشخاص بالعقاب الشديد وهو (الحطمة) وهي النار التي سعّرها اللَّه تعالى في قلوب هؤلاء بحيث تندلع من قلوبهم لتستوعب كل وجودهم.

ويستفاد من هذه الآية أنّ نار الآخرة بخلاف نار الدنيا، فإنّها تنبع من داخل النفس وأعماق القلب ثم تسري إلى الظاهر، ولعلّ ذلك بسبب أنّ الرذائل الأخلاقية والأعمال

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 262

القبيحة تنبع من ذات الإنسان وأعماقه ثم تظهر على السطح على شكل ممارسة عملية في الواقع الخارجي.

«الآية الثانية»: تخاطب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وتنهاه عن إطاعة هؤلاء النمّامين بعد عدّة أقسام وتقول: «وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ* هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ»

وتبعاً لهذه الصفات الأخلاقية القبيحة تضيف الآيات التالية صفات اخرى من قبيل المنع من عمل الخير، العدوان، الحقد، الخشونة، الكفر بآيات اللَّه تعالى، ثم تقول: «سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ» وهكذا سيفتضح أمره في الدنيا والآخرة.

أمّا ذكر النميمة في تسلسل الرذائل المهمّة الاخرى وكذلك الكفر بآيات اللَّه تعالى يدل على قبح هذه الخصلة الشنيعة في سلوك الإنسان.

وعبارة «مشّاءِ بنميم» جاءت بصيغة المبالغة، وهي إشارة إلى الأشخاص الذين يتحرّكون دائماً بين الناس بالنميمة ويثيرون العداوة والبغضاء فيما بينهم، وهذا بحدّ ذاته يعدّ من أهم الذنوب الكبيرة.

(حلّاف) يطلق على الشخص الذي يحلف ويقسم باللَّه كثيراً، وعادة فمثل هؤلاء الأشخاص لا يعتمد الناس عليهم ولا هم يعتمدون على أنفسهم، ووصفهم بكلمة (مهين) أيضاً شاهد آخر على هذا المعنى، ولهذا فإنّهم وبدافع من شعورهم بالحقارة والذلة يعيبون على الآخرين ويمشون بينهم بالنميمة والفساد وكأنّهم يتألمون ممّا يرون من المحبّة والالفة والتكاتف بين الناس ويريدون ايقاع العداوة والحقد بين الأشخاص كما هو حالهم في أنظار الناس حيث ينظر الناس إليهم نظرة الحقارة والازدراء.

«الآية الثالثة»: وطبقاً لسبب نزولها المعروف تتحدّث عن (الوليد بن عقبة) الذي أرسله رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لجمع الزكاة من قبيلة (بني المصطلق): إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بعث إليهم بعد إسلامهم الوليد بن عقبة بن أبي معيط، فلما سمعوا به ركبوا إليه، فلما سمع بهم هابهم

فرجع الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 263

إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأخبره أنّ القوم قد همّوا بقتله ومنعوه ما قبلهم من صدقتهم فأكثر المسلمون في ذكر غزوهم حتّى همّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بأن يغزوهم، فبينما هم على ذلك قدِم وفدهم على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقالوا: «يا رسول اللَّه سمعنا برسولك حين بعثته إلينا فخرجنا إليه لنكرمه ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة فانشمر راجعاً فبلغنا أنّه زعم لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنا خرجنا إليه لنقتله وواللَّه ما جئنا لذلك، فأنزل اللَّه تعالى فيه وفيهم:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ»» «1».

فبعث رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خالد بن الوليد وأمره أن يتثبّت ولا يعجل، فانطلق خالد حتّى أتاهم ليلًا، فبعث عيونه، فلما جاؤوا أخبروا خالداً أنّهم متمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا أتاهم خالد ورأى صحة ما ذكروه، فعاد إلى نبي اللَّه صلى الله عليه و آله فأخبره، فنزلت هذه الآية، فكان يقول نبي اللَّه صلى الله عليه و آله: «التَّأَنِي مِنَ اللَّهِ وَالعَجَلَةُ مِنَ الشّيطانِ» «2».

وطبقاً لحديث شريف عن الإمام الصادق عليه السلام فإنّ الآية محل البحث تشير إلى النمّام»

.ومن هنا يتّضح أنّ النميمة تشمل الكذب أيضاً.

«الآية الرابعة»: من الآيات محل البحث أوردها بعض العلماء كالعلّامة المجلسي في بحث النميمة وقال: إنّ من يشفع شفاعة سيئة الوارد في هذه الآية «وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا» له مفهوم واسع ويشمل النميمة أيضاً لأنّها شفاعة سوء بالحقيقة، بل هي أسوأ حيث يشعل النّمام نار العداوة

بين الرجلين من المسلمين فيتحرّكوا فيما بينهما من موقع سوء الظن والحقد والكراهية، ولذلك ورد في الحديث النبوي الشريف قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «مَنْ أَمَرَ بِسُوءٍ أَو دَلَّ عَلَيهِ أَو أَشارَ فَهوَ شَرِيكٌ».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 264

«الآية الخامسة»: تتحدّث عن إصلاح ذات البين والذي يقع في النقطة المقابلة للنميمة وإفساد ذات البين، وتقول: «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ».

وقد ورد في سبب نزول هذه الآية أنّها نزلت بعد غزوة بدر حيث حدثت بين رجلين من الأنصار مشاجرة لفظية على الغنائم الحربية، وصرّحت الآية بأنّ الغنائم الحربية أمرها بيد النبي صلى الله عليه و آله وعليكم أن تسعوا لإصلاح ذات البين وإزالة الفرقة والاختلاف بين المسلمين.

«الآية السادسة»: تشير إلى الذين يجعلون اللَّه عرضة لأيمانهم في تقواهم واصلاح ذات البين: «وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِايْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».

وقد ورد في تفسير هذه الآية رأيان:

الأول: أنّ هذه الآية ناظرة إلى الأشخاص الذين تتملكهم الحدّة أحياناً فيقولون: سوف لا نفعل الخير أبداً لفلان وفلان، أو لا نتحرّك لغرض الإصلاح فيما بينهم، فنزلت الآية الشريفة وقالت إنّ هذه الإيمان باطلة فلا شي ء يمكنه أن يمنع عمل الخير والإصلاح بين الناس (وقد ذكر لهذه الآية سبب لنزولها يؤيّد هذه الرؤية حيث ذكر أنّه حصل اختلاف بين زوجين أحدهما بنت أحد الصحابة ويدعى (عبداللَّه بن رواحة) وقد حلف هذا الصحابي أن لا يقدم على إصلاح ما بينهما من الخلاف والنزاع، ونزلت الآية وأكّدت على بطلان مثل هذا القسم).

الثاني: هو أنّ هذه الآية تنهى عن القسم لغرض أعمال الخير والتقوى والإصلاح بين الناس، لأنّ رجحان مثل هذه

الأعمال وفضلها إلى درجة من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى القسم.

وعلى أيّة حال فانّ أهميّة إصلاح ذات البين يتّضح من هذه الآية جيداً وخاصة أنّها ذكرت هذه الفضيلة إلى جانب أعمال الخير والتقوى والبر.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 265

تتحرك «الآية السابعة»: من موقع الحديث عن النجوى بين الأشخاص والذي قد يتسبب أحياناً في أذى الآخرين وسوء ظنّهم، وأحياناً يوفّر الأرضية المساعدة لتنفيذ خدع الشيطان ولذلك تقول الآية: «لَاخَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ».

ولكنّها تضيف مباشرة هذا الاستثناء: «وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً».

إنّ استثناء مسألة إصلاح ذات البين من الذم للنجوى من جهة، وجعل الإصلاح إلى جانب الصدقة والمعروف من جهة اخرى، وكذلك بالوعد بالثواب العظيم عليه من جهة ثالثة كلّها شاهد على أهمية هذا الفعل والسلوك الإنساني.

أمّا ما الفرق بين الصدقة والمعروف؟ فقد ذهب البعض إلى أنّ الصدقة تعني المعونة المالية بلا عوض، والمعروف هو القرض الحسن، وذهب بعض آخر إلى أنّ المعروف له مفهوم عام يشمل جميع أفعال الخير (وعليه تكون النسبة بين الصدقة والمعروف نسبة العموم والخصوص المطلق).

وجاء في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّ أحد أفضل الصدقات التي يحبّها اللَّه ورسوله صلى الله عليه و آله هو (إصلاح ذات البين) ويقول: «ألا أَدُلُّكَ عِلى صَدقَةٍ يُحبُّها اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟

تُصلِحْ بَينَ النّاسِ إِذا تَفاسَدُوا وَتَقَرِّبْ بَينَهُم إِذا تَباعَدُوا» «1».

وعليه فإنّ إصلاح ذات البين ذكر بشكل مستقل تارةً، واخرى بعنوانه أحد المصاديق البارزة للصدقة والمعروف، وبتعبير آخر أنّ إصلاح ذات البين هو المصداق الكامل للمعروف والصدقة في هذا المورد.

وجاءت «الآية الثامنة»: والأخيرة من الآيات محلّ البحث لتتحدّث عن منهج أحد الأنبياء العظام باسم (شعيب عليه السلام)

حيث يبيّن للناس هدفه «... إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ»، وهذا الهدف يشترك فيه جميع الأنبياء الإلهيين على مستوى إصلاح العقيدة،

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 266

إصلاح الأخلاق، إصلاح العمل، وإصلاح الروابط الاجتماعية بين أفراد المجتمع.

وذهب بعض المفسّرين في تفسير كلمة الإصلاح أنّ مفهومها هو أَنني اريد إصلاح دنياكم بالعدالة وآخرتكم بالعبادة، ولكن من الواضح أنّ الإصلاح له مفهوم واسع يستوعب العدالة وغيرها أيضاً.

ثمّ إنّ الآية الشريفة تذكر أنّ النبي شعيب عليه السلام ولغرض التوفيق في هذا الأمر المهم، أي إصلاح دين ودنيا الناس في جميع الموارد يطلب من اللَّه تعالى التوفيق لذلك يقول: «وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ».

واللطيف أنّ النبي شعيب عليه السلام قال هذا الكلام في حين أنّ قومه كانوا قد غرقوا في دوامة الفساد المالي والأخلاقي، بحيث كانوا يعدّون نهي شعيب إيّاهم عن عبادة الأصنام والتطفيف في الميزان والفساد المالي مخالف لحريتهم ويقولون: نحن نتعجّب منك ومن عقلك أنّك تريد أن تقف أمام حرّيتنا على مستوى الفكر والعمل، وكأنّهم مثلما نجده من بعض الناس في هذا الزمان الذين لا يدركون جيداً المفهوم الصحيح للحرّية ولا يعلمون أولا يريدون أن يعلموا أنّ الحرية التي يفتخر بها الإنسان لابدّ وأن تكون مؤطّرة باطار القيم الأخلاقية والمثل الإنسانية وإلّا فإنّ مصير الناس إلى الضلال والانحراف والسقوط، وبذلك أجابهم النبي شعيب عليه السلام أنّ هدفي هو الإصلاح بالمعنى الواقعي للكلمة لا الاستسلام لأهوائكم وطموحاتكم الدنيوية.

والملفت للنظر أنّ قوم شعيب وصفوا نبيّهم بأنّه إنسان عاقل ورشيد «إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ»، ولكنّهم بمجرد أن رأوا هذا النبي يقف أمام مطامحهم ويتصدّى لإصلاح فسادهم المالي والعقائدي، فإنّهم برزوا له بالمخالفة والعناد.

ومن مجموع الآيات أعلاه تتّضح نقطتين

مهمّتين:

الاولى: هي أنّ النميمة والسعي لإيجاد الاختلاف بين الناس يعدّ من أكبر الذنوب وأقبح الصفات الأخلاقية الرذيلة.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 267

الثانية: أنّ الإصلاح بين الناس يعدّ أحد الوظائف المهمّة الإلهية والإنسانية والتي لا يمكن إهمالها والتغاضي عنها بأي دليل.

النميمة في الروايات الإسلامية:

نظراً لأنّ النميمة تعدّ أشنع الظواهر الاجتماعية التي تنخر في مفاصل المجتمع البشري وتكون مصدراً ومنبعاً لكثير من المفاسد الاخرى وحتى القتل وسفك الدماء، فلذلك نجد أنّ الأحاديث الإسلامية قد نهت عن هذا السلوك الذميم بشدّة وجاء في مضامين هذه الروايات ما يثير العجب من وخامة هذه الظاهرة وبشاعة هذا السلوك ومنها:

1- ما ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال يوماً لأصحابه: «أَلا انَبِّئُكُم بِشَرارِكُم، قَالُوا: بَلى يا رَسُولَ اللَّهِ، قالَ: المَشَّاؤُونَ بِالنَّمِيمِةِ وَالمُفَرِّقُونَ بَينَ الأَحِبَّةِ الباغُونَ لِلبُرآءِ المَعايبِ» «1».

النميمة بمعنى الصوت الواطي ء الهادي ء والذي يصدر من حركة شي ء أو اصطدام قدم الإنسان في الأرض حال المشي، وبما أنّ النّمام عادة يتحدّث من موقع النميمة بهدوء وإخفات لكي يلقي في نفس السامع أنّه يحمل إليه خبراً مهمّاً، ولذلك أطلقت هذه الكلمة على النّمام ومن يسعى بين الأشخاص من موقع التفرقة وإثارة الاختلاف «2».

وذهب البعض إلى أنّ النميمة في الأصل بمعنى تزيين الكلام الباطل والكاذب (لأنّ الشخص النّمام يسعى إلى أن يلبس لكلامه الكاذب لباساً جميلًا) «3».

وشبيه هذا المعنى ورد أيضاً عن أميرالمؤمنين عليه السلام «4».

2- وجاء في حديث آخر عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «الجَنَّةُ مُحَرَّمَةٌ عِلى القَتاتِينَ المَشَّائِينَ بِالنَّمِيمَةِ» «5».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 268

«قتّات) من مادة قت (على وزن شط) وهي في الأصل بمعنى الكذب وإستراق السمع، سواءاً كان يحمل في طيّاته النميمة أم

لا، وعليه فإنّ القتّات هو الشخص الذي يريد أن يطّلع على أسرار الناس ويسعى بينهم لإفساد ذات البين والذي يقترن أحياناً بالنميمة أيضاً.

وقد ورد في بعض الروايات وكتب اللغة أنّ القتّات والنّمام بمعنى واحد.

3- وجاء في حديث آخر عن أبي ذر رضى الله عنه عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «يا أَبا ذَر صاحِبُ النَّمِيمةِ لايَستَرِيحُ مِنْ عَذابِ اللَّهِ فِي الآخِرَةِ» «1».

4- وورد في حديث آخر تعبير أشدّ عن الأشخاص النّمامين حيث قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في أحد خطبه: «وَمَنْ مَشى فِي نَمِيمَةٍ بَينَ إِثنَينِ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيهِ فِي قَبرِهِ ناراً تُحرِقُهُ إِلى يَومِ القِيامَةِ» «2».

5- وفي حديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «أَصابَ بَنِي إِسرائِيلَ قَحطٌ فاستَسقى مُوسى مَرات فَما اجِيبَ فَأَوحى اللَّهُ تَعالى إِلَيهِ إِني لاأَستَجِيبُ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ وَفِيكُم نَمَّام قَدْ أَصَرَّ عَلى النَّمِيمَةِ، فَقالَ مُوسى يارَبِّ مَنْ هُوَ حَتّى نُخرِجُهُ مِنْ بَينِنا؟

فَقالَ: يا مُوسى أَنهاكُم عَنْ النَّمِيمَةِ وَأَكُونَ نَمّاماً فَتابُوا بِأَجمَعِهِم فَسُقُوا» «3».

6- وفي حديث آخر عن الإمام الصادق أنّه قال: «أَربَعَةٌ لايَدخُلُونَ الجَنَّةَ: الكَاهِنُ وَالمُنافِقُ وَمُدمِنُ الخَمرِ وَالقَتَّاتُ وَهُوَ النَمامُ» «4».

7- ورد عن أمير المؤمنين صلى الله عليه و آله قوله: «النَّمامُ جِسرُ الشَّرِّ» «5».

8- وفي حديث آخر عن الإمام صلى الله عليه و آله نفسه أنّه قال: «لا تَجتَمِعُ أَمانَةٌ وَنَمِيمَةٌ» «6»

، أي الشخص النمّام هو خائن أيضاً.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 269

9- ونختم البحث بحديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله رغم وجود أحاديث كثيرة في هذا الباب، قال: «إِنَّ أَحَبَّكُم إِلى اللَّهِ الَّذِينَ يُؤلَفُونَ وَيَألِفُونَ وإِنَّ أَبغَضَكُم إِلى اللَّهِ

المَشاؤونَ بِالنَّمِيمَةِ المُفَرِّقُونَ بَينَ الإخوانِ» «1».

ومن مجموع هذه الأحاديث يستفاد جيداً أنّ النميمة تعتبر من الذنوب الكبيرة والخطرة جدّاً وتسبب خسران الدنيا والآخرة، والأشخاص الذين يرتكبون هذا الفعل الشنيع ويفرّقون بين الأحبّة والأقرباء لا يرون سيماء الجنّه أبداً إلّابأن يتوبوا من ذنوبهم ويتحرّكون على مستوى جبران أعمالهم وإصلاح ما أفسدوه، ومن خلال هذه الروايات نرى إشارات عميقة إلى حكمة تحريم هذا العمل السي ء وآثاره السلبية على الفرد والمجتمع حيث سيأتي تفصيل ذلك في الأبحاث اللاحقة أيضا.

النتائج السلبية للنميمة:

سبق وأن قلنا أنّ الأساس والقاعدة الأصلية التي يقوم عليها المجتمع البشري هو الاعتماد المتقابل بين الأفراد، وهذا الاعتماد المتقابل هو سبب إتّحاد الصفوف والتعاون والتكاتف بين أفراد المجتمع وبالتالي يتسبب في تقدّم المجتمع وتكامله على جميع الصُعد.

وقد أولى الإسلام أهميّة كبيرة لحفظ هذا العنصر الأساس وهو اعتماد الناس ووحدة صفوفهم وحرّم أي فعل من شأنه أن يلحق الضرر بوحدة المجتمع وقوّته، وأوجب كذلك كل فعل يسبب في تقوية شرائح المجتمع وشد أركانه (تارة من خلال الحكم الوجوبي واخرى من خلال الحكم الاستحبابي.

ولا شك أنّ النميمة هي من العوامل المهمّة للتفرقة وإيجاد سوء الظن بين أفراد المجتمع وتفضي إلى العداوة وتعميق حالة الحقد والكراهية بين الأفراد، وتارة تؤدّي إلى تلاشي الأسر وتمزّق العوائل، ولهذا السبب فإنّ الروايات المذكورة آنفاً تعدّ الشخص النّمام أشر أفراد المجتمع وأسوأهم.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 270

ونقرأ في الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين عليه السلام قوله: «إِيّاكُم وَالنِّمائِمَ فَإِنَّها الضَّغائِنِ» «1».

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام أيضاً قوله: «إِيّاكَ وَالنَّميمةَ فَإِنَّها تزرَعُ الضَّغِينَةَ وَتُبَعِّدُ عَنِ اللَّهِ وَالنّاسِ» «2».

وجاء في أحاديث اخرى التعبير بكلمة (شحناء) والتي تأتي بمعنى العداوة والضغينة أيضاً، ويتّضح من الأحاديث الشريفة السابقة أنّ

النمّام هو أسوأ خلق اللَّه تعالى بسبب سعيه للتفرقة بين الأحبّة والأصدقاء وتحرّكه من موقع إتّهام الأشخاص الطاهرين.

ومضافاً إلى ذلك فإنّ الشخص النّمام يعيش في المجتمع منفوراً ومطروداً، لأنّ طرفي النزاع اللذين استمعا لكلامه وصدقا به فإنّهما غالباً يندمان بعد ذلك ويجدان في أنفسهما الكراهية الشديدة للشخص الذي سبب الفرقة بينهما ويلعنانه ويحذّران الناس من الاتّصال مع هذا الشخص والتصديق بأقواله، وقد مرّ علينا في أحد الأحاديث الشريفة أنّ النمام بعيد عن اللَّه وبعيد عن خلق اللَّه.

والإمام الصادق عليه السلام يشبّه النّمام بالساحر الذي يفرّق بين الأحبّة بسحره ويقول في حديث مختصر وعميق المغزى: «إِنّ مِنْ أَكبَرِ السِّحرِ النَّمِيمَةِ يُفَرِّقُ بِها بَينَ المُتَحابِينَ وَيَجلِبُ العَداوَةَ عَلى المُتَصافِّينَ وَيَسفِكُ بِها الدِّماءَ وَيَهدِمُ الدُّورَ وَيَكشِفُ بِها السُّتُورَ، وَالنَّمامِ أَشرُّ مَنْ وَطأ عَلَى الأرضِ بِقَدَمِ» «3».

وطبعاً النميمة ليست بسحر، ولكنّها تحمل في نتائجها آثار السحر، ولذلك فإنّ الإمام قال عنها أنّها من أكبر أنواع السحر.

والجدير بالذكر أنّ النميمة لها أثر تخريبي كبير وعادة تكون العناصر المخرّبة أقوى أثراً وأسرع نتيجة من العناصر الخيّرة والمصلحة، لأنّ الأرضية لسوء الظن موجودة في القلوب، وعندما يتحرّك النّمام في إثارتها وتفعيلها فإنّها تتحرّك بسرعة وتستيقظ بذلك عناصر الشر

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 271

في واقع الإنسان ونفسه، ومن الممكن أن تقوم كلمات قليلة بعملية التفرقة بين صديقين حميمين مضى على صداقتهما أربعون سنة، كما أنّ بناء سد مفيد لخزن المياه يمكن أن يستغرق عشرات السنين ولكنّ تخريبه وإنهدامه بواسطة الديناميت والمواد المتفجرة قد لا يستغرق سوى بضع ساعات، ونختم هذا الكلام بالحديث الشريف عن الإمام الصادق حيث قال: «السَّاعِي قاتِلُ ثَلاثَةٍ، قاتِلُ نَفسَهِ وَقاتِلُ مَنْ يُسعى بِهِ وَقاتِلُ مَن يُسعى لَهُ» «1».

الكثير من

الموارد المشهودة في حالات الامراء والملوك تبيّن أنّ من سعى إليهم بالنميمة ضدّ شخص آخر فإنّه يلاقي حتفه على يدهم، وبهذه الصورة يكون الساعي أي النّمام قاتل نفسه أمام اللَّه تعالى، وكذلك الشخص الذي سعى إليه بالوشاية لأجل عدم التحقيق الكافي فَكأنّه قتل بيد ذلك الساعي لأنّه قتل بريئاً.

وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ بعض العلماء وأرباب اللغة ذهبوا إلى إشراك السعاية والنميمة في المعنى في حين أنّه من الممكن وجود فرق بينهما (رغم أنّهما متشابهان جدّاً) فالنميمة هي التفرقة بين صديقين أو بين قريبين أو شريكين، ولكنّ السعاية هي أن يتحدّث الشخص بعيوب شخص آخر عند كبير من الكبراء، وبهذا يعرض ذلك الشخص إلى الخطر، ولذلك وردت السعاية في كثير من الروايات بعنوان السعاية عند السلطان وأمثال ذلك، ولكن تشابههما في المعنى تسبب في أن يذكران تحت عنوان واحد.

دوافع النميمة:

وهذا الصفة الرذيلة كسائر الصفات الاخرى ترتبط مع الكثير من الرذائل الأخلاقية برابطة وثيقة، ومنها الحسد، لأنّ الشخص الحسود لا يتمكن أن يتحمل سعادة الآخرين وراحتهم والمودّة التي تحكم بين الأفراد المتحابين والتعاون والتكاتف الذي يرى في تعاملهما وحياتهما المشتركة، ويتألم ممّا يرى من روابط المودّة ووشائج المحبّة بين الزوجين والعوائل فيما بينهم، ولذلك يسعى من خلال النميمة أن يزرع بذور الفرقة وسوء

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 272

الظن بين هؤلاء الناس ويغرس العداوة والنزاع بين الأفراد.

ومن الدوافع الاخرى للنميمة هو حبّ الدنيا، لأنّ المحبّ للدنيا والعاشق لها يرغب في زرع نبتة الاختلاف والفرقة بين الناس ويرى أنّ كسبه وعمله الاقتصادي والاجتماعي في تقوية عناصر الشر والكراهية بين الأفراد.

النفاق يعدّ عاملًا مهمّاً آخر من عوامل النميمة ودوافعها، يقول القرآن الكريم عن المنافقين: «أَلَا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ

لَايَشْعُرُونَ» «1».

أجل فعملهم هو إيجاد الفساد والفتنة بأي وسيلة كانت، ونقرأ في الحديث الشريف عن الإمام الصادق قوله: «عَلامَةُ النِّفاقِ الحَثُّ عَلَى النَّمِيمَةِ» «2».

فمثل هذا الشخص يذهب إلى تلك الجهة، ويبدأ ببيان معايب الجهة الاخرى ويذمّها ويتظاهر بأنّه إنّما يريد الخير لهذا الطرف دون ذاك، فيلقي بكلامه المسموم لدى هؤلاء، ثمّ يتوجّه إلى الطرف المقابل ويكرّر نفس هذا العمل أيضاً، فهذا الشخص هو مصداق للإنسان ذي الوجهين وذي اللّسانين والذي يهدف إلى إيجاد التفرقة والاختلاف وزيادة حدّة الصراع الاجتماعي والتضاد الفئوي كيما يجد له فرصة من العيش وفسحة من الوقت.

العامل الآخر من العوامل الموروثة للنميمة هو ما يسمّى في هذا العصر بالمرض الأخلاقي (السادية)، فبعض الأفراد وبسبب عقدة الحقارة أو حبّ الانتقام أو الانحرافات والأمراض النفسية الاخرى يجدون لذّة وراحة من أذى الآخرين والإضرار بهم، ويتألمون ويحزنون عندما يرون الناس يعيشون براحة ونعمة، فهؤلاء الأشخاص يتحرّكون لهدم وحدة المجتمع وتدمير سعادة الناس من خلال السعاية بالآخرين والنميمة ثم يجلسون جانباً ويشاهدون بلّذة الصراع والنزاع الدائر بين الأطراف والفئات الاجتماعية.

ويستفاد من بعض الروايات أنّ أحد الأسباب في تفعيل حالة النميمة وإيجاد هذه الصفة في النفس هو عدم طهارة المولد وعدم نقاء النطفة (وطبعاً هذا العامل لا يعدّ عامل اجبار، بل الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 273

يهي ء الأرضية لذلك أي من العوامل المساعدة لظهور المرض) كما ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «السَّاعِي إِلَى النَّاسِ لِغَيرِ رُشدِهِ» «1».

أي يسير في مسير الباطل، ذكر البعض أنّ (لغير رشده) يعني أنّه ليس بولد حلال.

ومن الأسباب الاخرى الاعتياد على الكذب، فالإنسان الذي يعتاد على الكذب ويتعامل في حياته مع الآخرين من موقع

الإصرار على الكذب يجد في نفسه دافعاً، لأنّ ينقل لهذا الشخص خبراً كاذباً عن ذلك الشخص ويوقع بينهما بحيث يؤدّي إلى ارباك العلاقة بينهما وافسادها.

وفي الحديث المطوّل عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله حول علائم الصفات الإيجابية والسلبية نقرأ: «أَمّا عَلامَةُ الكَذَّابِ فَأَربَعَةٌ ... إِنْ قالَ لَم يَصدُق وإِنْ قِيلَ لَهُ لَم يُصَدِّق وَالنَّمِيمَةُ وَالبُهتُ» «2».

يعني عندما تتجذّر صفة الكذب في أعماق الإنسان يظهر على سلوكه هذه الأفعال الأربعة.

طرق العلاج:

ولابدّ لغرض علاج هذه الظاهرة المشؤمة في سلوك الفرد الأخلاقي وقطع جذورها من واقع الإنسان ونفسه من الذهاب والتوجّه إلى العلل والدوافع، ومن المعلوم أنّه مادام عنصر الحسد، وحبّ الدنيا، والنفاق، وحبّ العدوان، والانتقام، التي تمثّل الدوافع الأصلية لهذه الظاهرة الذميمة، باقية في وجود الإنسان فإنّ هذه الرذيلة الأخلاقية باقية كذلك ولا يمكن إزالتها بسهولة من باطن الإنسان، ومن الممكن للإنسان أن يحدّد أو يزيل هذه الخصلة بعزم شديد وتصميم قوي لمدّة محدودة ولكنها تظهر في مواطن معينة لاحقاً.

ولا ننسى أنّ الكثير من الفضائل أو الرذائل الأخلاقية بينها تأثير متقابل وكل واحد منها

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 274

يعدّ سبباً وعلّة للآخر وأحياناً مسبباً ومعلولًا، وذلك في حالات ومواطن مختلفة.

ومن جهة اخرى فإنّ التأمل في الآثار السلبية الكثيرة المترتبة على النميمة والسعاية والتي تورث المجتمع الدمار والخراب وتفضي إلى عواقب وخيمة على مستوى العوائل والاسر كما تقدّم تفصيل ذلك في الأبحاث السابقة، وكذلك ما يترتّب على النميمة من العذاب الإلهي في الدنيا والآخرة فإنّ ذلك يشكل عاملًا مهمّاً من عوامل التصدي لاستفحال هذه الظاهرة والحالة الذميمة وبالتالي إزالتها من موقع النفس.

إنّ الشخص النّمام وخاصة إذا كان قد إعتاد على النميمة يجب عليه أن يأخذ بنظر

الاعتبار الآثار الوخيمة الاجتماعية والعقوبات الإلهية المترتبة على هذا العمل ويعيد إلى ذهنه هذا المعنى كل يوم ويلقّن نفسه أنّ عاقبة النميمة والسعاية هي هذه وهذه، وإلّا فإنّ الوساوس الشيطانية والأهواء النفسية لا تدعه لحاله.

معاشرة الأفراد المؤمنين يمكنها أن تكون عاملًا آخر من عوامل التصدّي للنميمة، لأنّ الشخص المبتلى بهذا المرض عندما يتحدّث في مجالس المؤمنين ويرى أنّهم لا يعتنون بكلامه ولا يهتمّون لأقواله وقد يطرودنه من مجالسهم بسبب ذلك، فإنّه سينته بسرعة إلى عدم وجود المشتري لكلامه، بل إنّ كلامه تسبب في نفرة الناس من حوله وسوء ظنّهم به، ونفس هذا الأمر يقوي فيه الإرادة على ترك هذا العمل القبيح وقد ورد في الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «أَكذِبِ السِّعايَةَ وَالنَّمِيمَةَ باطِلةً كانَتْ أَو صَحِيحَةً» «1».

ونقرأ في حديث آخر أنّ رجلًا جاء بكتاب له إلى أميرالمؤمنين عليه السلام كتب فيه النميمة عن شخص آخر فقال له الإمام عليه السلام: «إِنْ كُنتَ صادِقاً مَقَتناكَ وإِنْ كُنتَ كاذِباً عاقَبناكَ وإِن أَحببتَ القَيلَ أَقَلناكَ، قالَ: بَل تُقِيلُني يا أَمِيرَ المُؤمِنِينَ» «2».

ومن الجدير بالذكر أنّ الأشخاص الذين يتحرّكون نحوك بالنميمة والتحدّث بالسوء عن شخص آخر فإنّهم سوف يتحدّثون عنك بسوء لدى ذلك الشخص أيضاً كما ورد في روضة

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 275

بحار الانوار عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «وَمَنْ نَمَّ إِلَيكَ سَيَنُّمُ عَلَيكَ» «1».

وآخر كلام في هذا الباب هو أنّ أغلب المفاسد الأخلاقية الكامنة في الصفات الرذيلة ناشئة من ضعف الإيمان، فكلما سعى الشخص لتقوية دعائم إيمانه باللَّه تعالى واليوم الآخر، فإنّ هذه الرذائل سوف تتلاشى وتزول من باطنه تدريجياً.

موارد الاستثناء:.

إنّ حرمة النميمة بعنوان أنّها من الذنوب الكبيرة والقبيحة في نظر علماء الأخلاق

يعدّ أصلًا أساسياً يجب الإهتمام به دائماً، ولكن في بعض الأحيان يمكن أن يكون لهذا الحكم استثناءات كما هو الحال في سائر الأحكام الشرعية حيث يكون نقل الكلام من هذا إلى ذاك ليس جائزاً فحسب، بل يكون واجباً، ومن تلك الموارد ما إذا شعر الإنسان أنّ الشخص الفلاني أو الفئة الفلانية تريد قتل زيد من الناس وكانت المسألة جدّية، فهنا يكون نقل كلامهم إلى زيد ليتّخذ جانب الحذر والاحتياط ويبتعد عن الخطر من الواجبات لإنقاذ نفس بريئة، كما حدث ذلك لموسى عليه السلام بعدما قتل القبطي المعتدي فجاء أحد الأشخاص وقال له:

«إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنْ النَّاصِحِينَ» «2».

وأحياناً تؤدّي النميمة نتائج إيجابية للمؤمنين تعمل على إيجاد الفرقة والاختلاف في صفوف الأعداء، فهذا المورد من موارد الجواز أو الوجوب كما ورد في قصّة (نعيم بن مسعود) في حرب الأحزاب حيث أوقع الفرقة والاختلاف بين طائفتين من أعداء المسلمين وهم المشركون واليهود بما نقل من كلمات هؤلاء لهؤلاء وبالعكس فكانت النتيجة إساءة الظنّ بينهم وتخاذلهم عن قتال المسلمين.

ولكنّ مثل هذه الاستثناءات نادرة جدّاً فلا ينبغي أن تكون ذريعة للتلّوث بهذه الخطيئة وقبول كلام من يسعى بالنميمة بين الناس، ففي الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 276

قال: «لا تَعجَلَنَّ إِلى تَصدِيقِ وَاشٍ وإِنْ تَشبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ» «1».

النقطة المقابلة للنميمة والسعاية هي إصلاح ذات البين بأن يسعى الإنسان بكلامه الجميل إلى إقرار الصلح والصفاء بين شخصين متخاصمين ومتعاديين، وهذه الصفة تعدّ أحد الفضائل المهمّة الأخلاقية والتي وردت الإشارة إليها في آيات القرآن الكريم والروايات الإسلامية.

وقد تمّ استعراض الآيات القرآنية التي تتحدّث عن هذا المعنى في ذيل الآيات المتعلقة بذم

النميمة والسعاية على المستوى السلبي، وهنا نشير إلى طائفة من الروايات الشريفة في هذا المجال:

1- ما ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «مَنْ مَشى فِي صُلحٍ بَينَ اثنَينِ صَلَّى عَلَيهِ مَلائِكَةُ اللَّهِ حَتّى يَرجَعَ وَاعطِي ثَوابَ لَيلَةِ القَدرِ» «2».

2- وفي الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين عليه السلام في آخر وصاياه لولديه الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السلام أنّه قال ضمن وصيّته لهما بعدم ترك إصلاح ذات البين: «فَإِنِّي سَمِعتُ جَدَّكُما صلى الله عليه و آله يَقُولُ صَلاحُ ذاتِ البَينِ أَفضَلُ مِنْ عامَةِ الصَّلاةِ والصِّيامِ» «3».

3- وجاء في حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «أَلا أَخبرُكُم بِأفضَلِ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيامِ والصَّلاةِ وَالصَّدَقَةِ إِصلاحُ ذاتِ البَينِ، فَإنَّ فَسادِ ذاتِ البينِ هِي الحالِقَةُ» «4».

4- وقال الإمام الصادق عليه السلام: «صَدَقَةٌ يُحِبُّها اللَّهُ إصلاحُ بَينَ الناسِ إِذا تَفاسَدُوا وَتَقارِبُ بَينَهُم إِذا تَباعَدُوا» «5».

5- وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً أنّه قال للمفضّل بن عمر: «إِذا رَأَيتَ بَينَ اثنَينِ مِن شِيعَتِنا مُنازَعَةً فأَفتَدِهِ مِنْ مالِي» «6».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 277

وعلى هذا الأساس فإنّ أحد أصحاب الإمام الصادق عليه السلام ويدعى أبُو حَنِيفَة سابُقُ الحَجِّ قالَ: «مَرَّ بِنا المُفضَّل وَأَنا وَخِتنِي نَتَشاجَرُ فِي مِيراثِ، فَوَقَفَ عَلَينا ساعَةً ثُمَّ قالَ لَنا:

تَعالُوا إِلَى المَنزَلِ فَأَتَيناهُ فَأَصلَحَ بَيننا بِأَربَعَمائةَ دِرهِمٍ فَدَفَعها إِلَينا مِنْ عِندِهِ حَتى إِذا استَوثَقَ كُلُّ وَاحدٍ مِنّا مِنْ صاحِبِهِ، قالَ: أَمّا إِنَّها لَيستْ مِنْ مالي ولَكن أَبُوعَبدِاللَّهِ عليه السلام أَمَرَنِي ا ذا تَنازَعَ رَجُلانِ مِنْ أَصحابِنا أَن أَصلِحَ بَينَهُما وَأَفتَدِيهما مِنْ مالِهِ، فَهذا مِنْ مالِ أَبِي عَبدِاللَّهِ عليه السلام»».

6- وورد في تفسير الآية الشريفة:

«وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِايْمَانِكُمْ» أنّ الإمام الصادق عليه السلام قال: «إذا دُعِيتَ لِصُلحِ بَينَ اثنَينِ فَلا تَقُل عَلَىَّ يَمِينِي أَنْ لاأَفعَلَ» «2».

وهذا الحديث يشير إلى أنّه لو واجه الإنسان حين إقدامه لإصلاح ذات البين بعض المشاكل ثمّ حلف أن يترك هذا السلوك الإصلاحي فإنّ الإمام يقول بأنّ مثل هذا القسم والحلف لا إعتبار له وإنّ المشاكل المحيطة بمثل هذا العمل لا يمكنها أن تمنع الإنسان من سلوك هذا الطريق والعمل على إصلاح ذات البين.

7- وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «مَنْ استَصلَحَ الأضدَادَ بَلَغَ المُرادَ» «3».

والمراد من الأضداد في الحديث الشريف ليست الأضداد الفلسفية التي لا تقبل الجمع، بل الأضداد العرفية، وطبعاً هناك تفسير آخر لهذا الحديث أيضاً وهو أن يكون المراد أنّ الإنسان إذا استطاع التنسيق بين الأشخاص والفئات التي تعيش أفكار مختلفة ومتنوعة، فإنّه يبلغ مراده ويكون ذلك نعم العون له على إدارة امور المجتمع لكل هذه الأفكار المُتضادة.

8- إنّ أهميّة إصلاح ذات البين هي إلى درجة أنّ الكذب قد يكون مباحاً في هذا السبيل كما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «الكَلامُ ثَلاثَةٌ صِدقُ وَكِذبٌ الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 278

وَإصلاحٌ بَينَ النِّاسِ قِيلَ جُعِلتُ فِداكَ ما الإِصلاحُ بَينَ النّاسِ؟ قالَ: تَسمَعُ مِنَ الرَّجُلِ كَلاماً يَبلُغُهُ فَتَخبُتُ نَفسُهُ فَتَلقاهُ فَتَقُولُ سِمِعتُ مِنْ فُلانٍ قَالَ فِيكَ مِنَ الخَيرِ كَذا وَكَذا خِلافَ ما سَمِعتَ مِنهُ» «1».

ويقول المرحوم العلّامة المجلسي في شرح هذا الحديث: «وهذا القول وإن كان كذباً لغة وعرفاً جائز لقصد الإصلاح بين الناس، وكأنّه لا خلاف فيه عند أهل الإسلام، والظاهر أنّه لا تورية ولا تعريض فيه وإن أمكن أن يقصد تورية بعيدة كأن

ينوي أنّه كان حقّه أن يقول كذا، ولو صافيته لقال فيك كذا، ولكنه بعيد» «2».

ولا شك أنّ الكلام يحتمل وجهين، فامّا مطابق للواقع ومخالف له، فالأول يدعى صدقاً والثاني كذباً، ولكن بما أنّ الكلام المخالف للواقع بدوره على قسمين: فإمّا أن يكون موجباً للفساد أو موجباً للصلاح، فإنّ الإمام قد فصّل بين هذين القسمين وقرّر بأنّ القسم الموجب للصلاح هو قسم ثالث من أقسام الكلام.

ومن مجموع ما تقدّم من الأحاديث الشريفة يتّضح جيداً أنّ من بين أعمال الخير يندر وجود عمل مهم وفضيلة أخلاقية تكون في مرتبة إصلاح ذات البين، فهي إلى درجة أنّ الملائكة تصلّي على هذا الشخص المصلح ويكون عمله أسمى وأفضل من الصلاة والصوم بل يكون في مرتبة الجهاد في سبيل اللَّه.

ومن البديهي أَنّ إصلاح ذات البين لا يتسبب في الخير والصلاح على المستوى الفردي فحسب، بل يتسبب في إنسجام طوائف المجتمع وتقوية دعائمه وتوطيد أركان المحبّة والمودّة بين أفراده، وهذا الاتّحاد والانسجام يتسبب في انتصار وعزّة المجتمع الإسلامي في حركة التقدّم الحضاري والإنساني.

طرق إصلاح ذات البين:

إنّ عملية الإصلاح بين الناس على شكل أفراد أو جماعات وطوائف هو عمل معّقد

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 279

ودقيق ولا سيما إذا كانت العداوة والكراهية قد توغّلت في الأعماق، ولهذا فقد يستغرق تحقيق هذا المعنى وقتاً طويلًا، ولابدّ من مراعاة بعض الدقائق والنكات الظريفة في هذا السبيل، وكذلك يحتاج إلى التعرّف على بعض مبادي ء علم النفس وتوصيات علماء النفس في هذا المجال، ومن المعلوم أنّ الوصول إلى هذا الهدف المؤثر لابدّ له من رعاية بعض الاصول والنقاط المهمّة، ومنها:

1- العثور على جذور الاختلاف والنفاق، لأنّ الإنسان ما لم يعرف الأسباب ويبحث في جذور المشكلة، فإنّ علاجها يكون عسيراً

للغاية، فلو أنّ الإنسان تحرّك على مستوى البحث على جذور الخلاف والنزاع وسعى إلى إزالة هذه الأسباب والجذور من واقع النفس لدى المتخاصمين فإنّه يحصل على النتيجة أسرع.

2- إنّ التسّرع في عملية إصلاح ذات البين في كثير من الموارد تعطي نتائج معكوسة، وخاصة إذا كانت الاختلافات عميقة ومتجذرة، ففي هذه الموارد يجب دراسة أوجه الاختلاف بدقّة وأحياناً يتطلب ذلك كتابتها في دفتر وبالأرقام ثمّ تحليلها ودراستها وحلّها واحدة بعد الاخرى، ويعطي لكلّ طرف من المتخاصمين إمتيازات معقولة وبهذا يوجد التعادل والانسجام بينهما ويترتب على ذلك النجاح في عملية الإصلاح.

3- يجب الاستفادة من المسائل العاطفية والدينية أفضل استفادة من خلال تلاوة بعض الآيات القرآنية والروايات الشريفة التي من شأنها تحريك عناصر الخير وعواطف المحبّة في نفوس المتخاصمين، والسعي لدعم شخصية كل طرف لكي يتحرّك باتّجاه الطرف الآخر على مستوى العفو والصفح من موقع الاحساس لشخصيته وكرامته لا من موقع الاجبار والإذعان للأمر الواقع.

4- وأحياناً يجب على المصلح أن يضحي بشي ء من الأشياء وعلى سبيل المثال يدفع للطرفين المتخاصمين مبلغاً من المال أو يهدي لهما هدية كما قرأنا في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام الذي خاطب فيه المفضّل، ومن المعلوم أنّ المال الذي ينفق في هذا السبيل يعدّ من أفضل أنواع الانفاق في سبيل اللَّه.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 280

5- إنّ المصلح يجب أن يتوقّى التحيز إلى أحد الطرفين ويتجنّب ذلك مهما أمكن وبعبارة اخرى أن يكون محايداً وفي نفس الوقت محبّاً ونصوحاً إلى كل واحد من الطرفين، لأنّ أي تحيز إلى أحدهما سوف يمنعه من الوصول إلى النتيجة المطلوبة، وطبعاً يستثنى من ذلك الأشخاص الذين لم يتعلّموا المنطق الإنساني ولا يتعاملون إلّامن موقع الجهل والتعصّب

والعناد أمام الحق وعملية الإصلاح فإنّه ينبغي سلوك طريق آخر معهم كما تقدّم في تفسير الآيات أعلاه.

6- وفي كثير من المواقع يحتاج الإصلاح إلى سلوك طريق طويل محفوف بالمكاره ويحتاج إلى الصبر والتأنّي والتعامل مع القضية ببرود الأعصاب، فالشخص المصلح لا ينبغي أن ييأس بسرعة ويوصد الأبواب أمامه، بل يجب أن يعلم أنّ أشدّ التعقيدات الاجتماعية وأعمق المشكلات يمكن حلّها بالصبر والتأنّي والتفكير والتدبير، وعليه فإذا لم يفلح في مرحلة من المراحل فلا ينبغي أن يعلن فشله ويتراجع عن مسيرته الإصلاحية.

وبتعبير آخر: إنّ الافساد بين الناس عمل تخريبي يسير ولكن الإصلاح له بعد بناء ومعقّد، فالبناء العظيم يمكن تدميره بعدّة قنابل فيغدوا تراباً في لحظات، ولكنّ تشييد مثل هذا البناء يحتاج إلى سنوات مديدة، وهكذا الحال في بناء الثقة والمحبّة والاعتماد المتقابل بين أفراد المجتمع البشري، فتخريب مثل هذا البناء الاجتماعي سهل يسير، ولكنّ بناءه وتشييده هو عملية معّقدة تحتاج إلى مدّة طويلة وصبر كبير، وعليه فإنّ عملية الإصلاح لا تنسجم مع التسّرع والعجلة.

ونختم هذا الكلام بحكاية ذات مغزى أوردها المجلسي في كتاب بحار الانوار، نقلًا عن بعض العلماء وهو أنّه: باع بعضهم عبداً وقال للمشتري ما فيه عيب إلّاالنميمة، قال رضيت به، فاشتراه فمكث الغلام أيّاماً ثم قال لزوجة مولاه: إنّ زوجك لا يحبّك وهو يريد أن يتسرى عليك فخذي الموسى واحلقي من قفاه شعرات حتى أسحر عليها فيحبّك، ثم قال للزوج: إنّ امرأتك اتخذت خليلًا وتريد أن تقتلك فتناوم لها حتى تعرف، فتناوم فجاءته الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 281

المرأة بالموسى فظنّ أنّها تقتله فقام الزوج وقتلها، فجاء أهل المرأة وقتلوا الزوج، فوقع القتال بين القبيلتين وطال الأمر» «1».

أجل فإنّه بهذه السهولة ممكن

ايقاع الحرب والنزاع الدموي بين قبيلتين ولكنّ الإصلاح بينهما ليس بهذه السهولة قطعاً.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 282

سوء الظنّ وحسن الظن

تنويه:

إنّ سوء الظن عندما يتحوّل إلى حالة باطنية وخصلة أخلاقية فإنّه يعدّ من أشنع الرذائل الأخلاقية التي تؤدّي إلى الفرقة بين العوائل وتمزّق المجاميع البشرية والإنسانية.

وأوّل ثمرة سلبية لسوء الظن هي عدم الاعتماد وزوال الثقة بين الناس، وعندما تزول الثقة فإنّ عملية التعاون والتكاتف في حركة التفاعل الاجتماعي ستكون عسيرة للغاية، ومع زوال التعاون والتكاتف في المجتمع البشري فسوف يتبدّل هذا المجتمع إلى جحيم ومحرقة يعيش فيه الأفراد حالة الغربة والوحدة من الأفراد الآخرين ويتحرّكون في تعاملهم من موقع الريبة والتشكيك والتآمر ضدّ الآخر.

ولهذا السبب فإنّ الإسلام ولأجل توكيد ظاهرة الاعتماد المتقابل بين الأفراد والامم إهتمّ بهذه المسألة اهتماماً بالغاً، فنهى بشدة عن سوء الظن ومنع الأسباب التي تورث سوء الظن لدى الأفراد، وعلى العكس من ذلك فإنّه مدح وأيّد بشدّة حسن الظن الذي يفضي إلى زيادة المحبّة والاعتماد المتقابل والثقة بالطرف الآخر، وبالتالي تحرّك المجتمع نحو التقدّم والتعالي والتكامل في مسيرته الحضارية، واعتبر أنّ حسن الظن من الصفات والأعمال الإيجابية جدّاً ودعى الناس إلى ذلك.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 284

ولا شك أنّ حسن الظن قد يؤدّي إلى بعض الخسارة أحياناً، ولكن هذه الخسارة لا تقبل القياس مع الاضرار الوخيمة والآثار السلبية الكثيرة المترتبة على سوء الظن.

وطبعاً، فإنّ لسوء الظن فروعاً وأقساماً، وأحد أسوأ هذه الفروع هو سوء الظن باللَّه والذي يأتي بحثه لاحقاً.

وبهذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته الشريفة دروساً في دائرة سوء الظن وحسن الظن:

1- «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ

بَعْضاً» «1».

2- «بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً» «2».

3- «وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً» «3».

4- «إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ» «4».

5- «وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ» «5».

6- «لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ» «6».

تفسير واستنتاج:

«الآية الإولى»: تستعرض الحديث عن سوء الظن وتنهى المؤمنين بصراحة وبشدة عن الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 285

سوء الظن في تعاملهم الإجتماعى فيما بينهم وتشير إلى أنّه قد يكون بمثابة المقدمة إلى التجسس والغيبة وتقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً».

ولكن لماذا ورد التعبير (كثيراً من الظن)؟ لأن أكثر أشكال الظن بين الناس بالنسبة إلى الطرف الآخر تقع في دائرة السوء والشر، لذلك ورد التعبير بقوله (كثيراً).

ويحتمل أيضاً أن يكون المراد من كلمة (كثير) أنّ أغلب الظنون هي من جنس الظنون السيئة بل إنّ الظنون السيئة كثيرة بالنسبة لها رغم أنّها بالمقايسة إلى ظنون الخير لا تكون كثيرة، ولكن ظاهر الآية ينسجم مع المعنى الأوّل أكثر.

والملفت للنظر هو أنّ هذه الآية بعد النهى عن كثير من الظن ذكرت العلّة في ذلك وقالت بأنّ بعض الظنون هي في الحقيقة إثم وذنب، وهو إشارة إلى أنّ الظنون السيئة على قسمين:

فمنها ما يطابق الواقع ومنها ما يخالف الواقع، فما كان على خلاف الواقع يكون إثماً وذنباً، وبما أنّ الإنسان لا

يعلم أيّهما المطابق للواقع وأيّهما المخالف، وعليه فيجب تجنّب الظن السي ء اطلاقاً حتى لا يتورط الإنسان في سوء الظن المخالف للواقع وبالتالي يقع في الإثم وممارسة الخطيئة.

وبما أنّ سوء الظن بالنسبة إلى الإعمال الخاصّة للناس يعد أحد أسباب التجسس، وأحد الدوافع التي تقود الإنسان إلى أن يتجسس على أخيه، والتجسس بدوره يتسبب أحياناً في الكشف عن العيوب المستورة للآخرين وبالتالي سيكون سبباً ودافعاً للغيبة أيضاً، ولذلك فانّ الآية الشريفة تتحدّث عن سوء الظن أوّلًا، وفي المرحلة الثانية ذكرت عنصر التجسس، وفي الثالثة نهت عن الغيبة.

وهناك بحث سنأتي عليه في ختام البحث عن الآيات والروايات الشريفة وهو أنّه هل أنّ سوء الظن أمر اختياري أو غير اختياري؟ وإذا كان غير اختياري فكيف يمكن النهي عنه؟ وإذا كان اختيارياً فهل يحرم مطلقاً حتى إذا لم يرتكب الإنسان عملًا بدافع من سوء الظن هذا، أم لا؟

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 286

وتأتي «الآية الثانية»: لتتحدّث عن المنافقين من موقع الذم والتوبيخ، وهم الذين إمتنعوا من السير في ركب النبي صلى الله عليه و آله والخروج معه في واقعة الحديبية وتوهّموا أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والمؤمنين الذين إنطلقوا إلى مكة سوف لا يعودون إلى أهليهم أبداً بل سيقتلون عن آخرهم بأيدي المشركين من قريش في حين أنّ القضية إنعكست تماماً وعاد المسلمون بذلك النصر الباهر في صلح الحديبّية وهو سالمون لم يصب أحد منهم بأذى فتقول الآية: «بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً».

ومفردة (بور) في الأصل بمعنى شدّة الكساد، وبما أنّ شدّة الكساد باعثة على فساد الشي ء كما في المثل المعروف لدى

العرب (كسد حتى فسد) فانّ هذه الكلمة تأتي بمعنى الفساد، ثم أطلقت على معنى يتضمّن الهلكة والإندثار، وأطلقت على الأرض الخالية من الشجر والنبات فيقال (بائر) لأنّها في الحقيقة فاسدة وميتة.

وهكذا نجد أنّ فئة المنافقين الذين عاشوا هذا الظن السي ء في واقعة صلح الحديبية لم يكونوا قلّة، ومن المعلوم أنّه لم يصيبهم الهلاك بمعنى الموت، وعليه فإنّ (بور) بمعنى الهلاك المعنوي والمحرومية من الثواب الإلهي وخلوّ أرض قلوبهم من أشجار الفضائل الأخلاقية والشجرة الطيّبة للإيمان، أو يكون المراد الهلاك الاخروي بسبب العذاب الإلهي، والهلاك الدنيوي بسبب الفضيحة، وعلى أيّة حال فالآية الشريفة تدل بوضوح على النهي عن سوء الظن وخاصة بالنسبة إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله.

وفي «الآية الثالثة»: من الآيات محل البحث نجد بحثاً آخر عن سوء الظن بالنسبة إلى ساحة الربوبية والحقيقة المقدّسة الإلهية في حين أنّ الآيات السابقة كانت تتحدّث عن سوء الظن بالنسبة لأفراد البشر، فتقول الآية بعد أن قرّرت أنّ الهدف الآخر من الفتح المبين وهو فتح الحديبية أنّ اللَّه تعالى يريد أن يعذّب المنافقين والمشركين فتقول: «وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 287

عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً».

إنّ سوء الظن باللَّه تعالى من جانب هؤلاء هو لانهم كانوا يتصوّرون أنّ الوعود الإلهية للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله سوف لا تتحقّق أبداً وأنّ المسلمين مضافاً إلى عدم انتصارهم على العدو فإنّهم سوف لا يعودون إلى المدينة اطلاقاً، كما كان في ظن المشركين أيضاً حيث توهّموا أنّهم سوف يهزمون رسول اللَّه وأصحابه لقلّة عددهم وعدم توفّر الأسلحة الكافية في أيديهم وأنّ نجم الإسلام

منذر بالزوال والافول، في حين أنّ اللَّه تعالى وعد المسلمين النصر الأكيد وتحقّق لهم ذلك، بحيث أنّ المشركين لم يتجرّأوا أبداً على الهجوم على المسلمين (رغم أنّ المسلمين في الحديبية وعلى مقربة من مكّة كانوا تحت يدهم ولم يكونوا يحملون أي سلاح لأنّهم كانوا قاصدين لزيارة بيت اللَّه الحرام) وهكذا ألقى اللَّه تعالى الرعب والخوف في قلوب المشركين إلى درجة أنّهم خضعوا ووجدوا أنفسهم ملزمين بكتابة الصلح المعروف بصلح الحديبية، ذلك الصلح الذي مهّد الطريق للإنتصارات الباهرة التي نالها المسلمون فيما بعد.

وعلى أيّة حال فإنّ القرآن الكريم يذم سوء الظن هذا ذمّاً شديداً ويعد عليه العذاب الأليم والعقاب الشديد في الدنيا والآخرة.

والملفت للنظر في هذه الآية أنّ مسألة سوء الظن باللَّه تعالى كانت بمثابة القدر المشترك بين المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات، وبيّنت هذه الآية أنّ جميع هذه الفئات والطوائف شركاء في هذا الأمر، بخلاف المؤمنين الذين يحسنون الظن باللَّه تعالى وبوعده وبرسوله الكريم ويعلمون أنّ هذه الوعود سوف تتحقّق قطعاً، ولعلّ تحقّقها قد يتأخر فترة من الوقت لمصالح معيّنة ولكنها أمر حتمي في حركة عالم الوجود، لأنّ اللَّه تعالى العالم بكل شي ء والقادر على كل شي ء لا يمكن مع هذا العلم المطلق والقدرة اللّامتناهية أن يتخلّف في وعده، ولهذا السبب فإنّ الآية التالية لهذه الآية من سورة الفتح تقول: «وللَّهِ جُنُودُ السماواتِ والأَرضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً».

أمّا السبب الذي دفع المنافقين والمشركين أن يقعوا في حبالة سوء الظن في حين أنّ الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 288

قلوب المؤمنين مملوءة بحسن الظن باللَّه تعالى فإنّما هو لأجل أنّ المشركين والمنافقين لا يرون من الامور إلّاظاهرها ولا يتحرّكون إلّامن موقع الأخذ بظاهر الحوادث والوقائع دون الحقائق الكامنة

في باطنها، في حين أنّ المؤمنين الحقيقيين يتوجّهون إلى باطن الامور ويأخذون بالمحتوى والمضمون للواقعة.

وتستعرض «الآية الرابعة» أيضاً سوء الظن بالنسبة إلى الوعد الإلهي الذي تزامن مع حرب الأحزاب، وهي الحرب التي اعتبرت أخطر الحروب التي واجهها النبي صلى الله عليه و آله والمسلمون، لأنّ المشركين كانوا قد اتحدوا مع جميع المخالفين للإسلام وشكّلوا أعظم جيش في ذلك الزمان بهدف القضاء على الإسلام والمسلمين، وكان هذا الجيش من القوة والعظمة أنّ ضعيفي الإيمان تزلزلوا لذلك وشككوا بالوعود الإلهية في نصرة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله والمسلمين، فتقول الآية حاكية عن هذه الحالة الشديدة التي كان يعيشها المسلمون في ذلك الوقت العصيب: «إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ* هُنَالِكَ ابْتُلِىَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيداً».

ولا شك أنّ سوء الظن باللَّه تعالى يختلف كثيراً عن سوء الظن بالناس، لأنّ سوء الظن بالناس غالباً ما ينتهي بارتكاب الإثم أو سلوك طريق خاطي ء في التعامل مع الطرف الآخر، في حين أنّ سوء الظن باللَّه تعالى يتسبب في تزلزل دعائم الإيمان وأركان التوحيد في قلب المؤمن، أو أنّه يكون دافعاً وعاملًا من العوامل لذلك، لأنّ الاعتقاد بأنّ اللَّه تعالى قد يخلف وعده يقع في دائرة الكفر، لأنّ خلف الوعد إمّا ناشي ء من الجهل أو العجز أو الكذب، ومعلوم أنّ كل واحد من هذه الامور محال على اللَّه تعالى وأنّ الذات المقدّسة منزّة عن هذه الامور السلبية، ولهذا السبب فإنّ الآيات محل البحث التي تستعرض سوء الظن باللَّه تذم هذه الحالة بشدّة وعنف.

«الآية الخامسة» تتحدّث أيضاً عن سوء الظن باللَّه تعالى، وهذه الآية ناظرة إلى الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص:

289

غزوة أحد والتي ابتلى بعض المسلمين فيها بعد هزيمتهم في ميدان الحرب أمام المشركين بسوء الظن بالنسبة إلى الوعد الإلهي بالنصر، فنزلت الآية المذكورة موبّخة لهم بشدّة على سوء الظن هذا، في حين أنّ الآيات التي وردت قبلها هي في الحقيقة إشارة إلى أنّ وعد اللَّه بالنصر على الأعداء قد تحقق في بداية الأمر في معركة أحد، ولكنّ طلّاب الدنيا والطامعين في زخارفها غفلوا عن هجوم العدو وانشغلوا بجمع الغنائم الحربية، وبالتالي تسببوا في الهزيمة المرّة لجيش الإسلام، فهنا نجد أنّ اللَّه تعالى قد وفى بعهده ووعده ولكنهم كما تقول الآية لم يتحرّكوا في خط الإيمان والاستقامة، ثم تأتي الآية محل البحث لتقول للمسلمين:

«إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ* هُنَالِكَ ابْتُلِىَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيداً».

وفي ذيل هذه الآية إشارة أيضاً إلى أنّ هذا إمتحان إلهي لكم ليتّضح ميزان وفاءكم واستقامتكم ومقدار إيمانكم باللَّه تعالى وبالإسلام.

ويتّضح من سياق هذه الآية والآيات التي قبلها هذه الحقيقة، وهي أنّ مسألة سوء الظن باللَّه غالباً تصيب الأشخاص الضعيفي الإيمان في مواقع الشدّة والأزمة، سواءاً كانوا في معركة الأحزاب، أو في أحد أو في الحديبية، وفي الحقيقة أنّ مثل هذه المواقع تعدّ بمثابة المختبر للكشف عن جوهر إيمان الشخص وإخلاصه.

وتأتي «الآية السادسة» والأخيرة لتستعرض أيضاً سوء الظن بشكل عام من موقع الذم وتدعو كذلك إلى حسن الظن، وهذ الآية ناظرة إلى قصّة الإفك المعروفة في عصر النزول، ونعلم أنّ جماعة من المنافقين إتّهموا أحدى زوجات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بخروجها عن جادّة العفاف وشاعوا ذلك بين الناس إلى درجة أنّ هذه الشائعة وبلحظات قليلة استوعبت جميع من

في المدينة، وبالرغم من أنّ هدف المنافقين حسب الظاهر هو اتهام احدى زوجات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله ولكنّهم في الواقع كانوا يستهدفون النبي الأكرم صلى الله عليه و آله والإسلام والقرآن بالذات، وفي هذه الفترة الحرجة نزلت الآيات أعلاه لتفضح نفاق المنافقين وتزيل الحجاب الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 290

عن سلوكياتهم الدنيئة وتبطل مؤامراتهم الخبيثة، ونرى أنّ عبارات هذه الآيات من القوة والدقّة في المضامين والبلاغة بحيث أنّها تثير الاعجاب لدى كل إنسان، والآية مورد البحث هي أحد الآيات الخمسة عشر النازلة في واقعة الإفك حيث تقول الآية: «لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ».

والتعبير بالمؤمنين والمؤمنات يدل على أنّ من علامات الإيمان هو حسن الظن بالنسبة إلى المسلمين، وتدلّ على أنّ سوء الظن يتقاطع مع جوهر الإيمان.

وفي الواقع فانّ هذه الآية تقسّم الناس إلى ثلاث طوائف طائفة المنافقين الذين يشيعون الإفك بين المسلمين، وطائفة منهم هم القادة والكبار من المنافقين الذين تعبّر عنهم الآية:

«وَالَّذِي تَولَّى كِبرَهُ».

وطائفة ثالثة هم المؤمنون الذين توّرطوا في تصديق هذا الإفك المبين من موقع طيبة أنفسهم وطهارة قلوبهم وسذاجة عقولهم.

فهنا نجد أنّ القرآن الكريم يتحدّث في هذه الآية مخاطباً الطائفة الثالثة من موقع الذم الشديد والتوبيخ وأنّهم لماذا أصبحوا آلة وأداة بيد المنافقين الذين يشيعون الإفك والفاحشة بين الناس؟

وفي هذه الآيات الستة التي بحثت في بعضها سوء الظن بالنسبة إلى الناس وفي بعضها الآخر سوء الظن بالنسبة إلى اللَّه تعالى نرى أنّ هذه الرذيلة الأخلاقية قد وقعت موقع الذم الشديد، وبعض الآيات أشارت إلى بعض ما يترتب عليها من الآثار السلبية على حياة الإنسان، ولو لم يكن في بيان قبح هذه الرذيلة

الأخلاقية سوى ما ورد في بعض الآيات القرآنية الشريفة لكفى ذلك، فكيف بما ورد في الكثير من الآيات والروايات الدينية الاخرى والتي سنتحدث عنها لاحقاً؟

سوء الظن في الروايات الإسلامية:

أمّا بالنسبة إلى الروايات الإسلامية فالمتتبع يرى أنّ تقبيح هذه الرذيلة الأخلاقية وذمّها

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 291

على أساس أنّها من أشنع الخصال الأخلاقية السلبية ولهذه الرذيلة صدى واسع في النصوص الدينية الروائية، ونستعرض هنا بعض النماذج في هذا الباب:

1- ما ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إِيّاكُم وَالظّنُّ فَانَّ الظَّنَّ أَكذَبُ الكِذبِ» «1».

2- ونقرأ في حديث آخر أيضاً عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قوله: «أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مِنَ المُسلِمِ دَمَهُ وَمالَهُ وَعرِضَهُ وَأَنَّ يَظُنَّ بِهِ السُّوءَ» «2».

3- وفي حديث مثير عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «لا إِيمانَ مَعَ سُوءِ ظَنِّ» «3».

وهذا التعبير يمكن أن يكون إشارة إلى سوء الظن بكلا قسميه، سوء الظن بالنسبة إلى الناس، أو سوء الظن بالنسبة ا لى اللَّه تعالى.

4- ونقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام عليه السلام أيضاً قوله: «إِيِّاكَ أَنْ تُسِي ءَ الظّنَّ فَانَّ سُوءَ الظّنِّ يُفسِدُ العِبادَةَ وَيُعَظِّمُ الوِزرَ» «4».

5- ونقرأ في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «سُوءُ الظَّنِّ بِالمُحسِنِ شَرُّ الإِثمِ وَأَقبَحُ الظُّلمِ» «5».

6- وورد أيضاً عن هذا الإمام عليه السلام نفسه قوله: «سُوءُ الظَّنِّ يُفسِدُ الامُورَ وَيَبعَثُ عَلَى الشُّرُورِ» «6».

7- وورد أيضاً عنه عليه السلام أنّه قال: «شَرُّ النّاسِ مَنْ لا يَثِقُ بِأَحَدٍ لِسُوءِ ظَنَّهِ وَلا يَثِقُ بِهِ أَحَدٌ لِسُوءِ فِعلِهِ» «7».

8- ونقرأ في نهج البلاغة قول الإمام علي عليه السلام: «لا تَظُنَنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَحَدٍ سُوءً

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 292

وَأَنتَ

تَجِدُ لَها فِي الخَيرِ مُحتَمَلًا (مَحمَلًا» «1».

9- ونقرأ في حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً قوله: «وَاللَّهِ ما يُعَذِّبُ اللَّهُ سُبحانَهُ مُؤمِناً بَعدَ الإِيمانِ إِلّا بِسُوءِ ظَنِّهِ وَسُوءِ خُلُقِهِ» «2».

ونقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام الهمام عليه السلام نفسه: «مَنْ غَلَبَ عَلَيهِ سُوءُ الظَّنِّ لَم يَترُكْ بَينَهُ وَبَينَ خَلِيلٍ صُلحَاً» «3».

وكذلك وردت روايات كثيرة في باب سوء الظن باللَّه وعدم الإيمان والتصديق بوعده حيث تحكي عن آثار سلبية خطيرة في حياة الإنسان المادية والمعنوية، ومن ذلك:

1- ما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الباقر عليه السلام عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «واللَّهِ الَّذِي لاإِلَهَ إِلّا هُوَ لايُعَذِّبُ اللَّهُ مُؤمِناً بَعْدَ التَّوبَةِ وَالإِستِغفَارِ إلّابِسُوءِ ظَنِّهِ بِاللَّهِ وَتَقصِيرٍ مِنْ رَجائِهِ بِاللَّهِ وَسُوءُ خَلُقِهِ وَإِغتَيابِهِ لِلمُؤمِنينَ» «4».

2- ونقرأ في حديث آخر عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّ النبي داود عليه السلام قال: «يا رَبِّ ما آمَنَ بِكَ مَنْ عَرَفَكَ فَلَم يُحسِنِ الظَّنَّ بِكَ» «5».

3- وقال الإمام علي عليه السلام أيضاً: «الجُبنُ وَالحِرْصُ وَالبُخلُ غَرائِزُ سُوءُ يَجمَعُها سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ سُبحانَهُ» «6»

ومن المعلوم أنّ الشخص الذي يعيش الإيمان بالعناية الإلهية ونصرته لعباده المؤمنين فلا يجد الخوف سبيلًا إلى قلبه من الأعداء، والشخص الذي يثق بوعد اللَّه في مسألة الرزق، فلا يجد الحرص سبيلًا إلى نفسه ولا يعيش البخل في حياته، وعليه فإنّ هذه الصفات الثلاثة المذكورة في هذا الحديث الشريف هي في الواقع تنبع من سوء الظن باللَّه تعالى.

إن ما ورد في الروايات أعلاه يعدّ غيض من فيض الروايات الكثيرة في باب سوء الظن الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 293

الواردة في المصادر المعتبرة والتي تتضمن دقائق لطيفة عن علل ودوافع هذه الرذيلة

الأخلاقية وآثارها السلبية الكثيرة، وقد أوردنا في هذا المقتطف عشر روايات في سوء الظن بالنسبة إلى الناس وثلاث روايات في مورد سوء الظن باللَّه وتحتوي على مفاهيم دقيقة ونكات جميلة في تحليل هذا المفهوم الأخلاقي ودراسة أبعاده المتنوعة.

حسن الظن في الروايات الإسلامية:

كما رأينا أنّ سوء الظن يفضي إلى إيجاد الخلل والإرتباك في المجتمع البشري ويؤدّي إلى سقوط الإنسان الأخلاقي والثقافي ويورثه التعب والألم والشقاء والمرض الجسمي والروحي، ففي الجهة المقابلة نجد أنّ حسن الظن يتسبب في أن يعيش الإنسان الراحة والوحدة والإطمئنان النفسي، ولهذا السبب نجد أنّ الروايات الإسلامية الكثيرة تؤكّد على حسن الظن بالنسبة إلى الناس، وكذلك بالنسبة إلى اللَّه تعالى، أمّا في مورد حسن الظن بالنسبة إلى الناس، فنختار من الأحاديث الشريفة ما يلي:

1- ما ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «حُسنُ الظَّنِّ مِنْ أَفضَلِ السَّجايا وَأَجزَلِ العَطايا» «1».

2- ونقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام العظيم عليه السلام أنّه قال: «حُسنُ الظَّنِّ مِنْ أَحَسنِ الشِّيَمِ وَأَفَضلِ القِسَمِ» «2».

3- وأيضاً ورد عن هذا الإمام عليه السلام قوله: «حُسنُ الظَّنِّ يُخَفِّفُ ألَهَمَّ وَيُنجِي مِنْ تَقَلُّدِ الإِثمَ» «3».

4- وفي حديث آخر عن هذا الإمام العظيم عليه السلام أيضاً أنّه قال: «حُسنُ الظَّنِّ مِنْ رَاحَةُ الَلبِ وَسَلامَةُ الدِّينِ» «4».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 294

5- وأيضاً ورد في حديث آخر عن هذا الإمام أنّه قال: «مَنْ حَسُنَ ظنُّهُ بِالنّاسِ حازَ مِنهُمُ المَحَبَّةَ» «1».

أمّا بالنسبة إلى حسن الظنّ باللَّه تعالى، فنقرأ أحاديث كثيرة في هذا الباب مذكورة في المصادر المعتبرة منها:

1- ما ورد في الحديث الشريف عن بعض المعصومين عليهم السلام أنّه قال: «وَالَّذِي لاإِله إِلّا هُوَ ما أُعطِيَ مُؤمِنٌ قَطُّ خَيرَ الدُّنيا وَالآخِرَةِ إِلّا بِحُسنِ

ظَنِّهِ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَرَجائِهِ لَهُ وَحُسنِ خُلقِهِ وَالكَفِّ عَنْ إِغتِيابِ المُؤمِنِينَ» «2».

2- وكذلك ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام أنّه قال: «وَأَحسِنِ الظَّنَّ بِاللَّهِ فَإنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: أَنا عِندَ ظَنِّ عَبدِي المُؤمِنِ بِي إنْ خَيراً فَخَيراً وَإِنْ شَرَّاً فَشَرَّاً» «3».

3- ويشبه هذا المعنى أيضاً وبشكل جامع ما ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «وَالَّذِي لا إِله إِلّا هُوَ لايَحسُنُ ظَنَّ عَبدٍ مُؤمِنٍ بِاللَّهِ إِلّا كانَ اللَّهُ عِندَ ظَنِّ عَبدِهِ المُؤمِنِ لأَنَّ اللَّهَ كَرِيمٌ بِيَدِهِ الخَيراتُ يَستَحِيي أِنْ يَكُونَ عَبدُهُ المُؤمِنُ قَدْ أَحسَنَ بِهِ الظَّنَّ ثُمَّ يُخلِفُ ظَنَّهُ وَرَجاءَهُ فَأَحسِنُوا بِاللَّهِ الظَّنَّ وَارغَبُوا إِلِيهِ»».

4- ونقرأ في حديث آخر عن النبي الأكرم قوله: «رَأَيتُ رَجُلًا مِنْ امَتِي عَلَى الصِّراطِ يَرتَعِدُ كَما تَرتَعِدُ السَّعفَةُ فِي يَومِ رِيحٍ عاصِفٍ وَجاءَهُ حُسنُ ظَنِّهِ بِاللَّهِ فَسَكَّنَ رَعدَتَهُ» «5».

5- وفي الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير حسن الظن باللَّه تعالى قال:

«حُسنُ الظَّنِّ بِاللَّهِ أَنْ لا تَرجُو إِلّا اللَّهَ وَلا تَخافَ إِلّا ذَنبَكَ» «6».

تعريف سوء الظن وحسن الظن:

عندما ترد هاتان المفردتان ويراد بهما سوء الظن أو حسنه بالنسبة إلى الناس فَإنّ لهما مفهوماً واضحاً، فالمفهوم من سوء الظن هو أنّه كلّما صدر من شخص فعلٍ معيّن يحتمل الوجهين الصحيح والسقيم، فنحمله على المحمل السقيم ونفسّره بالتفسير السي ء، مثلًا عندما يرى الشخص رجلًا مع امرأة غريبة فيتصوّر أنّ هذه المرأة أجنبية وأنّ هذا الرجل ينوي في قلبه نيّة سوء تجاهها ويريد ارتكاب المنكر معها، في حين أنّ حسن الظن يقود الإنسان إلى القول بأنّ هذه المرأة هي زوجته أو أحد محارمه حتماً، أو عندما يقدم إنسان على بناء مسجد أو أي عمل من

أعمال الخير الاخرى، فإنّ مقتضى سوء الظن أن يوحي للإنسان بأنّ هدف هذا الشخص هو الرياء أو خداع الناس وأمثال ذلك، في حين أنّ حسن الظن يدفعه إلى القول بأنّ عمله هذا كان بدافع إلهي ونيّته خير وصلاح.

ومن هنا يتّضح أنّ دائرة حسن الظن وسوء الظن واسعة جدّاً ولا تنحصر في ممارسة العبادات فقط، بل تستوعب في مصاديقها ومواردها المسائل الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والسياسية أيضاً.

وعندما تستعمل هاتان المفردتان بالنسبة إلى اللَّه تعالى فالمراد من حسن الظن باللَّه هو أن يثق الإنسان بالوعد الإلهي في مورد الرزق أو العناية بالعبد أو نصرة المؤمنين والمجاهدين، أو الوعد بالمغفرة والتوبة على المذنبين وأمثال ذلك، ومعنى سوء الظن باللَّه تعالى هو أنّ الإنسان عندما يجد نفسه في زحمة المشكلات والمصاعب فإنّه يعيش الاهتزاز وعدم الثقة بالوعد الإلهي، وعندما يقع في بعض الابتلاءات العسيرة وفي المسائل المالية وغيرها فإنّه ينسى وعد اللَّه تعالى للصابرين والذين يتحرّكون في خط الاستقامة والانضباط والمسؤولية، ويتحرّك عندها في خط المعصية والإثم.

وقد رأينا في الروايات السابقة تعبيرات مثيرة وحيّة توضّح ما ذكرناه آنفاً عن المفهوم من هاتين المفردتين.

وهنا لابدّ من استعراض بعض النكات المهمّة وتحليل بعض النقاط في هذا الباب:

الآثار السلبيّة لسوء الظّن

إنّ إتّساع دائرة سوء الظن في المجتمعات البشرية يترتب عليها آثار سلبية وخيمة ومضرّات كثيرة قد لا تكون مستورة على أحد من الناس، ولكن لغرض توضيح هذا المطلب ينبغي الالتفات إلى ما يلي:

أ) إنّ من أسوأ الآثار السلبيّة لهذه الرذيلة الأخلاقية على المستوى الاجتماعي هو (زوال الثقة والاعتماد المتقابل) بين أفراد المجتمع والذي يعدّ محور المجتمعات البشرية والعنصر المهم في عملية شد مفاصل المجتمع وتقوية الوشائج والعلاقات التي تربط بين أفراده، وقد تقدّمت الإشارة إليها

إجمالًا في الروايات الشريفة المتقدّمة، ومن ذلك قوله عليه السلام:

«شَرُّ النّاسِ مَنْ لا يَثِقُ بِأَحَدٍ لِسُوءِ ظَنَّهِ وَلا يَثِقُ بِهِ أَحَذٌ لِسُوءِ فِعلِهِ» «1».

فنجد أنّ المجتمع البشري الذي يسوده عدم الثقة وعدم الاعتماد بين أفراده فمثل هذا المجتمع تتبخّر فيه أجواء التعاون والتكاتف وتزول منه البركات الكثيرة للحياة المشتركة في حياة الإنسان، ونقرأ في الحديث الشريف عن الإمام علي عليه السلام قوله: «مَنْ سا ئَتْ ظُنُونُهُ إِعتَقَدَ الخِيانَةَ بِمَنْ لايَخُونُهُ» «2».

ب) إنّ سوء الظن يؤدّي إلى تدمير وتخريب الهدوء النفسي والروحي، لذلك المجتمع كما يميت الهدوء النفسي لأصحاب هذه الرذيلة الأخلاقية، فمن يعيش سوء الظن فإنّه لا يجد الراحة والاطمئنان في علاقته مع الآخرين ويخاف من الجميع وأحياناً يتصوّر أنّ جميع الأفراد يتحرّكون للوقيعة به ويسعون ضدّه، فيعيش في حالة دفاعية دائماً وبذلك يستنزف طاقاته وقابلياته بهذه الصورة الموهومة.

ج) ومضافاً إلى ذلك فإنّ في الكثير من الموارد نجد الإنسان يتحرّك وراء سوء ظنه ويترجم سوء الظن هذا إلى عمل وممارسة وبالتالي يوقعه في مشاكل كثيرة، وأحياناً يؤدّي به إلى إرتكاب جريمة وسفك الدماء البريئة، وخاصة إذا كان سوء الظن يتعلق بالعرض الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 297

والناموس أو يتصوّر أنّ الآخرين يتآمرون عليه ويهدفون إلى الوقيعة به في ماله أو عرضه، بحيث يمكن القول أنّ العامل الأصلي للكثير من الحالات الجنائية هو سوء الظن الذي لا يقف على أساس متين والذي يدفع الإنسان إلى إرتكاب حالات العدوان والجريمة بحق الأبرياء.

ولهذا السبب ورد في الروايات السابقة عن أميرالمؤمنين عليه السلام قوله: «سُوءُ الظَّنِّ يُفْسِدُ الامُورَ وَيَبْعَثُ عَلَى الشُّروُرِ».

والأهم من ذلك أنّ في الكثير من موارد سوء الظن الّتي يترتّب عليها إرتكاب جريمة بحق الطرف الآخر فانّ

هذا الإنسان الذي قاده سوء ظّنة لإرتكاب هذه الجريمة سوف يثوب إلى رشده ووعيه بعد ذلك ويشعر في قرارة نفسه بتأنيب الضمير ويتسلّط عليه الاحساس بالإثم الذي قد يؤدي به إلى الجنون أحياناً.

وعلى سبيل المثال نشير إلى حادثة واحدة منها، فعند ما دخل الطبيب النفساني يوماً ليعود مرضاه في مستشفى المجانين والمتخلفين عقلياً رأى رجلًا قد جى ء به حديثاً إلى هذا المكان وهو يرّدد كلمة (منديل) مرّات عديدة، وعند ما بحث هذا الطبيب النفساني عن حاله واستقصى مرضه العقلي رأى أنّ السبب في جنون هذا الشخص هو أنّه رأى يوماً في حقيبة زوجته منديلًا يحتوى على قنينة عطر وبعض الهدايا المناسبة للرجال، فأساء الظن بزوجته فوراً وتصور أنّها على إرتباط برجل أجنبي، فكان أن قتلها بدافع من الغضب الشديد وبدون تحقيق وفحص، وبعد أن فتح المنديل رأى في طيّاته ورقة كتب عليها، هذه هدية منّي إلى زوجي العزيز بذكرى يوم ولادته.

وفجأة أصابته وخزة شديدة وشعر بضربة عنيفة في أعماق روحه أدّت إلى جنونه فكان يتذكّر هذا المنديل ويكرّره على لسانه.

د) إنّ سوء الظن هو في الحقيقة ظلم فاضح للغير، لأنّه يجعل الطرف الآخر في قفص الأتّهام في فكر هذا الشخص وذهنه فيكيل له أنواع السهام ويطعنه في شخصيّته وحيثيته، فلو أضفنا إلى ذلك بعض الممارسات العملية المستوحاة من سوء الظن لكان الظلم أكثر

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 298

وأوضح، ومن هذه الجهة قرأنا في الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين عليه السلام قوله: «سُوءُ الظَّنِّ مَنْ أقَبَحَ الظُلُم».

ه) إنّ سوء الظن يتسبّب في أن يفقد الإنسان أصدقاءه ورفاقه بسرعة، وبالتالي يعيش الوحدة والإنفراد والعزلة وهذه الحالة هي أصعب الحالات النفسية الّتي يواجهها الفرد في حركة الحياة الاجتماعية، لأن

كل إنسان متشخص ويحترم مكانته وشخصيته نجده غير مستعد لئن يعيش ويعاشر الشخص الذي يسي ء الظن بأعماله الخيرة وسلوكياته الصالحة ويتّهمه بأنواع التهم الباطلة، وقد قرأنا في الأحاديث السابقة عن أميرالمؤمنين عليه السلام أيضاً أنّه قال: «مَنْ غَلَبَ عَلَيهِ سُوءُ الظَّنِّ لَم يَترُكْ بَينَهُ وَبَينَ خَلِيلٍ صُلحَاً».

و) وقد رأينا في الروايات السابقة أنّ سوء الظن يفسد عبادة الإنسان ويحبط أعماله ويثقل من كاهله يوم القيامة، فإذا كان المراد بسوء الظن في هذه الرواية هو سوء الظن باللَّه تعالى قد يتّضح حينئذٍ السبب في فساد العبادة وحبط الأعمال، وإذا كان المراد هو سوء الظن بالناس (كما نستوحي ذلك من ذيل هذه الرواية) فإنّ ذلك بسبب أنّ الإنسان الذي يعيش سوء الظن بالناس يرتكب في الكثير من الموارد التجسّس على الناس، وبالتالي يترتب على ذلك أن ينطلق في ممارساته الاجتماعية من موقع الغيبة للطرف الآخر والتهمة أحياناً، ومن المعلوم أنّ الغيبة والتهمة هي أحد الأسباب في عدم قبول الطاعات والعبادات.

ز) إنّ سوء الظن باعتباره انحرافاً فكريّاً، فإنّه سيؤثر بالتدريج على أفكار الإنسان الاخرى وسيقود تصوراته وأفكاره في طريق الانحراف أيضاً، فتكون تحليلاته بعيدة عن الواقع ومجانبة للصواب، فيمنعه ذلك من التقدّم ونيل الموفقية في حركة الحياة، وقد ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «مَنْ ساءَ ظَنُّهُ ساءَ وَهمُهُ».

الآثار السلبية لسوء الظن باللَّه:

إنّ سوء الظن باللَّه تعالى وعدم الثقة بالوعود الإلهية الواردة في القرآن الكريم والأحاديث المعتبرة له آثار سلبية مخرّبة في دائرة الإيمان والعقائد الدينية حيث يمثّل سوء الظن هذا عنصراً هدّاماً لإيمان الشخص يبعده عن اللَّه تعالى كما قرأنا في الروايات السابقة عن نبي الإسلام صلى الله عليه و آله في مناجاة النبي داود عليه

السلام قوله: «يا رَبِّ ما آمَنَ بِكَ مَنْ عَرَفَكَ فَلَم يُحسِنِ الظَّنَّ بِكَ» «1».

ومضافاً إلى ذلك فإنّ سوء الظن بالوعود الإلهية يتسبب في فساد العبادة وحبط العمل، لأنّه يقتل في الإنسان روح الاخلاص وصفاء القلب، وقد قرأنا في الأحاديث السابقة أنّه:

«إِيِّاكَ أَنْ تُسِي ءَ الظّنَّ فَانَّ سُوءَ الظّنِّ يُفسِدُ العِبادَةَ وَيُعَظِّمُ الوِزرَ» «2».

والملاحظة الاخرى هي أنّ سوء الظن باللَّه تعالى وعدم الثقة بوعده يورث الإنسان الضعف والاهتزاز أمام الحوادث الصعبة والظروف العسيرة، كما ورد في تفسير الآيات الشريفة في باب سوء الظن أنّ بعض المسلمين الجدد ابتلوا بسوء الظن بالوعد الإلهي بنصر المجاهدين في ميادين القتال، وبالتالي عاشوا الهزيمة الروحية أمام الأعداء في حين أنّ المؤمنين الحقيقيين الذين كانوا يعيشون حسن الظن باللَّه كانوا يتصدّون للأعداء وقوى الانحراف والزيغ بمنتهى الشجاعة والشهامة والجرأة.

ومضافاً إلى ذلك فإنّ سوء الظن باللَّه تعالى بأمكانه أن يحرم الإنسان من العنايات الإلهية واللطف الرباني، لأنّ اللَّه تعالى يتعامل مع عبده بما يتطابق مع حسن ظنه أو سوء ظنّه بربّه كما قرأنا في الأحاديث السابقة في وصيّة لقمان الحكيم لابنه حيث يقول:

«يا بُنَيَّ أَحسِنَ الظّنَّ بِاللَّهِ ثُمَّ سَل فِي النّاسِ مِنْ ذا الَّذِي أَحسَنَ الظَّنَّ بِاللَّهِ، فَلَم يَكُن عِندَ ظَنِّهِ بِهِ» «3».

وخلاصة الكلام أنّ الإنسان إذا أراد أن يعيش الهدوء النفسي والاستقامة في خط

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 300

الصلاح والإيمان والتصدّي للنوازع الدنيوية وعناصر الشر وبالتالي ينال الإيمان الخالص وعناية اللَّه تعالى ورعايته ينبغي له أن يعيش حسن الظن باللَّه تعالى ويثق بوعده.

أسباب ودوافع سوء الظن:

اشارة

إنّ هذه الرذيلة الأخلاقية حالها حال سائر الرذائل الاخرى تنشأ من عدّة عوامل وأسباب:

1- التلّوث الظاهري والباطني:

فالأشخاص الذين يعيشون حالة التلوث النفسي في واقعهم يتصوّرون الآخرين مثلهم من خلال (المقارنة مع الذات) والتي هي حالة تكاد تكون سائدة عند أغلب الناس حيث يتصوّرون أنّ الآخرين مثلهم، فما لم يتطهر الإنسان في ذاته ونفسه فمن العسير أن يتخلّى من سوء الظن بالنسبة إلى الآخرين، وفي ذلك ورد عن الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام قوله: «لا يَظُّنُّ بِأَحَدٍ خَيراً لأنّهُ لايَراهُ إلّابِطَبعِ نَفسِهِ» «1».

2- المعاشرة مع رفاق السوء:

فالشخص الذي يجالس رفاق السوء والفاسدين والأشرار من الناس فمن الطبيعي أن يسي ء الظن بجميع الناس لأنّه يتصوّر أنّ الناس مثل هؤلاء الرفاق كما ورد في الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين عليه السلام قوله: «مُجالَسَةُ الأَشرارِ تُورِثُ سُوءَ الظَّنِّ بِالأخيارِ» «2».

3- المحيط الفاسد:

عندما يعيش الإنسان في اسرة ملّوثة أو في مدينة أو مجتمع متخلّف وسي ء على المستوى الثقافي والأخلاقي، فإنّ ذلك من شأنه أن يورثه سوء الظن بجميع الأفراد حتى الأخيار منهم، وحتى لو كان يعاشر ويجالس الصلحاء ولكنّ غلبة الفساد والانحطاط في المجتمع بإمكانه أن يخلق فيه سوء الظن.

4- الحسد والحقد والتكبّر والغرور:

وتعتبر عاملًا آخر من عوامل سوء الظن، لأنّ الإنسان الحسود والحقود يريد من خلال سوء الظن تسقيط شخصية الطرف الآخر والتقليل الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 301

من اعتباره، وكذلك الشخص المتكبّر يتحرّك من موقع تحقير الآخرين والسخرية بشخصيتهم من خلال إساءة الظن بهم وبذلك يخلق في ذهنه عن شخصية الطرف الآخر صورة مهزوزة وحقيرة.

5- عقد الحقارة: وهي أحد العوامل لسوء الظن بالناس، فالشخص الذي يعيش الحقارة في شخصيته ويشعر بالتفاهة لذاته أو يجد من الآخرين تحقيراً لشخصيته فانّه يسعى كذلك في التنقيص من شخصية الآخرين واحتقارهم ويتصوّرهم شخصيات ملّوثة وحقيرة ليشبع هذه العقدة في نفسه ويرضي حالته النفسية المهزوزة، وحينئذٍ يشعر بالراحة الكاذبة من جرّاء ذلك.

أمّا سوء الظن باللَّه تعالى فيعتمد في الأصل على ضعف الإيمان واليقين في الإنسان واهتزاز صورة الالوهية في دائرة صفات الذات وصفات الأفعال، فضعف اليقين واهتزاز الإيمان من شأنه أن يخلق في فكر الإنسان سوء الظن وعدم الثقة بالوعود الإلهية لعباده، وكذلك بالنسبة إلى علم اللَّه تعالى وقدرته ورحمانيّته ورازقيّته وسائر صفاته الحسنى وبالتالي يوصد أمامه أبواب السعادة والنجاة.

مراتب سوء الظن:

وأحد الأسئلة المهمّة التي تثار على بساط البحث في هذا المورد هو أنّه أساساً هل أنّ سوء الظن أمراً اختيارياً أو غير اختياري؟ فلو رأى الإنسان ظاهرة معيّنة وأساء الظن بشخص أو أشخاص بدون اختيار، فهل هذا المعنى يوجب له الذم والتوبيخ؟ وهل تقع هذه الحالة مورداً للتكليف مع أنّ مقدّماتها غير اختيارية؟ وكيف يمكن تعلّق الذم والعقاب بأمر غير اختياري؟

ويمكن الإجابة عن هذه التساؤلات وعلامات الاستفهام من طريقين:

الطريق الأول: أنّ سوء الظن هذا الذي يقفز إلى ذهن الإنسان بدون اختيار منه لا يكون مورد الذم والعقاب لوحده، فلو أنّه

لم يتجسّد في مرحلة العمل ولم يرتب الإنسان عليه أثراً

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 302

على مستوى الممارسة والكلام، ولا يصدر منه سلوك يشير إلى سوء الظن هذا فإنّه لا يقع مورد الذم ولا العقاب، ولذلك ذكر بعض علماء الأخلاق في هذا المجال: «وَأَمّا الخَواطرُ وَحَدِيثُ النَّفسِ فَهُو مَعفُوٌ عَنهُ ... وَلَكنَّ المَنهِيَّ عَنهُ أَنْ تَظُنَّ، والظَّنُّ عِبارَةٌ عَمّا تِركَنُ إِلِيهِ النَّفسُ وَيَميلُ إِلَيهِ القَلبُ» «1».

وخلاصة الكلام أنّ سوء الظن له ثلاثة مراحل:

أحدها: سوء الظن القلبي.

الثانية: سوء الظن اللّساني.

الثالثة: سوء الظن العملي.

فأمّا ما كان في القلب فلا يقع مشمولًا للتكليف لأنّه خارج عن دائرة الاختيار، ولكنّ ما يصدر من الإنسان بلسانه أو بعمله فهو الممنوع والحرام.

ولهذا ورد في بعض الروايات قوله عليه السلام: «وإِذا ظَنننتَ فلا تَحَقِّقْ» «2».

الطريق الثاني: إنّ الكثير من أشكال سوء الظن غير الاختيارية تتضمّن مقدّمات اختيارية في البداية أو في إدامتها واستمرارها، فالأشخاص الذين يجالسون رفاق السوء فيحصل لهم سوء الظن بالأخيار ينبغي عليهم اجتناب مثل هذه المعاشرة ولمثل هؤلاء الرفاق من الفسّاق والأشرار حتى لا تحصل لديهم حالة سوء الظن تجاه الآخرين، وهذا أمر اختياري، ولكن لو حصل له سوء الظن بدون مقدّمات اختيارية، فيجب على الإنسان أن يتفكّر في حالته هذه ويضع في تصوّره احتمالات صحيحة إلى جانب الاحتمالات السيئة التي أورثته سوء الظن، مثلًا يقول: إنّ هذه المرأة الأجنبية التي رآها مع الشخص الفلاني، إمّا أن تكون أخته أو ابنة أخيه أو ابنة اخته أو زوجته وأمثال ذلك من أقرباء الشخص الذين لا يعرفهم هو، فلا شك أنّ مثل هذا التفكير السليم واحتمال هذه الاحتمالات الصحيحة يتسبب في إضعاف سوء الظن عنده أو يزيله تماماً من ذهنه، ولهذا ورد

في الحديث الشريف الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 303

عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «اطلُبْ لأخِيكَ عُذراً فَانْ لَم تَجِدْ لَهُ عُذراً فَالتَمِسْ لَهُ عُذراً» «1».

وقد مرّ علينا الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين عليه السلام هو أنّه قال: «لا تَظُنَنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَحَدٍ سُوءً وَأَنتَ تَجِدُ لَها فِي الخَيرِ مُحتَمَلًا (مَحمَلًا» «2».

وعلى هذا الأساس يمكننا تقسيم سوء الظن إلى ثلاثة أقسام:

1- سوء الظن الذي يتجسّد في أفعال الشخص وكلماته وأقواله، وهذا القسم من سوء الظن الحرام.

2- سوء الظن الذي لا يظهر أثره خارجاً، ولكنّه يمكن للشخص إزالته من خلال التفكير السليم وبواسطة إزالة مقدّماته الخارجية، فهذا النوع من سوء الظن يحتمل أن يكون مشمولًا لأدلّة الحرمة.

3- سوء الظن الذي لا يترتب عليه أثر خارجي، وهو خارج تماماً عن دائرة اختيار الإنسان وإرادته ولا يمكن إزالته بشتى الوسائل، فمثل هذا الظن السي ء لا يكون مشمولًا للتكاليف الشرعية مادام الإنسان لم يرتّب عليه أثراً معيّناً.

والقرآن الكريم يشير إلى هذا المعنى في الآية 36 من سورة الأسراء: «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا».

وفي هذه المرحلة يجب التوجّه إلى الاصول والمبادي ء الحاكمة في دائرة علاج الأمراض الأخلاقية والرذائل النفسية، وأهمّها التفكّر في الآثار السلبية والعواقب الوخيمة لسوء الظن، لأنّه عندما يتفكّر الإنسان في عواقب سوء الظن وكيف أنّه يتلف رأس المال الاجتماعي بين أفراد البشر ويسلب منهم الثقة والاعتماد المتقابل ويربك الهدوء والاستقرار في مفاصل المجتمع، ويتسبب في خسارة الإنسان لأصدقائه وفقده لأحبائه ويورثه الغفلة عن واقعيّات الامور والحقائق الاجتماعية، ويقوده إلى إرتكاب الظلم والعدوان في حق الآخرين (كما تقدّم تفصيله سابقاً) فحينئذٍ سوف يبتعد

عن هذه الرذيلة

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 304

الأخلاقية بدون صعوبة، كما أنّ إطّلاع الإنسان على كون الغذاء مسموماً سيخلق في نفسه مناعة شديدة عن تناوله، هذا من جهة.

ومن جهة اخرى فإنّه كلّما تحرّك الإنسان لقطع جذور هذه الرذيلة وقلع أسبابها من مواقع النفس، أي مجالسة رفاق السوء والتي تسبب سوء الظن بالأخيار أو يبتعد مهما أمكنه عن الأجواء الملّوثة والمحيط السي ء والفاسد، ويطهّر قلبه من أدران الحسد والحقد والتكبّر والغرور التي هي من العوامل المهمّة لسوء الظن وأمثال ذلك من الأسباب والعوامل الاخرى فسوف تنتهي وتزول منه هذه الرذيلة الأخلاقية.

ومضافاً إلى ذلك فإنّ بعض الامور يمكنها أن تساعد الإنسان على إنقاذه من شر هذه الحالة السلبية، وهي:

الف: البحث عن الاحتمالات السليمة في تبرير سلوكيات الآخرين المبهمة التي قد تورثه سوء الظن، كما قرأنا في الروايات السابقة عن أميرالمؤمنين عليه السلام قوله: «لا تَظُنَنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَحَدٍ سُوءً وَأَنتَ تَجِدُ لَها فِي الخَيرِ مُحتَمَلًا (مَحمَلًا» «1».

ومن الواضح أنّ الكثير من الأعمال والسلوكيات الصادرة من الأشخاص تقبل التبرير السليم والحمل على الصحّة.

ب: أن يبتعد الإنسان عن التجسّس في أعمال الآخرين والذي قد يكون معلولًا لسوء الظن أولًا، ويتسبب كذلك في سوء الظن أيضاً، فلو أنّ الإنسان تجنّب التجسّس في حياة الآخرين الخصوصية فانّه يكون قد تخلّص من أحد الأسباب المهمّة لسوء الظن.

ج: أن لا يرتب أثراً عملياً على سوء ظنّه وبذلك يحقّق له أحد طرق العلاج لهذه الرذيلة، لأنّ الإنسان إذا أساء الظن بشخص من الأشخاص وأفعاله ثم جسّد سوء الظن هذا على سلوكياته وأفعاله كأن يبتعد عنه ويظهر عدم الثقة به أو يستشمّ من أفعاله وعلاقته بذلك الشخص أنّه يسي ء الظن به، فهذه الحالة

تسبب في تقوية سوء الظن وزيادته واشتداده، ولكن إذا لم يهتمّ لذلك ولم يرتّب عليه أثراً، فإنّه سيضعف تدريجياً وبالتالي سينتهي ولذلك الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 305

ورد في الروايات الإسلامية: «إِذا ظَنَنَّتُم فَلا تَحَقَّقُوا» «1».

ولا شك أنّ الالتفات إلى العقوبات الإلهية الاخروية والآثار المعنوية السلبية لهذه الرذيلة الأخلاقية والتي سبقت الإشارة إليها في الروايات الشريفة لها أثر قوي أيضاً في الوقاية من الابتلاء بهذا المرض المعنوي، وتمنح الإنسان القدرة على التحرّك بعيداً عن ممارسة تداعيات هذه الصفة الأخلاقية الذميمة.

موارد الاستثناء:

لاشك أنّ قبح سوء الظن رغم أنّه يعتبر قاعدة كليّة وأصل من الاصول الاخلاقّية في دائرة علم الإخلاق، إلّاأنّه هناك إستثناءات لهذا الأصل العام وردت الإشارة إليها في الروايات الإسلامية، ومن ذلك:

ألف) إذا ساد الفساد والإنحطاط الأخلاقي في مجتمع ما وكان التلّوث بالرذائل الإخلاقيّة هو السائد لهذا المجتمع البشري فانّ حسن الظن في مثل هذه الحالات ليس فقط لا يعدّ من الفضائل الإخلاقية، بل يمكن أن يورّط الإنسان بعواقب سلبيّة ومشاكل حقيقية أيضاً، وورد التحذير من هذا النوع من حسن الظن في الروايات الإسلاميّة.

فنقرأ في الحديث عن أميرالمؤمنين عليه السلام قوله: «اذا اسْتَوْلَى الصَّلاحُ عَلَى الزَّمانِ وَاهْلِهِ ثُمَّ أساءَ رَجُلٌ الظَنَّ بِرَجُلٍ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُ حَوْبَةٌ فَقَدْ ظَلَم، وَإِذا اسْتَوْلَى الْفَسادُ عَلَى الزَّمانِ وَاهْلِهِ فَاحْسَنَ رَجُلٌ الظَّنَ بِرَجُلٍ فَقَدْ غَرَّرَ» «2».

وهذا المضمون ورد أيضاً بتعبيرات مختلفة عن الإمام الصادق عليه السلام والكاظم عليه السلام والهادي عليه السلام «3»

.وقد ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «احْتَرِسُوا مِنَ الناسِ بِسُوءِ الظَّنِّ» «4».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 306

وهذا أيضاً يمكن أن يكون إشارة لمثل هذه الأزمان والحالات التي يسود فيها الإنحطاط الأخلاقي في

مفاصل المجتمع البشري، وإلّا فانّ سوء الظن بعنوانه أصل عام لا يمكن أن يكون مورد المدح والثناء والقبول.

ويستفاد من مجموع ما تقدم من الروايات أنّ الأصل في الأجواء الاجتماعية السالمة نسبياً هو حسن الظن، وعلى العكس من ذلك فإذا عاش الإنسان في أجواء فاسدة ومتخلّفة فانّ الأصل يجب أن يبتنى على سوء الظن، وطبعاً هذا لا يعني أن ينسب الإنسان بعض التهم ويلفّق بعض العيوب والنقائص لشخص من الأشخاص، بل ينبغي الاحتياط في مثل هذه الظروف لئلّا يتورّط الإنسان في مشاكل ومصاعب يفرضها عليه هذا المحيط الفاسد.

وطبعاً لا ينبغي أن يكون هذا الاستثناء وهذه الروايات ذريعة بيد الأشخاص لكي يتحرّكوا من موقع سوء الظن بأيّ إنسان ويقول بأنّ هذا الزمان كثر فيه الفساد وشاع فيه الانحطاط فمن الخطأ حسن الظن بالناس، فحتى في الأزمنة الفاسدة والأجواء المنحطة يجب على الإنسان أن يصنّف الناس إلى عدّة أصناف، فيجعل من الأشخاص الذين يتجّلى في محياهم الصلاح والخير في دائرة الصالحين، فلا ينبغي أن يكونوا مورد سوء الظن مادام لم يشاهد منهم أمراً منكراً من موقع الوضوح.

ولكنه عليه أن يضع الفئات التي شاهد منها سلوكيات مخالفة وأفعال منكرة بصورة متكررة في صف الأشرار والمفسدين، ولا ينبغي عليه أن يحسن الظن بنيّاتهم وأفعالهم اطلاقاً.

ب) بالنسبة إلى الامور الأمنيّة في المجتمع الإسلامي والتي يتعلّق بها سلامة المجتمع وأمنه واستقراره لا يجوز حسن الظن بأيّة حركة مشكوكة في هذا المجتمع، بل يجب عليه أن يبتعد عن حسن الظن ما أمكنه ذلك، أو بتعبير آخر يجب عليه أن يتّخذ جلباب الاحتياط في تعامله مع هذه السلوكيات والحركات الصادرة من بعض الأفراد المشكوكين.

ومفهوم هذا الكلام لا يعني أنّه يجوز هتك حرمة الأفراد أو

التعامل معهم بسلبية نتيجة سوء الظن، بل المراد أنّ جميع الحركات والسلوكيات المشكوكة يجب أن توضع تحت النظر

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 307

ويتمّ دراستها بدقّة، فلو اتّضح بعد التحقيق ومن خلال القرائن والبيّنات الواضحة أنّ مثل هذه الحركات كانت بدافع من سوء النيّة ومقترنة بتصرفات خاطئة ومحرّمة هناك ينبغي إتّخاذ التدابير العملية اللازمة.

ج) ومن الموارد الاخرى التي يجوز فيها سوء الظن، بل قد يكون واجباً أيضاً هو في الحالات التي يكون الإنسان في مقابل العدو، ويمكن أن يطلب العدو الصلح وينادي بالمحبّة والصداقة ويعلن عن رغبته في التعاون وأمثال ذلك، فمثل هذه الموارد لا ينبغي التعامل معه بسذاجة وتصديق كلّما يقوله من موقع حسن الظن واسدال الستار عن الماضي نهائيّاً والتقدّم إلى العدو بابتسامة عريضة والشد على يده ومعانقته، بل ينبغي أن يضع في زاوية الاحتمال أن يكون هذا السلوك من العدو من موقع المكر والحيلة والخدعة لإستغفال الطرف المقابل.

ولهذا ورد في عهد مالك الأشتر المعروف قول أمير المؤمنين عليه السلام: «الحَذَرُ كُلُّ الحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكَ بَعدَ صُلحِهِ فَإنَّ العَدُوَّ رُبَّما قاربَ لِيَتَغَفَّلَ فَخُذْ بِالحَزمِ وَاتَّهِم فِي ذَلِكَ حُسنَ الظَّنِّ» «1».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 308

التجسّس في الحالات الخاصة للناس

تنويه:

(التجسّس) بمعنى البحث والفحص في أعمال الآخرين والامور المتعلّقة بهم، وغالباً ما يكون هذا البحث في الامور السلبية ونقاط الضعف والسلوكيات الذميمة، ولكنّ التجسّس في لغة العرب يأتي بمعنى البحث والفحص في المسائل الإيجابية أيضاً.

وفي الحقيقة أنّ سوء الظن هو السبب في أن يتحرّك الإنسان للكشف عن أسرار الناس وامورهم الخفيّة، وأحياناً تدخل عوامل اخرى من قبيل: البخل والحسد وضيق الافق وأمثال ذلك في خلق هذه الحالة الذميمة لدى الإنسان.

التجسّس بالشكل المذكور آنفاً يعتبر حالة ذميمة جدّاً في دائرة

المفاهيم الإسلامية ومن الأعمال المحرّمة حيث يتسبب في سلب الأمن الاجتماعي وخلق أنواع الخصومات والنزاعات بين الأفراد، فلو ابيح لكلّ شخص أن يتدخّل في الكشف عن أسرار الآخرين والتدخل في امورهم الخاصّة في حياتهم الفردية والاسرية، فلا يبعد أن يترتب على ذلك هتك حرمة الكثير من الأفراد وتدمير شخصيتهم الاجتماعية وبالتالي إندلاع نيران الحقد والعداوة والبغضاء في المجتمع بحيث يتحوّل مثل هذا المجتمع إلى جحيم لا يطاق.

وبالطبع فإنّ هذا الحكم الأخلاقي والإسلامي لا يتقاطع أبداً مع ضرورة وجود أجهزة

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 310

أمنيّة وتجسّسية في جهاز الحكومة الإسلامية، لأنّ ما تقدّم من التجسّس المذموم يتعلّق بالحياة الخاصة للأفراد، وأمّا هذا المعنى الثاني فيتعلّق بمصير المجتمع وأمنه ويهدف إلى التصدّي لمؤامرات الأعداء وكشف مخططاتهم والوقاية من تسرّب عناصر الشر والانحراف في مفاصل المجتمع الإسلامي.

وبهذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي منه الدروس الأخلاقية في هذا الباب.

نقرأ في القرآن الكريم آية واحدة تنهى عن التجسّس، وهي الآية 12 من سورة الحجرات حيث يقول تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً».

وكما تقدّمت الإشارة إليه في بحث الغيبة وسوء الظن فإنّ الآية الشريفة المذكورة أعلاه تنهى عن ثلاثة أشياء، وهي في الواقع بمثابة العلّة والمعلول، فالأول تنهى عن سوء الظن الذي يعدّ العلّة والمصدر للتجسّس، ثم تنهى عن التجسّس الذي يتسبب في الكشف عن عيوب الآخرين المستورة وبالتالي التحرّك من موقع غيبتهم وفضح معايبهم.

وكما تقدّمت الإشارة إليه آنفاً فإنّ (التجسّس) له مفهوم سلبي ويراد به عادة سلوك غير أخلاقي تجاه الآخرين، ولكنّ (التجسّس) قد يرد في مورد يكون البحث والفحص عن الشي ء مطلوباً ومحموداً كما نقرأ

في قصّة يوسف عليه السلام أنّ يعقوب عليه السلام أمر أولاده وقال: «يَا بَنِىَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ» «1»

.وذهب البعض إلى أنّ التحسّس بمعنى إستراق السمع بالنسبة لكلمات وأحاديث الآخرين، في حين أنّ التجسّس هو البحث والفحص العملي عن أسرار وعيوب الآخرين.

وممّا يلفت النظر أنّ النهي عن التجسّس في آية سورة الحجرات لم يتقيّد بقيد أو شرط، وهذا يدلّ على أنّ الأصل هو حرمة التجسّس بعنوان قاعدة عامّة، ولو رأينا أحياناً في الأحكام الإسلامية جواز التجسّس لأغراض خاصّة فإنّ ذلك من قبيل الاستثناء.

وقد كان الحكم بحرمة التجسّس وبالنظر لهذه الآية الشريفة إلى درجة من الوضوح في الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 311

الذهنية المسلمة حتى أنّ المسلمين كانوا يستدلون بهذه الآية كدليل على حرمة التجسّس، فقد ورد في مصادر أهل السنة من قبيل كنز العمال نقلًا عن (ثور الكندي) حيث يقول: كان عمر بن الخطاب يعسّ في الليل في أزقة المدينة فسمع يوماً صوت رجل يغني في داخل بيته فما كان من عمر إلّاأن تسلق الجدار فصاح به: يا عدو اللَّه أحسبت أنّك ترتكب الذنب في خفاء وأنّ اللَّه تعالى لا يراك؟

فقال له ذلك الرجل: لا تعجل يا أميرالمؤمنين، فلو ارتكبت ذنباً واحداً فقد ارتكبت أنت ثلاثة، فانّ اللَّه تعالى يقول «وَلا تَجَسَّسُوا» وأنت قد تجسّست علينا، ويقول أيضاً: «وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا» «1»، وأنت تسلقت الجدار، واللَّه تعالى يقول: «لَاتَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا» «2»، وأنت دخلت البيت بلا اذن ولا سلام.

فما كان من عمرإلّا أن أطرق أمام هذا الاستدلال المتين ثم قال له: إذا عفوت عنك فهل تترك ما أنت عليه؟ فقال: نعم، فتركه

عمر وذهب «3».

التجسّس في الروايات الإسلامية:

إنّ مسألة التجسّس ذكرت في الروايات الإسلامية من موقع الذم والتقبيح بحيث أنّ القاري ء لهذه الروايات يستنتج أهمية وشناعة هذا العمل والسلوك الأخلاقي الذميم، ومن ذلك:

1- ما ورد عن رسول اللَّه أنّه قال: «إِيّاكُم وَالظَّنَّ فَإنَّ الظَّنَّ أَكذَبُ الحَدِيثِ وَلا تَحَسَّسُوا وَلا تَجَسَّسُوا» «4».

2- ونقرأ في حديث آخر عن النبي الأكرم أيضاً قوله: «لا تَحاسَدُوا وَلا تَباغَضُوا وَلإ

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 312

تَجَسَّسُوا وَلا تَحَسَّسُوا وَلا تَنا جَشُوا وَكُونُوا عِبادَ اللَّهِ إِخواناً» «1».

ويتّضح من هذا الحديث جيداً أنّ حال التجسّس كحال الحسد والحقد والكراهية فإنّه يتسبب في تباعد الناس وتمزّق أوصال المجتمع الإسلامي والتدهور والإرتباك في العلاقات الاجتماعية بين الناس.

وقد أورد الكليني في كتابه الكافي حديثاً عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «يا مَعْشَرَ مَنْ أَسلَمَ بِلِسانِهِ وَلَم يُسلِمْ بِقَلبِهِ لاتَتَبِّعُوا عَثَراتِ المُسلِمِينَ فَإِنَّ مَنْ تَتَبَّعَ عَثَراتِ المُسلِمِينَ تَتَبَّعُ اللَّهُ عَثرَتَهُ وَمَن تَتَبَّعُ اللَّهُ عَثرَتَهُ يَفْضَحْهُ» «2».

3- وفي حديث عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «تَتَبَّعُ العَيُوبِ مِنْ أَقبَحِ العُيُوبِ وَشَرِّ السَّيِّئاتِ» «3».

4- ونقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام عليه السلام أنّه قال: «مَنْ بَحَثَ عَنْ أَسرارِ غَيرِهِ أَظهَرَ اللَّهُ أَسرارَهُ» «4».

5- وجاء في حديث آخر عن أميرالمؤمنين عليه السلام أيضاً قوله: «مَن تَتَبَّعَ خَفِيَّاتِ العُيُوبِ حَرَّمَهُ اللَّهُ مَوَدّاتِ القُلُوبِ» «5».

6- وورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال لأحد أصحابه: «لا تُفَتَّشِ النّاسَ عَنْ أَديانِهِم فَتَبقى بِلا صَدِيقٍ» «6».

وهذا يدلّ على أنّ أغلب الناس لهم عيوب ونقائص في دائرة العقيدة أو العمل، فعندما تبقى مستورة وخفيّة، فإنّ ذلك من شأنه أن يوطّد العلاقات بين الأفراد ويتعامل الأفراد فيما بينهم من موقع المحبّة والود

ويلتزمون بأصالة الصحّة والعدالة في الطرف الآخر، ولكن في غير هذه الصورة فانّ الإنسان يبقى بلا صديق.

الآثار والعواقب السلبية للتجسّس:

إنّ البحث والتفحّص عن حال الآخرين لغرض الكشف عمّا خفي من معايبهم ونواقصهم له آثار سلبية كثيرة في حياة الإنسان الفردية والاجتماعية.

لأنّه من جهة يؤدّي إلى نفور الناس وكراهيتهم لمن يتدخل في شؤونهم الخاصة ويتعدّى على أسرارهم ويهدف إلى الكشف عن امورهم الخاصة، فيرون مثل هذا الشخص معتدياً على حريمهم الخاص ولا يقيمون له احتراماً ولا يرون له شخصية وحيثية في نظرهم ويكرهون من يعيش هذه الحالة الذميمة بشدّة.

وقد قرأنا في الحديث السابق قول الإمام الصادق عليه السلام أنّ الشخص الذي يفتّش عن عيوب الناس يبقى بلا صديق، فيمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى.

ومن جهة اخرى فإنّ أغلب الناس لديهم نقاط ضعف وعيوب في شخصيتهم وسلوكياتهم وأخلاقهم فهي لو أنّها بقيت مستورة وفي حيّز الكتمان، فإنّ ذلك من شأنه أن يدفع بعجلة التفاعل الاجتماعي بين الأفراد كما يرام، ولكن عند انتشار هذه العيوب ونقاط الضعف فإنّ ذلك من شأنه أن يتسبب في سوء الظن لدى الأفراد وانفصام علقة الاخوة والصداقة والمحبّة بينهم.

ومن جهة ثالثة فانّ التجسّس والتفتيش عن عقائد الآخرين وأسرارهم وعيوبهم يتسبب في تعميق حالة الكراهية والحقد والعداوة بين أفراد المجتمع وأحياناً يؤدّي إلى النزاع الدموي الشديد بينهم.

فإذا أردنا أن يعيش المجتمع السلامة والاطمئنان والاستقرار فينبغي الحذر والابتعاد عن هذا السلوك السلبي.

ومن جهة رابعة فإنّ أكثر الناس يتحرّكون في مقابل هذا العمل من موقع المقابلة بالمثل، أي يسعون إلى التجسّس والفحص عن عيوب الشخص الفضولي والمتجسّس على أحوالهم ويكشفونها إلى الملأ، ولعل هذا الحديث الشريف ناظر إلى هذا المعنى وهو قوله: «مَنْ بَحَثَ الاخلاق فى القرآن،

ج 3، ص: 314

عَنْ أَسرارِ غَيرِهِ أَظهَرَ اللَّهُ أَسرارَهُ» «1».

ونقرأ في حديث آخر قوله عليه السلام: «مَنْ كَشَفَ حَجابَ أَخِيهِ إِنكَشَفَتْ عَورَاتُ بَيتِه»»

، وهو قد يكون إشارة إلى هذا المعنى بالذات، أو إشارة للأثر الوضعي ونتائج هذا العمل في الدنيا.

ونقرأ كذلك في حديث آخر عن هذا الإمام عليه السلام قوله: «مَنْ تَطَّلَعَ عَلى أَسرارِ جارِهِ إِنتُهِكَتْ أَستارُهُ» «3».

أمّا الدوافع على هذه الرذيلة الأخلاقية وهي التجسّس والتفتيش في أسرار الناس وأحوالهم الخاصة فكثيرة، ومن ذلك:

1- سوء الظن بالآخرين الذي يقود الإنسان غالباً إلى التجسّس عن أحوالهم، فلو أنّه استبدله بحسن الظن فإنّه لا يفكّر عند ذاك بالتفتيش عن عيوب الآخرين، ولهذا السبب كما أشرنا سابقاً أنّ الآية 12 من سورة الحجرات تنهى عن التجسّس بعد النهي عن سوء الظن.

2- التلوّث بالذنوب والعيوب المختلفة والذي يعدّ عاملًا آخر يدفع صاحبه نحو التجسّس على الا خرين، لأنّ الشخص الملّوث بالذنوب والغارق في العيوب يريد أن يرى جميع الناس مثله، وبذلك سوف ينطلق من موقع جبران عيوبه وخلق أجواء كاذبة له من الهدوء النفسي وتسكين حالة التوتر التي تفرضها عليه عيوبه الكثيرة فيقول في نفسه بأنني إذا كنت ملّوثاً فسائر الناس كذلك.

ونقرأ في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «شَرُّ النّاسِ الظّانّون وشَرُّ الظّانّين المُتَجَسِّسُونَ» «4».

وأحد العوامل الاخرى للتجسّس هي حالات الحسد والحقد والعداوة والتكبّر والعجب في واقع الإنسان الناقص حيث تدفعه هذه العناصر الشريرة إلى التفتيش عن عيوب الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 315

الآخرين واستخدامها كأداة لتسقيطهم وهتك حيثيّتهم لغرض إرضاء الميل إلى التفوّق ورؤية الأنا متعالية على الآخرين.

4- ومن العوامل الاخرى لهذه الرذيلة هو ضعف الإيمان أيضاً، لأنّ الإنسان الذي يعيش ضعف

الإيمان باللَّه تعالى لا يلتزم باحترام إيمان الآخرين وشخصيتهم الاجتماعية، ولذلك يتدخّل بأدنى حجّة في امورهم الخاصة وحريم حياتهم الخصوصية ولا يرى بأساً في الكشف عن مثالبهم وهتك حرمتهم وإراقة ماء وجوههم، كما قرأنا في الأحاديث السابقة عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بأنّ مثل هؤلاء الأشخاص هو من قبيل: «يا مَعْشَرَ مَنْ آمَن بِلِسانِهِ وَلَم يَدخُلِ الإيمانَ فِي قَلبِهِ».

استثناءات:

اشارة

هنا يطرح سؤال وهو: هل أنّ التجسّس يعدّ عاملًا منافياً للأخلاق والشرع في جميع الموارد، أو هناك بعض الاستثناءات التي تخرجه عن دائرة الحرمة الشرعية؟ فإنّ جميع الدول والحكومات في العالم سواءً الإسلامية وغير الإسلامية لديها أجهزة أمنيّة خاصة تعمل في دائرة التجسّس والفحص عن أسرار الناس وحالاتهم وتتدخل في امورهم وتسعى إلى الكشف عن أسرارهم، وهناك موارد اخرى لا يكون التجسس في امور الناس ممنوعاً في نظر عقلاء العالم، بل قد يكون لازماً وضرورياً.

وفي مقام الجواب عن هذا السؤال يجب القول إنّ هذا الأصل العام في مسألة حرمة التجسّس وقبحه في دائرة القيم الأخلاقية له بعض الموارد الاستثنائية كما هو الحال في الاصول العامة الاخرى، ومن ذلك:

1- الأجهزة الأمنيّة

إنّ كل حكومة ودولة تجد نفسها موظفة بحماية شعبها من شر مؤامرات الأعداء في الداخل والخارج وتستخدم الحذر من جواسيس الأعداء، ولا شك أنّ المسؤولين في هذه الحكومات إذا أرادوا أن يواجهوا الأحداث والوقائع من موقع حسن الظن والحمل على الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 316

الصحة، فإنّ ذلك من شأنه أن يورطّهم في العواقب الوخيمة لمؤامرات الاعداء من المنافقين في الداخل ومن تربّص بهم الدوائر في الخارج، لأنّ مؤامراتهم سريّة جدّاً ويتحرّكون بمنتهى الحذر والتستر بظواهر طبيعية وأقنعة جميلة ولا يتسنى للمسؤولين التعرّف على حالهم إلّامن خلال التفتيش الدقيق والتجسّس المستمر لكشف مؤامرات هؤلاء الأعداء وابطال مفعولها.

ففي مثل هذه الموارد يجب اجتناب حسن الظن والابتعاد عن الحمل على الظاهر الحسن، بل ينبغي النظر إلى كل ظاهرة اجتماعية وسياسية من موقع سوء الظن لحفظ الأهداف الكبيرة والأغراض المتعالية للمصالح العامة للُامّة الإسلامية وبذلك تتّضح الحكمة من تشكيل الأجهزة الأمنيّة والتجسسية في الداخل والخارج، وبعبارة اخرى: إنّ هذا الاستثناء

ينبع من قانون الأهم والمهم، فما أكثر الأفراد الذين يقعون مورد سوء الظن وبالتالي تتحرّك الأجهزة الأمنيّة للتفتيش عن أحوالهم الخاصة فيثبت برائتهم وسلامتهم من أي عمل شائن، ولكن من البديهي أنّه ولغرض العثور على المجرم الواقعي وعملاء الأعداء في الداخل فلا مفرّ من مزاولة البحث والفحص الواسع في جميع الموارد المحتملة للوصول إلى نتيجة حاسمة.

وقد يلزم أحياناً أن تبعث الحكومة ببعض الجواسيس وبظواهر مختلفة وسط الأعداء أو إدخال بعض عناصر الأمن كموظفين في المؤسسات المهمّة التي تعمل في الداخل على شكل عامل أو موظف وأمثال ذلك كيما يتسنى لها الكشف عن بذور الفتنة واحباط أيّة مؤامرة قبل تشكلها واشتدادها، وبالتالي تعرّض الامّة مصالحها للخطر.

وبالطبع فإنّ هذا لا يعني أنّه يمكن إتّخاذ هذا الاسلوب ذريعة للتدخل في الحياة الخصوصية لجميع أفراد المجتمع وإذاعة أسرارهم وكشف مساوئهم التي لا ترتبط اطلاقاً بمصالح الامّة وأهدافها البعيدة رغم أننا نرى مع الأسف الكثير من التخلفات التي تجري في إطار هذا الأصل العقلائي فيساء استخدامه في كثير من الأحيان، ونظراً إلى أنّ الجواز في عملية التجسّس يعتبر حكماً استثنائياً من الأصل العام فلابدّ من مراعاة هذه الموارد بدقّة

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 317

والنظر إلى فلسفة هذا الحكم بالذات كيما نتجنّب الافراط في بعض الممارسات التي تدخل تحت هذا العنوان.

ونقرأ في آيات القرآن الكريم وسيرة النبي الأكرم والروايات الإسلامية إشارات واضحة إلى هذه المسألة المهمّة.

فيقول القرآن الكريم في الآية 47 من سورة التوبة بصراحة أنّ من بين المسلمين أشخاصاً يمثّلون عملاء العدو وجواسيسه، وعلى المسلمين أن يحذروا منهم حيث تقول الآية: «وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ».

ومن هذا القبيل ما ورد في قصّة المرأة التي أرسلها بعض المنافقين لتوصل أخبار المدينة إلى المشركين

في مكّة قبيل الفتح وأنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قد جهّز جيوشاً كبيرة للهجوم على مكّة حيث أرسل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الإمام علي عليه السلام ورائها فوجدها في الطريق وهددها لتسلّم الرسالة، فاضطرت أخيراً إلى الاعتراف وتسليم هذه الرسالة إلى أمير المؤمنين عليه السلام «1»، وكذلك قصّة تجسّس حذيفة في معركة الأحزاب لصالح المسلمين ونفوذه إلى قلب جيش الأعداء لتفحّص الأخبار ونقلها إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «2».

ويستفاد من آيات القرآن الكريم أنّ هذه المسألة كانت موجودة أيضاً في عصر الانبياء السابقين، وأحياناً تتخذ صبغة إعجازية كما في قصّة النبي سليمان عليه السلام عندما استخدم الهدهد ليوصل إليه أخبار المناطق البعيدة.

ونقرأ في الحديث الشريف عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام أنّه قال: «كانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذا بَعَثَ جَيشَاً فَاتَّهم أَمِيراً بَعَثَ مَعَهُم مِنْ ثِقاتِهِ مَنْ يَتَجَسَّسُ لَهُ خَبَرَهُ» «3».

ونقرأ في نهج البلاغة في الكتاب 33 قول الإمام علي أميرالمؤمنين عليه السلام لقُشم بن عباس أمير مكّة: «أَمّا بَعدُ فَإنَّ عَينِي بِالمَغرِبِ كَتَبَ إِلَيَّ يُعلِمُنِي إِنَّهُ وُجِّهَ إِلَى المَوسِمِ مِنْ أَهلِ الشَّامِ العَمي القُلُوبِ ... الَّذِينَ يَلبِسُونَ الحَقَّ بِالباطِلِ وَيُطِيعُونَ المَخلُوقَ فِي مَعصِيةِ الخالِقِ ...

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 318

فَأَقِمْ عَلى ما فِي يَدَيكَ قِيامَ الحَازِمِ الصَّلبِ».

وفي حديث آخر عن أنس بن مالك عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه أرسل شخصاً يدعى (بسبسه) «1» من أصحابه للتجسّس على أحوال قافلة أبي سفيان وإخبار النبي بأخبارها «2».

ونقرأ إشارة واضحة إلى هذا المطلب في عهد مالك الأشتر حيث يأمره أميرالمؤمنين عليه السلام أن يجعل العيون والجواسيس على موظفيه وعمّاله كيما يراقب أعمالهم عن

كثب من حيث لا يشعرون فيقول: «ثُمَّ تَفَّقَد أَعمالَهُم وابعَثْ العُيُوَنَ مِنْ أَهلِ الصِّدقِ وَالوَفاءِ عَليهِم، فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي السِّرِّ لُامُورِهِم حَدوَةٌ لَهُمُ عَلى إِستِعمالِ الأَمانَةِ والرِّفقِ بِالرَّعِيَّةِ» «3».

وجاء في الحديث المعروف عن الإمام الحسين عليه السلام في مسألة بقاء محمد بن الحنفية في المدينة أنّه عندما عزم الإمام الحسين عليه السلام على التحرّك من المدينة باتجاه مكّة ومنها إلى كربلاء أراد أخوه محمد بن الحنفية أن يصطحبه في هذا السفر فقال له الإمام عليه السلام: «أَمَّا أَنتَ فَلا، عَلَيكَ أَنْ تُقِيمُ بِالمَدِينَةِ وَتَكُونَ لِي عَيناً لاتَخفِ عَنِّي شيئاً مِنْ امورِهِم» «4».

2- منظمات التفتيش والتحقيق

هناك الكثير من المنظمات في جميع الأدارات والمؤسسات المهمّة في هذا العصر باسم منظمات الفحص والتحقيق والتي تعمل لغرض إعمال النظر على عمل الموظّفين والعمّال والتصدّي لعمليات الاسراف والخلاف وضبط الامور واستطلاع الأحوال في مفاصل هذه الدوائر والمؤسّسات.

وبديهي أنّ عملهم ليس هو التجسّس على الامور الخاصة والأحوال الشخصية للعمّال والموظّفين في هذه المؤسّسات والدوائر، بل عملهم يهدف إلى النظارة على الامور المتعلّقة بأداء العمل والوظيفة الاجتماعية ورعاية مصالح الامّة، فلو أنّه تمّ الاستغناء عن هذه الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 319

المنظمات الاستخباراتية وتعطيل أعمالها فيمكن أن يستشري الفساد والخلل في مؤسّسات المجتمع الكبيرة وإداراته المهمّة.

ومن الواضح أنّ هذه المسألة لا تختص بزمان ومكان معيّن بل كانت موجودة منذ قديم الأيّام وفي مناطق مختلفة من العالم.

وأمّا الفرق بين الأجهزة الأمنيّة وهذه المنظّمات التحقيقية فهو أنّ الأجهزة الأمنيّة تعمل في الخفاء لرصد أعمال المتآمرين على أمن الوطن والشعب ولكنّ المنظمات التحقيقية تعمل بوضح النهار وتدرس الحالات المشكوكة وتتفحّص عن ما يثير الريبة والخلاف كيما تكشف عن السلوكيات الخاطئة لدى الموظّفين والمدراء والعمّال وتسلّمهم إلى العدالة.

3- التجسّس في المسائل المصيرية

يحق لمن يريد أن يختار له زوجة في حياته أو يسعى للعثور على شريك في أعماله التجارية أو موظّف يشتغل في منصب حسّاس في مؤسّسة معيّنة ولا يتمكن من تحقيق ذلك بدون سلوك التجسّس والتحقيق في هذه المسألة والكشف عن زواياها الخفيّة، فالعقل والشرع يبيحان له أن يتفحّص في أحوال هؤلاء الأشخاص من أصدقائهم وأقربائهم وأرحامهم أو يتحرّك بنفسه لمراقبة حالاتهم وأوضاعهم من بعيد لكي يحصل له الاطمئنان بصلاح هذا الشخص وأنّه مناسب لهذا الغرض الذي يسعى إليه.

ومن المعلوم أنّ مثل هذا التحقيق والتفحّص خارج عن دائرة التجسّس الحرام، ولكن لا ينبغي

اطلاقاً أن يجعل ذلك ذريعة للتدخل إلى حريم الحياة الخاصة للأفراد، فلو أنّه لم يصمم فعلًا على الزواج من تلك المرأة أو يستخدم الشريك الفلاني فلا يجوز له بهذه الذريعة أن يتجسّس على أحوالهم ولكنّه يبرّر عمله هذا بالقول بأنّه يمكن أن تحصل لديه حاجة يوماً من الأيّام لمثل هذه المعلومات التي اكتسبها عن طريق التجسّس، فمثل هذه التبريرات الشيطانية لا يمكن أن تعتبر مجوّزاً للتعدّي على حدود الشرع وارتكاب الحرام.

والخلاصة أنّ كلّ شكل من أشكال الافراط والتفريط في هذه المسألة يتسبب في الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 320

الانحراف عن تعاليم الإسلام الأصلية، وبعبارة اخرى: أنّه لا يمكن الابتعاد عن التجسّس والفحص والتحقيق في امهات المسائل الاجتماعية والضرورات الحياتية للمجتمع بسبب حرمة التجسّس وبالتالي تتعرّض مصالح الامّة للخطر ومؤامرات الأعداء، ولا يمكن كذلك تعريض مصالح الامّة للخطر من جهة التدخل في خصوصيات الحياة الفرديّة للأشخاص التي لا ترتبط من قريب أو بعيد بالمصالح العامة وبذريعة جواز التجسّس في دائرة الاستثناء، فكلا هذين الأمرين خارج عن حدود الحق والعدالة وبعيد عن مفاهيم الإسلام.

طرق العلاج:

وما لم يتحرّك الإنسان في طريق إزالة جذور هذه الحالة الذميمة من واقع النفس والقضاء على أسبابها ودوافعها فإنّ تركها والابتعاد عنها سيكون عسيراً للغاية، وعليه فمن أراد التحرّك على مستوى تهذيب النفس وتطهيرها من هذه الصفة الذميمة يجب عليه أولًا الابتعاد عن سوء الظن (وفق ما ذكرنا في الأبحاث السابقة) لأنّ سوء الظن يدفع الإنسان دائماً إلى الفحص والبحث عن أحوال الطرف الآخر الذاتية، وكذلك الحسد والحقد والعداوة والتكبّر كل واحدة منها يمكنها أن تكون عاملًا من عوامل التجسّس على الامور الخاصة بالآخرين بحيث أنّ الإنسان لو سعى لقلع عناصر الشر هذه

من وجوده وقلبه فإنّ التجسّس سيزول بالتبع.

والعامل الآخر (عقدة الحقارة) والتلّوث بالذنب الذي يدعو الإنسان إلى أن يتصوّر الآخرين مثله ليكون مصداقاً للمثل الشائع «البلية إذا عَمَّتْ طابَتْ» وليحصل من ذلك على راحة نفسية كاذبة تدغدغ عواطفه وتسكّن من وخز ضميره، فلو سعى الإنسان لتطهير نفسه من هذا التلّوث وهذه العقدة، فإنّه لا يجد في نفسه حاجة للتفتيش والفحص عن حالات الآخرين الخصوصية.

ومضافاً إلى ذلك فإنّ كل شخص يجب أن يفكّر في هذه الحقيقة، وهي هل أنّه يرضى للآخرين أن يتدخّلوا في حياته واموره الخاصة ويكشف عن أسراره؟ فلو أنّه لم يرض عن الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 321

ذلك فلماذا يجد في نفسه الرغبة للتدخل في حياة الآخرين الخصوصية والتجسّس عليهم والكشف عن أسرارهم؟ هذه المقارنة وعملية استنطاق الذات للحكم في هذه المسألة يمكنها أن تمثّل رادعاً قوياً للإنسان، وكذلك الإلتفات إلى الآثار السلبية والنتائج السيئة للتجسّس على مستوى الحياة الفردية والاجتماعية وشدّة العقاب الإلهي في الدنيا والآخرة، وأنّ كلّ شخص يسعى لإذاعة أسرار الآخرين والكشف عن خباياهم فإنّ اللَّه تعالى سيكشف عيوبه وأسراره على الملأ ويزيل ستره عن هذا الإنسان في الدنيا والآخرة، فمثل هذه الامور يمكنها أن تخلق أثراً نفسياً قوياً يمنع الإنسان من التورّط في هذه الخطيئة.

ولكن المهم والضروري ليس في علاج هذه الخصلة الأخلاقية فحسب بل في الصفات والخصال السلبية الاخرى، وهو ضرورة تكرار العمل المانع عن ارتكاب هذه الرذيلة، فيطالع ما ذكرناه آنفاً من الآثار السلبية والعقوبات الإلهية والدوافع الشريرة لهذه الحالة الذميمة ويكرّرها مرّات عديدة لتحصل له بذلك حالة زاجرة ورادعة بإمكانها أن تقلع جذور هذا المرض من قلبه وتحلّي الروح والنفس بأنوار الفضيلة والهدوء والاستقرار.

حفظ السِّر وإفشائه:

هذه المسألة في

الحقيقة تعدّ تكملة للأبحاث السابقة، أو بعبارة اخرى، يمكن أن نضع حفظ السر وإفشاءه بعنوان فضيلة أخلاقية للأول ورذيلة بالنسبة إلى الثاني ودراستهما بشكل مستقل، ويمكن أن نضعهما ضمن بحث التجسّس ولكونه مسألة من مسائل موضع التجسّس وداخل في إطار هذا الموضوع.

وعلى أيّة حال فإنّ تعريف حفظ السر أنّ الكثير من الناس لديهم أسرار خفيّة على الناس سواء كانت حسنة أو سيئة، فلو اذيعت على الملأ فإنّهم يتعرّضون للخسارة والضرر، مثلًا إذا كان الشخص ذا مكانة اجتماعية كبيرة ومنزلة قويّة في المجتمع ولكن بسبب غلبة الوساوس الشيطانية ارتكب بعض الذنوب الكبيرة، وقد علم بذلك شخص أو عدّة أشخاص الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 322

من الناس، فلو أنّ هذا السر اذيع على الناس وعلم به الآخرون فانّ ذلك من شأنه أن يهدد شخصيته الاجتماعية ومكانته المرموقة بالسقوط، ولذلك فإنّه يطلب من ذلك الشخص أو الأشخاص الذين علموا بهذا السر أن يتحرّوا إخفاءه ويجتنبوا إذاعته للناس.

أو أنّه يقوم بعمل صالح ونافع للناس ولكن إذا علم الناس بذلك وفهموا ما لهذا الإنسان من مقامات عالية وأخلاق سامية فمن الممكن أن تزداد فيهم حالة التمجيد والثناء تجاه هذا الشخص وبالتالي تتعرّض نيّته الخالصة إلى التزلزل والتلّوث أو يبتلى بالعجب والغرور، ولذلك فانّه يطلب من هذا الفرد أو الأفراد الذين علموا بصدور هذا الفعل الحسن منه أن يكتموا عليه هذا السر ولا يذيعوه للناس.

أو أنّه يقوم بعمل مهم على المستوى الاقتصادي ولكن لو علم بذلك منافسوه في السوق فإنّ منافعه ومصالحه المادية تتعرض للخطر، ولذلك يطلب من الشخص الذي علم بذلك أن يكتم عليه هذا العمل ولا يفشي سرّه على الناس، وعليه فإنّ مسألة حفظ السر لا تختص في الذنوب

والرذائل الأخلاقية بل قد تتعدّى إلى الفضائل المعنوية أو المنافع والمصالح المادية المهمّة، وبكلمة واحدة فإنّ حفظ السر يتعلّق بالأسرار التي إذا اذيعت فسوف تسبب الضرر والخسارة على صاحبها، سواء كان هذا السر يتعلّق بشخص خاص أو بالمجتمع الإسلامي.

وقد لا نجد في الآيات القرآنية الكريمة ما يدلّ بصراحة على ضرورة حفظ السر أو قبح إفشاء السر، وبالطبع فإنّ كلمة (السر) وردت في القرآن الكريم مرّات عديدة ولكن ليس واحد منها يرتبط ببحثنا الحاضر، بل في الغالب تتضمّن علم اللَّه تعالى بجميع الأسرار وخفايا الامور، وبعبارة اخرى: إنّها تحكي عن سعة علم اللَّه تعالى، ومع الأسف فاننا نرى بعض الكتّاب الإسلاميين بدون الإلتفات إلى مضمون هذه الآيات تصوّروا أنّها تتحدّث عن مسألة حفظ السر.

هذا ولكن وردت في القرآن الكريم تعبيرات اخرى تدل على موضوعنا بالأدلة الالتزامية وتتضمّن مدح فضيلة حفظ السر أو اقبح إفشاء السر، ومن ذلك:

1- ما ورد في الآية 16 من سورة التوبة: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 323

جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ».

فهذه الآية تخاطب المسلمين بأنّ يحفظوا أسرارهم عن الأشخاص الذين لا يثقون بهم ولا يطمئنون إليهم، بل يكشفوا أسرارهم إلى من يطمئنوا إليهم ويثقوا بهم، ومفهوم هذه الآية الشريفة هو أنّ حفظ السر يعتبر فضيلة من الفضائل الأخلاقية بخلاف إفشاء السر الذي يعدّ رذيلة في المقابل.

2- ونقرأ في الآية 118 من سورة آل عمران قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَايَأْلُونَكُمْ خَبَالًا».

(بطانة) لها مفهوم يماثل مفهوم كلمة (وليجة) فكليهما معنيان محرم الأسرار وأنّ اللَّه تعالى يخاطب جميع المؤمنين

ويقول مؤكّداً عليهم أن لا يجعلوا غير المسلمين محرم أسرارهم، فهو في الواقع إشارة إلى لزوم حفظ الأسرار والذم لمن يعمل على إفشاء السر، غاية الأمر أنّ هذه الآية والآية التي قبلها ليست ناظرة للأسرار الخاصة والشخصية، بل ناظرة إلى أسرار المجتمع الإسلامي التي يمثل إفشاؤها للأعداء ضربة كبيرة للمسلمين.

وقد يتصوّر أنّ الآية 83 من سورة النساء التي تقول: «وإذا جاءَهُم أَمرُ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ».

أنّ اللَّه تعالى في هذه الآية الشريفة يتحدّث عن المنافقين أو بعض الأشخاص الذين يعيشون ضعف الإيمان واهتزاز العقيدة ويذمّهم على أنّه إذا وصل إليهم خبر انتصار المسلمين أو هزيمتهم في ميدان القتال أذاعوا هذا الخبر ونشروه بين الناس.

ولكن ذيل الآية يدلّ على أنّها ناظرة إلى إشاعة الشائعات الواهية أو المشكوكة لأنّها تقول بعد ذلك: «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمْ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا» «1».

والتعبير بالأمن أو الخوف الوارد في هذه الآية هو إشارة إلى أنّ الأعداء أحياناً يشيعون الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 324

أخباراً تتعلق بانتصار المسلمين لكي تضعف فيهم الرغبة في القتال والجهاد، وأحياناً يبثّون الشائعات التي تتحدّث عن هزيمة المسلمين ليدّب اليأس في قلوبهم، القرآن الكريم يحذّر المسلمين هنا عن تصديق هذه الشائعات لكي لا تؤثر خطط الأعداء ومؤامراتهم في نفوسهم فلا يصلوا إلى مقاصدهم من تضعيف معنويات المسلمين.

وبالطبع فإنّ القرآن الكريم في مورد زوجات النبي ولزوم حفظ السر تحدّث بالتفصيل في سورة التحريم التي تعرّضت إلى بعض أزواج النبي من موقع الذم والتوبيخ الشديد لأنّهن قصّرن في حفظ أسرار بيت النبي صلى الله عليه و آله قالت: «وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِىُّ إِلَى بَعْضِ

أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ* إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ» «1».

أمّا ما هو السر الذي أذاعته بعض زوجات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله فهناك بحوث مفصّلة بين المفسّرين يطول إيرادها وذكرها في هذا المقام ويمكن للقاري ء الكريم أن يرجع إلى التفسير الأمثل ذيل هذه الآية 3 و 4 من سورة التحريم.

المورد الآخر الذي تحدّث القرآن الكريم فيه عن حفظ السر (وطبعاً بالإشارة لا بالتصريح) هو في مورد قصّة أبولبابة الذي إستشاره بنو قريضة (وهم قبيلة من اليهود الذين كانوا يكيدون للمسلمين ويتآمرون عليهم بشدّة) وهل أنّهم سيتسلمون لحكم النبي الأكرم صلى الله عليه و آله؟ فأشار إليهم أبو لبابة على رقبته بالذبح، أي أنّكم لو استسلمتم للنبي فإنّه يأمر بقتلكم جميعاً، ثمّ أنّه ندم على ذلك أشدّ الندم وأدرك أنّه ارتكب خيانة كبيرة للمسملين، فما كان منه إلّاأن ربط نفسه بأحد اسطوانات المسجد وتاب من فعلته هذه فتاب اللَّه عليه، ونزلت الآية 72 من سورة التوبة تعلن قبول توبته حيث تقول الآية: «وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ».

وكلمة (آخرون) إشارة إلى أنّ محتوى هذه الآية لا يتعلّق بشخص خاص أو فرد معيّن،

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 325

بل يستوعب جميع الذين ارتكبوا بعض الذنوب وانطلقوا من موقع الندم وجبران هذا النقص وتابوا توبة صالحة وصادقة.

هذا ما يتعلّق بمجموع الإشارات الواردة في آيات القرآن الكريم بالنسبة إلى مسألة حفظ

السّر وإفشائه.

حفظ السِّر في الروايات الإسلاميّة:

ونجد في الروايات الإسلامية تعبيرات مختلفة وكثيرة فيما يتعلّق بحفظ السر وضرورة الالتزام بعدم إفشائه وإذاعته ممّا يدلّ على إهتمام الإسلام بهذا الموضوع حتى أنّه قرّر أنّ أسرار الآخرين بمنزلة الأمانة لدى الشخص وإفشائها يعني الخيانة للأمانة:

1- ما ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إِذا حدَّثَ الرَّجُلُ الحَدِيثَ ثُمَّ إلتَفَتَ فِهي أَمانَةٌ» «1».

هذه الالتفاتة تعني أنّه لا يريد أن يسمعه آخر، فحينئذٍ يكون إفشاء هذا السرّ بمثابة الخيانة بالأمانة.

2- ونقرأ في حديث آخر عن أميرالمؤمنين عليه السلام قوله: «مَنْ أَفشى سرَّاً إِستَودَعَهُ فَقَدْ خانَ» «2».

3- وفي حديث آخر عن الإمام عليه السلام أيضاً أنّه قال: «مَنْ كَشَفَ حَجابَ أَخِيهِ إِنكَشَفَ حَجابَ بَيتِه» «3».

4- ونقرأ في حديث آخر عن أميرالمؤمنين عليه السلام قوله: «جُمِعَ خَيرَ الدُّنيا وَالآخِرَةِ فِي كُتمانِ السِّرِّ وَمُصادَقَةُ الأَخيارِ وَجُمِعَ الشَّرِّ فِي الاذاعَةِ وَمُواخاةُ الأَشرارِ» «4».

وطبعاً فإنّ كتمان السر يمكن أن يكون إشارة إلى كتمان سر الإنسان نفسه، ولكنّ اطلاق الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 326

العبارة يدلّ على شمول الحديث لكتمان الأسرار الذاتية التي تتعلّق بالآخرين.

أقسام حفظ السِّر:

لحفظ السّر أقسام متعددة منها:

1- حفظ أسرار الآخرين.

2- حفط أسرار النفس.

3- حفظ أسرار أولياء الدين.

4- حفظ أسرار النظام والحكومة الإسلامية.

أمّا ما ورد في الروايات المذكورة آنفاً فإنّه يتعلّق بحفظ أسرار الآخرين، ولكن هناك روايات واردة في حفظ أسرار النفس أيضاً حيث توصي المسلمين بحفظ أسرارهم الخاصة في حياتهم الفردية، لأنّه قد تكون إذاعتها وإفشائها سبباً لإثارة عناصر الحسد والحقد والمنافسة غير المنصفة، وبالتالي يقع الإنسان مورد عدوان الأشخاص الذين يعيشون الحقد وضيق الافق وتتعرّض مصالحه إلى خطر كما نقرأ فيما يلي نماذج لهذه الروايات:

1- ما ورد في الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين عليه

السلام أنّه قال: «سِرُّكَ سُرُورُكَ إِنْ كَتَمتَهُ وإِنْ أَذَعَتَهُ كانَ ثُبُورَكَ» «1».

2- ويقول عليه السلام في حديث آخر: «سِرُّكَ أَسِيرُكَ فَإنْ أَفشَيتَهُ صِرتَ أَسِيرَهُ» «2».

3- ونقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام عليه السلام قوله: «صَدرُ العاقِلِ صُندُوقِ سِرِّهِ» «3».

4- ونقرأ في حديث شريف عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: «سِرُّكَ مِنْ دَمِكَ فَلا يَجرِينَ فِي غَيرِ أَودَاجِكَ» «4».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 327

5- وجاء في حديث عميق المعنى عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام أنّ المؤمن لا يكون مؤمناً إلّاإذا توفّرت فيه ثلاث خصال: «فَسُنَّةٌ مِنْ رَبِّهِ كِتمانُ سِرِّهِ قالَ اللَّهُ تَعالى

عالِمُ الغَيبِ فَلا يُظهِرُ عَلى غَيبِهِ أَحَداً إلّامَنِ ارتَضى مِنْ رَسُولٍ» «1».

ونقرأ في بعض الروايات أيضاً أنّها توصي بحفظ الأسرار وعدم إذاعتها حتى لأقرب المقرّبين من الأصدقاء، لأنّه يمكن أن تتغيّر الظروف والأيّام وينقلب الصديق إلى عدو وبالتالي سوف يتحرّك على مستوى إذاعة هذه الأسرار وإفشائها.

ويقول الإمام الصادق عليه السلام: «لا تَطَّلِع صَدِيقَكَ مِنْ سِرِّكَ إِلّا عَلى ما لَو اطَّلَعتَ عَلَيهِ عَدُوَّكَ لَمْ يَضُرُّكَ فَإنَّ الصَّدِيقَ قَد يَكُونَ عَدُوُّاً يَوماً ما» «2».

أمّا في مورد إفشاء أسرار أولياء اللَّه تعالى والأئمّة المعصومين عليهم السلام فقد وردت روايات مهمّة جدّاً تؤكّد بشدّة على كتمان هذه الأسرار.

وهذه الأسرار يمكن أن تكون إشارة إلى المقامات المعنوية المهمّة للمعصومين بحيث أنّ الأعداء إذا اطّلعوا عليها حملوا ذلك على محمل الغلو وكان ذلك ذريعة بيدهم لتكفير الشيعة أو تضعيفهم أو القضاء عليهم في حين أنّها ليست من الغلو بل هي مقامات موافقة للقرآن الكريم وللسنة النبوية.

أو هي إشارة إلى أسرارهم بالنسبة إلى العمل في نشر مذهب أهل البيت في المناطق المختلفة من البلاد الإسلامية حيث يثير

هذا الموضوع حساسية المخالفين فيزدادوا تعصّباً ويعملوا على منع هذه الأعمال والنشاطات الدينية.

أو أنّها إشارة إلى زمن الظهور للإمام القائم عليه السلام من أهل البيت عليهم السلام كما وردت الإشارة إلى ذلك في بعض الروايات الشريفة وأنّ بعض الأئمّة المعصومين عليهم السلام عزم على القيام بوجه الحكومات الظالمة في ذلك الزمان، ولكن بما أنّ بعض الشيعة أذاعوا أسرار هذه النهضة فإنّ ذلك أدّى إلى فشلها وإجهاضها، وقد وردت الإشارة إلى ذلك في بعض الروايات التي تحثّ الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 328

الشيعة على كتمان أسرار المعصومين عليهم السلام ومن ذلك:

1- ما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «إِذا تَقارَبَ هذا الأَمرُ كانَ أَشَدُّ لِلتَّقِيَّةِ» «1».

2- ونقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام عليه السلام قوله: «مَنْ أَفشى سِرَّنا أَهلَ البَيتِ أَذاقَهُ اللَّهُ حَرَّ الحَدِيدِ» «2».

3- ونقرأ أيضاً في حديث آخر عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام أنّه قال لأحد أصحابه:

«آمُرُكَ أَنْ تَصُونَ دِينَكَ وَعِلمَنا الَّذِي أَودَعناكَ وَأَسرارنا الَّذِي حَمَلناكَ فَلا تُبدِ عُلُومَنا لِمَنْ يُقابِلُها بِالعَنادِ ... ولا تُفشِ سِرَّنا إِلى مَنْ يَشِيعُ عَلَينا عِندَ الجاهِلِينَ بِأَحوالِنا» «3».

ويستفاد من هذا الحديث الشريف أنّ إذاعة أسرار الأئمّة المعصومين عليهم السلام أمام أهل الحق ومن يتحرّك في سبيل طلب الهداية والحق فإنّه لا بأس به ولا مندوحة منه، ولكنّ المنع الوارد في الروايات يختصّ باذاعتها للأشخاص الذين يعيشون العناد والحقد وأنّهم لو سمعوا بمقامات أهل البيت وفضائلهم وعلومهم فإنّهم سيجدون في أنفسهم الحسد وتتحرّك فيهم البغضاء فيتكلّمون بكلمات غير مسؤولة ويثيرون المصاعب والمشكلات أمام أتباع أهل البيت عليهم السلام.

4- ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: «إِمتَحِنوا شِيعَتَنا عِندَ ثَلاثٍ:

عِندَ مَواقِيتِ الصَّلاةِ كَيفَ مُحافَظَتَهُم عَلَيها، وعِندَ أَسرارهِم كَيفَ حِفظُهُم لَها عَنْ عَدُوِّنا وَإِلى أَموالِهِم كَيفَ مُواساتِهِم لإِخوانِهِم عَلَيها» «4».

5- وورد في حديث شريف عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «ما قَتَلَنا مَنْ أَذاعَ حَدِيثَنا قَتلَ خَطاءٍ وَلَكِن قَتَلَنا قَتلَ عَمدٍ» «5».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 329

6- وفي الحقيقة أنّ الكثير من المشكلات والمصاعب التي واجهها الأئمّة المعصومين عليهم السلام وتعرّضوا بالتالي إلى الوقوع في أسر الظالمين والأعداء بسبب أنّ بعض أفراد الشيعة لم يكونوا ملتزمين بالانضباط في كلماتهم وأحاديثهم فكانوا يتحدّثون عن فضائل أهل البيت عليهم السلام ومناقبهم أو عن رذائل أعدائهم ونقاط ضعفهم ويذيعونها إلى القريب والبعيد، فتصل إلى أسماع الحكّام والامراء فتؤدّي إلى مضاعفة عمليات التضييق والارهاب في حق أهل البيت عليهم السلام وقد تفضي إلى قتلهم على يد حكومات الجور، وكذلك في إذاعة الأخبار التي تتحدّث عن قائم أهل البيت عليه السلام وانتقامه من الأعداء والتي تورث هؤلاء الاعداء الخوف والوحشة، فيتحرّكون في المقابل بالانتقام من أهل البيت عليهم السلام.

7- وجاء في حديث آخر بهذا المضمون ولكن بصياغة جديدة عن هذا الإمام أيضاً في تفسير الآية الشريفة: «وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ» «1»، قال: «أَما وَاللَّهِ ما قَتَلُوهُم بِأَسيافِهِم وَلَكن أَذاعُوا سِرَّهُم وَأَفشَوا عَلَيهِم فَقُتِلُوا» «2».

8- ونقرأ في حديث آخر عن المفضّل بن عمر قال: دخلت على أبي عبداللَّه عليه السلام يوم صلب فيه المعلى فقلت له: يا ابن رسول اللَّه ألا ترى هذا الخطب الجليل الذي نزل بالشيعة في هذا اليوم؟ قال: وما هُو؟ قال: قلت: قَتلُ المُعلى بن خُنيس، قال: «رَحِمَ اللَّهُ المُعلَّى قَد كُنتُ أَتَوقَّعُ ذِلِكَ أَنّهُ قَد أَذاعَ سِرَّنا، وَلَيسَ النَّاصِبُ لَنا حَرباً بِأَعظَمَ مَؤونَةً عَلَينا مِنَ

المُذِيعُ عَلَينا سِرَّنا» «3».

وعلى أي حال فإنّ حفظ أسرار أئمّة أهل البيت عليهم السلام، وبشكل عام حفظ أسرار المذهب من المسائل المسلّمة التي لا ينبغي الترديد فيها، لأنّ هذه الأسرار إذا اذيعت ووصلت إلى أيدي الأعداء فسوف يتحرّك فيهم عنصر الحسد بالنسبة إلى فضائل أهل البيت عليهم السلام ومناقبهم، فيسعون إلى التصدّي لنشاطات الأئمّة في الدائرة الاجتماعية والتربوية والثقافية ويجهضوا أي عمل نافع للُامّة، ولهذا السبب ورد التأكيد في الروايات الشريفة على حفظ هذه الأسرار.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 330

والقسم الأخير من حفظ السر هو المحافظة على الأسرار العسكرية والسياسية للدولة الإسلامية، ووجوبه من البديهيات، ولهذا نجد أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إهتمّ بهذا الأمر غاية الاهتمام، وأوصى كذلك أصحابه بالمحافظة على هذه الأسرار أيضاً، والكثير من الأنتصارات التي حققّها المسلمون على أعدائهم من المشركين واليهود وقوى الانحراف الاخرى كان بسبب الالتزام والانضباط في هذه المسألة الدقيقة، فمثلًا نقرأ في قصّة فتح مكّة أنّه لو أنّ تلك المرأة (سارة) كانت قد وصلت إلى مكة وأخبرت المشركين بما يعدّه النبي الأكرم صلى الله عليه و آله والمسلمون من الجيوش والقوى العسكرية لفتح مكّة، فمن الطبيعي أنّ فتح مكة لا يتيسّر للمسلمين بتلك السهولة، وقد تراق في سبيل ذلك الكثير من الدماء من الطرفين، ولكن تأكيد النبي الأكرم صلى الله عليه و آله على حفظ الطرق وارساله من يعيد هذه المرأة النمامة تسبب في أن يصل جيش الإسلام إلى أسوار مكة بدون أيّة صعوبة وبسرعة فائقة حتى أنّ المشركين انبهروا وتخاذلوا لما تفاجئوا من قوة الإسلام وسرعة المبادرة وعملية المباغتة لهم واستسلموا جميعاً.

ونقرأ في الروايات الإسلامية إشارات إلى هذه المسألة أيضاً بتعبيرات عميقة المغزى،

ومن ذلك:

1- ما ورد عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «الظَّفَرُ بِالحَزمِ بِإجالَةِ الرَّأَي، وَالرَّأي بِتَحصَينِ الأَسرارِ» «1».

2- وورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَيَّرَ قَوماً بِالإِذاعَةِ فَقَالَ: إِذا جاءَهُم أَمرٌ مِنَ الأَمنُ أو الخَوفِ أَذاعُوا بِهِ، فَإِيَّاكُم وَالإِذاعَةِ» «2».

3- ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الباقر عليه السلام قوله: «إِظهارُ الشَّي ءِ قَبلَ أَنْ يَستَحكُمَ مَفسَدَةٌ لَهُ»»

، لأنّ المخالفين عندما يطلعون عليه فربّما تحركوا في سبيل المنع من تحقيقه ونجاحه.

معطيات حفظ السّر وإفشائه:

إنّ جميع الناس في حياتهم الخصوصية لديهم بعض الأسرار المتعلّقة بنقاط ضعفهم وعيوبهم، وأحياناً يتعلق بموفقيّاتهم وأعمالهم الإيجابية، ومن المعلوم أنّ إفشاء ما يتعلّق بنقاط الضعف والعيب يؤدّي إلى سقوط إعتبار وحيثيّة هؤلاء في نظر الناس، وقد يفضي إلى سلب الثقة منهم وسقوطهم الاجتماعي وإراقة ماء وجههم، ولهذا السبب نراهم يحرصون على التكتم على تلك الأسرار لتتسنّى لهم الفرصة لإصلاح تلك المعايب وجبران نقاط الضعف في واقعهم.

أَمّا إفشاء ما يتعلّق بنقاط القوّة والصفات الإيجابية فإنّه من شأنه أن يسعر نار الحسد في قلب الحسّاد ويعمل على تحريك عناصر الشر في قلوب البخلاء وأصحاب الشخصيّات الهزيلة والمعقدة، وعلى أيّة حال فإنّه سيكون مصدر الشر والفساد والشقاء على المستوى البعيد، ولهذا قد يحرص بعض الناس على التحفّظ من الكشف عن هذه الموفقيّات والإيجابيات في واقعهم.

ولذا ورد في الحديث الشريف عن الإمام الكاظم عليه السلام أنّه قال: «إن كانَ فِي يَدِكَ هذِهِ شَي ء فإنْ استَطَعتَ أَنْ لاتَعلَم هِذِه فافعَل؛ قَالَ: وَكَانَ عِندَهُ إنسان فَتَذاكَرُوا الإذاعَةَ، فَقَالَ:

اِحفَظ لِسانَكَ تُعِزَّ، ولا تُمَكِّن النَّاسَ مِنْ قِيادِ رَقَبَتِكَ فَتَذِّلَ» «1».

والملفت للنظر أنّ الإمام عليه السلام قال في بداية هذا الحديث: «إِنْ كانَ فِي

يَدِكَ هذِهِ شَي ءٌ فِإنْ إِستَطعتَ ألّا تُعلَمَ هذِهِ فَافعَل» «2».

ومن هنا يتّضح أنّه إذا علم الإنسان بخبر مكتوم للآخر وانكشف له سر من أسراره فإنّ ذلك يعدّ أمانة لديه، فلو أذاعه فإنّه قد خان الأمانة وتسبب في أن يقع الطرف الآخر في دوامة من المشكلات والأضرار الكبيرة أو يؤدّي إلى أن يتعرّض إلى الخطر في شخصيته الاجتماعية ومكانته في الناس أو يؤدّي إلى تفعيل عناصر الشر لدى الحسّاد والبخلاء

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 332

وأصحاب النفوس الضيقة، أو يطمع الاراذل والأوباش في ماله وعرضه.

ولذا ورد في الأحاديث السابقة أنّ الإمام قال: «سِرُّكَ سُرُورُكَ إِنْ كَتَمتَهُ وإِنْ أَذَعَتَهُ كانَ ثُبُورَكَ» «1».

وعليه فلابدّ للإنسان أن يحفظ أسراره مهما أمكن ولايذيعها إلى الآخرين، وبعبارة اخرى: أن يجعل صدره صندوق أسراره، فلو اضطر في مورد معيّن أو إتفق له أن اطلع على سرّ من أسرار أخيه المؤمن فإنّه يجب عليه أن يسعى لحفظه ولا يرتكب الخيانة في حق أخيه المؤمن.

أمّا بالنسبة إلى إفشاء أسرار المذهب أمام المتعصّبين والحاقدين الذين لا يتحمّلون سماع الرأي الآخر ولا يرون أي فكر حقّاً غير فكرهم القاصر فكذلك، وخاصة بالنسبة إلى فضائل الأئمّة المعصومين عليهم السلام التي لا يطيق سماعها الأعداء المعاندين والحاسدين، وهكذا الحال بالنسبة إلى حفظ الأسرار السياسية والعسكرية للبلد الإسلامي حيث يؤدّي إذاعتها إلى تعرّض مصالح الامّة ومصير النظام الإسلامي إلى الخطر أو يتسبب في إراقة الكثير من الدماء البريئة وتلف الثروات الطائلة أو هتك الشخصيّات المرموقة في المجتمع الإسلامي، ولذلك فإنّ حفظ هذه الأسرار يعدّ من أهمّ الوظائف الدينية، وفي المقابل فإنّ إفشاء هذه الأسرار يعدّ من أقبح الرذائل الأخلاقية ويترتّب عليه عقوبة شديدة، ولهذا السبب قرأنا في الأحاديث السابقة أنّ

الإمام الصادق عليه السلام يقول: «ما قَتَلَنا مَنْ أَذاعَ حَدِيثَنا قَتلَ خَطاءٍ وَلَكِن قَتَلَنا قَتلَ عَمدٍ» «2».

وقد أورد العلّامة المجلسي في بحار الانوار حديثاً جذّاباً حيث يقول ما خلاصته:

«دخل على أميرالمؤمنين عليه السلام رجلان من أصحابه فوطى ء أحدهما على حيّة فلدغته ووقع على الآخر في طريقه من حائط عقرب فلسعته وسقطا جميعاً فكأنّهما لما بهما يتضرّعان ويبكيان، فقال لهما أميرالمؤمنين عليه السلام:

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 333

«ما اصِيبَ وَاحدٌ مِنكُما إِلّا بِذَنبِهِ.

أَمّا أَنتَ يا فُلان- وَأقبل على أحدهما- أَتَذكُر يَومَ غَمَزَ عَلى سَلمانِ الفارِسي فُلان وَطَعَنَ عَلَيهِ لِموالاتِهِ لَنا فَلم يَمنَعُك مِنَ الرَّدِّ وَالإِستخفَافِ بِهِ خَوفاً عَلى نَفسِكَ وَلا عَلى أَهلِكَ وَلا عَلَى وُلدِكَ وَمالِكَ أَكثَرَ مِن أَنْ استَحييتَهُ، فَلِذلِكَ أَصابَكَ.

فإنْ أَرَدتَ أَنْ يُزِيلَ اللَّهُ ما بِكَ فاعتَقِد أَنْ لاتَرى مرزئاً عَلَى وَلَّيٍّ لَنا تَقدَرُ عَلَى نُصرتِهِ بِظَهرِ الغَيبِ إلّانَصَرتَهُ، إلّاأَنْ تَخافَ عَلَى نَفسِكَ وَأَهلِكَ وَوُلدِكَ وَمالِكَ.

وَقالَ للآخَر: فَأَنتَ أَتَدرِي لِما أَصابَكَ ما أَصابَكَ؟

قال: لا.

قَالَ عليه السلام: أَما تَذكُر حِيثُ أَقبَلَ قَنبَرَ خادِمِي وَأَنتَ بِحضرَةِ فُلانَ العاتِي فَقُمتَ إِجلالًا لَهُ لإجلالِكَ لِي؟

فَقالَ لَكَ: أَوَ تَقُومُ لِهذا بِحضرَتِي؟

فَقُلتَ لَهُ: وَما بالِي لاأَقُومُ وَمَلائِكةُ اللَّهِ تَضَعُ لَهُ أَجنِحَتِها فِي طَريقِهِ، فَعلَيها يَمشِي، فَلَمّا قُلتَ هذا لَهُ، قَامَ إِلى قَنبَرَ وَضَرَبَهُ وَشَتَمَهُ وَآذاهُ وَتَهَدَّدنِي وَأَلزَمَنِي الإغضاءَ عَلىَ قَذى فَلِهذا سَقَطتْ عَلَيكَ هذِهِ الحَيَّةُ.

فَإنْ أَردتَ أَنْ يُعافِيكَ اللَّهُ تَعالى مِنْ هذا فاعتَقِد أَنْ لاتَفعَلَ بِنا وَلا بِأَحدٍ مِنْ مَوالينا بِحضَرةِ أَعدائِنا ما يُخافُ عَلينا وَعَليهِم مِنهِ» «1».

وكذلك نقرأ ما ورد في التواريخ الإسلامية أنّ بعض قادة الإسلام اعدموا الجواسيس بسبب أنّ عملهم يؤدّي إلى سفك الدماء البريئة ولذلك حكموا بقتلهم وإعدامهم.

الضرورات:

أحياناً تدفع الحاجة أو الضرورة الإنسان إلى

إخبار الآخر بسرّه، ففي هذه الموارد يجب الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 334

على هذا الإنسان أن يختار لذلك الشخص الأمين العاقل ليضع عنده سرّه كما قال الإمام علي عليه السلام: «مَنْ أَسَرَّ إِلى غَيرِ ثِقَةٍ فَقَد ضَيَّعَ أَمرَهُ» «1».

وحتى أنّ الإمام أوصى في حالة الضرورة وعندما يريد الإنسان أن يودّع سرّه عند أخيه المؤمن أن يتلقى في المقابل سرّاً من ذلك الشخص لكي يكون بمثابة الضمانة لحفظ سرّه حيث يقول: «لا تَضع سرِّكَ عِندَ مَنْ لاسِرَّ لَهُ عِندَكَ» «2».

ويجب الانتباه إلى أنّ الأشخاص الذين لا يعيشون الانضباط في حفظ أسرارهم فإنّهم لا يليقون بالثقة والاعتماد لحفظ أسرار الآخرين، فينبغي الاجتناب عن وضع السرّ عندهم.

يقول أميرالمؤمنين عليه السلام في هذا المجال: «مَنْ ضَعُفَ عَنْ حِفظِ سِرِّهِ لَم يُطِق سِرَّ غَيرِهِ» «3».

دوافع إفشاء السّر وعلاجها:

إنّ هذه الرذيلة الأخلاقية تنشأ من دوافع ونقاط ضعف مختلفة منها:

1- إنّ الشخص الحسود يسعى لإفشاء أسرار الطرف الآخر لتوجيه ضربة إلى نقاط قوّته وشخصيته بين الناس، ويسعى لذلك لإراقة ماء وجهه أو تهديد مصالحه الدنيوية والمادية.

2- إنّ الأشخاص الذين يعيشون الحقد والعقدة تجاه الآخرين فإنّهم يسعون أيضاً ولغرض الانتقام من الطرف الآخر وارضاء دافع الحقد في نفوسهم إلى إفشاء أسرار الآخرين.

3- ومن الدوافع الاخرى لهذه الرذيلة هو عنصر الجهل وضيق الافق، فالأشخاص الذين يعيشون هذه الحالات الوضيعة ليست لديهم اللياقة لحفظ أسرار الآخرين.

ونقرأ في الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «ثَلاثٌ لا يُسْتَوْدَعْنَ سِرّاً:

المَرأَةُ وَالَّنمامُ وَالأْحْمَقُ» «4».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 335

وفي حديث آخر عن الإمام عليه السلام نفسه أنّه قال: «لا تُسِرَّ إِلَى الجاهِلِ شَيْئاً لا يُطِيقُ كِتْمانَهُ» «1».

4- وأساساً فإنّ إفشاء السِّر وبشكل عام نشر الأخبار الخفيّة والجديدة وأحياناً العجيبة

والغريبة تجد في قلوب الناس جاذبية خاصة تقودهم إلى الرغبة الشديدة في الإستماع والإصغاء لهذه الأخبار،. هذا المعنى قد يتسبب إلى أن يرغب بعض الناس لإفشاء أسرار الآخرين ليلفتوا إليهم نظر المستمعين.

5- ومن العوامل المهمّة الاخرى لإفشاء الأسرار هو الأخطاء والاشتباهات وعدم الالتفات إلى كون هذا الأمر من الأسرار، ولهذا السبب فقد يصدر من بعض الناس المنضبطين في مسألة حفظ السر بعض الاشتباهات والزلل في هذا الأمر حتى قيل: «كُلُّ سِرٍّ جاوزَ الإثنِينَ شاعَ».

ونقرأ في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال لأحد أصحابه ويدعى عمّار حيث سأله الإمام الصادق عليه السلام: «هَل أَخبَرتَ بِما أَخبِرتُكَ بِهِ أَحَداً؟ قَلتُ: لاإلّاسُلَيمانِ بنِ خالِدَ، قالَ: أَحسَنتَ أَما سَمِعتَ قَولَ الشَّاعِر:

فَلا يَعدُوَنْ سِرِّي وَسِرِّكَ ثالثاً أَلا كُلُّ سِرٍّ جاوَزَ الإِثنِينِ شايعُ والسبب في ذلك واضح لأنّه إذا كان البناء على أن يقوم كل شخص بأخبار أحد أصدقائه الموثوقين بأسرارهم، ويقوم الشخص الثاني بمثل العمل، وهكذا الثالث والرابع فلا تطول المدّة حتّى ينتشر السِّر في المجتمع كلّه.

أمّا العلاج:

فقد رأينا في الأبحاث السابقة أنّه إذا كان موضوع إفشاء الأسرار يتعلّق بخصوصيات الأشخاص الآخرين فيترتب على ذلك الآثار السلبية الكثيرة من قبيل سقوط شخصيته ومنزلته الاجتماعية، وزوال ثقة الناس وإعتمادهم عليه قد يصل الأمر إلى سقوط شخصيته الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 336

نهائياً في أنظار الناس وتلف جميع إيجابيّاته ونقاط قوّته في المجتمع.

وإذا كان إفشاء السّر متعلّقاً بالمجتمع أو المذهب والدين فقد يؤدّي أحياناً إلى تعرّض ذلك المجتمع للخطر أو يتعرّض أتباع ذلك المذهب إلى مشاكل كثيرة وقد تسفك في ذلك دماء بريئة وتهتك حرمات المؤمنين وتصادر أموالهم من قبل الأشخاص الذين يعيشون التعصّب الأعمى والجهالة والانحراف.

إنّ الالتفات إلى

هذه العواقب والآثار السلبية الأليمة في إفشاء الأسرار يعدّ أحد العوامل المؤثّرة في الوقاية من هذه الرذيلة الأخلاقية، كما أنّ التدبّر في الآثار السلبية في كل صفة رذيلة من الصفات الأخلاقية الذميمة يعدّ عاملًا للتوقّي من الوقوع والابتلاء في هذه الرذيلة.

ومن الطرق الاخرى للعلاج هو القضاء على أسباب ودوافع هذه الرذيلة وإقتلاع جذورها من واقع النفس، أي عنصر الجهل والحسد والحقد أمثال ذلك.

ومن الطرق الاخرى هو سعة ظرفية الإنسان وأفقه وشرح صدره وروحه وقوّة شخصيته، فهذا من شأنه أن يساعده على المحافظة والانضباط في دائرة الأسرار.

وكذلك التفكّر في العقوبات الإلهية الشديدة المترتبة على إفشاء أسرار الناس والمجتمع والتي تقدّم الحديث عنها سابقاً يمكن أن يعدّ من الامور النافعة للوقاية من هذه الرذيلة أو علاجها.

ومن العوامل المهمّة الاخرى هو الالتفات إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ إفشاء أسرار الآخرين إذا تسبب في لحوق الضرر والخسارة بهم فإنّ المذيع لسّرهم يعدّ مسبباً لهذه الأضرار وفي الكثير من الموارد يعتبر ضامناً شرعاً وقانوناً لها.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 337

الحلم والغضب

تنويه:

(الغضب) من أخطر الحالات والانفعالات في الإنسان التي إذا لم يتصدّ الإنسان لضبطها والسيطرة عليها فإنّها قد تظهر بشكل جنوني على سلوكيات الفرد وتفقده أيّة سيطرة على أعصابه، وحتى أنّ الكثير من السلوكيات الخطرة والجرائم الكثيرة في حركة الإنسان في حياته الاجتماعية تكون بدافع الغضب ويترتب عليه دفع كفّارة وضريبة، وبعكسه، نرى صفة الحلم وهي من الصفات الاخلاقية الحميدة، ونرى القرآن الكريم قد إهتم بهذه الصفة أيما اهتمام، وقد وردت في الآية 134 من سورة آل عمران يصف فيها المتقين حيث ذكرت بعد صفة الانفاق، لما لهذه الصفة من آثار ايجابية على وضع الفرد والمجتمع. إنّ حالة الغضب كالنار المحرقة

التي قد تأتي على الأخضر واليابس من حياة الإنسان وتكفي شرارة صغيرة منها إلى إحراق بيوت ومدن كاملة وتحويلها إلى رماد.

وإذا تصفّحنا التاريخ البشري فإننا نجد أنّ المشكلات الكثيرة التي ابتلت بها المجتمعات البشرية كانت بدافع من قوّة الغضب هذه حيث تسببت في الكثير من الحوادث المؤلمة والأزمات الخطيرة والخسارة الهائلة على المستوى الفردي والاجتماعي.

وبهذه الإشارة نعود إلى آيات القرآن الكريم لنستوحي منها دورساً وعبراً في خطر هذه الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 338

الرذيلة الأخلاقية وكذلك بركات الحلم وآثاره الإيجابية في النقطه المقابلة لها:

1- «وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُون» «1». 2- «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الُمحْسِنِينَ» «2». 3- «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَاإِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ» «3». 4- «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ» «4». 5- «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ» «5». 6- «فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ» «6». 7- «وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً» «7». 8- «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ» «8».

تفسير واستنتاج:

«الآية الاولى» من الآيات محل البحث التي تتحدّث عن أوصاف طائفة من المؤمنين الصادقين الذين شملهم اللَّه تعالى برحمته وعنايته الخاصة، فتقول بعد أن تذكر إيمانهم وتوكّلهم على اللَّه تعالى: «وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُون».

وبعبارة اخرى: أنّ هؤلاء عندما تشتعل في نفوسهم نار الغضب يتحرّكون على مستوى الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 339

ضبطها والسيطرة عليها ولا يسمحون لأنفسهم بالتلّوث بأنواع الخطايا والذنوب لأجل ذلك.

إنّ ذكر هذه الصفة بعد مسألة التوقّي من الذنوب والآثام الكبيرة لعله بسبب أنّ حالة الغضب تقود النفس إلى

التحرر من قيود العقل وتفكّ عن قوى الشر جميع الضوابط الأخلاقية والشرعية لتتحرّر وتنطلق في كل إتجاه.

ومن الملفت للنظر أنّ هذه الآية لا تقول: إنّ هؤلاء لا يغضبون، لأنّ الغضب في مواجهة المصاعب اللاملائمات والتحدّيات هو حالة طبيعية لدى الإنسان، بل تقرر أنّ هؤلاء في حال الغضب يتحركون من موقع السيطرة على حالة الغضب هذه وأن لا يخضع الإنسان لايحاءات هذه القوة في نفسه وخاصة أنّ قوّة الغضب لا تقع دائماً في جانب الشرّ في الإنسان ولا تمثّل عنصراً سلبياً في دائرة السلوك المخرّب، فأحياناً تكون قوّة مثمرة وبنّاءة كما سيأتي تفصيل ذلك فيما بعد باذن اللَّه تعالى.

وتأتي «الآية الثانية» وبعد أن تستعرض وعد اللَّه تعالى للمتّقين بالجنّة التي وسع عرضها السموات والأرض لتتحدّث عن أوصاف هؤلاء، وأوّل صفة تذكرها لهؤلاء هي صفة الانفاق وتقول: «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ» ثمّ تضيف الآية «وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ» وفي النتيجة: «وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ» فمن يعيش هذه الحالات الايجابية والقيم الأخلاقية فهو من المحسنين الذين تقول عنهم الآية في ذيلها: «وَاللَّهُ يُحِبُّ الُمحْسِنِينَ».

والملفت للنظر أنّ الآية التي تليها وعدت هؤلاء بعفو اللَّه ومغفرته في حال صدور الخطأ منهم، وأنّهم عندما يتحرّكون صوب الانحراف وارتكاب الخطأ يتذكّرون اللَّه تعالى ويستغفرونه فيشملهم اللَّه بعفوه ومغفرته.

وهذا إشارة إلى أنّ هؤلاء كما أنّهم يتحرّكون في تعاملهم مع الآخرين من موقع العفو والصفح عن أخطاء الغير فإنّ اللَّه تعالى كذلك يعفو عنهم ويصفح عن أخطائهم.

وعلى أيّة حال فإنّ (كظم الغيظ) في هذه الآية ورد بعنوان أحد الصفات الإيجابية المرموقة لهؤلاء المتّقين.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 340

«الآية الثالثة» تتحدّث عن حالة الغضب التي عاشها أحد الأنبياء الإلهيين، وهو النبي يونس عليه السلام تجاه امّته وقومه،

وهو الغضب المقدس في ظاهره، ولكنّه في الواقع صادر من التسرع والاستعجال وعدم إدراك بواطن الامور، ولهذا فإنّ اللَّه تعالى قد جعله يواجه ظروفاً صعبة بسبب تركه للاولى وأخيراً فإنّ هذا النبي الكريم قد تاب من ترك الاولى، وتقول الآية: «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَاإِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ».

وهكذا وبعد تحمّل صعوبات هائلة وقاسية قبل اللَّه توبته ولم تستطع الحوت أن تهضمه في بطنها، بل قذفته إلى الساحل بجسم نحيف وضعيف وهزيل، أمّا ما هي المدّة التي مكث فيها يونس عليه السلام في بطن الحوت؟ فهناك اختلاف بين المفسّرين بين من يقول أربعين يوماً، ومن يقول اسبوعاً واحداً وثلاثة أيّام، وطبقاً لرواية عن الامام علي عليه السلام أنّ المدّة تسع ساعات، وعلى أيّة حال فإنّ هذه المدّة مهما طالت أو قصرت فإنّها ممّا لا تطاق حتى للحظة واحدة.

ولكن ماذا هو ترك الأولى الذي ارتكبه النبي يونس عليه السلام حتى استحق هذه العقوبة الشديدة، رغم أننا نعلم أنّ الأنبياء معصومون عن الزلل والذنب؟

إنّ ما يتبادر إلى الذهن في البداية أنّ يونس عليه السلام غضب على قومه الضالّين الذين لم يقبلوا دعوته الإلهية وتحرّكوا في مقابله من موقع العناد واللجاجة، فمن الطبيعي أن يغضب يونس عليه السلام لذلك، ولكن هذا الغضب بالنسبة لنبي كبير مثل يونس عليه السلام كان يعدّ من الترك للأولى، أي كان الأولى له بعد إطّلاعه على وقت نزول العذاب الإلهي على قومه أن يبقى معهم إلى آخر لحظة ولا ييأس من هدايتهم، فلو أنّ يونس عليه السلام لم يغضب هناك فلعل قومه يسمعون لكلامه ويلبّون دعوته في آخر اللحظات، والتجربة

تؤيد هذا المعنى حيث إنتبه قومه في اللحظات الأخيرة وتابوا إلى اللَّه تعالى فقبل اللَّه توبتهم وأزال عنهم العذاب.

فمثل هذا الغضب ليونس عليه السلام (والذي لم يكون بدون دليل أيضاً) فإنّ اللَّه تعالى لم يغفر لنبيّه ذلك وعاقبه بتلك العقوبة، فكيف الحال فيما لو كان الغضب الذاتي للإنسان بدافع الحقد

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 341

والانتقام والحسد والدوافع الرذيلة الاخرى؟

ومن البديهي أنّ المراد من غضب يونس عليه السلام هنا هو غضبه على قومه الظالمين والفاسقين، والمراد من العبارة «فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ» هو أنّ يونس عليه السلام تصوّر أنّ تركه لقومه لم يكن عملًا سيئاً بحيث يستلزم كل تلك العقوبة والتوبيخ، والمقصود من إعتراف يونس عليه السلام بظلمه هو ظلمه لنفسه الذي قاده إلى هذه النتيجة الصعبة.

وأمّا الآيات التي تستعرض الحلم من موقع الثناء والتمجيد والمدح فهي كالتالي:

«الآية الرابعة والخامسة» من الآيات محل البحث يستعرض القرآن الكريم حالات النبي إبراهيم عليه السلام من موقع وصفه بعنوان: «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ» و «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ»، فالعبارة الاولى وردت في واقعة رفض آزر (عم إبراهيم) لدعوة إبراهيم للتوحيد ورفض الأصنام واستغفار إبراهيم عليه السلام له، والثانية وردت في قصّة إخبار الملائكة لإبراهيم عن العذاب الإلهي النازل على قوم لوط وطلب إبراهيم الخليل عليه السلام من اللَّه تعالى أن يخفّف عذابهم أو يمهلهم أكثر من ذلك.

«أوّاه» تأتي بمعنى الرحيم والحنون، والذي يتحرّك قلبه لهداية قومه وامّته.

وعلى أيّة حال فإنّ ما ورد في القرآن الكريم من وصف النبي إبراهيم عليه السلام ب «أوّاه حليم) و (أوّاه منيب) يبيّن الرابطة الوثيقة بين هاتين الصفتين، ويدلّ على أنّ كظم الغيظ والسيطرة على الغضب والتحرّك من موقع الحلم والمحبّة تجاه

الآخرين حتّى لو كانوا مجرمين والسعي لإنقاذهم من الخطيئة والعقوبة كل ذلك يعدّ من الصفات الإيجابية البارزة للأنبياء الإلهيين.

إنّ النبي إبراهيم عليه السلام لم يكن حليماً تجاه عمّه آزر فحسب، بل حتى بالنسبة إلى قوم لوط عليه السلام الذين كانوا قد غرقوا في ذلك الوحل العفن من الخطيئة حيث نرى إبراهيم عليه السلام ينطلق من قلب متحرّك ليرفع عنهم العذاب أو يؤجله إلى إشعار آخر كيما يتسنى لهم الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 342

الخلاص من ادران هذه الخطيئة وترك ذلك السلوك الشائن ويسيروا في خط الإيمان والتقوى والانفتاح على اللَّه.

ولكنّ الأمر الإلهي كان قد صدر بحقهم رغم أنّ إبراهيم عليه السلام قد أظهر هذه الرحمة والشفقة تجاه عمّه أو قوم لوط لأنّهم لم يكونوا قابلين للهداية وخاصة ما كان عليه قوم لوط من الخطيئة المزمنة حيث أصابهم العذاب الإلهي أخيراً.

«الآية السادسة» تستعرض إحدى المواهب الإلهية الكبيرة على إبراهيم وتقول: إنّ اللَّه تعالى قد استجاب لإبراهيم عليه السلام دعائه: «فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ».

واللطيف أنّ من بين جميع الصفات الإيجابية الكبيرة للإنسان، فإنّ هذه تشير فقط إلى صفة الحلم لدى هذا الغلام العزيز لإبراهيم عليه السلام.

ويقول الراغب في مفرداته بأنّ: الحلم بمعنى ضبط النفس عند هيجان الغضب، وبما أنّ هذه الحالة ناشئة من العقل فإنّه كلمّا وردت كلمة الحلم فإنّها قد يراد بها العقل أيضاً.

وهذه البشارة تحقّقت بالنسبة إلى إسماعيل عليه السلام عندما بلغ سن الرشد ووهبه اللَّه العقل والحلم والنضج الكبير، وذلك عندما صدر الأمر الإلهي لإبراهيم بذبح إبنه اسماعيل كما تتحدّث الآيات التي بعد هذه الآية وتقول على لسان إسماعيل عليه السلام: «يا أَبَتِ إفعَل ما تُؤمَر» فنرى حالة التسليم المطلق أمام الأمر الإلهي، وفي مقابل

الذبح الذي صدر لإبراهيم.

وتأتي «الآية السابعة» لتبيّن صفات (عباد الرحمن) البارزة، وتستعرض ضمن الحديث عن إثني عشر صفة من الصفات الكبيرة الأخلاقية وهذه الصفة خاصة وتقول: «وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً».

أي إذا واجههم الأشخاص الذين يعيشون الحمق والجهل والحقد بكلام غير مسؤول وألفاظ ركيكة فإنّ جوابهم لا ينطلق من موقع الانفعال والرد بالمثل، بل يمرّون على كلامهم ذلك من موقع الحلم وسعة الصدر ورغم أنّ كلمة (حلم) لم ترد في هذه الآية، ولكن المفهوم الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 343

من مجموع الآية هو أنّ عباد الرحمن لا ينطلقون من موقع الانفعال والغضب للجاهلين الحوادث غير الملائمة وخاصة الكلمات غير المسؤولة للجاهلين والحاقدين ويجنبوا أنفسهم شرّ النزاع والصراع مع هؤلاء الأشخاص بأداة الحلم وسعة الصدر.

وقد ورد في الحديث الشريف في تفسير هذه الآية عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال يوماً لأصحابه (مضمون الحديث): «هؤلاء جماعة من امّتي احبُّهُم وَيُحبُّونني سيأتون بعدكُم (ثم أخذ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بذكر أوصافهم) ومن ذلك صفة الصبر والحلم وأنّهم يسلكون طريق الرفق والمداراة.

فقيل له: يا رسول اللَّه هل يرفقون بغلمانهم؟

فقال صلى الله عليه و آله: ليس لهم غلمان، وإنّما يرفقون مع الجهّال والسفهاء:

«وَعِبَادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً»» «1».

والمراد من كلمة (سلام) هنا هو أنّهم يتعاملون مع الآخرين من موقع المسالمة لا من موقع الخشونة والتحدّي والرد بالمثل ولا يواجهون كلمات غير مسؤولة لُاولئك الجاهلين إلّا من موقع عدم الاعتناء واللّامبالاة وكأنّما لم يسمعوها أصلًا.

«الآية الثامنة» والأخيرة من الآيات مورد البحث من سورة الأعراف تتحدّث عن ثلاثة أوامر مهمّة في خطابها للنبي الأكرم صلى الله عليه و

آله (باعتباره اسوة لجميع المؤمنين) وتقول: «خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ».

ومن الطبيعي أنّ الأعراض عن الجاهلين يأتي بمعنى الحلم والصفح وترك أي شكل من أشكال الخصومة والشجار، بل يمكن القول أنّ الجملتين السابقتين في هذه الآية من الأمر بالعفو وقبول العذر والدعوة إلى الأخلاق الحسنة هي نوع من أنواع الحلم كذلك، وبالتالي الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 344

تدلّ وتشير إلى هذا المعنى أيضاً وأنّ سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله كانت كذلك في مقابل الجاهلين والمعاندين حيث كان يظهر أمامهم منتهى الصبر وسعة الصدر والتحمّل والحلم، ولا يتملكه الغضب اطلاقاً مقابل ما يسمعه منهم من كلمات غير مؤدّبة وعبارات غير مسؤولة.

والآية التي تلي هذه الآية تقول: «وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» «1».

يمكن أن تكون إشارة اخرى إلى هذا المعنى أيضاً وهو أنّ نار الغضب ما هي إلّانزغ من نزغات الشيطان وعلى كل مؤمن أن يستعيذ باللَّه من هذه الحالة الشائنة.

والشاهد على ذلك ما ورد في الرواية الشريفة في تفسير روح البيان في ذيل هذه الآية وأنّه عندما نزلت الآية السابقة وأمرت بالعفو والحلم أمام الجاهلين قال النبي الأكرم صلى الله عليه و آله:

«كَيفَ يا رَبِّ والغَضبُ» «2».

فنزلت الآية التي بعدها وأمرت النبي أن يستعيذ باللَّه من شرّ الشيطان الرجيم.

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام يقول: إنّ أجمع آية من آيات القرآن لمكارم الأخلاق هي هذه الآية.

وهو كذلك واقعاً، لأنّ هذه الآية تتضمّن العفو والصفح أمام جهل الآخرين وتدعو الناس جميعاً لفعل المعروف، وكذلك مواجهة الجاهلين بالإعراض عنهم وعدم مجادلتهم والتحدّث معهم من موقع الانفعال، فهذه التعاليم الثلاثة تعد ثلاث برامج مهمّة فيما يتعلّق بالحياة

الاجتماعية للإنسان في حركة الحياة بحيث لو تسنى لأفراد المجتمع أن يترجموا هذه الدساتير الثلاثة على أرض الواقع ويجسّدوها في سلوكياتهم وأعمالهم فإنّ أكثر المشكلات الاجتماعية وما يترتب عليها من سلبيات اخرى ستجد طريقها إلى الحل.

ومن مجموع الآيات المذكورة آنفاً يتجلّى لنا أهميّة الحلم كفضيلة أخلاقية سامية، وكذلك العواقب الوخيمة المترتبة على حالة الغضب الانفعالي والشيطاني.

الغضب في الروايات الإسلامية:

ونقرأ في الروايات الإسلامية تعبيرات عجيبة ومثيرة بالنسبة إلى الآثار السلبية للغضب وأضرار هذه الرذيلة الأخلاقية على حياة الإنسان الفردية والاجتماعية، وقد اخترنا من بين الأحاديث الكثيرة إثني عشر حديثاً:

1- ما ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «الغَضَبُ جَمرَةٌ مِنَ الشّيطانِ» «1».

2- وفي حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أيضاً أنّه قال: «الغَضَبُ يُفسِدُ الإِيمانَ كَما يُفسِدُ الصَّبرُ العَسَلَ» «2».

3- ونقرأ في حديث عن أميرالمؤمنين عليه السلام يقول: «أَعدَى عَدُوٍّ لِلمَرءِ غَضَبُهُ وَشَهوَتُهُ، فَمَنْ مَلَكَهُما عَلَتْ دَرَجَتَهُ وَبَلَغَ غايَتَهُ» «3».

4- وفي حديث آخر عن الإمام عليه السلام نفسه قال: «الغَضَبُ نارٌ مُوقَدَةٌ مَنْ كَضَمَهُ أَطفَأَها وَمَنْ أَطلَقَهُ كانَ أَوَّلُ مُحتَرقٍ بِها» «4».

5- وفي عبارة ناطقة وردت في حديث آخر عن هذا الإمام عليه السلام أنّه قال: «لَيسَ لإِبلِيسَ جُندٌ أَشَدُّ مِنْ النِّساءِ والغَضَبِ» «5».

6- وجاء في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام في عبارة عميقة المعنى قوله: «الغَضَبُ مِفتاحُ كُلِّ شِرٍّ» «6».

7- ونقرأ في أحد الأدعية المعروفة للصحيفة السجادية في بيان الإمام زين العابدين عليه السلام لأخطار وأضرار الغضب وأنّها إلى درجة من الشدّة بحيث أنّ الإمام نفسه يستجير باللَّه منها ويقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُبِكَ مِنْ هَيجانِ الحِرصِ وَسُورَةِ الغَضَبِ وَغَلَبَةِ

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 346

الحَسَدِ

وَضَعُفِ الصَّبرِ وَقِلَّةِ القَناعَةِ» «1».

8- ونقرأ في حديث آخر عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «إِيَّاكَ وَالغَضَبَ فَأَوَّلُهُ جُنُونٌ وَآخِرُهُ نَدَمٌ» «2».

9- وورد عن هذا الإمام عليه السلام في عبارة عميقة اخرى تتعلّق بالتقاطع بين الغضب والعقل ويقول: «عِندَ غَلَبَةِ الغَيظِ وَالغَضَبِ تُختَبَرُ حِلمُ الحُلُماءِ» «3».

10- وأيضاً ورد في كلمات أمير المؤمنين عليه السلام عن عواقب الغضب الأليمة قوله: «عُقُوبَةُ الغَضُوبِ وَالحَقُودِ وَالحَسُودِ تَبدَءُ بِأَنفُسِهِم» «4».

11- وورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَورَتَهُ»».

12- ونختم هذا البحث بحديث شريف آخر عن الإمام الصادق عليه السلام، رغم وجود أحاديث كثيرة عن المعصومين في هذا الباب: «أَي شي ءٍ أَشَدُّ مِنَ الغَضَبِ إِنَّ الرَّجُلَ إِذا غَضَبَ يَقتُلُ النَّفسَ وَيَقذِفُ المُحصَنَ» «6».

الآثار السلبية والمخرّبة للغضب:

إننا قلّما نجد صفة من الصفات الرذيلة تتضمّن عناصر الشر والتخريب مثلما لرذيلة الغضب، ولو أننا كتبنا تفصيلًا عن الآثار السلبية للغضب لاتّضح لدينا أنّها أكثر من الرذائل الأخلاقية الاخرى ومن ذلك:

1- ينبغي الإلتفات قبل كل شي ء إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ حالة الغضب تقع ضمن أعداء الإنسان حيث أنّه يفقد عقله تماماً في ثورة الغضب ويتحوّل إلى كائن غير منسجم التصرفات والحركات بحيث يتعجّب منه من حوله من الناس، بل إنّ الإنسان نفسه وبعد

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 347

هدوء هيجان الغضب يتعجّب من تصرفاته وسلوكياته الشائنة أثناء هذه الحالة، وفي تلك الحال قد يهجم الشخص على أقرب المقرّبين إليه من دون أن يتعقّل ماذا يفعل، وقد يتسبب في تلوث يده بدماء الأبرياء أيضاً، فيقتل ويحطّم ويسرق ويخرّب وكأنّه مجنون تماماً.

ولذلك ورد في الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين عليه السلام قوله: «الغَضَبُ يُفسِدُ الألبابَ وَيُبعِدُ مِنَ الصَّوابِ» «1».

ولهذا السبب ورد في الروايات

الإسلامية أنّه إذا أردتم أن تختبروا عقل الأشخاص وحنكتهم ورأيهم فعليكم بالنظر إليهم في حالة الغضب ومدى سيطرتهم على أنفسهم من شرّ هذه القوّة الهائجة، وقد ورد عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «لا يَعرِفُ الرَّأيُ عِندَ الغَضَبَ» «2».

2- إنّ الغضب يؤدّي إلى إضمحلال إيمان الشخص وتلاشيه، لا نّ الشخص عندما تمتلكه الحدّة فلا يرتكب الذنوب الكبيرة فقط بل يخرج من الإيمان أيضاً لأن هذه الحالة تتقاطع تماماً مع الإيمان الصحيح والعميق، بل أحياناً يتجرّأ هذا الشخص على اللَّه تعالى أو يعترض على حكمه وتقديره للُامور، وهذه المرحلة من أخطر المراحل التي تمر بالإنسان في حالة سورة الغضب.

وقد قرأنا الأحاديث السابقة أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «الغَضَبُ يُفسِدُ الإِيمانَ كَما يُفسِدُ الصَّبرُ العَسَلَ».

3- إنّ الغضب يعمل على تخريب منطق الإنسان وكلامه الموزون، ويقوده إلى التلفظ بالباطل والكلمات اللّامسؤولة، وعندما يستند الغاضب مسند القضاء فإنّ حكمه سيكون غير سليم قطعاً، ولذلك نقرأ في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «شِدَّةُ الغَضَبِ تَغَيِّرُ المَنطِقَ وَتَقطَعُ مادَةَ الحُجَّةِ، وَتَفَرِّقُ الفَهمَ» «3».

وقد ورد التصريح في آداب القضاء في الكتب الفقهية هذا المعنى أيضاً وأنّ القاضي لا ينبغي أن يجلس على كرسي القضاء في حالة الغضب.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 348

وقد ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قوله: «مَنْ ابتَلى بِالقَضاءِ فلا يَقضِي وَهُوَ غَضبان».

4- والآخر من الآثار السلبية لحالة الغضب هو إشهارها لعيوب الإنسان الخفيّة، لأنّ هذا الشخص في حالاته العادية يتحرّك من موقع السيطرة على قواة النفسية، فلا تتجلّى عيوبه ونقاط ضعفه للآخرين، بل تبقى مستورة ويحفظ بذلك سمعته وماء وجهه في أنظار الناس، ولكن

عندما تستعر في نفسه نار الغضب، فإنّها تزيل السواتر والأقنعة عن واقع الإنسان وتكسر قيود العقل وتظهر عيوب صاحبها الخفيّة وتؤدّي إلى سقوط شخصيته ومكانته بين الناس.

ولذلك ورد في درر الحكم عن أميرالمؤمنين عليه السلام قوله: «بئسَ القَرِينُ الغَضَبُ يُبدِي المَعايبَ وَيُدنِي الشَّرَّ وَيُباعِدُ الخَيرَ» «1».

5- إنّ الغضب بإمكانه أن يفتح طريق الشيطان للإنسان ويوقعه في شراكه ومصائده، لأنّ الإيمان والعقل يعتبران مانعين مهمّين يصدّان هجمات الشيطان، ولكنّهما في حالات الغضب سينكمشان ويدركهما الضعف وعدم الحيلة وبذلك ترتفع الموانع أمام الشيطان لينفذ بسهولة ويصل إلى قلب الإنسان ويحكم سيطرته على قواه، ويفعّل عناصر الشر في نفسه وباطنه.

ونقرأ في الحديث المعروف: «أنّ نوح عليه السلام لمّا دعى ربّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلى قَومِهِ أَتاهُ إِبلِيسُ لَعنَهُ اللَّهُ فَقالَ: يا نُوحُ إِنَّ لَكَ عِندِي يَداً ارِيدُ أَن اكافِيكَ عَلَيه، فَقالَ لَهُ نُوحٌ عليه السلام: إِنَّهُ لَيبغَض إِليَّ أَن يَكُونَ لَكَ عِندِي يد فَما هِي؟ قالَ: بلى دَعوتَ اللَّهَ عَلى قَومِكَ فَأَغرَقتَهُم فَلم يَبقَ أَحدٌ أَغويهِ فأَنا مُستَريحٌ حتّى يَنسقَ قرنٌ آخر وَاغويهِم، فَقال نُوحٌ عليه السلام: ما الّذِي تُريدُ أَن تُكافِينِي بهِ؟ قالَ: اذكُرنِي فِي ثَلاثِ مَواطِن فَإنّي أَقرَبُ ما أَكُونُ إِلى العَبدِ إذا كان في أحدهن: اذكُرنِي إِذا غَضِبتَ، اذكُرنِي إِذا حَكَمتَ بَينَ اثنَينِ، اذكُرنِي إِذا كُنتَ مَعَ امرأَةٍ خالياً لَيسَ مَعَكُما أَحَداً» «2».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 349

ونقرأ في حديث آخر: «عَن ذي القَرنَين أَنّه لَقى مَلَكاً مِنَ المَلائِكَةِ فَقالَ عَلِمنِي عِلماً أَزدادُ بِهِ إِيماناً وَيَقِيناً، قالَ: لاتَغضَبْ فإنَّ الشَّيطانَ أَقدَرُ ما يَكُونُ عَلى ابنِ آدمَ حِينَ الغَضَبِ» «1».

ولا شك أنّ الغضب مضافاً إلى هذه الآثار السيئة على المستوى المادي والاجتماعي والأخلاقي فإنّه تترتب عليه آثار

معنوية سيئة كثيرة أيضاً بحيث يستفاد من الروايات المختلفة أنّ الشخص الذي يسيطر على غضبه ويكظم غيظه له ثواب الشهداء «2» ويحشر يوم القيامة مع الأنبياء «3» ويملاء قلبه من نور الإيمان «4».

أسباب ودوافع الغضب:

اشارة

إنّ الغضب باعتباره ظاهرة روحية معقّدة له عوامل وأسباب مختلفة، ومعرفة هذه العوامل والدوافع ضرورية في عملية الوقاية من أخطار هذه الحالة السلبية، ومن جملة العوامل والأسباب لتفعيل هذه الحالة في نفس الإنسان وظهور آثارها السلبية الخطيرة هي:

1- التسرع في الحكم:

إنّ كل إنسان في حياته الفرديّة والاجتماعية يسمع يومياً بعض الأخبار غير المسّرة وقد يحكم عليها مباشرة من موقع حالة الغضب المستعرة في قلبه، وقد يتصرف تصّرفاً أحمقاً ويرتكب بعض الأعمال الخطيرة وما أكثر ما يتبيّن عدم صحة الخبر أو على الأقل عدم مطابقته للواقعيات تماماً لدى التحقيق والتأنّي، وبالتالي فلا مبرر له على الغضب والحدّة.

أجل فإنّ التسرّع في الحكم في مثل هذه المسائل يعدّ عاملًا مهمّاً لبروز حالة الحدّة والغضب على طول التاريخ وترتّب العواقب الوخيمة عليه.

وقد ورد في الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين عليه السلام قوله: «مَنْ طبائِعِ الجُّهالِ التَّسَرُّعُ الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 350

إِلى الغَضَبِ فِي كُلِّ حالٍ» «1».

2- ضيق الافق:

إنّ الأشخاص الذين يعيشون سعة الصدر وكبر الروح وقوّةالشخصية وسعة الفكر فإنّهم يتحمّلون الحوادث الصعبة ويواجهون تحدّيات الواقع المرّة بكامل الوقار وحفظ النفس، ولكنّ الأشخاص الذين يعيشون ضيق الافق فإنّهم ينفعلون بأقل حادثة غير ملائمة وأحياناً يخرج زمام امورهم من أيديهم ويتصرّفون تصّرفاً طائشاً.

والحديث الذي قرأناه آنفاً من أنّ سرعة الغضب والحدّة من أخلاق الجهّال هو إشارة إلى هذه الحقيقة أيضاً.

3- التكبّر والغرور:

إنّ الأشخاص الذين يعيشون روح التكبّر والغرور، ويرغبون دائماً في أن يحفظ لهم الآخرون احترامهم ولا يتجاوزوا حدودهم ويقومون لهم حين دخولهم المجلس إكراماً لهم واحتراماً يرون لأنفسهم إمتيازات خاصة على سائر الناس، ولكن إذا لم يحصلوا على هذه التوقّعات ولم يجدوا في الناس ذلك الأحترام والإكرام فسوف تتحرّك فيهم حالة الغضب والحدّة، في حين أنّ عنصر الشر موجود في باطنهم والعامل الأساس لشقائهم موجود في ذواتهم ولا ذنب للآخرين.

ونقل في الرواية عن السيد المسيح عليه السلام ضمن بيانه لأسباب الغضب أنّه عدّ التكبّر والعجب والغرور من العوامل لذلك «2».

ونقرأ في حديث آخر عن السيد المسيح عليه السلام أيضاً أنّ الحواريين قالوا له: «يا مُعَلمَ الخَيرِ، عَلِّمنا أَيّ الأَشياءِ أَشَدُّ؟

فَقَالَ عليه السلام: أَشَدُّ الأشياء غَضَبُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالُوا: فَبِمَ يُتَّقى غَضَبُ اللَّه؟ قَالَ: بِأَنْ لا تَغضَبُوا.

قَالُوا: وَما بِدؤ الغَضَبِ؟ قال عليه السلام: «الكِبرُ والتَّجبُّرُ وَمَحقَرَةُ النّاسِ» «3».

4- الحسد والحقد:

إنّ الأشخاص الذين يعيشون الحسد والحقد تجاه الآخرين فإنّ الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 351

المواد الأولية لهذه الحالات الذميمة موجودة في باطنهم كما يخزن البارود والديناميت في مخازن ولا يحتاج إلّاإلى شرارة خفيفة من الخارج حتى ينفجر بركان الغضب ويستولي على جميع كيانهم، وفي الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين عليه السلام يقول: «الحِقدُ مَثارُ الغَضَبِ» «1».

5- الحرص وحبّ الدنيا:

إنّ الأشخاص الذين يهيمون بحبّ الدنيا ويملأ وجودهم الحرص على تحصيل زخارفها وزبارجها، فإنّهم لا يتحمّلون أن يجدوا أيّة مزاحمة وخسارة محتملة لمنافعهم الدنيوية، ولذلك نجدهم يثورون لأتفه الأسباب فيما لو تعرّضوا لبعض الخسائر الطفيفة، وبما أنّ الحياة الاجتماعية لا تخلو من أمثال هذه المزاحمات والمضايقات، بل يمكن القول أنّ هذه المزاحمات والمضايقات جزء من كل يوم من أيّام الدنيا، ولذلك نجد مثل هؤلاء الأشخاص يعيشون الغضب والحدّة باستمرار وفيما لو لم يستطيوا إبراز غضبهم في بعض الحالات فإنّ نار الغضب تستقر في ذواتهم وتحرق طاقاتهم الخيّرة وإمكاناتهم الإيجابية في عالم النفس.

وكما ورد في ذيل الحديث المذكور آنفاً عن السيد المسيح عليه السلام أنّه أشار إلى هذا العامل:

«وَشِدَّةُ الحِرصِ عَلى فُضُولِ المَالِ وَالجاهِ».

علاج الغضب:

ونظراً إلى أنّ الآثار السلبية والعواقب الوخيمة لحالات الغضب والحدّة كثيرة وخطرة جدّاً وأحياناً تؤدّي إلى تدمير حياة الإنسان على كل المستويات والصعد، لذلك كان من الضروري بذل الجهد لعلاج هذه الرذيلة الأخلاقية، وإلّا فإنّ الندم ينتظر هؤلاء الأشخاص، وقد ذكر كبار علماء الأخلاق في هذا الباب أبحاثاً مهمّة وكثيرة، والأهم من ذلك ما ورد من التعليمات الدينية في النصوص الإسلامية التي ذكرت إرشادات مؤثّرة لإطفاء نار الغضب في واقع الإنسان، ونختار منها ما يلي:

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 352

1- أن يقوم الشخص الحاد المزاج بالتفكّر بآثار الغضب السلبّية وعواقبه السيئة قبل أن تستعر نيران الغضب في قلبه وتلتهم كيانه، فيتحرك على مستوى التلقين والإيحاء لها بأنّ الغضب هو في الحقيقة نار يمكنها أن تأتي على الأخضر واليابس وتحرق إيمانه وسعادته ووجوده، وتسعّر غضب اللَّه عليه في الدنيا والآخرة، وأنّ هذه الحالة الذميمة تبعد الناس من حوله وتفرّق عنه أصدقاءه وتكون ذريعة

بيد أعدائه، وللغضب آثار وخيمة على أعصاب الإنسان ويؤدي إلى قصر العمر ويهدد سلامة الشخص البدنية أيضاً، ويمنعه من الصعود في مدارج الكمال الدنيوي والاخروي.

بخلاف حالة الحلم وسعة الصدر التي هي رمز موفقّية الإنسان وتقدّمه وتفوّقه وصحّته الروحية والبدنية والتي تمنحه الإحترام والمودّة في قلوب الناس وتوجب له رضا اللَّه تعالى والإبتعاد عن الشيطان، وكذلك يتفكر في الثواب الإلهي لمن يعيش الحلم وسعة الصدر، والعقاب الإلهي المترتب على من يعيش الحدة وسرعة الغضب.

وهذه الامور لا يتفّكر فيها الإنسان في حال الغضب فحسب بل عليه أن يتفّكر فيها قبل ذلك ويلقّن نفسه باستمرار لكي لا يتورّط في هذه الحالة الذميمة.

2- أن يفكّر في عواقب الغضب والحدّة، وهذه المسألة مجربة تماماً، وإذا لم يجرّبها الإنسان نفسه فقد جرّبها الآخرون وهي أنّ كل تصميم على عمل معيّن يتّخذه الإنسان في حال الغضب فأنّه يكون زائفاً وسخيفاً وغالباً ما يوجب له الندم، فما أحسن أن يتذّكر هذه العبارة المعروفة عن أحد العلماء، وهي أنّه في حالة الغضب لا ينبغي عليه التصميم ولا التوبيخ ولا العقوبة.

3- ومن الطرق المهمّة لعلاج حالة الغضب والتي ورد التأكيد عليها في الروايات الشريفة هو (ذكر اللَّه) وقد ورد في بعض الروايات أنّ من ثارت فيه الحدّة عليه بقول: «أعوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجِيمِ» «1».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 353

وورد في رواية اخرى أن يقول في هذه الحالة: «لا حَولَ وَلا قُوَّةَ إلّابِاللَّهِ العَلِّي العَظِيمِ» «1»

، لتهدأ سورة الغضب في أعماقه.

وجاء في بعض الروايات أيضاً أنّه ينبغي أن يضع خدّه على الأرض أو يسجد للَّه تعالى.

ويقول أبو سعيد الخدري نقلًا عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله: «أَلا إنَّ الغضَبَ جَمرَةٌ فِي قَلبِ ابنِ آدمَ،

أَلا تَرَونَ إِلى حَمرَةِ وَانتفاخِ أَودَاجِهِ فَمَن وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيئاً فَليلصَقِ خَدَهُ بِالأرِضِ» «2».

ومن المعلوم أنّ كل شخص يسلك في حالة الغضب في خط العمل لهذه التوصيات والتعليمات الدينية ويلتجأ إلى اللَّه تعالى من شرّ الشيطان فإنّ غضبه سيهدأ قطعاً.

ومعلوم أيضاً أنّ ذكر اللَّه مؤثّر جدّاً في مثل هذه الأحوال، ولكنّ ذكر اللَّه بالكيفية المذكورة آنفاً أكثر تأثيراً من علاج هذه الحالة.

وقد أورد الشيخ الحرالعاملي في كتاب وسائل الشيعة باباً تحت عنوان (باب وجوب ذكراللَّه عند الغضب) في أبواب جهاد النفس، حيث يدلّ على أهميّة هذا الموضوع بالذات «3».

4- تغيير الحالة الفعلية للشخص إلى حالة اخرى حيث تكون مؤثرة في علاج الغضب أيضاً كما ورد في الروايات الإسلامية أنّ الشخص إذا تملّكه الغضب وكان جالساً فعليه أن يقوم، وإذا كان قائماً عليه أن يجلس، أو يعرض بوجهه عن مواجهة الحدث، أو يستلقي على الأرض، أو إذا أمكنه أن يبتعد عن محل الحادثة، أو يشغل نفسه بأمر آخر.

وهذا التغيّر في الحالة الفعلية يوثر كثيراً في تهدئة الغضب والحدّة فنقرأ في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قوله: «كانِ النَّبِيّ إذا غَضِبَ وَهُوَ قائِمٌ جَلَسَ وَإذا غَضِبَ وَهُوَ جالِسٌ اضطَجَعَ فَيَذهَبُ غَيضُهُ» «4».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 354

وقد ورد في بحار الانوار عن الإمام الباقر عليه السلام قوله: «وَأَيُّما رَجُلٍ غَضِبَ وَهُوَ قائِمٌ فَليَجلِس فَإِنَّهُ سَيَذهَبُ عَنهُ رِجزُ الشَّيطانِ وَإِنْ كانَ جالِساً فَليَقُم» «1».

وجاء في ذيل هذا الحديث الشريف أنّه إذا غضب الإنسان على أحد أرحامه فعليه أن يلمس بدنه ليثير في نفسه عواطف الرحم ممّا يقوده إلى الهدوء وعودة حالته الطبيعية.

5- الوضوء، أو شرب الماءالبارد وغسل الرأس والوجه، وكلّها تؤثر حتماً

في تهدئة الإنسان وزوال حالة الغضب عنه، بل ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إذِا غَضِبَ أَحَدُكُم فَليَتَوضأ» «2».

ويستفاد من هذا التعبير أنّ الوضوء مستحب في حالات الغضب ومؤثر في تسكينه وزواله.

وقد ذكر العلّامة المجلسي قدس سره في تحليله المختصر لهذا الحديث الشريف أنّ: «سَببُ الغَضَبِ الحَرارَةُ وَسَببُ الحَرارَةِ الحَرَكَةُ إذ قالَ صلى الله عليه و آله: إنَّ الغَضَبَ جَمرَةٌ تَتوقَدُ أَلم ترَ إِلى انتِفاخ أَودَاجِهِ وَحُمرَةُ عَينَيهِ؟ فإِن وَجَدَ أَحِدُكُم مِنْ ذَلِكَ شَيئاً فَليَتَوضأ بِالماءِ البارِدِ وَليَغسِل فَإِنَّ النِّارَ لايُطفِئُها إِلّا الماءُ، وَقَد قالَ صلى الله عليه و آله: إِذا غَضِبَ أَحَدُكُم فَليَتوضأ وَليَغتسلِ فَانَّ الغَضَبَ مِنَ النَّارِ» «3».

فإذا عمل الإنسان على ضمّ هذه الامور العملية إلى ما تقدّم من ضرورة التفكّر في الآثار الخطرة للغضب في الدنيا والآخرة وما يترتب عليه من العقوبات الإلهية فإنّ ذلك من شأنه أن يطفأ نار الغضب بالتأكيد، ولكنّ المشكلة تبدأ من أنّ الإنسان، لا يرغب في تغيير حالته والعمل بالتوصيات المذكورة لإزالة حالة الغضب عن نفسه، وحينئذٍ فالنجاة والخلاص من الآثار السلبية المترتبة على هذه الحالة الذميمة يكون عسيراً للغاية، بل غير ممكن أحياناً.

أقسام الغضب:

اشارة

إنّ حالة الغضب ليست سلبية دائماً، بل قد تترتب عليها آثار إيجابية على المستوى المادي والمعنوي في حياة الإنسان وأحياناً تكون ضرورية ولازمة، وعليه يمكننا تقسيم الغضب إلى إيجابي وسلبي، أو ممدوح ومذموم، فإذا ضممنا إليها الغضب في دائرة الالوهية تحصّلت لدينا ثلاثة أقسام للغضب:

1- غضب اللَّه تعالى:

حيث ورد الحديث عنه في الكثير من الآيات القرآنية الشريفة وخاصة بالنسبة إلى بني اسرائيل حيث تشير الآيات إلى أنّ اللَّه تعالى غضب عليهم، بل ورد (المغضوب عليهم) حيث ذكر جماعة من المفسّرين أنّ المقصود بهذه العبارة هم بنو اسرائيل الفاسقون في كل زمان ومكان حيث سوّدوا صفحة التاريخ البشري بذنوبهم وأعمالهم الأثيمة.

ولا شك أنّ الغضب بمعنى الانفعال النفسي المقترن مع حبّ الانتقام والذي يتجلّى في ظاهر الوجه على شكل إحمرار الوجه وإحتقان الدم وأمثال ذلك لا يرد قطعاً في مفهوم الغضب في دائرة الالوهية، لأنّ اللَّه تعالى منزّه عن الجسم والجسمانية والتغير والتبدّل في الحالات، فلا مفهوم لها بالنسبة إلى الذات المقدّسة، كما أنّ الانتقام بمعنى إرضاء حالة الغضب وتهدئة حرقة القلب الذي يصطلح عليه بالتشفّي المقترن مع تعذيب العدو وإلحاق الضرر به كذلك لا معنى ولا مفهوم بالنسبة إلى الذات الإلهية المقدّسة.

ومن ذلك فإنّ المفسّرين ذهبوا إلى أنّ غضب اللَّه تعالى بمعنى إنزال العقوبة العادلة بالمذنبين والمجرمين في الدنيا والآخرة.

يقول الراغب في مفرداته بصراحة: أنّه عندما يراد بالغضب صفة من الصفات الإلهية فإنّ المقصود هو الانتقام والعقاب من المجرمين.

فقد أشارت الأحاديث الإسلامية أيضاً إلى هذا المعنى، كما نقرأ في الحديث الشريف عن الإمام عليه السلام الباقر عليه السلام عن سؤال حول غضب اللَّه تعالى ماذا يعني؟ فقال: «غَضَبَ اللَّهُ تعالى عِقابَهُ يا عُمرَو «1» مَنْ ظَنَّ يُغَيِّرُهُ شَي ءٌ

فَقَدْ كَفَرَ» «2».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 356

وجاء في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ غضب اللَّه تعالى هوعقابه كما أنّ رضا اللَّه هو ثوابه (لا أنّ الغَضَبَ حالَةٌ نفسيّة فِي الذَّاتِ المُقَدَّسةُ تِقتَضِي التَّغَيُّرَ وَالتَّبَدُّلَ الُّذي نَراهُ فِي صِفاتِ المُمكِناتِ).

وخلاصة الكلام أنّ الآيات والروايات الشريفة التي تتحدّث عن غضب اللَّه وسخطه لا تتعلّق بحالة الغضب لدى المخلوقين ولا تشبهها بشكل من الأشكال، بل هي في الواقع إنزال العقاب العادل في حق المجرمين ولغرض تربية الإنسان وايصاله إلى كماله اللّائق.

2- الغضب السلبي والمخرب،

الذي تقدّم البحث فيه بالتفصيل في الاحاديث السابقة ورأينا الأضرار الكبيرة المترتبة على هذه الحالة النفسية وبحثنا أسبابها وطرق علاجها بما لا حاجة إلى توضيح أكثر.

3- الغضب الإيجابي للإنسان:

ومعلوم أنّ هذه القوّة لدى الإنسان لم تخلق من دون غرض وحكمة، فلو تصوّر شخص أنّ هذه القوّة فد خلقها اللَّه تعالى وجعلها في الإنسان لغرض التخريب والشر فإنّه لم يدرك جيداً حكمة اللَّه تعالى في خلقه، وفي الحقيقة أنّ توحيده الأفعالي ناقص.

فمن المحال أن يخلق اللَّه تعالى عضواً من أعضاء بدن الإنسان أو قوّة في نفسه وروحه ليس لها فائدة ومنفعة في حياة الإنسان ومن ذلك قوّة الغضب.

عندما يعيش الإنسان حالة الغضب وتسيطر عليه هذه القوّة فإنّها تعمل على تعبئة جميع طاقاته وقواه الفكريّة والجسدية تجاه الخطر وأحياناً تتضاعف قدرته أضعاف ما كانت عليه في الحالات العاديّة، والحكمة الوجودية لهذه الحالة في الواقع هي الدفاع عن الإنسان ومنافعه في نفسه وماله وعرضه تجاه الخطر وتحدّيات الظروف الخارجية، وهذه نعمة وموهبة إلهية كبيرة جدّاً.

إننا نرى الحيوانات أو الطيور أيضاً عندما يشعرن بالخطر يتحرّكن ويلذن بالفرار بعيداً عن منطقة الخطر، ولكنّ هذه الحيوانات عندما يتعرّض أطفالهن إلى الخطر فإنّها تتصدّى إلى هذا الخطر وتدافع بنفسها عن أولادها ممّا يثير تعجّب الكثيرين، وأحياناً قد يرى طائر

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 357

جبان الخطر على فراخه فيهجم باتّجاه الخطر ويتصدّى إلى المهاجمين ويبعدهم عن أطفاله ويلحق بهم الهزيمة وحتى بعض الحيوانات كالقط إذا رأى نفسه محبوساً في غرفة وتعرّض للهجوم فإنّه يتصدّى أيضاً للدفاع عن نفسه ويتبدّل إلى حيوان متوحّش وخطر حيث يهجم أحياناً على الإنسان ويلحق به أضراراً كثيرة.

وعليه فإنّ قوّة الغضب هي في الحقيقة قوّة مفيدة ومهمّة في عملية الدفاع عن

النفس وما يتعلّق بالإنسان من الامور المادية والمعنوية، ولذلك فهي ضرورية في بقاء واستمرار الحياة وتكامل الإنسان بشرط أن تستخدم في مكانها وفي الغرض التي خلقت لأجله بدون افراط وتفريط.

ونقرأ في الآيات والروايات الإسلامية موارد كثيرة تتحدّث عن الغضب المقدّس الإيجابي والغضب الإلهي كذلك، ومنها:

1- نقرأ في قصّة موسى عليه السلام أنّه عندما توجّه إلى جبل الطور لإستلام الوحي الإلهي والتوراة، فإنّ السامري قد استغل هذه الفرصة في غياب موسى عليه السلام وصنع العجل الذهبي لبني اسرائيل ودعاهم إلى عبادته وقد أخبر اللَّه تعالى موسى عليه السلام بهذا الحدث العظيم وهو في جبل الطور ممّا جعل موسى عليه السلام يغضب لذلك ويحزن ويعود إلى قومه وهو غارق في الهم ويعتصره الألم، فألقى الألواح التي كتبت فيها التوراة والأحكام الإلهية وأخذ برأس أخيه وبلحيته موبّخاً إيّاه على تساهله مقابل ما صنعه السامري من اضلال بني اسرائيل وحتى أنّه وبّخه كما تقول الآية: «وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِي الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» «1».

هذه الحالة المثيرة والغضب الشديد الذي استعر في قلب موسى عليه السلام تجاه ما صنعه بنو اسرائيل من عبادة العجل قد أثر أثره الكبير في قلوب اليهود وهزّهم من أعماقهم فانتبهوا من غفلتهم وأدركوا سوء تصرّفهم في انحرافهم عن التوحيد وسلوكهم في خط الشرك وعبادة الوثن.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 358

ومعلوم أنّ مثل هذا الغضب الشديد في مقابل ظاهرة انحراف الناس وضلالهم هو من الغضب الإيجابي والبنّاء وله بعد إلهي في حركة حياة الإنسان المعنوية.

وهكذا

الحال في جميع أشكال الغضب لدى الأنبياء الإلهيين في مقابل أقوامهم المنحرفين والضالّين.

ومن اليقين أنّ موسى عليه السلام إذا كان قدواجه هذه الظاهرة من موقع برودة الأعصاب وعدم تثوير حالة الغضب في نفسه فإنّ بني اسرائيل يستوحون من هذا السلوك إمضاءاً وأعترافاً من موسى عليه السلام بأفعالهم وسلوكياتهم الخاصة، وبالتالي فإنّ مواجهة هذا الانحراف قد يكون مشكلًا فيما بعد، ولكنّ غضب موسى عليه السلام وهيجانه قد أثر أثره الإيجابي الكبير في رجوع بني اسرائيل عن خط الانحراف.

2- ونقرأ في سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه أحياناً يتملكه الغضب الشديد تجاه بعض الحوادث والوقائع بحيث تظهر آثار الغضب على محياه ووجه المبارك.

من قبيل ما ورد في قصّة صلح الحديبية أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قد غضب بشدّة لبعض مقترحات (سهيل بن عمر) (وكيل قريش لعقد معاهدة الصلح مع النبي الأكرم صلى الله عليه و آله) وكان غضبه حول بعض الموارد المقرّرة لمكتوب الصلح بين الطرفين بحيث ذكر المؤرّخون أنّ آثار الغضب ظهرت على وجهه وسيمائه (وهذا الأمر تسبب في سحب سهيل اقتراحه وعدم ذكره في بنود الصلح) «1».

2- وورد في سيرة أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه غضب بشدة على أحد المسلمين الذي أضرّ بزوجته وهدّدها بالحرق، فما كان من الإمام علي عليه السلام إلّاأن تأثر بشدّة لذلك وسحب سيفه على هذا الرجل وقال: «آمرُكَ بِالمَعرُوفِ وَأَنهاكَ عَنْ المُنكَرِ وَتَردُ المَعروفَ؟ تُب وَإِلّا قَتَلتُكَ. (ولما علِم الشابُ أَنّه أَميرالمؤمنين عليه السلام) قالَ: يا أَمِيرَالمُؤمِنِينَ اعفُ عَنِّي عفا اللَّهُ عَنكَ وَاللَّهِ لأَكُوننَ أَرضاً تَطأني، فَأَمرها بِالدُخُولِ إِلى مَنزِلِها وانكفأ وَهُو يَقُولُ: لاخَيرَ فِي الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 359

كَثيرٍ مِنْ نَجواهُم إلّامَنْ أَمَرَ

بِصَدَقَةٍ أَو مَعرُوفٍ أَو إِصلاحٍ بَينَ النَّاسِ» «1».

ومن اليقين أنّ مثل هذ الغضب مقدّس وإلهي حيث يوثّر كثيراً على مستوى سوق الشخص المذنب بإتّجاه الحق والعدالة والسير في خط الإيمان.

4- ونقرأ في حالات أبي ذر رضى الله عنه عندما لم يتحمل عثمان أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر أمر بتبعيده ونفيه إلى صحراء الربذة في أسوأ الظروف والحالات، فما كان من الإمام علي عليه السلام إلّاأن حضر لتوديعه وقال له: «يا أَبا ذَر إِنَّكَ غَضِبتَ للَّهِ (عَزَّ وَجَلَّ) فَارْجُ مَنْ غَضِبتَ لَهُ إِنَّ القَومَ خافُوكَ عَلى دُنياهُم وَخِفتَهُم عَلى دِينِكَ، فَاترُكْ فِي أَيدِيهِم ما خافُوكَ عَلَيهِ وَاهرُب مِنهُم بِما خِفتَهُم عَلَيهِ» «2».

وبديهي أنّ غضب أبي ذر رضى الله عنه كان بالنسبة إلى مايراه من التلاعب بأموال المسلمين وبيت المال وما يشاهده من الظلم والجور بحق سائر المسلمين فإنّ مثل هذا الغضب يقع في دائرة الغضب الإلهي المقدّس.

وفي كلام آخر لأبي ذر رضى الله عنه أيضاً عندما أمر معاوية بنفيه عن الشام وابعاده عنه لشدّة انتقاداته اللاذعة وجرأته وشجاعته في اللَّه حيث خاف معاوية على مقامه وسمعته بين أهل الشام، فما كان من أبي ذر رضى الله عنه إلّاأنّ خاطب المسلمين من أهل الشام الذين جاءوا لتوديعه وقال: «أَيُّها النّاسُ إِجمَعُوا مَعَ صَلاتِكُم وَصَومِكُم غَضَباً للَّه عَزَّ وَجَلَّ إِذا عُصِيَ فِي الأَرضِ» «3».

5- ونقرأ في حديث شريف عن سيرة سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام عندما جاء إلى والي المدينة الوليد بن عتبة: «فَقَد كانَتْ بَينَ الحُسينِ عليه السلام وَبَينَ الولِيد بنِ عَقبةِ مَنازَعَةٌ فِي ضَيعَةٍ فَتَناوَلَ الحُسَينِ عليه السلام عَمامَةَ الوليدِ عَنْ رَأَسِهِ وَشَدَّها فِي عُنقِهِ وَهُوَ يَومَئِذٍ والٍ عَلَى الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 360

المَدينَةِ، فَقالَ مَروانُ:

بِاللَّهِ ما رَأَيتُ كَاليَومِ جُرأَةَ رَجُلٍ عَلى أَمَيرهِ، فَقالَ الوَلِيدُ: وَاللَّهِ ما قُلتَ هذا غَضَباً لِي وَلَكِنَّكَ حَسَدتَنِي عَلى حَلمِي عَنهُ وَإِنّما كَانَتِ الضَّيعَةُ لَهُ، فَقالَ الحُسَينُ عليه السلام: الضَّيعَةُ لَكَ يا وَلِيدُ وَقامَ» «1».

وهذه إشارة إلى أنّ غضبه عليه السلام لم يكن للدنيا وحطامها بل لإثبات عجز الوليد عن فرض رأيه بالقوة.

6- ونقرأ في حديث آخر عن الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام عندما بعث بمالك الأشتر والياً على مصر فارسل معه كتاباً إلى أهل مصر يقول فيه: «مِنْ عَبدِاللَّهِ عَليِّ أَمِيرِالمُؤمِنِينَ عليه السلام إلَى القَومِ الَّذِينَ غَضِبُوا للَّهِ حِينَ عُصِيَ فِي أَرضِهِ وَذُهِبَ بِحَقِّهِ» «2».

7- وورد في بعض الأحاديث الشريفة أنّ اللَّه تعالى أوحى لأشعياء النبي عليه السلام: «إِنِّي مُهلِكٌ مِنْ قَومِكَ مائَةَ أَلفٍ، أَربَعينَ أَلفاً مِنْ شِرارِهِم وَسَتِّينَ ألفاً مِنْ خيارِهِم، فقالَ عليه السلام:

هَؤلاءِ الأَشرارِ فما بالُ الأَخيارِ؟ فَقالَ: داهَنُوا أَهلَ المَعاصِي فَلَم يَغضَبُوا لِغَضَبِي»».

هذه وأمثالها من الروايات الواردة في المصادر الإسلامية غير قليلة وتتحدّث جميعها عن الغضب المقدّس الذي يكون للَّه تعالى وللدفاع عن الحق مقابل الظالمين وقوى الانحراف وأصحاب البدع والضلالة.

أمّا الفرق بين الغضب المقدّس والمذموم هو أولًا: إنّ الغضب المقدّس يقع تحت سيطرة العقل والشرع ولا يتجاوز هذه الدائرة ويكون بهدف تعبئة جميع قوى الإنسان لمواجهةالعمل المنكر الذي يراد ارتكابه لمنع وقوعه وارتكابه، وأمّا الغضب الشيطاني فإنّه ليس فقط لا يقع تحت دائرة العقل والشرع، بل يكون بوحي من الأهواء والشهوات والنوازع الذاتية التي تقود الإنسان في خط الانحراف والباطل.

ثانياً: إنّ الغضب المقدّس يتّجه لتحقيق أهداف مقدّسة ويتقارن مع المنهجية والنظم في دائرة السلوك والعمل، في حين أنّ الغضب المذموم والشيطاني لا يهدف إلى تحقيق شي ء مفيد ومقدّس ويفتقد كذلك إلى البرمجة

والنظم.

ثالثاً: إنّ الغضب المقدّس له حدود معيّنة لا يتجاوز عنها، في حين أنّ الغضب الشيطاني الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 361

لا يعرف حدّاً معيّناً، وعلى سبيل المثال يمكننا بيان ما تقدّم من الفرق بين هذين النحوين من الغضب بالقول بأنّ الغضب المقدّس حاله حال السيل النازل من الجبال والمجتمع خلف السد حيث يتمّ الإستفادة منه بشكل منظّم ومحسوب، مياهه تجري في قنوات خاصة وتتسبب في عمران المنطقة وزيادة البركة والخير العميم، في حين أنّ الغضب الشيطاني حاله حال السيول المخرّبة التي تسيل من الجبال ولا تجد أمامها مانعاً من الموانع وبالتالي فإنّها تدّمر كل شي ء تجده أمامها.

ونختم هذا الحديث بكلام عن الإمام الصادق عليه السلام حيث يقول: «إِنَّما المُؤمِنُ الَّذِي إِذا غَضَبَ لَم يَخرُجهُ غَضَبُهُ مِنْ الحِقِّ وَإِذا رَضَيَ لَم يَدخُلهُ رِضاهُ فِي باطِلٍ» «1».

الحلم وسعة الصدر:

النقطة المقابلة لحالة الغضب والحدّة المذمومة هي الحلم وضبط النفس وسعة الصدر كما ورد عن الإمام الحسن عليه السلام عندما سئل عن معنى الحلم فقال: «كَظمُ الغَيظِ وَمِلكُ النَّفسِ» «2»

، ومن علاماته حسن التعامل مع الناس والمعاشره بالمعروف مع الآخرين كما ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قوله: «لَيسَ بِحَليمٍ مَنْ لَمْ يُعاشِرِ بِالمَعرُوفِ مَنْ لابُدَّ لَهُ مِنْ مُعاشَرَتَهُ» «3».

أمّا الأشخاص الذين يتحلّمون بسبب عجزهم وعدم قدرتهم على إشهار الغضب وممارسته فهم يفتقدون في الواقع لفضيلة الحلم وسعة الصدر، لأنّهم كلّما وجدوا القدرة على ممارسة غضبهم وإخراجه إلى دائرة العمل يتحرّكون فوراً للإنتقام من الطرف الآخر كما ورد هذا المعنى في الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين عليه السلام حيث قال: «لَيسَ الَحلِيمُ مَنْ عَجَزَ فَهُجِمَ وإِذا قَدَرَ إنتَقَمَ إِنَّما الحَلِيمُ مَنْ إِذا قَدَرَ عَفى «4».

الاخلاق فى القرآن،

ج 3، ص: 362

وعلى أية حال فإنّ الحلم وضبط النفس يعدّ من أفضل وأكرم القيم الأخلاقية وخاصة للرؤساء والمدراء والأولياء على العوائل حيث يتسبب في تكاملهم المعنوي وقوّة مديريّتهم وجذب القلوب إليهم وبالتالي بإمكانه أن يحل لهم الكثير من المشكلات ويهوّن عليهم المصاعب، أمّا بالنسبة إلى أهميّة هذه الفضيلة الأخلاقية فنختار في هذا المضمون عدّة روايات واردة في هذا الباب:

1- ما ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «أَلا اخبِرُكُم بِأشبَهَكُم بِي أَخلاقاً؟ قالُوا: بَلى يا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: أَحسِنَكُم أَخلاقاً وَأَعظَمَكُم حِلماً وَأَبَرَّكَمُ بِقَرابَتِهِ وَأَشَدَّكُم إِنصافاً مِنْ نَفسِهِ فِي الغَضَبِ وَالرِّضا» «1».

2- ونقرأ في حديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أيضاً قوله: «ما جُمِعَ شَيٌّ إِلى شَيٍّ أَفضَلَ مِنْ حِلمٍ إِلى عَلمٍ» «2».

3- وورد في الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «أَشجَعُ النَّاسِ مَنْ غَلَبَ الجَهلَ بِالحِلمِ» «3».

ويشبه هذا المعنى ما ورد أيضاً عن الإمام عليه السلام أنّه قال: «أَقوَى النّاسِ مَنْ قَوى عَلى غَضِبِهِ بِحِلمِهِ» «4».

4- ونقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام عليه السلام أنّه قال: «إِنَّ أَفضَلَ أَخلاقِ الرَّجالِ الحِلمُ» «5».

5- وفي حديث شيّق عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إِنَّ المُؤمِنَ لَيُدرِكَ بِالحِلمِ واللِّينِ دَرَجَةَ العابِدِ المُتَهَجِّدِ» «6».

وهذا تعبير في الحديث الشريف يبيّن بوضوح أنّ الحلم وضبط النفس يعدّ من العبادات الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 363

المهمّة في دائرة القرب الإلهي.

6- وجاء في حديث آخر عميق المعنى عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «مِنْ أَحَبَّ السَّبِيلِ إِلى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ جُرعَتانِ جُرعَةَ غَيطٍ تَرُدُها بِحِلمٍ وَجُرعَةُ مُصِيبَةٍ تَرُدُّها بِصَبرٍ» «1».

7-

وسمع الإمام علي عليه السلام يوماً رجلًا يشتم خادمه قنبر وكأنّ قنبر أراد أن يجيبه فقال له الإمام: «مَهلًا يا قَنبَر، دَع شاتِمَكَ، مُهاناً، تَرضي الرَّحمنَ، وَتُسخِطُ الشَّيطانَ، وَتُعاقِب عَدوَّكَ،، فَوَ الَّذِي خَلَقَ الحَبَّةَ وَبَرءَ النَّسَمَةَ ما أَرضى المُؤمِنُ رَبَّهُ بِمِثلِ الحِلمِ، وَلا أَسخَطَ الشَّيطانَ بِمثلِ الصَّمتِ، وَلا عُوقِبَ الأَحمَقُ بِمثلِ السُّكُوتِ عَنهُ» «2».

8- وورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «مَنْ كَظَمَ غَيظاً وَهُوَ قادِرٌ عَلى إِنفاذِهِ وَحَلُمَ عَنهُ أَعطاهُ اللَّهُ أَجرَ شَهيدٍ» «3».

9- وورد في حديث عن الإمام الباقر عليه السلام أنّ أباه علي بن الحسين عليه السلام قال: «إنَّهُ لَيُعجِبُنِي الرَّجُلُ أَنْ يُدرِكُهُ حِلمُهُ عِنَدَ غَضَبِهِ».

10- ونختم هذا البحث بحديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام (رغم وجود روايات كثيرة في هذا الباب) ورد في هذا الحديث عن حفص ابن أبي عائشة قال: بعث أبو عبداللَّه عليه السلام (الصادق) غلاماً له في حاجة فأبطأ، فخرج أبوعبداللَّه عليه السلام على أثره لمّا أبطأ، فوجده نائماً، فجلس عند رأسه يروّحه حتّى انتبه، فلمّا تنبّه قال له أبو عبداللَّه: «يا فلان واللَّهِ ما ذَلِكَ لَكَ، تَنامُ اللّيلَ وَالنَّهارِ، لَكَ اللّيلُ وَلَنا مِنكَ النّهارُ» «4».

هذا السلوك الممعن في المحبّة والتواضع والحلم للإمام عليه السلام يمكنه أن يكون اسوة للأشخاص الذين يعيشون حالة الغضب والحدّة وأنّهم في مثل هذه الموارد عليهم أن يسدلوا الستار على غضبهم ويسلكوا طريق الحلم وضبط النفس.

وهنا ينبغي استعراض بعض الامور المهمّة في هذا الباب:

1- إنّ الحلم وضبط النفس له آثار إيجابية كثيرة في حياة الناس على المستوى الفردي والاجتماعي، ومن ذلك:

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 364

إنّه يحفظ الإنسان من أخطار الغضب التي قد تدمّر حياته وتجعله يعيش الندم إلى

آخر عمره.

والآخر أنّ الحلم يورث الإنسان العزّة وقوّة الشخصية والشرف، لأنّ جميع الناس يرون أنّ الحلم وضبط النفس في مقابل الأشخاص الجهلاء والحاقدين دليل على عظمة النفس وقوّة الشخصية ورجحان العقل، ولذلك ورد في بعض الروايات عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال:

«مَن حَلُمَ سادَ» «1».

مضافاً إلى ذلك أنّ الحلم في مقابل الجهلاء يتسبب في أنّ الناس يهرعون لنصرة الحليم ضدّ الجاهل، ولهذا ورد في الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «إنَّ أَوّلُ عِوَضِ الحَليمِ مِنْ خِصلَتِهِ أَنَّ النَّاسَ كُلُّهُم أَعوانُهُ عَلى خَصمِهِ» «2».

ومضافاً إلى أنّ الحلم يورث الإنسان العزّة وماء الوجه في حين أنّ الغضب العجين بالجهل يتسبب في إراقة ماء الوجه وهتك حرمة الإنسان، كما ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «ما عَزَّ اللَّهُ بِجهلٍ قَطُّ وَلا أَذَلَّ بِحلمٍ قَطُّ» «3»

والخلاصة أنّ فضيلة الحلم وضبط النفس وسعة الصدر لها بركات وإيجابيات كثيرة في حياة الإنسان، وأفضل ما قيل في هذا الباب ما ورد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: «فَأَمّا الحِلمُ فَمِنهُ رُكُوبُ الجَمِيلِ، وَصُحبَةُ الأَبرارِ، وَرَفعٌ مِنَ الضِّعَةِ، وَرَفعٌ مِنَ الخَساسةِ وَتَشهِّي الخَيرِ، وَيُقَرِّبُ صاحِبَهُ مِنْ مَعالِي الدَّرَجاتِ، وَالعَفوَ وَالمَهلِ وَالمَعرُوفِ والصَّمتِ، فَهذِا ما يَتَشَعَّبُ لِلعاقِلِ بِحِلمِهِ» «4».

2- إنّ الحلم وضبط النفس حاله حال سائر الصفات الأخلاقية للإنسان من حيث الدوافع والأسباب المتعددة التي تقود الإنسان باتّجاه هذه الفضيلة، ويمكننا استعراض بعض هذه الأسباب والدوافع:

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 365

الف) إنّ التسلط على النفس وضبط القوى والنوازع النفسية يتسبب في أن يصمد الإنسان أمام المصاعب والأزمات فلا ينهار أمامها، وبالتالي لا يخضع أمام قوّة الغضب والانفعال، كما ورد عن الإمام

علي عليه السلام في تعريف الحلم الإشارة إلى هذا المعنى حيث قال:

«كَظمُ الغيظِ ومِلكُ النَّفسِ» «1».

ونفس هذا المعنى ورد أيضاً عن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام «2».

ب) ومن الامور التي تمنع الإنسان من الانهيار والخضوع أمام الغضب وتقوّي في واقعه فضيلة الحلم هوعلو الطبع وعلو الهمّة وقوّة الشخصية في الإنسان والتي لا تدعه يواجه الغضب والحدّة من موقع الانفعال ويسلك سلوك الجهلاء كما يقول أميرالمؤمنين عليه السلام:

«الحِلمُ وَالأَناهُ تَوأَمانِ يَنتُجُهُما عُلوُ الهِمَّةِ» «3».

ج) ومن الأسباب الاخرى في تقوية هذه الفضيلة الأخلاقية في واقع الإنسان وقلبه هوالإيمان باللَّه تعالى والتوجّه إلى الذات المقدّسة من موقع الذوبان في صفاته وأسمائه الحسنى ومنها صفة الحلم الإلهي مقابل العصاة والمجرمين من عباده كما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: «الحِلمُ سِراجُ اللَّهِ يَستَضي ء بِهِ صاحِبُهُ إِلى جَوارِهِ وَلا يَكُونُ حَليماً إِلّا المَؤيَّدُ بِأَنوارِ اللَّهِ وَبِأَنوارِ المَعرِفَةِ وَالتَّوحِيدِ» «4».

د) ومن العوامل الاخرى لتفعيل هذه الفضيلة هو مطالعة آثارها الإيجابية ونتائجها الحميدة على حياة الإنسان وكذلك مطالعة الآثار السلبية للغضب والحدّة بإمكانه الحدّ من قوّة هذه الحالة النفسية والتقليل من أضرارها، كما ورد عن أميرالمؤمنين عليه السلام قوله: «الحِلمُ نُورُ جُوهَرَهُ العَقلَ» «5».

وقال عليه السلام أيضاً في حديث آخر: «بِوُفُورِ العَقلِ يَتَوَفَّرُ الحِلمُ» «6».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 366

ونقرأ أيضاً في حديث آخر عن هذا الإمام عليه السلام قوله: «عَلَيكَ بِالحِلمِ فَإِنَّهُ ثَمَرَةُ العِلمِ» «1».

3- موارد الاستثناء، رغم أنّ الحلم يعدّ من الفضائل الأخلاقية البارزة في حياة الإنسان وسلوكه، ولكن هناك بعض الموارد في حركة التفاعل الاجتماعي لا يكون فيها الحلم فضيلة أخلاقية، ومثل هذه الاستثناءات موجودة في سائر الفضائل الأخلاقية أيضاً، مثلًا في الموارد التي يتسبب فيها الحلم وضبط

النفس زيادة الجرأة لدى الجهلاء والمتعصبين الذين يستغلون الخُلق السامي لدى الطرف الآخر فيتعاملون معه من موقع العقدة والخصومة وزيادة العدوان، فهنا يكون الحلم غير مؤثّر في التأثير على الجاهل الجاهل بل ينبغي استعمال طرق اخرى لإسكاته وكبح جماحه وردعه عن غيّه.

وكذلك في الموارد التي يؤدّي فيها الحلم إلى الإضرار بالمجتمع أو بالمذهب والدين فهنا من الخطأ استخدام صفة الحلم وسعة الصدر والسكوت.

وكذلك من الموارد الاخرى هو ما إذا كان سلوك طريق الحلم يحسب من علامات الضعف والذلّة في صاحبه.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 367

العفو والانتقام

تنويه:

إنّ من أكبر الفضائل الأخلاقية التي لا يصل الإنسان إلى مراتب الكمال بدونها هي صفة العفو والصفح عند القدرة على الردّ العملي على الطرف المقابل وترك الانتقام منه.

إنّ الكثير من الناس يعيشون حالة الحقد الكامن في قلوبهم وأعماقهم وينتظرون الفرصة السانحة للانتقام من عدوّهم والظفر به، فلا يتحرّكون في خط الرد بالمثل وجواب السيئة بالسيئة فقط، بل يردون السيئة الواحدة بأضعافها من السيئات والأعمال الانتقامية، والأسوأ من الجميع أنّ هذه الصفة الرذيلة تتجلّى بمظهر الصفة الحسنة التي تبعث على الفخر والاعتزاز فيقول الإنسان إنني قد ظفرت بعدوّي وأذقته العذاب الشديد وفعلت معه كذا وكذا.

إنّ التاريخ البشري ملي ء بحالات الانتقام والقسوة من قبل السلاطين والامراء ورؤساء القبائل لأقوامهم أو لأقوام اخرى من أعدائهم.

والعجيب هو أنّ حالات الانتقام هذه تتشابك مع بعضها بصورة سلسلة وحلقات متوالية، فعلى سبيل المثال أنّ إحدى القبائل تقوم بقتل شخص من القبيلة الاخرى، فتقوم قبيلة المقتول عند توفّر الفرصة بالثأر لنفسها وتقتل خمسين شخصاً من القبيلة الاخرى وهكذا

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 368

يستمر النزاع والصراع وسفك الدماء.

إنّ أشكال النهب والسلب وهتك النواميس والأعراض والقتل الفجيع في التاريخ

البشري معلول لهذه الصفة الخبيثة والذميمة في أعماق البشر وتمتد إلى ذواتهم الحيوانية وعناصر الشر فيهم.

وبعكس ذلك ما نجده في سيرة الأنبياء والأولياء هو أنّهم عندما تسنح لهم الفرصة ويتغلّبون على عدوهم فإنّهم يتحرّكون من موقع العفو والصفح عن جرائمه السابقة وبذلك يعملون على تبديل أشدّ الأعداء إلى أقرب الأصدقاء.

إنّ مثل هذه الشخصيات الفذّة في التاريخ البشري لا يعيشون حالة الرغبة في الثأر لأنفسهم والانتقام من عدوّهم وغسل الدم بالدم (إلّا في الموارد الاستثنائية) والردّ بالسيئة بمثلها، بل على العكس من ذلك كانوا يتحرّكون ما أمكنهم على مستوى جواب السيئة بالحسنة، لأنّ هدفهم تربية النفوس وتهذيبها والسير بها في خط الصلاح والإيمان والهداية لا في خط الانتقام، ولذلك كانوا يهدفون إلى إطفاء الفتنة لا إشعال نار جديدة.

ولكن من اليقين أنّ مثل هذا السلوك الإنساني لا يتسنى من أيّ شخص كان، بل يختص به الأشخاص الذين يعيشون الإيمان والتقوى والتسلّط على النفس في أعلى مستوياته، إنّه عمل الأشخاص الذين يعيشون الفضيلة والأخلاق السامية، وإلّا فانّ من يعيش التوحش والقساوة في قلبه لا يعرف سوى الانتقام ولا يفتخر إلّابالثأر لنفسه.

وأمّابالنسبة إلى الآيات القرآنية والروايات الإسلامية فنجدها مليئة في بيان فضيلة العفو والصفح وذم روح الانتقام والثأر، والشاهد على ذلك ما نقرأه في سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله والأئمّة المعصومين عليهم السلام في هذا الباب، ونموذج لذلك ما ورد في قصّة فتح مكّة والعفو العام الذي أصدره النبي الأكرم صلى الله عليه و آله عن أعدائه الشرسين والحاقدين.

ومع هذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته دروساً في العفو والصفح أو ما ورد فيه من ذم غريزة الانتقام والثأر (والجدير بالذكر أنّ مفردة (الانتقام)

لم ترد في القرآن الكريم بالمعنى المذكور آنفاً، بل بمعنى العقاب الإلهي، ولذلك فكل مورد وردت فيه هذه الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 369

الكلمة فإنّه يراد بها ما ينسب إلى اللَّه تعالى من العقاب على المجرمين ولا يرتبط ببحثنا الحاضر):

1- «وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَايُحِبُّ الظَّالِمِينَ» «1».

2- «وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» «2».

3- «خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ» «3».

4- «وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ» «4».

5- «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ» «5».

6- «وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ* وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» «6».

7- «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْ ءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ»»

.8- «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» «8».

9- «إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً» «9».

10- «وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا» «10».

تفسير واستنتاج:

تتعرض «الآية الاولى» من الآيات محل البحث إلى الحديث عن مسألة المقابلة بالمثل وجزاء السيئة بالسيئة وأنّ ذلك من حق المؤمنين (لكي لا يرى المعتدي والمجرم نفسه في أمن من العقاب) ثمّ أشارت

الآية إلى مسألة العفو والصفح وترك الانتقام وتقول: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ».

ونظراً إلى أنّ سورة الشورى من السور التي نزلت بأجمعها في مكّة المكرّمة، ونعلم أنّ المسلمين في ذلك الزمان كانوا في دائرة العدوان الواسع الموجّه إليهم من قبل الأعداء المشركين، ومع ذلك فالقرآن الكريم في الآية 39 من هذه السورة يأمر المسلمين أن لا يستسلموا في مقابل الظلم والعدوان، وعندما يواجهون حالة الظلم هذه فعليهم أن يستمدّوا العون من إخوانهم ويتكاتفوا فيما بينهم لردع هذا العدوان، ثم يشير في الآية 40 إلى هذه الحقيقة، وهي أنّه لا ينبغي أن يتحرّكوا من موقع الانتقام والثأر بسبب ما يرونه من العدوان على بعض أصدقائهم ورفاقهم وبالتالي يتجاوزون الحدّ بالردّ بالمثل فيكونون في صف الظالمين أيضاً، وعليهم كذلك أن يتخذوا العفو والصفح سلوكاً إنسانياً لهم فيما لو لم يترتب عليه آثار سيئة.

أمّا المراد من كلمة (وأصلح) في هذه الآية والتي وردت بعد كلمة العفو، فالمفسّرون ذهبوا إلى تفسيرات متعددة، فبعض ذهب إلى أنّ المراد من الإصلاح هوالإصلاح بين الإنسان وربّه، بينما ذهب البعض الآخر إلى أنّ المراد به الإصلاح بين المظلوم والظالم حتّى لا تتكرّر هذه القضيّة بينهما مرّة اخرى، وذهب ثالث إلى أنّ المراد به هو إصلاح النفس وتطهيرها من أدران الانتقام وشوائب الغضب والتوتر الذي تفرضه حالات الصراع مع الطرف الآخر، وذهب بعض إلى أنّ معناه ترك القصاص.

ولا يبعد أن يراد بهذه الكلمة جميع هذه المعاني التي ذكرت في تفسيرها، وعلى أيّة حال فإنّ الآية تبيّن بوضوح هذه الحقيقة، وهي أنّ العفو والإصلاح الذي يأتي بعده بإمكانه أن يقلع جذور الحقد من قلوب الناس، وعبارة (فأجرُهُ عَلى اللَّهِ) بشكل مطلق وبدون تعيّين

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 371

حدود لهذا الأجر حتّى الجنّة أيضاً يدلّ على أنّ هذا الأجر والثواب إلى درجة من العظمة والسعة أنّه لا يعلم مقداره إلّااللَّه تعالى.

أمّا «الآية الثانية» فناظرة إلى حادثة الإفك التي وقعت في صدر الإسلام، يعني ما قام به بعض المنافقين من إتّهام إحدى زوجات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بما ينافي العفة ولغرض الخدشة في شخصية النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وموقعيّة الإسلام، فتشير الآية الشريفة إلى أنّ مسألة العفو والصفح مطلوبة في كل الأحوال حتّى تجاه المذنبين والملوّثين، لأنّ هذه الآية نزلت عندما أقسم بعض الصحابة بعد قضية الإفك أنّهم لن يساعدوا أي شخص من الأشخاص الذين اشتركوا في هذه الواقعة، فمنعتهم عن استخدام أدوات العقاب وأمرتهم بالعفو والصفح تجاه هؤلاء الخاطئين وقالت: «وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».

ثمّ تضيف الآية: إنّ على المؤمنين أن يسلكوا طريق العفو والصفح وتقول: «وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ»، في حين أنّكم تأملون من اللَّه الرحمة والمغفرة، فكذلك عليكم أن تسلكوا هذا الطريق تجاه الآخرين: «وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» فيغفر لكم أيضاً ويرحمكم.

والملاحظة الملفتة للنظر هنا أنّ قضية الإفك كانت بمثابة مؤامرة خطيرة استهدفت الإسلام وشخصية النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، حيث تبنّى هذه المؤامرة جماعة من المنافقين، ولكنّ بعض المسلمين الغافلين إنخدعوا بهذه الحيلة وتورّطوا في هذا الإثم، ورغم ذلك فالقرآن الكريم يوصي المؤمنين بالعفو والصفح عن هؤلاء الغافلين الذين تورّطوا بهذه المؤامرة من موقع الجهل لا من موقع الخبث والحقد والنفاق، وعليه فبالنسبة إلى المسائل الشخصية والامور الخاصة بالأفراد فالعفو يكون بطريق أولى.

أمّا الفرق

بين (العفو) و (الصفح) فيقول الراغب في مفرداته، إنّ العفو بمعنى المغفرة والصفح ترك اللّوم والتوبيخ والذي هو مرحلة أعلى من العفو، لأنّه يمكن أن يعفو الإنسان الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 372

عن الطرف المقابل إلّاأنّه لا يترك لومه وتوبيخه أو معاتبته، ولكن بما أنّ الصفح في اللغة يعني الإعراض بالوجه عن الإنسان المذنب فيمكن أن يكون إشارة إلى لزوم تناسي ذنب المذنب ووضعه في زاوية الإهمال والغفلة ولا يكتفي بترك اللّوم فقط، أي أنّ لا يترتّب أي أثر سلبي على العلاقة بين الطرفين.

وهنا ملاحظة مهمّة اخرى وهي أنّ هذه الطائفة من المؤمنين أقسموا على أن لا يمدّوا يد العون لجميع المتورّطين في قضيّة الافك، أي أن قسمكم بالنسبة إلى مثل هذه الامور لا أثر له على مستوى العمل والممارسة لأنّه لا يقع في دائرة التكليف بالنسبة إلى الامور الخيّرة.

«الآية الثالثة» تأمر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بأوامر أخلاقية ثلاثة ويتّضح منها تكليف الآخرين أيضاً وتقول: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ».

هذه التعليمات الثلاثة التي وردت في الآية الشريفة بمثابة أوامر صادرة من اللَّه تعالى إلى نبيّه الكريم باعتباره قائداً للُامّة واسوة حسنة لسائر المسلمين وبذلك توضّح في مضمونها أهميّة العفو والصفح في دائرة المسؤولية الملقاة على عاتق القادة الإلهيين، فالأمر الأوّل من هذه الأوامر الإلهية هو الأمر بالعفو والصفح، والأمر الثاني إشارة إلى أنّ على القائد أن لا يحمّل الناس ما فوق طاقتهم وقدرتهم وأن لا يطلب منهم سوى المعروف الممكن، وفي الأمر الثالث نجد التوصية بأهمال الكلمات اللامسؤولة الصادرة عن الجاهلين والمخالفين وعدم ترتيب الأثر على مزاحماتهم وما يرتكبونه تجاه أتباع الحق من ممارسات سلبية وكلمات شانئة.

إنّ القادة الحقيقيين والسالكين

طريق الحق يواجهون في مسيرتهم الإلهية الكثير من الأفراد المتعصّبين والجاهلين والمعاندين الذين لا يجدون فرصة في الوقيعة بأصحاب الحق وإيجاد الأذى والضرر بهم إلّاواستغلّوها، فالآية أعلاه وكذلك الكثير من الآيات القرآنية الاخرى تؤكّد على المؤمنين السالكين في خط اللَّه والتقوى أن يجنّبوا أنفسهم الصراع مع هؤلاء وأنّ الأفضل لهم التعامل مع مثل هذه المسائل من موقع اللآمبالاة

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 373

والإهمال والإعراض، والتجربة العملية تشير إلى أنّ أفضل طريق لإيقاظ هؤلاء من غفلتهم وإطفاء نار غضبهم وصدهم وتعصّبهم هو هذه الطريقة في التعامل معهم من موقع قوّة الشخصية وكبر النفس.

وقد ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه عندما نزلت هذه الآية الشريفة سأل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله جبرائيل عن ذلك فقال: لا أدري حتّى أسأل العالم، ثمّ أتاه فقال: «يا مُحِمَّد إِنّ اللَّهَ يَأَمُرُكَ أَنْ تَعفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ وَتُعطِي مَنْ حَرَمَكَ وَتَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ» «1».

وينطلق الحديث في «الآية الرابعة» ليخاطب جميع المسلمين ويأمرهم بأنّهم إذا أرادوا التعامل بالمثل مع الأعتداء الموجّه من الآخرين ويعاقبوا عليه فعليهم أن لا يتجاوزوا المقدار المشروع وهو مقدار المثل فقط لا أكثر، ولكنّهم إذا التزموا جانب البر والعفو والصفح فإنّ ذلك أفضل من الحل السابق وتقول الآية: «وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ».

وقد ورد في الروايات الشريفة أنّ هذه الآية نزلت في معركة احد عندما نظر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله إلى جسد عمّه حمزة، وقد استشهد في ميدان المعركة ومثّل به الأعداء القساة وشقّوا بطنه وأخرجوا كبده وقطعوا اذنه وأنفه، فلّما رأى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله ذلك

تأثّر كثيراً وبعد أن حمد اللَّه وأثنى عليه شكى له حاله وقال: «أَصبِرُ أَصبِرُ» «2».

والملفت للنظر أنّ الآية التي تليها تقول: «وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ» وهي إشارة إلى أنّ على الإنسان الذي يعيش هذه اللّحظات الأليمة وتستولي على وجوده سحابة من الحزن والهم بسبب ما يواجهه من عدوان القساة وجرائمهم فإنّ عليه أن يلتحف بالصبر والصفح رغم أنّها حالة صعبة وعسيرة لا يستطيعها الإنسان إلّابمدد من اللَّه تعالى ومعونته.

وبالطبع فإنّ السماح بالردّ بالمثل الوارد في أوّل الآية الشريفة يعود إلى أصل قتل العمد،

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 374

ولكن بالنسبة إلى المثلة والتي هي عمل غير إنساني وصادر من روحيّة ملّوثة فإنّ المقابلة بالمثل لا تجوز في هذه الحالة، وهذا المعنى وردبصراحة في الروايات الإسلامية التي تؤكّد عدم جواز المثلة حتّى بالكلب العقور، فحتّى لو استفيد من الآية الشريفة جواز المثلة «1» فإنّه يكون المراد منها بمعونة الروايات الصريحة هو أصل القتل فقط لا المثلة، وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ مسألة الانتقام بالأكثر من الحد الشرعي والتهديد بالمثلة لم يكن صادراً من النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، بل من المسلمين، وعمومية الخطاب في الآية الشريفة تؤيّد هذا المعنى وأنّ هذا التصميم صدر من المسلمين لا من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

وتأتي «الآية الخامسة» لتتحدّث إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وتأمره بما فوق العفو والصفح وتقول: «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ».

أمّا «الآية السادسة» فتؤكّد هذا المعنى أيضاً بعبارة اخرى تقول: «وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ».

ونقرأ في الآية 22 من سورة الرعد عندما تستعرض

صفات اولوا الألباب والعقول أنّ إحدى صفاتهم هي: «وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ» وهذا التعبير يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ هؤلاء يتحرّكون على مستوى جبران أخطائهم وذنوبهم بالحسنات وأعمال الخير، وكذلك يمكن أن تكون إشارة إلى أنّ هؤلاء يجيبون الإساءة الموجّه من الغير بالإحسان من جهتهم ولا يردّون بالمثل على الطرف الآخر لكي يوقضوا عناصر الخير في وجدان الطرف الآخر ويجعلونه يعيش الندم على ما صدر منه تجاههم.

ويحتمل أيضاً في تفسير هذه الآية أن يكون كلا المعنيين مراداً لها «2».

ويستفاد من هذه الآيات الثلاثة جيداً أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وكذلك المؤمنين مأمورون الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 375

بتجاوز حالة العفو والصفح والصعود إلى مرتبة أرقى منها ورد السيئة بالحسنة وهو العمل الذي لا يتيسّر من أي شخص كان، ولهذا فإنّ الآية التي بعدها تقول: «وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ».

وفي الحقيقة فإنّ مقابلة السيئة بالحسنة عمل ثقيل جدّاً لا يستطيع النهوض به إلّامن اوتي القدرة على النهوض بالأعمال الخيّرة المهمّة، والذين يعيشون الإيمان والتقوى والقيم الإنسانية بالمستوى الأعلى.

والملفت للنظر أنّ سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله والأئمّة المعصومين عليهم السلام طافحة بمثل هذه النماذج من السلوكيات الأخلاقية والإنسانية حتّى أنّه أحياناً يؤدّي سلوكهم الإنساني هذا إلى انقلاب الطرف الآخر من موقع الشر والعداوة إلى موقع الخير والمحبّة، والتجارب العملية الكثيرة تشير إلى التأثير الكبير لهذه الأعمال الأخلاقية في دائرة السلوك الإنساني والعلاقات الاجتماعية.

وتتعرض «الآية السابعة» إلى الحديث عن مسألة القصاص والتي تعدّ أحد الأحكام الاجتماعية المهمّة للإسلام والتي تضمن حقوق الناس وتحفظ لهم أنفسهم ودمائهم من أشكال العدوان بحيث أنّ القرآن الكريم يعبّر عن القصاص

بكلمة «الحياة» ولكنّه في نفس الوقت يفضّل عليه العفو والصفح وتقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى».

وبعد أن تذكر الآية موارد القصاص بالمثل تقول: «فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْ ءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ».

فلو أنّ القصاص تبدّل إلى الدية فعلى الطرف الآخر أن يتّخذ سبيل المعروف في عملية أداء الدية إلى ولي المقتول، وهذا المعنى بمثابة التخفيف والرحمة من اللَّه تعالى للناس.

وفي ختام الآية صرح القرآن الكريم أنّ بعد العفو والصفح أو تبديل القصاص إلى الدية لا حقّ في الرجوع في ذلك وممارسة سلوك العدوان والقساوة وقتل القاتل عند القدرة

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 376

والاستطاعة، وتحذّر المسلمين من هذا الموقف الخطير وتقول: «فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

لأنّ بعد العفو عن القاتل أو تبديل القصاص بالدية فإنّ ذلك يعني إغلاق الطريق تماماً عن العودة وبذلك يسقط حق القصاص تماماً، وعليه يكون الانتقام من القاتل بمثابة القتل العمد الذي يترتب عليه العقوبة في الشريعة الإسلامية.

وهذه الآية تضع القاتل بين الخوف والرجاء، فمن جهة تفتح عليه باب القصاص حتى لا يتجرأ أحد على تلويث يده بدماء الأبرياء خوفاً من القصاص، ومن جهة اخرى فإنّها قد فتحت باب العفو ثم حذّرت من الانتقام بعده ولتقف حائلًا في طريق الخشونة والعدوان اللّامسؤول من بعض الجماعات المتطرفة والمنفعلة، وهذا هو منتهى التدبير والحكمة في هذه المسألة الاجتماعية المهمّة.

والتعبير بكلمة (أخيه) في الآية المذكورة يشير إلى أنّه حتى لو وقعت حادثة قتل بين المسلمين فإنّ ذلك لا يعني قطع رابطة الاخوّة بينهم، وفي صورة عدم وجود ضرورة للقصاص فلا ينبغي إتّخاذه سبيلًا لحلّ الأزمة، وهذا التعبير يدلّ على أنّ الإسلام يرجّح

العفو على القصاص ويتحرّك من موقع تفعيل الشعور بالمحبّة والاخوّة لدى الأولياء بدلًا من ورح الثأر والانتقام.

وقد ورد هذا المضمون في رواية عن ابن عباس أيضاً «1».

وكذلك عبارة: «ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ» تدلّ مرّة اخرى على المفهوم القرآني في ترجيح العفو والصفح على القصاص أو تبديله بالدية.

وفي «الآية الثامنة» نقرأ خطاباً لجميع المؤمنين في دائرة الاختلافات والنزاعات العائلية حيث تقول الآية محذّرة للمؤمنين: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 377

وهذه العداوة يمكن أن تتجسد في السلوك العملي للشخص بطرق مختلفة، فمثلًا تتجلّى العداوة في البعد المعنوي كأن تمنع الزوجة أولادها المسلمين من الهجرة إلى المدينة في عصر البعثة، أو استعمال أساليب الضغط النفسي لعدم الوصية ببعض التركة والميراث إلى أعمال الخير وما ينفع الإنسان في آخرته أو تعرض الإنسان لبعض الأذى وتحميل الظروف الصعبة من قبل الزوجة المشاكسة أو الأبناء المنحرفين ولكن الآية الشريفة تصرّح في ذيلها بأنّ العفو والصفح أفضل وتقول: «وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ».

ولا شك أنّه لولا وجود العفو والصفح في أجواء العائلة من قبل الأب والولي على امور الأهل والأطفال أو كان كل فرد من أفراد الاسرة يتحرّك في تعامله مع الآخرين من موقع الانتقام وأخذ الحق والمقابلة بالمثل، فإنّ هذه الأجواء الاسريّة ستتحوّل إلى جهنّم ومحرقة يعيش فيها الأفراد القلق والاضطراب الدائم وعدم الأمن والراحة وبالتالي يتسبب ذلك في إنهدام العائلة وتلاشيها.

والملفت للنظر أنّ اللَّه تعالى يذكر في هذه الآية الشريفة بصراحة أنّ العفو في المرتبة الاولى ثم الصفح بعده، ويذكر في ذيل الآية بشكل ضمني الأمر مرّة اخرى بالمغفرة لأنّه يقول: «أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ

لَكُمْ» أو إذا تحركتم أنتم من موقع العفو والصفح والمغفرة فستكونون مشمولين لعفو اللَّه تعالى ومغفرته أيضاً.

أمّا الفرق بين العفو والصفح والغفران «1»، فالظاهر أنّ العفو هو المرتبة الاولى في عملية التعامل بالحسن في مقابل العمل السي ء ويعني ترك الانتقام وردّ الفعل المماثل، وأمّا الصفح فيعني الإعراض عن السيئة وعدم الاعتناء بها وكأنها لم تكن، وأمّا الغفران فيعني التغطية على آثار الخطيئة والذنب بحيث ينساها الناس، وهذه آخر مرحلة من مراحل مقابلة السيئة والتعامل معها بالطريقة الإيجابية، وهي أفضل مقامات الإنسان المؤمن في مقابل خطأ الآخرين وسيرتهم.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 378

وفي «الآية التاسعة» نجد أنّ العفو والصفح ذكرا إلى جانب أعمال الخير الاخرى وأنّ اللَّه تعالى وعد بالعفو أيضاً في مقابل ذلك العمل فتقول: «إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً».

وعليه فلا ينبغي أن يتصوّر الإنسان أنّ الانتقام عند القدرة سيجلب له الفخر والعزّة، فالفخر هو أن يتحرّك الإنسان في هذه الموارد من موقع ضبط النفس وتحريك عناصر الخير في أعماقه والمقابلة بالعفو والصفح فيما إذا كان العفو في موقعه ولم يثر في نفس الطرف الآخر عناصر الشر أو سو الظن.

وتتعرض «الآية العاشرة» والأخيرة من الآيات محل البحث إلى موقف النبي من المشركين وتوصيته بأن يتخذ الصبر جلباباً في مقابل أذى المشركين وعدوان المعاندين والمخالفين وتقول: «وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا».

ومعلوم أنّ أحد الوسائل في عملية التصدّي للرسالة والدعوة الإلهية وما كان يمارسه المشركون والأعداء تجاه النبي الأكرم صلى الله عليه و آله هو أنواع الهتك والإهانة والشتم والأذى للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله بحيث كان يشتد على قلب النبي الأكرم صلى الله

عليه و آله ذلك أحياناً، ولكن مع ذلك فإنّ اللَّه تعالى يوصيه بالتزام الصبر والمداراة وغض الطرف عن ذلك الواقع المؤلم وأن يهجرهم هجراً جميلًا.

والمراد ب (الهجر الجميل) هو الهجران المقترن بالمحبّة وحسن الخلق والتأسف على حال هؤلاء الناس المشاكسين ودعوتهم إلى الحق والخير، وهذه هي إحدى الطرق التربوية في مقابل الأفراد الذين يعيشون حالة الجهل والعناد في مقابل الحق بحيث إذا تعامل معهم الإنسان بالمثل فإنّ ذلك من شأنه أن يزيدهم طغياناً وعناداً، ولذا أمرت الآية الشريفة أن يتّخذ الإنسان موقف اللامبالاة أمام أذاهم وكلماتهم اللامسؤولة، ولكن البعض تصوّر أنّ الأمر في هذه الآية كان قبل نزول آية الجهاد التي نسخت هذه الآية واستبدلت العفو بالجهاد، وفي حين أنّ الأمر ليس كذلك، لأنّ الجهاد له محل معيّن، والهجر الجميل له محل آخر.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 379

وعلى أيّة حال فإنّ هذه الآية توصي بإتّخاذ سلوك العفو والصفح وخاصة في مقابل الأشخاص الذين ينطلق لسانهم دائماً بالكلمات الوقحة واللّامسؤولة ولا يمتنعون عن أي كلام وقح وذميم، لأنّ الهجر الجميل لا يتحقّق بدون عملية العفو والصفح.

وكما يقول المرحوم الطبرسي في مجمع البيان أنّ هذه الآية بمثابة الخطاب لجميع الدعاة والمبلّغين في كل زمان ومكان أن يلتزموا جانب ضبط النفس في مقابل أذى المخالفين والأعداء ولا يستسلموا أمام حالات الانفعال لموقف الجهلاء وكلماتهم اللّامسؤولة ويقابلوهم بحسن الأخلاق والمداراة والإغماض «1».

وهكذا توضّح الآيات أعلاه والتي تخاطب أحياناً جميع المسلمين وأحياناً اخرى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بعنوان قائد الامّة الإسلامية، المقام السامي للعفو والصفح من بين الفضائل الأخلاقية والمثل الإنسانية العليا في مقابل الحوادث الصعبة وتحدّيات الواقع الاجتماعي غير الملائم، وتجعل من هذه الفضيلة الأخلاقية أساساً

للتعامل الإسلامي بين أفراد المجتمع وحتى في مقابل الأعداء والمخالفين فيما لو لم يترتب على العفو والصفح أثراً سلبياً.

العفو والانتقام في الروايات الإسلامية:

أمّا في دائرة الروايات الإسلامية فنجد لمسألة العفو وكونه من الفضائل الأخلاقية السامية وكذلك ذم الانتقام إنعكاساً كبيراً، فقد وردت عبارات مثيرة في هذا الباب ومن ذلك:

1- ما ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إِذا كانَ يَومَ القَيامَةِ نادى مُنادٍ مَنْ كانَ أَجرُهُ عَلَى اللَّهِ فَليَدخُلِ الجَنَّةَ فَيُقالُ مَنْ ذا الَّذِي أَجرُهِ عَلَى اللَّهِ فَيُقالُ الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 380

العافُونَ عَنِ النَّاسِ فَيَدخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيرِ حِسابٍ» «1».

2- ونقرأ في حديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أيضاً أنّه قال في أحد خطبه: «ألا اخبِرُكُم بِخَيرِ خَلائِقِ الدُّنيا وَالآخِرَةِ العَفوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ وَتَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ وَالإِحسانُ إِلى مَنْ أَساءَ إِلَيكَ، وَإِعطاءُ مَنْ حَرَمَكَ» «2».

فنرى في هذا الحديث الشريف المرتبة السامية للعفو والصفح، وهو جواب السيئة بالحسنة وأنّ هذا المقام هومقام الأنبياء والأولياء والصلحاء من الناس.

3- وقال أمير المؤمنين عليه السلام: «العَفوُ تاجُ المَكارِمِ» «3».

ونعلم أنّ التاج هو علامة العظمة والقدرة والعزّة وكذلك يستخدم كزينة ويوضع على أشرف موضع من بدن الإنسان وهوالرأس، وهذا التعبير الوارد في الحديث الشريف يشير إلى أنّ العفو والصفح له مقام ممتاز من بين الفضائل الأخلاقية الاخرى.

4- وورد في حديث آخر عن هذا الإمام عليه السلام أنّه قال: «شَيئانِ لايُوزَنُ ثَوابُهُما العَفوُ وَالعَدلُ» «4».

إنّ جعل العفو إلى جانب العدل في الحديث الشريف يوضّح من جهة أهميّة العفو في عملية التفاعل الاجتماعي والمرتبة المعنويّة العالية له، ومن جهة اخرى يدلّ على أنّه قرين العدل، لأنّ العدل مضافاً إلى أنّه سلوك الفرد في

خط الحق فإنّه يتسبب في تقوية مفاصل النظام في المجتمع، ولكن العفو بما هو فضيلة أخلاقية يتسبب في رفع الحقد والكراهية واستبدالهما بالعواطف الإنسانية والمحبّة في العلاقات الاجتماعية، وإقتران هذين العنصرين في الدائرة الاجتماعية يرفع كل أشكال الظلم والتعدّي على حقوق الآخرين.

5- ونقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام عليه السلام في وصفه لأشقى الناس: «شَرُّ النَّاسِ مَنْ لإ

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 381

يَعفُ عَنِ الزَّلَّةِ وَلا يَستُرُ العَورَةَ» «1».

6- ونقرأ في حديث آخر أنّه جاء شخص من الأشقياء إلى المأمون وكان المأمون قد عزم على قتله، وكان الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام حاضراً في ذلك المجلس فقال المأمون: «ما تَقُولُ يا أَبا الحَسَنِ، فَقَالَ: أَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لايَزيدُكَ بِحُسنُ العَفوِ إلّاعِزَّاً فَعفى عَنهُ» «2».

وهكذا نجد أنّ المأمون قد عفى عن هذا الشخص الذي تجرّأ على ارتكاب ما هو ممنوع (وباحتمال قوى أنّه ارتكب جرماً سياسياً).

7- وجاء في حديث آخر عن أميرالمؤمنين عليه السلام قوله: «قِلَّةُ العَفوِ أَقبَحُ العُيُوبِ وَالتَّسَرُعُ إِلى الإنتِقامِ أَعظَمُ الذُّنُوبِ» «3»

8- وجاء في نهج البلاغة في الكلمات القصار عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «إذا قَدَرتَ عَلَى عَدُوكَ فَاجعَلِ العَفوَ عَنهُ شُكراً لِلقُدرَةِ عَلَيهِ» «4».

ونفس هذا المعنى ورد بصورة اخرى ومن ذلك قوله: «العَفوُ زَكاةُ الظّفَرِ» «5».

9- وورد في حديث الإمام أبو الحسن الرضا عليه السلام (أو الإمام الهادي عليه السلام) أنّه قال: «ما التَقَتَ فِئَتانِ قَطُّ إلّانَصَرَ اللَّهُ أَعظَمُهُما عَفواً» «6»

10- ونختم هذا البحث بحديث آخر عن الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «دَعِ الإِنتِقامَ فَإِنَّهُ مِنْ أَسوءِ أَفعالِ المُقتَدِرِ» «7».

ويستفاد من مجموع هذه الأحاديث الشريفة الأهميّة الكبرى التي يوليها الإسلام للعفو

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 382

والصفح وكذلك

يتّضح قبح الحقد والانتقام والثأر، والأحاديث الشريفة في هذا الباب كثيرة لا يمكننا استعراضها في هذا المختصر.

أقسام العفو:

إنّ فضيلة العفو والصفح وترك الانتقام والثأر تعتبر أصلًا من الاصول الشرعية والعقلية الواردة في الكتاب والسنة، ولكنّه لا يعني عدم وجود الاستثناء في بعض الموارد، بل هناك موارد يكون العفو والصفح فيها سبباً لجرّأة المجرمين والمنحرفين، ولا شك أنّه لا أحد يرى في العفو في مثل هذه الموارد فضيلة أخلاقية، بل إنّ حفظ نظام المجتمع والنهي عن المنكر والتصدّي لمنع وقوع الجريمة تقتضي عدم التساهل مع المجرم، وترك العفو في مثل هذه الموارد، والعمل بمقتضى العدل وما يفرضه من العقاب على المجرم.

ولذلك ورد في القرآن الكريم بالنسبة إلى المقابلة بالمثل في الآية 194 من سورة البقرة إشارة إلى هذا المعنى حيث تقول: «فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ».

وطبعاً هناك احتمال آخر في تفسير هذه الآية، وهو أنّ هذه الآية في مقام جواز القصاص العادل فقط ولا تدلّ على الوجوب أو الاستحباب (وفي الاصطلاح أنّ الأمر هنا هو في مقام توهّم الخطر والمنع).

وعلى أية حال فإنّ العفو والعقوبة لكل واحدة منهما محلّاً خاصاً لا ينبغي استخدام أحدهما مكان الآخر، فالعفو إنّما يكون فضيلة فيما لو كان الإنسان قادراً على الإنتقام والمقابلة بالمثل وأنّه لو سلك طريق العفو لم يكن ذلك من موقع الضعف والتخاذل ولا يرى الطرف الآخر أنّ هذا الموقف الإنساني نقطة ضعف في هذا الشخص، فمثل هذه الحالة للعفو تكون مفيدة وبنّاءة للطرفين، فإنّها بالنسبة إلى الطرف المظلوم والذي مكنته الظروف من الظالم يسبب في صفاء قلبه وضبط جماح نفسه وسيطرته على نوازعه وأهوائه النفسانية، وكذلك يعتبر مفيداً للظالم المغلوب حيث يدفعه إلى

إصلاح نفسه وتهذيبها وعدم تكرار ذلك العمل العدواني.

وقد نجد في الأحاديث الإسلامية أيضاً إشارة إلى هذا الاستثناء، ومن ذلك ما ورد في الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «العَفوُ يُفسِدُ مِنَ اللَّئِيمِ بِقَدَرِ إِصلاحِهِ مِنَ الكَرِيمِ» «1».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 383

ونقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام قوله: «العَفوُ عَنِ المُقِرِّ لاعَنِ المُصِرِّ عَفو» «1».

وأيضاً ورد في الحديث الشريف عن هذا الإمام عليه السلام أيضاً قوله: «جاز بِالحَسَنَةِ وَتَجاوَزَ عَنِ السَّيئَةِ ما لَم يَكُن ثَلماً فِي الدِّينِ أَو وَهناً فِي سُلطانِ الإسلامِ» «2».

ففي مثل هذه الموارد يجب التحرّك على مستوى إلحاق الجزاء العادل بالمسي ء.

وجاء في حديث آخر عن الإمام زين العابدين عليه السلام في تأييد هذا المعنى حيث قال: «حَقٌ مَنْ أَساءَكَ أَنْ تَعفُوَ عَنهُ، وَإِنْ عَلِمتَ أَنَّ العَفوَ عَنهُ يضِرُّ إِنتَصَرتَ قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وَتَعالَى وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعدَ ظُلِمهِ فَاولَئِكَ ما عَلَيهِم مِنْ سَبِيلٍ» «3».

ولكن لا ينبغي أن يكون وجود هذا الاستثناء سبباً لسوء التصرّف في بعض الموارد وأن يجعلها بعض الناس ذريعة للإنتقام في مورد العفو بحجّة أنّ العفو هنا يتسبب في زيادة الجرأة لدى المذنب والمجرم، بل ينبغي النظر بأخلاص وبعيداً عن حالات التعصّب إلى أصل العفو والصفح وموارد الاستثناء بدّقة كبيرة والعمل طبق هذه الموارد والاستثناءات.

والجدير بالذكر أنّ العفو في دائرة إجراء الحدود والتعزيرات الشرعية غير جائز إلّافي بعض الموارد المنصوصة في الروايات الإسلامية، لأنّ إجراء الحد والتعزير يعدّ من الواجبات الشرعية في مواردها.

الآثار الإيجابية والثمار الطيبة للعفو والصفح:

رأينا أنّ العفو والصفح باعتبارهما من الفضائل الأخلاقية التي وردت كثيراً في الآيات والروايات الشريفة تجتمع فيها آثار إيجابية ومعطيات حميدة كثيرة في حركة الحياة الفردية والاجتماعية حيث يمكن بيان خلاصتها:

1- إنّ سلوك طريق

العفو والصفح يمكنه أن يبدّل العدو الشرس أحياناً الى صديق حميم الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 384

وخاصة فيما لو كان متزامناً بالإحسان إلى الطرف المقابل، أي بالإجابة بالحسنة مقابل السيئة كما وردت الإشارة إلى ذلك في الآية 34 من سورة فصلت.

2- إنّ العفو والصفح يتسببان في دوام الحكومات واستمرار القدرة السياسية بين ذلك الحاكم الذي يمارس العفو مقابل أعدائه حيث يقلل من حالة العداء والخصومة لدى مخالفيه ويزيد من جماعة الأصدقاء والمحبّين، ونقرأ ذلك في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله: «عَفوُ المُلُوكِ بَقاءُ المُلكِ» «1».

3- إنّ العمل بمقتضى العفو والصفح يتسبب في زيادة عزّة الشخص وتقوية مكانته وشخصيته في المجتمع، لأنّ ذلك علامة على قوة الشخصية والشرف وسعة الصدر، في حين أنّ ممارسة الانتقام والثأر يدلّ على ضيق الافق وعدم التسلّط على النفس وانفلات قوى الشر وتسلطها على الإنسان، وقد جاء في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال:

«عَلَيكُم بِالعَفوِ فَإِنَّ العَفوَ لايَزيدُ إِلّا عَّزاً» «2».

4- إنّ العفو يقطع تسلسل الحوادث اللّاأخلاقية في واقع الناس من الحقد والبغضاء وكذلك السلوكيات الذميمة والقساوة والجريمة، وفي الواقع فإنّ العفو بمثابة المحطّة الأخيرة التي تقف عندها كل عناصر الشرّ هذه فلا يتجاوزها، لأنّ الانتقام والثأر يتسبب من جهة إلى تسعير نار الحقد في القلوب ويدعوها إلى التعامل بقساوة أشد ويفعّل فيها الكراهية وعناصر الخشونة، وهكذا يستمر الحال في عملية تصاعدية، وأحياناً يؤدّي الحال إلى نشوب معارك طاحنة بين طائفتين أو قبيلتين كبيرتين أو تسفك في ذلك الكثير من الدماء وتدمر الكثير من الطاقات والأموال والثروات.

وقد ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه

قال: «تَعافُوا تَسقُطُ الضِّغائِنُ بَينَكُم» «3».

5- إنّ العفو يتسبب في سلامة الروح وهدوء النفس وسكينة القلب وبالتالي يتسبب في طول العمر كما ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «مَنْ كَثُرَ عَفوُهُ مُدَّ فِي عُمرُهُ» «4».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 385

وبالطبع فما ذكرنا أعلاه هو من قبيل الآثار الإيجابية الدنيوية والبركات الاجتماعية للعفو والصفح، وأمّا النتائج المعنوية والأجر والثواب الاخروي فأكثر من ذلك بكثير، ونكتفي في هذا المعنى بحديث عن أميرالمؤمنين صلى الله عليه و آله يقول فيه: «العَفوُ مَعَ القُدرَةِ جُنَّةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ سُبحانَهُ» «1».

وأمّا أسباب ودوافع الانتقام والثأر فكثيرة أيضاً ومنها ضيق الافق والصدر وعدم النظر إلى المستقبل، والحسد والحقد، وضعف النفس، واتباع الهوى والكثير من الصفات الذميمة الاخرى التي تدفع كل واحدة منها أو بضمّها إلى الاخرى الإنسان إلى السقوط في نار الانتقام وحالة الردّ بالمثل للتشفي والأخذ بالثأر، وبالتالي زيادة النزاعات والصراعات بين الأفراد ممّا يفضي أخيراً إلى هدم نظام المجتمع وتلف الأموال والأنفس وهدر الطاقات والإمكانات للمجتمعات البشرية.

طرق علاج الانتقام وكسب فضيلة العفو:

إنّ أفضل الطرق لعلاج صفة الانتقام الرذيلة والصعود إلى أوج العزّة والكرامة باكتساب فضيلة العفو والصفح يكمن في الدرجة الاولى بالتفكر السليم حول معطيات وآثار كل واحد من هاتين الصفتين الأخلاقيتين، فعندما يرى الإنسان ما في العفو والصفح من البركات والمواهب والمعطيات الدنيوية والاخروية وكيف أنّه يتسبب في زيادة مكانته وعلو قدره وعزّته في نظر الخلق والخالق ويريح الإنسان من الكثير من المشكلات والمصاعب فيفتح له أبواب الحياة الكريمة ويثير المحبّة له في قلوب الناس، في حين أنّ الانتقام والردّ بالمثل أحياناً يؤدّي إلى انهدام عناصر الخير في حياة الإنسان ويعرّض نفسه وماله

وسمعته إلى الخطر الأكيد، فحينئذٍ إذا قارن الإنسان بين هذه المعطيات الإيجابية والسلبية للطرفين فإنّه سيأخذ جانب العفو قطعاً ويرجحّه على جانب الانتقام ويستمر في سلوك هذا الطريق حتّى تحصل لديه ملكة أخلاقية لفضيلة العفو والصفح.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 386

ومن جهة اخرى فعندما يتأمل الإنسان في جذور الحالة السلبية للإنتقام والدوافع النفسية التي تثير هذه الحالة في نفسه فإنّه سيتحرّك حتماً نحو علاجها والحد من شرّها وبذلك يتسنى له القضاء على المعلول في القضاء على علّته، فيتبدّل الحقد والكراهية وحبّ الانتقام إلى الاخوة والمحبّة والعفو والصفح.

وبهذا نأتي على ختام بحثنا في فضيلة العفو والصفح وكذلك رذيلة حبّ الانتقام والثأر والردّ بالمثل رغم وجود مسائل كثيرة لم يسع المقام لذكرها.

الغيرة وعدم الغيرة

تنويه:

إنّ (الغيرة) وردت في الروايات الإسلامية والنصوص الدينية بعنوان أنّها فضيلة أخلاقية مهمّة، وهي في الأصل بمعنى الدفاع الشديد عن العرض والناموس أو المال والدين والمذهب والوطن وأمثال ذلك، وخاصة أنّ هذه المفردة وردت في موارد يكون فيها الحق مختصّاً بشخص معيّن أو جماعة، ويريد الآخرون التعرّض لهذا الحق وسلبه من صاحبه أو أصحابه، فيقوم الطرف الآخر بالدفاع الشديد عن حقّه.

وعلى أيّة حال فإنّ هذه الصفة إذا تحلّى بها الإنسان وسلك بها طريق الاعتدال فإنّها تعدّ فضيلة كبيرة في دائرة الأخلاق والقيم الإنسانية، فما أعظم حالًا من أن يقوم الإنسان بالتصدّي ومنع الأجنبي عن التخطي إلى حريم عرضه أو وطنه ويقف في مقابل هذا العدوان ويدافع عن حقّه إلى حدّ الموت.

ومع الأسف فإننا نعيش في العالم المعاصر الذي إفتقد كثيراً من القيم الأخلاقية واستولت عليه الكثير من الانحرافات الأخلاقية في دائرة الاسر والعوائل الخاصة، ولاسيما ما نجده في العالم الغربي من الإرتباط اللّامشروع بين النساء

والرجال بحيث نسيت هذه الصفة الأخلاقية، بل إنّها وصلت لدى البعض إلى حالة معاكسة فأصبحت مخالفة للقيم الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 388

والاصول الأخلاقية واعتبرت من قبيل التعصّبات العمياء والأنانية، وهذا يعدّ بذاته فاجعة كبيرة على المستوى الأخلاقي والثقافي، في حين أنّ الإنسان والمجتمع البشري لا يستطيع أن يتحرّك باتّجاه حماية الأخلاق والقيم والمبادي ء الدينية والاجتماعية بدون عنصر الغيرة.

وفي هذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته دورساً وعبراً في هذه المسألة المهمّة والأساسية في حياة الإنسان الاجتماعية:

1- «لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَايُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا* مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا* سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا» «1».

2- «قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ»»

.3- «... وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ» «3».

تفسير واستنتاج:

تتحدّث «الآية الاولى» من الآيات محل البحث عن ثلاثة طوائف من الفئات الشريرة في المجتمع الإسلامي الأول في المدينة، فتذكر الآية هذه الطوائف الثلاث بأسم المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون، أي الذين يتحرّكون في بث الشائعات والأكاذيب بين الناس لتضعيف معنويّات المسلمين وإتهام النساء العفيفات والمحصنات وتحذّرهم الآية بأشد العذاب الإلهي وتقول: «لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَايُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا* مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 389

هذه الغيرة الإلهية التي تقود المسلمين إلى الدفاع الشديد عن أعراضهم ونواميسهم وكيانهم هي اسوة لجميع المسلمين في مسألة الغيرة على الدين والناموس، وتدلّ على أنّ الإنسان الذي يتحرّك في خط

الإيمان والحق لا ينبغي أن يواجه ممارسات الأراذل والمنافقين والأشرار من موقع اللّامبالاة وعدم الاهتمام والبرودة.

وهذا التعبير الوارد في الآية الكريمة يدلّ على أنّ هذه المسألة عبارة عن فضيلة أخلاقية كبيرة ووظيفة اجتماعية للمؤمنين رغم ما أورده التاريخ من سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله الذي كان يتشدّد في مثل هذه الموارد مع المخالفين وقوى الإنحراف.

إنّ الصفات الثلاثة التي ذكرتها الآية لهؤلاء المخالفين: «الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ» يمكنها أن تشير جميعها إلى طائفة معيّنة تتحرّك باتّجاهات مختلفة لتكريس حالة التخاذل والوهن والضعف بين المسلمين، ولكنّ ظاهر الآية وما ورد في شأن نزولها من الروايات يشير إلى أنّ هذه الصفات الثلاث هي لثلاث طوائف من هؤلاء المنحرفين وهم: المنافقون الذين يتحرّكون في بث الشائعات حول غزوات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله لتضعيف روحية المسلمين وتقوية عنصر الانهزام والتخاذل في قلوبهم، وطائفة الأراذل والأشرار الذين يتعرّضون لنساء المسلمين ويتسببون في إزعاجهّن والتحرّش بهنّ، والطائفة الثالثة يتحرّكون في عملية بث الشائعات عن النساء المؤمنات وإتهامهنّ في عفتهن حيث يؤلمهنّ ذلك بشدّة، فنزلت الآية أعلاه من موقع التهديد لهذه الفئات الثلاث بالنفي والقتل.

أمّا قوله: «الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» فقد يرد في الآيات القرآنية بمعاني مختلفة، فأحياناً يشير إلى النفاق مثل ما ورد في الآية 10 من سورة البقرة: «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمْ اللَّهُ مَرَضاً»، وأحياناً اخرى يرد في مورد الأشخاص الذين يتّبعون غريزتهم الجنسية في دائرة الحيوانية كما ورد في الآية 32 من هذه السورة التي تخاطب نساء النبي وتوصيهنّ بأن لا يخضعن بالقول للأشخاص الأجانب حتى لا تتحرّك فيهم الغريزة ويطمعوا بالحرام فيقول: «فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ».

الاخلاق فى

القرآن، ج 3، ص: 390

والملفت للنظر أنّ القرآن الكريم بعد هذه الآيات (الآية 60 و 61) يضيف أنّ هذه هي سنّة اللَّه في الأقوام السالفة (ولا تنحصر بالامّة الإسلامية ولا تبديل لسنة اللَّه).

وهذا السياق الشريف يشير إلى حكم عام وارد في جميع الأديان الإلهية، وسنة إلهية قطعية لا تتبدّل، وهي ضرورة المواجهة الجادّة مقابل المنافقين والانتهازيين والذين يبثون الشائعات المغرضة (طبعاً مع حفظ جميع المقرّرات الشرعية والعقلية) وهذا هو مفهوم الغيرة بكل وضوح.

وتتحرّك «الآية الثانية» لتحكي لنا عن نموذج للغيرة الدينية التي تتجلّى في سلوك أحد أكبر الانبياء الإلهيين، أي النبي يوسف عليه السلام وذلك عندما تعرّض للتحرش من قبل نساء مصر وخاصة زليخا إمرأة العزيز حيث طلبت منه الإستسلام والرضوخ لمطاليبهن اللّامشروعة وارتكاب الفاحشة، وبينما كان يوسف عليه السلام في سن الشباب والمراهقة وتهب في صدره أعاصير الحيوية والغريزة والانجذاب إلى الدنيا، إلّاأنّه قاوم كل هذه التحدّيات الداخلية والخارجية الصعبة حتى أنّه فضّل دخول السجن مع جميع مشقاته وآلامه على الاستسلام لمطاليبهن والرضوخ لعناصر الشهوة والمقام والجمال وطلب من اللَّه تعالى أن يوفقّه لدخول السجن للخلاص من هؤلاء النسوة وقال: «قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنِ الْجَاهِلِينَ».

وهذا السياق الشريف يكشف عن مقام العصمة والعفّة ليوسف عليه السلام وكذلك يحكي عن غيرته وتقواه أمام الهزات، فعندما نقارن بين هذه الروحية العالية في دائرة التعفف والصمود والإرادة مع ما نجده لدى عزيز مصر من عدم الغيرة والتساهل في أمر العفّة لدى زوجته بعدما ثبت له سلوك زوجته الخائن اكتفى بالقول: «يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنْ الْخَاطِئِينَ» «1».

ويتّضح جليّاً الفرق بين هذين الرجلين من

موقع الأمانة والتقوى والعفّة النفسية، ولم الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 391

يكن يوسف عليه السلام يقصد طلب السجن من اللَّه تعالى بالذات ولغرض شخصي بل كان هدفه التخلص من ممارسة اللّامشروع وأنّه إذا خيّر بين السجن وبين الممارسة اللّامشروعة فإنّه يفضّل السجن على ذلك العمل.

وتأتي «الآية الثالثة» لتستعرض الأمر الإلهي للنساء المؤمنات بأنّه مضافاً إلى لزوم حفظ الحجاب فيجب عليهنّ أن لا يضربن بأرجلهن أثناء المشي في الطرقات لكي لا يسمع الأجنبي صوت الخلاخل من الزينة وتقول: «... وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ».

فنرى في هذه الآية الشريفة إقتران الغيرة مع العفّة إلى درجة أنّه لم يسمح للنسوة أن يضربن بأرجلهن فيسمع الرجال أصوات الخلاخل في أرجلهن، وكما أشرنا آنفاً أنّ الإسلام يأمر نساء النبي الأكرم صلى الله عليه و آله (بعنوان كونهنّ اسوة وقدوة لسائر النساء المسلمات) أنّه عندما يتحدّثن مع الغرباء فلا يخضعن بالقول ولا يرى الغريب عنصر المرونة واللطافة في كلامهنّ ولئلّا تتحرّك فيه عناصر الشر، كل ذلك يعدّ تأكيداً لرعاية العفّة من جهة، وكذلك الالتزام بفضيلة الغيرة من جهة اخرى.

الغيرة في الروايات الإسلامية:

ونقرأ في الروايات الإسلامية الأهمية الكبيرة التي يوليها الإسلام لمسألة الغيرة بعنوانها فضيلة أخلاقية في دائرة القيم والمثل والمعنوية والكمالية للإنسان وحتى أنّ اللَّه تعالى وصف بالغيور (أي الذي يغار كثيراً) ومن ذلك:

1- ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «إِنَّ اللَّهَ غَيُورٌ يُحِبُّ كُلَّ غَيُورٍ وَلِغِيرَتِهِ حَرَّمَ الفَواحِشَ ظاهِرَها وَباطِنَها».

2- ونقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام أنّه قال: «إذا لَم يَغُرِ الرَّجُلُ فَهُوَ مَنكُوسُ القَلبِ» «1».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 392

وقال العلّامة المجلسي قدس سره إنّ المراد بالقلب المنكوس هنا هو التشبيه بالإناء المقلوب الذي

لا يبقى فيه شي ء من الطعام أو الماء، فالحديث الشريف يقرّر أنّ قلب مثل هؤلاء الأشخاص الفاقدين للغيرة خالٍ من الصفات الأخلاقية السامية وفارغ من المثل الرفيعة «1».

وهذا التعبير يدلّ بوضوح إلى أنّ صفة الغيرة ترتبط برابطة وثيقة مع سائر الصفات الأخلاقية العليا للإنسان.

3- ونقرأ في حديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قوله: «كانَ إِبراهَيمُ أَبِي غَيُوراً وَأَنا أَغيَرُ مِنهُ وَأَرغَمَ اللَّهُ أَنفَ مَنْ لايُغارُ مِنَ المُؤمِنِينَ» «2».

4- وجاء في حديث آخر عن هذا النبي الأعظيم صلى الله عليه و آله قوله: «إِنِّي لَغَيُورٌ وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَغيَرُ مِنِّي وَأَنَّ اللَّهَ تَعالى يُحِبِّ الَغَيُورَ».

5- وفي حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أيضاً أنّه قال: «إنَّ الغِيرَةَ مِنَ الإِيمانِ» لأنّ الإيمان يدعو الإنسان إلى حفظ الدين والبلد الإسلامي والسلوك في طريق التصدّي للأخطار التي تواجه هذه المتعلقات المهمّة للإنسان، فمن لم يتحرّك على مستوى الدفاع عنها ولم يتحرك عنصر الغيرة في أعماق ذاته فإنّه بعيد عن الإيمان «3».

6- وورد في الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين عليه السلام قوله: «قَدْرُ الرَّجُلِ قَدْرِ هِمَّتِهِ ...

وَشَجاعَتُهُ عَلى قَدْرِ أَنَفَتِهِ وَعِفَّتِهِ عَلى قَدْرِ غَيرَتِهِ» «4».

7- ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «أَتى النَّبِيّ بِاسارى فَأَمرَ بِقَتلِهِم وَخلَّا رَجُلًا مِنْ بَينِهِم فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: كَيفَ اطلَقتَ عَنِّي؟

فَقَالَ صلى الله عليه و آله: أَخبَرَنِي جِبرئيل عَنِ اللَّهِ أَنَّ فِيكَ خَمسُ خِصال يُحِبُّها اللَّهُ وَرَسُولُهُ: الغِيرَةُ الشَّدِيدَةُ عَلى حَرَمِكَ وَالسَّخاءُ وَحُسْنُ الخُلقِ وَصِدقُ اللِّسانِ وَالشَّجاعَةَ».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 393

فلما سمع الرجل أسلم وحسن اسلامه وقاتل مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حتى استشهد «1».

8- وفي حديث آخر عن

أميرالمؤمنين عليه السلام ضمن توبيخه لأهل العراق الذين تخرج نساؤهم من منازلهم بدون اهتمام بالحجاب ويختلطن مع الرجال فقال: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ لا يغارُ» «2».

تعريف أقسام الغيرة:

كما أشرنا آنفاً أنّ الغيرة هي صفة أخلاقية تدفع الإنسان في طريق الدفاع المستميت عن الدين والمذهب والعرض والبلد، وأساساً فإنّ كل حالة من الدفاع الشديد عن القيم الإنسانية فهي تتضمّن نوع من الغيرة، ورغم أنّ هذه المفردة تستعمل غالباً في دائرة الغيرة على العرض والناموس ولكنّ مفهومها واسع يستوعب مصاديق أكثر.

وبالطبع فإنّ هذه الصفة الأخلاقية حالها حال الصفات الاخرى من حيث أنّها قد يسلك بها الإنسان سبيل الافراط والتفريط وبذلك تتبدّل إلى خلق ذميم، وذلك في صورة ما إذا كان الدفاع المذكور يتّخذ صبغة التعصّب الذميم والوسواس والدفاع غير المنطقي وغير العقلائي.

فقد ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «مِنَ الغِيرةِ ما يُحِبُّ اللَّهُ وَمِنها ما يَكرَهُ اللَّهُ فَأَمّا ما يُحِبُّ فَالغِيرَةُ فِي الرِّيبَةِ وَأَمّا ما يَكرَهُ فَالغَيرَةِ فِي غَيرِ الرِّيبَةِ» «3».

يعني أنّ الإنسان يتّهم زوجته مثلًا بعدم العفّة على أساس من الظن والاحتمال وتعتمل في صدره عناصر الوسواس والشك تجاه زوجته البريئة، فمثل هذه الحالة السلبية تكون خطرة على سلامة الإنسان والاسرة وتؤدّي إلى تشجيع الأشخاص الأبرياء إلى الوقوع في وحل الخطيئة وتقودهم إلى مستنقع الرذيلة.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 394

و نقرأ في حديث آخر عن الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام في أحد كتبه إلى إبنه الإمام الحسن عليه السلام يقول: «وَإِيّاكِ وَالتَّغايُرَ فِي غَيرِ مَوضِع غَيرَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدعُو الصَّحِيحَةَ إِلى السَّقمِ وَالبَرِيئَةَ إِلى الرَّيب» «1».

وفي الحقيقة أنّ الافراط في كل شي ء مذموم وخاصة في أمثال هذه الموارد من السلوك الأخلاقي

تجاه العرض والحساسية المفرطة تجاه سلوك الزوجات والأرحام من النساء والنظر إلى سلوكهنّ من موقع الريبة والشك والتهمة، فقد يكون هذا الأمر هو السبب في وقوعهنّ في وادي الرذيلة والفساد، وعلى أيّة حال إنّ هذه الموارد من الغيرة وسوء الظن تعتبر حراماً شرعاً ويجب اجتنابها والابتعاد عنها تماماً، وقد ورد في الأخبار المتعلقة بزمن الجاهلية أنّ أحد الأسباب المهمّة لوأد البنات هو عنصر الغيرة المنحرف واللّامنطقي لدى هؤلاء الجاهلين حيث كانوا يقولون: إنّ من الممكن أن تكبر هذه البنات وتتعرّض للأسر من قبل أفراد القبيلة المعادية فتكون أعراضنا في معرض النهب والتلاعب بيد الأعداء، فالأفضل أن ندفنهنّ وهنّ صغار لحفظ العرض.

آثار الغيرة في حركة الحياة:

إنّ الغيرة إذا استعملت بصورة صحيحة ومعتدلة إيجابية فإنّها بمثابة قوّة دفاعية عظيمة تدفع الإنسان إلى التصدّي للأعداء والانتصار عليهم، لأنّ مثل هذه القوّة الباطنية عندما تتعرّض نفس الإنسان وأمواله وناموسه ودينه وإيمانه أو استقلال وطنه إلى الخطر المحدق فإنّ هذه القوّة تعبي ء جميع الطاقات والقوى الذاتية والباطنية في الإنسان وتوحّدها تحت قيادة عنصر الغيرة لتعين الشخص في عملية الدفاع الشريف، وأحياناً يعيش الإنسان الغيور تحت عنصر الغيرة بحيث تتضاعف قوّته إلى قوّة عشرة أشخاص وتدفع به إلى حد التضحية بنفسه والصمود البطولي بشجاعة وشهامة كبيرة، ولهذا السبب كانت الغيرة أحد العوامل المهمّة في طريق العزّة والافتخار والحياة الشريفة.

أمّا الأشخاص الذين يعيشون الانحراف والتلّوث فعندما يواجهون إنساناً غيوراً في تحرّشهم بأعراض الناس فإنّهم يفقدون مقاومتهم بسرعة ويتراجعون أمامه في صورة من التخاذل والذلّة، وهذا هو أيضاً من بركات الغيرة.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 395

الغيرة تسبب أيضاً في تقوية عناصر الشد للقيم الأخلاقية والمثل الرفيعة للمجتمع الإنساني وتجعله محفوظاً من التلّوث والانحراف في منزلقات الخطيئة.

إنّ

الغيرة تتسبب أيضاً في حفظ أمن المجتمع وإزالة مظاهر الفساد والفحشاء، في حين أنّ عدم الغيرة يهدم أمن المجتمع ويعمل على تحطيم المثل الإنسانية والقيم الأخلاقية في أفراد المجتمع وبالتالي ينزلق مثل هذا المجتمع نحو الفساد والانحطاط الأخلاقي.

ونقرأ في سيرة الأنبياء أنّه عندما رأى النبي لوط عليه السلام مظاهر الفساد والتلّوث من قومه الأشقياء حتى أنّهم راودوه عن ضيفه (وهم ضيوفه من الملائكة الذين دخلوا عليه على شكل فتيان حسان الوجوه ولم يكن لوط عليه السلام عليم بواقعهم) تملّكه الخوف والاستياء الشديد ممّا رأى من تعرّض قومه الأشرار إلى هؤلاء الضيوف عندما سمعوا بهم قد دخلوا في بيت لوط، وكلما نصحهم لوط عليه السلام فإنّ كلامه ذهب أدراج الرياح ولم يؤثر في هؤلاء الأشرار شيئاً حتى أنّه عرض عليهم الزواج من بناته (فيما إذا تابوا وآمنوا) ولكنّهم رغم هذا الإيثار العظيم من لوط لم يرتدعوا عن غيّهم واستمروا في طلبهم الدني ء وممارسة الضغط على لوط عليه السلام ليسلمهم الضيوف الكرماء، فقال لهم لوط: «فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ» «1».

ولكن عندما رأى أنّ كلامه لا يؤثر شيئاً في نفوس هؤلاء الأشرار ولا يرتدعون عن غيّهم ازداد حزناً وألماً ونصباً وعندما كشف هؤلاء الضيوف عن واقعهم وأنّهم من الملائكة وطمأنوه بأن لا يخاف من هؤلاء الأشرار فإنّ العذاب الإلهي نازل بحقهم وسيتعرّضون للهلاك عمّا قريب.

ونختم هذا البحث بحديث شريف عن الإمام الصادق عليه السلام حيث يقول: «إِنّ المَرَأ يَحتاجُ فِي مَنزِلِهِ وَعيالِهِ إِلى ثَلاثِ خَلالِ يَتَكَلَّفُها وَإِنْ لَم يَكُن فِي طَبعِهِ ذَلِك: مَعاشِرَةٌ جمِيلَةٌ، وَسِعَةٌ بِتَقدِيرٍ وَغَيرَةٌ بِتَحصِينٍ» «2».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 397

الأُلفة والانفراديّة

تنويه:

لقد بحث علماء الأخلاق هذا الموضوع تحت عنوان المعاشرة

والعزلة في كتبهم الأخلاقية، ونقرأ أحياناً في هذه الكتب اختلاف العلماء في أيّهما الأفضل، المعاشرة مع الناس أو العزلة والانزواء؟ فقد يرى البعض أنّ العزلة أو الانزواء عن الناس أفضل من معاشرتهم والاختلاط بهم، وبعض آخر رجحّ المعاشرة والاختلاط على العزلة، وذهب ثالث إلى أنّ ذلك يختلف باختلاف الظروف والشرائط، فتارة يكون الأول أفضل من الثاني واخرى بالعكس.

ولكن المحققين (وخاصة في عصرنا الحاضر) وبالاقتباس من الكتاب والسنة ودليل العقل يرون أنّ الأصل في حياة الإنسان هو أن يعيش حالة الأُلفة، وذهبوا إلى أنّ الإنسان موجود اجتماعي ولا يتمكن من الصعود بمستواه الأخلاقي وتكامله المعنوي والنضج العقلي إلّافي ظل المجتمع والاختلاط مع الآخرين، وبذلك يتسنى له التسريع في حلّ مشاكله والتخفيف من آلامه ووصوله إلى السعادة المنشودة.

هؤلاء يرون أنّ الانزواء أو العزلة لا تنسجم مع فطرة الإنسان السليمة ولا تتوافق مع روح التعليمات الإسلامية والقرآنية، بل إنّ المفاهيم الإسلامية تؤكّد على الروح الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 398

الاجتماعية لدى الإنسان وتجعل من المعاشرة البنّاءة بشكل عبادة جماعية من قبيل صلاة الجمعة والجماعة والمسائل المتعلّقة بحقوق الإنسان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإجراء الحدود وإحقاق الحقوق والتعاون على البر والتقوى وأمثال ذلك.

إنّ الإسلام يرى أنّ «يَدُ اللَّهِ مَعَ الجَماعَةِ» كما ورد في الحديث الشريف، وأنّ أي إبتعاد عن صفوف المسلمين يؤدّي إلى نفوذ الشيطان واستيلائه على الإنسان كما ورد في نهج البلاغة: «والشاذُّ مِنَ الغَنَمِ لِلذِّئِبِ» «1».

وبهذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستعرض الآيات الشريفة في هذا الموضوع:

1- «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ

اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» «2».

2- «وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً» «3».

3- «هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ* وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» «4».

4- «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ» «5».

5- «وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا» «6».

تفسير واستنتاج:

إنّ كل واحدة من الآيات الشريفة المذكورة آنفاً تشير إلى جهة خاصة من مسألة أهميّة المعاشرة والاجتماع وأهميّة الوحدة والإتّحاد بين أفراد المجتمع، ففي «الآية الاولى» نقرأ دعوة إلى الاعتصام بحبل اللَّه والتمسك به وعدم سلوك طريق الفرقة والاختلاف وتقول:

«وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً»

أمّا ما هو المراد من حبل اللَّه الوارد في الآية الشريفة؟ فإنّ المفسّرين اختلفوا في ذلك، وقد ورد في بعض الروايات الشريفة أنّ المراد منه هو القرآن الكريم الذي ينبغي أن يتّخذه المسلمون محوراً لوحدتهم وتماسكهم، وفي بعض الروايات الاخرى ذكرت أنّ المراد من حبل اللَّه هو أهل البيت عليهم السلام، ومعلوم أنّ كل هذه المعاني تشترك في حقيقة واحدة، وهي أنّ حبل اللَّه تعالى هو ما يربط الإنسان باللَّه تعالى سواءاً عن طريق القرآن الكريم أو النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وأهل بيته المعصومين عليهم السلام.

وكما نرى أنّ هذه الآية الشريفة تؤكّد على مسألة المودّة ووشائج المحبّة بين المسلمين وترك العداوة والفرقة، ومن المعلوم أنّ ذلك لا يتوافق مع

عزلة الإنسان وإنزوائه عن المجتمع ولا مفهوم حينئذٍ للإعتصام بحبل اللَّه تعالى، واللطيف أنّ القرآن الكريم في الآية أعلاه يقرّر أنّ العداوة هي من سنن الجاهلية وأنّ المحبّة والصداقة هي من خصائص الإسلام ويقول في ذيل الآية الشريفة مؤكّداً على هذا المعنى: «وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا».

والجدير بالذكر أنّ الإسلام لا يرى العلاقة بين المسلمين هي علاقة الصداقة فحسب، بل علاقة الاخوة التي تعمّق في الناس الرابطة العاطفية بين الأخوان القائمة على أساس المساواة والمحبّة المتبادلة.

وبديهي أنّ هذه المحبّة الأخوية لا يمكن أن تتجلّى وتتفاعل في حال ابتعاد الاخوة عن بعضهم البعض، فلابدّ لتفعيل هذه العاطفة الإنسانية من الحياة المشتركة والمعاشرة فيما بين الاخوة.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 400

والملاحظة المهمّة الاخرى هي أنّ الامور المادية والدنيوية لا يمكن أن تكون محور وحدة المجتمع وأداة قويّة لتعميق الروابط الاجتماعية بين الأفراد، لأنّ الامور المادية عادة تكون سبباً للتنازع والاختلاف والفرقة، فحاجات الناس الدنيوية والمادية غير محدودة، وأمّا الامور المادية في الطبيعة فمحدودة، ومن هنا ينشأ التضاد والاختلاف، ولكن حبل اللَّه تعالى والارتباط مع اللَّه تعالى هو أمر معنوي وروحاني ويمكنه أن يحقّق أفضل رابطة عاطفية بين أفراد البشر من كل قوم ولون وقبيلة ولغة.

وتأتي «الآية الثانية» لتتحدّث لنا عن المصير المؤلم للأشخاص الذين يعيشون بعيداً عن جماعة المسلمين ويسلكون سبيلًا مستقلًا ومنفصلًا عن المجتمع الإسلامي وتقول:

«وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً».

هذه الآية تدلّ بوضوح على أنّ اللَّه تعالى يأمر المسلمين في المجتمع الإسلامي بضرورة الالتزام الاجتماعي وعدم الانفصال والفرقة وأن يسير المؤمنون سويّة في خط الإيمان والانفتاح على اللَّه

تعالى، ومع الأخذ بنظر الاعتبار جملة «وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ» وكذلك عبارة «سَبِيلِ المُؤمِنينَ» يتّضح جيداً أنّ المراد هو التنسيق بين أفراد المجتمع الإنساني من خلال إتّباع النبي الأكرم صلى الله عليه و آله والسير إثر خطواته الحكيمة في خط الإيمان والطاعة للَّه تعالى حيث تكون التقوى والإيمان محوراً للسلوك الاجتماعي، وإلّا فلا معنى لأنّ تعني الآية مفهوم المعاشرة الاجتماعية بدون هذا المحور المعنوي.

ولا شكّ أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله مع الجماعة دائماً، فكان يصلّي معهم خمسة مرّات في اليوم ويصلّي صلاة الجمعة في اجتماع أعظم، وكذلك في اجتماع المسلمين العام لمراسم الحج، فكل هذه البرامج العبادية تنضوي تحت مدلول الآية الشريفة، ومعلوم أنّ الأشخاص الذين يعيشون الإنزواء والعزلة وينفصلون عن جماعة المؤمنين سيكونون مشمولين للتهديد والوعيد وبالعذاب الأليم المذكور في الآية الشريفة.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 401

بعض علماء أهل السنة إستدلّوا بهذه الآية الشريفة على حجّية الاجماع، ونحن لا نرى مانعاً من الاستدلال بهذه الآية على حجّية إجماع المسلمين، ولكنّ هذا الإجماع يجب أن يتضمّن حضور الإمام المعصوم أيضاً، وفي الاصطلاح الاصولي يعبّر عنه بالإجماع الدخولي أو الإجماع الكشفي الذي يكون هوالحجّة في عملية الاستدلال.

«الآية الثالثة» تستعرض أحد المواهب الإلهية الكبيرة على النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وأنّ اللَّه تعالى هو الذي جمع المؤمنين حول النبي وألف بين قلوبهم بحيث لا يتسنى ذلك أبداً من خلال الوسائل الطبيعية والأدوات العادية فتقول الآية: «هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ* وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».

لو أنّ الإسلام يرى في العزلة والإنزواء عن المجتمع قيمة أخلاقية، فإنّه لم يكن يعدّ

التأليف بين قلوب المسلمين بعنوان معجزة كبيرة للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله.

وهذا التعبير في الآية الشريفة لا يدلّ على مطلوبية المعاشرة والاجتماع بين الأفراد فحسب، بل أن تكون الرابطة شديدة وإلى درجة كبيرة من الوثاقة في العلاقات الاجتماعية.

وبديهي أنّه لا يصحّ أن تقرر الآية هذا المفهوم في زمان النبي الأكرم صلى الله عليه و آله فقط، بل إنّ هذا المفهوم الإسلامي يستوعب جميع الأزمنة والأمكنة وعلى كلّ طائفة مؤمنة أن تجتمع حول محور واحد وترتبط فيما بينها برابطة وثيقة من الألفة والمحبّة كما كان حال المؤمنين في عصر النبوّة والبعثة.

والملفت للنظر أنّ اللَّه تعالى نسب تأليف القلوب إليه مباشرة كما ورد هذا المضمون في الآية 103 من سورة آل عمران، رغم أننا نعلم أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله هو الذي قام بهذا العمل الإنساني والاجتماعي، وذلك لتشير الآية إلى أنّ هذا العمل إنّما هو معجزة إلهية جعلها اللَّه تعالى في يد النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وأظهرها على يده، وإلّا فمن المحال أن تزول وتتلاشى كل تلك الأحقاد والعداوات القديمة والجديدة بين العرب المتعصّبين والجاهلين مهما بلغت الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 402

قدرة المخلوق ومهما اوتي من أموال وثروات طائلة كما تقول الآية بأنّك لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم، ولكن تسنى للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله ذلك من خلال تعليمات الإسلام وأخلاقه الإلهية والإمدادات الربانية واستطاع بذلك من تحقيق أعظم معجزة في عالم العلاقات الاجتماعية، وحقّق الألفة وهي في اللغة بمعنى الاجتماع المقارن للإنسجام والأنس والإلتيام وربط تلك القلوب المتنافرة والمتباغضة مع بعضها وجعلها كالبنيان المرصوص.

وتأتي «الآية الرابعة» لتتحدّث عن وحدة صفوف

المسلمين والتي لا تتسنى ولا تتحقّق اطلاقاً مع العزلة والإنزواء: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ».

(بنيان) بمعنى كل بناء يبنيه الإنسان لسكنه أو لمآرب اخرى، كأقامة السدود مثلًا، أمّا (مرصوص) فهو من مادة (رصاص) ونظراً إلى أنّ البشر في ذلك الزمان كان يستخدم الرصاص في عملية البناء ليزيد في قوّته وإستحكامه وليملأ الفراغات والثقوب والثغرات الموجودة بين أحجار البناء، فلذلك أطلق على كل بناء محكم أنّه (مرصوص) إشارة إلى قوّته وإستحكامه.

وصحيح أنّ الآية الشريفة ناظرة إلى الجهاد في سبيل اللَّه تعالى والتحرّك العسكري في ميادين القتال مع الأعداء، ولكن من الواضح أنّ هذا المعنى يجري في سائر التفاعلات الاجتماعية على مستوى السياسة والثقافة والاقتصاد وأمثال ذلك، ففي هذه الموارد يلزم أن يكون الناس في المجتمع الواحد منسجمين ومتّحدين إلى درجة أنّهم كالبنيان المرصوص، وهذا المعنى يتقاطع حتماً مع العزلة والإنزواء فلا يتسنى للمجتمع الدفاع القوي أمام الأعداء ولا النهضة الحضارية ولا حلّ المشكلات الاقتصادية والسياسية والثقافية من دون الالفة والمعاشرة والاجتماع بين الأفراد.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 403

وتأتي «الآية الخامسة» والأخيرة من الآيات محل البحث لتشير إلى مسألة الرهبانية وترك الدنيا والعزلة عن الناس للعبادة والتبتّل إلى اللَّه تعالى كما كان شأن جماعة من النصارى، فتأتي هذه الآية لتقول إنّ هذا السلوك العبادي في الظاهر إنّما هو بدعة من قبل هؤلاء الرهبان ولم يؤمر به في الشريعة الإلهية وتقول: «وَرُهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ».

ونعلم أنّ جماعة من المسيحيين في هذا العصر والزمان سلكوا طريق الانقطاع عن الناس والرهبنة والعيش في الأديرة وعدم الزواج، كل

ذلك لغرض العبادة في هذه الأماكن التي بنيت لهذا الغرض.

وهذا الموضوع لا يختص بهذا الزمان بل هو من البدع التي ظهرت في القرن الثالث الميلادي في حكومة (ديس يونس) الأمبراطور الرومي الذي شدد النكير على النصارى واتباع السيد المسيح وأخذ بتعذيبهم والتنكيل بهم، فلم يجد هؤلاء بدّاً للخلاص من شرّ هذا الطاغية من اللجوء إلى الأديرة والهرب باتّجاه الجبال والمغارات والكهوف وبذلك زرعوا بذرة الرهبانية في الديانة المسيحية.

وعلى هذا الأساس فإنّ مثل هذه الرهبانية تتعارض تماماً مع روح تعليمات الأنبياء الإلهيين ولم تكن موجودة في العصور الاولى للمسيحية، بل كانت بدعة ظهرت على يد الأشخاص الجهلاء والمنحرفين واستمرت إلى يومنا هذا، حيث نجد أنّ جماعة من المسيحيين يتركون حياتهم الاجتماعية وتأسيس الاسرة والزواج وسائر النشاطات الاجتماعية ويلجئون إلى الأديرة لممارسة الطقوس العبادية ويقوم الأشخاص من أهل الخير بالانفاق عليهم لتأمين نفقاتهم.

أمّا ما يجري في هذه الأديرة من الانحرافات والممارسات اللّاخلاقية والبعيدة عن اصول الفطرة الإنسانية فلها حديث مفصّل ومؤلم حتى أنّ بعض الكتّاب المسيحيين أشار إلى بعض هذه الأديرة وأطلق عليها اسم دار الفحشاء، وأساساً فإنّ مثل هذه الحياة غير

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 404

الطبيعية للإنسان تؤثر سلبياً على روحه وفكره وتسبب له الكثير من الاهتزاز والارتباك في قواه النفسية والعقلية.

وجاء الإسلام وأبطل كل هذه الممارسات العباديّة في الظاهر ودعا الناس إلى ممارسة الحياة الاجتماعية المتزامنة مع التقوى والإيمان.

والجدير بالذكر أنّ الرهبانية في الأصل اللغوي من مادة (رهبة) على وزن ضربة، بمعنى الخوف والخشية، والمراد منها هنا الخوف من اللَّه تعالى، وكما يقول الراغب في مفرداته أنّها الخوف المقترن بالخشية والاضطراب والقلق، ثمّ استعملت هذه المفردة في خصوص سلوك جماعة من المسيحيين أو من غيرهم

الذين رجّحوا الانزواء والعزلة عن الناس طلباً للعبادة والتبتّل إلى اللَّه تعالى، ومن جملة البدع السيئة للمسيحيين في دائرة الرهبانية هو تحريم الزواج بين النساء والرجال الذين يسلكون في خط الرهبنة وكذلك ترك جميع المسؤوليات الاجتماعية وأشكال العلاقات بين أفراد المجتمع واختيار الصوامع والأديرة البعيدة لهذا الغرض.

ويستفاد من الآية أعلاه أنّ الرهبانية على قسمين: إيجابية وسلبية، ومن المعلوم أنّ الرهبانية السلبية هو ما ذكرنا آنفاً، وأمّا الرهبانية الإيجابية فتتضمّن معنى الزهد وعدم التكالب على الدنيا وترك التجمّلات المادية في حركة الحياة الفردية والاجتماعية لكي لا يقع الإنسان في أسر هذه الزخارف الدنيوية من المال والمقام ولكن ذلك يجتمع مع الحياة الاجتماعية للفرد وإقامة علاقات بنّاءة في مسير المجالات المعنوية والمادية، وبعبارة اخرى: إنّ الآية الشريفة تقرّر وجود رهبانية في الديانة المسيحية مشروعة من اللَّه تعالى وتتضمّن ما كان عليه السيد المسيح عليه السلام من الزهد والترك للدنيا، ولكن المسيحيين في القرون التالية ابتدعوا نوعاً آخر من الرهبانية لم تكن في الديانة المسيحية أصلًا، وهي عبارة عن الإنزواء والعزلة عن المجتمع والحياة الاجتماعية وترك الزواج والانقطاع إلى العبادة في الكهوف والأديرة.

ويمكن أن يقال أنّ السيد المسيح لم يتزوج طيلة حياته أيضاً، ولكن لا ينبغي أن ننسى الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 405

أنّ عمر السيد المسيح كان قصيراً فلم يبلغ من العمر سوى ثلاثين سنة تقريباً، وكان في هذه المدّة مشغولًا بتبليغ الرسالة الإلهية والترحال من منطقة إلى منطقة اخرى لهذا الغرض فلم يسعه المجال للزواج.

وعلى أيّة حال فإنّ الإسلام يرى الرهبانية بدعة ويذم النصارى على هذا السلوك السلبي، وقد ورد في الحديث النبوي الشريف: «لا رهبانية في الإسلام» في مصادر موثوقة كثيرة.

أمّا الحديث عن أبعاد الرهبانية

وتاريخها ونتائجها فيطول بنا ويمكن لمن أراد التفصيل في هذا البحث مراجعة التفسير الأمثل ذيل الآية الشريفة، وسوف نشير أيضاً في البحوث القادمة إلى هذا الموضوع أيضاً.

المعاشرة والعزلة في الروايات الإسلامية:

إذا نظرنا نظرة إجمالية إلى التعليمات الإسلامية والمفاهيم الدينية في هذا الباب ومن زوايا مختلفة نجد أنّ الإسلام يؤيّد تماماً المعاشرة والإجتماع مع الناس وحتى أنّ العبادات الإسلامية التي يهدف منها توثيق الرابطة بين الإنسان وربّه قد جعلها الإسلام بشكل جماعي، فالاذان والإقامة تدعو الناس إلى الصلاة والفلاح في عبارة «حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ حَيَّ عَلَى الفَلاحِ» والضمائر في سورة الحمد تقرأ بشكل ضمير الجمع والحديث مع الغير، وعند الانتهاء من الصلاة نقرأ سلاماً عاماً لجميع المؤمنين والمصلّين.

صلاة الجماعة وكذلك صلاة الجمعة وأعظم منهما مناسك الحج هي حقيقة عبادات ذات أبعاد اجتماعية تماماً.

ونقرأ في الروايات الإسلامية تأكيدات كثيرة على لزوم الجماعة والاجتماع وعدم الفرقة عن المؤمنين، ومن ذلك:

1- ما ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله: «أَيُّها النَّاسُ عَلَيكُم بِالجَماعَةِ وَإِيَّاكُم وَالفُرقَةَ» «1».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 406

2- وفي حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أيضاً قال: «الجَماعَةُ رَحمَةٌ، والفُرقَةُ عَذابٌ» «1».

3- وقال رسول اللَّه في حديث آخر: «يَدُ اللَّهِ عَلَى الجَماعَةِ فَإذا إِشتَدِّ (شَذَّ) الشَّاذَّ مِنهُم إِختَطَفَهُ الشَّيطانُ كَما يَختَطِفُ الذِّئبُ الشَّاةَ الشَّاذَّةَ مِنَ النِّعَمِ» «2»

4- ونفس هذا المضمون ورد بتعبير آخر عن الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة حيث قال: «والزَمُوا السَّوادَ الأَعظَمَ فَإنَّ يَدَ اللَّهِ مَعَ الجَماعَةِ، وَإِيَّاكُم وَالفُرقَةَ فَإِنَّ الشَّاذَّ مَنَ النَّاسِ للشَّيطَانِ، كَما أَنَّ الشَّاذَّ مِنَ الغَنَمُ للذِّئبِ، ألا مَن دعا إِلى هذا الشّعارِ فاقتُلُوه وَلَو كانَ تَحتَ عِمامَتِي هذِهِ» «3».

5- وقد ورد هذا

المضمون أيضاً في رواية اخرى عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يعبّر عند مدى أهمية هذا المعنى حيث قال: «إِنَّ الشَّيطَانَ ذِئبُ الإِنسانِ كَذِئبِ الغَنَمِ يَأَخُذُ القاصِيَةَ وَالنَّاحِيَةَ وَالشَّارِدَةَ، وَإِيَّاكُم وَالشِّعابِ، وَعَلَيكُم بِالعامَّةِ وَالجَماعَةِ وَالمَساجِدِ» «4».

6- وجاء في حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أيضاً: «لا يَحِلُّ لِمُسلِمٍ أَنْ يَهجُرَ أَخاهُ فَوقَ ثَلاثَةَ (أَيَّامٍ)، وَالسَّابِقُ بِالصُّلحِ يَدخُلُ الجَنَّةَ» «5».

7- وهذا المضمون ورد أيضاً بتعبير آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله حيث قال: «لا يَحِلُّ لِمُسلِمٍ أَنْ يَهجُرَ أَخاهُ فَوقَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لايُؤمِنُ بَوائِقَهُ» «6».

وقد ورد في بعض الأحاديث الشريفة أنّه: «أَيُّما مُسلِمَينِ تَهاجَرا ثَلاثاً لايَصطَلِحانِ إلّا ماتا خارِجَينِ عَنِ الإِسلامِ ...» «7».

صحيح أنّ هذه الأحاديث الشريفة وردت في مجال المخاصمة والعداوة بين المسلمين، ولكنّها علي أيّة حال تدلّ على أنّ الإسلام يؤيّد دائماً الحياة الاجتماعية وتعميق الالفة

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 407

والمحبّة بين قلوب المسلمين، ومن الواضح أنّ حالة العزلة والانزواء لا تنسجم مع روح هذه التعاليم الدينية.

8- وورد في حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أيضاً أنّه قال عندما أراد أحد الأشخاص التوجّه إلى الجبل والاعتزال لغرض العبادة: «لَصَبرُ أَحَدِكُم ساعَةً عَلى ما يَكرَهُ فِي بَعضِ مَواطِنَ الإِسلامِ خَيرٌ مِنْ عِبادَتِهِ خالِياً أَربَعِينَ سَنَةً» «1».

9- ويستفاد من الروايات المتعددة أنّ الإسلام نهى عن الرهبانية التي تتضمّن الانزواء والعزلة ومن ذلك ما ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه أنّه قال: «لَيسَ فِي امَّتِي رَهبانِيَّةَ وَلا سِيا حَةَ» «2».

والمراد من الرهبانية في هذا الحديث الشريف هو اختيار مكان منعزل للعبادة، وأمّا السياحة فهي الانزواء السيّار، لأنّ بعض الأشخاص

كانوا في قديم الأزمان يتركون بيوتهم ومحل معيشتهم ويسيحون في أرض اللَّه الواسعة ويتركون الدنيا ويعتبرون ذلك نوعاً من العبادة، وعلى هذا الأساس فإنّ الإسلام لا يؤيد العزلة الثابتة ولا العزلة السيّارة.

10- وقد ورد في الحديث العميق المعنى عن أنس قال: توفي ابن لعثمان بن مظعون رضى الله عنه فاشتدّ حزنه عليه حتّى اتّخذ من داره مسجداً يتعبد فيه، فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقال له:

«يا عُثمانُ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعالى لَم يَكتُبْ عَلَينا الرِّهبانِيَّةَ، إِنَّما رَهبانِيَّةُ امَتِّي الجِهادُ فِي سَبيلِ اللَّهِ».

ثم إنّه صلى الله عليه و آله أخذ يواسيه على فقد ابنه وقال: «يا عُثمان بن مظعون للجنّةِ ثَمانيةِ أبواب، وللنّارِ سبعة أبواب أَفما يَسُّركَ أَن تَأَتِي باباً مِنها إلّاوَجدتَ ابنَك إِلى جَنبِكَ آخذاً بِحجزَتِكَ يَشفَعُ لَكَ إِلى رَبِّكَ؟ قَال: بلى» «3».

11- ومثل هذا المعنى ورد أيضاً في نهج البلاغة بالنسبة إلى أحد أصحاب الإمام علي عليه السلام عندما دخل الإمام البصرة وذهب لزيارة (علاء بن زياد الحارثي) فعندما

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 408

رأى بيته الواسع والمجلل تعجب كثيراً وقال: «ما كُنتَ تَصنَعُ بِسعَةِ هذِه الدَّار فِي الدُّنيا، أما أَنتَ إِليها فِي الآخِرَةِ أَحوجُ وَبلى إِن شِئتَ بَلَغتَ بِها الآخرةَ تُقرِي فِيها الضَّيفَ وَتَصِلُ فِيها الرَّحمَ وَتَطَلِعُ مِنها الحقوق مطالعها فإذاً أَنتَ بَلغَتَ بِها الآخرةَ، فَقالَ لَهُ العلاءُ يا أَمِيرَ المُؤمِنِينَ أشكُوا إِلَيكَ أَخِي عاصِمَ بنَ زياد، قَالَ: وَما لَهُ؟ قال: لَبِسَ العباءةَ وَتَخَلِّي الدُّنيا، فَلما جاءَ قَالَ: «يا عَدِيَّ نَفسِهِ لَقَد إِستَهامَ بِكَ الخَبِثُ، أَما رَحِمتَ أَهلَكَ وَوَلَدَكَ، أَتَرى أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ لَكَ الطَّيباتِ وَهُوَ يَكرَهُ أَنْ تَأَخُذَها؟ أَنْتَ أَهونُ عَلى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، قَالَ: يا أَمِيرَالمُؤمِنِينَ هذا أَنتَ

فِي خُشُونَةِ مَلبَسِكَ وَجَشُوبَةِ مأكَلِكَ.

قَالَ: وَيحَكَ إِنِي لَستُ كأَنتَ، إنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلى أَئِمَّةِ العَدلِ أَن يَقدِروا أَنفُسَهُم بِضَعَفَةِ النّاسِ كَيلا يَتَبَيَّغَ بَالفَقيرِ فَقرُهُ» «1».

12- ونقرأ في رواية اخرى عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في حديثه لعبداللَّه بن مسعود في مسألة ذم الرهبانية والعزلة عن المجتمع وأنّه كان في بني اسرائيل نوع من الرهبانية في ظروف خاصة واستثنائية لم تكن من صميم الديانة المسيحية، قال ابن مسعود: كنت رديف رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على حمار.

فقال: يابن ام عبد هل تدري من أين احدثت بنو اسرائيل الرهبانية.

فقلت: اللَّه ورسوله أعلم.

فقال صلى الله عليه و آله: «ظَهَرَتْ عَلَيهِم الجَبابِرَةٌ بَعدَ عِيسى يَعمَلُونَ بِمَعاصِي اللَّهِ فَغَضِبَ أَهلَ الإِيمانِ فَقاتَلُوهُم فَهُزِمَ أَهلِ الإِيمانِ ثَلاثَ مَرّاتِ فَلَم يَبقَ مِنهُم إلّاالقَلِيلَ فَقَالُوا إِنْ ظَهرنا لِهَؤلاءِ أَفنونا وَلَم يَبقَ لِلدِّينِ أَحَدٌ يَدعُو إِلَيهِ، فَتعالُوا نَتَفَرَّقُ فِي الأَرضِ إِلى أِنْ يَبعَثَ اللَّهُ النَّبِيَّ الَّذِي وَعَدنا بِهِ عِيسى عليه السلام يَعنُونَ مُحَمَّداً صلى الله عليه و آله فَتَفَرَّقُوا فِي غِيرانِ الجِبالِ وَأَحدَثُوا رَهبانِيَّةَ»».

وعلى أية حال لم تكن الرهبانية من صميم الديانة المسيحية، بل كانت سلوكاً خاصاً ظهر في ظروف خاصة على بعض أنصار السيد المسيح عليه السلام حفاظاً على أنفسهم.

الأحاديث المتعارضة:

وفي مقابل ما ذكرنا من الأحاديث الشريفة هنا روايات وردت في المصادر الحديثية تشير إلى أنّ الإسلام يؤيّد حالة الانزواء والعزلة وتقع على الضد ممّا ذكرناه من الأحاديث السابقة، ومن ذلك:

1- ما ورد عن الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله قوله: «العُزلَةُ عِبادَةٌ» «1».

2- ما ورد عن أميرالمؤمنين عليه السلام: «مَنْ إِنفَرَدَ عَنِ النَّاسِ أَنَسَ بِاللَّهِ سُبحانِهِ» «2».

3- ما ورد أيضاً عن أميرالمؤمنين عليه السلام: «فِي اعتِزالِ

أَبناءِ الدُّنيا جَماعُ الصَّلاحِ» «3».

4- وعن الإمام عليه السلام نفسه أيضاً قال: «فِي الإنفِرادِ لِعبادَةِ اللَّهِ كُنُوزُ الأَرباحِ» «4».

5- ونقرأ في حديث عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام أنّه قال لهشام: «الصَّبرُ عَلَى الوَحدَةِ عَلامَةُ عَلى قُوَّةِ العَقلِ فَمَنْ عَقَلَ عَنِ اللَّهِ إِعتَزَلَ عَنِ الدُّنيا وَالرَّاغِبِينَ فَيها وَرَغِبَ فِي ما عِندَ اللَّهِ» «5».

وهذه الأحاديث تدلّ على أنّ الانزواء والابتعاد عن الناس من علامات العقل والمعرفة وسبب لحضور القلب للعبادة والتوصل إلى كثير من المراتب المعنوية والكمالات الأخلاقية.

6- وورد في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «إِنْ قَدرْتَ أَنْ لاتَخرُجَ مِنْ بَيتِكَ فَافعَل، فَإنَّ عَلَيكَ فِي خُرُوجِكَ ألّا تَغتابَ وَلا تَكذِبَ وَلا تَحسُدَ وَلا تُرائِيَ وَلا تَتصَنَّعَ وَلا تُدهِنَ» «6».

7- قال أمير المؤمنين عليه السلام: «سَلامَةُ الإِنسانِ فِي إِعتَزالِ النَّاسِ» «7».

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 410

8- نختم هذا البحث بحديث آخر عن أميرالمؤمنين عليه السلام- وإن كانت الأحاديث في هذا الباب كثيرة- قال: «مَنْ إِعتَزلَ النَّاسَ سَلِمَ مِنْ شَرِّهِم» «1».

وقد يستدل أتباع العزلة والانزواء من المتصوّفة والمرتاضين ومؤيدوهم ببعض الآيات القرآنية لتبرير مسلكهم الانعزالي، ومن ذلك ما ورد في الآية 16 من سوره الكهف حيث تقول: «وَإِذْ اعْتَزَلُتمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّي ءْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً».

وكذلك في ما ورد في سورة مريم عليها السلام الآية 48 و 49 من حديث ابراهيم عليه السلام:

«وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً* فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلّاً جَعَلْنَا نَبِيّاً».

فكلا هاتين الآيتين تقرّران أنّ العزلة عن الناس والابتعاد عن المجتمع يتسبب في القرب من

اللَّه تعالى ونيل المواهب الإلهية ونزول البركات والرحمة من اللَّه تعالى على هذا الإنسان، وهذا يشير إلى أنّ العزلة ليست أمراً مذموماً وحسب، بل مطلوبة أيضاً في دائرة المفاهيم القرآنية.

طريق الجمع بين الآيات والروايات:

ولكن بالنظر الدقيق إلى متون الآيات والروايات الشريفة يتبيّن جيداً أنّ مسألة العزلة والانزواء عن الناس تكون بصورة إستثنائية وفي شرائط اجتماعية خاصة، ومن المعلوم بالنسبة إلى أصحاب الكهف أنّهم كانوا يعيشون في أجواء اجتماعية كافرة وفاسدة وكانوا يعيشون الخوف من الحكومة الغاشمة في ذلك الزمان، فلم يكن لديهم طريق سوى الهروب والابتعاد عن ديارهم ومدنهم واللّجوء إلى الكهف في الجبال البعيدة.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 411

وبالنسبة إلى إبراهيم عليه السلام أيضاً نجد هذه الحالة الاستثنائية، فقد رأينا أنّ إبراهيم عليه السلام سعى بجديّة في خط التصدّي لقوى الانحراف والباطل وتبليغ الرسالة الإلهية بين الوثنيين، ولكن عندما رأى عدم التأثير وعاش حالة الخطر على نفسه فعند ذلك أمر بالهجرة وإعتزال هؤلاء الناس.

ومن البديهي أنّ الإنسان في مثل هذه الظروف الحساسة ليس أمامه سوى الهجرة والاعتزال، ولكن هذا المعنى لا يكون أصلًا أساسياً في التعاليم الدينية بل هو الاستثناء يتعلّق بظروف خاصة.

ويمكننا الاستشهاد على هذا الجمع بين الروايات بالقرائن الكثيرة، فعندما يختار الإمام الصادق عليه السلام العزلة عن الناس يذكر الدليل على ذلك وأنّ فساد الزمان وتغيّر الاخوان وعدم إمكان التعاون مع الناس هو السبب في اختيار هذا السلوك الاستثنائي.

وقرأنا في الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين أنّ سلامة الدين تكمن في العزلة، فذلك يتعلّق بما إذا كانت المعاشرة مع الناس تهدّد إيمان الفرد وتعرّض دينه وعلاقته باللَّه تعالى إلى الاهتزاز والإرتباك والخطر.

وأحياناً يعيش بعض الأشخاص ظروفاً خاصة بهم حيث نجدهم يعيشون ضعف الإيمان أمام مظاهر الفساد، فلذلك

قد يوحي هؤلاء الأشخاص بأن يعتزلوا المجتمع خوفاً عليهم من الابتلاء بمظاهر الفساد أيضاً كما هو المريض الذي يوصيه الطبيب بعدم الاختلاط مع الناس أو يوصي الطبيب الأفراد المسنّين بعدم الخروج الى الشارع خوفاً من التلّوث والتسمم، ومعلوم أنّ مثل هذه التوصيات لا تشكل قاعدة عامّة وشاملة لجيمع الحالات والأفراد بل تختصّ بحالات استثنائية للمرضى والمسنّين والذين يعيشون الابتلاء بضعف القلب وخلل الجهاز التنفسي.

وعليه فلا يمكن تعميم هذه الحالات الاستثنائية إلى كل زمان ومكان بحيث يستكشف منها تعليمات كليّة في دائرة المفاهيم الإسلامية، وعندما نرى أنّ الإمام الصادق يوصي أحد أصحابه باعتزال الناس وأن لا يخرج من البيت حذراً من الوقوع في الغيبة والكذب الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 412

والحسد والرياء والمداهنة وأمثال ذلك، فهذا يدلّ على أنّ الظروف الاجتماعية في ذلك الوقت كانت على غيرما يرام، أو أنّ هذا الشخص يعيش ضعف الإيمان والتأثر بالنوازع النفسية والذاتية.

ومن مجموع ما تقدّم آنفاً يمكننا الخروج بالنتيجة التالية:

إنّ الإنسان بطبيعته كائن اجتماعي يأنس بالآخرين ولكن بالرغم من ذلك فإنّه يحتاج في كل يوم إلى ساعة أو عدّة ساعات للخلوة بربّه والانس بمناجاته وخاصة في الساعات من الليل ليكرّس هذا الوقت للعبادة والمناجاة والانفتاح على اللَّه تعالى كما هو حال السالكين إلى اللَّه والعرفاء الإسلاميين الذين يحرصون على الخلوة باللَّه تعالى والإرتباط معه من موقع الانس والعشق والتوكّل بحيث لا يرون غيره ولا يأنسون بغيره.

وأحياناً يتّخذ بعض الأشخاص سلوك الابتعاد عن الناس من موقع الاعتراض على فساد الحال، ويكون ذلك أحد الطرق المشروعة للنهي عن المنكر والتصدّي للمفاسد الاجتماعية حيث يتسبب هذا السلوك السلبي تجاه الناس أن يخلق فيهم صدمة توقظهم من غفلتهم كما قد يشاهد مثل هذه

السلوكيات من بعض العلماء الذين تركوا مجتمعهم وهجروا الناس اعتراضاً على بعض ما رأوه من انحرافات في سلوك الناس، ولم تمض فترة حتى أحسّ الناس بحالهم والنقص الذي خلّفه رحيل هذا العالم فانتبهوا من سباتهم وتوجّهوا إلى ذلك العالم وطلبوا منه الرجوع إليهم شريطة أن يصلحوا أعمالهم ويسلكوا جادّة الصواب، كل هذه الاستثناءات من القاعدة الأساسية تكاد تكون مقبولة ومعقولة في مقابل الأصل العام وهو ضرورة الاجتماع والمعاشرة مع الناس.

أسباب ونتائج الاجتماع والانزواء:

إنّ الدافع الأصلي في سلوك الإنسان في حركة الحياة من موقع الاجتماع والمعاشرة مع الآخرين ينبع من طبع الإنسان، ولذلك قيل أنّ (الإنسان مدني بالطبع) كما يقول علماء الاجتماع، وعليه فإنّ العزلة لا تنسجم مع روح الإنسان المنفتحة على الآخرين، وكما يقول الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 413

علماء الاجتماع في مطالعاتهم وتجاربهم عن الأشخاص التاركين للدنيا والمجتمع أنّ حالة العزلة تخلف آثاراً سلبية على النفس البشرية وتؤدّي بالإنسان إلى أن يعيش اليأس والكآبة المزمنة والتوهّمات الضبابية وقد يورثه هذا الحال الكثير من الاختلالات العقلية أيضاً.

ولهذا السبب فإنّ أحد أشدّ أنواع التعذيب للإنسان هو السجن الانفرادي الذي لا ينبغي استمراره مدّة طويلة بأيّة صورة، لأنّ ذلك يؤدّي به حتماً إلى حالة نفسية من الإرتباك والمرض النفسي إلّاأن يكون له روح عرفانية قويّة فيأنس باللَّه تعالى وينقطع عن كل شي ء إلّا بالعلاقة مع ربّه وخالقه.

وطبعاً فإنّ حياة الإنسان الاجتماعية لا تنبع من طبيعة الإنسان فقط، بل إنّ عقل الإنسان أيضاً يقوده إلى الحياة المشتركة من حيث إنّ الإنسان لا يمكنه أن يسير في طريق التكامل والرقي والحضارة إلّابالحياة الاجتماعية والتفاعل المشترك مع الآخرين والاستفادة من علومهم البشرية في طريق الرقي والتقدّم والحضارة الكبيرة والوصول إلى قمة الترقي

والتكامل.

وبشكل عام يمكن القول أنّ الانفراد والعزلة والإنزواء عن المجتمع بإمكانه أن يكون مصدراً للكثير من المفاسد والانحرافات في دائرة السلوك البشري ومن ذلك:

1- إنّ الكثير من الانحرافات الفكريّة والذوقية وسوء الأخلاق تنبع من الانزواء والعزلة، ولهذا فإنّ الأفراد الذين يعيشون العزلة غالباً نجدهم يعيشون سوء الأخلاق واللّجاجة والغرور (وطبعاً فإنّ هذا الأصل له استثناءات أيضاً كما هو حال الاصول الاخرى).

2- ومن الآثار السلبية الاخرى للعزلة والانزواء هو حالة العجب التي تسيطر على الإنسان، لأنّ الإنسان يعيش حب الذات غالباً فيحبّ متعلّقاته بشدّة، وكلما انخفضت علاقته مع الآخرين ولم يشاهد كمالاتهم وفضائلهم وبالتالي عُدم الميزان الذي يوزن به كمالاته الذاتية فإنّ ذلك يتسبب في أن يرى نفسه أعلى من الآخرين وأفضل منهم.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 414

ولهذا السبب نلاحظ كثيراً من الأشخاص الذين يعيشون العزلة والانفراد، أنّهم يدّعون إدعاءات كبيرة عن أنفسهم أكبر من حجمهم الحقيقي وأحياناً تكون إدعاءاتهم عجيبة تحكي بوضوح أن هذا الإنسان غارق في الوهم والخيال ولا يعيش الواقع ومتطلباته.

ولكن عندما يعيش الإنسان الاختلاط مع الناس ويعاشر أفراد المجتمع فسوف يرى غالباً أشخاصاً أفضل منه وأعلم وأطهر، وعلى الأقل يرى من هو مثله في الفضل والعلم، ولهذا فسوف يبتعد عن عالم الخيال ويتجنب الإدعاءات الجوفاء والشخصية الطوباوية التي لا تلامس الواقع.

3- وأحد الآثار السلبية الاخرى للعزلة والانزواءسوء الظن بالناس حتى بأقرب المقربين منه، والعجيب أنّ سوء الظن يورث بدوره العزلة عن الناس كذلك، فكل منهما علّة ومعلول للآخر ويتسبب في تعميق سوء الظن في جميع الناس ويتصور أنّهم حقودين وحسودين وأنانيين، ولكن عندما يدخل إلى المجتمع ويعاشر الناس ويجد فيهم الأصدقاء الجيدين، فسوف يدرك سريعاً أنّ جميع تلك التصوّرات السلبية عن الناس

لا حقيقة لها على مستوى الواقع والعمل.

4- الغفلة عن عيوب الذات، فالإنسان وبسبب حبّه لذاته لا يرى عيوبه عادة، بل يرى عيوبه أحياناً امتيازات وحسنات وعناصر قوة في شخصيته، الحقيقة أنّ الإنسان يجب أن يرى عيوبه في مرآة الآخرين ويجلس لينظر إلى حكمهم عليه ويستمع إلى انتقاداتهم وخاصة فيما لو كانوا من المجاهدين، بل قد يرى الإنسان عيوبه ونقاط ضعفه في مرآة الحاقدين والمعاندين بصورة أفضل، لأنّهم يتحرّكون جاهدين للعثور على نقاط الضعف في شخصية الطرف الآخر وتفاصيل عيوبه الجزئية، وبهذا يحرم الشخص المنزوي من هذه المزايا التي تكشف عن وجهه الحقيقي.

5- الابتعاد عن تجارب الآخرين والحرمان من الاستفادة من أفكارهم وعقولهم من شأنه تحديد فكر الإنسان وعقله واقتصار حركة الفكر على امور جزئية وضيقة، ولكن إذا

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 415

تعامل مع الآخرين وانفتح على الناس ولا سيما أصحاب النظر وأرباب الفكر فسوف ينفتح أمامه بحر من العلم والتجربة وسيجد ضالته في ذلك ويكون بإمكانه حل مشكلاته بمعونة هذه العلوم والتجارب.

إنّ أحد أسرار النهضة الحضارية العلمية الحديثة التي يشهدها العالم المعاصر هو تشكيل المؤتمرات والمجلس والهيئات العلمية بحيث يجتمع فيها أصحاب الفكر والنظر من مختلف مناطق المعمورة في كل عام، وأحياناً في كل شهر، ويتباحثون في مشاكلهم العلمية ومنتوجاتهم الفكرية في هذه المؤتمرات ويتم بذلك انتقال العلوم وتبادل المعارف بين البشر، وأحياناً تقوم بهذه المهمّة بعض الإذاعات وقنوات التلفزيون أيضاً.

وبكلمة واحدة: إنّ بركات وآثار الاجتماع الإيجابية ومعطياته الكثيرة أكثر من أن تحصى في هذا المختصر، وما ذكر آنفاً لا يمثل سوى جانباً منها، وهكذا بالنسبة لاضرار العزلة والانزواء والآثار السلبية المترتبة على الإبتعاد عن الناس والمجتمع.

إلهنا: لك الشكر والثناء أن وفقتنا لبيان اصول المسائل

الأخلاقية في دائرة المفاهيم القرآنية- لأول مرّة- وبيان العوامل والأسباب والنتائج والآثار للسلوكيات الأخلاقية في بعدها الإيجابي والسلبي، وطريق تقوية الفضائل الأخلاقية وكيفية التصدّي للرذائل الأخلاقية بمقدار وسعنا وافق تفكيرنا.

ربّنا: إننا نعلم أنّ بيان الفضائل والرذائل الأخلاقية يحملنا مسؤولية ثقيلة في دائرة العمل بها وتجسيدها في سلوكياتنا وأنفسنا أولًا، فارزقنا القدرة والإرادة للعمل بهذه المسؤولية الخطيرة وأعنا في هذا الطريق الصعب.

معبودنا: أنت تعلم أن النفس الامارة متمردة وعاصية ولولا نصرك ومعونتك في مجال تهذيب النفس فإننا عاجزون عن التصدّي لها والوقوف أمام نوازعها وشهواتها، فنسألك بالخاصة من أوليائك وبالصالحين من عبادك أن لا تتركنا في مقابل عناصر الشر لوحدنا.

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 416

ربّنا: نحن نعيش في زمان رحلت عنه القيم الإنسانية والفضائل الأخلاقية وسادت في مجتمعاتنا البشرية سيل الرذائل واندثرت فيه سنن الأنبياء ومعالم سيرة الأولياء فامتلأت الأرض بالظلم والجور، فانجز لنا ما وعدتنا من ظهور منقذ البشرية ومصلح العالم بقية اللَّه الأعظم الإمام المهدي عليه السلام واجعلنا من أنصاره وأعوانه والمجاهدين بين يديه في الصف الأول.

(آمين يا ربّ العالمين)

نهاية الجزء الثالث لكتاب: الأخلاق في القرآن آخر ذي القعدة 1421 ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.