الاخلاق فى القرآن

اشارة

سرشناسه : مکارم شیرازی ناصر، 1305 - عنوان و نام پديدآور : الاخلاق فی القرآن/ناصر مکارم شیرازی ؛ لمساعده مجموعه من الفضلاء ؛ تعریب الموسسه الاسلامیه للترجمه. مشخصات نشر : قم: مدرسه الامام علی بن ابی طالب (ع 1425ق 1384. مشخصات ظاهری : 3ج. فروست : نفحات القرآن؛ الدوره الثانیه. شابک : 90000 ریال: دوره 964-8139-27-X ؛ ج.1 964-8139-05-9 ؛ ج.2 964-8139-26-1 ؛ ج.3 964-8139-25-3 ؛ 80000 ریال (دوره، چاپ دوم) يادداشت : عربی. يادداشت : عنوان اصلی: پیام قرآن دوره دوم: اخلاق در قرآن. عربی. يادداشت : ج. 3(چاپ سوم: 1428ق=1386). يادداشت : ج. 1 - 3 (چاپ دوم: 1426ق. = 1385). یادداشت : کتابنامه. مندرجات : ج.1. اصول المسائل الاخلاقیه. -ج.2-3. فروع المسائل الاخلاقیه. موضوع : قرآن -- اخلاق موضوع : اخلاق اسلامی موضوع : احادیث اخلاقی -- قرن 14 شناسه افزوده : موسسه اسلامی ترجمه شناسه افزوده : مدرسه الامام علی بن ابی طالب (ع). رده بندی کنگره : BP103/3 /م7پ9043 1383 رده بندی دیویی : 297/159 شماره کتابشناسی ملی : 1153409

الجزء الثانى

الأخلاق الحسنة والسيئة في القرآن

مقدّمة (منهج البحث):

تعرضنا في الجزء الأوّل من هذا الكتاب (الأخلاق في القرآن) إلى الاصول العامة في المسائل الأخلاقية والمناهج المختلفة لتهذيب النفس، والمذاهب الأخلاقية، والدوافع والنتائج وقد بحثنا هذه المواضيع والمسائل بالتفصيل على ضوء ارشادات وتعاليم القرآن الكريم على شكل تفسير موضوعي.

ونرى الآن أنّ الوقت قد حان لبحث جزئيات الفضائل والرذائل الأخلاقية بالاستفادة من تلك الاصول العامة واستعراض مواردها على ضوء تعليمات الوحي والآيات القرآنية.

ومن ذلك سنتعرض في هذا المجال للفضائل والرذائل الأخلاقيّة على مستوى الآثار والنتائج والعواقب الإيجابية والسلبية لكلّ واحدة منها، وبالتالي طرق الوقاية من الرذائل الأخلاقية ومعالجتها وكيفيّة كسب الفضائل والملكات الأخلاقية الحميدة.

ولدى ورودنا في هذا الموضوع وهذه الدراسة تأمّلنا

كثيراً في المناهج والنظم الدراسية والعلمية الّتي يمكن الاستفادة منها في هذا البحث العميق، فهل ينبغي البحث على مستوى المناهج اليونانية في تقسيم الأخلاق إلى أربعة أقسام (الحكمة، العدالة، الشهوة، الغضب)؟

في حين أنّ هذا التقسيم لا يتلاءم ولا ينسجم مع الآيات القرآنية الّتي نريد دخول هذا البحث من خلالها وعلى ضوئها، ولا أنّ هذا المنهج خال من العيوب والنقائص الّتي تمّت الإشارة إليها في الجزء الأوّل.

أم أنّ ترتيب الفضائل والرذائل ينبغي أن يكون على مستوى ترتيب حروف الالفباء، في الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 6

حين أنّ هذا المنهج يختلف كثيراً عن منهج الدراسة المنطقية ولا ينسجم معها كثيراً.

أم ينبغي أن نقرر هذه الدراسة وفق منهج المذاهب الشرقية والغربية في المسائل الأخلاقية في حين أنّ كلّ واحدة من هذه المذاهب لا تخلو من مشكلة أو مشكلات منهجية، مضافاً إلى أنّها لا تتناغم مع التفسير الموضوعي للقرآن الكريم والّذي نزمع دراسة القيم الأخلاقية على ضوئه.

وفجأة وبلطف الله والالهام الباطني تجلّى لنا منهج جديد في استيحاء المفاهيم الأخلاقية من القرآن الكريم، وهو أننا نعلم أنّ القرآن الكريم خصّص قسماً مهماً من أبحاثه الأخلاقية والسلوكية في ضمن دراسته لسلوكيات الأقوام السالفة وتاريخ المجتمعات البشرية الماضية وما ترجمه الأوائل على المستوى العملي من أخلاق وقيم وفضائل كانت تتحرك في تلك المجتمعات الإنسانية وبالتالي الكشف عن عواقب تلك السلوكيات وعرض نتائج تلكم الأعمال والممارسات الأخلاقية، وللانصاف فإن القرآن الكريم بحث المسائل الأخلاقية في دائرة التجربة العينية والخارجية في اطار ممارسة الأقوام السالفة لتتضح النتائج المترتبة عليها لكلّ قارئ ومستمع إلى هذا التاريخ الغابر، ويخرج منها بنتائج عملية وعميقة.

ولهذا السبب رأينا أنّ من الأفضل في معيار نظم المباحث الأخلاقية وبالنظر إلى السياق

الّذي يحكم دراساتنا الماضية فإننا سوف نجعل من هذه الدراسة التاريخية للقرآن الكريم معياراً حاكماً في هذه المباحث العلمية والأخلاقية.

وبعبارة اخرى إننا بحثنا هذه المواضيع من قصة آدم وحواء ووسوسة آدم وهبوطهما من الجنّة وما ترتّب على ذلك من سلوكيات سلبية أدّت إلى هذه الواقعة التاريخية من طرد الشيطان الرجيم من مرتبة القرب الإلهي وحرمان آدم وحواء من الجنّة وأمثال ذلك، ونعلم أنّ الشيطان قد طُرد من الجنّة والمرتبة السامية بسبب (الاستكبار) و (الإنانية) و (العجب) وبالتالي بسبب (العناد والتعصب) حيث رفض السجود لآدم، وكذلك وقع آدم وحواء في مصيدة الشيطان بسبب (الحرص) وحيث أكلا من ثمرة الشجرة الممنوعة بدوافع من الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 7

وساوس الشيطان، ثمّ تصل النوبة إلى قصة (هابيل) و (قابيل) وما تضمنت هذه القصة من صفات قبيحة كانت هي الدافع على قتل هابيل، ثمّ نصل إلى قصة نوح وما جرى على الأقوام البشرية من الطوفان وكذلك الحوادث الّتي جرت على قوم بني إسرائيل ونبيهم موسى وما تضمّنته من سيرة الأنبياء من الفضائل والمكارم الأخلاقية في ذلك الوسط المنحرف والّذي تسبّب بأنواع الأذى والعقوبات الإلهية على هؤلاء القوم.

هذا المنهج مضافاً إلى كونه جذاباً ومشوّقاً فإنه يتناغم مع سياق البحوث القرآنية وتتجلّى فيه الفضائل والرذائل الأخلاقية في صورة تجسيد عيني لها في حركة الإنسان والواقع الاجتماعي على مستوى الحس والتجربة.

نسأل اللَّه تعالى توفيقنا وجميع أفراد المجتمع للتخلص من آثار الرذائل الأخلاقية الّتي تبدل المجتمع إلى جهنم وإلى نار محرقة، ونسأله تعالى أن يهب لنا التوفيق للتحرك من موقع الفضائل والمكارم الأخلاقية الّتي تصبغ قلوبنا بالصفاء والطمأنينة وتهب لنا السعادة والمراتب المعنوية السامية في حركة الإنسان التكاملية، أي مرتبة القرب من اللَّه

تعالى.

(آمين يا ربّ العالمين).

ربيع الأوّل 1420 ه. ق قم- ناصر مكارم الشيرازي

التكبّر والاستكبار

تنويه:

إنّ أوّل صفة من الصفات الأخلاقية الذميمة وأوّل رذيلة نقرأها في تاريخ الأنبياء وبداية خلقة الإنسان، وكما يعتقد أكثر علماء الأخلاق أنّها أُمّ المفاسد والرذائل الأخلاقية وأصل جميع أنواع الشقاء الإنساني، هي (التكبّر والاستكبار) والّتي وردت في قصة إبليس عندما خلق اللَّه سبحانه وتعالى آدم وأمر الملائكة وكذلك إبليس بالسجود له.

هذه القصة المثيرة والمعبّرة هي قصة محذرة ومليئة بالعبر لجميع الأفراد والمجتمعات البشرية، والجدير بالذكر أنّ النتائج والعواقب الوخيمة للتكبّر والاستكبار لا تتجلّى في قصة خلق آدم فحسب، بل نراها متجلية على طول الخط في سيرة الأقوام السالفة من تاريخ الأنبياء ومدى الدور المخرب والمدّمر لهذه الصفة الذميمة في حركة الإنسان والمجتمع البشري.

واليوم نرى أنّ مسألة الإستكبار لها الدور الأوّل في خلق الأجواء الفاسدة وزيادة المفاسد الأخلاقية والإجتماعية في العالم والمجتمعات البشرية المعاصرة وتعد بحقّ البلاء الكبير على واقع الإنسانية المعاصرة والحضارة البشرية الفعلية والّتي لا نجد صدىً واسعاً وتجاوباً من قِبل المفكّرين والمصلحين في إصلاح هذا الخلل الكبير الّذي يتعرض له الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 10

المجتمع البشري من جراء هذه الصفة الرذيلة.

وبهذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته الشريفة ما يرشدنا ويُلقي بالضوء على هذا البحث، أي الآيات المتعلّقة بسيرة آدم إلى سيرة نبيّنا الأكرم في دائرة آثار ودوافع هذه الصفة الأخلاقية الذميمة.

1- «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لِأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ا لْكَافِرِينَ» «1». 2- «قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصغِرِينَ» «2» 3- «وَإِنّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أَصبِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَاراً» «3».

4- «فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُواْ فِى ا لْأَرْضِ بِغَيْرِ ا لْحَقّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ» «4». 5- «قَالَ ا لْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ» «5».

6- «وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَآءَهُم مُّوسَى بِالبَيّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُواْ فِى الْأَرْضِ وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ» «6»

7- «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَا وَةً لّلَّذِينَ ءَامَنُواْ ا لْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَ نَّهُمْ لَايَسْتَكْبِرُونَ» «7».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 11

8- «ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ* ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ* فَقَالَ إِنْ هذَآ إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ» «1».

9- «الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى ءَايَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ» «2».

10- «قِيلَ ادْخُلُواْ أَبْوَا بَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى ا لْمُتَكَبّرِينَ» «3»

11- «سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِىَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ ا لْحَقّ وَإِنْ يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لَّايُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِنْ يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لَايَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْاْ سَبِيلَ ا لْغَىّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ» «4».

12- «لَاجَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَايُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَايُحِبُّ ا لْمُسْتَكْبِرِينَ» «5».

13- «لَنْ يَسْتَنكِفَ ا لْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا ا لْمَلئكَةُ ا لْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتي وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا»

14- «إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لَاتُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَا بُ السَّمَآءِ وَلَايَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ ا لْجَمَلُ فِى سَمّ ا لْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِى الُمجْرِمِينَ» «6».

تفسير و استنتاج:

البلاء العظيم على طول التاريخ البشري:

إنّ الآيات القرآنية الكريمة مليئة ببيان مفاسد الاستكبار والعواقب

الوخيمة المترتبة على التكبّر وكذلك المشكلات البشرية الّتي تزامنت وترتبت على هذه الصفة الذميمة على طول التاريخ البشري وتأثير هذه الصفة الرذيلة السلبي في تقدّم وتكامل الإنسان في أبعاده الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 12

المعنوية والمادية حيث لا تخفى على أحد، وما قرأنا في الآيات أعلاه إنّما هو في الحقيقة ناظرٌ إلى هذا الموضوع.

«الآية الاولى والثانية» تتحدّث عن إبليس والقصة المعروفة لسجود الملائكة عندما أمرهم اللَّه تعالى بالسجود لآدم تعظيماً له وقد كان إبليس في ذلك الوقت في صف الملائكة بسبب علوّ مرتبته ومقامه، وقد سجد جميع الملائكة إلّاإبليس لأنّه آثر عصيان الأمر الإلهي وتكبّر على الحقّ وعلى اللَّه، وبالتالي تمّ طرده من ذلك المقام السامي بسبب رفضه الصريح للسجود وحتّى اعتراضه على أصل الأمر الإلهي له، ولذلك أمره اللَّه تعالى بالخروج من ذلك المقام وتلك المرتبة إلى أسفل السافلين حيث تقول الآية: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لِأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ا لْكَافِرِينَ» «1». «قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصغِرِينَ» «2».

وفي الحقيقة أنّ هذه أوّل معصية وقعت في عالم الوجود هذه المعصية هي الّتي أدّت بمخلوق مثل إبليس والّذي كان قد عبداللَّه ستة ألاف سنة (كما ورد في الخطبة القاصعة لأميرالمؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة) وأُخرج من ذلك المقام بسبب تكبّر ساعة فحبطت أعماله وعباداته وطاعاته وسقط من ذلك المقام الّذي كان يُعدّ فيه مع الملائكة حيث يقول أميرالمؤمنين عليه السلام: «إذْ احْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِيلَ وَجَهْدَهُ الْجَهِيدَ، وَكَانَ قَدْ عَبَدَ اللَّهَ سِتَّةَ آلَافِ سَنَةٍ ... عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ» «3».

وفي هذه القصة المثيرة والمعبّرة نقرأ دقائق ونكات مهمّة جداً حول عواقب التكبّر ونستوحي

منها أنّ هذه الصفة الرذيلة يمكن أن تؤدي إلى واقع الكفر والخروج من الإيمان تماماً كما ورد في الآيات محل البحث «أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ا لْكَافِرِينَ»»

.الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 13

وهكذا يتجلّى في هذه القصة أنّ إبليس وبسبب حجاب الكِبر والغرور قد تعامل مع الواقع من موقع الجهل التامّ حيث خاطب اللَّه تعالى من موقع الاعتراض والرفض للأمر الإلهي وقال: «قَالَ لَمْ اكُنْ لِاسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسنُونٍ» «1».

في حين أنّ من الواضح أن شرف آدم لم يكن لأنّه مخلوق من الطين بل بسبب تلك النفخة الإلهية والروح الإلهي الّتي نفخها اللَّه تعالى في آدم: «فَاذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ» «2»، وحتّى إبليس لم يكن ليدرك افضلية التراب على النار، التراب الّذي صار مصدر جميع البركات في واقع الخِلقة وظهور الحياة وأنواع المعادن والذخائر الطبيعية من الماء والنباتات وسائر المواد الاخرى الّتي تتولد منها النار ولذلك قال بمنتهى الغرور «خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» «3».

مضافاً إلى أنّ الكثير من الأشخاص الّذين يقعون في الخطيئة والزيغ فإنّهم قد يعودون إلى مسارهم الفطري والسليم بعد أن يدركوا خطئهم ويتحركوا من موقع إصلاح الخلل والتوبة، ولكن حالة التكبّر والإستكبار هي من الامور الّتي لا تفسح المجال للإنسان المخطي ء في سلوك طريق التوبة بعد الانتباه وإدراك الخطأ، ولهذا السبب فإنّ الشيطان عندما التفت إلى خطئه لم يتب منه، لأنّ الكبر والغرور لم يسوّغ له أن يتحرك من موقع التسليم والتعظيم لجوهر الخلقة (أي الإنسان) بل إنّه زاد من تكبره وعناده وأقسم على إضلال جميع الناس (إلّا عَبادَ اللَّهِ المخلصين) وطلب من اللَّه تعالى العمر المديد ليستمر في غيّه ونصب شراكه

وفخاخه لبني آدم ليضلهم عن سبيل اللَّه وعن سلوك طريق الحقّ.

وبهذا فإنّ التكبّر والأنانية والعجب وأمثال ذلك تعدّ مصدراً من مصادر الحالات السلبية والصفات الذميمة الاخرى من قبيل الحسد، الكفر، الإفساد، ارتكاب الفحشاء والمنكر.

وبهذا يكون الشيطان كما قال أميرالمؤمنين عليه السلام في الخطبة القاصعة قد وضع أساس الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 14

التكبّر والتعصب في الأرض وعمل على التصدي للقدرة الإلهية المطلقة من موقع العناد واللجاجة: «فَعَدُوُّ اللَّهِ امَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ وَسَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ الّذي وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ وَنَازَعَ اللَّهَ رِدَاءَ الْجَبْرِيَّةِ وَادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ، وَخَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ» «1».

وبسبب هذه الحالة الدنيئة والفعل الدني ء فإنّ اللَّه تعالى قد جعل الشيطان ذليلًا وألبسهُ لباس الهوان والحقارة كما قال أميرالمؤمنين عليه السلام في هذه الخطبة: «الَا تَرَوْنَ كَيْفَ صَغَّرَهُ اللَّهُ بِتَكَبُّرِهِ وَوَضَعَهُ بِتَرَفُّعِهِ فَجَعَلَهُ فِي الدُّنْيَا مَدْحُوراً، وَاعَدَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ سَعِيراً» «2».

والخلاصة أنّه كلّما تدبّرنا في قصة إبليس وافرازات التكبّر والغرور فإننا نستجلي دقائق مهمّة وكثيرة عن أخطار التكبّر والاستكبار.

«الآية الثالثة» تتحرك حول استعراض قصة نوح أول أنبياء اولي العزم وصاحب الشريعة، هذه القصة توضح لنا أنّ المصدر الأساسي للكفر وعناد قوم نوح مع نبيّهم يمتد إلى حيث صفة التكبّر والاستكبار. فعندما نقرأ الشكوى الّتي تقدّم بها نوح إلى اللَّه تعالى من قومه نجد أنّه يؤكد على هذه المسألة وهي أنّ مخالفتهم نابعة من شدّة استكبارهم حيث تقول الآية:

«وَإِنّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أَصبِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَاراً» «3».

فهنا نرى أيضاً أنّ التكبّر ورؤية الذات من موقع الغرور والعجب والتفوق على الآخرين يمثل منبع الكفر والعناد مع الحقّ.

لقد كان تكبّرهم إلى درجة أنّهم لم يتحملوا حتّى سماع كلام الحقّ والّذي يمكن أن يؤثر في

تنبّههم وإيقاضهم من ضلالهم ولذلك كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم ويستغشون الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 15

ثيابهم على رؤوسهم لكي لا يصل إليهم صوت نوح ويتأثروا بهذا الكلام الإلهي الصادر من أعماق الفطرة الإنسانية، فهذا العداء وهذه الكراهية لكلام الحقّ ليس لها مسوّغ ودافع سوى حالة التكبّر الشديد الّذي كان يعيشه هؤلاء القوم الظالمون.

هؤلاء كانوا يتعرضون لنوح ودعوته ويتساءلون من موقع الاعتراض أنّ نوح كان يحيط به الأراذل من الناس والفقراء والمساكين وأبناء الطبقات الضعيفة من المجتمع، فلذلك قرروا عدم الاقتراب من نوح والجلوس معه ما دام هؤلاء الأراذل والضعفاء بحسب تعبيرهم مع نوح.

أجل فإنّ التكبّر والأنانية العجيبة الّتي كان يعيشها هؤلاء الناس كانت قد أحرقت الفضائل الأخلاقية في واقعهم وحوّلتها إلى رماد.

وفي الحقيقة فإنّ هذه الرذيلة الأخلاقية وهي التكبّر تعدّ عاملًا أساسياً لعنادهم وإصرارهم على الكفر إلى درجة أنّهم كانوا يضعون أصابعهم في آذانهم ويغطّون رؤوسهم بثيابهم خوفاً من تأثير كلام نوح في أنفسهم.

ومن الملفت للنظر أنّ هذا العمل إنّما يدلّ على أنّهم كانوا يعترفون في قرارة أنفسهم بحقّانية دعوة نوح ويعتقدون به ويدل على ذلك وضعهم أصابعهم في آذانهم وتغطيتهم رؤوسهم بثيابهم.

ويُحتمل أيضاً أنّهم كانوا يغطون رؤوسهم بثيابهم لكيلا يروا نوح ولا يراهم نوح فلعلّ رؤيتهم له توجب الأُنس به والرغبة والميل لسماع كلماته.

وأخيراً فإنّ حالة العجب والغرور ورّثتهم الجهل وعدم سماع انذارات نوح عليه السلام في آخر لحظات العمر حيث كانت هناك فرصة للنجاة فلم يكونوا يحتملون صدقه في هذا الانذار لذلك عندما كان نوح عليه السلام يصنع السفينة فإنّ هؤلاء القوم الظالمين كانوا يمرّون عليه ويهزءون به ويسخرون منه ولكن نوح كان قد حذّرهم بقوله: «... انْ تَسْخَرُوا مِنّا فَانَّا نَسْخَرُ

مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ» «1»، ولكن في ذلك اليوم سوف لا تكون لكم فرصة للتنبّه حيث تحيط

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 16

بكم أمواج البلاء والطوفان فلا ملجأ.

وأساساً فإنّ أحد علامات المستكبرين هو أنّهم لا يتعاملون مع المسائل الّتي لا تدور في دائرة مصلحتهم ومنفعتهم من موقع الجديّة بل يتخذونها وسيلة للعب واللهو ويتحركون دائماً من موقع الاستهزاء والسخرية بالمستضعفين حيث يمثل ذلك جزءاً من سلوكهم وديدنهم في حياتهم، وكم رأينا أنّهم في مجالسهم ينطلقون للعثور على مؤمن مستضعف ليجعلونه محور سخريتهم وضحكهم، وبذلك يكون هذا السلوك منشأ للترفيه عن أنفسهم، فهؤلاء وبسبب هذه الروح الاستكبارية يرون أنّهم العقل الكلّي ويتصورون أنّ الثروة الّتي اكتسبوها من الطريق الحرام هي علامة وآية لذكائهم ولياقتهم الّتي تبيح لهم أن يتعاملوا مع الآخرين من موقع التحقير والتهميش.

وفي «الآية الرابعة» نتجاوز عصر نوح عليه السلام لنصل إلى عصر (قوم عاد) ونبيّهم هود عليه السلام، وهنا نرى أنّ السبب الأساس لشقاء هؤلاء القوم الظالمين هو عامل التكبّر وروح الاستكبار المترسخة في نفوسهم حيث تقول الآية: «فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُواْ فِى ا لْأَرْضِ بِغَيْرِ ا لْحَقّ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ» «1».

وهنا نرى أيضاً أنّ هذه الصفة الأخلاقية الذميمة وهي صفة التكبّر والاستكبار كانت سبباً بأن يتصوّروا أنفسهم أقوى الموجودات في عالم الخلقة وحتّى أنّهم نسوا قدرة اللَّه تعالى وبالتالي تعاملوا مع الآيات الإلهية من موقع الإنكار وأوجدوا جداراً سميكاً بينهم وبين الحقّ.

والملفت للنظر أنّ الآية الّتي تليها (الآية 16 من سورة فصلت) تشير إلى أنّ اللَّه تعالى ولأجل تحقير هؤلاء المتكبرين المعاندين قد سلط عليهم اعصاراً شديداً ومهولًا في أيّام

نحسات بحيث جعلت من أجسادهم كالرماد المبثوث وكالريشة في مهب الريح.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 17

أجل فإنّ التكبّر يعدّ حجاباً على بصيرة الإنسان يمنعه من رؤية أيّة قدرة فوق قدرته حتّى أنّه لا يرى قدرة اللَّه تعالى على نفسه وأفعاله.

وتعبير «بغير الحقّ» هو في الواقع قيد توضيحي، لأنّ التكبّر والاستكبار بالنسبة للإنسان هو بغير حقّ دائماً وبأيّة حالة، فلا يليق بالإنسان أن يتصرّف من موقع التكبّر ويلبس هذا الرداء الّذي لا يليق إلّابالقدرة الإلهية المطلقة.

«الآية الخامسة» تتحدّث عن زمان شعيب وقومه، وهنا نرى أيضاً أنّ السبب الأساسي لشقاء قوم شعيب وضلالهم هو الاستكبار حيث تقول الآية: «قَالَ ا لْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ» «1».

لماذا يجب على شعيب والّذين آمنوا معه وسلكوا طريق التقوى والانفتاح على اللَّه أن يخرجوا من ديارهم ومدنهم؟ هل هناك دليل آخر غير تحرّك الأثرياء والمتكبّرين من قوم شعيب في التصدي للدعوة الإلهية والرسالة السماوية ونظرتهم إلى الّذين آمنوا من موقع الاستصغار والاستحقار وبالتالي الانطلاق في سبيل إلغائهم ونفيهم وإبعادهم عن ديارهم؟

أما قولهم «أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا» فلا يعني أنّ الّذين آمنوا مع شعيب كانوا على ملّة هؤلاء المستكبرين ودينهم، بل بسبب أنّهم كانوا منسوبين إليهم وإلى هذه المدينة، ونعلم أنّ التكبّر وحبّ الذات يوجب على الإنسان المتصف بهذه الصفة أن يرى كلّ شي ء متعلّقاً به ومن ممتلكاته.

«الآية السادسة» ناظرة إلى عصر موسى وفرعون وقارون، حيث تتحدّث هذه الآية عن قصة هؤلاء وترى أنّ العامل الأساس لانحراف وضلال وشقاء قوم فرعون هو حالة التكبّر فتقول: «وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَآءَهُم مُّوسَى بِالبَيّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُواْ فِى الْأَرْضِ الاخلاق

فى القرآن، ج 2، ص: 18

وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ» «1»، ولهذا السبب فإنّهم لم يذعنوا للحقّ وبالتالي فقد أصابهم عذاب اللَّه وأهلكهم ولن يستطيعوا الفرار منه.

(قارون) ذلك الرجل الثري الّذي كان يرى أنّ ثروته العظيمة دليلًا على مقامه ومنزلته السامية عند اللَّه تعالى وكان يرى أنّ هذه الثروة العظيمة إنّما حصل عليها بسبب لياقته وذكائه، ولذلك تملّكه الغرور والفرح والفخر، فكان يخرج على قومه من فقراء بني إسرائيل بعظيم الزينة ومظاهر الثروة إصراراً منه على تحقيرهم وإذلالهم، وكلّما نصحوه بأن يستخدم هذه الثروة لنيل الدرجات العليا في الآخرة والسعادة المعنوية في حركة الحياة والمجتمع، فإنّ هذه النصائح لن تؤثر فيه وذهبت أدراج الرياح، لأنّ الغرور والتكبّر منعه من إدراك حقائق الامور وصدّه عن دفع هذه الأمانة الإلهية الّتي بيده لأيّام معدودة لأصحابها الواقعيين.

أمّا «فرعون» الّذي جلس على عرش السلطنة والقدرة فإنّه قد أصابه الغرور والتكبّر بأشد من صاحبه حتّى أنّه لم يقنع من الناس بعبوديتهم له بل كان يرى نفسه أنّه (ربّهم الأعلى).

أمّا «هامان» الوزير المقرّب لفرعون والّذي كان شريكاً له في جميع جرائمه ومظالمه بل إنّ جميع إدارة امور المملكة كانت بيده فإنّ القرآن الكريم صرّح أيضاً بأنّه ابتلي بالكبر والغرور الشديد.

هؤلاء الثلاثة اتّحدوا في مقابل موسى عليه السلام ودعوته الإلهية وانطلقوا في الأرض فساداً وأمعنوا فيها اضلالًا للناس وإذلالًا لهم إلى أن شملهم العذاب الإلهي الشديد، فأغرق فرعون وهامان في أمواج النيل الهادرة حيث كانوا يعدون النيل مصدراً لقدرتهم وأساساً لملكهم، أمّا قارون فقد ابتلعته الأرض بكنوزه وثرواته الطائلة.

«الآية السابعة» تتحدّث عن قوم عيسى بن مريم عليه السلام والفرق بينهم وبين اليهود حيث الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 19

تقول: «لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَا وَةً لّلَّذِينَ

ءَامَنُواْ ا لْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَ نَّهُمْ لَايَسْتَكْبِرُونَ» «1».

ثمّ تذكر الدليل والعلّة لهذا التفاوت والفرق بين هاتين الطائفتين وتقول: «ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَ نَّهُمْ لَايَسْتَكْبِرُونَ».

ومن هذه العبارة يتضح جيداً أنّ أحد العوامل الأصلية لعداء اليهود للّذين آمنوا هو حالة التكبّر والاستكبار تجاه الحقّ في حين أنّ أحد أدلّة تعامل النصارى مع المؤمنين من موقع المحبّة واللطف هو عدم وجود هذه الصفة الذميمة في أنفسهم.

إنّ الأشخاص الّذين يعيشون التكبّر والاستكبار يريدون أن يقف الآخرون أمامهم موقف الذلّة والحقارة والعجز، ولهذا السبب فإنّهم إذا رأوا يوماً نعمة قد أنعم اللَّه بها على الآخرين فإنّهم يجدون في أنفسهم عداءً وكراهية شديدة تجاه هؤلاء الّذين أنعم اللَّه عليهم، أجل فإنّ الاستكبار هو سبب الحسد والحقد والعداء تجاه الحقّ والناس.

صحيح أنّ هذه الآية لا تتحدّث عن جميع النصارى بل ناظرة إلى النجاشي وقومه في الحبشة الّذين استقبلوا المسلمين المهاجرين إليهم أحسن استقبال ولم يلتفتوا إلى وساوس أزلام قريش الّذين أرسلتهم قريش ليحركوا النجاشي على طرد المسلمين من الحبشة وتسليمهم إلى المشركين، وهذا الأمر هو الّذي تسبّب في أن يجد المسلمون في أرض الحبشة ملجأً وملاذاً لهم من شر المشركين الّذين كانوا ينصبون لهم أشد العداوة والكراهية، ولكن الآية على أيّة حال تقرر أنّ الاستكبار هو العامل الأساس للعداوة والبغضاء للحقّ وأهل الحقّ في حين أنّ التواضع يُعد أساساً للمحبّة وتعميق أواصر العلاقة والعاطفة مع أهل الإيمان والخضوع مقابل الحقّ.

«الآية الثامنة» تتحرّك من موقع التأكيد على هذا المعنى وتقرير هذه الحقيقة المهمّة،

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 20

وهي أنّ الاستكبار هو سبب (الكفر والعناد وعدم المرونة

مقابل الحقّ)، وهنا تستعرض الآية حالة (الوليد بن المغيرة المخزومي) الّذي كان يعيش في عصر نزول القرآن وتصف حالته في مقابل الحقّ والآيات القرآنية وتقول: «ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ* ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ* فَقَالَ إِنْ هذَآ إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ» «1».

كلمة «سحر» توضح جيداً أنّ الوليد قد أقرّ واذعن بهذه الحقيقة وهي أنّ القرآن الكريم له تأثير عجيب على الأفكار والقلوب ويتمتع بجاذبية كبيرة لعواطف الناس، فلو أنّ الوليد نظر إلى هذه الآيات نظر المنصف والطالب للحقّ فإنّه سوف يعد هذا التأثير الغريب للقرآن دليلًا على إعجازه، وبالتالي سوف يؤمن به، ولكن بما أنّه كان ينظر إليه من خلال حجاب الغرور والتكبّر فإنّه كان يرى فيه سحراً كبيراً كسحر الأقوام السالفة، أجل فكلّما تراكم حجاب التكبّر على بصيرة الإنسان وقلبه فإنّه سينظر إلى آيات الحقّ بنظر الباطل وينقلب الباطل في نظره إلى حقّ.

والمشهور أنّ الوليد كان يعيش الغرور إلى درجة أنّه كان يقول: «انَا الْوَحِيدُ بْنُ الْوَحِيد، لَيْسَ لِي فِي الْعَرَبِ نَظِيرٌ، وَلَا لأَبي نَظِيرٌ!» في حين أنّ الوليد كان يُعتبر بالنسبة إلى الناس في ذلك الزمان رجلًا عالماً وقد أدرك عظمة القرآن جيداً وقال فيه عبارة عجيبة مخاطباً بني مخزوم: «إنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً، وَإنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوةً، وَانَّ أَعْلَاهُ لَمُثْمَرٌ وَانَّ اسْفَلَهُ لَمُغْدَقٌ، وَانَّهُ لَيَعْلُو وَلَا يُعْلى عَلَيْهِ».

هذا التعبير يقرب بوضوح إلى أنّ الوليد أدرك عظمة القرآن أكثر من أيّ شخص آخر من قومه ولكن التكبّر والغرور منعه من رؤية شمس الحقيقة والإذعان لنور الحقّ.

وتأتي «الآية التاسعة» لتستعرض في سياقها خطاب مؤمن آل فرعون لقومه ويحتمل أن تكون هذه الآية جزءاً من خطابه أو جملة مستقلة معترضة من الآيات القرآنية الكريمة حيث نقرأ فيها قوله تعالى: «الَّذِينَ يُجَادِلُونَ

فِى ءَايَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 21

عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلّ قَلْبِ مُتَكَبّرٍ جَبَّارٍ» «1».

«يطبع» من مادّة «طبع» وتأتي في هذه الموارد بمعنى الختم، وتشير إلى عمل تم في الماضي والحال ويراد به الشي ء الّذي يُراد بقائه دون استخدام وتصرف فيغلق عليه ويُسد بابه ويوضع عليها مادّة لاصقة إما من الطين أو الشمع أو ما شابه ذلك ويختم عليها بختم معين بحيث إذا أراد شخص فتحه سيضطر إلى كسر هذا الختم وبالتالي سيتّضح ويتبين أنّه تصرّف فيه فيحال إلى المحكمة.

وعلى هذا الأساس فإنّ عملية الطبع والختم على قلوب المتكبرين يشير إلى أن عناد هؤلاء وعدائهم للحقّ قد أسدل على قلوبهم وأفكارهم حجاباً ظلمانياً بحيث لا يقدرون معه على إدراك حقائق عالم الوجود، ولا يرون سوى أنفسهم ومصالحهم وأهوائهم النفسية ونوازعهم الدنيوية، فكانت أذهانهم وعقولهم بمثابة ظروف مغلقة لا يمكن معها من إفراغ محتواها الفاسد ولا ملئها بالمحتوى السليم والفكر الصحيح، وهذا في الواقع هو نتيجة التكبّر وحالة الجبارية الّتي يعيشها هؤلاء الاشخاص، وفي الواقع فإنّ الصفة الثانية متولدة من الصفة الاولى لأنّ (جبار) تأتي في هذه الموارد بمعنى الشخص الّذي يعاقب وينتقم من مخالفيه من موقع الغضب الشديد والنقمة لا من موقع العقل والحكمة، وبعبارة اخرى: أنّ الجبّار هو الشخص الّذي لا يرى إلّانفسه وأهوائه ولا يرى للآخرين محلًا من الإعراب سوى أنّهم اتباع له.

وبالطبع فإنّ هذه المفردة «الجبّار» تطلق أحياناً على اللَّه تعالى أيضاً ويراد بها مفهومٌ خاص وهو الشخص الّذي يُجبر نقائص الآخرين ويصلحها.

وتنطلق «الآية العاشرة» لتشير إلى أصل كلي لا يختصّ بطائفة معيّنة، وهو أنّ الكافرين عندما يقتربون من حافة جهنم

يُقال لهم إنّ هذا العذاب هو بسبب أنّكم تتصفون بصفة التكبّر

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 22

فتقول الآية: «قِيلَ ادْخُلُواْ أَبْوَا بَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى ا لْمُتَكَبّرِينَ» «1».

وشبيه هذا المعنى قد ورد في آيات متعددة اخرى من القرآن الكريم منها ما ورد في الآية 60 من سورة الزمر: «الَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ».

ومن الملفت للنظر أنّ من بين جميع الصفات الأخلاقية الذميمة لأصحاب النار قد أكدت الآية على مسألة التكبّر ممّا يقرر هذه الحقيقة، وهي أنّ هذه الصفة الذميمة هي الأساس في سقوط هؤلاء في هذا المصير المؤلم بحيث تكون جهنم هي مقرّهم النهائي ومصيرهم الخالد.

وممّا يلاحظ في هذه الآية أنّ كلمة «مثوى» من مادّة «ثوى تعني المحل الدائم والمقر الّذي يستقر فيه الإنسان في نهاية المطاف، وهو إشارة إلى أنّ هؤلاء لا نجاة لهم من العذاب الأليم في الآخرة.

«الآية الحادية عشر» تتحدّث أيضاً عن المتكبّرين بشكل عام وتقول: «سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِىَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ ا لْحَقّ وَإِنْ يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لَّايُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِنْ يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لَايَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْاْ سَبِيلَ ا لْغَىّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ» «2».

هذه العبارات المثيرة الواردة في هذه الآية الكريمة تخبر عن عمق المصيبة الّتي يبتلي بها هؤلاء المتكبرون، فإنّ اللَّه تعالى سيجازي هؤلاء الأشخاص ويعاقبهم من موقع أنّهم لا يجدون في أنفسهم قبولًا للحقّ بحيث إنّهم لو رأوا جميع آيات اللَّه ومعجزاته المتنوعة فإنّهم لا ينفتحون على الإيمان ولا يسلكون خط الصلاح والهدى ولو أنّهم وجدوا الصراط المستقيم مفتوحاً أمامهم فإنّهم لا يسلكونه بل إذا وجدوا طريق الغي والضلال فإنّهم يسلكونه من فورهم ويتحركون في خط الضلالة والباطل

والإنحراف.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 23

وعبارة «بغير الحقّ» هي في الواقع قيد توضيحي لأنّ العظمة والكبرياء مختصان باللَّه تعالى وقدرته المطلقة، وأمّا بالنسبة للإنسان الّذي ليس سوى ذرّة صغيرة من ذرات عالم الوجود الواسع، فإنّ رداء العظمة والكبرياء بالنسبة له ليس حقّاً وليس من حقّه أن يرتدي هذا الرداء.

بعض المفسّرين ذهبوا إلى أنّ هذا القيد هو قيدٌ احترازي وقالوا: إنّ التكبّر على قسمين:

تكبّر في مقابل أولياء اللَّه فهو (بغير الحقّ) وفي مقابل ذلك التكبّر في مقابل أعداء اللَّه وهو (بالحقّ) ولكن مع الالتفات إلى جملة «يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأرْضِ» يتّضح جيداً أنّ هذا التفسير غير منسجم مع سياق الآية لأنّ التكبّر في الأرض وفي مقابل البشر جميعاً هو خلقٌ مذموم وقبيح بصورة مطلقة.

وعلى أيّة حال فإنّ الآية الشريفة تشير في سياقها إلى أهم آثار وعواقب التكبّر الوخيمة، وهي أنّ مثل هذا الإنسان لا يذعن أمام آيات الحقّ ولا يؤمن بها بل على العكس من ذلك، فإنّه وبسبب هذه الصفة الذميمة سيدخل أبواب الضلالة، ويسلك سبيل الغي لدى مشاهدته فوراً.

أجل فإنّ صفة الكبر والغرور تمثل حجاباً على قلب الإنسان وروحه ممّا يتسبّب أن يرى الحقّ باطلًا والباطل حقّاً، وبذلك يحجب عن الإنسان أبواب السعادة والنجاة ويفتح له أبواب الضلالة وعلى أساس أنّها أبواب السعادة، فما أعظم شقاء الإنسان الّذي لا يرى علائم الحقّ ويتغافل عنها ويسلك طريق الضلالة والزيغ والإنحراف ويتصور أنّ هذا المسير هو الّذي يؤدي به إلى السعادة والنجاة!!

«الآية الثانية عشر» تقول: «لَاجَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَايُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَايُحِبُّ ا لْمُسْتَكْبِرِينَ» «1».

وقد ورد ما يشبه هذا المعنى في القرآن الكريم مرّات عديدة من قبيل قوله:

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 24

«وَاللَّهُ لَايُحِبُّ الظَّالِمينَ» «1».

«وَاللَّهُ

لَايُحِبُّ الْمُفْسِدينَ» «2»

«إنَّ اللَّهَ لَايُحبُّ الْمُعْتَدِينَ» «3»

«إنَّهُ لَايُحِبُّ الْمُسْرِفِين» «4»

«إنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ الْخَائِنِينَ» «5»

«إنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ الْفَرِحِينَ» «6»

ويقول في الآية محل البحث: «انَّهُ لَايُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ».

إنّ التدقيق في مثل هذه العبارات يوضح وجود رابطه خاصة بين هذه الامور المذكورة في هذه الآيات، بحيث يمكن القول أنّ القدر المشترك بين الصفات الرذيلة في هذه الآيات السبعة المذكورة آنفاً هو حبّ الذات والغرور والعجب أو التكبّر الّذي يعد منبعاً للظلم والفساد والإسراف والفخر على الآخرين.

وهنا تقول الآية: إنّ اللَّه تعالى لا يحب أيّاً من هذه الطوائف السبعة، ومفهومها أنّ من يتصف بهذه الصفات ويكون مصداقاً لأحد هذه الطوائف فإنّه مطرود من ساحة الربوبية والرحمة الإلهية الواسعة، لأنّه متصف بأخطر الرذائل الأخلاقية، وهي التكبّر المانع من القرب إلى اللَّه تعالى.

«الآية الثالثة عشر» من الآيات محل البحث وكما ورد في الروايات في شأن نزولها أنّها تتحدّث عن طائفة من نصارى نجران وتقول: «لَنْ يَسْتَنكِفَ ا لْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ ...

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 25

ا لْمَلئِكَةُ ا لْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا» «1».

وتقول الآية الّتي تليها مؤكدة على أصل مهم ومصيري في حياة الإنسان والمجتمع البشري: «فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصلِحتِ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم مّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَايَجِدُونَ لَهُم مّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَانَصِيرًا» «2».

هذه الآيات ناظرة إلى دعوى واهية لطائفة من النصارى الّذين ذهبوا إلى إلوهية المسيح وتصوّروا أنّهم لو أنزلوا المسيح من هذا المقام وأنّه عبداللَّه فإنّ ذلك سيكون هتكاً لحرمته وإهانة لساحته ومقامه السامي.

وأمّا القرآن فيقول لهم أنّه ليس المسيح ولا أي واحد من الملائكة أو من المقرّبين له هذا المقام، ولا يتصوّر أحد منهم ذلك

بل يرون أنفسهم عباد اللَّه ويذعنون أمام هذه الحقيقة الناصعة، ويأتون بطقوس العبودية له، ثمّ يذكر القرآن أصلًا كليّاً ويقول: إذا تحرّك أي واحد من المخلوقين حتّى الأنبياء الإلهيين أو الملائكة المقرّبين مبتعداً عن خط العبودية ومتلبساً بلباس الاستكبار أمام الحقّ تعالى واستنكف عن عبادته وتكبر فإنّه سوف لا يستطيع انقاذ نفسه من العذاب الإلهي ولا يستطيع أحد انقاذه من خالق العقاب الأليم المقرّر له.

والملفت للنظر أنّ الآية الأخيرة تقرّر أنّ الإيمان والعمل الصالح يقعان في النقطة المقابلة، للاستكبار والأنانية ورؤية الذات أعلى من الواقع، وبالتالي يمكننا أن نستوحي منها هذه النتيجة، وهي أنّ من يسلك طريق الاستكبار وينطلق في فكره وسلوكه من موقع التكبّر فليس له إيمان حقيقي ولا عمل صالح.

«الاستنكاف» في الأصل من مادّة «نكف» على وزن «نصر» وهي في الأصل بمعنى مسح قطرات الدموع على الوجه بالأصابع، وعليه فيكون الاستنكاف من عبودية اللَّه تعالى الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 26

يعني الابتعاد عنه وذلك بسبب أحد العوامل المختلفة من قبيل الجهل أو الكسل وحب الراحة وغير ذلك، ولكن عندما وردت جملة «اسْتَكْبَرُوا» بعد هذه العبارة فإنّ ذلك يشير إلى الاستنكاف الّذي يقع من موقع الكبر والغرور ويكون معلولًا لهما، وبذلك يكون ذكر هذه الجملة بعد تلك العبارة في الواقع إشارة إلى هذه النكتة الدقيقة.

وعلى أيّة حال فإنّ التعبيرات المثيرة في هذه الآيات تدلّ على أهمية هذه المسألة وأنّ هذه الصفة الذميمة وهي الاستكبار تنتج هذه العواقب الوخيمة لدى كلّ إنسان يتصف بها.

وفي «الآية الرابعة عشر» والأخيرة من الآيات محل البحث نقرأ نتيجة اخرى من النتائج الخطيرة والإليمة المترتبة على حالة الاستكبار حيث تقول الآية: «إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لَاتُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَا

بُ السَّمَآءِ وَلَايَدْخُلُونَ ا لْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ ا لْجَمَلُ فِى سَمّ ا لْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الُمجْرِمِينَ» «1».

ففي هذه الآية الشريفة ورد أوّلًا (التكذيب بآيات اللَّه) إلى جانب (الاستكبار) وكما ذكرنا سابقاً أنّ أحد العلل المهمّة لإنكار آيات اللَّه والتصدي لدعوة الأنبياء هي حالة الاستكبار الّتي يعيشها الأقوام البشرية، فأحياناً كانوا يقولون: ما هو امتياز هذا النبي عنا؟

ولماذا نزلت عليه آيات اللَّه دوننا؟ ويقولون أحياناً اخرى: إن الاراذل والفقراء من الناس إلتفّوا حوله ونحن أعلى شاناً من أن نكون كأحدهم، ولو أنّ هذا النبي قد طرد هؤلاء المؤمنين به من حوله فسوف يفسح لنا المجال للدخول في مجلسه والمشاركة في الاستماع لكلماته ومواعظه، وهكذا من خلال هذه التبريرات والذرائع الواهية كانوا يعرضون عن الإيمان باللَّه والتحرّك في خط المسؤولية.

عبارة: «وَلَايَدْخُلُونَ ا لْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ ا لْجَمَلُ فِى سَمّ ا لْخِيَاطِ» والّتي وردت في القرآن الكريم في هذه الآية فقط هي تأكيد واضح على عظمة هذه الخطيئة وهذا الاتصاف السلبي والخطير في حركة الإنسان في الحياة، أي كما أنّ عبور الجمل (أو طبقاً لتفسير آخر: الحبل الضخم) غير ممكن ومستحيل من ثقب أبرة فإنّ دخول المتكبّرين إلى الجنّة والنعيم الإلهي الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 27

محال أيضاً، ولعلّ ذلك يشير إلى أنّ طريق الجنّة إلى درجة من الدقّة بحيث يشبه ثقب الأبرة ولا يمر من خلاله إلّامن تحلّى بصفة التواضع ورأى نفسه من واقع حاله.

وجملة: «لَاتُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَا بُ السَّمَآءِ» هي إشارة إلى ما ورد في الأحاديث الإسلامية أيضاً، وهو أنّ المؤمنين عندما ينتقلون من هذه الحياة الدنيا إلى الحياة الاخرى أنّ روحهم وأعمالهم تصعد إلى السماء وتفتح لهم أبواب السماء ويستقبلهم الملائكة، ولكن عندما يصعد بروح

الكفّار والمتكبّرين وأعمالهم إلى السماء فسوف توصد أبواب السماء أمامهم ويناد المنادي أنّه أذهبوا بها إلى جهنم وبئس المصير.

النتيجة النهائية:

ونستنتج من مفهوم الآيات المذكورة آنفاً أنّ القرآن الكريم يعتبر (التكبّر والاستكبار) من أقبح الصفات والأعمال على مستوى السلوك البشري، وأنّ هذه الصفة الذميمة يمكنها أن تكون مصدراً للكثير من الذنوب العظيمة وحتّى أنّها قد تورث الإنسان حالة الكفر باللَّه تعالى والأشخاص الّذين يعيشون هذه الحالة لا يتسنّى لهم إدراك معنى السعادة الحقيقية والطريق إلى مرتبة القرب الإلهي موصد أمامهم، وعليه فإنّ على السالكين طريق الحقّ لابدّ لهم قبل كلّ شي ء من تطهير أنفسهم وقلوبهم من تلوثات هذه الصفة الأخلاقية القبيحة بأن لا يروا لأنفسهم تفوّقاً في وجودهم على الآخرين ولا ينطلقوا في تعاملهم مع الناس من موقع التكبّر والأنانية، فإنّ هذه الحالة من أكبر موانع الوصول إلى اللَّه تعالى والقرب المعنوي من الكمال المطلق.

التكبّر في الروايات الإسلامية:

وقد ورد في المصادر الروائية أحاديث كثيرة على مستوى ذمّ التكبّر وبيان حقيقته ونتائجه الوخيمة على الفرد في حركة الحياة والواقع وطرق علاجها ولا يسعنا ذكر هذه الروايات بأجمعها في هذا المختصر، ولكننا نكتفي منها بما يلي:

1- ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «ايَّاكُمْ وَالْكِبْرَ فَانَّ ابْلِيسَ حَمَلَهُ الْكِبْرُ عَلَى أَنْ لَايَسْجُدَ لِآدَمَ» «1».

2- وهذا المعنى نفسه ورد بتعبير آخر في خطب نهج البلاغة حيث نقرأ في الخطبة القاصعة كلاماً كثيراً عن (تكبّر إبليس) والنتائج المترتبة على ذلك حيث يقول: «فَاعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ بِابْلِيسَ اذْ احْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِيلَ وَجَهْدَهُ الْجَهِيدَ ... عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فَمَنْ ذَا بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ» «2».

إنّ العبارات المثيرة أعلاه تبين جيداً أنّ التكبّر والأنانية وحالة الفوقية الّتي يعيشها إبليس والإنسان بإمكانها أن تفضي، ولو في لحظات قليلة، إلى أخطر

العواقب الوخيمة وكيف أنّها كالنار المحرقة الّتي تأتي على الأخضر واليابس من الأعمال الصالحة فتحرقها وتجعلها رماداً منثوراً وتتسبب في الشقاء الأبدي والعذاب الخالد لصاحبها.

3- وفي حديث آخر عن الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «إِحْذَرِ الْكِبْرَ فَانّهُ رَأْسُ الطُّغْيَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّحْمَنِ» «3».

وهذا الحديث الشريف يبين هذه الحقيقة، وهي أن مصدر الكثير من الذنوب والخطايا هي حالة الكبر والفوقية الّتي يعيشها الإنسان بالنسبة إلى الآخرين.

4- وفي حديث آخر عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «مَا دَخَلَ قَلْبَ امْرِءٍ شَىْ ءٌ مِنَ الْكِبْرِ إلّا نَقَصَ مِنْ عَقْلِهِ مِثْلُ مَا دَخَلَهُ مِنْ ذَلِكَ! قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ» «4».

5- وفي اصول الكافي ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «اصُولُ الْكُفْرِ ثَلَاثَةٌ،

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 29

الْحِرْصُ وَالْاسْتِكْبَارُ وَالْحَسَدُ، فَامَّا الْحِرْصُ فَانَّ آدَمَ حِينَ نُهِىَ عَنِ الشَّجَرَةِ حَمَلَهُ الْحِرْصُ عَلَى أنْ اكَلَ مِنْهَا، وَامَّا الْاسْتِكْبَارُ فَابْلِيسُ حَيْثُ امِرَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ فَابى، وَامَّا الْحَسَدُ فَابْنَا آدَمَ، حَيْثُ قَتَلَ احَدُهُمَا صَاحِبَهُ» «1».

وعليه فإنّ أوّل الذنوب الّتي نشأت على الأرض كان مصدرها هذه الثلاثة من الصفات الأخلاقية الذميمة.

6- وفي حديث آخر عن الإمام الباقر والإمام الصادق عليهما السلام قالا: «لَايَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ» «2».

7- وفي حديث آخر عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال: «اقْبَحُ الْخُلْقِ التَّكَبُّرُ»».

إنّ الأحاديث الإسلامية الواردة في المصادر الروائية كثيرة في هذا الباب ولكن هذا المقدار المعدود من هذه الأحاديث يكفي لبيان شدّة قبح هذه الرذيلة.

فقد قرأنا في الأحاديث المذكورة آنفاً أنّ الكبر هو مصدر الذنوب الاخرى، وعلامة على نقصان العقل، وسبباً لإهدار طاقات الإنسان وقواه المعنوية، ويعتبر من أقبح الرذائل الأخلاقية بحيث إنّه يتسبب في حرمان الإنسان من دخول

الجنة في نهاية المطاف، وكلّ واحد من هذه الامور بحدّ ذاته يمكن أن يكون عاملًا مؤثراً في ردع الإنسان عن التحرّك في هذا الاتجاه وسلوك طريق التكبّر، فكيف بأن يتصف بمثل هذه الصفة الذميمة الّتي تؤدي إلى سقوطه من مقام الإنسانية ومرتبة الإيمان في حركة التكامل المعنوي؟

التكبّر في منطق العقل:

ومضافاً إلى الآيات والروايات الشريفة فإنّ (التكبّر والاستكبار) يُعتبر مذموماً في منطق العقل بشدّة، لأنّ العقل يرى أنّ جميع أفراد البشر هُم عباد اللَّه تعالى وكلّ إنسان يجد في نفسه نقاط إيجابية وقابليات وملكات في طريق الكمال، وكلّهم من أب واحد وامّ واحدة، فهم سواسية في ميزان الخلق، فلا دليل على أن يرى أي إنسان نفسه أعلى من الآخرين ويفتخر على غيره ويسعى لتحقيره، وحتّى لو رأى في نفسه موهبة من اللَّه تعالى لم تكن لدى الآخرين، فمثل هذه الموهبة يجب أن تكون سبباً ليتحرك في خط الشكر للَّه تعالى والتواضع لا في خط الكبر والغرور.

إنّ قباحة هذه الصفة الذميمة يعد من البديهيات الّتي يشعر بها كلّ إنسان في وجدانه ويعترف بها، ولهذا فإنّ الأشخاص الّذين لا يعتنقون أي دين ومذهب يذمون حالة التكبّر والأنانية أيضاً ويرون أنّها من أقبح الصفات والسلوكيات في دائرة السلوك الإنساني.

وفي الواقع فإنّ قسماً مهماً من مسألة (حقوق الإنسان) الّتي تم تدوينها من قِبل مجموعة من المفكّرين غير المؤمنين ناظرة إلى مسألة التصدي لحالة الاستكابر الدولي، ومع أننا قد نرى من الناحية العملية نتائج معكوسة على هذا القرار الدولي بحيث أصبح أداة طيّعة بيد المستكبرين للتحرك من موقع إدانة الآخرين لا العمل على تطبيق هذه المقررات الأخلاقية بإنصاف على جميع الدول والمجتمعات البشرية المعاصرة.

وأساساً كيف يرتدي الإنسان رداء التكبّر في حين إنه وكما يقول

أميرالمؤمنين عليه السلام كان في البدايه نطفة حقيرة، ثمّ جيفة نتنة، ثمّ هو فيما بينهما يحمل العذرة؟

الإنسان ضعيف وعاجز إلى درجة أنّ البعوضة تؤذيه وحتّى أقل من البعوضة، أي المكروب والفيروس الّذي لا يُرى بالعين المجرّدة قد يوقعه في حبال المرض الشديد ويؤدي به إلى أن يرقد على سرير المرضى لمدّة طويلة، والإنسان الّذي يتالم من حرارة الهواء أو برودته ولو انقطع المطر مدّة عنه لشعر بالهلاك والتلف ولو أنّ المطر زاد قليلًا عن المألوف لوقع في مصيبة أدهى ولو أنّه قد ارتفع ضغطه قليلًا لوقع في خطر الموت وكذلك لو انخفض ضغطه أيضاً، وهو لا يعلم مصيره ومستقبله حتّى لمدى ساعة من المستقبل الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 31

القريب ولا يعلم متى يحين أجله وقد يكون أقرب الناس إليه هو الّذي يقتله ويذهب بحياته، وقد يكون الماء الّذي يروي حياته موجباً لموته أيضاً، وكذلك الهواء الّذي يتنسّمه ويستنشقه قد يتحول إلى إعصار مدمر في حركة سريعة فيتحول بيته ومأواه إلى خرائب وبذلك يفقد كلّ شي ء لأتفه الأسباب.

ومن الامور الّتي تمثل علامة من علامات عجز الإنسان هي الأمراض الّتي تأخذ بحياة الإنسان وسعادته وسلامته والّتي غالباً ما تكون بسبب المكروبات والفيروسات الصغيرة جداً بحيث لا ترى إلّابأقوى المجاهر والمكرسكوبات وبإمكانها أن تصرع أقوى الناس واغناهم وأشدّهم قوّة وقدرة.

إنّ مرض السرطان الموحش الّذي يُعدّ مرض العصر في هذا الزمان ويحصد أكثر الضحايا على الرغم من سعي آلاف الأطباء والعلماء في كلّ يوم وصرف مليارات من الأموال لعلاجه وايقافه عند حدّه هذا المرض كيف يحدث؟ أنّه يحدث بسبب طغيان واستكبار وتضخم خلية واحدة من خلايا البدن الّتي لا تُرى إلّابالمجهر العظيم حيث تشرع هذه الخلية بالتكثّر

من دون وازع أو نظم معين، وهكذا تتضخّم هذه الخلايا وتصبح على شكل غدّة سرطانية في زمن قليل.

إنّ الكثير من القادة العسكريين ورؤساء العالم الّذين يقودون الجيوش العظيمة قد صُرعوا بهذا الداء الوبيل، أي أنّ جيوشهم العظيمة لم تقدر على التصدي لخليّة صغيرة جداً من خلايا الجسد.

أجل فمثل هذا الضعف والعجز الذاتي للإنسان كيف يسوغ له إدّعاء العظمة والكبرياء بحيث يرتدي لباس العزة والعظمة على المخلوقين في حين أنّ العظمة والكبرياء مختصّتان باللَّه تعالى وليس لسواه من المخلوقات سوى العجز والفاقة والفقر.

ونختم هذا البحث بحديث عن أميرالمؤمنين عليه السلام يبين فيه خلاصة لهذا البحث المنطقي ببيان جميل حيث يقول: «مِسْكِينُ بْنُ آدَمَ مَكْتُومُ الْاجَلِ، مَكْنُونُ الْعِلَلِ، مَحْفُوظُ الْعَمَلِ،

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 32

تُؤْلِمُهُ الْبَقَّةُ وَتَقْتُلُهُ الشَّرْقَةُ، وتُنْتِنُهُ الْعَرْقَةُ» «1».

فهل مع هذا الحال يليق بالإنسان أن يرى لنفسه تفوقاً وتكبّراً على الآخرين ويفتخر عليهم من موقع رؤية العظمة للذات والأنا؟

ملاحظات:

اشارة

وقد بقيت هنا مسائل وامور مهمّة لابدّ من بيانها وهي كما يلي:

1- تعريف التكبّر وحقيقته

قال علماء الأخلاق: إنّ أساس التكبّر وتعريفه هو أن يرى الإنسان علوّاً وتفوقاً على غيره، وعليه فالتكبّر يتكون من ثلاثة أركان: الأوّل أن يرى لنفسه مقاماً ومرتبة معيّنة، الثاني أن يرى لغيره أيضاً مقاماً معيّناً، والركن الثالث أن يرى مقامه أعلى من مقام الآخر ويشعر بالراحة والفرح لأجل ذلك.

وعلى هذا الأساس قالوا: إنّ التكبّر يختلف عن العُجب، ففي العجب لا توجد مقارنة مع الآخر، بل إنّ الإنسان يتملّكه حالة من رؤية العظمة في نفسه بسبب العلم أو الثروة أو القدرة أو حتّى العبادة حتّى لو لم يكن إنسان آخر على وجه الأرض، ولكن في حالة التكبّر هناك مقارنة مع الآخرين حتماً بحيث يرى نفسه أعلى منهم.

إنّ مفردة «الكبر والتكبّر» تارة تطلق على الحالة النفسية الّتي ذكرناها آنفاً، وتارة اخرى تطلق على العمل أو الحركة الناشئة من تلك الحالة النفسانية، مثلًا أن يجلس الإنسان أو يسير بخطوات أو يتحدّث بحديث يظهر منه انه يرى لنفسه تفوقاً على أقرانه وجلسائه، فمثل هذه الأعمال والسلوكيات تسمّى بالتكبّر أيضاً والّتي تمتد في جذورها وأصلها إلى تلك الحالة الباطنية والنفسانية الذميمة.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 33

إنّ علائم التكبّر كثيرة، منها أنّ المتكبر يتوقع اموراً كثيرةً من الناس مثل أن يتوقع منهم أن يسلموا عليه، وأن لا يدخل أحداً إلى المجلس قبله، وأن يجلس في صدر المجلس دائماً، والناس لا يرون لأنفسهم شخصية أمامه ولا يتكلمون معه من موقع الانتقاد والنقد بل حتّى من موقع النصيحة والموعظة فيحفظون احترامه وحرمته دائماً ويقفون أمامه موقف الخاضع الخاشع ويتحدثون بعظمته ومقامه السامي دائماً.

ومن البديهي أنّ ظهور وبروز هذه الحالات في ممارسات

الإنسان وسلوكياته تابع لدرجة شدّة وضعف حالة التكبّر في واقعه النفساني، ففي بعض الموارد تتجلّى هذه العلامات جميعاً، وفي بعضها الآخر يتجلّى قسم منها.

هذه الحالات والسلوكيات في الواقع الخارجي لها جذور باطنية وأحياناً تكون ضعيفة وخفيّة إلى درجة إن الإنسان نفسه لا يشعر بوجودها بل قد يتصور هذه الصفة الذميمة من موقع نقطة القوّة (من قبيل الاعتماد على النفس وتوكيد الذات والشخصية) فتختلط عليه الحالة، وأحياناً تكون ظاهرة إلى درجة أنّ الآخرين أيضاً يدركون وجودها في هذا الإنسان.

2- أقسام التكبّر

هناك مفاهيم متعددة تحكي عن هذه الحالة النفسانية حيث يتصور البعض أنّها مترادفة وبمعنى واحد، والحال أنّ هناك اختلاف دقيق فيما بينها رغم أنّها تمتد جميعاً إلى أصل «التكبّر» ولكنها تتجلّى في زوايا ووجوه مختلفة.

(حالة الفوقية)، (الأنانية)، (الذاتية)، (عظمة الشخصية)، (التفاخر)، كلّ هذه المفاهيم تمد جذورها إلى أصل «التكبر» رغم أنّها تعني مفاهيم مختلفة وناظرة إلى سلوكيات متنوعة في حركة الإنسان الإجتماعية والنفسية.

فقد تحكي الكلمة عن رؤية الذات أعلى من الآخرين وهي (النظرة الفوقية).

وقد يرى الإنسان نفسه هو الأجدر بسبب هذه الفوقية فيتحرّك ليستلم زمام الامور في جميع المناحي الإجتماعية والمناصب السياسية فهي (النظرة الأنانية).

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 34

والشخص الّذي يسعى في المسائل الإجتماعية وخاصة عند بروز المشكلات والأزمات أن يؤمّن منافعه الشخصية ولا يهتم بمصالح الآخرين ومنافعهم فهي (الأنانية).

والشخص الّذي يسعى إلى تحكيم سلطته على الآخرين وجعل الآخرين طوع إرادته فهو مبتلى بحالة (السلطوية)، وأخيراً فإنّ الشخص الّذي يسعى لاظهار ما لديه من مقام أو ثروة أمام الآخرين ويتعزّز بها فهي حالة (التفاخر).

وعلى هذا الأساس فإنّ هذه الصفات والحالات تشترك جميعاً في أصل «التكبّر» رغم أنّها تظهر وتتجلى بأشكال مختلفة.

3- التكبّر على مَنْ؟

يقسّم علماء الأخلاق التكبّر إلى ثلاث أقسام:

1- التكبّر أمام اللَّه.

2- التكبّر مقابل الأنبياء.

3- التكبّر على خلق اللَّه.

والمراد من التكبّر مقابل اللَّه تعالى والّذي يُعد من أسوأ أنواع التكبّر وناشئاً من غاية الجهل هو أنّ الإنسان الضعيف يدّعي الإلوهية، وليس فقط أنّه لا يرى نفسه عبداً للَّه بل يسعى إلى دعوة الناس لعبادته أيضاً، أو يقول كما قال فرعون «.... انَا رَبُّكُمُ الْاعْلَى» «1» أو يقول «... مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ الهٍ غَيْري ...» «2».

ومن البعيد جداً أن يرى الإنسان مثل «فرعون» الّذي حكم أرض

مصر سنين متمادية أنه واقعاً «الربّ الأعلى للناس وأنّه معبود الناس جميعاً حتّى لو كان على درجة شديدة من قلّة العقل وقلّة الذكاء، إذن فالمراد حسب الظاهر أنّ فرعون وأمثاله ولغرض تحميق عامّة الناس واستحمار السُذّج منهم أن يدعوا هذا الأدّعاء لتثبيت أركان حكومتهم وسيطرتهم.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 35

الشكل الآخر من التكبّر إمام اللَّه هو ما نجده من تكبّر إبليس وأتباعه حيث استكبروا ورفضوا إطاعة اللَّه تعالى من موقع الأفضلية لأنفسهم والاعتراض على الحكم الإلهي وأمره حيث قالوا: إنّ إبليس الّذي خلق من النار لا ينبغي له السجود لمخلوق من تراب كما تقول الآية على لسان إبليس: «... لَمْ اكُنْ لِاسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَاءٍ مَسْنُونٍ» «1»، أو تقول الآية: «... قَالَ انَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» «2».

أجل فإنّ الحجاب العظيم للكبر والغرور قد يصل إلى درجة أن يحجب عقل الإنسان وبصيرته عن رؤية حقائق الامور وأنّه موجود ضعيف فيرى انه أعلم من اللَّه تعالى.

القسم الآخر للتكبّر هو التكبّر في مقابل الأنبياء والمرسلين الّذين أرسلهم اللَّه تعالى إلى أقوامهم كما نرى هذه الحالة في طوائف المستكبرين من الأقوام السالفة أمام أنبيائهم اذ رفضوا طاعة الأنبياء من موقع التكبّر والغرور وقالوا: «... أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا ...» «3» أي موسى وهارون، وتارة كانوا يقولون مثل مقولة قوم نوح عليه السلام: «وَلَئِنْ اطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ انَّكُمْ إذاً لَخَاسِرُونَ» «4».

وتارة اخرى يتذرعون بذرائع طفولية ويقولون من موقع العناد واللجاجة: «وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَائَنَا لَوْلَا انْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنَا» «5».

القرآن الكريم يقول في سياق هذه الآيات الشريفة: «لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي انْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً» «6».

القسم الثالث من أقسام التكبّر

هو التكبر في مقابل عباد اللَّه بحيث يرى نفسه أعلى منهم ويرى الآخرين من موقع الحقارة والدنائة وأنّهم لا قيمة لهم أمامه وبالتالي فلا يرى الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 36

للآخرين حقّاً عليه بل يتوقع من الآخرين أن يحترمونه ويعترفون بعظمته ويذعنون لأوامره ومطاليبه.

وهذا النوع من التكبّر له نماذج كثيرة في حياتنا الإجتماعية فلا حاجة للإطالة في شرحه وبيان مصاديقه وموارده، وقد يمتد هذا النوع من التكبّر ويصل إلى درجة في أعماق النفس إلى التكبّر في مقابل الأنبياء ثمّ التكبّر أمام اللَّه تعالى.

أجل فإنّ نار التكبّر والغرور تنشأ من التكبّر في مقابل عباد اللَّه عادة ثمّ يتدرج الإنسان ويتمادى في هذه الحالة حتّى يتكبّر أمام دعوة الأنبياء ويرفض إطاعتهم وبالتالي يصل به الأمر إلى التكبّر أمام اللَّه تعالى.

4- دوافع التكبّر

للتكبّر أسباب ودوافع كثيرة تعود كلّها إلى أنّ الإنسان يتصور لنفسه كمالًا معيناً، وبسبب حبّه لذاته فإنه يرى نفسه أكبر من واقعها ويحتقر الآخرين كذلك.

بعض علماء الأخلاق مثل المرحوم (الفيض الكاشاني) في كتابه المحجّة البيضاء يذكرون في مسألة دوافع الكِبر وأسبابه سبعة أسباب:

الأوّل: الأسباب الدينية من العلم والعمل، والاخرى الأسباب الدنيوية من النسب والجمال والقوّة والثروة وكثرة الأعوان والأصحاب، ثمّ ذكر الفيض الكاشاني لكلّ واحدة من هذه الأسباب شرحاً وافياً نذكره بشكل مختصر، حيث يقول:

الأوّل: العلم، وما اسرع الكبر إلى العلماء ولذلك قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «آفة العلم الخيلاء» فلا يلبث أن يتعزّز بعزّ العلم، ويستشعر في نفسه جمال العلم وكماله ويستعظم نفسه ويستحقر الناس وينظر إليهم نظره إلى البهائم ويتوقع أن يبدؤوه بالسلام.

العلم الحقيقي هو الّذي يعرف الإنسان به نفسه وربّه وخطر الخاتمة وحجة اللَّه على العلماء وعظم خطر العلم فيه، كما

سيأتي في طريق معالجة الكبر بالعلم وهذه العلوم تزيد خوفاً وتواضعاً وتخشعاً ويقتضي أن يرى أنّ كلّ الناس خير منه لعظم حجة اللَّه تعالى عليه الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 37

بالعلم وتقصيره في القيام بشكر نعمة العلم ولهذا قال أبو الدرداء: «من إزداد علماً إزداد خوفاً» وهو كما قال.

الثاني: العمل والعبادة وليس يخلو عن رذيلة الغرور والكبر واستمالة قلوب الناس الزهّاد والعبّاد ويترشح الكبر منهم في الدنيا والدين. أما الدنيا فهو أنّهم يرون غيرهم بزيارتهم أولى من أنفسهم بزيارة غيرهم ويتوقعون قيام الناس بقضاء حوائجهم وتوقيرهم والتوسع لهم في المجالس وذكرهم بالورع والتقوى وتقديمهم على سائر الناس من الحظوظ إلى جميع ما ذكرناه في حقّ العلماء وكأنهم يرون عبادتهم منّة على الخلق، وأما فى الدين فهو أن يرى الناس هالكين ويرى نفسه ناجياً وهو الهالك تحقيقاً مهما رأى ذلك قال النبي صلى الله عليه و آله: «إذا سمعتم الرجل يقول هلك الناس فهو أهلكهم»، وإنما قال ذلك لأن هذا القول يدل على أنّه لخلق اللَّه، مغتر باللَّه، آمن من مكره، غير خائف من سطوته، وكيف لا يخاف ويكفيه شراً احتقاره لغيره، قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «كفى بالمرء شراً أن يحقر أخاه المسلم» وكم من الفرق بينه وبين من يحبّه للَّه ويعظمه لعبادته ويستعظمه ويرجو له ما لا يرجو لنفسه فالخلق يدركون النجاة بتعظيمهم إياه للَّه فهم يتقربون إلى اللَّه بالدنو منه وهو يتمقت إلى اللَّه بالتنزه والتباعد منهم كأنه مرتفع عن مجالستهم، فما أجدرهم إذا أحبّوه لصلاحه أن ينقلهم اللَّه الى درجته في العمل وما أجدر إذا ازدراهم بعينه أن ينقله اللَّه الى حدّ الإهمال.

وهذه الآفة أيضاً قلما ينفك عنها العباد وهو أنّه

لو استخف به مستخف أو آذاه مؤذ استبعد أن يغفر اللَّه له ولا يشك في أنّه صار ممقوتاً عند اللَّه ولو آذى مسلما آخر لم يستنكر ذلك الاستنكار وذلك لعظم قدر نفسه عنده وهو جهل وجمع بين العجب والكبر والاغترار باللَّه وقد ينتهي الحمق والغباوة لبعضهم إلى أن يتحدّى ويقول سترون ما يجري عليه، وإذا اصيب بنكبة زعم أنّ ذلك من كراماته وأنّ اللَّه ما أراد به إلّاشفاء علته والانتقام له.

فما أعظم الفرق بين مثل هذا الجاهل وبين بعض ما ورد عن أحد العباد الّذي قال بعد انصرافه من عرفات: كنت أرجو الرحمة لجميعهم لولا كوني فيهم، فانظر إلى الفرق بين الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 38

الرجلين.

ونختم هذا البحث بحديث شريف عن النبي الأكرم حيث ورد في الروايات أنّه تحدث بعض الأصحاب عن رجل وذكروه بخير للنبي صلى الله عليه و آله فأقبل ذات يوم فقالوا: يارسول اللَّه هذا الّذي ذكرناه لك، فقال: إني أرى في وجهه سفعة من الشيطان فسلم ووقف على النبي صلى الله عليه و آله وأصحابه، فقال النبي صلى الله عليه و آله: «أسألك باللَّه حدّثتك نفسك أن ليس في القوم أفضل منك؟

فقال: اللهم نعم» «1»

، فرأى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بنور النبوة ما استكن في قلبه سفعة في وجهه.

الثالث: التكبر بالنسب والحسب فالّذي له نسب شريف يستحقر من ليس له ذلك النسب وإن كان أرفع منه عملًا وعلماً وقد يتكبر بعضهم فيرى أنّ الناس له موالٍ وعبيد ويأنف من مجالستهم ومخالطتهم، والحال أنّ الإسلام ليس فيه تفاضل بالحسب والنسب، كما روي عن أبي ذر أنّه قال: قاولت رجلًا عند النبي صلى الله عليه و آله فقلت له:

يا ابن السوداء فقال النبي صلى الله عليه و آله: «يا أبا ذر طف الصّاع ليس لابن بيضاء على ابن سوداء فضل».

قال أبو ذر فاضطجعت وقلت للرجل: قم فطأ على خدي» فانظر كيف نبهه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه رأى لنفسه فضلًا بكونه ابن بيضاء وإن ذلك خطأ وجهل فانظر كيف تاب وكيف قلع من نفسه شجرة الكبرياء خمص قدم من تكبر عليه إذ عرف أنّ العزّ لا يقمعه إلّاالذلّ «2».

وعلى أى حال فقد قرأنا كثيراً من النصوص الشريفة في القرآن والروايات تؤكد لنا أن لا فضل لإنسان على آخر بالنسب والعرق وأمثال ذلك، فهذه كلها امور اعتبارية تعرض على الإنسان من الخارج، بينما تتقوم شخصية الإنسان وقيمته بما يتضمنه من امتيازات معنوية في محتواه الباطني، وعلى فرض أنّ ارتباطه مع بعض العظماء بالنسب يوجب له فضيلةً وامتيازاً على غيره، فلا ينبغي أن يكون ذلك سبباً للاحساس بالغرور والتكبّر والتفاخر على الآخرين.

وعندما نرى الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة، أو الإمام زين العابدين عليه السلام في الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 39

خطبته المعروفة في الشام يفتخران بنسبهما فذلك ليس من قبيل حبّ التفوق والتفاخر، بل بدافع آخر، حيث أرادا إظهار إمامتهما ورسالتهما الدينية الإلهية لبعض المغفلين والجهلاء، مثل ما يقوم به قائد الجيش من تعريف نفسه للجنود وبيان مكانته ومقامه بهدف دعوتهم الى اطاعته وامتثال أوامره.

الرابع: التفاخر بالجمال وذلك يجري أكثره بين النساء ويدعو ذلك التنقّص والثلب والغيبة وذكر عيوب الناس، ومن ذلك ما روي عن عائشة أنّها قالت: دخلت امرأة على النبي صلى الله عليه و آله فلما خرجت فقلت بيدي- هكذا- أي أنّها قصيرة، فقال النبي صلى الله

عليه و آله: «قد اغتبتها» وهذا منشؤه خفي الكبر لأنها لو كانت أيضاً قصيرة لما ذكرتها بالقصر فكأنها أعجبت بقامتها واستقصرت المرأة في جنب نفسها فقالت ما قالت.

الخامس: الكبر بالمال وذلك يجري بين الملوك في الخزائن، وبين التجار في بضائعهم، وبين الدهاقين في أراضيهم، وبين المتجملين في لباسهم وخيولهم ومراكبهم فيستحقر الغني الفقير ويقول له أنت مكدّ ومسكين وأنا لو أردت لاشتريت مثلك واستخدمت من هو فوقك ومن أنت وما معك وأثاث بيتي يساوي أكثر من جميع مالك.

ومن ذلك تكبر قارون اذ قال تعالى «فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِىَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظّ عَظِيمٍ» «1» وقد ورد في التواريخ أنّه كان يخرج على قومه من بنى إسرائيل بجميع خدمه وحشمه البالغ عددهم أربعة آلاف نفر وهم يركبون الجياد المزينة بالحلي وملابس الزينة ويصحبون معهم الجواري الجميلات وهنّ في كامل الزينة من الجواهر والذهب، ولكن كل ذلك ينتهي في لحظة حيث خسفت به الأرض بأمر اللَّه وابتلعت ما كان له من ثروات وقصور ودفن قارون معها أيضاً وصار عبرة لمن اعتبر «2».

السادس: القوة والقدرة البدنية وشدة البطش أو الموقع السياسي أو الاجتماعي، والتكبر

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 40

به على أهل الضعف، وغالباً ما يتوفر هذا الحال لدى الامراء والأقوياء وأصحاب السلطة من الناس حيث يرون أنفسهم «ظل اللَّه في الأرضين» ويتوقعون من الآخرين أن يتعاملوا معهم من موقع التعظيم والتكريم كما يفعل الغلمان والعبيد. ولو صدرت منهم أقل حركة أو كلمة خاطئة لا تتفق ومقامهم العالي وشأنهم الكبير فسوف لا ينجو صاحبها من العقاب.

وقد ذكر في بعض حالات السلاطين القدماء أنّه كلما أراد الناس الدخول

عليه في مجلسه فيجب عليهم تكميم أفواههم بمنديل أو أي شي ء آخر لئلّا يتلوث معطف السلطان ببخار أفواه الرعايا ورائحة فمهم الكريهة، وهذا هو السبب في تفعيل عنصر الكبر والغرور في نفوس هؤلاء وما يتولد منه من أخطاء كبيرة ومآثم شنيعة تؤدي إلى الإسراع في زوال حكمهم وإنهيار دولتهم.

السابع: التكبر بالأتباع والأنصار والتلامذة والعلماء والعشيرة والأقارب والبنين ويجري ذلك بين الملوك في المكاثرة بالجنود وبين العلماء بالمكاثرة بالمتنفذين، وبالجملة فكلّ ما هو نعمة وأمكن أن يعتقد كمالًا وإن لم يكن في نفسه كمالًا أمكن أن يتكبر به، حتّى أنّ المخنث يتكبر على أقرانه بزيادة قدرته ومعرفته في صنعة المخنثين لأنّه يرى ذلك كمالًا فيفتخر به وإن لم يكن فعله إلّانكالًا وكذلك الفاسق قد يفتخر بكثرة الشرب وكثرة الفجور بالنسوان والغلمان ويتكبر به لظنه أنّ ذلك كمال وإن كان مخطأً فيه «1».

هذه الامور السبعة هي امور قد يصاب الأشخاص بجميعها أو ببعض منها ويتطاولون على الآخرين بالفخر والتكبّر، وبالطبع لا تنحصر الدوافع بهذه السبعة، فإنّ كلّ صفة كمال أو نقطة قوّة معنوية أو مادية سواءً واقعية أو خيالية يمكن أن تسبب الغرور وتدفع بصاحبها إلى التكبّر على الآخرين.

وهذا الكلام لا يعني أنّ الإنسان يجب عليه للتوقي من التكبّر والغرور أن يبتعد عن أسباب الكمال ولا يتحرّك باتجاه المعنويات والكمالات الإنسانية ويقتل في نفسه عناصر الخير والصلاح لكي لا تكون منشئاً للغرور والفخر، بل الغرض من ذلك إن الإنسان كلّما

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 41

إزداد في علمه وعبادته وقوته وقدرته وثروته فعليه أن يسعى ليكون أكثر تواضعاً وخشية وخضوعاً للحقّ، ويتفكر في أنّ هذه الكمالات والمواهب ليست ثابتة له بالذات وكلّها لا تعدّ شيئاً مقابل قدرة اللَّه

تعالى وصفاته وأسمائه الحسنى

5- جذور التكبّر

إن حالة التكبّر الذميمة لها جذور كما هو الحال في سائر الرذائل الأخلاقية، فينبغي البحث عنها بدقة ومعرفتها، وفي غير هذه الصورة فإنّ قلع هذه الصفة من أعماق النفس وتطهير القلب منها يكون أمراً محالًا.

ويذكر بعض علماء الأخلاق مثل المرحوم (الفيض الكاشاني) في كتابه المحجّة البيضاء أربعة جذور واصول للتكبّر وهي: العجب، الحقد، الحسد، الرياء.

ويرى الفيض الكاشاني أنّ جذور التكبّر الباطنية تتمثّل في (العجب) فهذه الحالة من رؤية الذات والإعجاب بها وتعظيمها هي السبب في أن يرى الإنسان نفسه أعلى من الآخرين وأفضل منهم وبالتالي يتحرّك في التعامل معهم من موقع التفاخر والتعالي، وهناك أصل آخر وهو (الحقد) والكراهية الّتي يشعر بها الإنسان تجاه الشخص الآخر حيث يتسبب ذلك في أن يتظاهر بمواهبه وامتيازاته أمام ذلك الشخص، والثالث (الحسد) الّذي يتسبّب في إيجاد هذه الرذيلة الأخلاقية، والرابع (الرياء) الّذي يؤدي إلى أن يتظاهر الإنسان بامتيازاته أمام الآخرين فيورثه ذلك حالة من التكبّر عليهم.

هذه الجذور الأربع تشكل الاصول والاسس لصفة التكبّر، ولكن حسب الظاهر أنّ جذور التكبّر لا تنحصر في هذه الصفات الأربع بل هناك امور اخرى يمكنها أن تكون منشئاً ومصدراً للتكبّر.

6- النتائج والعلائم

إنّ الأمراض الأخلاقية هي مثل الأمراض النفسية والبدنية تكون مصحوبة دائماً بآثار وعلائم ظاهرية، فكما أنّ الإنسان إذا اشتكى مرضاً في الكبد ظهرت عليه آثار هذا المرض الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 42

بصور مختلفة على جلده ووجهه ولون عينه ولسانه وأمثال ذلك، فهكذا إذا ابتلي الشخص بمرض أخلاقي مزمن فتظهر آثاره وعلائمه في أعماله وسلوكياته وكلماته.

وقد أورد الكبار من علماء الأخلاق آثار الكبر وعلائمه في كتبهم المفصّلة، وهذه الآثار والعلائم قد تظهر على الوجه أحياناً مثل أن يقطب المتكبّر وجهه في مقابل الآخرين

وينظر إليهم بنظرة الاستحقار والمهانة بل قد لا يكون مستعداً لأن يقابلهم بجميع وجهه.

وأحياناً اخرى تظهر علائم هذا الخلق الذميم على كلمات الشخص، فيتحدّث بعبارات فيها نوع من المبالغة عن نفسه ويذكر نفسه بضمير الجمع بل قد يتغير لحن صوته لدى تحدّثه عن نفسه وعن الآخرين بما يحكي عن حالة الغرور والتكبّر الّتي تعتمل في نفسه.

فتارة يتجلّى الكبر في أن يُبيح لنفسه التحدّث وقطع كلام الآخرين حيثما شاء ولا يسمح للآخرين بالحديث ولا يُصغي لحديثهم ويتوقع منهم الاصغاء لحديثه وكلامه فقط، ويرى أنّ كلام الآخرين طويلًا مهما قصر وكلامه الطويل والفارغ قصيراً وضرورياً.

وأحياناً يتجلّى التكبّر على حركاته وأعماله وسلوكياته فيحب أن يقف الآخرون تعظيماً له بينما يجلس هو أمامهم ولا يقوم لأحد عندما يرد عليه.

ونقرأ في الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين عليه السلام قوله: «مَنْ ارَادَ انْ يَنْظُرَ الَى رَجُلٍ مِنْ اهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ الَى رَجُلٍ قَاعِدٍ وَبَيْنَ يَدَيْهِ قَوْمٌ قِيَامٌ» «1».

وكذلك يحب أن لا يكون وحيداً عندما يمشي في الشارع وأمام الناس بل يسير معه وخلفه جماعة، فقد ورد في الحديث الشريف «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ فِي بَعْضِ الْاوْقَاتِ يَمشِي مَعَ الْاصْحَابِ فَيَأْمُرُهُمْ بِالتَّقَدُّمِ وَيَمْشِي فِي غِمَارِهِمْ» «2».

وكذلك يحب المتكبّر أن يأتي الآخرون لرؤيته دون أن يذهب هو لرؤية الآخرين، ويجتنب الجلوس مع الفقراء والمحتاجين ومن يظهر عليه انه من أهل المستويات الدانية في المجتمع، ولو انه اتفق له أن سار معه مثل هؤلاء الأشخاص فإنه يسعى جاهداً للتخلّص الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 43

منهم في أقرب فرصة أو يوحي لهم بالإبتعاد عنه.

ويحب أيضاً أن لا يعمل لأهل بيته شيئاً من السوق بيده ولا يقوم بعمل من أعمال البيت وتقوم زوجته وأولاده وخادمه بإظهار مراتب الخضوع

أمامه والسعي لتلبية حوائجه وأطاعة أوامره.

وأحياناً تظهر آثار التكبّر على طريقة لباسه وكيفيّته وخاصّةً في الألبسة الغالية الّتي تجلب الإنتباه أو في مركبه وسيارته أو في ظاهر بيته ووسائل معيشته، أو في مكان كسبه ومحله وتجارته بل حتّى في لباس أولاده وأقربائه والمنتسبين إليه وطريقة حياتهم حيث يكون هدفه من كلّ ذلك أن يتفاخر على الآخرين بثروته ويبرز إليهم بنقاط قوته ليثبت لهم انه أفضل منهم وأكثر امتيازاً وعنواناً.

وبالطبع فإنّ هذا الكلام لا يعني أن يمتنع الإنسان من لبس الجيّد من الثياب ويلبس الرث منها بل كما ورد في الحديث النبوي الشريف «كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبِسُوا وَتَصَدَّقُوا فِي غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا مَخِيلَةٍ» «1».

وخلاصة الكلام أنّ ظهور هذا الخلق الذميم أي (التكبّر) يمكن أن يستوعب جميع مناحي وشؤون حياة الإنسان ولا يمكن أن يبتلي الإنسان بهذه الصفة الرذيلة مهما كانت طفيفة إلّاوظهرت على قسمات وجهه وفي طيّ كلماته وأعماله وسلوكياته.

7- مفاسد التكبّر وعواقبه الوخيمة

إن هذا الخلق الذميم كما سبقت الإشارة إليه له آثار مخربة جداً وعواقب وخيمة تعرض على روح الإنسان ومعتقداته وأفكاره، وكذلك تعرض على المجتمع البشري أيضاً بحيث يمكن القول انه ليس هناك جهة من جهات حياة الإنسان الفردية والإجتماعية تقع في أمان من عواقب هذه الصفة الأخلاقية السلبية، ويمكن الإشارة إلى عدّة موارد منها فيما يلي:

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 44

1- التلوث بالشرك والكفر

إنّ أوّل مفسدة وأخطرها هو أن يورث التكبّر صاحبه التلوث بالشرك والكفر، فهل لكفر إبليس وانحرافه من مسير التوحيد بل حتّى اعتراضه على حكمة اللَّه تعالى وأمره، له أصل ومصدر غير الكبر في نفس إبليس؟

وهل أنّ الفراعنة والنمروديين وغيرهم من الأقوام الطاغية الّذين رفضوا دعوة الأنبياء كان لهم دافع غير التكبّر؟

أنّ التكبّر لا يبيح

للإنسان أن يستسلم ويذعن أمام الحقّ، لأن التكبّر والغرور هو في الحقيقة حجاب سميك على بصيرة الإنسان فيحجبه عن رؤية جمال الحقّ بل أحياناً يرى ملائكة الحقّ على شكل موجود مخيف وموحش، وهذا من أعظم الضرر الّذي يلحق بالإنسان من جراء التكبّر، ولعلّه لهذا السبب ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام عندما سأله الراوي عن أقل درجة الإلحاد فقال له الإمام «إنَّ الْكِبْرَ ادْنَاهُ» «1».

2- الحرمان من العلم والمعرفة

وأحد العواقب المشؤومة للتكبّر هو أنّ الإنسان يحرم نفسه من العلم والمعرفة ويعيش حالة الجهل المركب دائماً لأن الإنسان إنّما يصل إلى حقيقة العلم والمعرفة فيما لو سعى لتحصيلها من أي شخص وأي طريق كما يبحث الشخص عن جوهرة ثمينة والحال أنّ المتكبّر لا يكون مستعداً لتحصيل العلوم والمعارف من الأشخاص الّذين يراهم دونه أو في مرتبته.

الأشخاص الّذين يتحرّكون في سبيل طلب العلم والمعرفة هم الّذي يعيشون التحرر في أفكارهم من القوالب النفسانية في حين أنّ صفة الكبر والغرور لا تسمح للإنسان أن يستوعب مطلباً مهماً.

ولهذا نقرأ في الحديث المعروف عن الإمام الكاظم عليه السلام في كلامه لهشام بن الحكم يقول:

«إنَّ الزَّرْعَ يَنْبُتُ فِي السَّهْلِ وَ لَايَنْبُتُ فِي الصَّفَا فَكَذَلِكَ الْحِكْمَةُ تَعْمُرُ فِي قَلْبِ الْمُتوَاضِعِ الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 45

وَلَا تَعْمُرُ فِي قَلْبِ الْمُتَكَبِّرِ الْجَبَّارِ، لِانَّ اللَّهَ جَعَلَ التَّوَاضُعَ آلَة الْعَقْلِ وَجَعَلَ التَّكَبُّرُ مِنْ آلَةِ الْجَهْلِ» «1».

3- التكبّر المصدر الأساسي للكثير من الذنوب لو تأملنا في حالات الأشخاص الّذين يعيشون الحسد، الحرص، بذاءة اللسان، والذنوب الاخرى لرأينا أنّ الأصل ومصدر جميع هذه الرذائل الأخلاقية تنشأ من صفة التكبّر، فهؤلاء لا يجدون في أنفسهم رغبة لرؤية من هو أفضل منهم، ولهذا فإنّ أيّة نعمة

وموهبة وموفقية تكون من نصيب الآخرين فسوف يتعاملون معهم من موقع الحسد.

إن هؤلاء ولغرض توطيد أركان حالة الفوقية لشخصياتهم فإنّهم يحرصون على جمع الأموال والثروات.

ولغرض إظهار العلو على الآخرين يبيحون لأنفسهم تحقيرهم ويلوثون ألسنتهم بأنواع البذاءة في الكلام والسبّ والشتم والهتك لإشباع هذه الحاجة والنقص في أنفسهم ولإطفاء هذه النار المستعرة في وجودهم.

ونقرأ في حديث عن أميرالمؤمنين قوله «الْحِرْصُ وَالْكِبْرُ وَالْحَسَدُ دَوَاعٍ الَى تَقَحُّم الذُّنُوبِ» «2».

ونقرأ في حديث آخر عن الإمام علي عليه السلام أيضاً أنّه قال: «التَّكَبُّرُ يُظْهِرُ الرَّذِيلَةَ» «3».

4- التكبّر مصدر النفرة والفرقة

إن من البلايا المهمة الّتي ترد على المتكبّرين هو الإنزواء الإجتماعي وتفرّق الناس من حولهم لأن شرف الإنسان وعزّته الذاتية لا تسمح له بالخضوع أمام الأشخاص المغرورين والمتكبّرين والانصياع لأوامرهم، ولهذا السبب فإنّ الناس وحتّى المقرّبين سوف يتحرّكون بعيداً عن هؤلاء المتكبّرين، وعلى فرض أنّ الآخرين يجدون أنفسهم مضطرين لمعاشرتهم الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 46

بسبب الروابط الإجتماعية وبعض الضرورات المعيشية فإنّهم يجدون في أنفسهم التنفر والكراهية لهؤلاء.

ونقرأ في حديث عن الإمام أميرالمؤمنين أنّه قال: «مَنْ تَكَبَّرَ عَلَى النَّاسِ ذَلَّ» «1».

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «امْقَتُ النَّاسِ الْمُتَكَبِّرُ» «2».

وفي حديث آخر عن الإمام علي أنّه قال: «ثَمَرَةُ الْكِبْرُ الْمَسَبَّةُ» «3».

وهذا المضمون ورد أيضاً في حديث عن الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «لَيْسَ لِلْمُتَكَبِّرِ صَدِيقٌ» «4».

وقال أيضاً في حديث آخر: «مَا اجْتَلَبَ الْمَقْتَ بِمِثْلِ الْكِبْرِ» «5».

5- التكبّر سبب هدر المواهب الدنيوية

إن كلّ إنسان لا يكون موفقاً في حياته إلّاإذا استطاع جذب تعاون الآخرين وانسجامهم معه من موقع توطيد أواصر المحبة والتعاون المشترك بين الأفراد، أما الشخص الّذي يعيش الإنزواء ويسلك في

حياته ومعيشته الوحدة فإمّا أن يفشل في اطار المعيشة الكريمة أو يكون له نصيب قليل من الموفقية في حركة الحياة، وبما أنّ التكبر يدفع بالإنسان إلى زاوية الإنزواء والعزلة فإنّ توفيقاته في حركة الحياة الإجتماعية ستكون قليلة بالتبع.

ونقرأ في حديث عن الإمام أميرالمؤمنين أنّه قال «بِكَثْرَةِ التَّكَبُّرِ يَكُونَ التَّلَفُ» «6»

أي تلف وهدر عوامل التوفيق وعناصر النجاح في الحياة.

ويمكن تفسير هذا الحديث بشكل آخر وهو أن يقال بأن الكثير من الحروب الدامية والنزاعات المدمرة تنشأ من حالة التكبّر والاستكبار، فالبعض يستلم زمام الامور في دول الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 47

العالم ويريد أن يتحكم ويتسلط على الآخرين من موقع القوّة والقدرة وهذا بدوره يكون سبباً في حصول النزاعات الدموية الكثيرة فتهدر الطاقات وتُسفك الدماء الكثيرة في هذا الطريق وتتحول الديار إلى الخراب الشامل.

وأحياناً يتجلّى التكبّر من خلال القومية والعرقية حيث يرى البعض أنّهم أطهر عرقاً وأسمى قومية من الأقوام الاخرى وهذه النظرة المتعالية تمثل أحد الأسباب المهمة للحروب طيلة التاريخ البشري.

فالنظرة الفوقية والاستعلائية للجنس الآري هو أحد العلل المهمة في حدوث الحروب العالمية الّتي خلفت ملايين القتلى والمجروحين وأتلفت مليارات الثروات والأموال وخلّفت اضراراً لا تحصى

وخلاصة الكلام أنّه: إذا درسنا الخسائر الّتي تتسبّب بواسطة التكبّر على روح وجسم الإنسان وفي حياته الفردية والإجتماعية لرأينا أنّه ليس هناك صفة من الصفات الذميمة تكون هدّامة ومخربة إلى هذه الدرجة الّتي تنتجها حالة التكبّر في الإنسان.

8- علاج التكبّر

لقد بحث علماء الأخلاق علاج التكبّر في دراسات مفصلة تدور أغلبها حول محور العلاج بطريقين: العلم والعمل.

أمّا الطريق (العلمي) فيمكن تصويره بأن يتفكر الأشخاص المتكبّرين في أنفسهم أنّهم مَن هم وأين كانوا وإلى أين يذهبون وما هو مصيرهم في النهاية؟

ويتفكّرون كذلك في

عظمة اللَّه ويشاهدون أنفسهم أمام قدرة اللَّه المطلقة ورحمته الواسعة.

إن التاريخ ملي ء بالعِبر والحوادث المثيرة عن مصير الفراعنة والنمروديين والجبابرة من الأكاسرة والقياصرة وأمثالهم بحيث لو أنّ الإنسان قرأ قليلًا من هذه الحوادث والوقائع التاريخية لعلم أنّ الانتصارات والملذات الدنيوية لا تعدّ شيئاً يمكن الاعتماد عليه على الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 48

مستوى بيان عظمة الإنسان. عندما يكون الإنسان في أوّله نطفة مهينة وفي آخره جيفة نتنة ويعيش بين هذين عدّة أيّام فلا يعدّ ذلك شيئاً يستحق الفخر والتكبّر والغرور.

إنّ الإنسان في بداية تولده ليس سوى طفل ضعيف جدّاً وعاجز عن كلّ شي ء وحتّى انه لا يتمكن من حفظ الماء الملقّى في فمه بشفاهه، وكذلك عندما يبلغ سن الشيخوخة يكون ضعيفاً إلى درجة أنّه إذا أراد المسير عدّة خطوات وكان يتمتع بأقدام سالمة فإنه لا يتمكن من ذلك إلّابأن يستريح كُلما قَطّعَ كلّ عدّة خطوات ويجدد طاقته ثمّ ينهض ليكمل مسيره متوكأً على عصاه وقد احنى الدهر قامته، ولو لم يكن ذا أقدام سليمة فإمّا أن يكون قد ابتلي ببعض عوارض الشيخوخة الّتي يبتلي بها أكثر الأشخاص فيجب أن يُنقل من جهة إلى اخرى بواسطة الكرسي المتحرك.

ونقرأ في حديث عن الإمام الباقر أنّه قال «عَجَباً لِلْمُخْتَالِ الْفَخُورِ وَانَّمَا خُلِقَ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ يَعُودُ جِيفَةً وَهُوَ فِيَما بَيْنَ ذَلِكَ لَايَدْرِي مَا يُصْنَعُ بِهِ» «1».

إذا ذهبنا يوماً إلى المستشفيات ورأينا الكثير من الأقوياء والأصحّاء يرقدون على أسرّة المستشفى بسبب حادثة اصطدام أو مرض معيّن حيث لا قدرة لهم على الحراك، فندرك حينئذاك مقدار قوّة الإنسان وقدرته البدنية الّتي يفخر بها.

ولو نظرنا إلى الأثرياء المعروفين الّذين قد استولى عليهم حالة الإنهيار الاقتصادي والإفلاس المادي بتغير بسيط فتحوّل حالهم

من أعلى المقامات إلى أسفل السافلين وحينئذٍ نعلم أنّ الثروة الطائلة ليست شيئاً يعتمد عليه الإنسان ويفتخر به.

ولو نظرنا إلى أصحاب القدرة والسلطة في العالم وكيف أنّهم مع حدوث التغير في الوضع السياسي يسقطون من كراسيهم وعروشهم ويفقدون قدرتهم أو يقبعون خلف قضبان السجن أو يحكم عليهم بالأعدام لرأينا القدرة الظاهرية ليست قابلة للاعتماد والفخر.

إذاً فبأي شي ء يفخر الإنسان؟ وكيف يستولي عليه الغرور ويباهي الآخرين ويفتخر عليهم.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 49

لقد ورد في الحديث الشريف عن الإمام زين العابدين عليه السلام انه عندما وقع نزاع بين سلمان الفارسي وبين شخص مغرور ومتكبّر، فقال ذلك الشخص لسلمان: مَنْ أنت؟ فقال له سلمان: أما اولاي واولاك فنطفة قذرة، وأما اخراي واخراك فجيفة منتنة، فإذا كان يوم القيامة، ووضعت الموازين، فمن ثقل ميزانه فهو كريم، ومن خف ميزانه فهو اللئيم» «1».

والخلاصة أنّ الإنسان كلّما تفكر وتأمل في هذه الامور أكثر هبط من مركب الغرور والكبر ووجد نفسه من موقع الحقيقة الشاخصة وبعيداً عن الأوهام النفسانية والحالات الشيطانية.

وأما علاج التكبّر على المستوى (العملي) فهو أن يسعى الإنسان في دراسة سلوكيات المتواضعين ويتحرّك مثلهم في تعامله الاجتماعي حتّى تترسخ هذه الفضيلة في أعماق وجوده وتتجذر في واقعه النفساني فيكون متواضعاً أمام اللَّه والناس فيسجد على التراب قائلًا: «لَا الَهَ إلَّااللَّهُ حَقّاً حَقّاً سَجَدْتُ لَكَ تَعَبُّداً وَرِقّاً لَامُسْتَنْكِفاً وَلَا مُسْتَكْبِراً».

وأمثال هذه العبارات.

وكذلك يلبس الملابس البسيطة ويأكل الأطمعة غير الممنوعة ويجلس مع عماله أو خدامه على مائدة واحدة ويتقدّم بالسلام على الآخرين ولا يجلس صدر المجلس ولا يتقدم على الغير في مشيه.

أن يتعامل في علاقاته مع الصغير والكبير من موقع العاطفة الجياشة والمحبّة الصميمية ويجتنب مجالسة المتكبّرين والمغرورين ولا يرى لنفسه أي

امتياز على الآخرين، والخلاصة أن يتحرّك في سلوكه بعلامات التواضع أو يسعى للتظاهر بمظاهر التواضع في البداية في عمله وكلامه وحالاته الاخرى حتّى تصير لديه عادة ثمّ ملكة التواضع.

وجاء في حالات نبي الإسلام أنّه كان يجلس على الأرض ويأكل الطعام ويقول: «إنَّمَا

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 50

أَنَا عَبْدٌ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ» «1».

وقد سمعنا الحديث المعروف عن الإمام علي أنّه كان لديه يوماً قميصان اشترى أحدهما بأربعة دراهم والآخر بثلاث دراهم ثمّ قال لغلامه قنبر: اختر أحدهما، فاختار قنبر القميص الّذي قيمته أربعة دراهم وأختار الإمام ما كان بثلاث دراهم «2».

وجاء في خطبة 160 من نهج البلاغة أنّ الإمام كان يتحدّث عن نبي الإسلام ويقول:

«وَلَقَدْ كَانَ يَأْكُلُ عَلَى الْارْضِ وَيَجْلِسُ جَلْسَةَ الْعَبْدِ وَيَخْصِفُ بِيَدِهِ نَعْلَهُ، وَيَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ وَيَرْكَبُ الْحِمارَ الْعَارِيَ وَيُرْدِفُ خَلْفَهُ».

وطبعاً هذه الامور وبسبب تغير الظروف الزمانية والمكانية لا تُعتبر معمولًا بها في هذا العصر ولا يوصى باتباعها وسلوكها، ولكن الهدف هو أننا بمطالعة حالات هؤلاء العظام والتوجّه إلى مقامهم السامي نتعلم التواضع من سلوكياتهم ونُبعد بذلك الكبر والغرور عن ذواتنا وأفعالنا.

هذا كلّه من جهة، ومن جهة اخرى:

بما أنّ التكبّر له أسباب وعلل مختلفة تمت الإشارة سابقاً إلى سبع علل منها ذكرها علماء الأخلاق، فلأجل إزالة كلّ واحدة من هذه العلل والأسباب هناك طرق وخطوات عملية وعلمية للتغلب عليها ومعالجتها منها:

الأشخاص الّذين يجدون في أنفسهم افتخاراً على الناس بسبب نسبهم وعراقتهم الاسرية يجب أن يتأمّلوا في هذه الحقيقة وهي أوّلًا: إن افتخارهم بكمالات الآخرين من الآباء والأجداد هو عين الجهل، فلو أنّ الأب كان إنساناً فاضلًا ولكن الابن يفتقد إلى أدنى فضل وكمال فلا ينتقل كمال الأب وفضله إلى الابن ولا يوجد في

الابن قيمة مشهودة،

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 51

وثانياً: إذا تأمل جيداً وجد أنّ أباه نطفة وجدّه الأعلى تراباً وهذه الامور ليست ذات قيمة يفتخر بها الإنسان ويرى لنفسه امتيازاً على الآخرين.

وقد ورد في الحديث الشريف أنّ لقمان الحكيم قال لابنه «يَا بُنَيَّ وَيْلٌ لِمَنْ تَجَبَّرَ وَتَكَبَّرَ، كَيْفَ يَتَعَظَّمُ مَنْ خُلِقَ مِنْ طِينٍ، وَالَى طِينٍ يَعُودُ؟ لَايَدْري الَى مَاذَا يَصِيرُ؟ الَى الْجَنَّةِ فَقَدْ فَازَ أوْ الَى النَّارِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً».

وأمّا الأشخاص الّذين يتملكهم الغرور والتكبّر بسبب جمالهم الظاهري فيجب أن يتأملوا جيّداً أنّهم وبسبب مرض بسيط يصيب الجلد والوجه سيتحول جمالهم الباهر إلى وجه مشوّه وقبيح وحتّى لو لم يصبهم ذلك المرض فإنّهم بعد أعوام قليلة سيصلون إلى مرحلة الشيخوخة حيث يتراكم غبار السنين على وجوههم ويغيّر من ملامحه الجميلة ويحني قامتهم المستقيمة ويدبُ في مفاصلهم العجز والضعف فإذا كان ذلك الشي ء المورث للفخر زائلًا بهذه السرعة، فكيف يكون سبباً للغرور والتفوق والتكبّر على الآخرين؟

وإذا كان سبب التكبّر هو قوته البدنية وقدرته الجسمانية فيجب أن لا ينسى انه قد يصاب أحياناً بعارضة قلبية صغيرة أو سكتة دماغية تكون نتيجتها أن يصاب قسم من بدنه بالشلل والعجز عن الحركة تماماً بحيث لا يتمكن من دفع حتّى ويتوقف الذباب عن نفسه ولو أصابه شوكة أو وخزته ابرة لا يتمكن من إخراجها أو التخلص منها لوحده.

وأمّا لو كان سبب التكبّر هو الثروة وكثرة المال والأعوان والأنصار فيجب أن يعلم أوّلًا:

أنّ هذه الامور خارجة عن وجود الإنسان ولا تمثل شيئاً من ذاته وحينئذٍ لا تكون من عناصر الفخر والمباهاة، فكيف يفتخر الإنسان بشخصيته وعزّته الذاتية بامور من قبيل السيارة أو البيت أو الحصان وأمثال ذلك؟ وكيف يتصور شرفه وكرامته

في مثل هذه الامور المادية والأجنبية عن ذاته؟ هذه الامور يمكنها أن يمتلكها اللئيم من الناس واوضعهم نسباً وشرفاً، الامور الّتي يستطيع اللصوص بكلّ سهولة سرقتها منه فما أهون الشرف الّذي يستطيع اللصوص سرقته فيفتقده صاحبه بين عشية وضحاها.

ومضافاً إلى ذلك فنحن نعلم أنّ الأموال والثروات الدنيوية تنتقل من يد إلى يد دائماً فالثروات الطائلة لدى الأغنياء قد تكون يوماً من نصيب الفقراء ويسكن أصحاب القصور

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 52

يوماً في الأكواخ.

فمثل هذا الشي ء بمثل هذا القدر من التزلزل والاهتزاز كيف يمكنه أن يكون عنصر الافتخار للإنسان وسبباً لغفلته عن مصيره وكمالاته المعنوية في حركة الإنسان والحياة؟

وإذا كان سبب الكبر والغرور هو العلم الكثير ومع الأسف يُعتبر هذا من أقبح الآفات النفسانية الّتي تصيب الإنسان وبهذه النسبة يكون علاجه أصعب وأعقد من العلل الاخرى وخاصة مع ورود الكثير من الآيات والروايات في فضل العلم والتعلم حيث يمكن أن يصاب الإنسان بالغرور والكبر بعد قرائتها ومطالعتها، فيجب أن يتفكر أصحاب العلم والمعرفة أنّ القرآن الكريم وفي الآية (5) من سورة الجمعة قد شبّه العلماء الّذين لا يتحركون على مستوى تطبيق علمهم في ممارساتهم وسلوكياتهم، شبّههم بالحمار الّذي يحمل الكتب والأسفار على ظهره «كَمَثَلِ الحمارِ يَحملُ أسفاراً».

وأيضاً يتفكر في أنّ الشخص العالم ستكون مسؤوليته ثقيلة بنفس نسبة علمه إلى الآخرين ويمكن أن يغفر اللَّه تعالى للجاهل سبعين ذنباً قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد كما ورد في الروايات الشريفة.

ولا ينبغي أن ننسى أنّ حسابهم يوم القيامة أصعب وأشد من حساب الآخرين، فكيف والحال هذه يكون العلم هذا سبباً للمباهات والافتخار على الغير؟

وأخيراً إذا كان سبب التكبّر هو العبادة وطاعة اللَّه تعالى فيجب على هذا الإنسان أن

يتفكر في أنّ اللَّه لا يقبل من العبادة ما كان خليطاً بالعجب والكبر ويعلم أنّ الجاهل النادم أقرب إلى النجاة من العابد المغرور.

هذا ولا سيّما إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ قبول العبادة مشروط بأن يرى الإنسان في نفسه الحقارة والدونية مقابل عظمة اللَّه وقدرته وفضله على العباد ولو انه جاء بجميع عبادات الجن والأنس لوجد أنّ عليه أن يعيش الخوف والخشية من اللَّه تعالى ولا يغفل عن ذلك طرفة عين.

9- الاختبارات العلاجية

سبق وأن قلنا إن الأمراض الأخلاقية تشبه إلى حد كبير الأمراض البدنية وأنّ المقارنة بين هاتين الظاهرتين كفيل بحل الكثير من المشاكل، ومنها أنّ الطبيب في الأمراض البدنية وبعد معالجة المريض يرسله مرّة اخرى إلى المختبر ليتأكد من شفائه الكامل، ولو انه رأى بعض آثار المرض لازالت في بدنه فإنه يستمر في علاجه حتّى يحصل المريض على الشفاء الكامل.

وقد استخدم علماء الأخلاق في مناهجهم وتعليماتهم الأخلاقية لعلاج الأمراض الخطرة مثل (التكبّر) هذا المنهج أيضاً بحيث إن الإنسان عندما يتحرّك في سبيل علاج التكبّر ولأجل الاطمئنان من قلعه تماماً من وجوده ونفسه يجب أن يعرض على نفسه بعض الامور ويمتحنها لكي يطمئن إلى زوال جذور هذا المرض من أعماق نفسه.

وقد ذكر الفيض الكاشاني بالاستفادة من (احياء العلوم) للغزالي تجارب في هذا المجال ملفتة للنظر:

الامتحان الأوّل: أن يناظر في مسألة مع واحد من أقرانه فإنّ ظهر شي ء من الحق على لسان صاحبه فثقل عليه قبوله والانقياد له والاعتراف به والشكر له على تنبيهه وتعريفه وإخراجه الحقّ فذلك يدل على أنّ فيه كبراً دفيناً.

الامتحان الثاني: أن يجتمع مع الأقران والامثال في المحافل ويقدمهم على نفسه ويمشي خلفهم ويجلس في الصدور تحتهم، فإنّ ثقل ذلك عليه فهو متكبر فليواظب

عليه تكلّفاً حتّى يسقط عنه ثقله فبذلك يزايله الكبر، وهاهنا للشيطان مكيدة وهي أن يجلس في صف النعال أو يجعل بينه وبين الأقران بعض الاراذل فيظن أنّ ذلك تواضع وهو عين الكبر فإنّ ذلك يخف على نفوس المتكبرين إذ يوهمون أنّهم إنما تركوا مكانهم بالاستحقاق والتفضل فيكون قد تكبر، وتكبر بإظهار التواضع أيضاً، بل ينبغي أن يقدم أقرانه ويجلس تحتهم ولا ينحط عنهم إلى صف النعال فذلك هو الّذي يخرج خبث الكبر من الباطن.

الامتحان الثالث: أن يجيب دعوة الفقير ويمر إلى السوق في حاجة الرفقاء والأقارب فإنّ ثقل ذلك عليه فهو كبر فإنّ هذه الأفعال من مكارم الأخلاق والثواب عليها جزيل فنفور

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 54

النفس عنها ليس إلّالخبث في الباطن فليشتغل بإزالته بالمواظبة عليه مع تذكر جميع ما ذكرناه من المعارف الّتي تزيل داء الكبر.

الامتحان الرابع: أن يحمل حاجة نفسه وحاجة أهله ورفقائه من السوق إلى البيت فإنّ أبت نفسه ذلك فهو كبر أو رياء فإنّ كان يثقل ذلك عليه مع خلو الطريق فهو كبر فإنّ كان يثقل إلّا عند مشاهدة الناس فهو رياء وكل ذلك من أمراض القلب وملله المهلكة له إن لم تتدارك.

أقول ليس كل رياء مذموماً بل قد يكون مستحباً بل واجباً إذ يجب على المؤمن صيانة عرضه وأن لا يفعل ما يعاب عليه فلا يليق بذوي المروات أن يرتكبوا الامور السيئة بأنفسهم عند مشاهدة الناس وإن جاز لهم في الخلوة إلّاأنّ ذلك يختلف باختلاف الأزمنة والبلاد والأشخاص فلابدّ من مراعاة ذلك، روي في الكافي عن الصادق عليه السلام: «أنّه نظر إلى رجل من أهل المدينة قد اشترى لعياله شيئاً وهو يحمله، فلما رآه الرجل استحى منه، فقال عليه السلام:

اشتريته لعيالك وحملته إليهم أما واللَّه لولا أهل المدينة لأحببت أن أشتري لعيالي الشي ء ثم أحمله إليهم». أراد عليه السلام لولا مخافة أن يعيبوا على ذلك، مع أنّ جدّه أميرالمؤمنين عليه السلام كان يفعل مثله إلّاأنّه لما لم يعيبوا عليه بمثله في زمانه وفي شأنه جاز له أن يرتكبه وكان منقبة له وتعليماً.

الامتحان الخامس: أن يلبس ثياباً بذلة فإنّ نفور النفس عن ذلك في الملأ رياء وفي الخلو كبر، وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «ومن اعتقل البعير ولبس الصوف فقد برئ من الكبر»»

.ولكن لا ينبغي أن يكون الدافع لذلك هو التظاهر بالتواضع فإنّ ذلك بنفسه نوع من الكبر المقترن مع الرياء والشرك الخفي.

ونكرر مرةً اخرى بأن هذه الامور تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والاشخاص.

ولابدّ من الأخذ بنظر الاعتبار جميع هذه الظروف والعمل طبق مقتضياتها وما يناسبها من دون التورط في حبائل النفس وخدع الشيطان، ولذلك ينبغي الاستفادة أيضاً من حكم الآخرين وآرائهم.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 55

وهنا نثير هذا السؤال وهو أنّه لماذا يهتم الناس كثيراً بالصحة البدنية والطب الجسماني ويتحركون في طلب الدواء والعلاجات ليطمئنوا على سلامتهم البدنية. والحال أنّهم لا يعيشون ذلك الاهتمام بأمر الطب الروحاني والأخلاقي الّذي يضمن لهم سعادتهم الاخروية في الحياة الباقية كما هو مدلول الآية الشريفة: «إلّامن أتى اللَّه بقلبٍ سليم».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 56

التواضع

تنويه:

من الواضح أنّ التواضع يشكل النقطة المقابلة للتكبّر والغرور، ومن العسير الفصل الكامل بين هذين البحثين، ولذلك نجد أنّ هذين البحثين متلازمين في الآيات والروايات الإسلامية وكذلك في كلمات علماء الأخلاق، فإنّ ذم أحدهما يلازم مدح الآخر، وكذلك العكس فإنّ عملية التمجيد والثناء على التواضع يستلزم كذلك ذم التكبّر، وهذا

من قبيل مدح العلم والثناء على العالم والمتعلم الّذي يقترن دائماً مع ذمّ الجهل وتوبيخ الجاهل.

وعلى كلّ حال فإنّ هذا الكلام لا يعني أنّ بحثنا المتعلق بالتواضع هذا سيكون في زاوية النسيان ونكتفي بذم التكبّر وبيان قبائح وعواقب هذه الصفة الذميمة لا سيّما أن بين التكبّر والتواضع نسبة الضدّين. لا النقيضين أي أنّ التكبّر كما انه صفة وجودية فكذلك التواضع صفة وجودية نفسانية أيضاً ويقعان على الضد من الآخر في واقع الإنسان ونفسه، وليسا من قبيل الوجود والعدم الّذي يستلزم بالضرورة وجود أحدهما عدم الآخر بالتبع.

وفي الروايات الإسلامية نجد إشارة إلى هذا المعنى أيضاً ومن ذلك قول الإمام علي عليه السلام: «ضَادُّوا الْكِبْرَ بِالتَّواضُعِ» «1».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 58

مع هذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته ما يتعلق بمسألة التواضع ونختار منها ما يُلقي الضوء على هذا البحث المهم رغم وجود آيات كثيرة تبحث هذا الموضوع بالكناية أو بالملازمة.

1- «يَا ايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ اذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ اعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ...» «1»

2- «وَعِبَادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْارْضِ هَوْناً وَاذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً» «2».

3- «وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» «3».

تفسير واستنتاج:

«الآية الاولى» من الآيات مورد البحث تتحدّث عن مجموعة من المؤمنين الّذين شملتهم رعاية اللَّه وعنايته فكانوا يحبون اللَّه ويحبهم، وإحدى الصفات البارزة لهؤلاء أنّهم يتعاملون مع أخوانهم المؤمنين من موقع التواضع والمودّة (اذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) وكذلك في المقابل (اعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ).

(اذِلَّةٍ) جمع «ذلول» و «ذليل»، ومن مادة «ذُل» على وزن حُر، وهي في الأصل بمعنى الملائمة والتسليم والليونة والإنعطاف في حين أنّ كلمة «اعِزَّة» جمع «عزيز» ومن مادّة «عزة»

وتأتي بمعنى الشدّة والصلابة، ويقال للحيوانات المطيعة «ذلول» لأنها ملائمة ومسلّمة للإنسان، و «تذليل» في الآية الشريفة «ذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا» إشارة إلى هذا المعنى، وهو سهولة اقتطاف ثمارها ثمار الجنّة، وأحياناً تُستخدم كلمة «ذِلّة» في موارد سلبية وذلك إذا واجه الإنسان موقفاً يُجبر فيه على شي ء من غيره، وإلّا فإنّ المعنى السلبي لهذه الكلمة لا

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 59

يوجد في بطنها ومفهومها في الأصل.

وعلى أيّة حال فإنّ الآية الشريفة تدل بوضوح على أهمية التواضع وسمو مقام المتواضعين، ذلك التواضع الّذي ينبع من أعماق الإنسان ويمتد إلى وجدانه ليذيع في النفس احترام الطرف الآخر المؤمن ويتحرّك معه من موقع المودّة والتسليم والانعطاف مع الطرف الآخر.

في «الآية الثانية» نجد إشارة أيضاً إلى الصفات البارزة والفضائل الأخلاقية لجماعة من عباد اللَّه تعالى الّذين وصلوا في سلوكهم المعنوي إلى مرتبة عالية من الكمال الإنساني والإلهي، حيث نقرأ في آيات سورة الفرقان من الآية 63 إلى الآية 74 اثنا عشر فضيلة مهمة وكبيرة لهؤلاء الأشخاص، والملفت للنظر أنّ أول صفة تذكرها الآية لهؤلاء هي صفة التواضع، وهذا يدلّ على أنّ التكبّر كما يمثل أخطر الرذائل الأخلاقية فكذلك التواضع يمثل أهم الفضائل الأخلاقية في واقع الإنسان وحركته الإجتماعية والمعنوية حيث تقول الآية «وَعِبَادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْارْضِ هَوْناً».

(هون) مصدر بمعنى الهدوء والليونة والتواضع، واستعمال المصدر بمعنى اسم الفاعل هنا لغرض التأكيد، أي أنّهم يعيشون التواضع والهدوء إلى درجة وكأنهم عين التواضع، ولهذا السبب تستمر الآية في سياقها بالقول «وَاذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً»؛ أي لو واجههم الجهلاء والأراذل من الناس من موقع الشتيمة والكلام الباطل فإنّ جوابهم لا يكون إلّابعدم الاعتناء وغض الطرف من موقع عظمة شخصيتهم وكِبَر نفوسهم.

وفي

الآية الّتي تليها وبعد أن يتم الحديث عن التواضع مع الآخرين من الناس يتحدّث القرآن الكريم عن تواضعهم أمام اللَّه تعالى ويقول «وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً».

ويقول الراغب في كتابه «مفردات القرآن»: الهوان على وجهين، أحدهما: تذلل الإنسان في نفسه لما لا يلحق به غضاضة، فيمدح به (ثم يورد الآية محل البحث) ونحو ما روي عن الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 60

النبي صلى الله عليه و آله: «المؤمن هيّن ليّن» «1». الثاني: أن يكون عن جهة متسلِّط مستخف به فيذمّ به «2».

ولا يخفى أنّ المقصود بقوله: «الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْارْضِ هوناً» ليس هو المشي في حالة التواضع فحسب، بل المقصود نفي كلَّ نوع من التكبّر والأنانية والسلوكيات السلبية النابعة من حالة التكبّر السلبية والّتي تتجلّى في أعمال الإنسان وأفعاله الاخرى، وذكرت الآية المشي باعتباره نموذج عملي للدلالة على وجود التواضع كملكة نفسانية لدى هؤلاء، لأن الملكات الأخلاقية تتجلّى دائماً على كلمات الإنسان وحركاته الخارجية إلى درجة أنّه في الكثير من الحالات يُستدل على وجود أنواع من الصفات الأخلاقية في الشخص بواسطة المشي.

أجل فإنّ أول صفة لعباد الرحمان هي التواضع الّذي يملأ وجودهم وينفذ إلى أعمال نفوسهم فيتجلّى ويظهر على حركاتهم وسكناتهم وكلماتهم، وعندما نرى أنّ اللَّه تعالى في الآية 37 من سورة الإسراء يأمر نبيه الكريم بالقول «وَلَا تَمْشِ فِي الْارْضِ مَرَحاً» فالمقصود ليس هو النهي عن حالة المشي بصورة معينة، فحسب بل الهدف هو غرس التواضع في جميع الحالات والسلوكيات الاخرى والّذي يُعد علامة على عبودية اللَّه تعالى.

«الآية الثالثة» تخاطب النبي الأكرم وتقول «وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ».

«خفض» على وزن «كرب» هو في الأصل بمعنى السحب إلى الاسفل، وعليه فجملة «وَاخفِض جَناح» كناية

عن التواضع المقرون بالمحبة والحنان كما هو حال الطائر الّذي يفتح جناحه ويضم إليه فراخه إظهاراً للمحبّة وبدافع الحنان ولصونهم من الأخطار المحتملة وحفظهم من التفرّق، وعلى هذا الأساس فإنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله مأمور بأن يتحرّك من هذا الموقع ليحفظ المؤمنين تحت جناحه وظلّه.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 61

وهذا التعبير جميل جدّاً وملي ء بالمعاني والنكات الدقيقة الّتي جُمعت في جملة واحدة.

وعندما يُؤمر نبي الإسلام بالتواضع وإظهار المحبّة للمؤمنين فإنّ وظيفة المؤمنين وتكليفهم الأخلاقي تجاه بعضهم البعض واضح، لأن النبي الأكرم يُعتبر قدوة واسوة لجميع أفراد الامّة الإسلامية.

وقد ورد هذا المضمون أيضاً في الآية 88 من سورة الحجر حيث يقول تعالى «وَاخْفِضْ جَنَاحكَ لِلْمُؤْمِنِينَ» وهنا نرى أنّ المخاطب في هذه الآية هو النبي الأكرم أيضاً حيث أمره اللَّه تعالى بخفض جناحه للمؤمنين أي بالتواضع المقرون بالمحبّة في تعامله مع اتباعه من المؤمنين.

وشبيه هذه العبارة مع تفاوت بسيط ورد في سورة الإسراء كتكليف للمسلم تجاه والديه حيث تقول الآية «وَاخْفِضْ لَهُمْا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ».

ومن مجموع ما ورد من الآيات أعلاه نستوحي جيداً أنّ القرآن الكريم لم يكتف بذم التكبّر والاستكبار في مجمل السلوك الأخلاقي للإنسان بل أكد على النقطة المقابلة له أي التواضع والانعطاف واثنى عليه بتعبيرات مختلفة.

التواضع في الروايات الإسلامية:

اشارة

لقد ورد في المصادر الروائية لدى الشيعة وأهل السنّة أحاديث كثيرة في باب التواضع تبين أهمية هذه الصفة الأخلاقية في حركة الإنسان التكاملية والإجتماعية، وورد في بعضها علامات المتواضعين ونتائج وثمار التواضع وحدوده وآدابه.

أما عن أهمية التواضع فقد وردت تعبيرات جميلة وجذابة في الروايات الشريفة منها:

1- ورد في الحديث الشريف أنّ رسول اللَّه قال يوماً مخاطباً أصحابه: «مَا لِي لَاارى عَلَيْكُمْ حَلَاوَةَ الْعِبَادَةِ؟! قَالُوا:

وَمَا حَلَاوَةُ الْعِبَادَةِ؟ قَالَ: التَّوَاضُعُ!» «1».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 62

ولا يخفى أنّ حقيقة العبادة هي غاية الخضوع امام اللَّه تعالى فالشخص الّذي ذاق حلاوة الخضوع والتواضع مقابل حقيقة الالوهية والذات المقدسة فإنه سيتحلّى أيضاً بالتواضع مع الخلق.

2- وفي حديث آخر عن أميرالمؤمنين عليه السلام: «عَلَيْكَ بِالتَّوَاضُعِ فَانَّهُ مِنْ اعْظَمِ الْعِبَادَةِ» «1».

3- وورد عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام: «الَتَّوَاضُعُ نِعْمَةٌ لَايُحْسَدُ عَلَيْهَا» «2».

ومن الطبيعي أنّ كلّ نعمة تصيب الإنسان فإنه سيتعرض في الجهة المقابلة لأذى الحساد حيث تتحرك فيهم عناصر الحسد والكراهية أكثر بحيث يضيق الفضاء على صاحب النعمة ويعيش في حالة من التوتر الّذي يفرزه حالة الحسد في الطرف المقابل ولكن التواضع مستثنى من هذه القاعدة فهو نعمة لا تتغير بحسد الحساد.

ونختم هذا البحث المفصل بحديث آخر عن النبي الأكرم:

4- «يُبَاهِي اللَّهُ تَعَالَى الْمَلَائِكَةَ بِخَمْسَةٍ: بِالْمُجَاهِدِينَ، وَالْفُقَرَاء، وَالَّذِينَ يَتَوَاضَعُون للَّهِ تَعَالَى، وَالْغَنِيِّ الّذي يُعْطِي الْفُقَرَاءَ وَلَا يَمُنُّ عَلَيْهِمْ، وَرَجُلٍ يَبْكِي فِي الْخَلْوَةِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ عَزَّوَجَلَّ» «3».

وعن ثمرات التواضع ونتائجه الإيجابية وردت روايات كثيرة عن المعصومين نكتفي بذكر نماذج منها:

ففي حديث شريف عن الإمام أميرالمؤمنين: «ثَمَرَةُ التَّوَاضُعِ الْمَحَبَّةُ وَثَمَرَةُ الْكِبْرِ الْمَسَبَّةُ» «4».

وفي حديث آخر عن هذا الإمام أيضاً: «بِخَفْضِ الْجَنَاحِ تَنْتَظِمُ الْامُورَ» «5».

ومن الواضح أنّ عملية تنظيم امور المجتمع لا تتسنّى إلّابالتعاون والتكاتف الإجتماعي الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 63

والعاطفي بين الأفراد، وهذا التعاون والتكاتف لا يكون إلّابأن يكون المدير والمدبّر والقائم على امور المجتمع لا يتعامل مع الأفراد بالضغط والإجبار أو بأن يتباهى ويتفاخر على الآخرين ويرى نفسه أفضل منهم، فإنّ المدير الموفق في عمله هو من يعيش حالة الحزم والقاطعية في عين التواضع والمحبة مع الآخرين.

ونقرأ في حديث آخر عن رسول

اللَّه صلى الله عليه و آله: «الَتَّوَاضُعُ لَايَزِيدُ الْعَبْدَ الّا رَفْعَةً فَتَوَاضَعُوا يَرْفَعْكُمُ اللَّهُ» «1».

أحياناً يتصور الإنسان أنّ التواضع يقلل من قيمة الشخصية ويصغر شخصية الفرد في نظر الآخرين، في حين أنّ هذا التصوّر ساذج ومجانب للصواب، فإننا نرى أنّ الأشخاص المتواضعين في المجتمع يتمتعون بالاحترام البالغ من قِبل الآخرين، وتواضعهم لا يزيدهم إلّا احتراماً وعزّة في نفوس الناس.

ويُستفاد من الأحاديث الإسلامية انّ التواضع شرط في قبول العبادات والطاعات ومن ذلك ما ورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «الَتَّوَاضُعُ اصْلُ كُلِّ خَيْرٍ نَفِيسٍ وَمَرْتَبَةٌ رَفِيعَةٌ ... وَمَنْ تَوَاضَعَ للَّهِ شَرَّفَهُ اللَّهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ ... وَلَيْسَ للَّهِ عَزَّوَجَلَّ عِبَادَةٌ يَقْبَلُهَا وَيَرْضَيها الّا وَبَابُهَا التَّوَاضُعُ، وَلَا يَعْرِفُ مَا فِي مَعْنى حَقِيقَةِ التَّوَاضُعِ الَّا الْمُقَرَّبُونَ الْمُسْتَقِلِّينَ بِوَحْدَانِيَّتِهِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّوَجَلَّ وَعِبَادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْارْضِ هَوْناً وَاذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً» «2».

ونختم هذا البحث بحديث عن السيّد المسيح عليه السلام حيث قال: «بِالتَّوَاضُعِ تَعْمُرُ الْحِكْمَةَ لَا بِالتَّكَبُّرِ، كَذَلِكَ فِي السَّهْلِ يَنْبُتُ الزَّرْعَ لَافِي الْجَبَلِ» «3».

والخلاصة أنّ التواضع في حركة الحياة العلمية والثقافية يؤثر إيجابياً في حياة الإنسان (لأنّ الشخص المتكبّر يكون محجوباً عن رؤية حقائق الامور بسبب تكبره) وكذلك يؤثر التواضع تأثيراً إيجابياً في حركة الإنسان الإجتماعية (لأنّ الشخص المتواضع يزيده الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 64

تواضعه محبة في قلوب الناس ويحترمه الجميع لأخلاقه الحسنة والطيبة) وكذلك يؤثر التواضع تأثيراً إيجابياً في علاقة الإنسان بخالقه لأن التواضع يمثل روح العبادة ومفتاح قبول الأعمال والطاعات.

وبالنسبة إلى علامات التواضع فقد وردت روايات لطيفة وجميلة في الروايات الإسلامية، ففي حديث عن الإمام علي بن أبي طالب نقرأ: «ثَلَاثٌ هُنَّ رَأْسُ التَّوَاضُعِ: انْ يَبْدَءَ بِالسَّلَامِ

مَن لَقِيَهُ، وَيَرْضَى بِالدُّونِ مِنْ شَرَفِ الْمجْلِسِ، وَيَكْرَهُ الرِّيَاء وَالسُّمْعَةَ» «1».

وفي بعض الروايات نقرأ علامات اخرى أيضاً للتواضع منها ترك المراء والجدال، أي أنّ الإنسان لا يدخل في مناقشة وجدل فكري من أجل اشباع رغبة التفوق على الآخرين واظهار فضله عليهم، ومن العلامات الاخرى عدم الرغبة في ثناء الناس عليه ومدحهم له «2».

1- تعريف التواضع

«التواضع» من مادّة «وضع»، وهي في الأصل بمعنى وضع الشي ء إلى الأسفل.

وهذا التعبير ورد بالنسبة إلى النساء الحوامل اللآتي يلدن حملهن فيقال «وضعت حملها» وكذلك بالنسبة إلى الخسارة والضرر الّذي قد يتحمله الإنسان فيقال «وضيعة»، وعندما تُطلق هذه الكلمة ويُراد بها صفة أخلاقية في الإنسان فإنّ مفهومها أنّ الإنسان ينخفض بنفسه عن مكانته الإجتماعية، بعكس حالة التكبّر الّتي يفهم منها استعلاء الإنسان عن واقعه الإجتماعي وطلب التفوق على الآخرين.

ويرى البعض من أهل اللغة أنّ «التواضع» بمعنى «التذلل» والمقصود من التذلل هنا الخضوع والتسليم.

وذكر المرحوم النراقي في «معراج السعادة» في تعريف التواضع أنّه قال (التواضع عبارة

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 65

عن الإنكسار النفسي الّذي لا يرى معه الإنسان نفسه أعلى من الآخرين ولازمه أن يتحرك الشخص تجاه الآخرين من موقع الاحترام والتعظيم لهم بكلماته وأفعاله) «1».

وفي حديث آخر عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام قال عندما سُئّل: «مَا حَدُّ التَّوَاضُعِ الّذي إذَا فَعَلَهُ الْعَبْدُ كَانَ مُتَوَاضِعاً؟ فَقَالَ: التَّوَاضُعُ دَرَجَاتٌ مِنْهَا انْ يَعْرِفَ الْمَرْءُ قَدْرَ نَفْسِهِ فَيُنَزِّلُهَا مَنْزِلَتَهَا بِقَلْبٍ سَلِيمٍ لَايُحِبُّ انْ يَأْتِيَ الَى احَدٍ الّا مِثْلُ مَا يُؤْتَى الَيْهِ، انْ رَأىَ سَيِّئَةً دَرَاهَا بِالْحَسَنَةِ، كَاظِمُ الْغَيْظِ، عَافٍ عَنِ النَّاسِ، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» «2».

وممّا ورد في هذه الرواية الشريفة والمهمة هو في الحقيقة علامات التواضع حيث يمكننا من خلالها التوصل إلى تعريف

التواضع.

وفي حديث آخر عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «التَّوَاضُعُ الرِّضَا بِالْمَجْلِسِ دُونَ شَرَفِهِ وَانْ تُسَلِّمَ عَلَى مَنْ لَقِيتَ وَانْ تَتْرُكَ الْمِرَاءَ وَانْ كُنْتَ مُحِقّاً» «3».

والحقيقة هي أن تعريف التواضع لا ينفصل عن علامات التواضع لأن من أفضل التعاريف للمفردات اللغوية والأخلاقية هو التعريف المشتمل على علامات ذلك الموضوع المراد تعريفه.

2- التواضع وكرامة الإنسان

عادة نرى في مثل هذه المباحث الأخلاقية أنّ البعض يسلك فيها مسلك الافراط والبعض الآخر مسلك التفريط، مثلًا يتصور البعض أنّ حقيقة التواضع هي أنّ الإنسان يستذل نفسه أمام الناس ولا يرى لنفسه مقداراً وشأناً من الشؤون، وقد يقوم بأعمال واهنة يسقط بسببها من أنظار الناس فيساء الظن به كما ذكر في حالات الصوفية هذا المعنى أيضاً وأنّهم عندما يشتهرون في منطقة بالصلاح والفضل فإنّهم يرتكبون أعمال قبيحة ومنافية

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 66

للمروءة ليسقطوا في أنظار الناس، مثلًا لا يهتمون بأمر العبادة وقد يرتكبون الخيانة في أمانات الناس بحيث يتركهم الناس، وبهذه الطريقة يتصورون أنّ هذا الاسلوب هو نوع من التواضع ورياضة النفس.

بينما نجد أنّ الإسلام لا يُبيح للإنسان تحقير نفسه وإذلالها باسم التواضع ولا يرضى بأن يتحرّك الإنسان لإسقاط شخصيته وكرامته وسحقها، فالمهم أنّ الإنسان في عين ممارسة التواضع يحفظ شخصيته الإجتماعية ولا يذل نفسه، فلو أنّ الإنسان سعى للتحلي بالتواضع بصورته الصحيحة فليس لا يجد هذه الآثار السلبية فحسب بل على العكس من ذلك، فإنّ احترامه وشخصيته ستزداد وتتعمق في أنظار الناس، ولهذا ورد في الروايات الإسلامية عن أميرالمؤمنين أنّه قال «بِالتَّوَاضُعِ تَكُونُ الرَّفْعَةُ» «1».

ويقول الفيض الكاشاني تحت عنوان غاية الرياضة في خلق التواضع: «اعلم إنّ هذا الخلق كسائر الأخلاق له طرفان وواسطة، فطرفه الّذي يميل إلى الزيادة يسمى تكبراً،

وطرفه الّذي يميل إلى النقصان يسمى تخاسساً ومذلة، والوسط يسمى تواضعاً، والمحمود أن يتواضع في غير مذلة ومن غير تخاسس، فإنّ كلا طرفي قصد الامور ذميم، وأحب إلى اللَّه تعالى أوساطها. فمن يتقدم على أمثاله فهو متكبر، ومن يتأخر عنهم فهو متواضع، أي أنّه وضع شيئاً من قدره الّذي يستحقه، والعالم إذا دخل عليه اسكاف فتنحى له عن مجلسه وأجلسه فيه ثم تقدم وسوى له نعله وغدا إلى الباب خلفه فقد تخاسس وتذلل، وهذا أيضاً غير محمود بل المحمود عند اللَّه العدل وهو أن يعطي كل ذي حقّ حقّه، فينبغي أن يتواضع بمثل هذا لأمثاله ولمن بقرب من درجته، فأما تواضعه للسوقي فبالقيام والبشر في الكلام والرفق في السؤال وإجابة دعوته والسعي في حاجته وأمثال ذلك، وأن لا يرى نفسه خيراً منه بل يكون على نفسه أخوف منه على غيره، فلا يحتقره ولا يستصغره وهو لا يعرف خاتمة أمره وخاتمته» «2».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 67

3 و 4

الحرص والقناعة

تنويه:

سبق وأن قرأنا في الفصل السابق الحديث الوارد عن الإمام علي بن الحسين زين العابدين يذكر فيه أنّ أوّل مصدر للمعصية هو التكبّر حيث تكبّر إبليس ورفض السجود لآدم بسبب تكبره وطغيانه، ثمّ ذكر الإمام زين العابدين (الحرص) بعنوان انه المصدر الثاني للمعصية حيث ذكر فيه ما صدر من الترك للأولى من قِبل آدم وحواء وأكلهما من الشجرة الممنوعة بدافع من الحرص، ثمّ ذكر (الحسد) الّذي يتمثل في حسد قابيل لأخيه هابيل وقتله.

إن افرازات الحرص السلبية لم تتجلّى فقط في قصّة آدم بل في قصص الأنبياء وتصدّيهم لسلوكيات أقوامهم المنحرفة طيلة التاريخ البشري، فنحن نرى في قصص الأقوام البشرية السالفة والمجتمعات المختلفة أنّ الحرص والطمع كان يمثل المصدر

للكثير من الجرائم والحروب الدموية والغارات الوحشية وسحق المبادئ الإنسانية والفضائل الأخلاقية في حركة الحياة البشرية والمجتمعات الإنسانية.

والنقطة المقابلة لهذه الرذيلة الأخلاقية هي (القناعة) الّتي تورث الإنسان الطمأنينة والهدوء النفسي، العدالة، الصلح، الاخوة والصفاء في دائرة العلاقات الإجتماعية، وبالنظر

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 68

إلى المنهج المتّبع لترتيب الفضائل والرذائل الأخلاقية (المنهج الّذي يبتدئ في دراسة واستعراض حالات الأنبياء من آدم إلى نبيّنا الكريم الواردة في القرآن المجيد) فإنّ ثاني صفة من الصفات الرذيلة هي الحرص المتمثل في قصّة آدم، وكذلك قصة شعيب وداود وبشكل عام اليهود، وسنتعرض كذلك ما ورد من الحوادث المتعلقة بالمسلمين والمشركين العرب في عصر النزول أيضاً.

وبهذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته الشريفة ما ورد في هذا المضمون الأخلاقي:

1- «فَوَسْوَسَ الَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ ادُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَايَبْلَى* فَاكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى «1».

2- «وَالَى مَدْيَنَ اخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ الَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَائَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَاوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ اشْيَائَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْارْضِ بَعْدَ اصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ انْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» «2».

3- «انَّ هَذَا اخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ اكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ* قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤآلِ نَعْجَتِكَ الَى نِعَاجِهِ وَانَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَآءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ الَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ انَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَانَابَ» «3».

4- «وَلَتَجِدَنَّهُمْ احْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ اشْرَكُوا يَوَدُّ احَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ الْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ انْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرُ

بِمَا يَعْمَلُونَ» «4».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 69

5- «انَّ الْانْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً* اذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَاذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً» «1».

6- «وَاذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا الَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُل مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» «2».

7- «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ* الّذي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ* يَحْسَبُ انَّ مَالَهُ اخْلَدَه» «3»

تفسير واستنتاج:

تتحدّث «الآية الاولى» من الآيات المذكورة آنفاً عن قصة آدم وزوجته حواء وما جرى لهما مع الشيطان الرجيم، فطبقاً للآيات القرآنية فإنّ اللَّه تعالى قد اسكن آدم وحواء الجنّة ونهاهما عن الاقتراب من الشجرة الممنوعة وحذرهما من إغواء إبليس ووسوسته، ولكن الشيطان افلح في إغوائه ووسوسته وارتكب آدم ترك الأولى وأكل من الشجرة الممنوعة، وبذلك طرد من الجنّة وغرق في دوّامة البلايا والمشاكل الدنيوية في هذه الحياة.

الآيات أعلاه تشير إلى هذه الحادثة التاريخية وتقول: «فَوَسْوَسَ الَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ ادُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَايَبْلَى* فَاكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى .

وفي الواقع فإنّ الشيطان ذكر لآدم عن الشجرة الممنوعة بانّ كلّ من يأكل منها سوف يحظى بطول العمر ويغرق في النعمة والسعادة الخالدة.

ما هو السبب الّذي دفع آدم إلى قبول وسوسة الشيطان والاعتماد على كلماته ووعوده ونسيان الأمر الإلهي ونهيه عن تناول ثمرة الشجرة الممنوعة؟ أليس الحرص والطمع هو الّذي حجبه عن رؤية حقائق الامور؟

وبهذا نرى أنّ حالة التكبّر هي الّتي أدّت إلى ضلال الشيطان وعصيانه لأوامر اللَّه تعالى الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 70

في بداية الخلقة، وترتب على ذلك أعظم المفاسد في عالم الوجود، وهكذا نرى أنّ حالة الحرص والطمع والرغبة في الملّذات المادية والدنيوية هي

العامل الآخر لشقاء الإنسان وغرقه في وحل المفاسد والمشاكل الكثيرة في حياته، ولهذا السبب فقد ورد في النصوص الدينية أنّ اصول الكفر ثلاثة: «التكبّر» الّذي أدّى إلى ضلال إبليس وانحرافه عن طريق الحق، «الحرص» الّذي تسبب في انحراف آدم وخروجه من الجنّة، و «الحسد» الّذي تسبب في قتل هابيل على يد أخيه قابيل.

وصحيح أنّ النهي الإلهي المتوجه لآدم لم يكن نهياً تحريمياً ولذلك لم تكن مخالفته معصية مطلقة بل كان من قبيل (الترك للأولى ، أو بتعبير آخر كان نوعاً من النهي الإرشادي كما في نهي الطبيب للمريض عن تناول بعض الأطعمة غير الملائمة لصحته ومزاجه ولكن على أيّة حال فقد كان المتوقع من آدم أن لا يرتكب هذا الترك الأولى، لكن صفة الحرص والطمع قد دفعت بآدم إلى هذا المنزلق الخطير، وبالتالي أوقع نفسه وذريته من البشر في دوّامة من المشاكل والشدائد والمصائب في حركة الحياة.

«الآية الثانية» تتحدّث عن قصّة قوم شعيب الّذين دفعهم الحرص على المزيد من الملذات الدنيوية والطمع في التكاثر في الأموال والثروات المادية أن يديروا ظهورهم عن الحقّ ويتركوا دعوة نبيهم شعيب وإنكار التعليمات السماوية الّتي جاء بها هذا النبي الكريم لتهديدهم وتخليصهم من أدران الشهوات المادية الرخيصة حيث تقول الآية: «وَالَى مَدْيَنَ اخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ الَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَائَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَاوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ اشْيَائَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْارْضِ بَعْدَ اصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ انْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ».

وطبقاً لهذه الآية فإنّ انحراف قوم شعيب كان يتمثل أوّلًا في الشرك وعبادة الأوثان ثمّ التطفيف في الميزان وأكل أموال الناس بالباطل والغش والإفساد في الأرض، وهكذا نرى أنّ هؤلاء القوم كانوا

حريصين على الدنيا إلى درجة أنّهم قالوا لشعيب كما تصرّح الآية

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 71

«قَالُوا يَا شُعَيْبُ اصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ انْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَائُنَا اوْ انْ نَفْعَلَ فِي امْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ...» «1».

هذا والحال أن غصب حقوق الناس والتطفيف في الميزان لم يكن ليؤدي إلى عدم زيادة ثرواتهم وأموالهم فحسب، بل كما أشار القرآن الكريم ادّى إلى فساد المجتمع وإيجاد الخلل والارتباك في مفاصله وزوال الثقة بين الأفراد في عملية التفاعل الإجتماعي واهدار الطاقات واتلاف الأموال وأمثال ذلك، وعليه فإنّ صفة الحرص أدّت إلى نتائج معكوسة في مسيرتهم الإجتماعية والدنيوية.

«الآية الثالثة» من الآيات محل البحث تستعرض الحادثة الّتي حدثت لداود والّتي تعكس في مضمونها الصفة الذميمة للحرص وابعادها السلبية في حياة الإنسان وعلاقته مع الآخرين، وتتلخص هذه القصة في أخوين جاءا إلى النبي داود فقال أحدهما «انَّ هَذَا اخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِىَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ اكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ» «2» وهكذا نجد أنّ صاحب التسع وتسعين نعجة طمع في ضم نعجة أخيه الواحدة إلى نعاجه وأصرّ عليه بقبول هذا العرض والطلب، وعندما سمع داود هذا الكلام تأثر كثيراً و «قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤآلِ نَعْجَتِكَ الَى نِعَاجِهِ»»

ثمّ ذكر داود لهذين الأخوين أنّ هذه الحالة تكاد تكون طبيعية لدى بني البشر وخاصة في حالة الشركة مع بعضهم فيتحرك بعضهم من موقع الظلم والاجحاد بحقّ البعض الآخر، باستثناء المؤمنين الّذين يمنعهم إيمانهم من سلوك طريق الباطل وقال لهما «وَانَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَآءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ الَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ».

ونقرأ في ذيل الآية الكريمة «وَظَنَّ دَاوُدُ انَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَانَابَ» «4».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 72

ولكن ماذا حدث

لداود في هذه الفتنة وهذا الامتحان الإلهي؟ هناك كلام كثير بين المفسّرين، وأما ما ورد في التوراة المحرّفة الحالية فيتلخص في أنّ داود كان قد طمع في زوجة أحد قادته العسكريين ويدعى «اورياي حتى» والّذي كانت له زوجة جميله جدّاً فعشقها داود واحتال لتحريرها من قيد زوجيتها مع اوريا ليتمكن من الزواج بها مع انه كانت له أزواج عديدة، وهكذا نرى أنّ هذه القصة المفتعلة لا تتناسب مطلقاً مع قداسة الأنبياء الإلهيين بل لا تتناسب مع الأخلاق الإنسانية لدى أيّ إنسان في المستوى المتوسط من الأخلاق، فانّ كلّ إنسان يستقبح هذه الحالة في نفسه وفي غيره من البشر.

والمشهور بين المفسّرين الإسلاميين هو أنّ امتحان داود كان يتعلق بمسألة القضاء وانه استعجل في حكمه وقبل أن يسمع حجّة الطرف الآخر حكم بينهما وقضى للأوّل على الثاني، وبالرغم من أنّ حكمه وقضائه كان مصيباً للحقّ فإنّ اللَّه تعالى وبّخه على تركه للأولى في هذه القضية، ثمّ إنّ داود التفت إلى ذنبه وتاب منه.

وعلى أيّة حال فمقصودنا من استعراض هذه القصة هو أنّ الإنسان عندما يستولي عليه الحرص والطمع فإنه يتحرّك من موقع ارتكاب الظلم والجور حتّى بالنسبة إلى أخيه الضعيف والمسكين ولا يأبى عن غصب حقّه وحرمانه من أبسط لوازم الحياة والمعيشة.

أجل فإنّ الحرص على الدنيا وملذاتها لا يعرف حدّاً وحدوداً بل يجرّ الإنسان إلى ارتكاب أشنع الظلم والجور في حقّ الآخرين.

«الآية الرابعة» من الآيات التي جاءت فى البحث وتشير إلى حرص اليهود على الحياة الدنيا، وتنطلق الآية من موقع الذم لهؤلاء فتقول: «وَلَتَجِدَنَّهُمْ احْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ اشْرَكُوا».

هؤلاء حريصون على جمع الأموال والثروات، حريصون على الملك والتسلط على الدنيا، حريصون على التمسّك بزمام الامور،

والعجيب أنّهم احرص من المشركين الّذين لا يلتزمون بأيّ دين ولا يعتقدون بأيّة شريعة سماوية في حين أنّ التعليمات السماوية تذم الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 73

هذه الحالة الأخلاقية السلبية والمفروض بالإنسان الملتزم بالدين والشريعة أن تؤثر فيه هذه التعليمات السماوية وتحدد من حرصه على الدنيا وزخارفها الزائلة ولكننا نجد أنّ اليهود كانوا أحرص من المشركين عليها.

وكما تقول الآية «يَوَدُّ احَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ الْفَ سَنَةٍ».

فهؤلاء و من أجل جمع الثروات وبدافع الخوف من العذاب الإلهي الّذي ينتظرهم بسبب ظلمهم وعدوانهم وغصبهم لحقوق الآخرين وسفكهم لدماء الأبرياء فإنّهم كانوا يتمنون هذا العمر الطويل.

والملفت للنظر أنّ حالة اليهود في هذا العصر لم تختلف عنها في العصور السابقة فنراهم يعيشون حالة الحرص الشديد هذه بل وأشد من السابق، فإنّ التاريخ المعاصر يشهد بأن اليهود لا يمتنعون من ارتكاب أيّة جناية في سبيل المزيد من جمع الثروات والأموال، فما أكثر الحروب الدامية الّتي أشعلوها بين المجتمعات البشرية، وما أكثر دماء الأبرياء الّتي سفكوها، وما أكثر الفتن الّتي أوقدوا نيرانها بين الشعوب، وما أكثر الأسلحة والمواد المخدّرة الّتي تاجروا بها لإفساد وتدمير العلاقات الإجتماعية بين أبناء البشر، كلّ ذلك من أجل تحكيم اركان سيطرتهم على مقدّرات الامم والشعوب، وما أكثر الكذب والدجل والذي يروجونه بين الناس من الإذاعات العالمية الّتي يقف الصهاينة واليهود من ورائها.

إذا أردنا أن نستعرض النتائج السلبية والعواقب الوخيمة لحالة الحرص والطمع وحب الدنيا على الإنسان فينبغي أن نستعرض أعمال هؤلاء على هذا المستوى

وتعبير «حياة» الّذي جاء في الآية بصورة نكرة لعله إشارة إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ هؤلاء القوم يريدون ويطلبون الحياة لأجل اللّذة فقط ولكن أيّة حياة؟ هل هي حياة إنسانية، أو حياة حيوانية،

أو حياة الوحوش في البراري والغابات؟ كلّ ذلك غير مهم في نظر هؤلاء.

وكما قال بعض المفسّرين أنّ هذه الآية لا تتحدّث عن اليهود فقط بل تمثل تحذيراً لجميع أفراد البشر تحذرهم من الحرص وعواقب حبّ الدنيا لكيلا يبتلوا بما ابتُلي به اليهود في حياتهم الدنيوية وسلوكياتهم الأخلاقية.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 74

وقد ورد في الآيات القرآنية والروايات الشريفة عن اليهود أنّهم قتلوا الكثير من الأنبياء الإلهيين لمجرّد مخالفتهم لهم ونهيهم عن سلوكياتهم المنحرفة ورغباتهم اللامشروعة في هذه الحياة، وكذلك تحريفهم لآيات اللَّه وكتبه السماوية وكلّ ذلك كان بسبب حرصهم وحبهم للدنيا.

«الآية الخامسة» تتحرّك على مستوى استعراض صفات الإنسان وحالاته السلبية من الحرص والجزع والبخل وأمثال ذلك وتقول: «انَّ الْانْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً* اذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَاذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً».

وقد ذكر المفسّرون وأرباب اللغة لكلمة «هلوع» معان كثيرة، وفي الواقع أكثرها من باب اللازم والملزوم ومتقاربة المعنى، ومن ذلك ما ذكره صاحب لسان العرب من المعاني الأربعة لهذه الكلمة وهي: الحرص، الجزع، الضجر، وقلة الصبر، وأورد في «مجمع البيان» أيضاً لمعنى الهلوع: «ضجور» و «شحيح» و «جزع» و «شديد الحرص».

وذهب صاحب كتاب التحقيق أنّ الجذر الأصلي لهذه الكلمة هو رغبة الإنسان في الاستمتاع بالنعم والملذات، أما الجزع والحرص وقلّة الصبر فكلّها من آثار هذه الكلمة ومعناها الأصلي.

ومن مجموع ما تقدّم يظهر أنّ هذه الكلمة تتضمن ثلاث نقاط سلبية في دائرة الأخلاق وهي: الحرص، الجزع والبخل.

وفي الواقع فإنّ تفسير كلمة «هلوع» ورد في نفس السورة بعد هذه الآية حيث يمكن استفادة المفهوم الواقعي لها بحيث تتضمن هذه المعاني الثلاثة لأن «جزوع» من مادة «جزع» و «منوع» من مادّة «منع»، ويدخل في معناها البخل والحرص.

وعلى أيّة حال فإنّ

الآيات المذكورة وردت في مقام ذم الأشخاص الّذين يستولي عليهم الحرص والبخل والجزع.

ويمكن القول أنّ «الحرص» هو المصدر الأساس للبخل، لأن الحريص يريد الاحتفاظ

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 75

بكلّ شي ء لنفسه ومنه ينشأ البخل، وكذلك فإنّ الحرص أحياناً يسبب الجزع وقلّة الصبر، لأن الحريص إذا فقد بعض ممتلكاته ومتعلقاته فسوف يتألم كثيراً ويتعامل مع الامور من موقع الجزع والحدّة.

فالآية الشريفة تقرر بأن الإنسان قد خُلق بهذه الصفات، ولكن قد يُثار في الذهن هذا التساؤل، وهو أنّ اللَّه تعالى قد خلق الإنسان من أجل السعادة الخالدة ونيل المقامات والكمالات المعنوية، فكيف يخلقه بهذه النقائص ونقاط الضعف الّتي تحجبه عن سلوك طريق الحقّ وتصدّه عن السير في طريق الكمال والسعادة؟

وقد أجاب البعض على هذا السؤال بأن هذه الصفات السلبية تتعلق بالإنسان الفاقد للإيمان، فإنّ طبع الإنسان المؤمن يتناغم مع الصبر والمثابرة والكرم وأمثال ذلك ولكن عندما ينفصل عن دائرة الإيمان، فمن الطبيعي أن يجزع مقابل أقل مشكلة وأدنى شدّة لأنّه يفتقد السند والدعامة الأساسية في حياته العملية ويجد نفسه وحيداً في مقابل تحدّيات الواقع الصعبة، فلذلك يتعامل مع الحياة من موقع الحرص والبخل ولا يجد في نفسه اعتماداً وتوكلًا على اللَّه تعالى الّذي بيده مفاتح الغيب وبالتالي لا يطمئن إلى غده وما سيواجهه في المستقبل من حوادث وأزمات.

والشاهد على هذا هو أنّ الآيات الّتي جاءت بعد هذه الآية استثنت المصلين من هذا الحكم العام على الإنسان، ويحتمل أيضاً أنّ الآيات محل البحث كما هو الحال في كثير من الآيات الشريفة الّتي تصف الإنسان بأنه «ظلوم» و «جهول» و «يؤوس» و «كفور» و «طغى وأمثال ذلك، فتشير هذه الآيات إلى وجود بُعدين في كيان الإنسان: البُعد الّذي

يأخذ بالإنسان ويصعد به إلى أعلى علّيين، وهو ما يصطلح عليه بقوس الصعود، والبُعد الآخر ما يجره إلى أسفل السافلين وهو قوس النزول.

ويرى العلّامة الطباطبائي في «الميزان» رأياً آخر في هذا الصدد، فيقول بأن الحرص صفة من الصفات الذاتية للإنسان ومتفرعة على حبّ الذات، وهي في الأصل ليست من الرذائل لأن حبّ الذات الّذي تتولد منه هذه الصفات هو المحور الأساس الّذي يسوق الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 76

الإنسان إلى الكمال المعنوي ويدفعه نحو طريق السعادة الخالدة، فهذه الصفات إنّما تكون ذميمة وقبيحة فيما لو لم يستخدمها الإنسان في الطريق الصحيح واللائق، وفي الحقيقة أنّ هذه الصفات مثل سائر الصفات النفسانية الّتي إذا لزمت حدّ الاعتدال تُعدّ فضيلة وإذا تجاوزت إلى جهة الافراط أو التفريط فإنّها تكون من الرذائل.

وعلى أيّة حال فالآيات أعلاه تبين أنّ القرآن الكريم دعا جميع الناس إلى الإيمان والصلاة والدعاء والإنفاق في سبيل اللَّه لإطفاء نار الحرص والبخل والجزع في وجوده وواقعه النفساني.

«الآية السادسة» تستعرض واقعة من الوقائع الّتي جرت في زمان صدر الإسلام حينما كان المسلمون يعيشون القحط والجوع وغلاء الأسعار، وهناك وردت قافلة إلى المدينة محملة بالبضائع والمواد الغذائية من الشام وقد صادف دخول هذه القافلة الظهر من يوم الجمعة حيث كان النبي يخطب في الناس خطبتي الجمعة.

وقد كان المتعارف في ذلك الزمان أنّه عندما تَرد قافلة إلى مدينة معيّنة تُدق الطبول ويُعزف على آلات الموسيقى حتّى يجتمع الناس بسرعة لشراء ما يحتاجونه من هذه القافلة، وعندما سمع المصلون صوت القافلة الواردة إلى المدينة ترك بعضهم من الّذين أسلموا حديثاً صلاة الجمعة وتوجّهوا إلى السوق لشراء البضاعة من القافلة في حين لم يكن لذلك ضرورة لازمة وكان من الممكن

التوجّه إلى القافلة بعد إتمام صلاه الجمعة، وعلى أيّة حال فلم يبق في المسجد سوى اثنا عشر رجلًا وامرأة واحدة، فنزلت الآيات أعلاه تذم هؤلاء الّذين تركوا صلاة الجمعة بدافع الحرص على زخارف الدنيا، وقد ورد في الحديث الشريف أنّ النبي قال حينها: لو لم يبق هؤلاء النفر لأمطرت السماء حجارة على الناس.

ويُستفاد من سياق الآية أعلاه أنّ التوجّه إلى السوق والقافلة لم يكن بدافع من تأمين الحاجات الضرورية للمعيشة بل بدافع من الهوى وسُماع الألحان الموسيقية لدى البعض، وقد يكون بدافع من التجارة والربح المادي لدى البعض الآخر.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 77

وعلى أيّ حال فإنّ القرآن الكريم يبين هذه الواقعة بهذه العبارة «وَاذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً».

ثمّ يخاطب النبي الكريم بالقول «قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ».

ويُحتمل أنّ البعض ترك الصلاة والنبي الأكرم وتوجّه إلى السوق والقافلة لتأمين حاجاته الضرورية للحياة (بالرغم من وجود الوقت الكافي لتهيئتها بعد الصلاة) ولكن التعبير أعلاه يبين بوضوح أنّ فئة من هؤلاء توجّهوا إلى القافلة بدافع من الحرص على شراء السع والبضائع بقيمة زهيدة ثمّ بيعها بأعلى الأثمان طمعاً في الثروة والمال الكثير، وجماعة توجّهوا إلى القافلة بوحي الأهواء والنوازع النفسانية وبذلك حرموا أنفسهم من السعادة العظمى في حضور الصلاه مع النبي الأكرم صلى الله عليه و آله.

وجاءت الآية السابعة» والأخيرة من الآيات محل البحث لتتحدّث عن الأشخاص الّذين يتحركون في تعاملهم مع الآخرين من موقع السخرية والاستهزاء وذلك بدافع من الغرور لما يعيشونه من حالة الثراء ويتصورون أنّ ذلك يسوّغ لهم الاستهزاء بالمؤمنين الفقراء.

فتقول الآية «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ* الّذي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ* يَحْسَبُ انَّ مَالَهُ

اخْلَدَه» فمثل هذا الشخص الّذي يجمع الأموال بدون حساب للحلال والحرام ويتصور أنّ هذه الأموال تؤدي إلى بقائه وخلوده وابتعاد الموت عنه أنّ هذه الثروة تُبيح له السخرية بالآخرين من الفقراء والمُعدمين.

جملة «عَدَّده» الناظرة إلى حساب الأموال من قِبَل أصحاب الثروة تشير إلى شدّة حرصهم وولعهم بهذه الأموال والثروات بحيث إنه كلّما ازدادت أموالهم ازدادوا حبّاً وشغفاً بها ولذلك فهم يعدّدونها دائماً ويجدون في ذلك لذّة كبيرة.

وجملة «الّذي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ» هي في الواقع بمثابة العلّة للهمز واللمز المذكور في الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 78

الآية الاولى، أي أنّ الثروة الدنيوية الطائلة ادّت بهم إلى درجة من الغرور والسكر بحيث إنّهم كانوا ينطلقون من موقع السخرية والاستهزاء بفقراء المؤمنين وكانوا يتصورون انه ليس فقط هذه الأموال والثروات هي الخالدة مدى الدهر بل أصحاب الثروة كذلك.

إنّ دراسة حال أصحاب الدنيا العجيب وتعاملهم الغريب مع الواقع يرشدنا إلى ما يحيّر العقول من عجيب سلوكياتهم، فترى البعض منهم رغم احاطتهم الوافرة بالعلوم المادية والطبيعية ليس لهم هدف سوى جمع الأموال والثروات، وعندما يُسألون هؤلاء عن هدفهم من جمع المال رغم أنّهم لا يمتلكون عائلة ولا ينطلقون في سفرات ترفيهية وسياحية، فيجيبون بأننا نفرح بإضافة صفر أمام أرقام الأموال الموُدعة لنا في البنوك!

النتيجة النهائية:

من مجموع ما تقدّم من الآيات الشريفة وما ذكر لها من تفسير نستنتج أنّ مسألة الحرص والطمع وحبّ الدنيا والشغف بجمع الأموال والثروات أمر خطير جدّاً في دائرة المفاهيم القرآنية، وهو مصدر لكثير من أشكال الشر والفساد ويُعد من أقوى الموانع في مسيرة تهذيب النفس وفي خط التكامل الأخلاقي والمعنوي.

الحرص وحبّ الدنيا في الأحاديث الإسلامية:

اشارة

إن مفردة «الحرص» والكلمات المرادفة لها وردت في الأحاديث الإسلامية بشكل واسع على مستوى أبعادها ودوافعها ونتائجها السلبية حيث نختار منها نماذج معدودة:

1- نقرأ في الحديث الشريف عن النبي الأكرم يخاطب فيه أميرالمؤمنين فيقول: «اعْلَم يَا عَلِيُّ! انَّ الْجُبْنَ وَالْبُخْلَ وَالْحِرْصَ غَرِيزَةٌ وَاحِدَةٌ يُجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ» «1».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 79

2- وهذا المعنى والمضمون نجده بصورة اخرى في نهج البلاغة في عهد أميرالمؤمنين لمالك الأشتر حيث أوصاه الإمام أن يحذر ويتجنب من استشارة البخلاء والجبناء وأهل الحرص والطمع فقال «انَّ الْبُخْلَ وَالْجُبْنَ وَالْحِرْصَ غَرَائِزٌ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللهِ» «1».

فالشخص الّذي يحسن الظن باللَّه تعالى وقدرته المطلقة على الوفاء بالعهد وتأمين الرزق للعباد فإنه سوف لا يحرص أبداً على جمع الأموال والثروات.

الإنسان الّذي يعيش حالة التوكّل على اللَّه ويؤمن بألطافه وعناياته فإنه لا يخشى غيره ولا يخاف أيّة قوّة غير قوته المطلقة.

والإنسان الّذي يأمل دائماً برحمة اللَّه تعالى ولطفه فإنه لا يجد في نفسه بخلًا اطلاقاً.

أجل فإنّ المؤمن الكامل في توحيده وإيمانه باللَّه تعالى وبأسمائه وصفاته الحسنى فإنه لا يمكن أن يتلوث بهذه الخصال الثلاثة القبيحة والرذيلة رغم انها تشترك في الباطل بأصل واحد (ولهذا السبب نجد أحياناً انها تسمّى باسم غريزة واحدة وأحياناً اخرى بأسماء مختلفة لأنها متعدّدة في الظاهر ولكنها متحّدة في الباطن).

3- إنّ الحرص على الدنيا وملذاتها وزخارفها بإمكانه أن يورث

الإنسان التعب والشقاء ويورّطه في السعي الدائب لتأمين رغباته الوهمية، وقد ورد في الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين أنّه قال «الْحِرْصُ مَطِيّةُ التَّعَبِ» «2».

4- وفي حديث آخر عن الإمام أميرالمؤمنين أيضاً أنّه قال: «الْحِرْصُ عَنَاءٌ مُؤَبَّدِ» «3».

وعندما ندرس حالات الّذين يعيشون الحرص والطمع في حركة الحياة نرى مدى التعب والشقاء الّذي يعيشه هؤلاء ليل نهار في سبيل جمع الأموال والزخارف الدنيوية من دون الاستفادة منها، وهذا شاهد صدق على الحديث المذكور آنفاً.

5- الإنسان الحريص لا يجد طعم الشبع أبداً، ولهذا السبب فهو دائماً يسعى لجمع الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 80

الأموال واكتناز الثروات حتّى لو لم ينتفع بها، ولذلك ورد عن أميرالمؤمنين عليه السلام قوله:

«الْحَرِيصُ فَقِيرٌ وَلَوْ مَلَكَ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا» «1».

6- وقد ورد في الأحاديث الشريفة أنّ الأشخاص الّذين يتخلصون من شراك الحرص ولا يقعون اسرى الطمع هم الّذين يتمتعون بالغنى الباطني، ومن ذلك قول أميرالمؤمنين عليه السلام في حديث آخر «اغْنَى الْغِنَي مَنْ لَمْ يَكُنْ لِلْحِرْصِ أَسِيراً» «2».

7- الحرص على جمع الأموال والماديات يُفضي بالإنسان إلى الوقوع في الهلكة، وليست الهلكة المعنوية فقط بل في كثير من الأحيان تكون مصحوبة بالهلكة المادية أيضاً، حيث نقرأ في الحديث الشريف عن رسول اللَّه قوله: «انَّ الدِّينَارَ وَالدِّرْهَمَ اهْلَكَا مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَهُما مُهْلِكَاكُمْ» «3».

8- إنّ الإنسان الحريص يُكبّل نفسه بالقيود يوماً بعد آخر إلى أن يوصد أمامه طريق النجاة والفلاح، كما نقرأ في المثال الّذي ورد عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «مَثَلُ الْحَرِيصِ عَلَى الدُّنْيَا مَثَلُ دُودَةِ الْقَزِّ، كُلَّمَا ازْدَادَتْ مِنَ الْقَزِّ عَلَى نَفْسِهَا لَفّاً كَانَ ابْعَدَ لَهَا مِنَ الْخُرُوجِ! حَتَّى تَمُوتَ غَمّاً!» «4».

9- إنّ الحرص والطمع يهدم شخصية الإنسان ويسحق كلّ قيمة له في

أنظار الناس كما يقول أميرالمؤمنين عليه السلام «الْحِرْصُ يَنْقُصُ قَدْرَ الرَّجُلِ، فَلَا يُزِيدُ فِي رِزْقِهِ!» «5».

10- إنّ الحرص من الامور الّتي تؤدي إلى الكثير من الذنوب والخطايا والقبائح منها عدم مراعاة الحلال والحرام وترك احترام حقوق الآخرين والتلوث بأنواع الظلم والجور والعدوان، ولذلك ورد عن أميرالمؤمنين عليه السلام من جملة ما أوصى به مالك الأشتر في عهده الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 81

المعروف أنّه قال «لَاتُدْخِلَنَّ فِي مَشْوَرَتِكَ حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ» «1».

وعلى هذا الأساس فإنّ عواقب الحرص ونتائجه وخيمة جداً في حياة الإنسان حيث يورثه البعد عن اللَّه تعالى ويهدم مروئته ويكسر شخصيته ويسلب منه الراحة والطمأنينة وبالتالي يُفضي به الحرص إلى الوقوع في وحل الذنوب الكبيرة الاخرى فيبتعد يوماً بعد آخر عن السعادة والكمال المعنوي ويغدو أسيراً وذليلًا في قيود النفس الأمارة وأحابيل الشيطان، وبكلمة واحدة انه يفقد دينه ودنياه.

1- تعريف الحرص

بالرغم من أنّ معنى ومفهوم (الحرص) واضح للجميع إجمالًا، ولكن الدقة والتوجه إلى مضمونه العميق يكشف لنا نقاط جديدة في دائرة هذا المفهوم.

يقول الراغب في مفرداته في تعريف الحرص بأنه بمعنى شدّة الرغبة والميل إلى شي ء معيّن، ويرى أنّ هذه الكلمة في الأصل تأتي بمعنى الضغط على اللباس عند غسله بالماء بواسطة ضربه بالخشبة وأمثال ذلك.

وقد ورد عن أميرالمؤمنين تعبير جميل جداً في تعريف الحرص عندما سُئل: ما هو الحرص؟ فقال «هُوَ طَلَبُ الْقَلِيلِ بِاضَاعَةِ الْكَثِيرِ) «2»

ويرى علماء الأخلاق أنّ الحرص من الرذائل الأخلاقية المتعلّقة بقوّة الشهوة وذكروا في تعريفه (أنّ الحرص صفة من الصفات النفسانية تدفع الإنسان إلى جمع ما هو أكثر من حاجته، وهو من شُعب حبّ الدنيا ومن الصفات المهلكة والأخلاق الفاسدة) ويمثلون للحرص بأنه كالصحراء المترامية الأطراف وكالأرض

الموحشة الّتي لا حدود لها فكلّما سار فيها الحريص لا يصل إلى غايتها ومنتهاها.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 82

(الحريص) يُقال لشخص مبتلياً بمرض، مثل مرض الاستسقاء حيث كلّما شرب من الماء فإنّ عطشه لا ينطفأ.

إنّ الشخص الحريص لا يقبل أي دليلٍ منطقي على سلوكياته، فلو قيل له مثلًا إنك بلغت من العمر ثمانين سنة ولم يبق من عمرك إلّاالقليل، فلماذا هذا الولع والشوق لجمع الأموال والثروات؟ وبالرغم من انه يفتقد الجواب الصحيح لهذا السؤال ولكنه يستمر في سلوكه الطفولي ولا ينتهي منه، بل على العكس من ذلك حيث نرى أنّ بعض الناس يزداد حرصاً وطمعاً كلّما ازداد سناً وأوغل في مرحلة الشيخوخة، كما ورد في الحديث المعروف عن النبي الأكرم أنّه قال: «يُشِيبُ بْنُ آدَمَ وَيَشُبُّ فِيهِ خَصْلَتَانِ: الْحِرْصُ وَطُولُ الْامَلِ» «1».

2- النتائج السلبية للحرص في حياة الإنسان الفردية والاجتماعية

رأينا في الآيات والروايات الشريفة المذكورة سابقاً مدى النتائج السلبية والعواقب الوخيمة لحالة الحرص في واقع الإنسان، ولذلك فإنّ مطالعتها تغنينا عن أي شرح وتفسير آخر في هذا المجال ومن ذلك:

1- إنّ الحريص مُبتلى في التعب المستمر والعسر والحرج في حركة الحياة.

2- إنّ الحريص لا يشبع أبداً، ولهذا فإنه لو ملك الدنيا بأجمعها فإنه يعيش عيشة الفقراء أيضاً.

3- إنّ الحريص يعيش عيّش الفقراء ويموت موت الفقراء ولكنه يحاسب في الآخرة حساب الأغنياء.

4- إنّ الحرص يفضي بالإنسان إلى الهلكة لأن الإنسان الحريص وبسبب عشقه للدنيا ولزخارفها فانه لا يرى آفاق الخطر المحيطة بها بل يسارع إليها بكلّ عجلة وهلع.

5- إنّ الإنسان الحريص يكبل نفسه بقيود الماديات وأحابيلها ويزداد قربه من هذه القيود يوماً بعد آخر حتّى يوصد أمامه سبيل النجاة.

6- إنّ الحرص يذهب بشرف الإنسان وماء وجهه ويسقط حرمته ومروءته في أنظار الناس، لأن

الحريص ولغرض الحصول على مقصوده لا يلتزم بالاعراف الاجتماعية ولا

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 83

يتقيد بالقيم والمُثل والسلوكيات المعتبرة في المجتمع الانساني بل يعيش كالأسير المقيد بسلسلة من رقبته يقوده الحرص من هنا إلى هناك.

7- إنّ الحرص يؤدي بالإنسان إلى التلوث بأنواع الذنوب كالكذب، الخيانة، الظلم والعدوان وغصب حقوق الآخرين وأمثال ذلك، لأنّه إذا أراد مراعاة الحلال والحرام فإنه سوف لن يصل إلى مقصوده في حياته الدنيوية.

8- إنّ الحرص يتسبّب في إبعاد الإنسان عن اللَّه تعالى ويورثه الصغار في أنظار عباده ويسلبه الطمأنينة والسكينة والهدوء النفسي فيعيش حياته مع العذاب الروحي والقلق المزمن.

9- إنّ الحريص يجمع الأموال والثروات الّتي يتحمل مسؤوليتها فقط بينما ينتفع بها الآخرون.

10- إنّ الحرص إنّما هو نتيجة من نتائج سوء الظن باللَّه وفي نفس الوقت يعمق هذه الحالة لدى الإنسان ويؤكد في نفسه سوء الظن هذا

3- غنى النفس

والملفت للنظر أنّ الإنسان الحريص يطلب الغنى من خارج ذاته ووجوده في حين أنّ أصل الغنى وحقيقته يجب أن يحصل عليها الإنسان من داخله.

وقد سُئل أحد العلماء عن حقيقة الغنى وعدم الحاجة والفقر فقال: أن تقصر من آمالك وترضى بما قسم لك.

وفي الحديث الشريف الوارد عن رسول اللَّه وكذلك عن أميرالمؤمنين أيضاً نقرأ هذا المضمون السامي في دائرة القيم الأخلاقية والمعنوية «خَيْرُ الْغِنىَ غِنَى النَّفْسِ» «1».

وفي رواية اخرى عن رسول اللَّه أنّه قال: «الْغِنَى فِي الْقَلْبِ، وَالْفَقْرُ فِي الْقَلْبِ» «2».

أجل فإذا كانت روح الإنسان تعيش الجوع المعنوي بسبب الحرص فإنه لو ملك هذا

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 84

الإنسان الدنيا بحذافيرها فإنه يعيش فقيراً كذلك، ولو أنّ روحه كانت تعيش الغنى الذاتي ولم يجد في نفسه الحاجة والطمع فإنه لو سُلب منه جميع ما في الدنيا

فإنه يعيش الغنى كذلك.

4- الحرص المذموم والممدوح

إنّ مفردة (الحرص) تأتي في الموارد السلبية فعندما تُطلق هذه الكلمة يراد منها الحرص على الأموال والثروة والمقام وسائر الشهوات المادية والدنيوية، وذلك بسبب أنّ هذه الكلمة تستعمل غالباً في هذه الموارد المذمومة والقبيحة.

ولكن أحياناً تستخدم هذه الكلمة في موارد إيجابية ونافعة وبذلك تستحق المدح ولا تكون من الأخلاق الرذيلة بل تُعد من الفضائل أيضاً وذلك عندما تتحكم هذه الصفة في الإنسان في موارد الشوق والرغبة الشديدة في أعمال الخير والصلاح.

ومن جملة ما ذكر القرآن الكريم من فضائل نبي الإسلام هو حرصه على هداية الناس وانقاذهم من الضلال حيث يقول: «لَقَدْ جَائَكُمْ رَسُولٌ مِنْ انْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّم حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» «1».

ويقول في مكان آخر: «انْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَانَّ اللَّهَ لَايَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَالَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ» «2».

وقد ورد ما يشبه هذا المعنى والمضمون في آيات اخرى من القرآن الكريم أيضاً «3».

وطبعاً وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في مصاديق سلبية أيضاً.

أما في الروايات الإسلامية فإنّ كلمة «الحرص» وردت في موارد كثيرة إيجابية وفي ذلك يقول أميرالمؤمنين عليه السلام في خطبته المعروفة في بيان صفات المتقين مخاطباً لهمّام الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 85

«فَمِنْ عَلَامَةِ احَدِهِمْ انَّكَ تَرى لَهُ قُوَّةً فِي دِينٍ وَحِرْصاً فِي عِلْمٍ» «1».

وورد في الروايات الشريفة موارد متعددة أنّ من علامات المؤمن هو حرصه على التفقه في الدين أو حرصه على الجهاد في سبيل اللَّه أو الحرص على التقوى وأمثال ذلك «2».

ونختم هذا البحث بحديث شريف عن الإمام الباقر يقول «لَا حِرْصَ كَالْمُنَافِسَةِ فِي الدَّرَجَاتِ» «3».

وعلى هذا فإنّ للحرص مفهوم واسع ويأتي بمعنى شدّة العلاقة والرغبة بشي ء معين بحيث يسعى جاهداً لتحصيله، فلو وقع هذا

الشي ء في طريق الخير والسعادة والصلاح لكان ممدوحاً، ولكن إذا وقع في طريق الدنيا وتحصيل المال والثروة والملذات الرخيصة فإنه يكون مذموماً كذلك، ولكن الغالب في استعمال هذه الكلمة هو في الموارد السلبية والسلوكيات الذميمة.

5- علاج الحرص

من المعلوم أنه وفي علاج الأمراض البدنية لزوم الرجوع إلى الأسباب والجذور، لأن العلاج بدون قطع جذور المرض لا ينفع على المدى الطويل وستبقى النتائج والآثار السلبية في وجوده، وحتّى لو تمّ العلاج من خلال استخدام المهدئات والعلاجات المؤقتة فإنّ المرض سوف يتجلّى ويظهر بعد مدّة.

وهكذا الحال في الأمراض الأخلاقية، فلابدّ أوّلًا من التوغل لمعرفة جذور المرض ثمّ قطعها من الأساس.

وكما تقدّمت الإشارة إليه، (وورد في الأحاديث الإسلامية أيضاً) أنّ أحد جذور الحرص هو سوء الظن باللَّه وعدم التوكل عليه، وكلّ ذلك يعود إلى اهتزاز اركان التوحيد

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 86

الأفعالي لدى الإنسان.

فالشخص الّذي يعتقد بأن اللَّه قادر ورازق وأنّ مفتاح الخيرات بيده فقط «بِيَدِكَ الْخَيْرُ انَّكَ عَلَى كُلِّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ» «1» فسوف لا يجد في نفسه حالة الحرص على جمع الأموال والنعم المادية الاخرى.

إنّ الشخص الّذي يعيش الإيمان الكامل بوعد اللَّه تعالى وقوله: «مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ ...» «2» فبدلًا من الحرص على جمع الأموال فإنه سيحرص على انفاقها في سبيل اللَّه.

وعندما تهتز أركان الإيمان في وجود الإنسان وخاصّة التوحيد الأفعالي فإنّ الصفات الرذيلة سوف تتجذر في نفس الإنسان وأخطرها الحرص، وحينئذٍ فلابدّ من تقوية أركان الإيمان لمنع تفشي هذه الصفة ورسوخ هذه الحالة السلبية في باطن الإنسان.

وأحد الأسباب الاخرى للحرص هو الجهل وعدم الاطلاع على حقائق الامور وما يترتب عليها من نتائج وآثار في الواقع العملي.

فإذا علم الإنسان أنّ الحرص يتسبّب في سلب طمأنينته

وهدوئه في حركة الحياة وانه سيوقعه في العسر والشقاء والتعب الدائم، وأنّ الحرص سوف يُهدم مروءته ويحطّم شخصيّته ويسقطه في أنظار الناس، وأنّ الحرص يتسبب في أن يعيش عيشة الفقراء بالرغم من غناه الظاهري وأنّ ما جمعه من الأموال والثروات سينتفع به الآخرين ولكنه سيُسأل عنها يوم القيامة بالرغم من أنّ الآخرين هم الّذين ينتفعون بها في الدنيا.

أجل فإنّ الحريص إذا فكر في هذه النتائج والعواقب الوخيمة فإنّ ذلك سيؤثر في نفسه وروحه تأثيراً ايجابياً.

ويقول الفيض الكاشاني في المحجّة البيضاء: إعلم أنّ هذا الدواء مركّب من ثلاثة أركان «الصبر» و «العلم» و «العمل» ومجموع ذلك خمسة امور:

الأوّل وهو العمل: الاقتصاد في المعيشة والرفق في الانفاق، فإنّ هذا القدر يتيسّر بأدنى الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 87

جهد ويمكن معه الإجمال في الطلب، فالاقتصاد في المعيشة هو الأصل في القناعة ونعني به الرّفق في الإنفاق وترك الفرق فيه.

قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «من اقتصد أغناه اللَّه، ومن بذّر أفقره اللَّه، ومن ذكر اللَّه عزّوجلّ أحبّه اللَّه» «1».

الثاني: أنّه إذا تيسّر له في الحال ما يكفيه فلا ينبغي أن يكون شديد الاضطراب لأجل الاستقبال، ويعينه على ذلك قصر الأمل والتحقّق بأنّ الرّزق الّذي قدّر له لابدّ وأن يأتيه وإن لم يشتدّ حرصه، قال تعالى: «الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ ا لْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَآءِ» «2».

الثالث: أن يعرف ما في القناعة من عزّ الاستغناء وما في الطمع والحرص من الذل فإذا تحقّق له ذلك إزدادت رغبته في القناعة لأنّه في الحرص لا يخلو من تعب وفي الطمع لا يخلو من ذل، قال النبي صلى الله عليه و آله: «عزّ المؤمن استغناؤه عن الناس» «3».

الرابع: أن يكثر تأمّله في تاريخ بعض

اليهود والنصارى وأراذل الناس والحمقى ومن لا دين لهم ولا عقل، ثمّ ينظر إلى أحوال الأنبياء والأولياء والصحابة والتابعين ويستمع أحاديثهم ويطالع أحوالهم ويقارن بينهم ويخير عقله بين أن يكون على مشابهة أرذل الخلق أو على الاقتداء بمن هو أعزُّ أصناف الخلق عند اللَّه حتى يهون عليه بذلك الصبر على الضنك والقناعة باليسير.

الخامس: أن يفكر في مخاطر جمع المال والثروة من دون قيد أو شرط، وكذلك في عواقب هذا العمل في الدنيا والآخرة، وكذلك عليه أن يفكر في العواقب الحميدة التي تأتي من القناعة.

وعليه أن يفكر دائماً في أمور دنياه وينظر الى مادونه من الخق، لا أن ينظر الى من هم أعلى منه في الغنى لأن الشيطان يسوّل للانسان دائماً ويدعوه للنظر الى مافوقه، ويقول له في الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 88

وساوسه: ماذا ينقصك حتى يكون فلاناً أغنى منك؟ لماذا لا تسعى لكي تصل الى ما هم فيه؟

أُنظر الى هؤلاء وقد غرقوا بالخير والنعمة وتمتعوا بلذائذ الدنيا؟! وأنت تفكر فقط في الخوف من الله، وقد ضيقت على نفسك بالتزامك المستمر بالحلال والحرام، هل أنت اكثر تدنياً من هؤلاء ام أنت أخوف منهم من الله؟!

قال أبوذر: «أوصاني خليلي أن أنظر إلى من هو دوني لا إلى من هو فوقي- أي في الدنيا-».

6- إجابة عن شبهة

وهنا يمكن أن يتصور البعض أنّ الإسلام ومن خلال هذه الآيات والروايات المذكورة في هذا الباب لا يتلائم مع تطور الحياة المادية والدنيوية للناس أو أنّه ينظر إلى اصول التمدن المادي والتطور العلمي على مستوى الطبيعة بنظرة سلبية، من خلال دعوته لاتباعه إلى التجرد عن الدنيا وعدم التعلّق بها، في حين أنّ هذا التصور اشتباه كبير، فالإسلام يتصدّى لمحاربة الحالات الأخلاقية السلبية

في واقع الإنسان الّتي تنطلق من الحرص وحب الدنيا والتضحية بالقيم الأخلاقية والإنسانية من أجل الرفاهية الدنيوية واشباع الملذات الرخيصة، لا أنّه يقف أمام استخدام الطاقات الفكرية والمواهب الطبيعية في عملية التطور العلمي في خط الكرامة الإنسانية وتوكيد حرية الإنسان من النوازع والأهواء النفسانية وتقوية القيم المعنوية.

وتوضيح ذلك: أنّ المواهب المادية في حد ذاتها هي أدوات ووسائل للوصول إلى المقاصد الاخرى وتحقيق طموحات الإنسان في حركة الحياة وليستفيد منها في الصعود في مدارج الكمال المعنوي والإنساني، فلو انه استخدمها في غير هذا الغرض وتحرّك معها من موقع الأهواء والشهوات الرخيصة فسوف يبتعد بذلك عن الهدف من الخلقة ويسقط في مهاوي الرذيلة والانحطاط والتسافل الأخلاقي، وهذه الامور تتقاطع مع التعاليم الإسلامية.

ومثلها كمثل الأدوات الصناعية والمنتوجات المادية الّتي يمكن الاستفادة منها بوجهين، فالطائرة يمكن الاستفادة منها للتنقل السريع وتسهيل وصول الإنسان إلى مقصده والتوسع الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 89

في العمران وتأمين المعيشة ومساعدة الفقراء والمحتاجين وأمثال ذلك، كما يمكن الاستفادة منها بطريقة اخرى وذلك بجعلها أداة حربية لقتل البشر وإلقاء القنابل على الأبرياء وتخريب المدن والقرى وإحراق الأخضر واليابس وإتلاف مواهب الطبيعة.

وعليه فلا ينبغي النظر إلى موقف الإسلام السلبي من حالة الحرص والطمع وحبّ الدنيا لدى الإنسان كذريعة لترك النشاطات الاقتصادية والتطور العلمي والصناعي وبالتالي يتحول معها الإنسان إلى شخص خامل وكسول ويتعامل مع الأحداث والمجتمع من موقع الانزواء والعزلة كما نلاحظ ذلك لدى بعض المتصوفة حيث يسلكون هذا المسلك بالتوسل بأمثال هذه المفاهيم الدينية والنصوص الإسلامية.

حبّ الدنيا

تنويه:

إنّ أحد جذور (الحرص) وما يترتب عليه من عواقب وخيمة سبق أن ذكرناها في الفصل السابق، هو حبّ الدنيا والتعلق بزخارفها وزبارجها.

فعندما تتقد نار هذا الحب الدنيوي في أعماق

الإنسان فسوف تقوده إلى أنواع الحرص والولع بالنسبة إلى المواهب المادية والدنيوية من قبيل سائر أنواع العشق الّذي يغطي على فكر الإنسان وعقله ويسوقه يوماً بعد آخر إلى السقوط في لجّة التلوث بالخطايا والالتصاق بالعالم السفلي.

ولهذا السبب فإنّ القرآن الكريم ومن أجل قطع جذور الحرص والولع قد تحرّك في آياته الكريمة من موقع ذمّ حبّ الدنيا والافراط في التوغل في ملذاتها والتشبّث بزخارفها والّذي يمثل الجذور الأصلية للحرص والطمع في بُعدهما السلبي، ونقرأ في المفاهيم القرآنية تعبيرات مختلفة تحط من قدر الدنيا وقيمتها لكي يخفف ذلك من حب أهل الدنيا لها ويتحركوا بعيداً عن أجوائها ويتخلصوا بذلك من الحرص والطمع ولا يضحوا بالقيم الأخلاقية والمثل الإنسانية على مذبحها.

وبهذه الإشارة نعود إلى آيات القرآن الكريم لنستوحي من تعبيراتها الدقيقة ما يضي ء لنا

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 92

الطريق لدراسة هذه المبادئ والمواقف الأخلاقية المهمة:

1- إنّ القرآن الكريم يرى أنّ الدنيا ما هي إلّالعب ولهو كما يلهو ويلعب الأطفال، وقد ورد وصف ذلك في آيات متعددة، ففي قوله تعالى: «وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا الّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ...» «1».

وفي آية اخرى قوله تعالى «اعْلَمُوا انَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْامْوَالِ وَالْاوْلَادِ ...» «2».

وفي الحقيقة أنّ هذه الآيات الكريمة تشبّه أصحاب الدنيا بأنّهم كالأطفال الّذين يعيشون الغفلة والجهل عمّا يدور حولهم ولا همّ لهم إلّاالاشتغال بالتوافه والسفاسف من الامور فلا يرون حتّى الخطر القريب المحدق بهم.

بعض المفسّرين قسّم حياة الإنسان إلى خمس مراحل (من الطفولة إلى أن يبلغ مرحلة الكهولة في سن الأربعين) وذكر أنّ لكلّ مرحلة ثمان سنوات وقال: إنّ السنوات الثمانية الاولى من عمر الإنسان هي مرحلة اللعب، والسنوات الثمانية الثانية هي مرحلة اللهو،

والسنوات الثمانية الثالثة حيث يعيش الإنسان في فترة الشباب فإنه يتجه إلى الزينة والالتذاذ بالجمال، والسنوات الثمانية الرابعة يقضي وقته وطاقاته في التفاخر، وأخيراً في السنوات الثمانية الخامسة يهتم بالتكاثر في الأموال والأولاد، وهنا يثبت شخصية الإنسان ويستمر على هذه الحالة إلى آخر عمره، وبالتالي فإنّ أصحاب الدنيا لا يبقى لهم مجال للتفكر في الحياة المعنوية والقيم الإنسانية السامية.

2- ومن الآيات الاخرى في هذا المجال نرى مفهوم «متاع الغرور» بالنسبة إلى الحياة الدنيا حيث يقول تعالى «... وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا الّا مَتَاعُ الْغُرُورِ» «3».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 93

ويقول في مكان آخر «... فَلَا تَغُرَّنَكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّه الْغَرُورُ» «1».

وهذه التعبيرات تدلّ على أنّ زخارف الدنيا وبريقها الخادع يُعد أحد الموانع المهمة للتكامل المعنوي والصعود في درجات الكمال الإلهي للإنسان وما دام هذا المانع موجوداً فإنه لا يصل إلى شي ء من هذه الكمالات المعنوية.

إنّ الحياة الدنيا مثلها كمثل السراب الّذي يجذب العطاشى نحوه في الصحراء المحرقة ولكنهم لا يحصلون على شي ء منه أخيراً، وهكذا حال التعلقات المادية الدنيوية فإنّها تجذب أصحاب الدنيا نحوها طمعاً في إرواء ظمأهم وعطشهم إلّاأنّهم لا يجدون ما يطلبونه في هذا المسير المنحرف بل يزدادون ظمأً وحُرقة، وكما أنّ السراب يبتعد عن الإنسان كلّما مشى نحوه وهكذا يظل يركض وراء السراب حتّى يهلك، فكذلك الدنيا تبتعد عن الإنسان كلّما اتّجه نحوها فتزيده عطشاً لها وارهاقاً حتّى يهلك.

ونرى هذه الحالة في الكثير من أصحاب الدنيا الّذين يركضون وراء متاع الدنيا وزخارفها سنوات مديدة من عمرهم وعندما يحصلوا على شي ء منها فانهم يصرّحون بأنّهم لم يجدوا ضالّتهم إلّاوهي (الهدوء النفسي والطمأنينة الروحية) بل يعيشون الجفاف الروحي أكثر ويجدون أنّ ملذات الحياة

الدنيا تقترن دائماً مع الاشواك والمنغصات وبدلًا من أن تورثهم الهدوء والطمأنينة فإنّها تعمل على إذكاء حالة القلق والإضطراب في جوانحهم وأعماق وجودهم وبذلك لا يجدون مبتغاهم فيها.

3- وهناك طائفة اخرى من الآيات الكريمة الّتي تقرر لنا هذه الحقيقة، وهي أنّ الانجذاب نحو زخارف الدنيا وزبارجها يؤدي إلى أن يعيش الإنسان الغفلة عن الآخرة، أي أن يكون الشغل الشاغل له وهمه الوحيد هو تحصيل هذه الزخارف الخادعة، فتقول الآية الشريفة: «يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمُ غَافِلُونَ» «2».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 94

فهؤلاء يجهلون حتّى الحياة الدنيا أيضاً وبدلًا من أن يجعلونها مزرعة الآخرة وقنطرة للوصول إلى الحياة الخالدة ونيل المقامات المعنوية وميداناً لممارسة السلوكيات الّتي تصعد بهم في سُلّم الفضائل الأخلاقية ومدارج الإنسانية، يتخذون الدنيا بعنوان انها الهدف النهائي والمطلوب الحقيقي والمعبود الواقعي لهم، ومن الطبيعي أنّ مثل هؤلاء الأشخاص يعيشون الغفلة عن الحياة الاخرى.

ويقول القرآن الكريم في آية اخرى:

«ارَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ»»

ثمّ تضيف الآية «فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ الّا قَلِيلٌ» «2» أجل فإنّ الأشخاص الّذين يعيشون ضيق الافق ومحدودية الفكر فانهم يرون الدنيا كبيرة وواسعة وخالدة وينسون الحياة الاخرى الأبدية الّتي قرّرها اللَّه تعالى لحياة الإنسان الكريمة والمليئة بالمواهب الإلهية والنعيم الخالد.

4- ونقرأ في قسم آخر من الآيات الكريمة أنّ الدنيا هي (عرض) على وزن (غرض) بمعنى الموجود المتزلزل والّذي يعيش الاهتزاز والتغير والتبدل في جميع جوانبه وحالاته، ومن ذلك قوله تعالى «تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ» «3».

وتقول الآيات في مكان آخر مخاطبة لأصحاب النبي الأكرم «... يُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ...» «4».

وفي آيات اخرى نجد هذا التعبير أيضاً حيث يدلّ على

أنّ جماعة من المسلمين أو غير المسلمين وبدافع من الحرص والطمع تركوا الاهتمام بالمواهب الإلهية الخالدة والحياة الاخرى والقيم الإنسانية العالية واشتغلوا في جمع زخارف الدنيا الزائله واشباع الملذات الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 95

الرخيصة في حركة الحياة الدنيا. أجل فان النعمة الحقيقية هي ما عند اللَّه تعالى وما بقي فكلها (عرض) يقبل الزوال والاندثار.

وهذا التعبير هو في الحقيقة انذار لجميع طلاب الدنيا بأنّهم ينبغي عليهم الاهتمام بما لديهم من طاقات ورأس مال عظيم وبإمكانهم استخدامها في سبيل حياة كريمة وخالدة فلا يضيعونها في الامور الرخيصة والزائلة.

5- ونقرأ في قسم آخر من الآيات التعبير عن المواهب المادية بأنّها «زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا» «1».

ووردت تعبيرات مشابهة لهذه الآية في آيات اخرى أيضاً في قوله (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ الَيْهِمْ اعْمَالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيهَا لَايُبْخَسُونَ» «2».

وفي مكان آخر يخاطب القرآن الكريم نساء النبي صلى الله عليه و آله ويقول: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِازْوَاجِكَ انْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ امَتِّعْكُنَّ وَاسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلًا» «3».

وهذه التعبيرات توضح بصورة جيدة أنّ هذا البريق لزخارف الحياة الدنيا ما هو إلّازينة للحياة المادية، وبديهي أنّ الإنسان لا يُعبّر عن الامور الحياتية والمصيرية بتعبير (زينة) أو (زينة الحياة الدنيا) أي الحياة السفلى والتافهة.

ومن الجدير بالذكر انه حتّى أنّ مفهوم (الزينة) نجده في آيات اخرى مبنياً للمجهول حيث ورد تعبير (زُيّن) وهذا يدلّ على أنّ هذه الزينة غير حقيقية بل خيالية ووهمية.

مثلًا نقرأ في سورة البقرة الآية 212 قوله تعالى: «زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ...».

ونقرأ في سورة آل عمران الآية 14 قوله تعالى: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ».

الاخلاق فى القرآن، ج 2،

ص: 96

هذه التعبيرات وتعبيرات اخرى مماثله تشير إلى أنّه حتّى مفهوم (الزينة) في مثل هذه الموارد ما هي إلّازينة وهمية وخيالية حيث يتوهم الناس من طلاب الدنيا انها زينة حقيقية وواقعية.

وهنا يتبادر سؤال مهم، وهو انه لماذا جعل اللَّه تعالى مثل هذه الامور زينة في أنظار الناس؟

ومن المعلوم أنّ الدنيا إنما جُعلت لتربية الإنسان واختباره وامتحانه لأن الإنسان إذا ترك مثل هذه الزينة الجميلة والخادعة والّتي تكون مقرونة بالحرام والإثم غالباً من أجل اللَّه تعالى والسير في خط التقوى والإيمان فإنّ ذلك من شأنه أن يعمق في نفسه روح التقوى والقيم الأخلاقية ويصعد به في مدارج الكمال المعنوي وإلّا فإنّ صرف النظر عن هذه الامور المخادعة بمجرّده لا يُعدّ افتخاراً ومكرمة للإنسان.

وبعبارة أدق فإنّ التمايلات والرغبات الباطنية والأهواء النفسانية تزين للإنسان الامور المادية بزينة جميلة لكي تدعوه إلى ارتكاب الاثم وممارسة الحرام، وعليه فإنّ هذه الزينة تنبع من ذات الإنسان ومن باطنه، وعندما نرى في الآيات الكريمة نسبة التزين إلى اللَّه تعالى فذلك بسبب أنّ اللَّه تعالى هو الّذي خلق هذه التمايلات والرغبات والأهواء الطاغية، وعندما نقرأ في بعض الآيات نسبتها إلى الشيطان الرجيم في قوله تعالى: «... وَزَيِّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ اعْمَالَهُم ...» «1» فذلك بسبب أنّ عملية التزيين هذه بالرغم من انها من جهة منسوبة إلى اللَّه تعالى بسبب القانون العام في عالم الخِلقة، إلّاأن إتّباع هذه الأهواء والشهوات من جهة هو عمل الشيطان الرجيم الّذي يسوّل للإنسان هذه الامور الخاطئة ليوقعه في الاثم والذنب.

وعلى أيّة حال فإنّ المستفاد من مجموع الآيات المذكورة أعلاه أنّ «حبّ الدنيا» إذا استقر في قلب الإنسان وبصورة مفرطة فإنه سيؤدي به إلى الابتعاد عن اللَّه تعالى والغفلة عن

الآخرة.

حبّ الدنيا في الأحاديث الإسلامية:

وقد ورد ذمّ الدنيا وحبها في الروايات الإسلامية كثيراً ولاسيّما ما ورد في كلمات النبي الأكرم وخطب نهج البلاغة بصورة واسعة ومفصّلة ومن ذلك:

1- ما ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عندما سُئل عن سبب تسمية الدنيا بالدنيا فقال «لِانَّ الدُّنْيَا دَنِيَّةٌ خُلِقَتْ مِنْ دُونِ الْآخِرَةِ» «1».

2- وفي حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أيضاً أنّه قال: «اكْبَرُ الْكَبَائِرِ حُبُّ الدُّنْيَا» «2».

3- ونفس هذا المعنى ورد في كلمات أميرالمؤمنين حيث قال: «حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ الْفِتَنِ وَاصْلُ الْمِحَنِ» «3».

4- ونقرأ في حديث آخر أيضاً عن الإمام على عليه السلام قوله: «انَّ الدُّنْيَا لَمُفْسِدَةُ الدِّينِ وَمُسْلِبَةُ الْيَقِينِ» «4».

5- وورد في حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «انَّ اوَّلَ مَا عُصِىَ اللَّهُ بِهِ سِتٌّ:

حُبُّ الدُّنْيَا وَحُبُّ الرِّئَاسَةِ وَحُبُّ الطَّعَامِ وَحُبُّ النَّوْمِ وَحُبُّ الرَّاحَةِ» «5».

واغلب هذه الامور الستة أو جميعها نجدها متوفرة في قصة طغيان الشيطان الرجيم ومعصيته وترك الأولى لآدم ومعصية قابيل، ولذا ذُكرت بأنّها أول الخطايا والمعاصي.

6- ونقرأ في حديث آخر أنّه سئل الإمام علي بن الحسين عليهما السلام: «ايُّ الْاعْمَالِ افْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّوَجَلَّ؟» قال: «مَا مِنْ عَمَلٍ بَعْدَ مَعْرِفَةِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ وَمَعْرِفَةِ رَسُولِهِ افْضَلُ مِنْ بُغْضِ الدُّنْيَا وَانَّ لِذَلِكَ لَشُعَباً كَثِيرَةً وَلِلْمَعَاصِي شُعَباً». ثمّ يذكر الإمام عليه السلام اصول المعاصي الثلاث وهي «الكبر» لدى إبليس، و «الحرص» الّذي سبب في اخراج آدم وحواء من الجنة، و «الحسد» الّذي دفع قابيل لأن يقتل أخاه، ثمّ أضاف: «فتشعب من ذلك حبّ النساء وحبّ الدنيا وحبّ الرئاسة وحبّ الراحة وحبّ الكلام وحبّ العلو والثروة، فصرن سبع خصال، فاجتمعن كلهنّ في «حبّ الدنيا» فقال

الأنبياء والعلماء بعد معرفة ذلك: «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة».

ثمّ إنّ الإمام ومن أجل التمييز بين الدنيا الممدوحة والمذمومة ذكر في نهاية الحديث «وَالدُّنْيَا دُنْيَا بَلَاغٍ وَدُنْيَا مَلْعُونَة» «1».

7- ونقرأ في حديث آخر عن الإمام علي بن أبي طالب قوله «ارْفُضِ الدُّنْيَا فَانَّ حُبَّ الدُّنْيَا يُعمِي وَيُصِمُّ وَيُبْكِمُ وَيُذِلُّ الرِّقَابَ» «2».

ومن الطبيعي انه عندما يتجذر العشق لشي ء من الأشياء في وجود الإنسان فانه يجعله غافلًا عن أوضح الأشياء، فتراه يتمتع بعين ولكنه لا يرى الوقائع، وله اذن ولكنه لا يسمع، وله لسان ولكنه لا يتحرّك إلّابما يهيم في قلبه من العشق لذلك الشي ء، فتراه ومن أجل الوصول إلى محبوبه أي الدنيا فانه مستعد لأنّ يخضع إلى كلّ ذلة ومهانة.

8- وأيضاً نقرأ في الحديث الشريف بالنسبة إلى بيان الموارد السلبية لحبّ الدنيا قول أميرالمؤمنين عليه السلام في الحكمة من هذا الحكم الإلهي «حُبُّ الدُّنْيَا يُفْسِدُ الْعَقْلَ، وَيُصِمُّ الْقَلْبَ عَنْ سُمَاعِ الْحِكْمَةِ وَيُوجِبُ الِيمَ الْعِقَابِ» «3».

9- ونقرأ في حديث آخر في بيان الآثار الضارة والمفاسد الكثيرة لحبّ الدنيا ما ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «انَّ الدُّنْيَا مُشْغِلَةٌ لِلْقُلُوبِ وَالْابْدَانِ» «4».

10- ونختم هذه البحث بحديث شريف آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وهو: «انَّهُ مَا سَكَنَ حُبُّ الدُّنْيَا قَلْبَ عَبْدٍ الّا الْتَاطَ بِثَلَاثٍ: شُغْلٍ لَايُنْفَدُ عَنَاؤُهُ، وَفَقْرٌ لَايُدْرَكُ غِنَاهُ، وَأمَلٍ لَايَنَالُ مُنْتَهَاهُ» «5».

الدنيا المطلوبة والدنيا المذمومة:

قلنا كراراً أن المقصود من حبّ الدنيا في هذا البحث هو ما يساوي العشق للدنيا لا الاستفادة المعقولة من المواهب المادية والطبيعية للتوصل بها إلى الكمال المعنوي فإنّ ذلك ليس من حبّ الدنيا قطعاً بل من حبّ الآخرة، وبعبارة اخرى أنّ الكثير من البرامج المعنوية للسير

في خطّ التكامل الإنساني لا تتسنّى بدون الامكانات المادية، وفي الواقع أنّ هذه الامكانات المادية من قبيل مقدمة الواجب الّتي إذا أتى بها الإنسان بنيّة مقدمة الواجب، فمضافاً إلى أنّها لا تكون عيباً فإنّها تكون مشمولة بالثواب الإلهي أيضاً.

ولهذا السبب نجد في الآيات القرآنية الكثيرة تعبيرات ايجابية عن مواهب الدنيا، ومن ذلك:

ما ورد في آية الوصية من التعبير عن مال الدنيا به «خير» أي الخير المطلق حيث تقول الآية: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ اذَا حَضَرَ احَدَكُمُ الْمَوْتُ انْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْاقْرِبينَ بِالْمَعْرُوفِ» «1».

2- ويقول في مكان آخر «بركات السماء والأرض» عن مواهب الطبيعة الّتي فتحها اللَّه تعالى للمؤمنين وذلك في قوله تعالى: «وَلَوْ انَّ اهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْارْضِ ...» «2».

3- ونقرأ في مكان آخر التعبير عن المال والثروة بأنّها «فضل اللَّه» كما ورد في سورة الجمعة: «فَاذَا قُضِيَتِ الصَّلَوةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْارْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ...» «3».

4- وفي آية اخرى ورد أنّ كثرة الأموال والثروات بأنّها ثواب من اللَّه تعالى للتائبين كما ورد في قصة نوح: «يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً* وَيُمْدِدْكُمْ بِامْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ انْهَاراً» «4».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 100

وفي مكان آخر يقرر أنّ الأموال هي وسيلة للحياة ومحور للنشاطات الدنيوية للأقوام البشرية وتؤكد الآيات على عدم وضعها بيد السفهاء وتقول: «وَلَاتُؤْتُوا السُّفَهَاءَ امْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً» «1».

5- وفي مورد آخر يتحدّث القرآن الكريم عن وعد اللَّه تعالى للمجاهدين في سبيله بالغنائم الكثيرة ويعدها من أنواع الثواب الإلهي لهم ويقول: «وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ ...» «2».

6- وفي موضع آخر من الآيات القرآنية الكريمة يتحدّث القرآن عن النعم

المادية الدنيوية ويعبّر عنها ب (الطيبات) كما نقرأ في سورة الأعراف الآية 32 قوله تعالى: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي اخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ...».

وفي مورد آخر يقول: «وَاذْكُرُوا اذْ انْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْارْضِ تَخَافُونَ انْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَايَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» «3».

هذه التعبيرات العميقة وأمثالها من تعبيرات القرآن الكريم يُستفاد منها جيداً أنّ المواهب المادية والدنيوية في ظلّ ظروف خاصّة وأجواء متناسبة ليست فقط غير مطلوبة بل هي طيبة وطاهرة وباعثة على طيب البشر وطهارتهم.

7- ونقرأ في آيات اخرى عبارات تقرر أنّ الامكانات المادية مضافاً إلى انها من فضل اللَّه على الإنسان يمكنها أن تكون سبباً للصعود بالإنسان إلى مرتبة الصالحين كما ورد في الآية 75 من سورة التوبة: «وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ».

هذه الآية الشريفة وبالنظر إلى شأن نزولها كما ورد في التفاسير انها نزلت في أحد الأنصار يُدعى «ثعلبة بن حاطب» الّذي طلب من النبي صلى الله عليه و آله أن يدعو له بكثرة المال لينفق الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 101

منه في سبيل اللَّه وليكون من الصالحين ففي البداية لم يستجب النبي لطلبه لما يعرف من مزاجه وروحيته ولكن بعد إصراره دعا له النبي بذلك وكانت النتيجة معروفة، فهذه الآية توضح على أنّ الامكانات المادية يمكنها أن تكون وسيلة للصعود بالإنسان في مدارج الكمال المعنوي ونيل السعادة الحقيقية والوصول إلى مرتبة الصالحين والمقربين.

ومن مجموع العناوين السبعة الواردة بالآيات أعلاه يتضح جيداً أنّ النعم المادية والمواهب الدنيوية ليست مذمومة وقبيحة بالذات بل هي تابعة لكيفية استخدامها واستعمالها والطريقة الّتي يسلك بها الإنسان في الاستفادة منها، فلو انه استفاد

منها بصورة صحيحة لأضحت مطلوبة وجميلة ونقيّة وطاهرة، وفي غير هذه الصورة فهي ذميمة وسلبية ومضرّة.

والشاهد على هذا الكلام ما ورد في الروايات الكثيرة في كتاب وسائل الشيعة في باب (اسْتِحْبَابُ الاسِتعَانَةِ بِالدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ) «1».

وقد أورد المرحوم الشيخ الحر العاملي في هذا الباب إحدى عشر رواية كلّها شاهدة على انه يمكن الاستفادة من المواهب المادية والدنيوية في سبيل تحقيق السعادة الأُخروية ومن جملة ما أورده العاملي حديثاً عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «نِعْمَ الْعَوْنُ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ الْغِنَى» «2».

وفي حديث آخر في هذا الباب عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «غِناً يَحْجُزُكَ عَنِ الظُّلْمِ خَيْرٌ مِنْ فَقْرٍ يَحْمِلُكَ عَلَى الْاثْمِ»

وورد في حديث آخر عن أحد أصحاب الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال للإمام: واللَّه إنا لنطلب الدنيا ونحب أن نؤتاها، فقال عليه السلام: «تحبّ أن تصنع بها ماذا؟» قال: أعود بها على نفسي وعيالي، وأصل بها وأتصدق بها وأحجّ وأعتمر، فقال أبو عبداللَّه عليه السلام: «ليس هذا طلب الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 102

الدنيا، هذا طلب الآخرة» «1».

ونختم هذا البحث بكلام لأميرالمؤمنين في الخطبة 209 من نهج البلاغة حيث يقول عندما دخل مع جماعة لعيادة «العلاء بن زياد الحارثي» وهو من الشخصيات المعروفة في البصره ومن أصحاب الإمام حيث كان قد اشترى داراً وسيعة فقال له الإمام «مَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِسِعَةِ هَذِهِ الدَّارِ فِي الدُّنْيَا وَانْتَ الَيْهَا فِي الْآخِرَةِ كُنْتَ احْوَجُ».

ثمّ إنّ الإمام أكمل كلامه بهذه العبارة «وَبَلَى انْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الْآخِرَةَ تُقْرِىَ فِيهَا الضَّيْفَ، وَتَصِلُ فِيهَا الرَّحِمَ، وَتُطْلِعُ مِنْهَا الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا، فَإذَا أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا الْآخِرَةَ» «2»

النتيجة: هي أنّ المواهب المادية والدنيوية متى ما أصبحت

وسيلة للوصول إلى الكمال المعنوي وبناء الآخرة ومساعدة الضعفاء وحماية المحرومين وترويج وتقوية دعائم الحقّ والعدالة فليس هناك أفضل منها، وإذا سلك بها الإنسان في مسير الذنوب والحرص والتكاثر بدون ملاحظة الحلال والحرام فليس هناك شي ء أسوء منها، أجل فمثل هؤلاء الناس من أتباع الدنيا الّذين يتحركون في استخدام هذه النعم والمواهب في طريق اشباع الغرائز المادية فإنّهم يجمعون في واقعهم النفساني مجموعة من الصفات الرذيلة والرغبات القبيحة والدنيئة.

ويروي أحد أصحاب الإمام علي بن موسى الرضا ويُدعى محمّد بن إسماعيل بن بزيغ حيث يقول: سمعت من الإمام الرضا أنّه قال: «لَا يَجْتَمِعُ الْمَالُ الّا بِخِصَالٍ خَمْسٍ بِبُخْلٍ شَدِيدٍ وَامَلٍ طَوِيلٍ وَحِرْصٍ غالبٍ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَايثَارِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ» «3».

الحسد

تنويه:

إن أحد الرذائل الأخلاقية الاخرى الّتي اقترنت مع نتائج سلبية كبيرة في حياة الفرد والمجتمع هي صفة (الحسد) ويعني كما ذكر علماء الأخلاق (الحزن على رؤية النعمة لدى الآخرين وتمني زوالها بل السعي في طريق رفعها عن الطرف الآخر).

إن الحسد يملأ أجواء الروح الإنسانية بالظلمة ويشوّه معالم النفس ويثير في المجتمع البشري عدم الأمن والقلق والتوتر الناشي ء من حالات الصراع النفسي بسبب دوافع الحسد.

إنّ الحسود ليس له راحة في الدنيا ولا يتنعم في الآخرة، وبما أنّ سعيه في حركة الحياة هو إزالة آثار النعمة عن الطرف المحسود فسوف يتلوث بأنواع الجرائم النفسية والعملية ومن بين ذلك: الكذب، الغيبة، ارتكاب أنواع الظلم والعدوان بل قد يؤدي به الأمر في حالات الحسد الشديدة إلى القتل وسفك الدماء أيضاً.

وفي الحقيقة يمكن القول إن الحسد هو أحد الجذور الأصلية لجميع أنواع الفساد والسيّئات ومن أشنع فخاخ الشيطان وأخطر شراكه وهو المصيدة الّتي وقع فيها الإنسان الأوّل المتمثل بابن آدم (قابيل)

حيث تلوثت يده بدم أخيه (هابيل) بدافع من الحسد، ولهذا

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 104

السبب نجد في الروايات الإسلامية والمفاهيم الدينية أنّ الحسد يُعد أحد الاصول الثلاثة للكفر أي (التكبر، الحرص، الحسد).

إنّ الشخص الحسود في الواقع يعترض على حكمة اللَّه تعالى، ولهذا السبب فالحسد نوع من الكفر والشرك الخفي.

والنقطة المقابلة للحسد هو (حب الخير) للآخرين، أي أن يحب الإنسان أن يرى نعمة اللَّه تصيب الآخرين من أفراد المجتمع ويلتذ بذلك ويسعى لحفظها ويرى أنّ سعادته مقرونة بسعادة الآخرين ومصالحه في خط واحد مع مصالح الآخرين ومنافعهم.

وبهذه الإشارة نعود إلى آيات القرآن الكريم لنقرأ في أجوائها معطيات هذه المسألة:

1- «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَىْ آدَمَ بِالْحَقّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْأَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ ا لْمُتَّقِينَ* لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَآأَ نَا بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ ا لْعلَمِينَ* إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوأَ بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَا لِكَ جَزَا ؤُاْ ا لْظلِمِينَ* فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ ا لْخَاسِرِينَ» «1».

2- «إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا ابَتِ إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سجِدِينَ* قَالَ يَابُنَىَّ لَاتَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ». «2»

3- «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآءَاتَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ ا لْكِتَابَ وَا لْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيًما»»

.4- «وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ا لْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مّن بَعْدِ مَاتَبَيَّنَ لَهُمُ ا لْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ» «4».

الاخلاق فى القرآن، ج 2،

ص: 105

5- «وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ» «1»

6- «وَالَّذِينَ جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَا نِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلًاّ لّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ» «2»

7- «وَنَزَعْنَا مَافِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَا نًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ» «3».

تفسير واستنتاج:

نار الحسد المحرقة

«الطائفة الاولى من الآيات محل البحث تتحدّث عن قصة ابني آدم وأنّ أحدهما قد ملكه الحسد على الآخر بحيث أدّى به إلى أن يقتل أخاه، وبذلك وقعت أوّل جريمة قتل على الأرض وكانت في الحقيقة بداية للجرائم البشرية الاخرى.

تقول الآية الكريمة «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَىْ آدَمَ بِالْحَقّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْأَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ ا لْمُتَّقِينَ» «4».

أي انني لم أقصد أن اسي ء إليك لتصمّم على قتلي فإنّ مشكلتك هي من باطنك لأنّ عملك غير خالص ولم يقترب بالتقوى، ولذلك لم يتقبل اللَّه منك لأن اللَّه تعالى لا يتقبل إلّا ما كان طاهراً نقياً.

ثمّ تقول الآية «لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَآأَ نَا بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ ا لْعلَمِينَ» «5».

ثمّ إن قابيل وبسبب نار الحقد والحسد المتأججة في قلبه صمّم على قتل أخيه هابيل وتمزيق أواصر الاخوّة بينهما بحيث إنّ الحقد والحسد حجبا عن عينه كلّ القيم الأخلاقية

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 106

والمثل الإنسانية وارتكب تلك الجناية الشنيعة كما تقول الآية «فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ ا لْخَاسِرِينَ» «1».

أجل لقد أصبح من الخاسرين في الدنيا والآخرة، فقد خسر اخوه وخسر نعمة الأمن والاستقرار النفسي والهدوء الروحي، لأن القاتل لو بقيت له ذرة من الوجدان فسوف يعيش عذاب الوجدان باستمرار ولا يجد طعم الهدوء والراحة

في الدنيا، وكذلك حاله في الآخرة حيث يستقر في جهنم وبئس المصير.

وقد ورد في الروايات انه قتل أخاه وهو نائم «2»، وتُعد هذه جناية مضاعفة تدلّ على أنّ الحسد إذا ما استعر في قلب الإنسان فسوف يحول كلّ نعيم إلى رماد تذروه الرياح.

ولكنّ قابيل ندم بسرعة على فعلته الشنيعة وملكهُ الحزن العميق، وكلّما نظر إلى جسد أخيه الدامي سرت في نفسه قشعريرة وتملكه الخوف والقلق، فما كان منه إلّاأن حمل جسد أخيه ولم يعلم ما يصنع به واين يذهب به بحيث يغطي على آثار جنايته؟ مضافاً إلى أنّ هذا المنظر الموحش يقلقه ويزعجه فلم يكن يدري ما يصنع في هذه اللحظة، وعلى رغم جنايته العظيمة وذنبه الكبير فإنّ لطف اللَّه قد شمله كما تقول الآية «فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِى الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَا رِى سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا ا لْغُرَابِ فَأُوَا رِىَ سَوْءَةَ أَخِى فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ» «3».

وقد جاء في بعض الروايات أنّ قابيل رأى أمام عينه غرابين يتقاتلان فقتل أحدهما الآخر ثمّ حفر له حفرة في الأرض ودفن فيها جسد الغراب المقتول.

وقال بعض إن غراباً جاء بجسد غراب ميت ودفنه، وقيل أيضاً أنّ قابيل رأى غراباً يدفن بعض المواد الغذائية ليحفظها كما هو ديدن الغربان فتعلم من ذلك دفن الموتى «4».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 107

وعلى أيّة حال فقد ندم قابيل بشدة ولكن ندمه لم يكن مستقراً ومن موقع التوبة والانابة إلى اللَّه تعالى حتّى يكون من شأنه تطهيره من الذنوب.

وهنا يطرح سؤالان، الأوّل: ما المقصود من «القربان» في قوله تعالى «إذ قرّبا قرباناً»؟ والآخر: هو انه من اين عَلِما أنّ اللَّه تعالى تقبل قربان هابيل ولم يتقبل

قربان قابيل؟

ولم يرد في القرآن الكريم ما يشير إلى جواب عن هذين السؤالين، واما الروايات فهي مختلفة على مستوى السند أو المتن والدلالة، ولكن ما يتطابق مع المنطق والعقل ويتلائم مع القرائن الموجودة هو ما ورد في الرواية عن سليمان بن خالد قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام جعلت فداك إن الناس يزعمون أنّ آدم زوج ابنته من ابنه؟ فقال أبو عبداللَّه عليه السلام: «قد قال الناس في ذلك ولكن يا سليمان أما علمت أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: لو علمت أنّ آدم زوج ابنته من ابنه لزوجت زينب من القاسم، وما كنت لارغب عن دين آدم. فقلت جعلت فداك إنهم يزعمون أنّ قابيل إنما قتل هابيل لأنهما تغايرا على اختهما، فقال له:

يا سليمان تقول هذا! أما تستحيي أنّ تروي هذا على نبي اللَّه آدم؟ فقلت: جعلت فداك فبم قتل قابيل هابيل؟ فقال: في الوصية ثم قال لي: يا سليمان أنّ اللَّه تبارك وتعالى أوحى إلى آدم أن يدفع الوصية واسم اللَّه الأعظم إلى هابيل، وكان قابيل أكبر منه، فبلغ ذلك قابيل، فغضب فقال: أنا أولى بالكرامة والوصية. فأمرهما أن يقربا قرباناً بوحي من اللَّه إليه، ففعلا فقبل اللَّه قربان هابيل فحسده قابيل فقتله» «1».

وعلى أيّة حال فإنّ قابيل وجد نفسه في مفترق طريقين لإنهاء حالة القلق والإضطراب الّتي يعيش فيها: أحدهما التوبة إلى اللَّه تعالى والسعي لجبران ما صدر منه من الاثم بالعمل الصالح والخالص والتحرك في خط التقوى والاستقامة والانفتاح على اللَّه (وهو العمل الّذي يسمّيه علماء الأخلاق ب «الغبطة» وهي حالة ممدوحة وبناءة) ولكن قابيل اختار الطريق الآخر، أي السعي لإزالة النعمة من أخيه، وبذلك أوقع نفسه في

أسوء طريق وانتخب أشنع وسيلة بذلك وتلوثت يده بدم أخيه البري ء ليطفى ء نار الحسد في قلبه.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 108

إذا تسبب «تكبر» إبليس لأن يقع طريد رحمة اللَّه إلى الأبد، وتسبب «الحرص» في أن يحرم آدم من الجنّة، فإنّ «الحسد» قد جعل قابيل ملعوناً ومطروداً من رحمة اللَّه إلى الأبد بسبب قتله لأخيه، وكلّ قتل يقع في الدنيا فإنّ قابيل له سهم من تلك الجناية باعتباره المؤسس لها.

فالتاريخ البشري ملي ء بالجنايات والفجائع المختلفة الّتي تنطلق بدافع من (الحسد).

«الطائفة الثانية» من الآيات الكريمة التي تحدثت عن جانب آخر من هذه الصفة الذميمة في حالات الإنسان وهي «الحسد» وآثارها المدمرة في حياة الفرد والمجتمع، وتستعرض في ذلك قصة النبي يوسف واخوته.

«النبي يوسف» لم يكن صاحب الجمال في وجهه وملامحه البدنية فحسب بل كان يتمتع بمنتهى الجمال في أخلاقه وسيرته الحميدة، وهذا الأمر هو الّذي اخبر عن مستقبله العظيم كما توقع له أبوه يعقوب وأحبه ذلك الحبّ الشديد، وكان هو السبب في غرس عامل (الحسد) في قلوب أخوته الّذين كانوا أكبر منه سناً.

وهذا الموضوع تجلّى بوضوح عندما حكى يوسف لأبيه حلماً كان قد رآه حيث تقول الآية: «إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا ابَتِ إِنّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سجِدِينَ» «1».

وكان النبي يعقوب يعلم أنّ مثل هذه الرؤيا ليست رؤيا عادية ومن افرازات الخيال للأطفال بل هي علامة على مستقبل مشرق ينتظر ابنه يوسف فقال له كما تتحدث الآية:

«قَالَ يَابُنَىَّ لَاتَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ» «2».

ولكن هل أنّ اخوة يوسف علموا بمضمون رؤيا يوسف العجيبة الّتي تتحدّث عن الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 109

مستقبله الزاهر أم لا؟

لا

نعلم بذلك على وجه الدقة، ولو أنّهم كانوا قد علموا بذلك لكانت هذه بمثابة البذرة الثانية لحالة (الحسد) الّتي اعتمرت قلوبهم، ولكن على أيّة حال فإنّ الأب كان يعلم انه إذا علم الاخوة بمضمون هذه الرؤيا العجيبة فانهم سوف يتحركون ضد أخيهم يوسف من موقع العداوة والخصومة، ولهذا أصرّ عليه بكتمان هذا الخبر عنهم.

وجاء في بعض الروايات أنّ يعقوب ومن فرط فرحه وسروره بهذه الرؤيا قد أخبر زوجته بذلك على أساس انها تكتم الخبر، ولكن بما أنّ السر إذا تجاوز الاثنين فشا، فإنّ هذه الحكاية انتشرت وعلم بها اخوة يوسف، وجاء في رواية اخرى أنّ يوسف لم يستطع كتمان خبر هذه الرؤيا، (فتصوّر أن نهي أبيه هو نهي ارشادي لا نهي تحريمي) فعندما علم اخوته بخبر الرؤيا قالوا أنّ يوسف يطمح أن يكون ملكاً «1».

ولكن إذا لم يعلم الاخوة بخبر الرؤيا فانهم على الأقل كانوا يرون تعامل أبيهم مع يوسف وسلوكه الّذي ينبى ء عن عظيم حبّه له وخاصة انه كان بقية امّه راحيل الّتي ماتت وهو في طفولته.

القرآن الكريم يقول في هذا الصدد «إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ» «2».

وبهذه الصورة اصدروا حكمهم بضلالة أبيهم، وبعد ذلك صمّموا على رفع هذا المانع الكبير، أي يوسف، من طريقهم ليبقى لهم حبّ أبيهم ومودّته، وضمن البحث في (جلسة شيطانية) قرروا ما يلي «اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ» «3».

وكما نعلم انه لم يتم لهم قتل أخيهم يوسف بل قد توسّط أحد الاخوة في ذلك وتم القرار

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 110

بإبعاده إلى أرض بعيدة ومنطقة نائية، وبالرغم من أنّ هذا

النفي والتبعيد ليوسف قد سبّب الحزن الشديد لأبيه يعقوب بحيث ابيضّت عيناه من الحزن وصار بصيراً من كثرة البكاء، ولكن هذا العمل وعلى خلاف توقع الاخوة اصبح مقدمة لينال يوسف مقام القدرة والسلطنة على بلاد مصر الّتي كانت تعتبر من أعظم البلدان في ذلك الزمان وكذلك لم يحظوا بحبّ أبيهم أيضاً.

أجل فإنّ الامواج الخطيرة للحسد قوية وعظيمة إلى درجة أنّها دفعت الاخوة إلى قتل أخيهم وتسبّبت في أن يحملوا أوزاراً كبيرة اخرى منها الكذب وكتمان الجريمة ونسبت أبيهم إلى الضلالة واهانة نبي من الأنبياء وأمثال ذلك.

«الآية الثالثة» تشير إلى قصة اليهود وتتحدث عن سلوكياتهم الذميمة، ونعلم أنّ طائفة عظيمة من بني إسرائيل قد قرأوا علامات النبي في آخر الزمان ومنطقة ظهوره، فرحلوا من (الشامات) إلى (المدينة) ليحظوا بصحبة ذلك النبي ويؤمنوا به، ولذلك كانوا ينتظرونه دائماً.

ولكن بعد ظهور هذا النبي فإنّ الكثير منهم لم يبقوا على تعهدهم والتزامهم المسبق بحمايته ونصرته والإيمان به، بل أصبحوا في صف المخالفين له والمحاربين لدعوته، والسبب الأهم في ذلك هو عنصر «الحسد» والآخر هو ماتوهموا من وقوع منافعهم ومصالحهم في الخطر.

القرآن الكريم يتحدّث لنا عن هذه الحالة لليهود فيقول «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآءَاتَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ ا لْكِتَابَ وَا لْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيًما» «1».

أجل فإنّ المشيئة الإلهية قد تعلقت في أن يملك آل إبراهيم والّذين كان اليهود من ذريتهم وأن تكون لهم النبوة والعلم، ولكن المشيئة الإلهية قررت في زمان لاحق أن تتعلق النبوة والعلم بمحمّد وآله الكرام وكلّ ذلك وفقاً للمصالح الّتي تتعلق بها المشيئة الإلهية، فهل أنّ اليهود كانوا يقبلون أن يحسدهم الناس على ما آتاهم اللَّه من فضله في الزمان السالف؟

الاخلاق

فى القرآن، ج 2، ص: 111

إذن فلماذا استعرت في قلوبهم نيران الحسد عندما يرون أنّ نعمة اللَّه قد صارت من نصيب آخرين وبذلك تحركوا في خط الباطل.

«الآية الرابعة» تتحدّث عن طائفة من أهل الكتاب الّذين يتعاملون مع المسلمين من موقع الحسد، والظاهر انها ناظرة إلى اليهود وتقول «وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ ا لْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مّن بَعْدِ مَاتَبَيَّنَ لَهُمُ ا لْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِىَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَىْ ءٍ قَدِيرٌ» «1».

إن الحسد قد يصل بالإنسان إلى درجة أن لا ينحصر تأثيره في الامور المادية مورد التنازع بين الناس عادة فحسب بل قد يتجاوز ذلك إلى الامور المعنوية الّتي لا تتزاحم بطبعها في تواجدها بين أفراد البشر كافة بخلاف حال الامور المادية الّتي تتزاحم بالذات بين الأفراد، وهؤلاء يحسدون المؤمنين من موقع العناد والاصرار ويسحقون على سعادتهم ويديرون ظهورهم للحقّ بسبب امور موهومة، ونفس هذا الحسد يتسبّب أن يضعف في الآخرين أيضاً الدافع لسلوك طريق السعادة والتحرّك في خط الإيمان والتقوى، وهذا من عجائب الحسد.

وقد ذكر الكثير من المفسّرين أنّ جملة «حَسَداً مِنْ عِنْدِ انْفُسِهِمْ» إشارة إلى أنّ العامل لهذه الحالة في نفوسهم هو عنصر الحسد المتجذر في باطنهم والّذي يتفرع من جهلهم وعدم اطلاعهم على حقائق الامور بل حتّى بعد اطلاعهم على الحقيقة يسلكون هذا المسلك المنحرف كما تقول الآية بعد ذلك «مّن بَعْدِ مَاتَبَيَّنَ لَهُمُ ا لْحَقُّ».

ولكنّ القرآن الكريم يخاطب المسلمين من موقع الأمر إلى أن يتركوا هؤلاء الحسّاد لحالهم (لأن نار الحسد المستعرة في قلوبهم هي أفضل جزاء لهم) ولكن لا يتصوروا أنّ هذا العفو والصفح من قِبل المسلمين يستمر إلى ما لا

نهاية وأنّهم أحرار في سلوك أيّ عدوان واضرار بالآخرين، كلّا.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 112

إنّ الزمان سوف يُثبت على انّ العذاب الإلهي سوف يُحيط بهؤلاء المنحرفين والظالمين إما في الدنيا بواسطة جيش الحقّ فيعذبهم اللَّه ويريهم جزاء مؤامراتهم الخبيثة وممارساتهم المنحرفة تجاه أصحاب الحقّ، أو يذيقهم العذاب في الآخرة.

وعلى أيّة حال فهذه الآية تشير إلى أنّ المسلمين الّذين اعتنقوا الإسلام حديثاً عليهم أن لا يستسلموا لوساوس اليهود وغيرهم من المنحرفين وقوى الضلال لأنهم ينطلقون في تعاملهم مع المسلمين من موقع الحسد ولا يريدون سعادتهم بل يتألمون لما يروا من سعادة المسلمين في ظلّ التقوى والإيمان.

«الآية الخامسة» وهي الآية الخامسة من سورة الفلق تشير إلى شرّ الحاسدين وتخاطب النبي بأن يتعوذ باللَّه تعالى من شرّ كلّ حاسد وتقول «وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ» «1».

وفي بداية هذه السورة تخاطب النبي بالقول «قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ ا لْفَلَقِ* مِن شَرّ مَا خَلَقَ».

ثمّ تقسم المخلوقات الشريرة إلى ثلاثة أقسام وتقرر أنّ أساس الشرّ والعامل الأصلي له في العالم هي هذه الامور الثلاثة:

الأوّل: المخلوقات الشريرة الّتي تستغل ظلمة الليل وتهجم على الإنسان في حال نومه ويقظته، والتعبير بكلمة (غاسق) (ويعني الموجود الشرير الّذي يهجم في الليل) وذلك لأن الحيوانات الوحشية والحشرات المؤذية تخرج ليلًا من آجامها وجحورها بل إنّ الأشخاص من أهل الشرّ والخبث والدنائة يستغلّون ظلمة الليل غالباً للوصول إلى مقاصدهم الشريرة.

ولكن الظلام هنا يمكن أن يكون له معنىً واسع بحيث يشمل كلّ أنواع الجهل والغفلة والمؤامرات الخبيثة وأمثال ذلك لأن قطّاع طريق الحقّ يستغلون جهل الناس عادة ويهجمون على المؤمنين واصفياء القلوب من موقع التآمر عليهم.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 113

ثمّ تشير السورة إلى الأشرار الّذين ينفخون في العقد،

وهو تعبير يشير إلى النساء اللواتي يسلكن طريق الإنحراف كما هو حال الساحرات الّذين يقرأن بعض الأوراد والتماتم في حال عملية السحر ثمّ ينفخن في العُقد ويقرأن على البسطاء والسذّج من الناس مطالب وكلمات غير مفهومة، وبهذه الوساوس يسعين إلى ايجاد عنصر الخذلان في إرادتهم ويجرّونهم إلى حال الترديد والتشكيك، فعندما تضعف الإرادة في الإنسان يتسنّى حينئذٍ لجيش الشيطان أن يهجم ويتسلط عليه.

ثمّ تشير الآيات إلى الطائفة الثالثة والأخيرة من طوائف الشرّ وتقول «وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ».

وهنا يتضح أنّ أحد عوامل التخريب والفساد في العالم هو عامل الحسد والتخريب الّذي ينشأ من فعل الحسّاد، وعليه فالآية في حديثها عن المنابع الثلاثة للشرّ والفساد (وهي: المهاجمون في ظلمة الليل، والموسوسون الّذين يتحركون من خلال الإعلام لهدف تضعيف عقائد الناس وايمانهم وايجاد الخلل في العلاقات الاجتماعية، والحاسدون الّذين يتحركون بين الناس من موقع التخريب) فهذه الآيات شاهد ناطق على المراد أي الأضرار الوخيمة للحسد.

أمّا ما ورد في الآية من هذه السورة من الصفة الإلهية (بِرَبِّ الْفَلَقِ) يمكن أن يكون إشارة إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ هذه الطوائف الشريرة الثلاثة تستغل دائماً الظلمة والجهل والاختلاف والكفر، فلو أنّ هذه الظلمات تبدّلت إلى نور العلم والاتحاد والايمان فإنّ قوى الانحراف هذه سوف لا تستطيع أن تعمل شيئاً.

«الآية السادسة» من الآيات مورد البحث بعد أن مدحت الأنصار مدحاً بليغاً (وهم الّذين دعوا نبي الإسلام إلى يثرب ونصروه واستقبلوه أحسن استقبال وجعلوا جميع ما لديهم من امكانات تحت اختياره) تحدّثت عن (التابعين) وهم الّذين جاءوا بعد المهاجرين والأنصار والتزموا خطّ الايمان واعتنقوا الإسلام واستمروا في خط الايمان، تقول الآية «وَالَّذِينَ الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 114

جَآءُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا

اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَا نِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلًاّ لّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ» «1».

وعلى هذا الأساس يقول هؤلاء بعد طلبهم المغفرة لهم ولمن تقدّمهم في الإيمان (المهاجرين والأنصار) حيث يطلبون من اللَّه تعالى أن يُزيل أي شكل من أشكال (الغِل والحقد والحسد) في قلوبهم بالنسبة إلى المؤمنين، لأنهم يعلمون انّه مادامت هذه الامور تعيش في قلب الإنسان فإنّ روابط المحبّة والاخوّة والإتحاد لا يمكن أن تؤثر أثراً وبالتالي لا ينال الفرد التوفيق في حركته الدينية والاجتماعية.

كلمة (غِل) المأخوذة من مادّة (غلل) وكما يقول الراغب في كتابه (المفردات) هي في الأصل بمعنى الشي ء الخفي الّذي ينفذ تدريجياً وبخفاء، ولهذا يُقال للماء الجاري (غلل) لأنّه ينفذ إلى الأشجار تدريجياً.

ثمّ استُعمل الغلول في (الخيانة) لأنها تنفذ بخفاء وتدرّج، وكذلك استُعملت في (الحقد والحسد) حيث ينفذان إلى القلب بشكل خفي وتدريجي.

وجاء في (لسان العرب) أنّ الحسد نوع من (الغلّ) كما أنّ من مصاديقه هو الحقد والعداوة أيضاً.

والكثير من المفسّرين يرون في تفسير الغِل بمعنى الحسد كالفخر الرازي في (التفسير الكبير) والمراغي في تفسيره والقرطبي في (الجامع لأحكام القرآن) في ذيل هذه الآية محل البحث.

«الآية السابعة» والأخيرة من الآيات مورد البحث تتحدّث عن صفات أهل الجنّة وتقول بعد تصريحها باستقبال الملائكة لهم في القيامة ودعائهم لهم بالسلامة والأمن «وَنَزَعْنَا مَافِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَا نًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ» «2».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 115

أجل فإنّ أهل الجنّة طاهرون من كلّ أشكال الحسد والحقد والعداوة الّتي يتصف بها أهل النار، وإذا رأينا أنّهم يعيشون حالة الأخوة والسلامة والأمن في الجنّة فإنما هو بسبب زوال هذه الامور السلبيّة من وجودهم وقلوبهم (وذلك بلطف اللَّه وببركة أعمالهم الصالحة

في الدنيا).

ولا شكّ أنّ الناس في الدنيا لو عاشوا بحياة خالية من الحقد والعداوة والحسد في تفاعلهم الاجتماعي فيما بينهم لأضحت حياتهم الدنيوية كحياة أهل الجنّة حيث يعيشون الأمن والأمان والاخوة والصفاء أيضاً.

النتيجة:

ومن مجموع ما تقدّم من الآيات المذكورة آنفاً تتضح الآثار السلبيّة الوخيمة لحالة الحسد في حركة الحياة الفردية والاجتماعية، ويتضح كذلك موقف القرآن السلبي والشديد من هذه الصفة الأخلاقية الذميمة، فالحسد هو الّذي تسبب في أن يقتل الإنسان أخاه وأن يُغمض عينه عن رؤية الحقّ ويُسدل على عقله حجاباً كثيفاً يمنعه عن رؤية الحقيقة ويُثير في أجواء المجتمع الظلمة، ويقطع أواصر المحبّة والود بين الأفراد، ويحوّل المجتمع البشري إلى جهنم محرقة تحرق المتلوثين بهذه الصفة الذميمة.

الحسد في الروايات الإسلامية:

ونقرأ في الروايات الإسلامية الذمّ الشديد لحالة الحسد بحيث قلّما نجد صفة من الصفات الرذيلة قد ورد ذمّها بهذه الشدّة في النصوص الدينية، وعلى سبيل المثال وكنماذج وعيّنات من ذلك نكتفي بإستعراض عدّة روايات تتحدّث حول هذا الموضوع:

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 116

1- ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «الْحَسَدُ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ» «1».

والتعبير أعلاه يشير إشارة واضحة إلى انّ نار الحسد يمكنها أن تأتي على جميع عناصر السعادة لدى الإنسان وتحرق حسناته وأتعابه طيله عمره وتهدر ثمرات اتعابه بحيث يخرج من الدنيا صفر اليدين.

2- وهذا المعنى ورد بصورة أشد في الحديث الشريف عن الإمام الباقر والصادق عليهما السلام حيث قالا: «انَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْايمانَ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ» «2».

أجل فإنّ الصفة الرذيلة للحسد لا تحرق الحسنات فقط بل تحرق الإيمان أيضاً وتبدّله إلى رماد، وسيأتي تفصيل الكلام في شرح هذا الحديث الشريف.

3- وفي حديث آخر عن الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «الْحَسَدُ شَرُّ الْامْرَاضِ» «3».

وطبقاً لهذا الحديث فإنه ليس هناك من الأمراض الأخلاقية أسوء وأشر من الحسد.

4- وقد ورد عن أميرالمؤمنين عليه السلام أيضاً قوله: «رَأْسُ

الرَّذَائِلِ الْحَسَدُ» «4».

5- وكذلك ورد عن هذا الإمام في تعبيره الكنائي عن الحسد «للَّهِ دَرُّ الْحَسَدِ مَا اعْدَلَهُ بَدَءَ بِصَاحِبِهِ فَقَتَلَهُ» «5».

6- وأيضاً ورد عن هذا الإمام قوله: «ثَمَرَةُ الْحَسَدِ شَقَاءُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة» «6».

7- وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «آفَةُ الدِّينِ الْحَسَدُ وَالْعُجْبُ وَالْفَخْرُ» «7».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 117

8- وعن الإمام الصادق عليه السلام أيضاً أنّه قال: عندما كان موسى بن عمران يناجي اللَّه عزّوجلّ إذ نظر إلى رجل في ظلّ العرش، فقال: «يَا رَبِّ مَنْ هَذَا الّذي قَدْ اظَلَّهُ عَرْشُك» «1»

فقال: «يَا مُوسَى هَذَا مِمَّنْ لَمْ يَحْسُدُ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ».

9- وفي حديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «سِتَّةٌ يَدْخُلُونَ النَّارَ قَبْلَ الْحِسَابِ بِسِتَّةٍ».

«قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ؟»

«قَالَ: الْامَرَاءُ بِالْجَوْرِ، وَالْعَرَبُ بِالْعَصَبِيَّةِ، وَالدَّهَاقِينُ بِالتَّكَبُّرِ، وَالتُّجَّارُ بِالْخِيَانَةِ، وَأَهْلُ الرُّسْتَاقِ بِالْجَهَالَةِ، وَالْعُلَمَاءُ بِالْحَسَدِ» «2».

وعليه فإنّ الحسد يمثل بلاء العلماء بالدرجة الاولى.

10- ونختم هذا البحث بحديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله (رغم وجود أحاديث كثيرة في هذا الباب) أنّه قال: «انَّهُ سَيُصِيبُ امَّتِي دَاءُ الْامَمِ! قَالُوا: وَمَاذَا دَاءُ الْامَمِ؟! قَالَ: الْاشَرُ وَالْبَطَرُ وَالتَّكَاثُرُ وَالتَّنَافُسُ فِي الدُّنْيَا، والتَّبَاعُدُ والتَّحَاسُدُ حَتَّى يَكُونَ الْبَغْيُ، ثُمَّ يَكُونُ الْهَرْجُ!» «3».

امور مهمة:

اشارة

بعد أن اتضح موقف القرآن الكريم والروايات الإسلامية من هذه الرذيلة الأخلاقية (الحسد) وعمق الفاجعة المترتبة عليه في حياة الإنسان والمجتمع البشري بقيت عدّة نقاط مهمّة في هذا البحث لابدّ من استعراضها لتتضح الأبعاد المختلفة لموضوع الحسد وهي عبارة عن:

1- معنى ومفهوم الحسد.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 118

2- دوافع الحسد.

3- علامات وآثار الحسد.

4- المعطيات الفردية والاجتماعية للحسد.

5- طرق الوقاية من الحسد وعلاجه.

1- مفهوم الحسد والغبطة

ذكر علماء الأخلاق في تعريف الحسد انه: تمني زوال النعمة عن الآخرين سواءاً وصلت هذه النعمة إلى الحاسد أم لا.

وعليه فإنّ عمل الحسود هو التخريب أو تمنّي التخريب وزوال آثار النعم والمواهب الإلهية عن الآخرين سواءاً انتقلت إليه تلك النعمة أم لا.

وعلى هذا الأساس فإنّ أشد أنواع الحسد هو أن يتمنّى الإنسان زوال النعمة عن الآخر ويتحرّك في هذا المسير أيضاً سواءً عن طريق ايجاد سوء الظن بالنسبة إلى المحسود، أو عن طريق ايجاد الموانع لعمله في حركة الحياة والمعيشة، وهذا النوع من الحسد يحكي عن خبث الباطن الشديد للحسود.

والمرتبة الأدنى منها هي أن يكون هدف الحاسد هو تحصيل تلك النعمة عن طريق سلبها من الآخرين، وبالرغم من انّ هذه الحالة هي من الرذائل الأخلاقية ولكنها ليست في الشدّة كما رأينا في المرتبة الاولى منها.

وهناك مرتبة أدنى من ذلك أيضاً حيث يتمنّى فيها الحاسد زوال النعمة عن الآخر بدون أن يتحرّك في هذا السبيل على مستوى الكلام أو الخطوات العملية الاخرى.

وهذه الحالة الذميمة إذا حصلت للإنسان بدون اختيار منه كما قد يحصل لدى الكثير، فلا يترتب عليها إثم، ولكن إذا كانت بمحض ارادته بحيث حصلت له بسبب بعض المقدمات الاختيارية وبإمكانه إزالة هذه المقدّمات، فبلاشك تُعتبر هذه من الرذائل الأخلاقية أيضاً ولكن هل

يترتب على ذلك إثم أم لا؟

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 119

وهنا تأمّل في هذا الموضوع ناشي ء من هذه الحقيقة، وهي هل أنّ الصفات الباطنية حتّى لو كانت اختيارية هي محرمة حتّى لو لم تظهر في عمل الإنسان وفعله، أو تُعتبر صفة أخلاقية تكشف عن انحطاط أخلاقي لذلك الشخص بدون أن تستتبعها حرمة في البين؟

وعلى أيّة حال فإنّ النقطة المقابلة للحسد هي (الغِبطة) وهي أن يتمنّى الإنسان أن تكون له نعمة مثلما للآخرين أو أكثر منها بدون أن يتمنّى زوال تلك النعمة عن الآخر.

ولكن البعض يرى انّ (الغبطة) نوع من الحسد أيضاً ويستشهد لذلك بحديث شريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أيضاً»

.ولكن من الواضح أنّ هذا المعنى ينسجم مع تفسيرنا للحسد بمفهومه الواسع بحيث يشمل كلّ مقارنة لما لدى الفرد من النعم مع ما لدى الآخرين منها، وهو في الواقع نزاع لفظي، والمعروف هو ما تقدّم آنفاً من تعريف الحسد.

وعلى أيّة حال فالحسد صفة ذميمة وقبيحة في دائرة الأخلاق، في حين انّ (الغِبطة) ليس فقط غير مذمومة، بل محمودة ومطلوبة أيضاً، وتعتبر سبباً لترقي المجتمع والصعود به في مدارج الكمال كما ذكر ذلك الطريحي في (مجمع البحرين) في مادّة (حَسَدَ).

ونقرأ في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام قوله «انَّ الْمُؤْمِنَ يَغْبُطُ وَلَا يَحْسُدُ، وَالْمُنَافِقُ يَحْسُدُ وَلَا يَغْبُطُ» «2».

2- دوافع الحسد

من المعلوم أنّ الكثير من الصفات الرذيلة تتناغم مع بعضها وبينها تأثير متقابل، والحسد أيضاً من هذه الصفات حيث ينشأ من صفات قبيحة اخرى، وهو بنفسه يُعد منبعاً ومصدراً لرذائل كثيرة أيضاً.

ويذكر علماء الأخلاق للحسد منابع كثيرة منها: العداوة والحقد بالنسبة إلى الآخرين الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 120

حيث يتسبّب في أن يتمنّى الإنسان زوال

النعمة عن الطرف الآخر الّذي يحمل له العداء ويبطن له الحقد.

والآخر هو الكِبر والغرور، ولهذا إذا رأى المتكبر غيره يتمتّع بنعم أكثر منه فإنه يتمنّى زوالها بل يسعى في إزالتها أيضاً لكي يُحرز تفوّقه على الآخرين.

الثالث: حبّ الرئاسة حيث يتسبّب في أن يتمنّى الإنسان زوال نعمة الآخرين لكي يستطيع بذلك من تحكيم سيطرته وحكومته عليهم، لأنّه إذا لم تكن قدرته وثروته وامكاناته الاخرى أكثر من الآخرين فإنه قد لا يستطيع أن يثبّت أركان حكومته عليهم.

الرابع من أسباب الحسد: الخوف من عدم الوصول إلى المقاصد الدنيوية، لأن الإنسان يتصور أحياناً أنّ النعم الإلهية محدودة فلو أنّ الآخرين حصلوا عليها فيمكن أن يُحرم منها أو لا يصل إليه منها إلّاالقليل.

الخامس: الاحساس بالحقارة والدونية، فالأشخاص الّذين لا يجدون في أنفسهم اللياقة للوصول إلى المقامات العليا وحيازة المراتب السامية فإنّ ذلك يتسبب في ابتلائهم بعقدة الحقارة الّتي تدفعهم إلى تمني زوال النعمة من الآخرين وأن لا ينال الآخرون مكانة اجتماعية مهمة ليكونوا معهم سواء.

السادس: من أسباب الحسد هو البخل وخبث الباطن لأن البخيل ليس فقط غير مستعد لأن يبذل ما في يده إلى الآخرين، بل يتألم عندما يرى نِعم اللَّه تعالى تصل إلى غيره، أجل فإنّ ضيق الافق ودنائة الطبع وخساسة النفس تقود الإنسان إلى أن يعيش الحسد في واقع النفس، وأحياناً تتوفر جميع هذه الأسباب والدوافع الستة للحسد لدى الفرد، وأحياناً اخرى اثنان أو ثلاثة منها، فتشتد خطورة الحسد بنفس النسبة.

ولكن الأهم من ذلك فإنّ الحسد يمكن أن يمتد بجذوره إلى عنصر العقيدة ومكامن الدين، فمن كان يؤمن باللَّه تعالى وقدرته ولطفه ورحمته وعدالته وحكمته، كيف يمكنه أن يجد في نفسه حالة الحسد للآخرين؟

إن الشخص الحسود يكاد يعترض

على اللَّه تعالى بلسان حاله وأنّه لماذا رزقت فلاناً

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 121

تلك النعمة؟ وأين العدالة؟ وأين الحكمة؟ ولماذا لا تعطيني مثله؟ بل قد يتصور نسبة العجز إلى اللَّه تعالى عندما يعطي غيره ولا يعطيه هو ولهذا يفضل أن تسلب تلك النعمة من ذلك الشخص وتصل إليه.

وعلى هذا الأساس فالحاسد في الحقيقة يعيش في حالة من اهتزاز دعائم الإيمان والتوحيد الأفعالي في واقعه الروحي، لأن الإنسان المؤمن بأصل التوحيد الأفعالي يعلم جيداً أن تقسيم النعم الإلهية على العباد لا يكون اعتباطياً، بل وفق ما تقتضيه الحكمة الإلهية، ويعلم كذلك أنّ اللَّه تعالى يملك القدرة في أن يرزقه أكثر وافضل من ذلك الشخص فيما لو كان يتمتع باللياقة لمثل هذه النعم والمواهب، إذن عليه أن يسعى لتحصيل القابلية واللياقة لذلك.

ولهذا نقرأ في الحديث القدسي حيث يخاطب اللَّه تعالى نبيه زكريا: «الْحَاسِدُ عَدُوٌّ لنِعْمَتِي، مُتَسَخِّطٌ لِقَضَائِي، غَيْر رَاضٍ لِقِسْمَتِيَ الَّتِي قَسَمْتُ بَيْنَ عِبَادي» «1».

وقد ورد شبيه هذا المضمون عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حيث قال: «إنّ اللَّه تعالى أوحى إلى موسى بن عمران: «لَا تَحْسُدَنَّ النَّاسُ عَلَى مَا آتَيْتُهُمْ مِنْ فَضْلِي، وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ الَى ذَلِكَ، وَلَا تَتَّبِعُهُ نَفْسَكَ، فَانَّ الْحَاسِدَ سَاخِطٌ لِنِعَمِي، ضَادٌّ لِقَسْمِيَ الّذي قَسَمْتُ بَيْنَ عِبَادي وَمَنْ يَكُ كَذَلِكَ فَلَسْتُ مِنْهُ وَلَيْسَ مِنّي!» «2».

والخلاصة أنّ الحسود لا يتمتع في الحقيقة بدعائم إيمانية وعقائدية راسخة وإلّا فإنه يعلم أنّ حسده ما هو إلّانوع من أنواع الإنحراف عن خط التوحيد وعن الحقّ.

ويقول الشاعر في هذا المجال:

الا قل لمن كان لي حاسداً اتدري على من اسأت الأدب؟!

اسأت على اللَّه في فعله إذا أنت لم ترض لي ما وهب! «3»

3- علامات الحسد

إنّ هذه الصفة الرذيلة

كسائر الصفات الأخلاقية الذميمة الاخرى تارة تكون صريحة واخرى خفية، ولهذا لابدّ من تتبّع كلمات علماء الأخلاق وعلماء النفس في استعراضهم لحالات الحسد وعلاماته أو ما استفدناه بالتجربة، فلابدّ من معرفة الحسد ووجوده في مراحله الأوّلية قبل أن يتجذّر في باطن الإنسان وتستحكم دعائمه ويصعب علاجه حينئذٍ.

ومن جملة العلائم الّتي ذُكرت للحسد امور:

1- أنّ الحاسد يحزن ويتألم عندما يسمع بنعمة تصيب الآخر حتّى لو لم تظهر آثار الحزن على محياه.

2- أحياناً يتجاوز هذه المرحلة وينطلق لسانه بالتعرض للطرف الآخر بذكر معايبه وانتقاده من موقع التنقيص والتسقيط.

3- وأحياناً يتجاوز هذه المرحلة أيضاً ويتحرّك في تعامله مع الآخر من موقع الخصومة والعداوة.

4- وأحياناً يكتفي هذا الشخص بإظهار عدم اهتمامه للطرف الآخر أو يقطع رابطته وعلاقته معه ويسعى إلى اجتنابه وعدم رؤيته وأن لا يسمع شيئاً عنه، فلو اتفق وأن دار الحديث عنه سعى لتغيير موضوع الحديث وقطع على القائل مقولته، وإذا اجبر يوماً على التحدّث عنه بأمر من الامور فإنه يسعى لإخفاء صفاته البارزة ونقاط قوّته أو اكتفى بالسكوت.

وكلّ واحدة من هذه الامور تدلّ على وجود حالة الحسد الخبيثة.

وفي الأحاديث الشريفة الواردة، من مصادر أهل بيت العصمة والطهارة اشارات واضحة على هذا المعنى، ومن ذلك ما ورد في كلام أميرالمؤمنين عليه السلام قوله «يَكْفِيكَ مِنَ الْحَاسِدِ انَّهُ يَغْتَمُّ فِي وَقْتِ سُرُورِكَ» «1».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 123

وبعكس ذلك عندما يواجه الطرف الآخر ضرراً أو يقع في مشكلة فإنّ الشخص الحسود سيفرح لذلك كما ورد في الآية 50 من سورة التوبة «انْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَانْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ اخَذْنَا امْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ».

وهناك آيات متعددة اخرى تشير إلى هذا التصرّف السلبي والسلوك الذميم من

قِبل الكفّار الّذين يواجهون ما أنعم اللَّه تعالى على المؤمنين من موقع الحسد والكراهية.

وقد وردت في الأحاديث الشريفة اشارات مكررة إلى هذه المسألة وأنّ الحاسد يفرح من زوال النعمة على المحسود ويغتم لما يصيبه من النعم، ومن ذلك ما ورد في الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «الْحَاسِدُ يَفْرَحُ بِالشُّرُورِ وَيَغْتَمُّ بِالسُّرُورِ» «1».

4- النتائج السلبية للحسد

إن الحسد يتميز بنتائج سلبية كثيرة على المستوى الفردي والاجتماعي والمادي والمعنوي في حركة حياة الإنسان، بحيث يقلّ نظيره من الصفات الأخلاقية السلبية الّتي تترتب عليها مثل هذه النتائج السلبية والأضرار الكثيرة، وأهمها:

الأوّل: إن الحسود يعيش الغم والهم دائماً، وهذا الأمر يتسبب في أن يبتلي بالأمراض الجسمية والنفسية. فكلّما ينال الطرف الآخر من التوفيق والنعمة أكثر فإنّ الحاسد يتألم لذلك أكثر حتّى قد يناله الأرق الشديد ويسلبه ذلك هدوئه واستقراره وبالتالي تضعف بنيته ويغدو نحيفاً مريضاً، في حين انه يتمتع بامكانات مادية جيّدة ولو انه أبعد هذه الصفة الرذيلة عن نفسه لأمكنه أن يعيش عيشة طيبّة ومرفّهة.

وقد ورد في الأحاديث الشريفة إشارة إلى هذه النكتة بالذات حيث حذّر الأئمّة المعصومين من هذه الحالة، ومن ذلك ما ورد في الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين عليه السلام قوله «اسْوَءُ النَّاسِ عَيْشاً الْحَسُود» «2».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 124

ونفس هذا المعنى ورد في حديث آخر عن هذا الإمام عليه السلام حيث قال: «لَا رَاحَةَ لِحَسُودٍ» «1».

ونجد هذا التعبير أيضاً في حديث آخر عنه عليه السلام «الْحَسَدُ شَرُّ الْامْرَاض» «2».

وجاء في تعبير آخر: «الْعَجَبُ لِغفلَةِ الْحُسَّادِ عَنْ سَلَامَةِ الْاجْسَادِ» «3».

ونختم هذا الكلام بحديث آخر عن هذا الإمام رغم وجود أحاديث كثيرة في هذا الباب حيث قال «الْحَسَدُ لَايَجْلِبُ الّا مَضَرَّةً وَغَيْظاً، يُوهِنُ قَلْبَكَ، وَيَمْرُضُ جِسْمَكَ»

«4».

والآخر: أنّ الأضرار المعنوية للحسد أكثر بمراتب من الأضرار المادية والبدنية للإنسان، لأن الحسد يأكل دعائم الإيمان ويمزق علاقة الإنسان مع ربّه بحيث يجعل الإنسان يُسي ء الظنّ باللَّه تعالى وحكمته، لأن الحسود في أعماق قلبه يعترض على اللَّه تعالى على ما وهب للآخرين من نعمه ورزقهم من فضله.

ونقرأ في الحديث المعروف عن أميرالمؤمنين عليه السلام قوله: «لَا تُحَاسِدُوا فَإنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْايمانَ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ» «5».

ونفس هذا المعنى ورد عن نبي الإسلام صلى الله عليه و آله أيضاً وعن حفيده الإمام الباقر عليه السلام كذلك.

وقد أورد المرحوم الكليني في الكافي حديثاً آخر عن الإمام الصادق عليه السلام حيث يقول:

«آفَةُ الدِّينِ الْحَسَدُ وَالْعُجْبُ وَالْفَخْرُ» «6».

وورد عن هذا الإمام أيضاً قوله «انَّ الْمُؤْمِنَ يَغْبِطُ وَلَا يَحْسُدُ، وَالْمُنَافِقُ يَحْسُدُ وَلَا يَغْبِطُ» «7»

. ويُستفاد جيداً من هذا الحديث أنّ الحسد يتقاطع مع روح الإيمان ويتناغم مع الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 125

النفاق في واقع الإنسان.

وقد سبق وإن ذكرنا في الأبحاث الماضية الحديث القدسي الشريف حيث خاطب اللَّه تعالى نبيه زكريا وقال: «الحاسد عدوّ لنعمتي، متسخّط لقضائي، غير راضٍ لقسمتي الّتي قسمت بين عبادي».

الثالث: من الآثار السلبيّة والنتائج المضرة للحسد هو انه يسدلّ على عقل الإنسان وبصيرته حجاباً سميكاً يمنعه من إدراك حقائق الامور ومعرفة الواقعيات، لأن الحسود لا يستطيع أن يرى نقاط القوّة في المحسود حتّى لو كان استاذاً كبيراً ومصلحاً اجتماعياً جليلًا بل انه يبحث دائماً عن نقاط ضعفه وعيوبه، وأحياناً يرى نقاط قوّته بمنظار نقاط ضعفه ويشاهد ايجابياته من موقع النظر السلبي، ولهذا السبب قال أميرالمؤمنين عليه السلام «الْحَسَدُ حَبْسُ الرُّوحِ» «1»

فإنّ الإنسان يحبس روحه في حالة الحسد عن إدراك حقائق الامور.

الرابع: من أضرار الحسد هو

انه يسلب الإنسان اصدقائه ورفاقه، لأن كلّ فرد من الأفراد يتمتع بنعمه أو نعم خاصّة قد لا تكون لدى الآخرين، فلو عاش الإنسان هذه الحالة الرذيلة وهي الحسد بالنسبة إلى ما يراه من نعمة على الآخرين فانه سيحسد جميع الناس، وهذا الأمر يتسبّب في أن يبتعد الناس عنه ويعمل على تمزيق روابط المحبة والمودة معهم.

والشاهد على هذا الكلام ما ورد عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «الْحَسُودُ لَاخُلَّةَ لَهُ» «2».

الخامس: من الآثار السيئة للحسد هي انّ الحسد يمنع الإنسان من الوصول إلى المقامات العالية والمراتب السامية في حركة التكامل الأخلاقي والمعنوي والاجتماعي، بحيث إنّ الشخص الحسود لا يستطيع أبداً أن يحصل على منصب خطير من المناصب والمقامات الاجتماعية، لأنّه بحسده هذا سيعمل على تفريق الآخرين وإبعادهم من حوله، والشخص الّذي تقوى فيه القوّة الدافعة لا ينال مرتبة عالية في الدائرة الاجتماعية.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 126

والشاهد على ذلك هو قول أميرالمؤمنين عليه السلام «الْحَسُودُ لَايَسُودُ» «1».

السادس: هو أنّ الحسد يؤدي إلى تلوث صاحبه بأنواع الذنوب الاخرى، لأن الحسود ولغرض الوصول إلى مقصده وهدفه أي إزالة النعمة عن الآخرين يستخدم كلّ الوسائل ويرتكب أنواع الظلم والعدوان من الغيبة والتهمة والكذب والنميمة وغيرها لتسقيط الطرف الآخر، وبذلك يفتح الحسد له أبواب السلوكيات الخاطئة والتحرّك في خط الظلم والباطل.

وهنا يوجد شاهد آخر على هذا الكلام وهو ما ورد عن أميرالمؤمنين عليه السلام «الْحَسُودُ كَثِيرُ الحَسَرَاتِ، وَمُتَضَاعَفُ السَيِّئَاتِ» «2».

السابع: إن من شقاء الحسود انه يضر بنفسه أكثر ممّا يضر الطرف الآخر لأنّه يعيش حالة من العذاب النفسي والروحي في حياته الدنيا بغض النظر عمّا يترتب على ذلك من العذاب الأخروي يوم القيامة.

وقد أشارت الأحاديث الإسلامية إلى هذه الحقيقة، فعن

الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:

«الْحَاسِدُ مُضِرٌّ بِنَفْسِهِ قَبْلَ انْ يَضُرَّ بِالْمحْسُودِ، كَابْلِيسِ اورِثَ بِحَسَدِهِ بِنَفْسِهِ اللَّعْنَةُ، وَلِآدَمَ الْاجْتِبَاءُ وَالْهُدَى» «3».

5- مراتب الحسد:

لقد ذكر علماء الأخلاق للحسد مراتب ومراحل مختلفة، ومن ذلك أنّ الحسد يمرّ بمرحلتين متميّزتين تماماً:

1- وجود الحسد في أعماق النفس بحيث يسيطر عليه الإنسان فلا يظهر في كلماته وأفعاله وسلوكياته.

2- وجود الحسد في أعماق النفس بحيث يخرج عن سيطرة الإنسان ويظهر في أقواله الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 127

وأفعاله من موقع السعي للانتقام من المحسود وإزالة النعمة الّتي عليه.

ويستفاد من بعض الروايات أنّ جميع الناس (أو غالبيتهم) يعيشون الحسد في نفوسهم، ولكن ما لم يظهر على أقوالهم وأفعالهم فإنه لا يترتب على ذلك إثم ومعصية.

ومن ذلك ما ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قوله: «ثَلَاثٌ لَايَنْجُو مِنْهُنَّ احَدٌ: الظَّنُّ، وَالطِّيَرَةُ، وَالْحَسَدُ، وَسَأُحَدِّثُكُمْ بِالْمَخْرَجِ مِنْ ذَلِكَ، اذَا ظَنَنْتَ فَلَا تُحَقِّق، وَاذَا تَطَيَّرْتَ فَامْضِ، وَاذَا حَسَدْتَ فَلَا تَبْغِ» «1».

وورد في حديث آخر قوله: «قَلّ مَنْ يَنْجُو مِنْهُنَّ» «2».

ويستفاد من هذا التعبير أنّ هذا الحكم ليس عاماً ولا يشمل الأنبياء والأولياء، لأنهم ما لم يطهر ظاهرهم وباطنهم من الحسد فإنّهم لا يصلوا إلى المقامات السامية ولا يصعدون في معارج الكمالات المعنوية، ولذلك ورد في تفسير الحديث الشريف الّذي يقول (إنّ الحسد لا يخلو منه أيّ إنسان حتّى الأنبياء) فقد فُسّر بعنوان (محسود) أيّ انّ الحسّاد يحسدون كلّ شخص حتّى الأنبياء الإلهيين فيحسدونهم على مقامهم العالي ومرتبتهم المعنوية السامية لدى اللَّه تعالى.

وعلى أيّة حال فلا شكّ في أنّ صفة الحسد هي من الرذائل الأخلاقية سواءً وصلت إلى مرحلة الظهور والبروز أم لا، والكلام هنا في انه هل يترتب على الحسد إثم وعقوبة فيما لو

لم يصل إلى مرحلة الظهور والبروز أم لا؟ والظاهر انه لا دليل على كون هذه الحالة من الإثم والذنب رغم انها من الصفات الذميمة.

ولكن المرحوم النراقي في (معراج السعادة) يقول: (إذا دفع الحسد صاحبه لأن يرتكب بعض الأفعال والأقوال الذميمة من قبيل الغيبة والشتم للطرف الآخر فإنه يرتكب بذلك إثماً، وكذلك إذا امتنع من إظهار مثل هذه السلوكيات وتجنّب الأفعال الّتي تدلّ على الحسد ولكنه كان طالباً في باطنه زوال نعمة المحسود وراغباً في ذلك ولم يشعر بالامتعاظ من الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 128

وجود هذه الحالة في نفسه ولم يغضب عليها فإنه مذنبٌ أيضاً) «1».

ولكن الظاهر انه لا دليل على حرمة القسم الثاني من حالات الحسد هذه.

وعليه فإنّ مرحلة عدم الظهور والبروز بدورها لها حالتين: الاولى الحالة الّتي لا يشعر الشخص فيها بالتأثر والانزعاج من وجود هذه الحالة في نفسه ولا يسعى لرفعها بل ينسجم معها أيضاً، والثانية: أن لا يكون كذلك. ولا يبعدُ أن يأثم الشخص في الحالة الاولى رغم عدم وجود الدليل القاطع على ذلك.

6- علاج الحسد:

رأينا في الأبحاث السابقة أنّ (الحسد) عبارة عن مرض أخلاقي خطير بحيث انه لو لم يتحرّك الإنسان لعلاجه فإنه سيتلف ويدمّر دينه ودنياه.

وعلاج هذا المرض الأخلاقي كسائر علاج الصفات الرذيلة الاخرى يقوم على دعامتين:

1- الطريق العلمي.

2- الطريق العملي.

امّا بالنسبة إلى الطريق (العلمي) فينبغي للشخص الحسود أن يتأمل جيداً في أمرين:

أحدهما النتائج السلبيّة والعواقب الضارة للحسد على المستوى الروحي والبدني، والآخر يتأمل في جذور ودوافع حصول هذه الحالة في النفس.

إن على الحاسد أن يرى نفسه كالشخص المعتاد على المخدرات والمدمن على الهيروئين، فعليه أن يتدبر في أمر هؤلاء المدمنين وكيف أنّهم فقدوا سلامتهم البدنية والنفسية وفقدوا حيثيّتهم الاجتماعية

واسرتهم وابناءهم، وكيف أنّهم يعيشون في أسوء الحالات النفسية ويموتون في سن الشباب ولا يحزن عليهم أيّ شخص لموتهم بل إنّ موتهم يتسبب في سعادة أسرتهم واصدقائهم، فكذلك يجب على الحسود أن يعلم انّ هذا

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 129

المرض الأخلاقي سوف يعمل على إهلاكه، فيأكل معنوياته ويُحرق نقاط قوته وصفاته الايجابية ويسلب منه راحته ونومه ويهيمن بسحابة من الحزن على قلبه وروحه، بل سيؤدي به إلى ما هو اشنع من ذلك حيث يكون طريد رحمة اللَّه ويكون مصيره مصير إبليس وقابيل، وبالتالي مع كلّ ذلك فسوف لن يصل إلى هدفه ومقصوده وهو زوال النعمة عن المحسود.

ولاشكّ أنّ التفكّر بهذه الآثار والعواقب السلبيّة ومشاهدة الحوادث ذات العبرة وقراءة الأحاديث الشريفة في هذا الباب، والّتي مرّت الإشارة إليها آنفاً، سيكون له تأثير ايجابي كبير في علاج هذا المرض الأخلاقي.

إن (الحسود) يجب أن يعلم أنّه إذا كانت المواد المخدرة كالهيروئين تهدد سلامة الروح والجسم للشخص وتُسرع في أجله، فهو أيضاً يمرّ في هذه الحالة الذميمة ويورثه الحسد الأمراض الجسمية والنفسية ويخسر بذلك دنياه وآخرته، لانه يعترض عملًا على حكمة اللَّه تعالى، وبذلك يسقط في وادي الشرك والكفر، هذا من جهة.

ومن جهة اخرى عليه أن يتفكر في بواعث الحسد وجذوره ويسعى إلى قطعها وإزالتها، فلو كان من ذلك اختلاطه ومجالسته مع رفاق السوء وتأثّره بوساوسهم، فعليه أن يقطع الإرتباط معهم، وإذا كان الباعث لذلك حالة البخل وضيق النظر فعليه أن يسعى لعلاج هذه الحالة في نفسه، وإذا كان السبب هو ضعف الإيمان باللَّه وعدم معرفته بالتوحيد الأفعالي فعليه أن يتحرّك من موقع تقوية مباني الإيمان وتعميق أُسس التوحيد في قلبه، وإذا كان الباعث لذلك انه يعيش الجهل بطاقاته

وامكاناته الذاتية وبالتالي فإنه يعيش عقدة الحقارة والدونيّة الّتي من شأنها أن تفضي به إلى الحسد فعليه أن يسعى لعلاج ذلك في ظلّ التوكل على اللَّه تعالى والاعتماد على النفس والقضاء على عقدة الحقارة هذه، وبذلك سيتحرّك بعيداً عن حالة الحسد تجاه الآخرين.

والأفضل أن يسجّل الحسود خلاصة هذه الامور على صفحة أو صفحات ويحاول قراءتها كلّ يوم مرّة واحدة، بل يقرأها بصوت عالٍ عبارةً عبارة ويتفكّر في كلّ عبارة منها

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 130

ويمعن النظر خاصّة في الروايات الشريفة الواردة عن المعصومين عليهم السلام في هذا الباب والّتي سبقت الإشارة إلى جملة منها، ولا شكّ أنّ كلّ إنسان يعيش حالة الحسد في نفسه إذا تابع هذا السلوك والبرنامج بشكل جدّي فإنه سيرى آثاره الإيجابية في مدّة قصيرة، وستتخلص روحه وجسمه من شر الحسد تدريجياً، وتنفتح أمامه افق السلامة والسعادة في حركة الحياة والواقع.

وينبغي على الحسود خاصّة التفكير في هذه النقطة بالذات، وهي أنّه لو صرف وقته وطاقاته الّتي يهدرها بالحسد في ترميم شخصيته وتقوية بُنيته النفسية والاهتمام بموفقّيته وتكامله فإنه من المحتمل جدّاً أن يتساوى أو يتفوق على المحسود وينال بذلك الراحة والرضا.

وبتعبير آخر: يجب عليه أن يستبدل دوافع الحسد بدوافع الغبطة ويعمل على تبديل القوى المخربة إلى قوى بنّاءة في حركة الذات والشخصية.

وقد ورد هذا المضمون في الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين عليه السلام حيث قال: «احْتَرِسُوا مِنْ سُورَةِ البُخْل وَالْحِقْدِ وَالْغَضَبِ وَالْحَسَد وَاعِدُّوا لِكُلِّ شَيْ ءٍ مِنْ ذَلِكَ عِدَّةً تُجَاهِدُونَ بِهَا مِنَ الْفِكْرِ فِي الْعَاقِبَةِ وَمَنْعِ الرَّذِيلَةِ وَطَلَبِ الْفَضِيلَةِ» «1».

أمّا من الناحية (العملية) فتعلم أنّ تكرار العمل المعيّن يؤدي تدريجياً إلى صيرورته عادة في النفس، والاستمرار على العادة يبدّلها إلى ملكة وصفة باطنية، فلو

أنّ الحسود وبدلًا من سعيه إلى تسقيط اعتبار وشخصية الغير تحرّك على مستوى تقوية شخصيته هو، وبدلًا من التحدّث بالغيبة وذم الطرف الآخر يسعى إلى ذكر صفاته الإيجابية ومدحه أمام الآخرين، وبدلًا من السعي في تخريب حياة الطرف الآخر المادية يسعى إلى بذل المعونة والمساعدة له ويذكره بالخير ما أمكنه ذلك، أو يتحرّك من موقع المحبة والمودة تجاه ذلك الشخص ويريد له الخير والسعادة ويدعو له بالموفقية ويوصي الآخرين بذلك أيضاً، فمن المعلوم أنّ تكرار مثل هذه الأعمال والسلوكيات بإمكانه إزالة آثار الحسد من واقع النفس الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 131

والروح وتثبيت النقطه المقابلة لها وهي حالة (حبّ الخير للآخرين) فيعيش الإنسان في أجواء النور والصفاء والمعنويات الإنسانية.

علماء الأخلاق يوصون الشخص الجبان بأن يتحرّك لإزالة هذه الرذيلة الأخلاقية من نفسه من موقع التواجد في ميدان الخطر ليكتسب بذلك حالة الشجاعة ويحمّل نفسه هذه الصفه الإيجابية حتّى ترتفع من نفسه حالة الخوف والجُبن وتكون الشجاعة بصفة عادة وحالة في نفسه وبالتالي تكون ملكة.

فكذلك الحسود يجب عليه الاستفادة لعلاج هذه الحالة من ضدّها، فكلّ حالة معينة تُعالَج بضدّها.

وقد ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قوله «اذَا حَسَدْتَ فَلَا تَبْغِ» «1».

وفي حديث آخر عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «انَّ الْمُؤْمِنَ لَايَسْتَعْمِلُ حَسَدَهُ» «2».

ومن جملة الامور المؤثرة كثيراً في علاج الحسد هو أن يرضى العبد برضى اللَّه تعالى ويسلّم لمشيئته ويقنع من حياته بما أنعم اللَّه عليه، فقد ورد في الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين عليه السلام قوله «مَنْ رَضِىَ بِحَالِهِ لَمْ يَعْتَوِرَهُ الْحَسَد» «3».

7- النُصح وحبّ الخير للآخرين

النقطة المقابلة للحسد هي (النصح وحبّ الخير للآخرين) بمعنى أنّ الإنسان ليس فقط لا يحبّ زوال النعمة

من الآخر بل يطلب بقائها وزيادته عليه وعلى جميع الناس الأخيار والصالحين، أو بتعبير آخر: إنّ ما يحبّه لنفسه ويطلبه لذاته من السعادة والخير المعنوي والمادي يريده ويحبّه للآخرين، وهذه الصفة والحالة النفسية تعد من الفضائل الأخلاقية

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 132

المعروفة والّتي وردت الإشارة إليها في الآيات القرآنية والروايات الإسلامية.

إنّ الأنبياء كانوا ناصحين مشفقين على أقوامهم وكانوا يحبّون الخير لهم، وهذه الحالة تعتبر من صفاتهم البارزة كما يقول القرآن الكريم على لسان (نوح) شيخ الأنبياء: «ابَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَانْصَحُ لَكُمْ وَاعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَاتَعْلَمُونَ» «1».

فهنا نرى انه بعد مسألة إبلاغ الرسالة تتحدّث الآية الكريمة عن النُصح وحبّ الخير للُامّة وهي النقطة المقابلة للحسد والبخل والخيانة.

ونفس هذا المعنى مع تفاوت يسير ورد عن النبي هود عليه السلام حيث يقول: «أُبَلّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبّى وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ» «2».

وهذا المعنى ورد أيضاً عن النبي صالح (الأعراف الآية 79) والنبي شعيب (الأعراف الآية 93).

ومن البديهي أنّ حبّ الخير للآخرين لا ينحصر بهؤلاء الأنبياء الأربعة، بل يشمل جميع الأنبياء الإلهيين والأولياء المعصومين الّذين كانوا يتّصفون بهذه الصفة الإيجابية، وكذلك يجب على أتباعهم أيضاً أن يكونوا من محبي الخير للآخرين ويطهرون أنفسهم من الحسد والبخل.

وفي حديث شريف عميق المضمون ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال عن رجل من الأنصار انه من أهل الجنّة، وعندما تحقّقوا في سيرته وعمله فلم يروا انه كان كثير العبادة مثلًا، بل كان حينما يأخذ مضجعه في منامه يذكر اللَّه تعالى ثمّ ينام حتّى صلاة الصبح، فأثار فيهم حاله هذا التساؤل والاستغراب، فسألوا منه عن السبب في أنّه صار من أهل الجنّة فقال «مَاهُوَ الّا مَا تَرَوْنَ غَيْرَ انِّي لَااجِدُ

عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي نَفْسِي غِشّاً وَلَا حَسَداً عَلَى خَيْرٍ اعْطَاهُ اللَّهُ ايَّاهُ» «3».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 133

وفي حديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «انَّ اعْظَمَ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ امْشَاهُمْ فِي ارْضِهِ بِالنَّصِيحَةِ لِخَلْقِهِ» «1».

وفي رواية اخرى وردت عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أيضاً ذكر فيها المعيار لحبّ الخير للناس وأنّه أن يرى منافع الآخرين كمنافع نفسه ويدافع عنها كما يدافع عن منافعه حيث قال «لَيَنْصَحُ الرَّجُلُ مِنْكُمْ اخَاهُ كَنَصِيحَتِهِ لِنَفْسِهِ» «2».

ويقول الراغب في كتابه (مفردات القرآن): النصح، تحرّي فعل أو قول فيه صلاح صاحبه، وهو من قولهم نصحت له الودّ، أي أخلصته، وناصح العسل أي خالصه أو من قولهم: نصحت الجلد خطته، والناصح يقال للخياط. (لأنّه يصلح القماش ويخيطه) وبما أنّ الشخص الخيّر يسعى إلى اصلاح عمل الآخرين من موقع الاخلاص والخلوص استعملت في حقّه هذه المفردة، وأساساً فإنّ كلّ شي ء خالص من الشوائب سواءاً في الامور المادية أو المعنوية، في الكلام أو العمل، يقال له: ناصح.

وعلى هذا الأساس فعندما يرد بحث النصيحة في أجواء البحوث الأخلاقية فإنّ المقصود منه ترك أيّ شكل من أشكال الحسد والحقد والبخل والخيانة.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 134

الغرور والعُجُب

تنويه:

إن أحد الرذائل الأخلاقية المشهورة ليس عند علماء الأخلاق فحسب بل عند سائر أفراد الناس هي (الغرور)، وهذه الصفة الرذيلة تتسبّب في انفصام الشخصية والجهل بالنسبة إلى الذات والآخرين والغفلة عن مكانته الفردية والإجتماعية والتخبّط في دوّامة الجهل والعجب وعدم الإطلاع على حقائق الامور.

إنّ الغرور يفضي بالإنسان أن يبتعد عن اللَّه تعالى ويسير في خطّ الشيطان، ويقلب الواقعيات في نظره، وهذا الأمر يتسبب في اضرار كثيرة

على المستوى المادي والمعنوي للإنسان.

الشخص المغرور يعيش في المجتمع مكروهاً من الآخرين حيث يتعامل معهم من موقع التوقعات الكثيرة الّتي تُفضي به إلى الإنزواء والعزلة الإجتماعية.

والغرور يُعتبر من الدوافع والمصادر لصفات رذيلة اخرى من قبيل التكبّر والانانية والعُجب والحقد والحسد بالنسبة إلى الآخرين والتعامل معهم من موقع التحقير والإزدراء.

ونعلم أنّ أحد العوامل الأصلية لطرد الشيطان الرجيم من مرتبة القرب الإلهي هو (الغرور) الّذي كان يعيشه الشيطان، وأحد الأسباب في عدم انقياد الكثير من الأقوام السالفة

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 136

لدعوات الأنبياء السماوية وجود هذه الصفة الذميمة في واقعهم وأنفسهم.

إن الفراعنة والنماردة ابتعدوا عن اللَّه تعالى بسبب غرورهم وبالتالي أصبح مصيرهم الأسود عِبرة للبشرية.

(الغرور) أحياناً يتجلّى في فرد معين، واخرى في قوم ومجتمع أو عِرقٍ بشري، ولا شكّ أنّ القِسم الثاني اخطر على واقع الإنسان والمجتمع لأنّه قد يدمّر بلد كامل أو يُحرق العالم بناره، كما حصل في الحرب العالمية الاولى والثانية حيث كان الغرور والتعصّب العِرقي للألمان على الأقل أحد العوامل المهمّة لنشوب هذين الحربين وبهذه الإشارة نستعرض أوّلًا تفسير مفردة (الغرور) ومفهومها في منابع اللغة وكتب علماء الأخلاق، ثمّ نعود إلى الآيات والروايات الشريفة لإستجلاء أسباب الغرور وآثاره وافرازاته وطرق علاجه والوقاية منه.

1- مفهوم الغرور

إن هذه المفردة وردت بشكل واسع في كلمات العرب ولاسيّما في الآيات القرآنية الكريمة والروايات الإسلامية.

يقول الراغب في مفرداته عن هذه الكلمة: فالغرور (بفتح الغين ليتضمن معنىً وصفياً) كلّ ما يغرّ الإنسان من مال وجاه وشهوة وشيطان، وقد فسّر بالشيطان إذ هو أخبث الغارّين.

وفي (صحاح اللغة) عن كلمة (غُرور) انها بمعنى الامور الّتي تجعل الإنسان غافلًا (سواءاً المال والثروة أو الجاه والمقام أو العلم والمعرفة).

ويقول بعض أرباب اللغة كما يذكر الطريحي

في (مجمع البحرين): إن الغُرور هو ما كان جذاباً وجميلًا في ظاهره ولكنه مظلم ومجهول في باطنه.

وجاء في كتاب (التحقيق في كلمات القرآن الكريم) بعد نقل كلمات أرباب اللغة: أنّ الجذر الأصلي لهذه المفردة هي بمعنى اصول الغفلة بسبب التأثر بشي ء آخر لدى الإنسان ومن لوازمها وآثارها الجهل والغفلة والنقصان والإنخداع و ...

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 137

وجاء في (المحجّة البيضاء في تهذيب الأحياء) الّذي يُعتبر من أفضل كتب الأخلاق وعبارة عن تهذيب لكتاب (إحياء العلوم) للغزالي: «فالغرور هو سكون النفس إلى ما يوافق الهوى ويميل إليه الطبع عن شبهة فاسدة فهو مغرور، وأكثر الناس يظنون بأنفسهم الخير وهم مخطئون فيه، فأكثر الناس إذاً مغرورون وإن اختلفت أصناف غرورهم واختلفت درجاتهم» «1».

وجاء في (التفسير الأمثل) في معنى هذه المفردة أنّ (غَرور) على وزن (جسور)، صيغة مبالغة بمعنى الموجود الشديد الخُداع والحيلة والمكر ولذلك سُمّي الشيطان ب (غَرور) حيث يوسوس للإنسان ويخدعه ويستغفله، وفي الحقيقة هو من قبيل بيان المصداق الواضح، وإلّا فإنّ كلّ إنسان أو كتاب يمكن أن يقع في مقام الوسوسة وكلّ موجود إذا عمل على إضلال الإنسان فإنه يدخل في مصاديق كلمة (غَرور).

الغَرور في القرآن الكريم:

لقد وردت هذه المفردة في القرآن الكريم مرّات عديدة، وكذلك ورد مضمونها في آيات اخرى أيضاً:

1- «قَالَ أَنَا خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ» «2». 2- «فَقَالَ ا لْمَلَأُ ا لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَانَريكَ إِلَّا بَشَرًا مّثْلَنَا وَمَا نَرَيكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرَّأْىِ وَمَانَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ .... قَالُواْ يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَا لَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» «3». 3- «قَالُواْ يَاشُعَيْبُ مَانَفْقَهُ كَثِيرًا مّمَّا تَقُولُ

وَإِنَّا لَنَرَلكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 138

لَرَجَمْنَاكَ وَمَآأَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ» «1». 4- «وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ ا لْأَنْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى أَفلَا تُبْصِرُونَ* أَمْ أَنَاْ خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ» «2». 5- «ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم مَّاكَانُواْ يَفْتَرُونَ» «3». 6- «فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ وَقَالُواْ يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِنْ كُنتَ مِنَ ا لْمُرْسَلِينَ» «4». 7- «يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَى وَلكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ ا لْأَمَانِىُّ حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ ا لْغَرُورُ» «5». 8- «هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَاتُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَآئنُ السَّمَاوَا تِ وَا لْأَرْضِ وَلكِنَّ ا لْمُنَافِقِينَ لَايَفْقَهُونَ* يَقُولُونَ لَئن رّجَعْنَآ إِلَى ا لْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ ا لْأَعَزُّ مِنْهَا ا لْأَذَلَّ وَلِلَّهِ ا لْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ ا لْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ» «6». 9- «فَأَمَّا ا لْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَليهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبّى أَكْرَمَنِ» «7». 10- «أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ* سَيُهْزَمُ ا لْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ». «8» 11- «وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ ا لْحَيَاةُ الدُّنْيَا ...» «9».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 139

12- «يأَيُّهَا النَّاسُ .... إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ» «1».

تفسير واستنتاج:

إن أوّل شرارة للغرور كما أشرنا إلى ذلك سابقاً كانت في بداية خلق الإنسان وتجلّت في إبليس كما تتحدّث عن هذه الواقعة «الآية الاولى» من الآيات مورد البحث عندما سَأل اللَّه تعالى إبليس عن السبب في امتناعه عن السجود لآدم «قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلّا تَسْجُدَ

اذْ امَرْتُكَ ...» «2».

قال الشيطان الّذي تملّكه الغرور والعُجب «قَالَ أَنَا خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ» «3».

أجل فإنّ حجاب الغرور والعجب قد أسدل على عين بصيرته حجاباً سميكاً إلى درجة أنّه لم يسوّغ له سلوك طريق السعادة وامتثال الأمر الإلهي الصريح، فسقط في هُوَّة العصيان والتمرد وأصبح مطروداً وملعوناً إلى الأبد، وعلى هذا يمكن القول انه كما أنّ قائد المستكبرين في العالم هو إبليس، فكذلك قائد المغرورين في العالم إبليس أيضاً، وهذان المفهومان أيّ الغرور والإستكبار بمثابة اللازم والملزوم.

إن إبليس وبسبب الغرور والإستكبار لم يستطع أن يرى حقيقة كرامة التراب على النار وأفضلية التوبة على العناد والإصرار على الذنب، فكان من ذلك أن سلك في خط الضلال والتيْه وبقي كذلك إلى الأبد.

«الآية الثانية» تتحدّث عن قصة نوح أيْ أوّل أنبياء اولو العزم وتوضح جيداً أنّ أحد العوامل المهمّة في عناد قومه ووقوفهم ضد دعوته وارشاداته المخلصة من موقع الغرور هو

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 140

هذه الصفة الرذيلة (الغرور) حيث تقول الآية «فَقَالَ ا لْمَلَأُ ا لَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَانَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ الرَّأْىِ وَمَانَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ» «1».

وبعد عدّة آيات يستعرض القرآن الكريم حالة الغرور والعُجب أكثر لدى هؤلاء الضالين حيث قالوا لنوح بصراحة «قَالُواْ يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَا لَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» «2».

عادّة يتخذ الإنسان طريقاً يُبعده عن الأضرار المحتملة بحكم العقل ويتجنب عن سلوك الطريق الّذي يُحتمل أن يواجه الخطر فيه، ولكن هؤلاء القوم المغرورين وبالرغم من مشاهدتهم لآثار حقّانية دعوة هذا النبي الكريم من خلال معجزاته ووجود احتمال نزول العذاب الإلهي

فإنّهم لم يكتفوا بعدم الإهتمام والإعتناء بدعوته بل تحرّكوا مع دعوة نوح من موقع طلبهم لنزول العذاب الإلهي.

أجل فإنّ ذلك الغرور الّذي صار حجاباً على بصيرة الشيطان قد أصبح حجاباً لقوم نوح عن رؤية الحقيقة، وبالتالي ذاقوا العذاب الإلهي الشديد وهلكوا عن آخرهم، وهذا هو مصير المغرورين على طول التاريخ.

وتأتي «الآية الثالثة» لتتحدّث عن قوم شعيب الّذين جاءوا بعد قوم نوح وتورطوا في الغرور والعُجب أيضاً فكان مصيرهم هو نفس ذلك المصير المؤلم حيث تقول الآية «قَالُواْ يَاشُعَيْبُ مَانَفْقَهُ كَثِيرًا مّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَآأَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ» «3».

هؤلاء في الحقيقة لن يجدوا جواباً منطقياً أمام البراهين العقلية والدعوة السماوية الحكيمة والمعجزات الإلهية الّتي جاء بها شعيب، ولكنّ غرورهم وأنفتهم لم تبح لهم الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 141

الإستسلام أمام دعوة الحقّ وبالتالي غشيهم العذاب الإلهي وأصابتهم الصاعقة السماوية والصيحة المهولة، فدمّرت كلّ ما لديهم في طرفة عين، ولم تبق لهم سوى أجساد متمزقة وآثار خاوية.

«الآية الرابعة» ناظرة إلى قصة فرعون وتستعرض بُعداً آخر من أبعاد هذه الصفة الرذيلة، وتشير إلى أنّ الغرور والعُجب قد يمتد إلى باطن الإنسان ويستولي على عقله وروحه بحيث انه ليس فقط لا يهتم بالأدلة الواضحة على نبوة موسى عليه السلام بل يواجهها بكلمات طفولية تنطلق من موقع العناد والغرور حيث تقول الآية «وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ ا لْأَنْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى أَفلَا تُبْصِرُونَ* أَمْ أَنَاْ خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِى هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ» «1».

ثمّ تمادى فرعون في مواجهته لموسى وتمسّك بكلمات واهية وغير منطقية من قبيل أنّ موسى إذا كان صادقاً فلماذا لا يلبس الأسورة من الذهب؟

ولماذا لم تنزل الملائكة معه؟

وهكذا نجد أنّ الأشخاص المغرورين كالفراعنة والنمروديين وبسبب إهمالهم لدعوة الحقّ وغرورهم لا يدركون جيداً ماذا يقولون ولا يهتمون لذلك حيث نجد كثيراً أنّ مثل هؤلاء يتكلمون بكلمات سخيفة بحيث يسخر منها حتّى المقربون منهم في أنفسهم، ومن المعلوم أنّ هذه الحالة تتسبّب في غلق جميع نوافذ المعرفة الإلهية أمام الإنسان، وايصاد جميع الطرق لسلوك سبيل الكمال المعنوي والتعالي الأخلاقي.

واللطيف أنّ موسى الّذي كان يشكو من لُكنة في لسانه تتعلق بمرحلة الطفولة ولكنه عندما بُعث إلى النبوة وطلب من اللَّه تعالى أن يحلُل عقدةً من لسانه فإنّ اللَّه تعالى استجاب له ذلك ولكنّ فرعون لم يهتم لهذه الظاهرة العجيبة وبقي مصراً على وضعه السابق حيث أشار في كلامه إلى تلك اللكنة الّتي كانت لدى موسى في الصِغر.

«الآية الخامسة» تشير إلى اليهود الّذين كانوا يرون في أنفسهم حالة من التشخّص الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 142

والغرور والعُجب بتصورهم مميزات مختصة بهم تجعلهم يتفوقون ويمتازون على غيرهم من أفراد البشر، وهذا التفكير الخاطي ء هو السبب في ضلالهم وطغيانهم حيث تقول الآية «ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَا تٍ وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم مَّاكَانُواْ يَفْتَرُونَ» «1».

أي أنّ اللَّه إذا أراد أن يعذبنا فإنّ عذابه سيكون خفيفاً ولأيّام معدودة وذلك بسبب اننا قوم ممتازون.

إن تاريخ بني إسرائيل يشير إلى انّ هؤلاء القوم كانوا أكثر الأقوام والشعوب طغياناً وذنوباً، وأحد العوامل والأسباب المهمة في سلوكهم الخاطي ء هذا هو الغرور والعُجب لديهم.

ومع الأسف إننا نجد أنّ طائفة منهم باسم (الصهاينة) يرتكبون كلّ يوم جرائم بشعة ضدّ الشعوب البشرية بسبب ما دخلهم من الغرور الكبير بعرقهم وامتيازاتهم الزائفة، وفي ذلك شوّهوا تاريخهم السيّ ء أكثر من السابق.

هؤلاء

يريدون كلّ شي ء لهم ولا يرون للآخرين الحقّ في أيّ شي ء، فهم يرون أنّهم قوم متميزون على سائر البشر وينظرون إلى الآخرين نظر الاحتقار والدونية.

«الآية السادسة» ناظرة إلى قوم صالح، الّذين قد أسكرهم الغرور إلى درجة أنّهم طلبوا من نبيّهم نزول العذاب الإلهي عليهم، بالرغم من رؤيتهم المعجزات الإلهية على يد نبيّهم صالح فتقول الآية «فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ وَقَالُواْ يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِنْ كُنتَ مِنَ ا لْمُرْسَلِينَ» «2».

ويتابع القرآن الكريم ما حدث لهؤلاء القوم الظالمين ويتحدّث عن مصيرهم المأساوي ويقول: «فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين» وهكذا كانت عاقبة القوم المغرورين.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 143

«الآية السابعة» تتحدّث عن أهل النار الّذين يعيشون العذاب والظلمة الشديدة يوم القيامة في حين يعيش المؤمنون بنور الإيمان ويردون عرصات المحشر مسرعين، فيناديهم هؤلاء المنافقون وأهل النار: «يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَى وَلكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ ا لْأَمَانِىُّ حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ ا لْغَرُورُ» «1».

ثمّ تقول الآية الّتي بعدها بصراحة انه يُقال لهم «فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الّذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير».

وهنا يتجلّى بصورة واضحة أنّ أحد الصفات البارزة لهؤلاء المنافقين من أهل النار هي الغرور والإبتلاء بحبال الأماني الطويلة والتوهمات الزائفة في حركة الحياة الدنيوية.

وكما ذكرنا في بداية البحث أنّ كلمة (غَرور) تتضمن معنى الخداع والمكر، ولكن أحياناً يخدع الإنسان نفسه أيضاً ويكون مغروراً بذلك، وأحياناً اخرى ينخدع بوساوس الشيطان أو الأفراد الّذين يعيشون حالة الشيطنة والمكر.

«الآية الثامنة» تتحدّث عن المنافقين المغرورين في هذه الدنيا وكيف أنّهم ينظرون إلى فقراء المؤمنين الحقيقيين من موقع الحقارة والإزدراء ويتظاهرون أمامهم بالثروة والمال حيث تقول الآية

متحدّثة عنهم وعن حالة الغرور المسيطرة عليهم «هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَآئنُ السَّمَاوَا تِ وَا لْأَرْضِ وَلكِنَّ ا لْمُنَافِقِينَ لَايَفْقَهُونَ» «2».

ثمّ يصل بهم الغرور إلى ذروته بحيث يصرّحون بأنه إذا رجعنا من ميدان الحرب إلى المدينة فسوف نُثبت لهؤلاء الفقراء والمعدمين مَن نحنُ «يَقُولُونَ لَئن رّجَعْنَآ إِلَى ا لْمَدِينَةِ

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 144

لَيُخْرِجَنَّ ا لْأَعَزُّ مِنْهَا ا لْأَذَلَّ وَلِلَّهِ ا لْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ ا لْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ» «1».

إذا لم يكن المنافقون يعيشون حالة (الغرور) فلا داعي لأن يتبجّحوا بثروتهم وأموالهم أمام المؤمنين وينظروا إليهم نظر الاحتقار والإزدراء وبالتالي ينزلقون في وادي الكفر والنفاق والضلال.

«الآية التاسعة» تتحدّث عن طبيعة الإنسان، أو بعبارة اخرى: طبيعة الإنسان الّذي لم يتكامل في مدارج الكمال الأخلاقي بل بقي في حالة عدم النُضج النفسي والروحي، فمثل هذا الإنسان عندما يجد اللَّه قد أنعم عليه نعمة فإنه يتملكه الغرور والطغيان بسبب ضيق افقه وتفكيره فتقول الآية «فَأَمَّا ا لْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَيهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبّى أَكْرَمَنِ» «2».

إذا كان هذا الكلام صادراً من موقع الشكر والثناء للَّه تعالى فإنه يدلّ على التواضع قطعاً ويدفع الإنسان بالتالي إلى مساعدة الأيتام والمساكين، ولكن كما هو الظاهر من جوّ الآيات أنّ هذا الإنسان بعد ذلك يتحدّث من موقع الغرور والعجب، وبهذا فإنّ هذا الكلام ليس فقط لا يترتب عليه أثراً إيجابياً ومطلوباً بل سيكون مصدراً لطغيانه وتكبره على الحقّ.

«الآية العاشرة» تتحدّث عن المشركين الأنانيين والمغرورين في مكّة وتقول «أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ» «3».

ولكن اللَّه تعالى بعد ذلك يحذر هؤلاء المغرورين وينذرهم بالعذاب القريب ويقول «سَيُهْزَمُ ا لْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ» «4».

وفي جميع هذه الموارد

نلاحظ جيداً أنّ الغرور يمثل عاملًا مهماً في تورط الإنسان في الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 145

دوّامة الذنوب والشقاء والتعاسة، والقرآن الكريم يُخبرنا بخبر إعجازي عن إنهزام هؤلاء المغرورين وسرعان ما تلحق بهم الهزيمة والدمار ويكونون عبرة للآخرين.

«الآية الحادي عشر» تتحدّث عن المشركين الّذين اتخذوا الدين السماوي لعباً ولهواً بسبب الغرور الّذي أصابهم والّذي ادّى بهم إلى الكفر والعناد مع الحقّ فتقول الآية «وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ ا لْحَيَاةُ الدُّنْيَا ...» «1».

ولعلّ هذا التعبير يشير إلى أنّ هؤلاء لا يقبلون الهداية وغير جديرين بها، لأن الغرور قد اسكرهم إلى درجة أنّهم خُدعوا بزخارف الدنيا وبريقها المادي، فهم لا يجدون في أنفسهم استعداداً للتسليم والإذعان للحقّ ولا يواجهون الحقّ إلّاعلى مستوى السخرية والاستهزاء، وهذا يعني عمق الفاجعة الّتي تورطوا فيها بسبب غرورهم وعُجبهم.

وعبارة (دينهم) هي إشارة إلى فطرية الدين الإلهي حيث يشترك فيه جميع أفراد البشر حتّى المشركين، أو هو إشارة إلى الأشخاص الّذين اتخذوا دينهم الوثني سخرية بسبب الغرور، فلا يجدون في أنفسهم إلتزاماً بأحكام الوثنية ولا يتحركون مع الأوثان من موقع الانضباط والإلتزام، أو إشارة إلى الدين الإسلامي الّذي أنزله اللَّه تعالى من أجلهم ولمصلحتهم.

«الآية الثانية عشر» تتحرّك من موقع التحذير لجميع الناس بأن لا ينخدعوا بالحياة الدنيا وبزخارفها ولا يغتروا بجمالها المادي ولا يقعوا في مصائد الشيطان وتقول «يأَيُّهَا النَّاسُ .... إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ» «2».

واللطيف أنّ هذه الآية ذكرت من أسباب الغرور سببين: أحدهما زخارف الدنيا، والثاني الشيطان، وهذا التعبير يدلّ على أنّ الإنسان أحياناً يغتر بالأوهام وبالتصورات الواهية بدون الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 146

أن يحظى بشي ء من الحياة المادية

المرفهة ويتصور لنفسه مقاماً ومنزلة غير واقعية، وبذلك يطغى أمام الحقّ ويواجه اللَّه والدين من موقع الطغيان والتكبّر ويقع في شراك الشيطان، وصحيح أنّ زخارف الدنيا وجمالها وبريقها هو أحد مصائد الشيطان، ولكن أحياناً يكون الخيال والتصوّرات الذهنية نافذة يعبر منها الشيطان ويستقر في فكره ويوسوس له ما يغتر به.

النتيجة النهائية:

اشارة

ومن مجموع ما تقدّم من الآيات الكريمة وتفسيرها تتبيّن لنا هذه الحقيقة، وهي أنّ مسألة الغرور والعُجب والأنفة كانت من العوامل الأصلية للفساد والإنحراف والكفر والنفاق منذ أن وضع آدم قدمه على هذه الكرة الأرضيه وحتّى في جميع أدوار التاريخ البشري وعصور الأنبياء والأقوام السالفة وإلى هذا اليوم، وقراءة هذه الشواهد ومطالعة هذه الآيات يشير إلى أيّة درجة كانت هذه الصفة الرذيلة مصدر شقاء طائفه عظيمة من الشعوب والمجتمعات البشرية، ولو لم يكن دليلًا على قبح هذه الرذيلة الأخلاقية سوى هذه الآيات لكفى ذلك.

1- الغرور في الروايات الإسلامية

إنّ الموقف السلبي والشديد من الغرور في الروايات الإسلامية ينعكس في أبواب كثيرة وطوائف متعددة من الروايات:

1- ففي حديث عن الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام يقول: «سُكْرُ الْغَفْلَةِ وَالْغُرُورِ ابْعَدُ افَاقَةً مِنْ سُكْرِ الْخَمُورِ» «1».

2- وفي حديث آخر عن هذا الإمام أنّه قال: «جِمَاعُ الشَّرِّ فِي الْاغرَارِ بِالْمَهَل وَالْاتِّكَالِ الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 147

عَلَى الْعَمَلِ» «1».

فالإنسان المغرور هو الّذي يأتي بعمل بسيط ويتصور بذلك انه من أهل النجاة يوم القيامة ويتحرّك في حياته الدنيا بكامل الحرية بسبب هذا الغرور، أو انه يكون قد ارتكب بعض الذنوب والمعاصي ولكنه يجد في امهال اللَّه تعالى له امتيازاً لنفسه وبذلك يغتر بهذا الإمهال.

3- ونقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام أنّ الغرور يتقاطع مع العقل حيث يقول «لَا يُلْقَى الْعَاقِلُ مَغْرُوراً» «2».

4- ونقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام أيضاً أنّ الغرور يوقع الإنسان في دوّامة من الخيالات والتصورات الزائفة ويقطع عنه أسباب النجاة حيث يقول: «مَنْ غَرَّهُ السَّرَابُ تَقْطَعَتْ بِهِ الْاسْبَابُ» «3».

5- ويقول الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام أيضاً في تعبير جميل حول طائفة من المنحرفين:

«زَرَعُوا الْفُجُورَ وَسَقَوْهُ الْغُرُورَ وَحَصَدُوا الثُّبُورَ» «4».

6- وفي حديث

آخر عن هذا الإمام أنّه يعدّ الغرور والعُجب أحد الموانع لقبول الإنسان للموعظة والنصيحة ويقول: «بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْمَوْعِظَةِ حَجَابٌ مِنَ الْغِرَّةِ» «5».

7- وورد في الحديث الشريف عن هذا الإمام أيضاً في جملة قصيرة وعميقة المحتوى «طُوبَى لِمَنْ لمْ تَقْتُلُهُ قَاتِلَاتِ الْغَرُورِ» «6».

إن ما ورد أعلاه من الروايات الشريفة لا يُعدّ إلّانماذج قليلة ممّا ورد من النصوص الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 148

الكثيرة حول بيان أخطار الغرور والعُجب، ولكن مطالعة هذه النماذج القليلة من الروايات في هذا الباب يكفي لبيان الأضرار الوخيمة والآفاق السلبية للغرور.

2- أسباب الغرور

ذكر بعض علماء الأخلاق أنّ الغرور من الصفات القبيحة الّتي يبتلي بها كلّ طائفة من الناس بشكل من الأشكال رغم تعدّد أسبابه ومراتبه ودرجاته.

فقد ذكروا أنّ أسباب الغرور والعجب كثيرة جدّاً، وقسّموا المغرورين إلى طوائف مختلفة:

طائفة المغرورين بالعلم والمعرفة وهم الأشخاص الّذين يتملكهم الغرور عندما يصلوا إلى مرتبة معيّنة من العلم، فيتصورون أنّهم ملكوا الحقيقة فلا يرون سوى أفكارهم وعلومهم ولا يهتمون بأفكار الآخرين ولايعتبرون لها قيمة، وأحياناً يرون أنفسهم من المقربين عند اللَّه تعالى ومن أهل النجاة قطعاً، ولو انّ البعض واجههم بقليل من النقد فإنّهم سوف يجدون الألم يعتصر قلوبهم لأنهم يتوقعون من الجميع احترامهم وقبول كلامهم. وأحياناً يصيب الغرور بعض الأشخاص الضيقي الافق الّذين تعلّموا عدّة كلمات وقرأوا عدّة كتب وتصوّروا أنّهم فتحوا بلاد الصين وحلّوا المشكلات العويصة في العلم لمجرّد أنّهم قرأوا الكتاب الفلاني، وهذا من أسوأ أنواع الغرور الّذي يجر العالم إلى منزلقات السقوط والإنحطاط العلمي والإجتماعي.

ونقرأ في حديث شريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يقول لابن مسعود: «يَابْنَ مَسْعُود! لَاتَغْتَرَّنَّ بِاللَّهِ وَلَا تَغْتَرَّنَّ بِصَلَاحِكَ وَعِلْمِكَ وَعَمَلِكَ وَبِرِّكَ وَعِبَادَتِكَ» «1».

فنرى في هذا الحديث

الشريف إشارة لعوامل وأسباب اخرى للغرور منها: الأعمال الصالحة، الإنفاق في سبيل اللَّه، العبادات، والّتي يمثل كلّ واحدٍ منها عاملًا من عوامل الغرور.

وقد نرى بعض الأشخاص الصالحين الّذين عندما يُوفّقون لأداء بعض العبادات أو

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 149

الأعمال الصالحة يتملكهم الشعور بالغرور بسبب ضيق افقهم وصغر نفوسهم فيتصوّرون أنّهم من أهل النجاة والسعاده ويرون سائر الناس بمنظار الإستهانة والتصغير، وهذا قد يؤدي بهم إلى الهلاك والسقوط في وادي الضلالة والإنحراف.

وأحد العوامل الاخرى للغرور هو أن يغتر الإنسان بلطف اللَّه وكرمه ومغفرته، حيث نجد بعض الأشخاص يرتكبون الذنوب بجرأة وبدون أيّ تردّد، وعندما يُسأل منهم عن سبب ارتكابهم لهذه الأعمال القبيحة، يقولون: اللَّه كريم وغفور ورحيم، فنحن نعرف أنّ اللَّه أكبر وأسمى من أن يؤاخذ بهذه الذنوب ويعاقبنا بسبب هذه التصرفات، وأساساً فنحن لو لم نُذنب فلا معنى لعفو اللَّه ومغفرته.

إنّ مثل هذه الأفكار المنحرفة والكلمات غير المنطقية تزيد من جرأتهم على ارتكاب الذنوب وبالتالي تؤدي بهم إلى السقوط والهلاك.

ولهذا نجد أنّ القرآن الكريم والروايات الإسلامية قد ذمّت هذا النوع من الغرور بشدّة ونهت عنه نهياً مؤكداً كما نقرأ في الآية السادسة من سورة الإنفطار قوله تعالى «يَا ايُّهَا الْانْسَانُ مَا غَرَّكَ بِربِّكَ الْكَرِيمِ».

ويقول أميرالمؤمنين عليه السلام في تفسير هذه الآية الكريمة «يَا ايُّهَا الْانْسَانُ مَا جَرَّأَكَ عَلَى ذَنْبِكَ؟ وَمَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ؟ وَمَا انَّسَكَ بِهَلَكَةِ نَفْسِك؟!» «1»

وفرق بين الشخص الّذي يرتكب الذنب ولكنه مع ذلك يعيش الجرأة ولا يجد في نفسه غضاضة لذلك وكأنه يطلب اللَّه شيئاً، وبين الشخص الّذي يرتكب الذنب ولكنه يعيش الخجل والندم ويأمل أن يشمله اللَّه تعالى برحمته وعطفه، فالأوّل قد ركب مَطِيّة الغرور، والثاني هو المتّصل بحبلٍ من اللَّه ولطفه

والأمل برحمته الواسعة.

ومن العوامل والأسباب الاخرى للغرور هو الجهل وعدم الإطلاع والمعرفة، كما أنّ العلم والمعرفة أحياناً يكون سبباً للغرور، فكذلك عدم المعرفة أيضاً قد يسبب الغرور في الكثير من الأشخاص الجهّال، ولذلك ورد عن أميرالمؤمنين عليه السلام الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 150

قوله «مَنْ جَهِلَ اغَرَّ بِنَفْسِهِ وَكَانَ يَوْمُهُ شَرّاً مِنْ امْسِهِ» «1».

والآخر من أسباب الغرور والّذي يبتلي به الكثير من الناس هو الإغترار بزخارف الدنيا وبريقها من المال والمقام والشباب والجمال والقدرة وأمثال ذلك.

إنّ بعض الأشخاص الّذين يعيشون ضيق الافق وصِغَر النفس إذا وجدوا أحياناً أنّهم على شي ءٍ من الثروة والمال أو المقام، فسوف ينسون أنّ هذه عارية بأيديهم وأنّها في معرض الزوال والفناء، وهذا النسيان يتسبّب لهم في العُجب والوقوع في دوّامة الغرور، وهذا الغرور يتسبّب لهم في الابتعاد عن اللَّه تعالى والاقتراب من الشيطان والتلوث بكثير من الذنوب.

ونقرأ في الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين عليه السلام قوله «الدُّنْيَا حُلُمٌ وَالْاغْتِرَارُ بِهَا نَدَمٌ» «2».

وفي حديث آخر عن هذا الإمام عليه السلام أنّه قال: «لَاتَغُرَّنَّكَ الْعَاجِلَةُ بِزُورِ الْمَلَاهِي، فَانَّ الْلَهْوَ يَنْقَطِعُ، وَيُلْزِمُكَ مَا اكْتَسَبْتَ مِنَ الْمَآثِم» «3».

ومن العجائب أنّ جميع الناس يرون بامّ أعينهم ظاهرة الزوال السريع للنعم المادية والدنيوية وتلاشي الأموال والثروات وسقوط الحكومات والقدرات الدنيوية كلّ يوم، ولكن عندما تصل النوبة إليهم يتملكهم الغرور الشديد بحيث يتصوّرون انّ ما يتعلق بهم مخلّد وسيبقى إلى الأبد ولا يزول عنهم إطلاقاً.

أجل فإنّ أسباب الغرور متنوعة بشكل كبير، والخلاص من هذه المصيدة صعبٌ جداً ولا يتسنّى للإنسان إلّافي إطار التقوى والتوكل على اللَّه والإلتفات إلى انّ جميع هذه الامور سريعة الزوال وفانية.

3- علائم الغرور

إن علامات الغرور تارة تكون واضحة جداً بحيث إنّ الإنسان يدركها فوراً وفي

أوّل الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 151

بادرة ويدرك أنّ الشخص الفلاني مصاب بداء الغرور والعُجب، من قبيل عدم اهتمامه بالآخرين، عدم اهتمامه بالحلال والحرام والأحكام الشرعية، عدم مراعاة الأدب مع الكبار وترك المودّة والمحبّة مع الأصدقاء والأقرباء، التعامل مع الأقل منه شأناً من موقع القساوة والخشونة، التحدّث بكلام مرتبك وبعيد عن الأدب، الضحك العالي والقهقهة، قطع كلام الآخرين، النظر إلى الصالحين والأخيار والعلماء بعين الحقارة والإزدراء، وكذلك المشي بصورة غير متعارفة، ضرب الأقدام على الأرض عند المشي، تحريك الكتفين، النظرات غير المتعارفة إلى الأرض والسماء، وحتّى أحياناً يصدر منه بعض سلوكيات المجانين والسفهاء من الناس، وكلّ ذلك من علائم الغرور والفخر.

ولكن أحياناً اخرى تكون علائم الغرور خفية ومستورة، فلا يمكن إدراكها بسهولة بل تحتاج إلى دقّة وتأمل للعثور على هذه الصفة في واقع النفس أو لدى الآخرين، من قبيل أنّ بعض الأشخاص وبعد مدّة قصيرة من الدرس يتركون استاذهم ويرون أنّهم مستغنون عن الدرس والاستاذ، أو من قبيل الشخص الّذي يجد في نفسه علاقة شديدة للإنزواء والعزلة عن الناس، ويمكن أن يبرّر ذلك بعدم حضور مجالس الغيبة والتلوث بالذنوب وأمثال ذلك، في حين أنّه مع قليل من الدقة نجد أنّ السبب الحقيقي لذلك هو الغرور والفخر والعجب حيث يرى نفسه طاهراً ومؤمناً ويرى الآخرين أقلّ من ذلك شأناً لتلوّثهم وجهلهم.

أجل ليس فقط صفة الغرور هي الّتي تختفي أحياناً في زوايا النفس، بل هناك الكثير من الصفات الرذيلة تعيش في واقع الإنسان في حالة كمون وخفاء ولا يعلمُ بها الشخص بل قد تظهر هذه الصفات الرذيلة بمظهر حسن وتلبس لباس الفضيلة بحيث يعتقد صاحبها بأنّها فضائل ولا يستطيع تشخيص ذلك إلّاللأساتذة والأساطين من علماء الأخلاق وأصحاب

السلوك وأرباب المعرفة.

4- المعطيات الفردية والإجتماعية للغرور

قلّما نجد لسائر الصفات الرذيلة من الآثار السيئة والنتائج السلبية والمضرة مثلما نجده الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 152

في الغرور والفخر.

إن افرازات الغرور السلبية تكاد تستوعب جميع حياة الإنسان الدنيوية والآخروية على مستوى الضرر والفساد، ومن بين الأضرار المترتبة على الغرور ما يلي:

1- إن الغرور يسدلّ على عقل الإنسان وبصيرته حجاباً سميكاً يمنعه من إدراك حقائق الامور ولا يسمح له برؤية نفسه والآخرين كما هو الواقع ولا يسمح له أن يقيّم الحوادث الإجتماعية تقييماً سليماً ويتخذ منها موقفاً صحيحاً.

وقد سبق أن ذكرنا الحديث الشريف الوارد عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «سُكْرُ الغَفلةِ والغُرور أبْعدُ إفاقةً مِن سُكْرِ الخُمور».

2- إن الغرور يُعد عاملًا مهماً للفشل والتخلّف الفكري والجفاء النفسي في حركة الحياة.

فالجيش المغرور من السهل أن يقع في حبائل الهزيمة والفشل الذريع، والسياسي المغرور من اليسير أن يسقط في حركته السياسية ويخسر نفوذه الإجتماعي ومقامه السياسي، والطالب المغرور يفشل في الامتحان، والرياضي المغرور سوف يخسر اللعبة مع الطرف المقابل، وأخيراً فالمسلم المغرور سيكون مورد الغضب الإلهي، والتعبير بقوله (قاتلات الغرور) في الروايات الإسلامية يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى.

3- إنّ الغرور يعمل على توقف حركة الإنسان التكامليّة بل قد يؤدي به إلى الإنحطاط والتخلّف، لأن الإنسان عندما يُصاب بالغرور فإنه لا يرى نقائصه ومعايبه، وبالتالي فالشخص الّذي لا يشعر بالنقصان فسوف لا يتحرّك باتّجاه الكمال وإصلاح الخلل.

وهذا ما نقرأه في الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين عليه السلام حيث قال: «مَنْ جَهِلَ أغرّ بنفسهِ وكان يَومه شرّاً من أمْسِهِ».

4- إن الغرور يتسبّب في حبط الأعمال وفساد الطاعات، لأنّه لا يسمح للإنسان بأعمال الدقة في عمله وبالتالي يتسبّب في خراب العمل، فالطبيب المغرور يمكن

أن يبعث بمريضه إلى الموت أو يؤدي به إلى تلف أحد الأعضاء، والسائق المغرور سيبتلي بالحوادث الخطرة، وهكذا المؤمن المغرور قد يبتلي بالرياء والعُجب وسائر الامور الّتي تفسد العمل وتحبط

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 153

الحسنات كما ورد في الحديث عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال «غَرُورُ الْامَلِ يُفْسِدُ الْعَمَلَ» «1».

5- إن الغرور يمنع من التفكّر في عواقب الامور كما ورد عن أميرالمؤمنين عليه السلام قوله «لَمْ يُفَكِّرْ فِي عَوَاقِبِ الْامُورِ مَنْ وَثِقَ بِزُورِ الْغُرُورِ» «2».

6- انّ الغرور غالباً ما يتسبّب في الندم وذلك لأن الإنسان المغرور لا يستطيع التقييم الصحيح للحوادث بالنسبة له وللآخرين وسيقع في محاسباته الفردية والإجتماعية في الخطأ والاشتباه، وهذا الأمر يُفضي به إلى الندم، وفي هذا المجال يقول أميرالمؤمنين عليه السلام:

«الدنيا حلم والأغترار بها ندمٌ» «3».

7- ويمكن القول في جملة واحدة: إن الأشخاص الّذين يعيشون حالة الغرور هُم في الواقع فقراء ومساكين في الدنيا والآخرة كما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام «الْمَغْرُورُ فِي الدُّنْيَا مِسْكِينٌ وفِي الْآخِرَةِ، مَغْبُونٌ لِانَّهُ بَاعَ الْافْضلَ بِالْادْنَى» «4».

5- طرق علاج الغرور

بما أنّ الغرور ينشأ غالباً من الجهل وعدم المعرفة بالنفس وعدم تقييم الذات بشكل صحيح فإنّ أوّل خطوة لعلاج هذا المرض الأخلاقي هو معرفة النفس ومعرفة اللَّه تعالى وكذلك معرفة الاستعدادات والقابليات لدى الأشخاص الآخرين.

إذا رجع الإنسان في ذكرياته إلى مرحلة الطفولة وجد نفسه عاجزاً عن كلّ شي ء، وإذا تفكّر الإنسان في المراحل المتقدّمة من عمره وجد نفسه عاجزاً أيضاً عن عمل أيّ شي ء، وإذا تفكّر فيما لديه من القدرة والمال والثروة والشباب والجمال، لوجد انّ جميع هذه الامور

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 154

تتعرض للتلف والزوال وتصيبها الآفات المختلفة.

وكذلك إذا عاد لينظر في تاريخ

الأقوام السالفة والمجتمعات البشريه الماضية وسرعة زوال قدراتها وتلف أموالها وثرواتها وإندثار ما تبقى من امكاناتها وحضارتها وشموخها، لما أصابه الغرور.

كيف يغتر الإنسان بعلمه والحال انه من المحتمل أن يُصاب بضربة على رأسه فينسى جميع علومه بل ينسى حتّى اسمه؟

وكيف يغتر الإنسان بأمواله في حين أنّ تغييراً بسيطاً في السوق أو وقوع حادثة مهمة اجتماعية أو سياسية أو عسكرية بامكانها أن تُبيد جميع أمواله بل قد يغرق في الدين والقرض أيضاً.

وعلى أيّة حال فإنّ ممّا يزيل عن الإنسان حالة الغرور والفخر والسكر بزخارف الدنيا وبريقها هو معرفة النفس وأوضاع العالم الدنيوي المتحركة وعدم ثباتها وكثرة تغيرها وتبدلّها.

والقرآن الكريم يخاطب هؤلاء المغرورين من موقع التحذير والإنذار ويقول: «أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الْأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» «1».

وشبيه هذا المعنى ورد في سورة غافر الآية 21 و 82 أيضاً إذا تفكر الإنسان جيداً في معالم وأعضاء جسمه وكوامن روحه ونفسه لوجد الضعف مهيمناً على أجواء كيانه وكيف أنّ الحوادث الجزئية والتوافة بإمكانها أن تهدم حياته وتشل حركته فسوف لا يصاب بسكر الغرور أبداً كما يقول أميرالمؤمنين عليه السلام «مِسْكِينُ بْنُ آدَمَ مَكْتُومُ الْاجَلِ، مَكْنُونُ الْعِلَلِ مَحْفُوظُ الْعَمَلِ، تُؤْلِمُهُ الْبَقَّةُ وَتَقْتُلُهُ الشَّرْقَةُ وتُنْتِنُهُ الْعَرْقَةُ» «2».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 155

ونقرأ في حالات (عيّاض) الوزير المعروف والمقتدر للسلطان محمود الغزنوي حيث ورد انه كان يدخل كلّ يوم في غرفة خاصّة ويغلق الباب من ورائه وبعد لحظات يخرج منها، فلفت هذا السلوك نظر البعض وتعجّبوا من هذا السلوك وتصوروا أن سرّاً خطيراً كامناً في هذه الغرفة، وبعد

التحقيق اتّضح لهم انه اخفى ملابسه الّتي كان يلبسها أيّام كان راعياً للغنم في هذه الغرفة، وكلّ يوم يدخل إلى هذه الغرفة لينظر إلى تلك الملابس الرثّة ويقول لنفسه: لقد كنتَ يا عياض راعياً للغنم والآن سلّمك اللَّه مقام الوزارة، فلا تغتر بذلك وعليك أن تخشى غداً عندما تفقد هذا المقام وعليك دينٌ ولا تستطيع الوفاء به.

ولو أنّ جميع أرباب القدرة والسلطة سلكوا هذا المسلك في تربية نفوسهم فإنّ الغرور لا يجد طريقاً للنفوذ إلى قلوبهم، ولكن مع الأسف فإنّ كلّ إنسان لا يكون مثل عيّاض.

طول الأمل

تنويه:

إن (طول الأمل) يُعد من أهم الرذائل الأخلاقية الّتي تجر الإنسان إلى ارتكاب أنواع الذنوب والخطايا وتبعده عن اللَّه تعالى وتسلك به في خط الشيطان وبالتالي يترتب على ذلك الكثير من العواقب الوخيمة.

وبالطبع فإنّ أصل (الأمل) ليس فقط غير مذموم بل له دور مهم في إدامة حركة الحياة والتطور البشري في الأبعاد المادية والمعنوية.

إذا سُلب الأمل من قلب (الامّ) فإنّها لا تجد دافعاً لإرضاع طفلها وتحمل أنواع المشقة والألم بتربيته وتنشئته كما ورد هذا المعنى في الحديث النبوي الشريف «الْامَلُ رَحْمَةٌ لِامَّتِي وَلَوْلَا الْامَلُ مَارَضِعَتْ وَالِدَةٌ وَلَدَهَا وَلَا غَرَسَ غَارِسٌ شَجَرَهَا» «1».

إن من يعلم مثلًا بأن هذا اليوم هو آخر يوم من حياته أو أنّه سيموت بعد أيّام قليلة ويغادر الدنيا فإنه سيترك جميع ما في يده من أعمال ونشاطات في دائرة المعيشة والعلاقات الإجتماعية، وفي الحقيقة فإنّ ذلك يعني انطفاء شعلة الحياة ولعلّ أحد الأسباب لخفاء الأجل هو أن يبقى الإنسان في حالة الأمل والرجاء ويعيش الحركة الطبيعية في امور المعيشة.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 158

كما نقرأ هذا المعنى في ما ورد عن المسيح عليه السلام (انه كان

جالساً يوماً في مكان وشاهد شيخاً كبيراً يحرث الأرض بمسحاته ويعمل على سقي الأرض وزراعتها، فطلب المسيح عليه السلام من اللَّه تعالى أن يسلب منه الأمل في الحياة: اللهم انزع منه الأمل فوضع الشيخ المسحاة واضطجع فلبث ساعة فقال عيسى اللّهم أردد إليه الأمل فقام وجعل يعمل فسأله عيسى عن ذلك فقال بينما أنا أعمل إذ قالت لي نفسي إلى متى تعمل وأنت شيخ كبير فألقيت المسحاة واضطجعت ثمّ قالت لي نفسي واللَّه لابدّ لك من عيشٍ ما بقيت فقمت إلى مسحاتي «1».

ولهذا السبب فإنّ الأمل ضروريٌ في ايجاد التحرّك أكثر لدى أفراد المجتمع من موقع النظر إلى المستقبل في حركة الحياة.

ولكنّ نفس هذا الأمل الّذي يُعدّ رمز حركة الإنسان وسعيه في حياته الدنيوية والماء الّذي يسقي أرض حياته الميّتة ويُنعش احساساته وعواطفه بغدٍ أفضل، نفس هذا الأمل إذا تجاوز عن حدّه المرسوم أصبح على شكل سيل مدمّر يأتي على الأخضر واليابس ويُغرق الإنسان في وحل حبّ الدنيا والظلم والجريمة والإثم.

ولهذا نجد أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله يرى في (طول الأمل) أحد العدوّين الشرسين للإنسان ويقول: «إنّ أشد ما أخاف عليكم خِصْلَتَانٌ اتِّبَاعُ الْهَوى وَطُولُ الْامَلِ، فَامَّا اتِّبَاعُ الْهَوى فَانَّهُ يَعْدِلُ عَنِ الْحَقِّ، امَّا طُولُ الْامَلِ فَانَّهُ يُحبب الدُّنْيَا» «2».

وشبيه هذا المعنى بتفاوت يسير ورد أيضاً عن أميرالمؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة.

وبهذه الإشارة نعود إلى آيات القرآن الكريم لنستوحي منها نتيجة طول الأمل وأثره في مصير الأقوام السالفة والمجتمعات البشريه بشكل عام:

1- «وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِى الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 159

قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ ا لْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ ءَالَا ءَ اللَّهِ وَلَاتَعْثَوْاْ فِى الْأَرْضِ

مُفْسِدِينَ» «1».

2- «أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ ءَايَةً تَعْبَثُونَ* وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ» «2».

3- «يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَى وَلكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ ا لْأَمَانِىُّ حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ ا لْغَرُورُ» «3».

4- «أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ا لْحَقّ وَلَا يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ ا لْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ا لْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ» «4»

5- «ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» «5».

6- «أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّى فَلِلَّهِ ا لْأَخِرَةُ وَا لْأُولَى «6».

7- «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ* الّذي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ* يَحْسَبُ انَّ مَالَهُ اخْلَدَه» «7».

8- «إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَارِهِم مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ا لْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ» «8».

تفسير واستنتاج:

منابع طول الأمل

«الآية الاولى والثانية» تتحدّثان عن قوم عادٍ وثمود حيث بعث اللَّه لهم (هود) و (صالح) وكانوا يعيشون الوضع الاقتصادي المزدهر في زراعتهم وصناعتهم وبالتالي تسبب ذلك في الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 160

تعلّقهم الشديد بالدنيا وعاشوا طول الأمل فيها ممّا أورثهم ذلك الغرور والكبر والفخر إلى درجة أنّهم ليس فقط لم يهتمّوا لدعوة أنبيائهم هود وصالح، بل إنّهم تصدوا لهم بالمخالفة والعدوان.

القرآن الكريم يذكر في الآيات الاولى على لسان النبي صالح عليه السلام مخاطباً لقومه «وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِى الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ ا لْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ ءَالَا ءَ اللَّهِ وَلَاتَعْثَوْاْ فِى الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ» «1».

وفي «الآية الثانية» يستعرض القرآن حالة قوم (عاد) والّذي سبقت الإشارة إليها في الآية السابقة في الحديث عن قوم ثمود.

وتتحّدث الآية الكريمة على لسان النبي هود عليه السلام مخاطباً قومه «أَتَبْنُونَ بِكُلّ رِيعٍ ءَايَةً تَعْبَثُونَ* وَتَتَّخِذُونَ

مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ» «2».

وهنا أراد هو بهذا الكلام أن يُفهم قومه أنّ أحد العلل المهمّة لإنحرافهم عن جادة الصواب وسلوكهم في خطّ الباطل هو اتباعهم للأهواء واعتمادهم على الآمال العريضة والطويلة والّتي أدّت بهم إلى الغفلة عن اللَّه تعالى والفرق في زخارف الدنيا والإبتلاء بزبارجها.

(مصانع) جمع مصنع، بمعنى البناء العظيم والقصر الشامخ والمستحكم، والأصل لهذه المفردة هي مادّة (صَنَعَ) والّتي تأتي بمعنى أداء العمل الحسن، وعليه فإنّ (صنع) لا يقال لكلّ عمل، بل يُطلق على الأعمال الّتي لها امتياز خاص.

إن قوم عاد وثمود تصوّروا بأنّهم وبسبب هذه الأبنية القوية والمجلّلة والقصور الفخمة الّتي أوجدوها في قلب الجبال أنّهم بإمكانهم أن يصونوا أنفسهم من الآفات والحوادث الطبيعية ويخلدوا فيها لسنوات متمادية بعيداً عن كلّ اشكال الشقاء والبؤس.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 161

ونفس هذا المعنى ورد عن قوم ثمود في آيات اخرى أيضاً حيث نقرأ على لسان صالح عليه السلام قوله «أَتُتْرَكُونَ فِى مَا ههُنَآ ءَامِنِينَ* فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ* وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ» «1».

ولاشكّ أنّ الغرور والغفلة الّتي حصلت لهم من طول الأمل لا تنحصر بقوم عاد وثمود، ولكن القرآن الكريم يذكر هذه الصفة والحالة النفسية لهؤلاء القوم كصفة بارزة من صفاتهم الأخلاقية.

«الآية الثالثة» تتحدّث عن جدال المؤمنين والمنافقين يوم القيامة حيث يجد المنافقون أنفسهم يعيشون في ظلمة المحشر في حين أنّ المؤمنين يتحركون نحو الجنّة بنور الإيمان، وهنا يطلب المنافقون من المؤمنين أن يستفيدوا من نورهم وينتفعوا من ضياءهم، ولكنه يُقام حاجز بينهما يحجب كلّ طائفة عن الاخرى.

وهنا يصرخ المنافقون «... الَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ...» «2» إذن فلماذا أنفصلتم عنّا؟

فيجيب المؤمنون «... قَالُواْ بَلَى وَلكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ ا

لْأَمَانِىُّ حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ ...» «3».

وعليه فالآية أعلاه تبين أربع عوامل لشقاء المنافقين، والرابع منها طول الأمل والإغترار بالأماني الطويلة والعريضة.

(اماني) جمع (أمنية)، وهي من مادّة (مَنى على وزن (مَغز) وهي في الأصل بمعنى المقياس والميزان، لأن الإنسان في عالم الخيال وأحلام اليقظة يقيس الامور لنفسه وما يترتب عليها من معطيات، ولهذا السبب يُقال للخيالات الباطلة والكلام الزائف والآمال العريضة (امنية) وجمعها (أماني).

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 162

وورد في تفسير منهج الصادقين وتفسير القرطبي في ذيل هذه الآية حديثاً عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وأنّ رسول اللَّه كان أحد الأيّام يعظ أصحابه فرسم لهم خطوط متوازية على الأرض ثمّ خطّ لهم خطاً عمودياً ثمّ قال: اتعلمون ما معنى هذه الخطوط؟ فقالوا: لا يا رسول اللَّه! فقال: هذه الخطوط هي من قبيل الآمال والتمنيات للناس (والّتي لا حدّ لها ولا حصر) وامّا ذلك الخط العمودي فهو الموت ونهاية الحياة الدنيا الّذي خُطّ على بني آدم جميعاً والّذي سوف يُبطل جميع هذه الآمال والتمنيات.

ونفس هذا المعنى مع تفاوت يسير نقله (ابن مسعود) عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حيث قال:

«خطّ لنا رسول اللَّه صلى الله عليه و آله خطاً مربعاً، وخطّ وسطه خطاً وجعله خارجاً منه، وخطّ عن يمينه ويساره خطوطاً صغاراً، فقال: هذا ابن آدم وهذا أجله محيط به وهذا أمله قد جاوز أجله، وهذه الخطوط الصغار الأعراض، فإنّ اخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا» «1».

«الآية الرابعة» تخاطب المؤمنين بصورة غير مباشرة وتحذرهم بأن يكونوا على وعيٍ كامل بوضعهم وحالهم لكي لا تأخذهم الآمال والتمنيات وتُفضي بهم إلى المصير المؤلم للأقوام السالفة وتقول «أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ

ءَامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ا لْحَقّ وَلَا يَكُونُواْ كَالَّذِينَ أُوتُواْ ا لْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ ا لْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ» «2».

والمفهوم من هذه الآية انّ ما يبعث على لين قلب الإنسان وانعطافه وتوجهه إلى الحقّ وتحرّكه في خطّ الإيمان والانفتاح على اللَّه هو ذكر اللَّه تعالى، أجل فإنّ ذكر اللَّه من شأنه أن يُزيل جميع الآمال الطويلة والعريضة ويجعل الإنسان ملتفتاً إلى مسؤولياته وواقعه ويُجلي قلب الإنسان ويضيئه، ويتسبّب في أن يتحرّك الإنسان في تصوراته وتفكيره من رؤية الواقع وحقيقة الحياة الدنيا فيرى عدم ثباتها وعدم استقرارها جلياً أمام ناظريه.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 163

«الآية الخامسة» تخاطب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله مشيرةً إلى الكفّار والمشركين وتقول «ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ» «1».

أجل أنّ هؤلاء مثلهم كمثل الدواب والأنعام لا يفهمون من الحياة الدنيا سوى المأكل والمشرب والتمتع بإشباع الشهوات البدنية، وعليه فهم أضل من الأنعام واسوأ حالًا بسبب أنّهم يعيشون طول الأمل في حياتهم وأفكارهم بحيث إن طول الأمل هذا يمنعهم من التفكير بمستقبلهم وما ينتظرهم في الغد حتى ينشب الموت مخالبه في أرواحهم.

وهنا نجد أنّ الآية توضح الأثر السلبي للآمال الطويلة على حياة الإنسان وتبين إلى أيّة درجة تجعل هذه الآمال الإنسان مشغولًا بنفسه ودنياه وغافلًا عن اللَّه تعالى.

وجملة (ذرهم) تبين بوضوح انه لا أمل في هداية هؤلاء وإلّا فإنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في الأصل مأمورٌ بهداية جميع الناس فلا معنى لأن يتركهم مع احتمال الهداية فيهم.

وكيف يصحّ توقّع الهداية من طائفة من الناس في حين أنّ هدفها النهائي في حركة الحياة هو الأكل والشرب والنوم والحياة

في الدنيا كما تعيش الحيوانات، لأن هذه الآمال الطويلة لا تدعهم يفكرون لحظة في نهاية هذه الحياة وخالقها والواهب لكلّ هذه المواهب في عالم الوجود وما هي الغاية من هذا الخلق العظيم؟

«الآية السادسة» من الآيات مورد البحث والتي تشير إلى هذه الحقيقة، وهي انّ الآمال الطويلة الّتي لا يحصل عليها الإنسان غالباً تحيط بالإنسان وتؤسر جميع امكاناته وقابلياته وتحجزه عن سلوك طريق السعادة وبالتالي ستمنعه من سلوك طريق الكمال المعنوي والإنساني وتقول: «أَمْ لِلْإِنسَانِ مَا تَمَنَّى «2».

وهذا الاستفهام في الحقيقة هو نوع من الاستفهام الإنكاري، فكيف يمكن أن يعيش الإنسان كلّ هذه الآمال والتمنيات وينالها ويصل إلى مقاصده في حين أنّ طول هذه الآمال الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 164

يستغرق أحياناً عشرات أو مئات الأضعاف من عمر الإنسان الطبيعي، وأحياناً تقع هذه التمنيات في خطّ اللانهاية بحيث كلّما وصل الإنسان في حركة الحياة إلى مقدار معيّن منها تجلّت له آمال اخرى تدعوه إلى مواصلة الحركة.

ويجب الانتباه إلى أنّ هذه الآية وردت بعد آيات تشير إلى اصنام المشركين الّذين كانوا يعيشون الأمل بشفاعتها والقرب من اللَّه تعالى بواسطتها، فالقرآن يقول: إنّ هذا الأمل لا يتحقّق إطلاقاً، ولكن مع ذلك فإنّ مفهوم الآية عام، وكما في الإصطلاح أنّ المورد لا يخصّص الوارد.

«الآية السابعة» تتحدّث عن أهل الدنيا الّذين يعيشون الآمال الطويلة والتمنيات العريضة وتقول: «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ* الّذي جَمَعَ مَالًا وَعدَّدَهُ «1»* يَحْسَبُ انَّ مَالَهُ اخْلَدَه» «2».

وفي الواقع أنّ هذه الآيات الثلاثة بمثابة العلّة والمعلول، لأن الإنسان الأناني والإنتهازي سوف يتحرّك في تعامله مع الآخرين من موقع الإستهزاء بسبب الثروة الكبيرة والمال الكثير عنده والّذي جَمَعه بطرق غير مشروعة، لأنه جَمَع مثل هذه الثروة بدافع

من تصوّره أنّ هذه الثروة من شأنها أن تكتب له الخلود في هذه الحياة، فهذا التصوّر المصحوب ب (طول الأمل) وكثرة التمنيات الدنيوية تسبب لهذا الشخص الغرور والإستعلاء والعجب، وهذا بدوره يتسبب في أن يتحرّك مع الآخرين من موقع الإستهزاء والسخرية «3».

ويُستفاد جيداً من هذه الآية أنّ الآمال والتمنيات الطويلة والعريضة تارةً تصل إلى حدّ ينسى الإنسان معها الموت تماماً ويتصوّر انه مخلّد أبد الدهر، وهذا الأمر يؤدي به إلى الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 165

الطغيان ويقوّي فيه حالة الإستكبار والفوقية وبالتالي تورثه هذه الحالة الوقوع في الكثير من الذنوب الاخرى.

«الآية الثامنة» والأخيرة من الآيات مورد البحث: تتحدّث عن طائفة من الأشخاص الّذين عرفوا الحقّ من موقع الوعي ولكنهم أداروا ظهورهم له وأعرضوا عنه بعد ذلك وتقول: «إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أَدْبَارِهِم مّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ» «1».

(أَمْلَى لهم) من مادّة إملاء، بمعنى ظهور الآمال البعيدة والطويلة الّتي تشغل الإنسان بنفسه.

وهذه الآية في الحقيقة ناظرة إلى هذا المعنى وهو انه كيف يمكن أن يكون الإنسان عارفاً للحقّ ومصدّقاً به في البداية ثمّ يتجاهل هذه العقيدة ويعرض عنها ويوصد أبواب النجاة أمامه ويسلك في خطّ الإنحراف والزيغ.

هل يمكن للإنسان العاقل أن يسلك هذا المسلك؟

أجل فعندما تحيط الوساوس الشيطانية بالإنسان وتصوّر له القبائح حسنات وتوقعه في منزلقات الآمال والتمنيات الطويلة فلا يبعد أن ينسى ما كان عليه من الحقّ ويعرض عنه بسبب ذلك.

ومن هنا يمكن إدراك البلاء العظيم الّذي تنزله الآمال الطويلة على الإنسان وكيف أنّ الإنسان العاقل يفقد عقله معها تماماً ويصبح غريباً عن ذاته ويترك عقله لمجموعة من الأوهام والخيالات الّتي تقوده في خط الباطل وتبتعد به عن اللَّه

تعالى.

ومن مجموع الآيات المذكورة آنفاً والّتي تحدّثت عن مصير بعض الأقوام الماضين وبعض المعاصرين لعصر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، وبعض الآيات تحدّثت بشكل قانون عام الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 166

يمكن استخلاص هذه النتيجة، وهي انّ طول الأمل وكثرة التمنيات تُعدّ من أخطر أعداء الإنسان في صياغة حياته السعيدة، وبإمكانها أن توقع أفراد البشر بل المجتمعات البشرية في هوّة السقوط والإندثار والشقاء.

طول الأمل في الروايات الإسلامية:

بما أنّ طول الأمل له تأثير مخرب جداً على حياة الإنسان المعنوية والأخلاقية وحتّى الدنيوية والمادية أيضاً، فإنّ الروايات الإسلامية قد ذمت هذه الخصلة بتعبيرات مختلفة، وأشارت إلى أسباب منطقية لذلك، وعلى سبيل المثال نشير إلى نماذج من هذه الروايات:

1- ما ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قوله: «ارْبَعَةٌ مِنَ الشَّقَاءِ جُمُودُ الْعَيْنِ وَقَسَاوَةُ الْقَلْبِ وَطُولُ الْامَلِ وَالْحِرْصِ عَلَى الدُّنْيَا» «1».

2- ونقرأ في حديث آخر عن أميرالمؤمنين عليه السلام قوله: «مَنْ اطَالَ امَلَهُ سَاءَ عَمَلُهُ» «2».

وهذا المعنى ورد بصورة أوضح في حديث آخر عن هذا الإمام عليه السلام أنّه قال «اطْوَلَ النَّاسِ امَلًا اسْوَئُهُمْ عَمَلًا» «3».

3- وورد في نهج البلاغة في الخطبة 147 تعبيراً عميقاً في هذا المجال قال: «انَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِطُولِ آمَالِهِمْ وَتَغَيُّبِ آجَالِهِمْ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ الْمَوْعُودُ الّذي تُرَدُّ عَنْهُ الْمَعْذِرَةُ وَتُرْفَعُ عَنْهُ التَّوْبَةُ».

4- وفي حديث آخر عن فاطمة بنت الحسين عليهما السلام عن أبيها الإمام الحسين عليه السلام عن جدّه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «انَّ صَلَاحَ اوَّلِ هَذِهِ الْامَّةِ بِالزُّهْدِ وَالْيَقِينِ وَهَلَاكَ آخِرِهَا بِالشُّحِّ (بِالشَّكِّ) وَالْامَلِ» «4».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 167

وبديهي أنّ من العوامل المهمة لانتصار المسلمين في صدر الإسلام هو الإيمان واليقين

الراسخ بالإضافة إلى عدم اهتمامهم بزخارف الدنيا وبريقها، حيث تسبب ذلك في أن يرد المسلمون الأوائل إلى ميدان القتال والجهاد بشجاعة فائقة وشوق بالغ فلم يكونوا يرون إلّا اللَّه تعالى ولا يتحركون إلّافي خط الطاعة والتقوى ولا يديرون ظهورهم إلى الأعداء من موقع الهزيمة والتخاذل.

ولكن عندما امتدت إليهم الآمال الطويلة وملكتهم العلائق الدنيوية وخدعتهم ظواهر الدنيا حلّ الشك والترديد محلّ اليقين، والشغف بأُمور الدنيا محلّ الزهد، وبدأوا يتراجعون أمام أعدائهم ويسلكون سبيل التخلف والإنحطاط الحضاري والثقافي، فلا سبيل لهم اليوم لتجديد عظمتهم الاولى سوى احياء تيْنَك الأصلين الرئيسيّين.

5- وفي حديث آخر عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «الْامَلُ سُلْطَانُ الشَّيَاطِينِ عَلَى قُلُوبِ الْغَافِلِينَ» «1».

6- وجاء في حديث آخر عن هذا الإمام أيضاً انه وصف مثل هؤلاء الأشخاص بعنوان شرّ الناس وقال: «شَرُّ النَّاسِ الطَّوِيلُ الْامَلِ، السَّيّى ءُ الْعَمَلِ» «2».

وكذلك ورد في حديث آخر عن هذا الإمام أيضاً قوله: «انَّ الْمَرْءَ يُشْرِفُ عَلَى امَلِهِ فَيَقْطَعُهُ حُضُورُ اجَلِهِ، فَسُبْحَانَ اللَّهِ لَاامَلٌ يُدْرَكُ وَلَا مُؤَمَّلٌ يُتْرَكُ» «3».

7- وفي حديث شريف عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «اشْرَفُ الْغِنَى تَرْكُ الْمُنَى» «4».

لأن التمنيات الطويلة والعريضة تتسبّب في أن يعيش الإنسان الحاجة والفقر في نفسه دائماً ويمدّ يده في سبيل إشباع هذه الحاجة إلى أيّ شخص وبذلك يحقق شخصيته ويسحق حيثيّته الإنسانية من أجل هدف لن يصل إليه أبداً.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 168

8- ونقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام قوله: «كَذَّبَ مَنِ ادَّعَى الْايمَانَ وَهُوَ مَشْغُوفٌ مِنَ الدُّنْيَا بِخِدَعِ الْامَانِيِّ وَزُورِ الْمَلَاهِيِّ» «1».

ومن الواضح أنّ المتعلق بالدنيا والمشغوف بزخارفها وملذاتها فإنه ومن أجل الوصول إلى كلّ شي ء منها لابدّ له أن ينسى كلّ شي ء يشدّه إلى الحقيقة والواقع ومن

ذلك سوف يُصاب الإيمان بالإهتزاز والضعف.

9- وكذلك ورد عن هذا الإمام في حديث قصير وملي ء بالمعنى أنّه قال: «الْامَانِيُّ تُعْمَى عُيُونَ الْبَصَائِرِ» «2».

10- وورد في حديث عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال يوماً لأصحابه «اكُلُّكُمْ يُحِبُّ انْ يَدْخُلَ الجَنّةَ؟».

«قَالُوا نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ»

قال: «قَصِّرُوا مِنَ الْامَلِ وَاجْعَلُوا آجَالَكُمْ بَيْنَ ابْصَارِكُمْ وَاسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ» «3».

11- وأيضاً نقرأ في حديث آخر عن الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «انَّ الْامَلَ يُذْهِبُ الْعَقْلَ، وَيُكَذِّبُ الْوَعْدَ، وَيَحِثُّ عَلَى الْغَفْلَةِ وَيُورِثُ الْحَسْرَةَ» «4».

12- ونختم هذا البحث برواية اخرى عن رسول اللَّه بعنوان (مسك الختام)، فقد ورد في هذا الحديث أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أخذ ثلاثة أعواد فغرس عوداً بين يديه والآخر إلى جانبه وأما الثالث فأبعده وقال: هلا تدرون ما هذا؟ قالوا: اللَّه ورسوله أعلم، قال: «هَذَا الْانْسَانُ! وَهَذَا الْاجَلُ! وَهَذَا الْامَلُ يَتَعَاطَاهُ ابْنُ آدَمَ وَيَخْتَلِجَهُ الْاجَلُ دُونَ الْامَلُ!» «5».

الأحاديث الشريفة أعلاه والّتي هي غيض من فيض الروايات المذكورة في المصادر الإسلامية في باب طول الأمل تبين بوضوح سعة دائرة الخطر وعمق الفاجعة المترتبة على الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 169

هذه الرذيلة الأخلاقية، وتؤكد على أنّ الآمال الطويلة والتمنيات العريضة تُعد من أشد أعداء سعادة الإنسان والمانع القوي أمام حركته في خط القرب الإلهي والإيمان والانفتاح على اللَّه.

الآثار السلبية لطول الأمل:

اشارة

إن للآمال والتمنيات الواسعة آثار مخربة كثيرة في حياة الإنسان المعنوية والمادية والّتي اشارت إليها الروايات المذكورة آنفاً، وكذلك ما ورد في الآيات القرآنية المذكورة في صدر البحث، وبشكل عام يمكن القول: أنّ طول الأمل يترتب عليه آثار مخرّبة ونتائج مدمّرة كالتالي:

1- طول الأمل مصدر الكثير من الذنوب

إن أحد أسوأ الآثار السلبية لطول الأمل والتمنيات العريضة هي أنّها تدعو الإنسان للتورط بأنواع الذنوب لأن الحصول على متعلقات هذه الآمال والتمنيات لا تتسنّى عادة إلّا بطرق غير مشروعة، وعليه فإنّ من يعيش هذه الرذيلة الأخلاقية يجد نفسه مضطراً إلى الغض عن الكثير من مسائل الحلال والحرام في سبيل تحقيق أمنياته وأن لا يُراعي في ذلك حقوق الآخرين ولا ممنوعات الشريعة المقدسة، فيتحرك من موقع غصب حقوق الناس، أكل أموال اليتامى التطفيف في الميزان، أكل الربا، الرشوة وأمثال ذلك.

ولهذا السبب فقد ورد في الحديث المعروف في (غرر الحكم) «مَنْ طَالَ امَلُهُ سَاءَ عَمَلُهُ» «1».

وورد أيضاً «اطْوَلَ النَّاسِ امَلًا اسْوَئُهُمْ عَمَلًا» «2».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 170

وجاء في النقطة المقابلة لذلك: «مَنْ قَصَّرَ امَلُهُ حَسُنَ عَمَلُهُ» «1».

وكلّ من هذه الأحاديث الثلاثة وردت عن مولانا أميرالمؤمنين الّذي نفديه بأنفسنا ونفدي كلامه النوراني البنّاء.

2- طول الأمل وقساوة القلب

وكما رأينا في الآيات القرآنية المذكورة في بداية البحث انها تتحدّث عن أحد الأقوام الماضية وتقول: «فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم».

والسبب في ذلك واضح، لأن طول الأمل يورث الإنسان الغفلة عن اللَّه تعالى ويقوي فيه عنصر الحرص ويُبعده عن الآخرة، وكلّ هذه من الأسباب المهمة لقساوة القلب.

ولهذا السبب ورد في الحديث الشريف أنّ اللَّه تعالى خاطب موسى وقال: «يَا مُوسَى لَا تُطَوِّلْ فِي الدُّنْيَا امَلَكَ فَيَقْسُوا قَلْبَكَ، وَالْقَاسِي الْقَلْبِ مِنِّي بَعِيدٌ» «2».

ونفس هذا المعنى ورد في حديث آخر عن الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام حيث قال: «مَنْ يَأْمُلُ انْ يَعِيشَ ابَداً يَقْسُو قَلْبُهُ وَيَرْغَبُ فِي الدُّنْيَا» «3».

3- طول الأمل ونسيان الأجل

وهذا الأثر السلبي لا يحتاج إلى مزيد شرح وبسط، ويمكن فهمه بوضوح على مستوى الأشخاص الّذين يعيشون هذه الرذيلة الأخلاقية حيث لا تجدهم يذكرون الموت أبداً ويفكرون بالآخرة بل يعيشون الغفلة التامّة عن هذه الامور المصيرية.

وقد جاء في الحديث المعروف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وكذلك عن أميرالمؤمنين عليه السلام القول: «طُولُ الْامَلِ يُنْسِي الْاخِرَةِ» «4».

«اكْثَرُ النَّاسِ امَلًا اقَلُّهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْراً» «5».

4- طول الأمل والعُسر في الحياة

ومن البديهي انه كلّما امتدت آمال الإنسان وقويت جذورها في واقع النفس فإنّها تتطلّب موارد ومقدّمات أكثر، وكذلك تدعو صاحبها للإقتصاد أكثر في الأموال والثروات لغرض التوصل إلى تحقيق تلك الآمال والتمنيات، ونتيجة هذين الأمرين هي أن يعيش الإنسان في ضنكٍ من العيش وتعب من زحمة العمل وصعوبة المشكلات الّتي يواجهها هو وعائلته حيث يجد نفسه مضطراً إلى العمل ليل نهار وبدون توقف. وفي ذلك وردت أحاديث عن أميرالمؤمنين تقول: «مَنْ كَثُرَ مُنَاهُ كَثُرَ عَنَائُهُ».

وقال أيضاً: «مَنِ اسْتَعَانَ بِالْامَانِيِّ افْلَسَ». (حتّى لو عاش حياة الأغنياء في كثرة المال والثروة).

وقال أيضاً: «الرَّغْبَةُ مِفْتَاحُ النَّصَبِ» «1».

5- طول الأمل والذلّة في الحياة

إنّ الأشخاص الّذين يعيشون الآمال الطويلة مضافاً إلى كدحهم وتعبهم الدائم فإنّهم يعيشون في شخصيّتهم الإنسانية الشعور بالذلّة والحقارة حيث يضطرون إلى سحق حيثيّتهم لغرض التوصل إلى هدفهم الموهوم والخيالي ويذعنون ويخضعون أمام كلّ أحد ويمدّوا أيديهم لأيّ شخص كما ورد في الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين عليه السلام: «ذُلُّ الرِّجَالِ فِي خَيْبَةِ الْامَالِ» «2».

6- الحرمان من النعم والمواهب

وكما تقدّمت الإشارة إليه في الأشخاص المتورطون في دوّامة الأمل ومستنقع التمنيات فإنّهم يجدون أنفسهم مضطرون إلى الاقتصاد والتقتير على أنفسهم في الحياة وعدم الإستفادة من المواهب الكثيرة والنعم الوفيرة الّتي لديهم كلّ ذلك من أجل تحقيق تلك الآمال البعيدة، ولهذا السبب فإنّهم يقترون ويقتصدون في كلّ شي ء حتّى على أنفسهم الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 172

وعائلتهم، وهذا هو البخل أو الشح الّذي يحرم الإنسان من النعم والمواهب الإلهية في عين تملكه للإمكانات والثروات الوفيرة فيعيش عيشة الفقراء وهو غني.

وقد نرى في زماننا هذا بعض الأشخاص الّذين يبتلون بطول الأمل ويتحركون في سبيل تأمين حياتهم وأبناءهم تحت عنوان (التأمين على الحياة) ويُحرموا بذلك أنفسهم وأبناءهم من المواهب والنعم الإلهية الكثيرة!!

7- طول الأمل وعدم إدراك الحقائق

إنّ الآمال والتمنيات البعيدة حالها حال السراب الّذي يخدع الضمآن في الصحراء المحرقة ويجرّه إليه ليعيش الضمأ والعطش أكثر دون أن يصل إلى مقصوده، فهذه الآمال والتمنيات تُظهر الامور الواقعية بأقنعة مزيّفة ولذلك لا يُدرك الإنسان أين يذهب وإلى أين يتجّه؟ وما هي وظيفته في قِبال الامور المصيرية؟

ومن ذلك ورد في الحديث الشريف الّذي سبقت الإشارة إليه، عن أميرالمؤمنين عليه السلام قوله «الْامَانِيُّ تُعْمِي عُيُونَ الْبَصَائِرِ» «1».

وخلاصة الكلام انّ الشخص الّذي يمكنه إدراك وجه الحقيقة الجميل كما هو عليه هو الشخص الّذي لا يغطي عقله بحجاب الآمال والتمنيات ولا يعيش وسط السُحُب المظلمة والمظلّلة لطول الأمل.

8- طول الأمل وكفران النعمة

ومن البديهي أنّ طول الأمل يقود الإنسان لأن يتعلق قلبه بما لا يحصل عليه أبداً ولهذا فإنه يرى نعمة اللَّه عليه قليلة ومواهبه حقيرة فلا يتعامل مع ما لديه من هذه المواهب العظيمة من موقع الإهتمام والعناية وهذا هو عين كفران النعمة ممّا يترتب عليه عواقب سيّئة في الدنيا والآخرة.

وقد ورد في الحديث الشريف عن الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «تَجَنَّبُوا الْمُنَى فَانَّهَا تُذْهِبُ بِبَهْجَةِ نِعَمِ اللَّهِ عِنْدَكُمْ، وَتُلْزِمُ اسْتِصْغَارَهَا لَدَيْكُمْ، وَعَلَى قِلَّةِ الشُّكْرِ مِنْكُمْ» «2».

دوافع طول الأمل وأسبابه:

إن العمدة في دوافع طول الأمل هو الجهل وعدم الإطلاع على حال الدنيا وما فيها من التغيرات والإبتلاءات وعناصر التضاد في حركة الحياة، وكذلك الجهل بقدرة اللَّه ولطفه وثوابه العظيم في الآخرة، فمجموع هذه الجهالات تدفع الإنسان إلى منزلقات طول الأمل والتمنيات العريضة.

وتوضيح ذلك: إن الإنسان وبسبب جهله بنفسه وعدم الإلتفات إلى هذه الحقيقة وهي أنّه قد يحين أجله في كلّ لحظة ويرحل عن هذه الدنيا، فقد تعترض جلطة من الدم في شرايين قلبه أو دماغه فيُصاب بالسكتة القلبية أو الدماغية أو يُصاب بزلزلة أو حريق أو حادثة سيارة وأمثال ذلك ممّا يُنهي حياته الدنيوية، نعم وبسبب جهله بهذه الامور فإنه يتورط في شراك الآمال والتمنيات البعيدة ويحسب أنّ عمره طويلٌ جداً ثمّ يحيط نفسه بطائفه من التصورات الواهية والآمال البعيدة الّتي لا تسمح له أن يفكر بالواقع وبالحقائق المحيطة حوله في واقع الحياة.

وهكذا بالنسبة إلى جهله بحال الدنيا وعدم وفائها لا بالصغير ولا بالكبير، ولا بالشاب ولا بالشيخ، فنرى أحياناً أنّ مئات الصبيان يموتون قبل أن يموت شيخ واحد، واخرى قبل أن يموت المريض بالسرطان يموت عشرات الأشخاص السالمين. وأحياناً تجر السلاطين إلى أن يعيشوا الذلّة والمهانة

ويستبدلوا عروشهم وقصورهم بزنزانات السجن، وقد يصبح الثري الغارق في النعمة بين عشية وضحاها فقيراً معدِماً لا يجد عشاء يومه، أجل فالجهل بهذه الامور من شأنه أن يوقع الإنسان في دوامة طول الأمل.

وهنا يقول سلمان الفارسي التلميذ الكبير لمدرسة الوحي: «ثَلَاثٌ اعْجَبَتْنِي حَتَّى اضْحَكَتْنِي: مُؤَمِّلُ الدُّنْيَا وَالْمَوْتُ يَطْلِبُهُ، وَغَافِلٌ لَيْسَ بَمَغْفُولٍ عَنْهُ، وَضَاحِكٌ بمل فِيهِ لَا يَدْرِي اسَاخِطٌ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهِ امْ رَاضٍ عَنْهُ» «1».

وفي الروايات الإسلامية اشارات واضحة على هذا المعنى حيث يقول الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 174

أميرالمؤمنين عليه السلام: «مَنْ ايْقَنَ انَّهُ يُفَارِقُ الْاحْبَابَ وَيَسْكُنُ التُّرَابَ وَيُوَاجِهُ الْحِسَابَ وَيَسْتَغْنِي عَمَّا خَلَّفَ، ويَفْتَقِرُ الَى مَا قَدَّمَ كَانَ حَرِيّاً بِقَصْرِ الْامَلِ وَطُولِ الْعَمَلِ» «1».

وجاء في حديث آخر عن هذا الإمام أيضاً: «اتَّقُوا خِدَاعَ الْآمَالِ، فَكَمْ مِنْ مُؤَمِّلِ يَوْمٍ لَمْ يُدْرِكْهُ، وَبَانِي بَنَاءٍ لَمْ يَسْكُنْهُ، وَجَامِعِ مَالٍ لَمْ يَأْكُلْهُ» «2».

وأحياناً يكون الجهل بالآخرة والثواب العظيم الخالد الّذي أعدّه اللَّه للمؤمنين سبباً في أن يتصور الإنسان الخلود لهذه الحياة الدنيا ويغرق في الأوهام والتمنيات والآمال الدنيوية وأحياناً يتسبب جهله بالسعادة الكامنة في الزهد والتحرر من أسر الشهوات والنوازع الدنيوية إلى أن يُحرق نفسه بنار طول الأمل.

وقد ورد في الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام قوله: «اسْتَجْلِبْ حَلَاوَةَ الزَّهَادَةِ بِقَصْرِ الْامَلِ» «3».

وأحياناً يغفل الإنسان عن قدرة اللَّه تعالى وينسى هذه الحقيقة الحاسمة في واقع الحياة أو يكون جاهلًا بها ولا يعلم أنّ اللَّه تعالى ومنذ انعقاد نطفته في رحم امّه فإنه بعين اللَّه ومحطُّ عنايته ورعايته في كلّ اموره في حين انه كان يعيش الضعف بمنتهاه ولا تصل إليه يد أحد من الناس لتُعينه وتوصل إليه رزقه في ظلمات الرحم، وتستمر عناية اللَّه به إلى آخر حياته،

وكذلك حال أولاده إذا كانوا يسيرون في خط الإيمان والصلاح فإنّ اللَّه تعالى لا يتركهم لوحدهم، وإن كانوا من أعداء اللَّه فلا مسوّغ لأن يتعب الإنسان نفسه في سبيلهم وخدمتهم.

أجل فإنّ الجهل بهذه الامور يؤدي بالإنسان إلى أن يُسجّل اسمه في دائرة (التأمين على الحياة له ولأبناءه) وهكذا يتورط بمصيدة طول الأمل.

إن جميع حالات الجهل هذه (جهل الإنسان بنفسه، جهله بالدنيا، جهله بقدرة اللَّه الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 175

تعالى، جهله بالآخرة ونعيمها الخالد) يتسبب في أن يعيش الإنسان الحيرة والضياع في صحراء الحياة المحرقة أسير الآمال والتمنيات العريضة.

علاج طول الأمل:

لابدّ في علاج الأمراض من التوجّه إلى الجذور وقلعها من الأساس ليتسنّى للإنسان التخلص من المرض بشكل حاسم، كما لم يقطع جذور المرض فإنّ العلاج السطحي والظاهري سوف لا ينفعه على المدى الطويل، وبعبارة اخرى: انه حالة من حالات التسكين للمرض لا علاجه.

وبالنظر إلى هذا الأصل الأساس ومع الإلتفات إلى جذور الآمال والتمنيات في واقع الإنسان يمكن أن نصل إلى هذه النتيجة، وهي أنّه لابدّ من التفكّر والتأمل بجدّية في جذور هذا المرض الأخلاقي.

فمن جهة يجب على الإنسان أن يعلم بأنه كائن مُعرّض للتلف والموت وأنّ الفاصلة بينه وبين الموت قليلة جدّاً، فهذا اليوم يعيش السلامة والصحّة والنشاط ولكن قد نجده غداً وهو متورط بأنواع الأمراض الصعبة أو المصائب المحزنة، واليوم هو قوي وغني ومتمكن، وغداً يمكن أن يبدو ضعيفاً ومن أفقر الناس، والنماذج على ذلك كثيرة في صفحات تاريخ البشرية.

ومن جهة اخرى يجب أن يتفكر في إهتزاز الدنيا وتغيّرها الدائم وعدم اعتبارها.

أجل فإنّها لا تثبت لأحدٍ من الناس إطلاقاً.

ومن جهة ثالثة عليه أن يتدبّر ويتأمل بهذه الحقيقة، وهي اننا نعتقد بالمعاد واليوم الآخر والحساب الإلهي

في عرصات المحشر والثواب والعقاب على الأعمال والأفعال في الدنيا وأنّ هذا العالم ما هو إلّاقنطرة وجسر يعبر عليه الإنسان إلى تلك الحياة الخالدة فعليه أن يتزوّد من هذه الحياة ولا يتصور أنّها حياة خالدة وانها هي الأصل والهدف من الخلقة.

وكذلك يتفكّر في أنّ الحرص على جمع الأموال والثروات واكتنازها لغرض تحقيق تلك الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 176

الآمال والتمنيات الواسعة في الحياة الدنيا لا يجلب له السعادة أبداً، بل سيزيده شقاءاً ومحنةً أيضاً، ويتفكّر أيضاً في أنّ أهم حالات الهدوء والطمأنينة هي هدوء الروح وسعادة الوجدان الّتي لم يحصل عليها الإنسان، إلّاإذا سار في خطّ التقوى والتوكل على اللَّه من موقع الإيمان به ومعرفة حال الدنيا لا من موقع الحرص والولع في تحصيل نعيمها الفاني وإمكاناتها المادية.

وأنّ أفضل الطرق للوصول لهذا الهدف هو ما ورد في الحديث النبوي المعروف: «خُذْ مِنْ دُنْيَاكَ لِاخِرَتِكَ وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ، وَمِنْ صِحَّتِكَ لِسُقْمِكَ، فَانّكَ لَاتَدْرِي مَا اسْمُكَ غَداً» «1».

أي ماذا يحصل لك في الغد وهل أنت من الأموات أم الأحياء، من المرضى أم الأصحّاء؟

والعامل الآخر الّذي يُربّي الآمال والتمنيات ويقوي جذورها في نفس الإنسان هو الأهواء النفسية والعشق للدنيا والتعلق بها، فكلّما سعى المرء في التقليل من تعلّقاته الدنيوية فإنّ أمله في الحياة سيكون أقصر، وعلى العكس من ذلك كلّما تعلّق الإنسان بالدنيا أكثر كلّما ازدادت آماله وكثرت تمنياته.

ولغرض تحصيل هذا الهدف أي تقصير الأمل في الدنيا فإنّ من أقوى العوامل المؤثرة في ذلك هو ذكر الموت الّذي يُزيل عن بصيرة الإنسان حجُب الغفلة فيرى حقائق الامور كما هي ويُشاهد الواقعيات الكامنة خلف المظاهر البراقة والظواهر الزائفة.

ولهذا ورد عن أميرالمؤمنين عليه السلام في الخطبة 99 في نهج البلاغة

قوله: «الَا فَاذْكُرُوا هَادِمَ اللَّذَّاتِ، وَمُنَغِّصَ الشَّهَوَاتِ، وَقَاطِعَ الْامْنِيَّاتِ».

ونقرأ في حديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله ضمن خطبة له: «عُدَّ نَفْسَكَ فِي اصْحَابِ الْقُبُورِ» «2»

. وذلك لكي لا تبتلي بطول الأمل.

ونقرأ في النقطة المقابلة لذلك ما ورد عن أميرالمؤمنين أنّه قال: «اكْثَرُ النَّاسِ امَلًا اقَلُّهُمْ الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 177

لِلْمَوْتِ ذِكْراً» «1».

والطريق الآخر للتصدي لطول الأمل وتضعيفه في واقع النفس هو مطالعة الآثار السلبية المترتبة عليه.

أجل فالإلتفات إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ طول الأمل يُعد مصدراً للكثير من الذنوب والرذائل الأخلاقية، ومن الأسباب المهمة لقساوة القلب ونسيان الآخرة، وأن يعيش الإنسان حياة التعب والذلّة والحرمان من النعم والمواهب الإلهية، وتسدل على بصيرته وعقله حجاباً سميكاً لا يدعه يرى الحقيقة من موقع الوضوح في الرؤية، كلّ ذلك يتسبب في أن يتحرّك الإنسان على مستوى التفكير الجدي في علاج هذه الحالة السلبية قبل أن يدمّر سيل الأمل بيت سعادته وبذلك يقوم بتحديد آماله وتهذيب تمنياته ليعود إلى صف العقلاء والسعداء الّذين يعيشون الأمل بشكل معقول ومنطقي.

ويقول أميرالمؤمنين عليه السلام في ذلك: «حَاصِلُ الْمُنَى الْاسَفُ وَثَمَرَتُهُ التَّلَفُ» «2».

أي تلف إمكانات الإنسان وعمره الثمين.

ويقول عليه السلام في حديث آخر: «احْذَرُوا الْامَانِيَّ فَانَّهَا مَنَايَا مُحَقَّقَةٌ» «3».

وهنا نقطتان:

الاولى: إن الطلب المادي يتحرّك في اسلوبه العلاجي للأمراض الجسمية والنفسية من موقع ايجاد البديل، أي انه يستبدل رغبات الإنسان الّتي تقوده إلى المرض برغبات اخرى أقوى منها تجره إلى ساحل السلامة والصحّة، مثلًا الشخص الّذي يعيش الرغبة الشديدة في تناول الأطعمة الدسمة والسكريات بحيث تسبب له أمراض مختلفة، فيوصى بتناول مقدار كبير من الفاكهة والخضروات، أو الأشخاص المدمنين على المواد المخدّرة فإنّ الأطباء يوصونهم باستبدال هذه العادة بعادات

اخرى سليمة.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 178

وهذه النقطة صادقة أيضاً في الأمراض الأخلاقية، وذلك بأن يقوم معلم الأخلاق باستبدال الآمال الطويلة في الامور المادية بالآمال الطويلة المعنوية في دائرة الثواب الإلهي في الآخرة أو الرغبة الشديدة إلى العلم والمعرفة والتقرب إلى اللَّه تعالى بدلًا من العشق للمال والجاه و .... وأمثال ذلك.

النقطة الاخرى أنّ للآمال بدورها مراتب، فأحياناً يتمنّى الإنسان أن يكون له عمراً طويلًا أو مخلّداً، كما يتحدّث القرآن الكريم عن طائفة من اليهود ويقول: «... يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ ...» «1».

وهذا الطلب لعدد ألف سنة إذا كان المراد به هو هذا المقدار بالذات فيدلّ على طلبهم للعمر الطويل جدّاً، ولو كان المراد منه بيان الكثرة فيدلّ على طلبهم للعمر اللامتناهي واللامحدود.

بعض الناس يعيشون التمنيات والآمال في مراحل أدنى من ذلك، كأن يتمنّى أن يعيش مائة سنة، أو خمسين سنة، أو عشر سنوات أو أقل، ويُستفاد من الروايات انّ كلّ هذه تُعدْ من الآمال الطويلة (وطبعاً إذا كان الهدف من ذلك هو نيْل المتع المادية وتحصيل الامكانات الدنيوية فحسب لا الأبعاد المعنوية والإلهية والتحرّك في خطّ تقدّم البشرية وخدمة الناس).

ومن جهة اخرى فإنّ الآمال والتمنيات لها أنواع مختلفة، فأحياناً يكون الهدف منها هو الجهة المادية، واخرى المقام، وثالثة الشهوات، ورابعة جميع ذلك.

وجميع هذه الأقسام للآمال والتمنيات الطويلة والعريضة مذمومة في الدائرة الأخلاقية رغم أن بعضها أقبح من البعض الآخر.

الآمال والتمنيات الإيجابية والبنّاءة:

وآخر ما يمكن أن يُقال في بحث طول الأمل هو أنّ الآمال والتمنيات ليست بأجمعها

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 179

سلبية وعلامة انحطاط الشخصية والسقوط الأخلاقي، لأن هذه الآمال والتمنيات إذا كانت متجهة نحو القيم الأخلاقية والمُثل الإنسانية الرفيعة، أو تصب في دائرة

الخدمة الإجتماعية وتتحرّك في خطّ تكامل المجتمع وتطوره الحضاري في مراتب الكمال وتقود الإنسان إلى السعي وبذل الجهد أكثر في هذه المسائل، فلا شكّ في أنّ مثل هذه الآمال والتمنيات حتّى لو كانت طويلة وعريضة فإنّها ليست فقط غير مذمومة بل من علامات الكمال الإنساني للفرد.

وأساساً كما تقدّم في بداية البحث أنّ الأمل بالمستقبل يمثل القوّة المحركة للإنسان لبذل الجهد والسعي في حركة الحياة الفردية والاجتماعية فإذا انطفأ نور الأمل والرجاء في قلب الإنسان فإنه يصبح كالدُمية بلا روح ويتلاشى عنه عنصر النشاط والحركة ويتحول الإنسان إلى كائن جاف وبارد ومن دون هدف معيّن.

وفي الواقع فإنّ الآمال على قسمين:

أحدها (الآمال الكاذبة) والّتي هي كالسراب في صحراء الحياة حيث تدعو العطاشى إليها وتجرّهم نحوها دون أن ينالون شيئاً بل يزدادون عطشاً إلى أن تهلكهم.

والآخر (الآمال الصادقة) والإيجابية والبنّاءة والّتي هي كالماء الّذي يسقي كلّ حي ويقوّي في الإنسان روح الحياة والسعي والنشاط، وكلّما ازداد نشاطاً وحركة ازدادت معنويّته وصعد في معراج الكمال.

وهذا هو ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله: «ا لْمَالُ وَا لْبَنُونَ زِينَةُ ا لْحَيَا ةِ الدُّنْيَا وَا لْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا» «1».

وقد اشارت هذه الآية إلى كلا القسمين من الآمال: الإيجابية والسلبية.

وهناك اشارات دقيقة في الروايات الإسلامية إلى الآمال الإيجابية والبنّاءة ومن ذلك ما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «انَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ الْفَقِيرَ لَيَقُولُ يَا رَبِّ ارْزُقْنِي حَتَّى افْعَلَ كَذَا وَكَذَا مِنَ الْبِرِّ وَوُجُوهُ الْخَيْرِ، فَاذَا عَلِمَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْهُ بِصِدْقِ نِيَّتِهِ الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 180

كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْاجْرِ مِثْلَ مَا يَكْتُبُ لَهُ لَوْ عَمِلَهُ، انَّ اللَّهَ وَاسِعٌ كَرِيمٌ» «1».

وأساساً فإنّ

عزم الإنسان وهمّته بمقدار آماله الإيجابية، فكلّما اتسعت دائرة هذه الآمال فإنّ عزمه وهمّته ستزداد أيضاً، واللطيف انه يُستفاد من الروايات الإسلامية جيداً أنّ اللَّه تعالى يُعطي الثواب للأشخاص المؤمنين بمقدار ما لديهم من الأمل والرجاء، لأن ذلك من علامات قابلية الروح والجسم لأداء الأعمال الصالحة أكثر، وحتّى انه يُستفاد من الروايات أنّ الإنسان إذا كان يرجو ويأمل أملًا جميلًا وايجابياً لغرض تحصيل رضا اللَّه تعالى فإنه لا يرحل من هذه الدنيا إلّاويوفّق لنيل هذا الأمل وتحقيقه كما ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «مَنْ تَمَنَّى شَيْئاً وَهُوَ للَّهِ عَزَّوَجَلَّ رِضاً، لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الدُّنْيَا حَتَّى يُعْطَاهُ» «2».

وطبعاً يمكن أن تكون هناك بعض الموارد الّتي تستوجب المصلحة أن لا يصل الإنسان إلى ذلك الأمل ولا يناله، لأنّه إذا حصل عليه فسوف تترتب على ذلك بعض الآثار السلبية من قبيل الغرور والغفلة والعشق للدنيا وأمثال ذلك ولذلك فإنّ اللَّه تعالى بألطافه الخفية لا يوفقه للوصول إلى هذه الآمال والتمنيات.

ونختم هذا البحث بالإشارة إلى نكتة اخرى وهي أنّ التمنيات الإيجابية تدعو الإنسان إلى بناء شخصيته وتتسبب في تكامله المعنوي والروحي، لأنّه يعلم أنّ الشخصيات الكبيرة لن تبلغ هذا المبلغ من الكمال إلّامن خلال تهيئة أسباب الكمال هذا وكما يقول الشاعر:

اعَلِّلُ النّفس بالآمال ادركُهَا مَا اضْيَقَ الْعَيْشَ لَولَافُسحَةُ الْامَلِ

التعصّب والعناد

تنويه

لاشكّ أنّ أساس العبودية والطاعة للَّه تعالى يكمن في عنصر التسليم والتواضع والخضوع مقابل الحقّ، وعلى العكس من ذلك فإنّ كلّ اشكال (التعصب واللجاجة) تورث الإنسان البعد عن الحقّ والحرمان من السعادة.

(التعصب) بمعنى الإرتباط غير المنطقي بشي ء معيّن إلى درجة أنّ الإنسان يضحي بالحقّ من أجل ذلك، أمّا (العناد) فيعني الإصرار

على شي ء معيّن بحيث يسحق تعليمات العقل والمنطق تحت قدمه من أجل ذلك، والثمرة لهاتين الشجرتين الخبيثتين هو (التقليد الأعمى) الّذي يُعد من أقوى الموانع والسدود أمام تكامل الإنسان وحركته في خطّ المعنويات والإيمان والكمال الأخلاقي.

عندما نراجع سيرة الأنبياء العظام وأسباب انحراف الأقوام السالفه عن سلوك طريق الحقّ والدعوة الإلهية يتضّح لنا جيداً أنّ هذه الامور الثلاثة (التعصب والعناد والتقليد الأعمى لها دورٌ أساس في عملية الانحراف هذه، وفي القرآن الكريم اشارات كثيرة إلى هذه المسألة بالذات حيث ينبغي دراستها والتدبّر فيها:

ونبدأ من قوم نوح عليه السلام حيث يقول القرآن الكريم:

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 182

1- «وَإِنّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَارًا» «1».

2- «وَقَالُواْ لَاتَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا» «2».

ثمّ يورد القرآن الكريم قصة هود ويقول:

3- «قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَاكَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» «3».

ثمّ تصل النوبة إلى قصة إبراهيم عليه السلام حيث يقول القرآن الكريم:

4- «إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ الَّتمَاثِيلُ الَّتِى أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ* قَالُواْ وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا لَهَآ عَابِدِينَ» «4».

5- «قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ* أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ* قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ» «5».

ثمّ تصل النوبة إلى قوم موسى وفرعون فيقول:

6- «قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَآءُ فِى الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ» «6».

ثمّ يصل إلى عصر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله حيث نرى نفس الأعمال والسلوكيات تصدر من أعدائه حيث يقول عنهم القرآن الكريم:

7- «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآأَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآأَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لَايَعْقِلُونَ

شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ» «7».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 183

8- «إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى قُلُوبِهِمُ ا لْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ ا لْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى ا لْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَآ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيًما» «1».

9- وكذلك يقول: «وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ* فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُواْ بِهِ مُؤْمِنِينَ» «2».

وأحياناً يذكر تعصب الأقوام السالفة بعضها ضد البعض الآخر ويقول:

10- «وَقَالَتِ ا لْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَىْ ءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ ا لْيَهُودُ عَلَى شَىْ ءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ ا لْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَايَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ا لْقيَامَةِ فِيَما كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» «3».

وفي مكان آخر يستعرض مسألة التقليد الأعمى والتعصب واللجاجة بعنوانها برنامج عام لجميع الأقوام الذين يتحركون في خط الضلالة والباطل ويقول:

11- «وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ» «4».

12- «وَيَقُولُونَ أَئنَّا لَتَارِكُواْ ءَالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُون» «5».

تفسير واستنتاج:

المنهج العام للأقوام المنحرفين

كما تقدم فإنّ هذه الرذائل الأخلاقية الثلاث، (أيْ التعصب والعناد والتقليد الأعمى تُعد

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 184

منهجاً عاماً في سلوك جميع الأقوام الّذين يتحركون في خطّ الإنحراف والضلال والزيغ، فهؤلاء وبسبب تعصبهم الشديد للأفكار الخرافية والتقاليد الزائفة، وعنادهم وإصرارهم على اعتناقها وعدم التخلي عنها، وبالتالي اتباعهم لآبائهم وأسلافهم إتباعاً أعمى وبذلك انتقلت الخرافات والعقائد الزائفة جيلًا بعد جيل حيث ضاعت دعوة رجال الحقّ والأنبياء الإلهيين الّذين جاءوا لهدايتهم في زَحمة النعرات الجاهلية لهؤلاء الأقوام المنحرفين.

ونبدأ قبل كلّ شي ء بقصة نوح مع قومه لنرى أنّ هؤلاء الّذين كانوا يعبدون الأوثان كانوا إلى درجة من التعصب والعناد في مقابل دعوة نبي عظيم من اولي العزم حتّى

أنّهم كانوا يستوحشون من سماع صوته ودعوته إلى اللَّه كما تتحدّث «الآية الاولى من الآيات مورد البحث على لسان نوح فتقول: «وَإِنّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَارًا» «1».

أجل فإنّ تعصّبهم وعنادهم كان من الشدّة والقوّة إلى درجة أنّهم لن يسمحوا لآذانهم أن تسمع صوت نوح الحامل للنداء الإلهي، وكذلك لم يسمحوا لعيونهم أن ترى وجهه وسيماءه، وبهذه الطريقة العجيبة كانوا يتهربون من الحقيقة، فما أخطر هذه الحالة الّتي يعيشها الإنسان الجاهل والمتعصب!!

وتأتي «الآية الثانية» لتكشف عن بُعدٍ آخر من هذه الرذائل الأخلاقية المتجذّرة في قوم نوح وتقول: «وَقَالُواْ لَاتَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا» «2».

أما لماذا لم يكونوا على استعداد لترك هذه الاصنام التي صنعوها بأيديهم، بل كانوا يرون أنّها حاكمة على مصيرهم ومصير العالم؟ لا دليل لذلك سوى التعصب والتقليد الأعمى للتقاليد الزائفة والعقائد البالية.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 185

وفي «الآية الثالثة» يتحدّث القرآن الكريم عن قوم عاد وجدالهم مع نبيّهم هود ويقول:

«قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَاكَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» «1».

فهؤلاء كانوا إلى درجة من العناد والجهل والتعصّب بحيث أنّهم لم يطيقوا دعوة هذا النبي إلى التوحيد الخالص واعترضوا عليه في دعوته لترك ما كانوا يعبدونه من الأوثان حتّى أنّهم كانوا مستعدين لاستقبال امواج البلاء بدلًا من التنازل عن عقائدهم المنحرفة.

وعلى هذا الأساس وبسبب التعصب والاصرار والتقليد الأعمى فإنّ التوحيد الخالص الّذي هو روح عالم الوجود كان في نظرهم أمراً موحشاً وغريباً، وبالعكس فإنّ عبادة الأوثان الّتي لا عقل لها ولا شعور كان أمراً معتبراً ومعقولًا لديهم، بل حتّى أنّهم سلكوا على

خلاف مقتضى قانون دفع الضرر المحتمل الّذي يحكم به العقل حيث لم يهتموا أدنى اهتمام باحتمال نزول العذاب الإلهي عليهم وكانوا يصرّون على نبيّهم أن يدعو ربه بتعجيل نزول العذاب عليهم، وهذه الحماقة من هؤلاء ليست سوى حصيلة للتعصب والعناد.

أجل فهؤلاء ولأجل الفرار من الحقّ والإستمرار على سلوكهم الجاهلي في تقليدهم الأعمى للآباء كانوا يسرعون نحو هلاكهم والعقاب الإلهي عليهم وبالتالي تحقّق ما كانوا يطلبونه من نبيّهم واحترقوا بأجمعهم في عذاب اللَّه، وهذه هي نتيجة العناد والتعصب الجاف والتقليد الخاطي ء.

وتتعرض «الآية الرابعة» إلى إحدى الإفرازات المشؤومة لهذه الرذائل الأخلاقية على الإنسان، وتتحدّث عن (نمرود) وقومه وتقول عن النبي إبراهيم: «إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ الَّتمَاثِيلُ الَّتِى أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ» «2».

ولكنه لم يسمع جواباً منهم على كلامه إلّاأنّهم قالوا: «قَالُواْ وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ» «3».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 186

وعندما قال لهم إبراهيم بصراحة حاسمة: إنكم أنتم وآبائكم في ضلال مبين، لم يستيقظوا من غفلتهم، فلم يكن من إبراهيم إلّاأن بين لهم تفاهة هذه التماثيل والأصنام من موقع العمل والممارسة، فحطّم هذه الأصنام لكي يثوبوا إلى عقولهم، ولكنهم بدلًا من الانتباه من سكرتهم وجهالتهم وبدلًا من أن يمزّقوا حجب الجهل والتعصب واللجاجة فقد هدّدوا إبراهيم بالحرق بالنار، وألبسوا تهديدهم لباس الفعل وترجموه على أرض الواقع، وقذفوا بإبراهيم وسطأمواج النيران الملتهبة، وعندما رأوا أنّ هذه النار تحوّلت إلى نعيم وجنّة وكانت برداً وسلاماً على إبراهيم، وشاهدوا أكبر معجزة إلهية بامّ أعينهم استمروا مع ذلك في سلوكهم الأحمق بتأثير قيود الجهل والتعصب والاصرار، وادّعوا أنّ ذلك كان من قبيل السحر.

كلّ ذلك يدلّ على أنّ هذه الرذائل الأخلاقية إلى أيّة درجة هي خطرة على الإنسان ومانعة من التحرّر

في الفكر والوصول إلى الحقّ، وأنّ الأشخاص الّذين يقعون أسرى في براثن هذه الرذائل فإنّهم يعيشون الذلّة والحقارة إلى غايتها وبذلك يحطّمون عزّتهم الإنسانية ويهبطون من مقام الإنسانية الشامخ ويقبلون بكلّ ذلك بدلًا من التسليم والإذعان إلى الحقّ.

وتشير «الآية الخامسة» أيضاً إلى عبادة الأوثان لدى قوم (نمرود) عندما واجههم إبراهيم بالأدلة الساطعة والبراهين القاطعة على سخافة هذه العقيدة من خلال الحوار العقلي والمنطقي حيث تقول الآية: «قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ* أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ» «1».

ولكن هؤلاء لم يكن لديهم أيّ جواب منطقي في مقابل هذه التساؤلات الحاسمة إلّا أنّهم لاذوا بكهف التقليد الأعمى كما تقول الآية: «قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ» «2».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 187

في حين أنّ الإنسان إذا أراد أن يسلك في خطّ التقليد فعلى الأقل يجب أن يقلد ويتبع العالم والخبير بالوقائع ليشير عليه ما ينفعه في هذا السبيل لا أن يقلد الجاهل والأحمق، ولكنّ حجاب التعصب واللجاجة كان سميكاً إلى درجة انه لن يسمح لأقل شعاع من نور شمس الهداية والمنطق والدليل العقلي في النفوذ إلى أعماقهم ووجدانهم ليضي ء باطنهم بنور الحقّ.

«الآية السادسة» تتحدّث عن لجاجة الفراعنة وعنادهم في مقابل المعجزات الواضحة والآيات البيّنة لموسى حيث فضّلوا البقاء على عقائدهم الوثنية الّتي ورثوها من أسلافهم بدافع من اللجاجة والإصرار والعناد حيث تقول الآية: «قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَآءُ فِى الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ» «1».

هؤلاء لم يسألوا من أنفسهم عن دين موسى هل هو حقّ أم باطل، وماذا يمتاز على دين الأسلاف؟ بل كان كلامهم يدور فقط في اننا يجب أن نحفظ دين الآباء والأجداد سواءاً كان حقّاً أم باطلًا، فالقيمة الواقعية

لنا تكمن في هذا المنهج فقط، ثمّ قالوا مع كثير من سوء الظن أنّ ما جاء به موسى من الدين الإلهي هو في الواقع مقدّمة لتحصيل مقاصده السياسية وبسط سيطرته وحكومته على الناس، فلا إله في البين ولا الوحي الإلهي، وهكذا كانوا يتحركون من موقع سوء الظن هذا وبسبب ذلك التعصب والعناد في طريق الابتعاد عن الحقّ والإعتذار بتبريرات واهية في سبيل تحكيم موقعيّتهم مقابل دعوة موسى

ولعلّهم كانوا يخافون من أنّه إذا تجلّى نور الهداية الإلهية لشعب مصر عن طريق شريعة موسى فإنّهم سيفقدون بذلك دينهم الخرافي الّذي ورثوه من الآباء وكذلك يفقدون حكومتهم المبنية على هذا الأساس، ولهذا فإنّهم تصدّوا لموسى ودعوته بكلّ ما اوتوا من قوة وتحركوا من موقع تشجيع الناس وتعميق حالة التعصب والعناد فيهم، وبما أنّ الملأ من الفراعنة كانوا يريدون كلّ شي ء في سبيل تعزيز حكومتهم وسيطرتهم على الناس فتصوّروا

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 188

أنّ موسى وهارون كذلك يريدون الدين كوسيلة واداة للتوصل إلى الحكومة والسيطرة.

وهذا المرض الأخلاقي يستمر مع البشر على طول التاريخ إلى أن نصل إلى زمن الإسلام وعصر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله.

وفي «الآية السابعة» نرى أيضاً أنّ العامل الأساس في انحراف المشركين العرب هو التقليد الأعمى والتعصب لتراث الآباء والأجداد والّذي يوصد أبواب المعرفة من كلّ جانب على أصحاب هذه الصفة الرذيلة فتقول الآية: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآأَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآأَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ ...» «1».

ولكن القرآن الكريم يجيبهم على هذا التصور الباطل بجواب حاسم وقاطع ويقول: «...

أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُمْ لَايَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ» «2».

ويتضح من سياق هذه الآية أنّ هؤلاء المشركين لم يُنكروا على النبي صلى الله عليه و آله

دعوته السماوية وأنّه يتحدّث من قِبل اللَّه تعالى (مَآأَنزَلَ اللَّهُ)، ولكنهم كانوا غارقين في مستنقع التعصب والعناد والجهل إلى درجة أنّهم يفضلون دينهم الّذي ورثوه عن الآباء والأجداد على دين اللَّه وهم يعلمون بأن أسلافهم كانوا يعيشون الجهل والضلالة.

وبهذا نجد أنّ الجهل والتعصب يتسبب في أنّ الإنسان يترك بسهولة (مَآأَنزَلَ اللَّهُ) ويدير له ظهره ويتجه نحو الباطل رغم انه يميز بين الحقّ والباطل من موقع الوضوح في الرؤية.

وتستعرض «الآية الثامنة» قصة الحُديبية حيث يذكر اللَّه تعالى المسلمين بما جرى من حوادث مهمة وأنّ الكفّار رغم رؤيتهم لعلائم حقانيّة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله إلّاأنّهم وبسبب التعصّبات الجاهلية لم يتحرّكوا في خطّ الإيمان، وكانت هذه الرذيلة الأخلاقية قد منعتهم من سلوك طريق السعادة العظمى فتقول الآية: «إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى قُلُوبِهِمُ ا لْحَمِيَّةَ

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 189

حَمِيَّةَ ا لْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى ا لْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلّ شَىْ ءٍ عَلِيًما» «1».

(الحميّة) من مادّة (حَمى (على وزن حَمَدَ) بمعنى الحرارة الّتي يشعر بها الإنسان في بدنه بسبب العوامل الخارجية أو الأشياء الاخرى، ولهذا السبب اطلقت على الحُمّى أيضاً وهي حرارة المرض.

ثمّ اطلقت هذه المفردة على الحالات الروحية والأخلاقية من قبيل: الغضب والتكبّر والتعصب وأمثال ذلك وأنّها بمثابة حالات يعيشها الإنسان في حرارة باطنية كالنار المستعرة في قلب الإنسان.

والملفت للنظر أنّ هذه الآية أضافت الحميّة إلى الجاهلية، وذلك للإشارة إلى التعصبات المنطلقة من موقع الجهل وعدم العلم، وفي نفس الوقت اضافت السكينة الّتي تقع في النقطة المقابلة لها إلى اللَّه تعالى، وهي الحالة من الهدوء والراحة النفسية الّتي يعيشها الإنسان من موقع الإيمان والوضوح

والإنسياق مع الحقيقة.

وسيأتي في البحوث اللاحقة الكلام حول التعصّب الإيجابي والسلبي وحول إضافة الحمية إلى الجاهلية.

«الآية التاسعة» تشير إلى نكتة اخرى في هذا المجال، وتكشف النقاب عن جانب آخر من التعصب الشديد للعرب في عصر الجاهلية وتقول: «وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ* فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُواْ بِهِ مُؤْمِنِينَ» «2».

يعني انّ التعصب القومي والعِرقي لهؤلاء العرب كان إلى درجة من الشدّة بحيث إنّ القرآن مع جميع المعارف السامية والفصاحة والبلاغة والمضامين العظيمة لو كان قد نزل على غير العرب فإنّ تعصبّهم العِرقي يمنعهم من الإيمان به ويسدل عليهم حجاباً يُبعدهم الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 190

عن إدراك الحقيقة والوصول إلى المقصود.

ورغم أنّ بعض المفسّرين قد ذكر لهذه الآية تفسيرات اخرى، ولكن أوضح التفاسير وأنسبها لسياق هذه الآية هو ما ذُكر آنفاً.

وعلى هذا الأساس ورد في بعض الروايات الإسلامية عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّ الأشخاص الّذين يعيشون التعصّب والعناد هم شركاء لأعراب الجاهلية حيث يقول: «مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ حَبَّةً مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ عَصَبِيَّةٍ بَعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ اعْرَابِ الْجَاهِلِيَّةِ» «1»

. وحبّةٍ من خردل يُضرب بها المثل بالصغر لدى العرب.

وتأتي «الآية العاشرة» لتكشف النقاب عن هذه الرذيلة الأخلاقية في أقوام بشرية اخرى وأنّ كلّ قوم وطائفة يرون أنفسهم أنّهم الأفضل بدافع التعصب واللجاجة ويتحركوا في تعاملهم مع الآخرين من موقع الإبعاد والنفي ويحسبون أنفسهم أنّهم عباد اللَّه المتميزون على سائر الأقوام والشعوب البشرية، وهذا الأمر هو الّذي تسبب في نزاعات مستمرة وصراعات دائمة بين الأقوام البشرية حيث تقول الآية: «وَقَالَتِ ا لْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَىْ ءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ ا لْيَهُودُ عَلَى شَىْ ءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ ا لْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ

مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ا لْقيَامَةِ فِيَما كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» «2».

ويُستفاد من سياق هذه الآية أنّ هذا اللون من التعصّبات وأشكال الغرور ينبع من الجهل وعدم المعرفة وأنّ كلّ فئة من الناس تعيش الجهل وعدم المعرفة سوف يتورطون في هذه الرذيلة الأخلاقية.

وعبارة (الّذِينَ لَايَعْلَمُونَ) لها مفهوم واسع وأحد مصاديقها هم المشركون العرب، ولذلك فسّرها بعض المفسّرين بأنّهم قوم نوح، أو ذكروا في تفسيرها أنّ المراد منها جميع الامم البشرية الّتي عاشت التعصب والعناد بسبب الجهل وعدم المعرفة.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 191

«الآية الحادية عشر» تتحدّث عن أصل كلّي وعام وتبيّن أنّ حالة التعصب والاصرار على طول التاريخ البشري كان لها الدور المهم في استمرار الأقوام البشرية في سلوكهم في خطّ الكفر ومحاربة التوحيد وتقول: «وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ» «1».

وسياق الآية يوحي إلى أنّ أهم مانع في مقابل الإيمان واتباع الأنبياء الإلهيين هو التعصب والتقليد الأعمى الناشي ء من حالة الجهل الّتي يعيشها الإنسان.

وهنا تتضح الأبعاد الخطيرة لهذه الرذيلة الأخلاقية.

ونقرأ في «الآية الثانية عشر» والأخيرة أنّ الجاهليين وبسبب حالة التعصب واللجاجة كانوا يتهمون أكبر الأنبياء الإلهيين بالجنون ويجعلون ذلك ذريعة لمخالفتهم للدعوات السماوية وتقول: «وَيَقُولُونَ أَئنَّا لَتَارِكُواْ ءَالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُون» «2».

والعجيب أنّ هؤلاء كانوا غارقين في دوّامة الجهل والتعصّب الأعمى إلى درجة أنّهم لم يكونوا يُدركون أنّ كلامهم هذا متناقض، فإنّ كونه (شاعراً) يدلّ على الذوق السليم والقريحة والتأمّل والتفكر والإطلاع الوافي على دقائق الكلام (والملاحظ أنّ كلمة الشاعر من مادّة الشعور) وهذا ما يتقاطع مع كونه مجنوناً كما هو واضح.

وأحياناً يتهمون الأنبياء بالسحر والجنون كلاهما في حين

أنّ السحر يحتاج إلى الإطلاع الواسع على بعض العلوم والمعارف ويستبطن ذكاءاً خاصاً، وكلّ هذا يتقاطع مع الجنون، وهذا يوضّح أنّ كلام هؤلاء المتناقض لم يكن بوحيٍ من العقل والتفكر الهادي ء والمنسجم بل بدافع من الجهل والتعصب والعقدة.

النتيجة النهائية:

وبمرور إجمالي على الآيات الكريمة المذكورة آنفاً والّتي هي نموذج من كثير من الآيات القرآنية في هذا المجال تتضح هذه الحقيقة وهي انّ أهم موانع المعرفة والوصول إلى الحقيقة هو حالة التقليد الأعمى الناشي ء من التعصب واللجاجة والتحرّك من موقع الرغبات النفسية وبدافع من الأهواء والنوازع الباطنية الّتي تحبس الإنسان في سجن مظلم من الجهل المطبق.

إن الأضرار والخسائر الكثيرة المترتبة على هذه الرذيلة الأخلاقية قد سوّدت صفحات التاريخ البشري وواجه الأنبياء الإلهيين بسببها مشاكل كثيرة في طريق هداية الناس إلى اللَّه والحقّ وسُفكت بسببها الكثير من الدماء، وهذا يكفي في إدراك شناعة هذه الحالة الذميمة في السلوك الإنساني.

لولم تكن هذه الرذيلة الأخلاقية موجودة في باطن الإنسان فإنّ تاريخ البشرية سيلبس ثوباً آخر ويسطع بوجهٍ جديد في حركة التكامل الحضاري والتقدّم العلمي ولفُتحت الأبواب أمام البشرية للصعود إلى مدارج عالية من الكمال المعنوي وبدلًا من أن تتحوّل طاقاته وامكانياته الكبيرة إلى سيلٍ مخرب بسبب الجهل والتعصب فإنّ من شأنها أن تتحول إلى منظومة واسعة من المعارف الإلهية والسلوكيات الأخلاقية الحميدة والمُثل الإنسانية الّتي تقود الإنسان في كلّ بُعدٍ من أبعاد حياته الدنيوية إلى العمران والتكامل المادي والمعنوي.

التعصب والعناد في الأحاديث الإسلامية:

اشارة

وقبل أن نستعرض في بحثنا هذا مفهوم التعصب ودوافعه ونتائجه الوخيمة على حياة الإنسان نرى من اللازم أوّلًا استعراض الأحاديث الإسلامية في هذا الباب لأنها تتضمن الكثير من الامور المتعلقة بهذا الموضوع بصوره إجمالية.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 193

والأحاديث الشريفة في هذا الموضوع كثيرة ونشير إلى نماذج منها:

1- ما ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ حَبَّةً مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ عَصَبِيَّةٍ بَعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ اعْرَابِ الْجَاهِلِيَّةِ» «1».

وهذا التعبير

يشير إلى أنّ هذه الرذيلة الأخلاقية إلى درجة من الخطورة بحيث إنّ أدنى درجة منها تتقاطع مع الإيمان الخالص.

2- وورد في حديث عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «انَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ السِّتَّةَ بِالسِّتَّةِ، الْعَرَبَ بِالْعَصَبِيَّةِ، وَالدَّهَاقِينَ بِالْكِبْرِ، وَالْامَرَاءَ بِالْجَوْرِ، وَالْفُقَهَاءَ بِالْحَسَدِ، وَالتُّجَّارَ بِالْخِيَانَةِ، وَاهْلَ الرَّسَاتِيقِ بِالْجَهْلِ» «2».

والملفت للنظر أنّ هذا الحديث الشريف يذكر التعصب على رأس هذه الامور الستة في حين أنّها جميعاً من الذنوب الكبيرة.

3- ونقرأ في حديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قوله: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا الَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ» «3».

4- وجاء في الخطبة المعروفة بالقاصعة عن أميرالمؤمنين عليه السلام في نفي التكبّر والتعصّب وأنّ هذه الحالات هي السبب الأساس في إنحراف إبليس وشقائه وأنّ اللَّه تعالى عندما أمر الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا إلّاإبليس فإنه يقول: «اعْتَرَضَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بِخَلْقِهِ وَتَعَصَّبَ عَلَيْهِ لِاصْلِهِ. فَعَدُوُّ اللَّهِ امَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ، وَسَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، الّذي وَضَعَ اسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ» «4».

5- وفي حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «مَنْ تَعَصَّبَ أَوْ تُعُصِّبَ لَهُ فَقَدْ خَلَعَ رَبَقَ الْايمَانِ مِنْ عُنُقِهِ» «5».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 194

ونعلم أنّ التعصّب والعناد هُما لازم وملزوم، ولهذا السبب أوردناهما تحت عنوان واحد، وأما بالنسبة إلى حالة العناد والاصرار في السلوك البشري وآثارها السلبية فلدينا الكثير من الروايات في هذا الباب، منها:

1- ما ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «ايَّاكَ وَاللِّجَاجةَ، فَانَّ اوَّلَهَا جَهْلٌ وَآخِرَهَا نَدَامَةً» «1».

2- وجاء في حديث آخر عن أميرالمؤمنين عليه السلام قوله: «اللِّجَاجُ اكْثَرُ الْاشْيَاءِ مَضَرَّةً فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ» «2».

3- وفي

حديث آخر عن هذا الإمام أنّه قال: «اللِّجَاجُ بَذْرُ الشَّرِّ» «3».

4- وجاء في نهج البلاغة قوله: «اللِّجَاجَةُ تَسِلُّ الرَّأْيَ» «4».

5- وأيضاً ورد عن هذا الإمام قوله: «لَيْسَ لِلَجُوجٍ تَدْبِيرٌ» «5».

ومع ملاحظة هذه الروايات الشريفة يتضح التأثير المخرب لهاتين الرذيلتين الأخلاقيتين (التعصّب واللجاجة) في الحياة الفردية والإجتماعية للناس بحيث إنهما يدفعان الإنسان بعيداً عن الإيمان والإسلام ويجعلانه غريباً عن الأجواء الروحية المنفتحة على اللَّه تعالى ويقودانه إلى الكفر والشرك والإقتداء بالشيطان وترك حبل الإيمان، وسوف يأتي لاحقاً الدوافع الكامنة في هذه الحالة الأخلاقية.

1- مفهوم التعصّب ودوافعه

(التعصّب) من مادّة (عَصَبَ) وهي في الأصل بمعنى الخيوط العصبية والعضلية الّتي تربط بين مفاصل العظام والعضلات، ثمّ استُعملت هذه الكلمة ليُراد بها كلّ نوع من الارتباط

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 195

الشديد الفكري والعملي والّذي يستبطن غالباً معنىً ومفهوماً سلبياً رغم وجود بعض العلائق الإيجابية أيضاً في مفهومها حيث سيأتي تفصيل ذلك في الأبحاث اللاحقة إن شاء اللَّه.

وبديهي أنّ التعلّقات غير المنطقية بالنسبة إلى شخص ما أو عقيدة معيّنة أو شي ء من الأشياء فإنه يقود الإنسان إلى اللجاجة والتقليد الأعمى بالنسبة إلى ذلك الشي ء أو الشخص، وبالتالي سيكون العامل المهم في بروز أنواع النزاعات والحروب والاختلافات المستمرة بين البشر.

وكلّما تحرك الإنسان على مستوى إزالة هذه التعصبات من ساحة الحياة البشرية والمجتمع الإنساني فإنّ الناس سوف يتعاملون في ما بينهم من موقع العقل والمنطق والحوار الهادي ء والهادف، وبذلك تزول الكثير من الاختلافات وأسباب النزاع ويعود الهدوء ليُخيّم على المجتمع الإنساني ويعيش الإنسان في حركته الإجتماعية بكلّ أشكال الطمأنينة والمحبّة والاخوة.

إن مثل هذا التعصب الّذي يتولد مباشرة من حالة اللجاجة والتقليد الأعمى ينبع من الامور التالية:

1- حُبّ الذات والتعلّق الشديد بالأسلاف إن الإفراط في حبّ

الذات يتسبب في أن يتعلّق الإنسان بالامور المنسوبة إليه بشدّة ويعتبرها جزءاً من شخصيته وكيانه ومن ذلك الرابطة مع الآباء والأجداد والتقاليد المرسومة في مجتمعه.

إنّ هذا التعلّق الشديد يؤدي إلى نقل الكثير من الخرافات والقبائح إلى الأجيال الاخرى بذريعة حفظ الآداب والسنن والرسوم الإجتماعية وبالتالي فسيخلق حجاباً يصدّ الإنسان عن أيّة معرفة جديدة وارتباط بالحقائق والواقعيات.

إن الدفاع الشديد عن القبيلة والعشيرة أحياناً يصل إلى درجة أن أسوأ أفراد القبيلة وأشنع الأعراف والسنن السائدة في هذه القبيلة تتحول في نظر الأشخاص المتعصبين إلى الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 196

إيجابيات كبيرة وامتيازات مهمة لهذه القبيلة، في حين أنّ أفضل أفراد القبيلة الاخرى وأسمى الآداب والسنن في تلك القبيلة تكون هي الأسوأ والأقبح في نظر هذا الإنسان.

2- انخفاض المستوى الثقافي والفكري وكلّما انخفض المستوى الثقافي للناس وعاش أفراد المجتمع في اهتزاز على مستوى الفكر والثقافة فإنّ التعصبات الجاهلية وأشكال العناد والتقليد الأعمى ستكون حاكمة على هؤلاء الأشخاص، بخلاف إذا ارتفع المستوى الثقافي في المجتمع وعاش الناس في علاقاتهم المنطق والعقل والإلتزام الفكري، فإنّ ذلك من شأنه أن ينفي التعصّب واللجاجة وتستبد حالة التقليد الأعمى بالتحقيق والدراسة والحوار الفكري النافع للوصول إلى الحقيقة.

3- ضعف الشخصية

والعامل الآخر للتعصّب والتقليد الأعمى هو أنّ الإنسان يعيش أحياناً ضعف الشخصية بالنسبة إلى بعض الشخصيات الّذين يوحون إليه بالقداسة في أفعالهم وأقوالهم وبذلك يصعدون عن مستوى دائرة النقد حتّى لو كان النقد علمياً وأخلاقياً، وهذا الأمر يتسبب في أن يتبعهم بعض العوام بعيون مُغمضة وآذان صمّاء ويضحون بأنفسهم وأموالهم في سبيل الدفاع عن هؤلاء الّذين يرتدون لباس القداسة الزائفة بدون أن يتفكر الإنسان في مضمون كلامهم وبباطن أفعالهم وسلوكياتهم وآثارها على المدى البعيد.

4- الإنزواء

الإجتماعي والفكري:

والعامل الآخر من عوامل التعصّب هو أنّ الإنسان عندما ينفرد بأفكاره أو بمحيطه الإجتماعي الخاصّ وينفصل عن الجماعات الاخرى والأفكار المخالفة والمتنوعة ويعيش الجهل بالنسبة إلى سائر التيارات الفكرية والثقافية في المجتمعات البشرية الاخرى، فإنّ ذلك من شأنه أن يُفعّل حالة التعصّب والإلتزام الشديد بما لديه من أفكار وعقائد، في حين انه لو انفتح على الآخرين وتلاقح فكره مع أفكارهم وقارن بين هذه الأفكار من موضع استكشاف نقاط الضعف والقوّة واستجلاء العناصر الإيجابية والسلبية

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 197

في كلٍّ منها، فإنّ ذلك يقوده إلى انتخاب الأفضل منها من موقع الوضوح والإختيار الحرّ.

2- الآثار السلبية للتعصّب والعناد

إن الآثار السلبية والنتائج المخربة للتعصّب والاصرار في حركة حياة الإنسان المتعصّب تتجلّى في الكثير من الموارد:

1- إن التعصّب يعني الإرتباط غير المنطقي بشخص معيّن أو عقيدة أو عادة أو عرف خاصّ كما سبقت الإشارة إليه، وهذا من شأنه أن يُسدل حجاباً سميكاً على عقل الإنسان وبصيرته يمنعه عن إدراك الحقائق وجوانب الخير والشرّ والمصلحة والمفسدة في الامور وبالتالي يُحرمه من العثور على طريق للحل والنجاة.

ولهذا رأينا في الأحاديث السابقة أنّ اللجوج لا يتمتع بمديرية سليمة، ورأينا أيضاً في حالات الشيطان انه لم يتمكن من إدراك البديهيات واوضح الحقائق بسبب تعصبه وعناده، ولذلك قطع عن رقبته طوق العبودية للَّه تعالى فطرد من ساحة القرب الإلهي إلى الأبد.

2- إن العصبية والعناد بمثابة النار المحرقة الّتي من شأنها تمزيق العلائق الإجتماعية في المجتمع وتسلب منه روح الوحدة والالفة وتنثر فيه بذور النفاق والفرقة وتقود الطاقات والقوى البنّاءة الّتي يجب أن تُصرف في سبيل إعمار المجتمع في حركته الحضارية باتجاه التضاد والصراع الذاتي فيما بينها، كما نقرأ هذا المعنى في الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين عليه

السلام حيث يقول: «اللِّجَاجُ يُنْتِجُ الْحُرُوبَ وَيُوغِرُ الْقُلُوبَ» «1».

3- إن التعصّب والعناد يتسبّبان في ابتعاد الأحبّة والأصدقاء عن الإنسان وتبديل الصداقة إلى عداوة وتضاد.

4- إن التعصّب والعناد من الأسباب والعوامل المهمّة للكفر، وانطلاقاً من هذه الحالة نجد أن أكثر الشعوب والامم السالفة وبسبب التعصّب والعناد كانت تسير في خطّ الباطل والكفر برسالات السماء والإمتناع عن قبول الحقّ بدافع من المحافظة على السنن البالية والتقاليد الزائفة.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 198

(وقد تقدّمت الإشارة إلى هذا المعنى في تفسير الآيات السابقة).

5- إنهما يورثان صاحبهما الألم والتعب والوقوع في زحمة المشاكل الكثيرة، لأنهما يتسببان بالإنسان أن يعيش مدّة طويلة ولسنوات عديدة أحياناً في حالة من الحيرة والضلال، وعندما يصل إلى طريق مسدود فإنه عند ذاك يشعر بالتعب واليأس من هذا الطريق الموحش.

ومن هذا الموقع نقرأ في الحديث الوارد عن أميرالمؤمنين عليه السلام قوله: «ثَمَرةُ اللِّجَاجِ الْعَطَبَ» «1».

ولهذا السبب فإننا نجد أنّ التعصّب غالباً ما يورث الندم كما تقدّمت الإشارة إليه في الأحاديث السابقة.

6- انهما يُفقدان الشخص توازنه في اختيار الامور ويجرانه إلى مواقع لن يرغب الولوج فيها، ولهذا ورد في بعض الأحاديث الإسلامية عن أميرالمؤمنين عليه السلام قوله: «لَا مَرْكَبَ اجْمَحَ مِنَ اللِّجاجِ» «2».

7- وأخيراً فإنّ التعصّب واللجاجة يحوّلان حياة الإنسان في دنياه وآخرته إلى دمار وخراب، لأنهما يورثانه في حياته الدنيا العداوة والفرقة والاخطاء الكثيرة وفقدان الراحة والهدوء والإستقرار، وفي الآخرة يتسببان في ابتعاده عن رحمة اللَّه، وهذا هو ما ورد في الرواية عن أميرالمؤمنين عليه السلام: «اللِّجَاجُ اكْثَرُ الْاشْيَاءِ مَضَرَّةً فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ»

ومرّة اخرى نرى من الضروري الإشارة إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ هذه الرذائل الأخلاقية الثلاث (التعصّب واللجاجة والتقليد الأعمى رغم أنّها تختلف في

دائرة المفهوم والمحتوى إلّاأنّها تتحد في دائرة المصداق وترتبط برابطة وثيقة، وفي الإصطلاح: بينهما علاقة اللازم والملزوم، ولذلك أوردناها جميعاً في بحث واحد.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 199

أمّا الدوافع على التعصّب واللجاجة فواضحة أيضاً، لأن أشكال التعصّب الأعمى والمخرّب ينطلق قبل كلّ شي ء من الجهل بالامور، ولهذا السبب فإنّ كلّ طائفة تعيش الجهل أكثر فإنّها تعيش حالة التعصّب والتقليد الأعمى أكثر إلى درجة أنّ الإنسان على هذا المستوى غير مستعد لإيجاد التحول والتغيير نحو الأفضل في وضعه وحالته النفسية والإجتماعية، ولذلك كانت العصبية دائماً سبباً للتخلف الحضاري والإجتماعي.

وقد قرأنا في الأخبار السابقة أيضاً ما ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إياك واللجاجة، فإنّ أولها جهل وآخرها ندامة».

والعامل الآخر الّذي يدفع الإنسان باتجاه التعصّب واللجاج هو الأنانية وحبّ الذات، لأن الشخص الأناني يحبّ كلّما لديه من العلائق والامور الّتي تُنسب إليه وترتبط به حتّى على المستوى الاصول والتقاليد الخاطئة والعقائد الزائفة، ولذلك قد يظهر عصبية شديدة لما عليه قومه وقبيلته من التقاليد والعقائد ويقبل ما ورثه من آبائه من السنن والمعارف من دون أيّ تحرّك فكري واستقلال عقلي.

وأحياناً يكون التقاعس وحبّ الراحة من الدوافع الاخرى الّتي تقود الإنسان للتعصّب واللجاجة، لأن الانتقال من حالة إلى اخرى يحتاج في كثير من الأحيان إلى بذل الجهد والسعي ومواجهة الموانع والتحديات الّتي يفرضها الواقع، وأنّى للكسول والمتقاعس أن يتحرك في هذا السبيل، ولهذا السبب نجده يتمسك دائماً بما لديه من الأفكار والعقائد والأوهام المختلفة.

3- التعصّب الإيجابي والسلبي

هناك ثلاث مفاهيم متقاربة في المعنى وهي: التعصّب، الحميّة، التقليد، وكلّ واحدٍ من هذه الامور تنقسم إلى:

إيجابي وسلبي. أو: ممدوح ومذموم،

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 200

رغم أنّ مفردة (التعصّب) ترد

غالباً في المعنى المذموم والسلبي.

وبشكل عام فإنّ الإنسان إذا ارتبط بالامور غير المنطقية وتحرّك في سلوكه من موقع قبولها والدفاع عنها فهو من التعصّب المذموم، وهذا هو ما ورد في القرآن الكريم بعنوان (العصبية الجاهلية) ولكن إذا خضعت علاقة الإنسان مع هذه الامور للمنطق والعقل وكانت النتائج المترتبة عليها مفيدة وبنّاءة وتعصّب لها الإنسان فهو من التعصّب الممدوح والإيجابي.

ونقرأ في نهج البلاغة في الخطبة (القاصعة) لأميرالمؤمنين عليه السلام إشارة إلى هذا المعنى حيث يقول: «فَاطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ نِيرَانِ الْعَصَبِيَّةِ، وَاحْقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَانَّمَا تِلْكَ الْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي الْمُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ الشَّيْطَانِ وَنَخَوَاتِهِ وَنَزَغَاتِهِ وَنَفَثَاتِهِ» «1».

فنجد في هذه الخطبة انها تقوم على أساس من ذمّ الكِبر والغرور والتعصّب واللجاجة، ويقول الإمام في مكان آخر أيضاً: «فَانْ كَانَ لَابُدَّ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكُمْ لِمَكَارِمِ الْخِصَالِ، وَمَحَامِدِ الْافْعَالِ، وَمَحَاسِنِ الْامُورِ الَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا الْمُجَدَاءُ وَالنُّجَدَاءُ مِنْ بُيُوتَاتِ الْعَرَبِ ... فَتَعَصَّبُوا لِخِلَالِ الْحَمْدِ، مِنَ الْحِفْظِ لِلْجِوَارِ، وَالْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ، وَالطَّاعَةِ لِلْبِرِّ، وَ الْمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ، وَالْاخْذِ بِالْفَضْلِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْبَغْيِ» «2».

فعليه فالإمام أميرالمؤمنين عليه السلام يشير في هذه الخطبة إلى (التعصّب) بكلا قسميه، وعندما سُأل الإمام زين العابدين عليه السلام عن معنى العصبية ذكر كلا القسمين أيضاً وقال:

«الْعَصَبِيّةُ الَّتِي يَأْثِمُ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا انْ يَرىَ الرَّجُلُ شِرَارَ قَوْمِهِ خَيْراً مِنْ خِيَارِ قَوْمٍ آخِرِين! وَلَيْسَ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ انْ يُحِبَّ الرَّجُلُ قُوْمَهُ وَلَكِنْ مِنَ الْعَصَبِيّةِ أنْ يُعِينَ قُوْمَهُ عَلَى الظُّلْمِ» «3».

وطبقاً لهذا الحديث فإنّ العصبية الّتي يعيشها أفراد القوم أو القبيلة مادامت تسير في خطّ الخير والصلاح فهي إيجابية وممدوحة، لأن هذه العصبية والارتباط الشديد لا يدفع الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 201

الإنسان إلى ارتكاب الممنوعات ولا يقوده نحو الخطيئات بل يُعمق

فيه أواصر المحبّة ويؤكد وشائج المودّة بين الأفراد، امّا التعصّب المذموم فهو أن يسحق العدالة والحقّ تحت قدمه من أجل قومه ويضحي بالقيم الأخلاقية والشرعية للحفاظ على القيم الخرافية والتقاليد الزائفة.

وورد في حديث آخر عن هذا الإمام أيضاً قوله «لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ حَمِيَّةٌ غَيْرُ حَمِيَّةِ حَمْزَةِ ابْنِ عَبْدِالْمُطِّلِبِ، وَذَلِكَ حِينَ اسْلَمَ غَضَباً لِلنَّبِيِّ فِي حَديثِ السِّلَا الّذي الْقِيَ عَلَى النّبِيّ صلى الله عليه و آله» «1».

وبديهي أن تعصّب حمزة في الدفاع عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في مقابل المشركين الّذين يعيشون العصبية الحمقاء والجاهلية الزائفة لم يكن تعصّباً خارجاً عن حدود العقل والمنطق والعدالة، ولذلك فهو من التعصّب الممدوح، ولو أنّ حمزة قد سلك في تعصبه هذا في خط الباطل وارتكب ما يخالف الحقّ والعدالة فإنّ ذلك يقع في دائرة التعصّب المذموم والسلبي أيضاً.

4- التقليد البنّاء والأعمى

إن (التقليد) ينقسم كالتعصّب إلى قسمين:

ايجابي وسلبي.

وبعبارة أدّق، يمكن تقسيم التقليد إلى أربعة أنحاء وأشكال، ثلاثه منها سلبية وواحد ايجابي.

الأوّل: (تقليد الجاهل للجاهل)

وهو أن يتحرك بعض الجهلاء والسذّج من الناس في أفكارهم وسلوكياتهم بدافع من تقليد طائفة اخرى من الجهال ويستوحون منهم اعتقاداتهم وسننهم وتقاليدهم، فمثل هذا التقليد هو الّذي ورد الذمّ والتوبيخ عليه بشدّة في القرآن الكريم حيث يُعد من أسباب الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 202

التعصّب واللجاجة وأحياناً من نتائجهما المترتبة عليهما، وهذا هو العامل المهم في انتقال الخرافات من قوم إلى قوم آخرين، وهذا هو ما تصدّى له الأنبياء والدعاة إلى الحقّ من موقع إبطاله ودحوه.

الثاني: (تقليد العالِم للجاهل)

وهو أشنع أنواع التقليد، وهو أن يتحرك الإنسان بالرغم من علمه ومعرفته في السير في خط الباطل ويتبع الجهلاء في ذلك بسبب ما علق على قلبه من

حالات التعصّب الذميم.

إن مسألة (الاستعوام) واستسلام العلماء أمام أفكار الجهال والعامّة من الناس هو نوع من تقليد العالم للجاهل.

الثالث: (تقليد العالِم للعالم)

ويكون بصورة أن يتقاعس العالم عن البحث والتحقيق في أمر من الامور ويستسلم للنتائج الّتي توصل إليها عالم آخر من دون دراسة ونظر فاحص، ومن الواضح أنّ هذا النوع من التقليد مذموم أيضاً رغم انه ليس بشناعة القسم الأوّل والثاني، لأنّه ينبغي على العلماء وأهل المعرفة في كلّ قوم وامّة أن يبذلوا ما لديهم من الجهود في دائرة التحقيق والبحث العلمي في كلّ مسألة لإستخلاص النتائج الّذي يفرضها البحث العلمي، ومع توفر الاستعداد والقابلية للتحقيق والبحث فإنّ الاستسلام الأعمى إلى الآخرين ليس من شأن العالم، ولهذا ورد في الفقه الإسلامي أنّ التقليد حرام على المجتهد. وقد ورد في التعبيرات المعروفة في اجازات الاجتهاد هذه العبارة (يُحرم عليه التقليد)، إلّاأن يكونا متخصصين في مجال التخصص العلمي (كالطبيب المتخصّص في أمراض القلب مثلًا يراجع الطبيب المتخصّص بأمراض العين في هذا المورد بالذات) أو يرجع المتخصّص لاستاذه، فهو في الواقع من قبيل القسم الرابع الّذي ستأتي الإشارة إليه.

الرابع: (تقليد الجاهل للعالم)

بما يتعلق بعلمه، وبعبارة اخرى: أن يراجع غير المتخصص إلى المتخصص في كلّ فن، وبعبارة ثالثة أيضاً: إن ما لا يحيط به الإنسان عِلماً عليه أن يرجع في ذلك لأهل العلم الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 203

والخِبرة ليقتبس منهم (كما في رجوع المرضى إلى الأطباء في الأمراض المختلفة) وهذه المسألة تُعد من الاسس والدعائم للحياة الفردية والإجتماعية للإنسان.

وتوضيح ذلك: أنّ العلوم والفنون والمعارف البشرية إلى درجة من السعة والكثرة بحيث إنّ كلّ واحد من البشر لا يمكنه الإحاطة بها جميعاً، وقد كان هذا الحال من قديم الأيّام

وقد تجلّى هذا المعنى أكثر في عصرنا الحاضر حيث تشعّبت العلوم والمعارف وتطوّرت بشكل كبير جدّاً بحيث إنّ كلّ إنسان لا يستطيع حتّى في الإحاطة بجميع فروع علم واحد من العلوم كالطب مثلًا أو الهندسة فكيف الحال بالعلوم الاخرى

ومع هذا الحال فلا مفر أمام الناس إلّابأن يرجع الجاهل منهم إلى العالم، وهذا أصل مسلّم في حركة الحياة وقد بنيت عليه سيرة العقلاء في جميع العالم، والسير بخلاف هذا المنهج يؤدي قطعاً إلى تخلخل مفاصل المجتمع واهتزاز أركانه وبالتالي انحطاطه الحضاري والثقافي.

وهكذا الحال في المسائل المعنوية والأخلاقية والعلوم الدينية، فلا يمكن أن يتوقع من جميع الناس أن يكونوا أصحاب فكر واجتهاد في جميع العلوم والمعارف الإسلامية، فبعض هذه الفروع العلمية إلى درجة من السعة بحيث تحتاج لدراستها والإحاطة بها إلى خمسين سنة من البحث والتحقيق (من قبيل علم الفقه).

فمن الطبيعي أن يرجع الأشخاص المنشغلين عن هذه العلوم والجاهلين بها إلى العالم والخبير بها، ولكن بالنسبة إلى اصول الدين والعقائد المذهبية الّتي تشكّل دعائم المنظومة في الفكر الديني فإنّ على كلّ إنسان أن يحيط بها بمقدار ما يمكنه ذلك منها ولا يقبل من العقائد إلّاما كان مستنداً إلى دليل وبرهان، فالتقليد في مثل هذه الامور غير جائز، بل لابدّ من التحقيق والفحص وعدم قبول المعتقدات الدينية الأساسية إلّاعن دليل وبرهان.

وعلى أيّة حال فإنّ مثل هذا التقليد لا يُعد من القسم المذموم ولا يدخل في دائرة التقليد السلبي بل هو مصداق قوله تعالى: «... فَاسْئَلُوا اهْلَ الذِّكْرِ انْ كُنْتُمْ لَاتَعْلَمُونَ» «1». وليس من الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 204

قبيل قوله تعالى «... انَّا وَجَدْنَا آبَائَنَا عَلَى امَّةٍ وَانَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ» «1».

وهذا لا يرتبط بمسألة التعصّب

المذموم الّذي هو الدافع للإنسان إلى سلوك طريق اللجاجة والتقليد الأعمى

5- طرق العلاج

إن الطريق لعلاج هذه الرذيلة الأخلاقية هو كسائر علاج الرذائل الأخلاقية الاخرى فإنه يتطلب في المرتبة الاولى الإلتفات إلى الدوافع والجذور والسعي لإزالتها من واقع الإنسان وباطنه، ومع العلم بأنّ جذور التعصّب هو ما تقدّم من الانانية والافراط في حبّ الذات، انخفاض المستوى الثقافي، ضعف الشخصية، العزلة الاجتماعية والفكرية، وأمثال ذلك.

ولابدّ لإزالة هذه الصفة الرذيلة وتطهير النفس منها من الصعود بالمستوى العلمي والثقافي للأفراد والسعي للتعرف على الأقوام والشعوب الاخرى والاطلاع على أفكارهم وعقائدهم، وكذلك تعديل حبّ الذات في شخصية الإنسان وقلع الميول والاتجاهات المضرة في نفسه والّتي تورثه التعصّب واللجاجة والتقليد الأعمى

وكذلك يجب الالتفات إلى الآثار السلبية لهذه الحالات الذميمة من أجل إصلاح النفس وتهذيبها وتطهير القلب من هذه الشوائب والأدران المحيطة بها.

وعندما يدرك الإنسان أنّ التعصّب واللجاجة تسدل على فكره وعقله حجاباً وستاراً مضمراً يمنعه من إدراك الحقائق وفهم الواقعيات وكذلك من شأنه أن يمزق العلائق الإجتماعية بين أفراد المجتمع ويبذر بذور النفاق والاختلاف والفرقة بينهم، ويُفضي إلى الشقاء والتعاسة ويورث الإنسان التعب والدرك وحتّى انه قد يؤدي به إلى الإنزلاق في دوّامة من المشاكل لم يكن يتوقعها أبداً. فمطالعة هذه الامور من شأنها أن تقلّل من شدّة العصبية والعناد وتساعد الإنسان في النزول عن مركب الغرور والتعصّب والتقليد الأعمى الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 205

وأن يسلك بالتالي في خطّ السعادة والإنصاف ويسلك المنهج العقلاني في التفكير والمعتقد.

وأحد الامور الاخرى في طريق علاج هذه الرذائل الأخلاقية هو تغيير شكلها ومحتواها، بمعنى أنّ الإنسان يقوم بعملية استبدال الدوافع السلبية بدوافع اخرى ايجابية.

مثلًا: الشخص الّذي يعيش التعصّب الشديد بالنسبة إلى الامور غير

المنطقية أو الخرافية، فبدلًا من أن يسعى إلى قتل الدافع لهذا التعصب في نفسه يقوم بتحويله إلى الجهة الإيجابية فيتعصب للُامور الحقّة.

وهذا هو ما قرأناه في الخطبة القاصعة للإمام أميرالمؤمنين عليه السلام حيث يقول: «فإنّ كان لابدّ من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال ومحامد الأفعال ومحاسن الامور» «1».

وإذا كان المفروض على الإنسان أن يتعصب لشي ء في علاقاته وتفاعله مع الآخرين فالأفضل أن يكون تعصبه للقيم الأخلاقية والمثل الإنسانية.

6- التسليم مقابل الحق

النقطة المقابلة للتعصّب واللجاجة والتقليد الأعمى هو التسليم مقابل الحقّ الّذي يُعد من الفضائل المهمة الأخلاقية، أيّ أنّ الإنسان يقبل بالحقّ من أيّ شخص كان حتّى لو رآه أبعد الناس وأصغرهم فيسلّم له.

وهذه الفضيلة الأخلاقية هي السبب في التقدّم العلمي والتطور الحضاري للبشرية وتورث الإنسان الحصانة من الوقوع في الضلالة وسلوك طريق الباطل.

ولايتحلّى بهذه الصفة الأخلاقية الحميدة إلّاأهل الإيمان والصالحون من الناس والّذين يبتعدون عن الافراط في حبّ الذات والتعلقات القومية الذميمة ويجتنبون الميول الذاتية في دائرة الفضيلة والمعتقد.

إن التسليم مقابل الحقّ هو من علامات الإيمان، وسلامة الفكر والروح، وارتفاع الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 206

المستوى الثقافي لدى الإنسان، والقرآن الكريم يشير إلى هذه الخصلة الحميدة مخاطباً النبي الأكرم صلى الله عليه و آله:

«فَلَا وَرَبِّكَ لَايُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَايَجِدُوا فِي انْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» «1».

ويقول في مكان آخر: «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ اذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ امْراً انْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ امْرِهِمْ» «2».

وطبعاً فإنّ التسليم (بعنوان فضيلة أخلاقية) يُستعمل على معنيين:

أحدهما: التسليم مقابل الحقّ والّذي يقع في النقطة المقابلة للتعصّب واللجاجة والتقليد الأعمى

والآخر: هو التسليم مقابل القضاء والقدر الإلهيين فيعيش الإنسان في حالة الشكر والرضا بما قسم اللَّه

ولا يعيش السخط والكفران.

وموضع البحث في هذا الفصل هو ما يتعلق بالمعنى الأوّل، امّا المعنى الثاني فسوف يأتي الكلام عنه في بحث (الرضا والتسليم).

10 و 11

الجُبن والشجاعة

تنويه:

ومن الرذائل الأخلاقية الاخرى في منظومة القيم هي صفة (الجُبن) والخوف غير المنطقي والّذي يورث الإنسان الذلّة والمهانة والسقوط ويحطّ من قدر صاحبه ويتلف طاقاته ما كان منها بالفعل أو بالقوة ويفضي به إلى أن يتسلط عدوه عليه.

والنقطة المقابلة لهذه الصفة الذميمة هي (الشجاعة) والشهامة والجرأة والّتي تُعد مفتاحاً للنصر والفلاح في حركة الإنسان الإجتماعية وعنصر العزّة والعظمة للمجتمع البشري سواءاً في ميدان الحرب والجهاد أو في ميدان السياسة والاجتماع وحتّى في الميادين العلمية فإنّ الشجاعة تُعتبر مفتاحاً للورود إلى هذه الميادين، ومن هذا المنطلق نجد أنّ علماء الأخلاق أطنبوا في ذكر هاتين الصفتين (الجبن والشجاعة) وبيّنوا أسبابها ونتائجها وآثارها على حياة الفرد والمجتمع.

وورد في كتب القدماء من علماء الأخلاق أنّ الشجاعة هي أحد الأركان للفضائل الأربعة، وبالمقابل ذكروا الجبن باعتباره أحد الرذائل الأربع أيضاً.

وورد في سيرة الأنبياء العظام واتباعهم الحقيقيين ما يجسد هذه الصفة وأنّ هؤلاء العظماء كانوا مظهراً من مظاهر الشجاعة واسطورة للمقاومة والتصدي للباطل وقوى الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 208

الانحراف وخير قدوة لجميع الناس في هذا الطريق.

وبهذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي دروساً في هذه الفضيلة الأخلاقية وما يترتب من الآثار السلبية على صفة الجبن أيضاً.

1- نقرأ في قصة إبراهيم عليه السلام قوله تعالى:

«وَلَقَدْ ءَاتَيْنَآ إِبْرَا هِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ* إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذِهِ الَّتمَاثِيلُ الَّتِى أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ* قَالُواْ وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا لَهَآ عَابِدِينَ* قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمْ فِى ضَلالٍ مُّبِينٍ* قَالُواْ أَجِئْتَنَا بِالْحَقّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللّاعِبِينَ*

قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَا تِ وَالْأَرْضِ الَّذِى فَطَرَهُنَّ وَأَنَاْ عَلَى ذَلِكُم مّنَ الشَّاهِدِينَ* وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ* فجعلهم جُذاذًا إلّاكبيرًا لَّهُمْ لَعلَّهُم إِلَيهِ يَرْجِعُونَ» «1».

2- وبالنسبة إلى موسى بن عمران عليه السلام نقرأ قوله تعالى:

«يَامُوسَى لَاتَخَفْ إِنّى لَايَخَافُ لَدَىَّ الْمُرْسَلُونَ» «2».

3- ونقرأ عن طالوت وجنوده الشجعان:

«... فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لَاطَاقَةَ لَنَا ا لْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُواْ اللَّهِ كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ* وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى ا لْقَوْمِ ا لْكَافِرِينَ» «3».

4- وبالنسبة إلى أصحاب الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله والفئة الشجاعة من المؤمنين معه وكذلك من يدّعي الايمان نقرأ قوله تعالى:

«وَإِذْ قَالَت طَّآئفَةٌ مّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَامُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُواْ وَيَسْتَأذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ النَّبِىَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا* ... وَلَمَّا رَأَى ا لْمُؤْمِنُونَ الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 209

ا لْأَحْزَابَ قَالُواْ هذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَآ زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيًما» «1».

5- ونقرأ في مكان آخر قوله تعالى:

«قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ أَو بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبّصُونَ» «2».

6- وحول جماعة من انصار النبي الأكرم صلى الله عليه و آله يقول تعالى:

«الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ ا لْوَكِيلُ* ... إِنَّمَا ذَا لِكُمُ الشَّيْطنُ يُخَوّفُ أَوْلِيَآءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ» «3».

7- «الَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى

بِاللَّهِ حَسِيبًا» «4».

تفسير واستنتاج:

الأنبياء والشجاعة

تتحدّث «الطائفة الاولى من الآيات محل البحث عن شجاعة النبي إبراهيم عليه السلام بطل التوحيد مقابل عبدة الأصنام من قومه الّذين كانوا يعيشون التعصّب واللجاجة والخشونة، وتشير الآيات إلى هذا النبي العظيم وكيف انه تصدّى لأقوى سلطة في تلك الفترة لوحده ومن دون أن يكون له ناصر من قومه، في مقابل كثرة الأعداء الغاضبين والذين كانوا يمثلون خطراً عليه حيث كانوا يتمتعون بدعم الحكومة والسلطة في ذلك الزمان.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 210

وقد عبّرت الآيات الكريمة عن ذلك بقولها: «وَلَقَدْ ءَاتَيْنَآ إِبْرَا هِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ» «1».

وفي الواقع فإنّ اللَّه تعالى قد وهب لإبراهيم مؤهّلات كثيرة تمنحه القدرة على تحمّل تلك المسؤولية العظيمة والاستفادة من هذه المواهب والقابليات في خطّ تقوية دعائم الإيمان والتوحيد والتصدّي للعامل الأساس في شقاء البشرية، أي عبادة الأصنام والأوثان، وكما سيأتي في سياق هذه الآيات الشريفة أنّ إبراهيم ابتدأ أوّلًا بدعوة عمّه آزر للإيمان بصراحة اللهجة وتمام القوّة وقال له: «مَا هذِهِ الَّتمَاثِيلُ الَّتِى أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ».

وعندما أجابه آزر بالقول: «قَالُواْ وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا لَهَآ عَابِدِينَ».

فأجابه إبراهيم عليه السلام: «قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمْ فِى ضَلالٍ مُّبِينٍ».

إنّ آزر لم يكن يصدّق لحدّ الآن أنّ إبراهيم سوف يتصدى بهذه الصراحة والجدّية لمقاومة هذه الأصنام الّتي يعبدها الجميع ولذلك سأله: «قَالُواْ أَجِئْتَنَا بِالْحَقّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللّاعِبِينَ».

ولكن إبراهيم عليه السلام أجابه أنّه جادٌّ في كلامه هذا وقال: «قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَا تِ وَالْأَرْضِ الَّذِى فَطَرَهُنَّ وَأَنَاْ عَلَى ذَلِكُم مّنَ الشَّاهِدِينَ».

ثمّ أضاف: «وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ» «2».

وهكذا ترجم إبراهيم عليه السلام قوله في ميدان العمل بعد أن استغلّ الفرصة المناسبة لذلك، فكسّر الأصنام

جميعها إلّاالصنم الأكبر لعلّهم يثوبون إلى رُشدهم أو يرجعون الى الصنم الاكبر المسبب لهذه الحادثة ليسألوه كما تقول الآية: «فجعلهم جُذاذًا إلّاكبيرًا لَّهُمْ لَعلَّهُم إِلَيهِ يَرْجِعُونَ» «3».

وهناك اختلاف بين المفسّرين في مرجع الضمير في قوله (إليه) في ذيل الآية، وقد أورد

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 211

المفسّرون احتمالات عديدة، فذهب البعض إلى أنّه يعود إلى (كبيرهم) أيّ يرجعون إلى الصنم الكبير ويسألونه عن سبب تحطّم وانهدام هذه الأصنام والسبب في نجاته هو من بينهم، وطبيعي أنّ هذا الصنم سيعجز عن الجواب، ومن هنا يتضّح لهم خواء معتقدهم.

والاحتمال الآخر هو أنّ الضمير يعود إلى (إبراهيم) يعني أنّ الوثنيين يرجعون إلى إبراهيم ويسألونه عن الدافع الّذي حمله على هذا التصرّف، فيوضّح لهم الحقائق (وطبعاً في هذه الآية تكون جملة (إلّا كبيراً لهم) عديمة التأثير في مفهوم الآية بخلاف الاحتمال السابق).

الاحتمال الثالث: أن يعود الضمير إلى اللَّه تعالى، أي أنّ مشاهدة ضعف هذه الأصنام وذلتها في مقابل إنسان واحد سيؤدي إلى أن يثوب الوثنيون إلى رشدهم ويتركوا عبادة الأصنام ويتجهوا إلى اللَّه تعالى ويسلكوا خطّ العبادة والتوحيد.

(وهذا التفسير أيضاً يرد عليه الإشكال السابق).

ولكن الأنسب من الجميع لسياق الآيات هو التفسير الأوّل.

وعلى أيّة حال فإنّ هذه الآيات تشير إلى أنّ أحد الفضائل الأخلاقية للأنبياء اولي العزم هو شجاعتهم المنقطعة النظير، وأنّهم لم يكونوا يشعرون بالخوف إلّافي دائرة الإيمان باللَّه تعالى وفي مقابل الذات المقدسة، وفي هذا الطريق لم يكونوا يعيشون التردّد والخوف والضعف بأي شكل من الأشكال، وبالتالي فهم منزّهون ومطهَّرون عن حالة الجُبن والخوف الّذي يُعد رذيلة أخلاقية كبيرة، ولهذا نجد إبراهيم عليه السلام وهو يتصدّى لجماعات الوثنيين وقوى الانحراف والأعداء الشرسين لوحده وينتصر عليهم أخيراً، ولاشكّ أنّ الأنبياء

العظام لو كانوا يعيشون حالة الخوف والجُبن في حركة الحياة فإنّهم لم يكونوا قادرين على أداء مهمّتهم الرسالية والإنتصار على الأعداء.

وتتحرك «الآية الثانية» من موقع توجيه الخطاب للنبي موسى بن عمران، وذلك لمّا نزل عليه الوحي لأول مرّة وقد صدر له الأمر بأن يُلقي عصاه الّتي تحوّلت بإعجاز إلهي إلى الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 212

ثعبان عظيم، فخاف موسى من هذه الظاهرة العجيبة وقرّر الفرار، إلّاأنّ الخطاب الإلهي جاءه ليعلّمه أوّل درس أخلاقي تجاه الحوادث وقال: «يَامُوسَى لَاتَخَفْ إِنّى لَايَخَافُ لَدَىَّ الْمُرْسَلُونَ» «1».

ونظراً إلى أنّ جميع أنحاء العالم هي في محضر اللَّه تعالى وإن كلّ زاوية من زوايا الكون هي محلّ حضور ذاته المقدسة وعلمه وقدرته، ولذلك على المؤمنين أن لا يخافوا بأيّة حال وفي كلّ الظروف بل عليهم أن يعيشوا حالة التوكل على اللَّه تعالى ويواجهوا تحديات الواقع بشجاعة وشهامة، ويسيروا بهذه الروح المعنوية في خطّ الرسالة وتحقيق الأهداف المقدسة.

وطبقاً لما ورد في سورة القصص في الآية (31) أنّه قيل لموسى «يَا مُوسَى اقْبِلْ وَلَا تَخَفْ انَّكَ مِنَ الْآمِنِين».

فشعر موسى بهذا الخطاب الإلهي بالطمأنينة والسكينة تدغدغ أعماق قلبه واستعاد قوته ورباطة جأشه، وهنا جاءه النداء الإلهي يحمل دستوراً أكبر وأهم، وهو أنّ لا يكتفي بعدم الخوف من هذا الثعبان العظيم بل يجب أن يتجه إليه ويأخذه بيده حتّى يعود إلى حالته الاولى! «قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْاولَى» «2».

ومن المعلوم أنّ هذا العمل كان يمثل لموسى الصعوبة البالغة، ولكنه نجح أخيراً في الإمتثال والإذعان لهذا الأمر الإلهي.

أجل فإنّ على موسى أن يستوعب التجربة الكبيرة في محضر الذات المقدّسة ليقف أمام ثعبان أكبر وأخطر من هذا، أي فرعون والملأ من قومه وحكومته الجبارة

الّتي يجب أن يأخذها موسى منهم كما يأخذ عصاه.

الكثير من المفسّرين ذهبوا في تفسير كلمة (جان) في الآية أعلاه تعني صغار الحيّات الّتي تهجم على الشخص بسرعة، في حين أنّه في مكان آخر تتحدّث الآيات عن عصى الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 213

موسى الّتي ألقاها أمام الفراعنة بكلمة (ثعبان) بمعنى الحيّة العظيمة، ولهذا السبب فقد احتمل البعض أنّ العصى في بداية أمرها تبدّلت إلى حيّة صغيرة وتدريجياً تحوّلت إلى ثعبان عظيم.

وذهب آخرون إلى أنّ (العصا) تبدلت إلى حيّة عظيمة، ولكنها من جهة سرعة الحركة فهي كالحية الصغيرة السريعة.

والملفت للنظر أنّ جملة (لا تخف) وردت في القرآن الكريم تسع مرّات، وفي خمسة موارد كان المخاطب فيها موسى بن عمران، ولعلّ ذلك بسبب أنّ موسى كان يعيش بين أعداء كثرة وشديدى الخطورة كفرعون وهامان والملأ، ويجب أن يعد العدّة بمثل هذا الخطاب الإلهي لمواجهة هؤلاء الأعداء.

وتستعرض «الطائفة الثالثة» من الآيات الكريمة قصة (طالوت) وقومه من بني إسرائيل والّذي انتخبه نبيّهم في ذلك الوقت (إشموئيل) بعنوان قائد جيش بني إسرائيل لمواجهة (جالوت) وجيشه الظالم.

وعندما أراد طالوت مواجهة جالوت وقتاله قام بعملية اختبارية لجيشه ليطهره من الشوائب وضعفاء النفوس والجبناء، الّذين قد يُفضي وجودهم في جيشه إلى سريان الجبن والضعف في سائر مفاصل جيش بني إسرائيل.

أجل فعندما كان جيش طالوت يشعر بالعطش الشديد وصلوا إلى نهر، فأراد طالوت أن يختبر جنوده العطاشى هناك وقال: كلّ من يشرب من هذا الماء فليس منّا، وامّا من قاوم العطش ولم يشرب إلّارشفات فهو منّا، ولكن أغلب أفراد الجيش الّذين كانوا من الجبناء وضعفاء النفوس لم ينجحوا في هذا الامتحان والاختبار وشربوا من الماء إلّاعدة قليلة بقوا أوفياء لطالوت، فهؤلاء كانوا يعيشون روح

الشجاعة والقوّة والبسالة حيث قالوا في دعائهم: «... رَبَّنَا افْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ اقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِريِنَ» «1».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 214

وهكذا أنزل اللَّه تعالى نصره وعنايته ورحمته على هذه الفئة القليلة من المؤمنين ونصرهم على جيش جالوت العظيم ببركة شجاعتهم وثباتهم في مواجهة التحدّيات والاختبارات الصعبة.

ونقرأ في «الآيات التالية» أنّ القرآن الكريم يتحدّث عن جبن طائفة من المنافقين وضعفاء الإيمان في عصر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وفي حرب الأحزاب، ويتحدّث كذلك عن شجاعة بعض المؤمنين الحقيقيين وثبات قدمهم في مواجهة الأعداء الشرسين حيث تقول الآية: «وَإِذْ قَالَت طَّآئفَةٌ مّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَامُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُواْ وَيَسْتَأذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ النَّبِىَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا» «1».

وطبعاً فإنّ ميدان القتال في معركة الأحزاب كان يغص بجيوش الأعداء وكثرة عددهم وعُدتهم بحيث يستوحش من هذا المنظر الرهيب كلّ الأشخاص الّذين يعيشون الاهتزاز في شخصيتهم والخوف والرعب في واقعهم.

ولكن كما تقول الآية (22) من هذه السورة أنّ المؤمنين الحقيقيين الذين كانوا يعيشون الطمأنينة والثقة بوعد اللَّه إزدادوا إيماناً: «وَلَمَّا رَأَى ا لْمُؤْمِنُونَ ا لْأَحْزَابَ قَالُواْ هذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَآ زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيًما» «2».

واللطيف انه يُستفاد من بعض الروايات أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أجاز للمنافقين وضعفاء الإيمان والجبناء بأن يعودوا إلى المدينة، لأن بقائهم في تلك الظروف العصيبة مع جيش الإسلام لا ينفع شيئاً سوى بث الرعب والضعف والتخاذل في قلوب الآخرين.

ولهذا السبب نقرأ في الآية (47) من سورة التوبة في حديثها عن جماعة من هذه الطائفة: «لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا».

ومعلوم أنّ كلمة (خَبَل) و

(خبال) تعني الإضطراب والترديد الناشي ء من ضعف العقل الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 215

وعدم القدرة على اتخاذ الموقف والعزم على شي ء، وكلّ ذلك ناشي ء من الخوف والجُبن الّذي يقود الإنسان إلى ارتباك الفكر وعدم التوازن في اتخاذ الموقف.

وفي «الآية الخامسة» نواجه منظراً جديداً من شجاعة أصحاب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، الشجاعة الّتي تنطلق من موقع الإيمان باللَّه تعالى، حيث أنّ هؤلاء المؤمنين يرون أنفسهم في ميدان الحرب على مفترق طريقين وكليهما يؤدّيان بهما إلى الجنّة ورضا اللَّه تعالى:

طريق يؤدي إلى الشهادة وبالتالي السعادة العظمى في الحياة الآخرة، والآخر يقودهم إلى النصر على العدو، وهو أيضاً مبعث الفخر والاعتزاز لهم في الدنيا والآخرة، في حين أنّ العدو محكوم بالهزيمة والخسران بأيّة حال، فإما الموت الذليل والمهين في هذه الدنيا، أو عذاب اللَّه في الآخرة.

وبديهي أنّ الشخص الّذي يعيش هذه الرؤية فإنه سوف لا يدع أيّ خوف وضعف يتسرّب إلى قلبه، وبذلك يتخلّص الإنسان من هذه الرذيلة الأخلاقية الكبيرة، وفي ذلك تقول الآية: «قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ أَو بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبّصُونَ» «1».

وقد ذهب بعض العلماء إلى أنّ العامل الأساس لانتصار المسلمين في حروبهم الحاسمة في ذلك العصر هو الشجاعة المنطلقة من الإيمان باللَّه والمنطق الرصين: «قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ».

وتأتي «الآية السادسة» لتستعرض وجهاً آخر من شجاعة هؤلاء المؤمنين في معركة احد، ونعلم أنّ المسلمين في معركة احد قد أصابتهم الهزيمة النكراء بسبب غفلة طائفة من المسلمين الطامعين بحطام الدنيا الّذين تركوا مواقعهم الحسّاسة واشتغلوا بجمع الغنائم، وهكذا اصيب المسلمون في هذه المعركة بخسائر كبيرة، وطبقاً لما ورد

في التواريخ أنّ الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 216

الأعداء المنتصرين في أثناء عودتهم من ميدان القتال إلى مكّة ندموا على رجوعهم هذا واتفقوا مرّة اخرى أن يعودوا إلى المدينة ليستفيدوا من هذه الفرصة الثمينة ويُجهزوا على الإسلام والمسلمين ويتخلّصوا منهم إلى الأبد.

فعندما سمع نبي الإسلام بذلك اتخذ موقفاً مهماً جداً، حيث أمر جيش الإسلام بالخروج لمواجهة جيوش الأعداء ولم يستثن أحداً من المسلمين حتّى من به جراحة بسبب المعركة الدامية الّتي جرت قبل قليل.

هذا الأمر النبوي اثّر أثره بشكل كبير وأحلّ الرعب والخوف والاضطراب في صفوف الأعداء بحيث إنهم رجّحوا الاكتفاء بالانتصار النسبي والعودة إلى مكّة على الهجوم الثاني على المسلمين، وهكذا تخلّص المسلمون من شرّهم.

والآية محل البحث تشير إلى هذا المعنى وتثني على شجاعة المسلمين وتقول: «الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ ا لْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَوْاْ أَجْرٌ عَظِيمٌ» «1».

ثمّ تتحدث عن إيمانهم وشجاعتهم واصفة حالتهم المتماسكة في مقابل الارهاب الاعلامي للأعداء الّذي يتحرك من موقع التهويل والتخويف وتقول: «الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ ا لْوَكِيلُ» «2».

وهذه هي الحادثة الاولى من نوعها في تاريخ الحروب البشرية حيث لم يشاهد في تاريخ البشرية أنّ المجروحين يعودون فوراً إلى ميادين القتال ليساهموا في دفع خطر الأعداء، أجل إن هذه الشجاعة والشهامة الفريدة هي التي اجهضت مؤامرة العدو، وهذا الحضور القوي والسريع إلى الميدان هو الّذي زرع اليأس في قلبه.

وعلى أية حال فإنّ واقعة «حمراء الأسد» كانت ظاهرة عجيبة بدّلت حلاوة النصر لدى الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 217

قريش إلى مرارة، وبيّنت لهم أنّ المسلمين بالرغم من هزيمتهم بسبب زيغ جماعة منهم، إلّا

أنّهم مازالوا ثابتين في الميدان وأنّ على العدو أن يتوقع ضربات المسلمين في المستقبل.

وبهذا أثرت هذه الواقعة ليس فقط في التصدي إلى هجوم الأعداء ودفع الخطر، بل في وضع الأساس لانتصارات لاحقة، وتطهير ما علق في النفوس من آثار سلبية للانتكاسة في احد، ومنح المسلمين الأمل في حياتهم الجديدة بالتوكل على اللَّه تعالى.

ويستفاد من الآية الشريفة أعلاه أنّ عملية الارهاب الاعلامي الّذي قام به بعض الشياطين لبث الرعب والخوف في قلوب المسلمين من جيوش قريش، ليس فقط لم يؤثر في زعزعة إيمانهم وثقتهم باللَّه تعالى وبالإسلام، بل إزداد إيمانهم واشتدت ثقتهم باللَّه وتوكلهم عليه، كلّ ذلك كان بسبب أنّهم كانوا يعيشون الثقة بوعد اللَّه وصدق النبي الأكرم وأنّهم لو عملوا بارشادات النبي في واقعة احد فإنّ النصر سيكون حليفهم لا محالة.

ومن عجائب هذه الواقعة هو أنّ النبي صلى الله عليه و آله أمر المسلمين الّذين اشتركوا في احد فقط بالحضور إلى حمراء الأسد دون غيرهم، لكي يفهم العدو أنّ جيش المسلمين في احد مازال قوياً رغم وجود الكثير من الجرحى في صفوفه، وما زال مستعداً للقتال دون ضعف وفتور رغم استشهاد العديد من ابطاله وأفراده، وهذا هو الّذي أخاف الأعداء وزرع الخوف والقلق في قلوبهم.

ونقرأ في الآيات اللاحقة وفي الآية 175 من هذه السورة إشارة للتفاوت بين الأفراد الّذين يعيشون الخوف والجبن وبين المؤمنين الّذين يعيشون الشجاعة والتوكل، حيث تقول الآية: «إِنَّمَا ذَا لِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوّفُ أَوْلِيَآءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ».

ونستوحي من هذه الآية الشريفة أنّ مثل هذا الخوف يتّسم بصفة شيطانية والغرض منه تضعيف روحية المؤمنين واهتزاز معنوياتهم واتخاذ موقف انفعالي أمام تحديات الظروف وبالتالي التهرب من ضغط المسؤولية والتكليف، والحال أنّ

المؤمنين الحقيقيين لا يشعرون بالخوف إلّامن اللَّه تعالى.

وطبقاً لهذه العبارات الواردة في الآية الشريفة فإنّ الجبن يمتد في جذوره إلى عناصر

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 218

الشر في واقع الإنسان في حين أنّ الشجاعة تسترفد مقوماتها من عنصر الإيمان وتعدّ من معطياته وثماره، لأن المؤمن وبالتوكل على اللَّه القادر المطلق يرى نفسه منتصراً في جميع الميادين. أما الأشخاص الّذين يعيشون الاهتزاز في إيمانهم ويعتمدون على قدراتهم الذاتية فإنّهم منهزمون على أية حال لما يروا من محدودية قدراتهم وهزال امكاناتهم، ولذا يستولي عليهم الخوف والاضطراب أمام تحديات الواقع ومشكلاته المتزايدة.

لقد تكاتفت قوى الشر والانحراف في واقعة «حمراء الأسد» لإظهار قوّة جيش قريش وتفخيمها بأكبر حجم لإخافة المؤمنين والقاء الرعب في قلوبهم، إلّاأنّ القرآن الكريم يقرر أنّ أولياء الشيطان واتباعه هم الّذين يتأثرون بهذه المظاهر الخدّاعة، بينما يعيش أولياء اللَّه الثبات والاستقامة في خط الحقّ والرسالة «1».

وتنطلق «الآية السابعة» والأخيرة من الآيات مورد البحث للتذكير بهذه الحقيقة، وهي أنّ إحدى صفات المبلّغين الرساليين هي طهارتهم من رذيلة الجبن والخوف من غير اللَّه تعالى، وتقول: «الَّذِينَ يُبَلّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا» «2».

إن تبليغ الرسالة الإلهية من أهم وظائف الأنبياء والمرسلين، وهذا لا يتسنى إلّابخلو النفس من أية شائبة من شوائب الخوف والجبن والتردد.

هذه الآية الشريفة الناظرة إلى الأنبياء الماضين تحذّر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بالدرجة الاولى، واتباعه المخلصين بالدرجة الثانية من مغبة الشعور بالخوف والتردد حين إبلاغ الرسالات السماوية وأنّ عليهم أن لا يخشون أحداً إلّااللَّه تعالى، ومفهوم هذا الخطاب الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 219

القرآني هو أنّ الأشخاص الجبناء والّذين يعيشون الخوف والتخاذل في الموقف غير لائقين لتولي

هذه المهمة وأداء هذه الرسالة.

وذهب بعض المفسرين إلى أنّ هذه الآية تدلّ على أنّ الأنبياء الإلهيين لا ينبغي لهم استعمال التقية، ولكن هذا الرأي إنما يكون صحيحاً إذا فسّرنا التقية بمعناها السلبي من الخوف والخشية من المخالفين، والحال أنّ التقية لا تستوحي مقوماتها من الخوف دائماً، بل قد تكون بدافع من الحرص على جذب المخالفين إلى سواء السبيل وإيصال الناس إلى الغايات الإلهيّة بصورة تدريجية، ولعلّ قول إبراهيم عليه السلام «هذا ربي» أمام الوثنيين من قومه كان من هذا القبيل (فتأمل).

النتيجة النهائية:

تبيّن من خلال استعراضنا لجملة من الآيات الكريمة أهمية الشجاعة والشهامة في حركة الإنسان المؤمن، ودور هذه الفضيلة الأخلاقية في صياغة مصير الإنسانية على المستوى المادي والمعنوي، وكذلك تبيّن في الجهة المقابلة الآثار السلبية لرذيلة الجبن وعواقبها السيئة على حياة الإنسان.

وصحيح أنّ هذه الآيات الكريمة لم تفصل البحث عن الشجاعة والجبن بصورة مستقلة وبشكل مباشر، إلّاأنّها أشارت إلى دور هذه المفاهيم الأخلاقية في حياة الإنسان بشكل ضمني وببيان دقيق وجميل.

الجبن والخوف في الروايات الإسلامية:

اشارة

ونقرأ انعكاساً واسعاً في الأحاديث الشريفة لهذه الرذيلة الأخلاقية من موقع الذم والتحذير الشديد من الاتصاف بها، من قبيل:

1- يقول الإمام الباقر عليه السلام: «لَا يَكُونُ الْمُؤْمِنُ جَبَاناً وَلَا حَرِيصاً وَلَا شَحِيحاً» «1».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 220

ويستفاد جيداً من هذا التعبير أنّ «الخوف» و «الحرص» و «البخل» لا تنسجم مع روح الإيمان، لأنّ المؤمن يتوكل في جميع اموره على اللَّه تعالى، ومن كان يملك مثل هذا الأساس المتين في حركة الحياة لا يمكن أن يعيش الخوف ولا البخل ولا الحرص، لأنّه يعيش الأمل برحمة اللَّه وفضله فلا يتعلق قلبه بشي ء من حطام الدنيا.

2- وفي حديث آخر عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «الْجُبْنُ وَالْحِرْصُ وَالْبُخْلُ غَرَائِزُ سُوءٍ يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ سُبْحَانَهُ» «1».

وهذا الحديث في الحقيقة بيان آخر لما ورد في الحديث السابق حيث يبيّن الجذور الأصلية لهذه الصفات الرذيلة.

3- وقد نهى الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام اتباعه من استشارة الجبناء لأن خوفهم يؤثر في صياغة الرأي ويبعده عن جادة الصواب: «لَا تُشْرِكَنَّ فِي رَأْيِكَ جَبَاناً يُضَعِّفُكَ عَنِ الْامْرِ وَيُعَظِّمُ عَلَيْكَ مَا لَيْسَ بِعَظِيمٍ» «2».

ونفس هذا المعنى ورد في عهد الإمام لمالك الاشتر بشكل آخر حيث نهى الإمام علي مالك الاشتر عن مشورة البخلاء والجبناء

والحريصين.

4- وهذا الموضوع إلى درجة من الأهمية بحيث إن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أمر بعدم اشتراك الأفراد الجبناء في أي جهاد ضدّ المشركين لئلّا يُضعفوا معنويات الآخرين، فقال: «مَنْ احَسَّ مِنْ نَفْسِهِ جُبناً فَلَا يَغْزُ».

5- وفي حديث آخر عن الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام يوضّح الحديث أعلاه ويقول بصراحة: «لَا يَحِلُّ لِلْجَبَانِ انْ يَغْزُو، لِانَّهُ يَنْهَزِمُ سَريِعاً وَلَكِنْ لِيَنْظُرَ مَا كَانَ يُرِيدُ انْ يَغْزُوَ بِهِ فَلْيُجَهِّز بِهِ غَيْرَهُ» «3».

1- الخوف المعقول وغير المعقول

لاشكّ أنّ المراد من الجبن والخوف هنا ليس هو الجبن المعقول والخوف المنطقي بل يقع في دائرة اللامعقول واللامنطقي، وتوضيح ذلك:

إن الخوف من الامور الّتي تتضمن الخطر واقعاً هي أحد الحالات الروحية والطبيعية في الإنسان وأحد المواهب والنعم الإلهية الكبيرة، وانه لولا هذه الحالة تجاه الخطر فإنّ الإنسان لايشعر بالخوف إذا واجهه الخطر حيث يفقد حياته سريعاً، وهذا هو ما ورد في كلمات علماء الأخلاق باسم (التهوّر) في مقابل الخطر والّتي هي صفة ذميمة من قبيل أن يعبر الشخص الشارع المزدحم بالسيارات بدون أن ينظر يميناً أو يساراً ولا يحاذر من الخطر، فمثل هذا الشخص سيتعرض للحوادث الخطرة الّتي سرعان ما تؤدي بحياته.

مثل هذا النوع من الخوف في حياة الإنسان اليومية، وهكذا في موارد الخوف من تناول الأطعمة المشكوكة أو الخوف في دائرة المسائل السياسية والاقتصادية وغيرها، يُعتبر خوفاً منطقياً، ويتسبب في نجاة الإنسان من الأخطار الّتي تهدد حياته في حركة الحياة والواقع.

أمّا الخوف المذموم فهو أن يخاف الإنسان من المظاهر والعناصر الّتي لا تستبطن خطراً في حدّ ذاتها، بل يتصور الخطر الموهوم فيها، فيخاف من كلّ خطر وهمي وكلّ عدوٍ خيالي ويخاف من كلّ شي ء حتّى من خياله، مثل هذا الإنسان يعيش حالة

التردّد في كلّ عمل يريد الاشتراك به مخافة عدم نجاحه في ذلك العمل وبالتالي يمنعه هذا الخوف من تصعيد طاقاته وقابلياته ويعيش التخلف والكسل والفشل والذلّة والمهانة.

إن هذه الحياة الدنيا في حقيقتها ميدان للصراع مع الموانع والمشكلات والأخطار الموجودة دائماً في مفاصل وزوايا هذه الحياة، ومالم يواجه الإنسان هذه الأخطار والموانع من موقع الجرأة ويستعد بجدّية لمقابلتها فإنه لا يوفَّق في حياته.

والغالب إننا لا يمكننا تحقيق النجاح والنصر في كلّ عمل نعمله أو نضمن عدم وجود الخطر فيه، فهذا من الخيال المحال وهو من الأوهام الزائفة، وهنا يتجلّى الدور المهم الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 222

للشجاعة والشهامة في واقع الإنسان تجاه التحدّيات الصعبة، وتتجلّى كذلك الآثار السلبية لرذيلة الخوف والجبن أيضاً.

إن كلّ مزارع يحتمل الجفاف والأمراض الزراعية الّتي تصيب مزرعته، وكلّ تاجر يحتمل تغيّر الأسعار وتحوّل أوضاع السوق، وكلّ مسافر يحتمل وقوع الحوادث الخطرة في الطريق، وفي كلّ عملية جراحية يُحتمل وجود الخطر، فإذا عملت هذه الاحتمالات على منع الإنسان من القيام بشاطاته الحياتية فلابدّ أن يجلس الإنسان جانباً ولا يقدم على أي عمل من الأعمال بل ينتظر الموت فقط.

ومن المعلوم أنّ الإنسان في مثل هذه الموارد يجب أن يتوقع الأخطار الجدّية ثمّ يضع لها ما يقابلها من العلاجات والحلول ويتجنّب التهوّر وإلقاء نفسه بالتهلكة، ولكن في نفس الوقت لا ينبغي للاحتمالات الموهومة واللامعقولة الّتي تكتنف العمل دائماً أن تكون مانعة له من الإقدام على سلوك هذا الطريق.

وهذا هو أفضل تعريف لمسألة الشجاعة بعنوانها صفة من الصفات الأخلاقية الفاضلة، والخوف بعنوانه من الصفات الأخلاقية الرذيلة.

وقد ورد في الحديث الشريف عن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام في تعريف الجبن قوله:

«الْجُرْأَةُ عَلَى الصَّديِقِ وَالنُّكُولُ عَنِ الْعَدُوّ» «1».

ونقرأ

في حديث آخر عن هذا الإمام أنّه قال في جوابه على سؤال عن الشجاعة:

«مُوَافِقَةُ الْاقْرَانِ وَالصَّبْرُ عِنْدَ الطَّعَانِ» «2».

القرآن الكريم يقول أيضاً في إحدى آياته: «وَلَا تُلْقُوا بِايْدِيكُمْ الَى التَّهْلُكَةِ» «3».

ويقول في مكان آخر في وصف المؤمنين: «... اشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ...» «4» ولا يخالجهم الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 223

خوف موهوم في هذا الطريق.

إنّما تقدّم آنفاً يوضح جيداً أنّ الشجاعة هي الفضيلة الّتي تقع في الحدّ الوسط بين (التهوّر) و (الجبن).

2- الآثار السلبية للجُبن في حركة الحياة الفردية والاجتماعية

ويترتب على هذه الصفة الرذيلة آثار سلبية كثيرة في حياة الإنسان والّتي تُعد من الأسباب والعوامل المهمة في فشله وذلّته.

إننا نقرأ الكثير عن حالات الشعوب والامم على طول التاريخ البشري، ونقرأ أنّ الكثير منها رغم امتلاكها لوسائل القوّة والمنعة من العُدة والعدد، إلّاأنّها كانت تعيش الذلّة والمهانة والأسر لسنوات طويلة، ولكن بمجرد أن ينبري من بينها قائد شجاع وشهم يتخطّى بها صفوف التقدّم والنهضة ويُعبّي طاقاتها وأفرادها في سبيل الكرامة والتقدّم فإنّها سرعان ما تنفض عن نفسها رداء الذلّة والمهانة والتخلف وترتقي إلى أوج العزّة والعظمة.

إن شجاعة نبي الإسلام صلى الله عليه و آله في مختلف موارد سيرته العملية من هجرته إلى المدينة وموقفه في بدر واحد والأحزاب وسائر الغزوات الاخرى يُعد من أهمّ العوامل لانتصار المسلمين وتقدّمهم السريع، ولهذا ورد في الأحاديث الإسلامية عن الإمام علي قوله:

«الشُّجَاعَةُ عِزٌّ حَاضِرٌ وَالْجُبْنُ ذُلٌّ ظَاهِرٌ» «1».

ويقول في مكان آخر أيضاً: «الشُّجَاعَةُ نَصْرَةٌ حَاضِرَةٌ وَفَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ» «2».

وأحد الآثار السلبية الاخرى لهذه الرذيلة الأخلاقية هو أنّها تمنع الإنسان من التصدي لكثير من الأعمال والنشاطات المهمة، لأن هذه الأعمال الكبيره تقترن عادة مع مشاكل كبيرة أيضاً وتتطلّب رجالًا يقفون أمام هذه المشكلات والموانع من موقع الشجاعة والجرأة، فلا

يتسنّى للشخص الجبان أن يخوض في اطار هذه الأعمال إطلاقاً.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 224

وعليه فإنّ مثل هؤلاء الأشخاص وعلى فرض حصولهم على بعض الموفقيّة المحدودة والتافهة في الحياة فإنّهم يعجزون عن التصدّي للأعمال المهمة على المستوى الاجتماعي والتغيير الإصلاحي الّذي يحتاجه الناس.

وهذه المسألة من الأهمية إلى درجة أنّ الإسلام نهى عن المشورة مع الجبناء والّذين يعيشون حالة الخوف والرعب الوهمي في دائرة مديرية المجتمع والأعمال المهمة في عملية التغيير والإصلاح الإجتماعي، لأن هؤلاء من شأنهم أن يقرأوا آية اليأس فقط وبذلك يُحبطوا عزم المدراء الموفَّقين ويثبطوا من إرادتهم القوية.

وكما رأينا أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام يوصي مالك الأشتر في عهده المعروف ان لا يستشير أحداً من الجبناء لئلّا يُصاب بالضعف والإحباط ويقول: «لَا تَدْخُلَنَّ فِي مَشْوِرَتِكَ ... جَبَاناً يُضَعِّفُكَ عَنِ الْامُورِ» «1».

ويقول في مكان آخر أيضاً: «وَيُعَظِّمُ عَلَيْكَ مَا لَيْسَ بِعَظِيمٍ».

3- دوافع الجُبُن

1- ضعف الإيمان وسوء الظنّ باللَّه، لأن الشخص الّذي يعيش الإيمان باللَّه والثقة به وينطلق في حياته من موقع التوكل والأمل برحمة اللَّه ولطفه والتصديق بوعده، مثل هذا الشخص سوف لا يذوق طعم الذلّة والمهانة والضعف ولا يتردد أو يخاف أمام الحوادث الصعبة ولا يهتز لتحديات الواقع الثقيلة، وهذا هو ما ورد في عهد أميرالمؤمنين عليه السلام لمالك الأشتر حيث يقول: «انَّ الْبُخْلَ وَالْجُبْنَ وَالْحِرْصَ غَرَائِزٌ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ».

2- الشعور بالحقارة وضعف الشخصية لدى الفرد، ولهذا نجد انه كلّما كانت شخصية الإنسان نافذة وقوية وشعر الإنسان معها بالكرامة واحترام الذات فإنّ ذلك ممّا يزيد في شجاعته وشهامته، ولذلك يقول أميرالمؤمنين عليه السلام: «شِدَّةُ الْجُبْنِ مِنْ عَجْزِ النَّفْسِ وَضَعْفِ الْيَقِينِ» «2».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 225

3- (الجهل وقلّة المعرفة) حيث تسبب للإنسان غالباً

الخوف الموهوم، كما نرى في خوف الإنسان من الأشخاص أو الحيوانات الّتي لا يعرفها على وجه الدقة ولكن عندما تتضح له الصورة ويتعرف عليها تذوب حالة الخوف في نفسه تدريجياً.

4- (طلب الراحة والعافية) يُعد أحد الأسباب للخوف المذموم، لأن الشجاعة تتطلب الخوض في دوّامة المشكلات واللاملائمات لكي يتسنّى للإنسان أن يخرج منها منتصراً، وهذا المعنى لا يتلائم ولا ينسجم مع مزاج من يطلب الراحة والعافية.

5- إن دروس الحوادث المُرة والمؤلمة قد يتسبّب غالباً في أن يعيش بعض الناس حالة الخوف والرعب، لأن هذه الحوادث المرة تترسخ في أذهانهم وتمتزج بالخوف الّذي قد يستمر بالإنسان إلى آخر حياته ولا يمكنه التخلّص منه إلّاببعض العلاجات النفسية.

6- إن الإفراط في سلوك طريق الحذر من شأنه أن يورث الخوف أيضاً أو هو عامل من عوامل ايجاد الخوف في النفس، لأن مثل هذا الإنسان يتوقى كلّ ما يحتمل فيه الخطر، وهذا يؤدي به إلى أن يعيش حالة التردد والخوف من الإقدام.

7- وممّا لا ينبغي إنكاره أنّ الحالة الروحية والمزاجية والبدنية للأفراد أيضاً مؤثرة في بروز هذه الحالة السلبية، فترى بعض الأشخاص وبسبب ابتلائهم بضعف الأعصاب أو ضعف القلب يخافون من كلّ شي ء، في حين يشعرون في نفس الوقت بالتنفر من هذه الحالة والإمتعاض لوجودها في واقعهم ولكنهم لا يستطيعون التخلّص منها.

هؤلاء يقولون: أنّ الخوف المتسرب في أعماقنا ليس باختيارنا بل نجده مفروض علينا، ولكن الصحيح أنّ هذه الحالة قابلة للعلاج أيضاً.

4- طرق العلاج والوقاية

إن أحد الطرق الأصلية لعلاج هذه الرذيلة الأخلاقية، كما في سائر الرذائل الاخرى، أن يتفكر الإنسان من جهة في آثارها السلبية وعواقبها الوخيمة على المستوى الفردي والاجتماعي للإنسان، فعندما يطالع الشخص الجبان والّذي يعيش حالة الخوف والرعب الاخلاق فى

القرآن، ج 2، ص: 226

من كلّ إقدام مثمر، الآثار السلبية للخوف الموهوم وما يترتب عليه من ذلّة وحقارة وتخلف وحرمان من الكثير من مواهب الحياة في حياته أو حياة الآخرين، فإنه سيتحرك في الغالب لتجديد فكرته ونظرته عن هذه الحالة ويسعى لتطهير نفسه منها.

ومن الطرق المهمة الاخرى في عملية العلاج هو السعي إلى قطع دوافع وجذور هذه الرذيلة من واقع النفس، فعندما تزول السحب المظلمة لسوء الظنّ باللَّه من سماء القلب، وتشرق شمس التوكل على اللَّه في أجواء الروح الإنسانية، فإنّ ظلمات الخوف الموهوم ستزول بسرعة عن النفس البشرية، ولكن قد يحتاج هذا الأمر إلى مطالعة ودقّة أكثر.

ومن الطرق الاخرى للعلاج هو أن يتورّط الإنسان في الميادين المثيرة للخوف والوحشة ويعمل على إقحام نفسه مرات عديدة في مثل هذه الميادين والأجواء المثيرة، وعلى سبيل المثال فعندما يجد الإنسان نفسه يخاف من تناول الدواء أو زرق الابر فعليه أن يقحم نفسه مرّات عديدة في مثل هذه الأعمال كيما تزول حالة الخوف.

والبعض الآخر يستوحش من السفر في السفينة أو الطائرة، ولكن تكرار مثل هذه السفرات من شأنه أن يزيل الخوف منه.

وبعض الناس يجد حالة التردد والخوف في نفسه عند حضوره أمام الآخرين أو عند إلقائه لمحاضرة أو كلمة أمام الجمع، ولكن هذا الخوف والتردّد يزول غالباً بتكرار مثل هذه الأعمال.

وأحد أهداف التمرينات العسكرية والمناورات الّتي تُجريها الحكومات لجيوشها وقواها العسكرية هو إزالة آثار الخوف من قلوب أفراد الجيش من الحروب.

ونجد هذا المعنى بصورة جميلة ورائعة في الكلمات القصار لأميرالمؤمنين عليه السلام حيث يقول: «اذَا هَبْتَ امْراً فَقَعْ فِيهِ، فَانَّ شِدَّةَ تَوَقِّيهِ اعْظَمُ مِمَّا تَخَافُ مِنْهُ» «1».

ويقول العلّامة المرحوم الخوئي في شرحه لنهج البلاغة عند شرح هذه العبارة: «كثيراً

ما يستوحش الإنسان من بعض الامور بسبب جهله وجبنه فيمنعه ذلك الخوف من نيل الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 227

الموفقية في الحياة، وهنا الإمام عليه السلام يحرضه على خلع حالة الجبن عن نفسه لأن تحمل ضغط هذه الحالة قد يكون في كثير من الحالات أشد على الإنسان من التورط في ذلك الأمر المخوف».

ثمّ يضيف: «إن المخترعين والمكتشفين في العالم نالوا أوسمة الفخر بالعمل بهذه التوصية الحكيمة، حيث توغلوا إلى أعماق الغابات الاستوائية والصحاري الأفريقية وخاضوا لجج البحار ووصلوا إلى الجزر البعيدة وحصلوا على ثروات طائلة وشهرة عظيمة مضافاً إلى ما قدّموا إلى البشرية من علم ومعرفة لا يستهان بها» «1».

وقد ورد في المثل المعروف: «امُّ الْمَقْتُولِ تَنَامُ وَامُّ المُهَدَّدِ لَاتَنَامُ».

وقيل أيضاً: «كُلُّ امْرٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ فَسِمَاعُهُ اعْظَمُ مِنْ عَيَانِهِ» «2».

وأحد الطرق الاخرى لعلاج حالة الجبن والخوف هو أن يعيش الإنسان بطُهر ونقاء من شوائب الرذيلة والأعمال الذميمة، لأن الأشخاص الملوّثين يخافون غالباً من نتيجة أعمالهم، وبما أنّ نيتجة هذه الأعمال سوف تتجلّى إلى الملأ يوماً من الأيام فإنّهم يعيشون حالة الخوف في أنفسهم، ولذلك ورد في الحديث المعروف عن أميرالمؤمنين عليه السلام قوله: «مَا اشْجَعُ الْبري وَاجْبَنَ الْمُريِبُ» «3».

ونقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام قوله: «لَوْ تَمَيَّزَتِ الْاشْيَاءُ لَكَانَ الصِّدْقُ مَعَ الشَّجَاعَةِ وَكَانَ الْجُبْنُ مَعَ الْكِذْبِ» «4».

5- معطيات الشجاعة في حياة الإنسان

والنقطة المقابلة لصفة الجبن الرذيلة، هي الشجاعة والشهامة والجرأة على الخوف في الأعمال المهمة كما تقدّمت الإشارة إليه ضمن حديثنا عن الجبن والخوف، فكلّ واحد من هاتين الصفتين المتقابلتين تتضح بدراسة ما يقابلها من الحالات الأخلاقية، فمعرفة مفهوم الجبن لا تتسنّى بدون معرفة مفهوم الشجاعة، وكذلك العكس فإنّ من العسير أن ندرك مفهوم الشجاعة بدون

أن نُحيط علماً بمفهوم الجبن والخوف.

وبهذا نرى من اللازم ولغرض تكميل الأبحاث السابقة أن نتحدث أكثر عن صفة الشجاعة وآثارها الايجابية ومعطياتها في حركة الحياة وخاصة من وجهة نظر الأخبار والأحاديث الإسلامية:

1- ما ورد في عهد الامام على عليه السلام لمالك الأشتر (والّذي يُعدّ أشمل دستور إلهي وسياسي) في عملية إدارة الحكومة في موارد متعددة أنّ أميرالمؤمنين عليه السلام أشار إلى هذه المسألة، فيحذّر في أحد الموارد مالك الأشتر من المشورة مع الأشخاص الجبناء والّذين يعيشون حالة الخوف والحرص والبخل. ويقول في مكان آخر بالنسبة إلى قادة الجيش (أو المعاونين والموظفين والمسؤولين): «ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِي الْمُرُوآتِ وَالْاحْسَابِ وَاهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَالسَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ ثُمّ اهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ وَالسَّخاء وَالسَمَاحَةِ، فَانَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ وَشُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ» «1».

وهنا نجد أنّ الإمام يرى أنّ صفة الشجاعة والشهامة تُعد من الاصول الأساسية والقيم الأخلاقية المهمة للإنسان المدير والمدبّر وخاصة على مستوى قادة الجيش أو المسؤولين الكبار في الحكومة.

2- ويقول هذا الإمام في حديث آخر: «الشَّجَاعَةُ زَيْنٌ، الْجُبْنُ شَيْنٌ» «2».

3- وورد عن هذا الإمام الهُمام قوله في حديث آخر: «السَّخَاءُ وَالشَّجَاعَةُ غَرَائِزٌ شَرِيفَةٌ

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 229

يَضَعُهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي مَنْ احَبَّهُ وَامْتَحِنْهُ» «1».

4- وورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في ذكره لفضائل أهل بيته أنّه ذكر سبع صفات وأحدها الشجاعة.

وفي حديث آخر ذكر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله فضائله وفضائل أهل بيته في كلمتين، وأحد هاتين الفضيلتين هي الشجاعة.

5- ونقرأ في حديث ليلة المبيت (وهي الليلة الّتي بات فيها الإمام علي عليه السلام على فراش النبي صلى الله عليه و آله في ليلة الهجرة إلى المدينة) أنّه عندما حاصر المشركون بيت النبي صلى

الله عليه و آله ليلًا، ثم هجموا في الصباح الباكر إلى داخل الدار رأوا علياً نائم في فراش النبي، فقال أبو جهل: أما ترون محمداً كيف أبات هذا و نجا بنفسه لتشتغلوا به وينجو محمد، لا تشتغلوا بعلي المخدوع لينجو بهلاكه محمد ....

فقال علي عليه السلام: «أَلِي تَقُولُ هذا يا أَبا جَهل؟ بَلِ اللَّهُ قَدْ أَعطانِي مِنَ العَقلِ ما لُو قُسِّمَ عَلى جَميعِ حُمَقاء الدُّنيا وَمَجانِينِها لَصارُوا بِهِ عُقلاء، وَمِنَ القُوَّةِ ما لَو قُسِّمَ عَلى جَمِيعِ ضُعَفاءِ الدُّنيا لَصارُوا بهِ أَقوياء، وَمِنَ الشَّجَاعَةِ مَا لَوْ قُسِّمَ عَلَى جَمِيعِ جُبَنَاءِ الدُّنْيَا لَصَارُوا بِهِ شَجْعَاناً» «2».

6- ونقرأ في الخطبة المعروفة للإمام زين العابدين في الشام أنّ هذا الإمام ابتدأ خطبته التاريخية بقوله: «ايُّهَا النَّاسُ: اعْطِينَا سِتأً وَفُضِّلْنَا بِسَبْعٍ اعْطِينَا الْعِلْمَ وَالْحِلْمَ وَالسَّمَاحَةَ وَالْفَصَاحَةَ وَالشَّجَاعَةَ وَالْمَحَبَّةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ» «3».

7- ونختم هذا البحث بحديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام (رغم وجود أحاديث كثيرة في هذا الباب) قال: «الْغِيرَةُ الشَّدِيدَةُ عَلَى حَرَمِكَ، وَالسَّخَاءُ، وَحُسْنُ الْخُلْقِ، وَصِدْقُ اللِّسَانِ وَالشَّجَاعَةُ».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 230

ويتبين من الأحاديث المذكورة آنفاً وكذلك الآيات والروايات الكثيرة في هذا الباب أهمية هذه الفضيلة الأخلاقية وقيمتها من بين القيم الإنسانية الرفيعة الّتي يراها الإسلام في مجمل تعاليمه الأخلاقية والإنسانية.

وممّا يجدر ذكره هو أنّ (الشجاعة) لها معنىً واسع وتمتد لمساحات شاسعة من السلوكيات الإنسانية، والشجاعة في ميدان الحرب والقتال هو أحد فروعها ومصاديقها، ومنها الشجاعة في ميدان السياسة، وفي المسائل العلمية وإبداع النظريات الجديدة المنطقية والاختراعات العلمية، والشجاعة في مقام القضاء والحكم وأمثال ذلك، فكلّ واحدٍ منها يعد من فروع هذه الشجرة الأخلاقية والصفة الكريمة للإنسان، ولذلك نقرأ في بعض الروايات «الصَّبْرُ شَجَاعَةٌ» «1».

وورد في حديث آخر

عن الإمام علي عليه السلام قوله: «اشْجَعَ النَّاسِ اسْخَاهُمْ» «2».

ونقرأ في حديث آخر عن هذا الإمام قوله: «لَوْ تَمَيَّزَتِ الْاشْيَاءُ لَكَانَ الصِّدْقُ مَعَ الشَّجَاعَةِ وَكَانَ الْجُبْنُ مَعَ الْكِذْبِ» «3».

فهذه الأحاديث الشريفة تقرر في كلّ واحد منهما فرعاً من فروع الشجاعة الّتي تندرج تحت المفهوم العام لهذه الكلمة.

12

ضعف النفس والتوكل على اللَّه

تنويه:

وردت الإشارة في كثير من الآيات القرآنية الكريمة والروايات الإسلامية وكذلك سيرة الأنبياء والأولياء والصالحين وفي كتب علماء الأخلاق وأرباب السير والسلوك إلى مسألة «التوكل» بعنوان أنّها من الفضائل الأخلاقية المهمة الّتي لا يتسنّى للإنسان الوصول إلى مقام القرب الإلهي بدونها.

والمراد من التوكل هو: تفويض الامور إلى اللَّه والاعتماد على لطفه، لأن (التوكل) من مادّة (وكالة) بمعنى اختيار الوكيل والاعتماد عليه في تسيير الامور، وبديهي انه كلّما كان الوكيل يتمتع بقدرة أكبر واحاطة علمية أكثر فإنّ الشخص الموكل يشعر في قرارة نفسه بالهدوء والسكينة أكثر، وبما أنّ اللَّه تعالى وقدرته لا محدودة، فعندما يتوكل الإنسان عليه يشعر بالطمأنينة والسكينة تدغدغ قلبه وتنفذ إلى أعماق روحه، فتمنحه القدرة على التصدي للمشكلات والحوادث الصعبة، وأن لا يعيش الخوف من الأعداء والأخطار المختلفة، ولا يرى نفسه في مأزق في حركة الحياة، فيسير بالتالي بقلب مطمئن وبطريق مفتوح متجهاً صوب أهدافه ومقاصده.

الإنسان الّذي يعيش التوكل على اللَّه لا يشعر إطلاقاً بالحقارة والضعف بل يرى نفسه الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 232

وبالإعتماد على لطف اللَّه وعلمه وقدرته المطلقة منتصراً وناجحاً في حياته الفردية والاجتماعية، وحتّى أنّه لو اصيب بالفشل أحياناً فإنّ ذلك لا يفرض عليه اليأس والقنوط.

وعندما يتجلّى مفهوم التوكل بمعناه الصحيح في واقع الإنسان وعلى سلوكياته فإنّ ذلك من شأنه أن يثير الأمل في القلب ويبعث على تقوية الإرادة وتحكيم دعائم المقاومة

والشجاعة.

إنّ مسألة التوكل لها دورٌ مهم في حياة الأنبياء الإلهيين، فعندما نستعرض الآيات القرآنية في هذا الباب نجدها تشير إلى أنّ هؤلاء الأنبياء واجهوا سلسلة الحوادث والمشكلات المدمّرة والعظيمة بسلاح التوكل على اللَّه، وكانت أحد الأسباب المهمة لانتصارهم وتغلّبهم على هذه المشكلات هو كونهم يتمتعون بهذه الفضيلة الأخلاقية.

وبهذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته دروساً من سيرة الأنبياء الإلهيين في مسألة التوكل ودورها المهم في حياتهم العملية وذلك بالترتيب:

(نبدأ من نوح عليه السلام وننتهي إلى نبي الإسلام صلى الله عليه و آله).

1- «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِى وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لَايَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَىَّ وَلَا تُنظِرُونِ» «1».

2- «إِنّى تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبّى وَرَبّكُم» «2».

3- «رَّبَّنَآ إِنّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الُمحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلَوةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مّنَ الَّثمَرَا تِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» «3».

4- «إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَااسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِى إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» «4».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 233

5- «وَقَالَ يَابَنِىَّ لَاتَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَا حِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَا بٍ مُّتَفَرّقَةٍ وَمَآ أُغْنِى عَنكُم مّنَ اللَّهِ مِن شَىْ ءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكّلُونَ» «1».

6- «وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِنْ كُنتُم مُّسْلِمِينَ* فَقَالُواْ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَاتَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» «2».

7- «وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى ا لْقَوْمِ ا لْكَافِرِينَ» «3».

8- «فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» «4».

9-

«وَمَالَنَآ أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَآ ءَاذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكّلُونَ» «5».

10- «... وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ...» «6».

تفسير واستنتاج:

معطيات التوكل في حياة الأنبياء

عندما نطالع القرآن الكريم في اطار حديثه عن سيرة الأنبياء نلاحظ أنّ القرآن يستعرض من صفات الأنبياء الإلهيين صفة (التوكل) بعنوان ابرز ظاهرة وصفة تتجلّى في سيرة الأنبياء على طول التاريخ، حيث نجدهم يعيشون روح الاعتماد على اللَّه والتوكل عليه في مقابل المصاعب والمشاكل الجمّة الّتي يواجهونها في خطّ الرسالة والدعوة إلى اللَّه،

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 234

وأنّهم كانوا لا يرتبطون بأيّ شي ء برابطة الاعتماد والتعلق سوى بالقدرة المطلقة للذات المقدسة.

ونبدأ من النبي نوح عليه السلام:

«الآية الاولى من الآيات محل البحث تستعرض حياة نوح مع قومه المتعصّبين والمعاندين حيث واجههم بكلّ شجاعة ودعاهم بالكلام الهادئ والمتّزن والمنطقي من موقع الاعتماد على اللَّه والتوكل عليه، فتقول الآية الشريفة مخاطبة نبي الإسلام: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِى وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لَايَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَىَّ وَلَا تُنظِرُونِ» «1».

فما هو العامل الّذي دفع بنوح مع قلّة المؤمنين من حوله إلى التصدي لكلّ قوى الانحراف والأعداء المعاندين من قومه بهذه الشهامة والشجاعة والسخرية من قوّتهم وعدم الاهتمام بقدراتهم وبمخططاتهم وبأوثانهم؟

وبالتالي فقد وجّه إليهم ضربة قاصمة على المستوى الروحي والنفسي.

أجل لم يكن هذا العامل سوى الإيمان باللَّه والتوكل عليه، والعجيب أنّ نوح لم يكتف فقط بمواجهتهم من موقع اللامبالاة وعدم الاهتمام بقدراتهم ومعبوداتهم بل دعاهم إلى مبارزته وشجّعهم على مواجهته، أجل فمثل هذا الإظهار للقوّة واستعراض العضلات لا يتسنّى في الحقيقة إلّامن المتوكلين.

ونظراً إلى أنّ سورة

يونس الّتي تستبطن هذه الآية محل البحث، مكيّة، فإنّ اللَّه تعالى أراد من المسلمين في مكّة أن يلتفوا حول نبي الإسلام صلى الله عليه و آله كالفراش الّذي يدور حول المصباح ويُظهروا من أنفسهم القوّة والقدرة أمام الأعداء الشرسين وأن لا يعيشوا الخوف والرعب من هذه القدرات الموهومة مقابل قدرة اللَّه ومشيئته.

وعبارة (شركائكم) يمكن أن تكون إشارة إلى الأصنام الّتي جعلوها شريكة للَّه تعالى،

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 235

وقد ورد هذا التعبير أيضاً في موارد اخرى كثيرة من القرآن الكريم.

أو يكون المراد منه هو أتباعكم وأصدقائكم وأعوانكم، أي اجمعوا جميع قواكم وقدراتكم لتتحركوا بها في التصدي لي ولمواجهتي.

وتأتي «الآية الثانية» للتحدث على لسان النبي هود الّذي عاش بعد عصر نوح عليه السلام وقد هدّده قومه الوثنيّون بالموت، ولكنه انطلق من موقع القوّة والتوكل على اللَّه وقال لهم بصراحة كما تقول الآية: «... قَالَ إِنّى أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُواْ أَنّى بَرِى ءٌ مّمَّا تُشْرِكُونَ* مِن دُونِهِ فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لَاتُنظِرُونِ* انِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ» «1».

واللطيف أنّ هود لم يكتف بعدم الاهتمام والاعتناء بقوى مخالفيه من عبّاد الأوثان وقدراتهم ومؤامراتهم بل انه سعى لتحريكهم وإثارتهم للتصدي له ومواجهته لكي يثبت لهم أنّ قلبه وروحه يرتبطان بقوة أخرى وانه بالتوكل على اللَّه تعالى لا يعيش في نفسه أيّ شعور بالخوف من مؤامراتهم مهما عظمت قوتهم واشتدت قدرتهم، وهذا يدلّ على أنّ التوكل على اللَّه يقود الإنسان إلى حيث المواقف الشجاعة والبطولية والسير في خطّ الاستقامة والحقّ.

فما أعجب أن يقف رجل واحد بمفرده أو مع القليل من أصحابه مقابل هذه الكثرة الكاثرة من قوى الانحراف والأعداء الأشداء مثل هذا الموقف البطولي ويتحرك في مواجهته لهم من موقع الاستهزاء بتهديداتهم

والسخرية بمؤامراتهم!! أجل فإنّ هذه من معطيات الإيمان والتوكل على اللَّه في حياة الإنسان.

وقد ذكر أحد المفسّرين القدماء وهو (الزجاج) أنّ هذه الآية تعد من أهم الآيات الّتي تتحدّث عن الأنبياء العظام والّتي استعرضت فيها قصة نبي من الأنبياء يقف هذا الموقف البطولي في مقابل جماعات كثيرة من مخالفيه ويتحدّث معهم مثل هذا الحديث الشجاع، ومثل هذا التعبير ورد في قصة نوح عليه السلام وكذلك في الحديث عن سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أيضاً.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 236

والجدير بالذكر أنّ القرآن الكريم وبعد هذه الآية يتحدّث عن أنّ هود عليه السلام خاطب قومه المعاندين بخطاب من موقع العقل والاستدلال وقال: «مَا مِنْ دَابَّةٍ الّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا» «1».

ثمّ أضاف: إن قدرة اللَّه تعالى ليست بالقدرة الّتي توحي لصاحبها بالغرور والإنحراف عن خطّ الحقّ بل «انَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ».

وعليه فأنا أعتمد على من قدرته مطلقة وافعاله عين الصواب والعدالة.

وتأتي «الآية الثالثة» لتشير إلى جانب من سيرة النبي إبراهيم عليه السلام وتوكّله على اللَّه في أحلك الظروف وأصعب الحالات الّتي يواجهها الإنسان وتقول: «رَّبَّنَآ إِنّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الُمحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلوا ةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مّنَ الَّثمَرَا تِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» «2».

فلو لم يكن ايمان إبراهيم كالجبل الشاهق، ولم يكن له قلب كالبحر المتلاطم، ولم يكن يعيش التوحيد والتوكل في أعلى مراتبه، فهل يمكنه كإنسان طبيعي أن يسكن زوجته وابنه الحبيب في صحراء قاحلة ومحرقة بلا ماءٍ ولا كلاء ليس لشي ء إلّاامتثالًا لأمر اللَّه تعالى ثمّ يعود من هناك إلى وطنه الأصلي؟

هذه الحادثة العجيبة تذكرنا بحادثة اخرى في سيرة إبراهيم عليه السلام

العظيم، وهي عندما وضعه مخالفوه وأعداؤه المعاندون في قفص الإتهام بسبب تحطيمه أصنامهم، فكان إبراهيم على وشك أن يُقتل ولكنه مع ذلك لم يترك السخرية من أصنامهم وعقائدهم الزائفة وكان ينطلق في حواره معهم من موقع المنطق والدلائل القوية في عملية إبطال منطقهم الخرافي وإثبات زيف مدّعياتهم الواهية.

«الآية الرابعة» تشير إلى قصة شعيب عليه السلام الّذي جاء بعد فترة من النبي هود عليه السلام وقُبيل الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 237

موسى عليه السلام، حيث وقف مقابل المشركين من قومه وتصدّى لعقائدهم وتهديداتهم ومؤامراتهم من موقع الاستهزاء والسخرية، وكان يقول لهم في حكايته عن دعوته ورسالته السماوية: «... إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَااسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِى إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» «1».

أجل فأنا لا أخاف من شي ء لاعتمادي على إيماني باللَّه والتوكل على ذاته المقدسة وسأستمر في خطّ الرسالة والدعوة إلى اللَّه والإصلاح ما أمكنني ذلك وبالاتكال على اللَّه.

والجدير بالذكر أنّ شعيب ولغرض تنفيذ عملية الإصلاحات الواسعة الّتي كان يتحرّك باتجهاهها في مجتمعه الفاسد كان يعتمد على ثلاث دعائم:

الاولى: تهيئة المقدّمات للعمل من قبل اللَّه تعالى حيث تشير إلى ذلك كلمة «توفيقي»، ثمّ بالإنطلاق من عزم راسخ وارادة قوية بالشروع بالعمل والإصلاح، وذلك بقوله «عليه توكلت»، ثمّ أن تكون للإنسان المصلح دوافع سليمة وبنّاءة للقيام بعملية الإصلاح، وهو ما أشار إليه بقوله (إليه انيب).

وتتحرّك «الآية الخامسة» لتستعرض لنا كلام يعقوب لأولاده، ويعقوب هو الجدّ الأعلى لبني إسرائيل والّذي كان يعيش في مضيقة شديدة في ذلك الزمان، فمن جهة فقد ابنه العزيز يوسف، ومن جهة اخرى كان يعيش القحط الشديد في كنعان الّذي أصاب الناس في تلك المناطق، فكانوا يواجهون التحديات والظروف الصعبة بسبب ذلك، وبالتالي وجد

نفسه مجبراً على أن يودع ابنه الآخر (بنيامين) بيد ابنائه الآخرين الّذين كانوا يعيشون الجفاف الروحي والعاطفي، وذلك لغرض تحصيل القوت والطعام من أرض مصر ويحصلوا على المساعدة من عزيز مصر، وهنا أوصى يعقوب ابناءه المتجهون إلى مصر بقوله: «وَقَالَ يَابَنِىَّ لَاتَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَا حِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَا بٍ مُّتَفَرّقَةٍ ...» «2».

ثمّ أضاف: انني بهذه التوصية لا أستطيع أن أصُدّ عنكم البلاء أو أمنع عنكم ما قدّر اللَّه الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 238

لكم، «... وَمَآ أُغْنِى عَنكُم مّنَ اللَّهِ مِن شَىْ ءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكّلُونَ» «1».

وعلى هذا الأساس فإنّ يعقوب أوصى أولاده بوصايا خاصة لمقابلة الحوادث المتوقعة، ولكنه أكد عليهم أنّه بهذه التوصية لا يستطيع أن يقف مقابل الحوادث أو يضع تدبيراً حاسماً لجميع المشكلات والمصاعب الّتي سيواجهونها في سفرهم هذا، بل انّ عليه أن يضع ما يمكنه من الحلول والتوصيات، وأمّا الباقي فيجب أن يتوكلوا على اللَّه تعالى.

وبهذا فإنّ يعقوب في الحقيقة قد أوصاهم بالتوكل على اللَّه، وقد ذكر الدليل والسبب في تأكيده على هذا المعنى، وهو انّ جميع الامور بيد اللَّه تعالى: «إنِ الحُكْمُ الّا للَّه».

إذن فينبغي على الإنسان أن يعيش التوكل والاعتماد على هذه القدرة المطلقة والّتي لا توجد أية قدرة اخرى في مقابلها في عالم الوجود.

ومن الواضح أنّ المراد بكلمة (الحكم) هنا هو (الحكم التكويني) للَّه تعالى في عالم الخلقة والّتي تعود جميع الأسباب لديه وليست ناظرة إلى الحكم التشريعي. (فتأمل).

وتتعرض «الآية السادسة» إلى ما جرى بين موسى عليه السلام وقومه بني إسرائيل، وذلك عندما أظهر موسى دعوته الإلهية وأبرز معجزاته العظيمة ولكن مع ذلك لم يؤمن به جميع بني إسرائيل بل آمن به واتبعه

جماعة منهم، في حين انّ بني إسرائيل كانوا مستضعفين بأجمعهم من قبل الفراعنة وكانوا يعيشون الخوف وشدّة العذاب من قبل فرعون وقومه، فعندما نرى أنّ زوجة فرعون وبسبب اعلانها الإيمان بموسى عليه السلام قد وضعت تحت طائلة العذاب الشديد من قبل زوجها فرعون، فمن الواضح ما كان تعامل فرعون مع سائر بني إسرائيل، ولهذا السبب فإنّ موسى بن عمران ولغرض ايجاد حالة من الطمأنينة والهدوء النفسي في قومه وإزالة عنصر الخوف والرعب المسلّط عليهم أمرهم بالتوكل على اللَّه، «وَقَالَ مُوسَى الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 239

يَاقَوْمِ إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِنْ كُنتُم مُّسْلِمِينَ» «1»

وهذا يعني انكم لا يمكنكم التصدي لمثل هذا الحاكم الجائر ومواجهته من موقع القوّة والخلاص من شرّه إلّابالتوكل على اللَّه تعالى.

ومن البديهي أنّ موسى عليه السلام نفسه كان في مرتبة متقدمة من هذا الأمر من حيث تجسيده لمعنى التوكل في ممارساته العملية، ولو لم يكن يتمتع بمقام التوكل فكيف يستطيع وهو راعٍ للأغنام بدون أن يتمتع بأية قدرة ظاهرية مواجهة أعتى قوّة وحكومة في ذلك الزمان؟

وهكذا لبّى المؤمنون من بني إسرائيل نداء موسى عليه السلام «فَقَالُواْ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا ...» «2».

ثمّ توجّهوا إلى اللَّه تعالى وقالوا: «... رَبَّنَا لَاتَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» «3».

والمقصود من (فتنة) في الآية الأخيرة هو ما قد يتعرضون له من التعذيب والتنكيل على يد أزلام فرعون، وقد وردت هذه الكلمة في سورة (البروج) في مورد أصحاب الأخدود، وكذلك في الآية 83 من هذه السورة مورد البحث والّتي أشرنا إليها سابقاً.

ويُحتمل أنّ المراد من (الفتنة) في كلا الموردين هو عملية الإنحراف عن خطّ التقوى والطاعة والإيمان، لأن الفراعنة لو تسلّطوا على المؤمنين لرأوا ذلك دليلًا على حقانيّتهم

ولاستمروا في طريق الإنحراف بأقدام ثابتة وعزم راسخ أكثر من السابق.

وتستعرض «الآية السابعة» في إطار الحديث عن الأزمنة الّتي تلت عصر موسى عليه السلام حيث كان بنو إسرائيل يعيشون العناء والظلم على يد سلطان جبّار يُسمّى (جالوت)، فكان أن اضطروا إلى اللجوء لنبي لهم يُدعى (إشموئيل) وطلبوا منه أنّ يُعيّن لهم قائداً يقود جيوشهم نحو مواجهة جالوت والتخلّص منه واستعادت أراضيهم وبيوتهم منه، فعيّن إشموئيل الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 240

طالوت ملكاً وقائداً عليهم والّذي كان شاباً قوياً وعارفاً بالامور ولائقاً لهذا المقام من كلّ جهة، ولكن بني إسرائيل رفضوا الإذعان لهذا التعيين، ثمّ قبلوا به أخيراً بعد أنّ بيّن لهم نبيّهم الخصوصيات والمميزات الفريدة في طالوت.

أمّا طالوت فقد اختبر جيشه بعدّة اختبارات ليهيئهم أكثر من الناحية النفسية والروحية لجهاد العدو.

والآية مورد البحث تتحدّث عن الفترة اللاحقة لذلك حيث تستعرض منظر الواقعة بين طالوت وجيشه من جهة، وجالوت وجيشه العظيم من جهة اخرى، وتقول: «وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى ا لْقَوْمِ ا لْكَافِرِينَ» «1».

فصحيح أنّ جيش طالوت كان يعاني القلّة في أفراده بالنسبة لجيش جالوت الجرار وما يتمتعون به من سلاح وامكانات حربية واسعة، ولكن الشي ء الّذي أخلّ بالموازنة وأربَكَ المعادلة لصالح المظلومين من بني إسرائيل وبالتالي كتب لهم النصر والغلبة على عدوهم القوي هو الإيمان باللَّه والتوكل عليه ومواجهة العدو من موقع الصبر والاستقامة في طريق نصرة الحقّ.

ولهذا السبب فإنّ الآية الّتي تليها تُصرح بهذه النتيجة الباهرة وتقول: «فَهَزَمُوهُمْ بِاذْنِ اللَّهِ».

وبديهي أنّ حالة الصبر والاستقامة هي السبب في ثبات القدم ورسوخ المواقع، وثبات القدم سببٌ لتحقيق النصر، ولهذا ورد ذكر هذه الامور الثلاثة بالترتيب في دعائهم

المذكور في الآية الشريفة، ومعلوم أنّ روح هذه الامور الثلاثة تكمن في الإيمان والتوكل على اللَّه تعالى.

وتأتي «الآية الثامنة» لتتحدّث عن نبي الإسلام ومقام توكله على اللَّه تعالى، فعندما كان يواجه المشكلات والضغوط الصعبة في حركته التبليغية علّمه اللَّه تعالى كيف يتغلب على الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 241

هذه المشكلات الكبيرة وقال: «فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ» «1».

وهذه الآية توضّح جيداً أنّ الإنسان مهما كان وحيداً فريداً مقابل تحدّيات الظروف الصعبة فإنه إذا كان يعيش التوكل على اللَّه فلا يشعر بصعوبة هذه المشاكل، لأن اللَّه تعالى هو رب العرش العظيم وذو القدرة اللامتناهية الّتي لا تعتبر القوى الاخرى شيئاً بالنسبة لها ولا تأثير لها في مقابل قدرة اللَّه ومشيئته، فمن كان العرش والعالم الأعلى في قبضته فكيف يسمح لعباده المتوكلين عليه أن يخوضوا لوحدهم أمواج المشكلات أو يتركهم لوحدهم أمام أعدائهم الشرسين؟

وممّا يجدر ذكره أنّ البعض يرون أنّ هذه الآية والّتي هي آخر آية من سورة التوبة والآية الّتي قبلها هي من آخر الآيات الّتي نزلت على نبي الإسلام، واللطيف أنّ الآيات الشريفة الّتي نزلت في أوّل البعثة تحوي هذا المضمون أيضاً وتدلّ على أنّ رأس المال الأصلي والدعامة الحقيقية لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله في ذلك الزمان هي التوكل على اللَّه، فنقرأ في الآية 38 من سورة الزمر الّتي نزلت في تلك الأزمنة من بداية البعثة قوله: «... قُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ ا لْمُتَوَكّلُونَ»

وعليه فإنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله كان يعيش التوكل في بداية البعثة وفي نهايتها وفي جميع الأحوال، وهذا الأمر هو السبب الأوّل في حركة النبي الأكرم

في خطّ الاستقامة والثبات والنصر.

«الآية التاسعة» تتعرض للحديث عن جميع الأنبياء السابقين من زمان نوح عليه السلام إلى الأنبياء الّذين جاءوا بعده وتقول عندما واجه هؤلاء الأنبياء المخالفة الشديدة لأقوامهم ورأوا أنفسهم لوحدهم وقالوا: «وَمَالَنَآ أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 242

مَآءَاذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكّلُونَ» «1».

ونستوحي من هذه الآية أنّ التمسّك بالتوكل على اللَّه مقابل المشكلات والمصاعب الشديدة الّتي تفرضها الظروف الصعبة كان عمل جميع الأنبياء على طول التاريخ.

وفي الواقع أنّهم كانوا يقفون أمام طوائف الأعداء والمشاكل الكبيرة بالاستمداد من عنصر التوكل وينتصرون في نهاية المطاف، ومن هنا يتبيّن دور التوكل في حياة البشر وخاصّة على مستوى القادة والمصلحين من الناس.

وفي الحقيقة إنما يمنح الأنبياء القدرة والقوّة رغم عدم وجود العُدة والعدد في مقابل قدرة الحكومات الكبيرة وقوى الإنحراف المختلفة ولا يشعرون مع ذلك بالتراجع والضعف والخوف هو حالة التوكل على اللَّه والّتي تجعل «ما سوى اللَّه» في نظرهم صغيراً وتافهاً.

والملفت للنظر أنّ الآية الواردة قبل هذه الآية (الآية 11 من سورة إبراهيم) تقول:

«وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ».

وفي هذه الآية الشريفة محل البحث نقرأ «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ».

ومن إدغام هاتين الآيتين يستفاد أنّ المؤمن الواقعي هو المتوكل على اللَّه، وكذلك يستفاد من هذه الآية أنّ التوكل وليد المعرفة والهداية الإلهية كما أنّ الصبر والاستقامة في مقابل اعتداءات الأعداء وتحرّشاتهم وليد التوكل (فتأمل).

وتتعرض «الآية العاشرة» إلى ذكر نتيجة واضحة للتوكل على اللَّه بحيث تعمل على حث الجميع لطلب هذه الحالة في واقعهم، وتَعِدهم بالنجاة والنصر أيضاً وتقول: «وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلّ شَىْ ءٍ قَدْرًا» «2»

وفي الواقع فإنّ اللَّه تعالى

أوعد جميع المتوكلين عليه بحل مشكلاتهم بشكل حتمي، ثمّ الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 243

استعرضت الآية الشريفة الدليل على ذلك وقالت: «إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ».

وبديهي فإنّ مثل هذه القدرة المطلقة بإمكانها الوفاء بجميع الوعود وحلّ جميع المشكلات مهما كانت ثقيلة وصعبة، فكلّها تحت إرادته ومشيئته.

وجملة قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلّ شَىْ ءٍ قَدْرًا يمكن أن تكون جواباً على سؤال مقدّر، وهو لماذا نعيش أحياناً غاية التوكل على اللَّه تعالى ولكن الحلّ والنصرة قد يتأخر؟

القرآن الكريم يجيب على هذا السؤال بأنكم لا تعلمون مصالح الامور، فكلّ شي ء يكون بحساب ويتطلب زمان وفرصة مناسبة، وكلّ حالة تكون مطلوبة في ظرفها الخاصّ، ولهذا وبمقتضى أنّ «الْامُورُ مَرْهُونَةٌ بِاوْقَاتِهَا» فأحياناً تقتضي المصلحة تأخير النتيجة، وعليه فإنّ العجلة والتسرع في مثل هذه الامور غير صحيح.

ويشبه هذا المعنى ما ورد في الآية (160) من سورة آل عمران حيث نجد أنّ القرآن الكريم يقرر بأن النصر والهزيمة كليهما من اللَّه تعالى وأنّ طريق الوصول إلى النصر يمر من خلال التوكل على اللَّه فتقول الآية: «إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِى يَنصُرُكُم مّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ا لْمُؤْمِنُونَ».

النتيجة النهائية:

ونستوحي من الآيات المذكورة آنفاً والّتي استعرضت سيرة أقدم الأنبياء الإلهيين إلى أن وصلت إلى نبي الإسلام أنّ مسألة التوكل في حياة البشر وجهاد الأنبياء وانتصارهم على المشكلات والتحديات الصعبة الّتي يفرضها الواقع بمثابة الأساس لكلّ هذه التحركات الإيجابية والمثمرة في سلوك الإنسان على المستوى المادي والمعنوي، وتدلّ على أنّ هذه الفضيلة الأخلاقية بإمكانها أن ترتفع بالإنسان إلى مستويات عالية في سلّم الكمال المعنوي، والنقطة المقابلة لها، أي عدم الاعتماد والتوكّل على اللَّه تعالى يتسبب في السقوط الحضاري والمعنوي للفرد والمجتمع.

التوكل في الأحاديث الإسلامية:

اشارة

وتولي الروايات الإسلامية أهمية كبيرة إلى هذه الفضيلة إلى درجة اننا قلما نجد من الآثار الإيجابية والبركات على صفة من الصفات الأخلاقية الفاضلة مثلما ورد في حقّ هذه الفضيلة، وما سنذكره من الروايات الشريفة عبارة عن نماذج مقتطفة من كثير ممّا ورد في هذا الباب ممّا لا يسمح لنا المجال لاستيعابها جميعاً.

1- ما ورد في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «مَنْ سَرَّهُ انْ يَكُونَ اقْوَى النَّاسِ فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ» «1».

2- ونقرأ في حديث آخر عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «فِي التَّوَكُّلِ حَقِيقَةُ الْايقَانِ» «2».

3- وفي حديث آخر عميق المعنى ما ورد في قصة إبراهيم عليه السلام في تفسير علي بن إبراهيم حيث تقول الرواية: أنّه لما وضعوا إبراهيم في المنجنيق، جاءه عمه آذر وصفعه على وجهه بشدة وقال له: ارجع عما أنت عليه، ولم يبق شي ء إلّاطلب إلى ربه، أن ينجي ابراهيم وقالت الأرض يا رب ليس على ظهري أحد يعبدك غيره فيحرق، وقالت الملائكة مثل ذلك وجاء إليه جبرئيل في الهواء، وقد وضع في المنجنيق، فقال يا إبراهيم هل لك إليّ من حاجة؟ فقال إبراهيم

أما إليك فلا، وأما إلى ربّ العالمين فنعم. فدفع إليه خاتماً عليه مكتوب: «لَا الَهَ الَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، الْجَأْتُ ظَهْرِي الَى اللَّهِ، اسْنَدْتُ امْرِي الَى اللَّهِ، وَفَوَّضْتُ امْرِي الَى اللَّهِ» فأوحى اللَّه إلى النار (كوني برداً وسلاماً) فاضطربت اسنان إبراهيم من البرد حتّى قال (سلاماً على إبراهيم) فهبط جبرئيل وجلس معه يحدثه في النار وفي روضة خضراء، ونظر إليه نمرود فقال: «مَنِ اتَّخَذَ الَهاً فَلْيَتَّخِذْ مِثْلَ الَهِ ابْرَاهيمَ» «3».

أجل فإنّ التوكل على اللَّه تعالى قد حوّل النار إلى بستان جميل وجنّة خلابة، هذا التوكل الّذي منح إبراهيم القوّة على ضبط النفس والهدوء والسكينة حتّى انه لم يجد حاجة إلى الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 245

التوسل بجبرئيل واعتبر ذلك ابتعاداً عن اللَّه وخلافاً لمقتضى الإيمان والتوكل وانه لابدّ من تحصيل الماء من العين الصافية نفسها.

4- ويقول الإمام الصادق عليه السلام في تعبير آخر: «انَّ الْغِنَى وَالْعِزَّ يَجُولَانِ فَاذَا ظَفَرَا بِمَوْضِعِ التَّوَكُّلِ اوْطَنَاهُ» «1».

وهذا يعني أنّ القلب الّذي تحوّل إلى مركز للتوكل على اللَّه فإنه يشعر بالغنى وعدم الحاجة لما سوى اللَّه تعالى، وكذلك فإنّ مثل هذا الإنسان يعيش العزّة والقدرة لأنّه يتحرّك من موقع الاعتماد على القدرة المطلقة الّتي تتعالى على جميع القدرات الاخرى ولا تقبل الضعف والتردد والإهتزاز.

5- ونقرأ في حديث آخر بهذا المعنى عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ لَا يُغْلَبُ وَمَنْ اعْتَصَمَ بِاللَّهِ لَايُهْزَمُ» «2».

6- وورد في حديث آخر عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أنّه قال: «مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ ذَلَّتْ لَهُ الصِّعَابُ وَتَسَهَّلَتْ عَلَيْهِ الْاسْبَابُ» «3».

وكيف لايكون كذلك في حين أنّ (مسبّب الأسباب) هو اللَّه تعالى وكلّ شي ء خاضع وخاشع له.

7- وفي

حديث آخر عن هذا الإمام انه أشار في كلامه إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ التوكل ليس فقط يُعدّ من العوامل الخفيّة في باطن الكون بل من العوامل المؤثرة في نفس الإنسان وباطنه أيضاً حيث يمنحه القوّة الّتي تنجيه من الوساوس والشبهات فقال: «مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ اضَائَتْ لَهُ الشُّبَهَاتُ» «4».

8- وأيضاً ورد عن هذا الإمام في خطابه للناس جميعاً «يَا ايُّهَا النَّاسُ تَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 246

واتَّقُوا بِهِ فَانَّهُ يَكْفِي مِمَّنْ سِوَاهُ» «1».

9- وعن جابر بن يزيد الجعفي أنّه قال: خدمت سيّد الأنام أبا جعفر محمّد بن علي عليه السلام ثمانية عشرة سنة فلما أردت الخروج ودعته فقلت له: افدني، فقال: بعد ثمانية عشر سنة يا جابر؟ قلت: «نَعَمْ انَّكُمْ بَحْرٌ لَايُنْزَفُ وَلَا يُبْلَغُ قَعْرُهُ».

قال عليه السلام: يا جابر بلغ شيعتي عني السلام وأعلمهم أنّه لا قرابة بيننا وبين اللَّه عزّوجلّ، ولا يتقرب إليه إلّابالطاعة له، يا جابر من أطاع اللَّه وأحبنا فهو ولينا، ومن عصى اللَّه لم ينفعه حبنا. يَا جَابِرُ مَنْ هَذَا الّذي سَألَ اللَّهَ فَلَمْ يُعْطِهِ؟ اوْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكْفِهِ؟ اوْ وَثَقَ بِهِ فَلَمْ يُنْجِهِ؟» «2».

ونجد في هذا الحديث الشريف أنّ التوكل على اللَّه والثقة بوعده وكرمه، ودعاءه والطلب منه بعنوان ثلاث وسائل للنجاة والفلاح.

أجل فإنّ الإنسان إذا توجّه إلى العين الصافية واغترف منها الماء الزلال فلا حاجة له لأن يمدّ يده إلى هذا وذاك.

10- ونختم هذا البحث بحديث آخر عن لقمان الحكيم رغم وجود أحاديث كثيرة تقرر أهمية التوكل وآثاره الإيجابية الكبيرة على حياة الإنسان المادية والمعنوية، وذلك عندما أوصى لقمان ابنه بقوله: «يَا بُنَيَّ! تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ثُمَّ سَلْ فِي النَّاسِ، مَنْ ذَا الّذي تَوَكَّلَ

عَلَى اللَّهِ فَلَمْ يَكْفِهِ؟!» «3».

إن عظمة هذه الفضيلة الإنسانية الكبيرة، يعني التوكل على اللَّه في الأحاديث الإسلامية والنصوص الدينية الشريفة إلى درجة من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى توضيح أكثر من الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 247

هذا، وبخلاف ما يقابلها من الحالة الذميمة الّتي تربط الإنسان بالقوى الاخرى الزائفة وتهبط به من أوج العزة والافتخار والاستقلال في أبعاد شخصيّته الإنسانية إلى حيث الضعف والذلّة والمهانة وبالتالي عدم القدرة على التغلب على التحديات الّتي يفرضها الواقع وعدم حلّ المشاكل الّتي تواجه الإنسان في حركة الحياة.

وبعد بيان أهميّة التوكل في الآيات القرآنية والروايات الإسلامية نصل إلى مسألة تحليل هذه الفضيلة في أبعادها المختلفة وتوضيح بعض الزوايا المعتمة منها:

1- حقيقة التوكل

رأينا في ما تقدّم أنّ (التوكل) من مادّة (وكالة)، بمعنى ايداع الامور إلى اللَّه تعالى والاعتماد على لطفه ورحمته، وهذا لا يعني أن يعيش الإنسان حالة التكاسل وعدم التحرّك في نشاطات الحياة بل عليه أن يبذل ما امكنه من السعي والجهد في سلوك طريق الحياة بجدّية ولكنه في نفس الوقت يعيش حالة التوكل على اللَّه بالنسبة إلى ما لا يجد في نفسه القدرة على تذليل الصعاب ويستمد من ألطافه الجلية والخفية في ما يمنحه القدرة على الإستمرار في هذا الطريق.

ويقول أحد علماء الأخلاق المعروفين في تفسير التوكّل: «اعلم أنّ التوكل منزل من منازل الدين ومقام من مقامات الموقنين، بل هو من معاني درجات المقربين، وهو في نفسه غامض من حيث العلم وشاق، وقال عليه السلام: لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده، بل انظروا إلى خلقه وعمله.

ووجه غموضه من حيث العلم أنّ ملاحظة الأسباب والاعتماد عليها شرك في التوحيد، والتباعد عنها بالكلية طعن في السنّة وقدح في الشرع، والاعتماد

على الأسباب انغماس في غمرة الجهل.

والتحقيق فيه أنّ التوكل المأمور به في الشرع هو اعتماد القلب على اللَّه في الامور كلّها وانقطاعه عمّا سواه، ولا ينافيه تحصيل الأسباب إذا لم يكن يسكن إليها، وكان سكونه إلى اللَّه تعالى دونها مجوزاً أن يؤتيه اللَّه مطلوبه من حيث لا يحتسب دون هذه الأسباب الّتي الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 248

حصلها، وأن يقطع اللَّه هذه الأسباب عن مسبباتها».

ثمّ يضيف قائلًا: «وليس معنى التوكل- كما يظنه الحمقى أنّه ترك الكسب بالبدن وترك التدبير بالقلب، والسقوط على الأرض كالخرقة الملقاة واللحم على الوضم، فإنّ ذلك جهل محض، وهو حرام في الشرع، فإنّ الإنسان مكلف بطلب الرزق بالأسباب الّتي هداه اللَّه إليها من زراعة أو تجارة أو صناعة أو غير ذلك ممّا أحلّه اللَّه» «1».

ونقرأ في (المحجّة البيضاء) في بحث حقيقة التوكّل قوله: «إعلم أنّ التوكّل من أبواب الإيمان وجميع أبواب الايمان لا تنتظم إلّابعلم وحال وعمل والتوكل كذلك ينتظم من علم هو الأصل، ومن عمل هو الثمرة، وحال هو المراد باسم التوكّل».

ثمّ يشرع بذكر بعض التفاصيل عن عنصر العلم الّذي يمثل الأساس للتوكل، وبعد بيان مطول يصل إلى ذكر حقيقة التوكل الّتي هي عبارة عن الأساس الّذي يبتني التوكل عليه، وحاصله أن ينكشف لك أن لا فاعل إلّااللَّه، وأن كلّ موجود من خلق ورزق وعطاء ومنع وحياة وموت وغنى وفقر إلى غير ذلك فالمنفرد بابداعه واختراعه هو اللَّه تعالى لا شريك له، وإذا انكشف لك هذا لم تنظر إلى غيره بل كان منه خوفك وإليه رجاؤك وبه ثقتك وعليه اتكالك فإنه الفاعل على الانفراد دون غيره، وما سواه مسخّرون لا استقلال لهم بتحريك ذرّة في ملكوت السماوات والأرض» «2».

وقد

ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله عندما سُئل: «مَا التَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ عَزَّوجلَّ؟ فَقَال صلى الله عليه و آله: الْعِلْمُ بِانَّ الْمَخْلُوقَ لَايَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ وَلَا يُعْطِي وَلَا يَمْنَعُ وَاسْتِعْمَالُ الْيَأْسِ مِنَ الْخَلْقِ».

ثمّ قال صلى الله عليه و آله: «فَاذَا كَانَ الْعَبْدُ كَذَلِكَ لَمْ يَعْمَلْ لِاحَدٍ سِوَى اللَّهِ وَلَمْ يَرْجُ وَلَمْ يَخَفْ سِوَى اللَّهِ، وَلَمْ يَطْمَعْ فِي احَدٍ سِوَى اللَّهِ، فَهَذَا هُوَ التَّوَكُّلُ» «3».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 249

ونقرأ في حديث آخر أنّه سُئل الإمام عليه السلام عن حقيقة التوكل فقال: «لَا تَخَافُ سِوَاهُ» «1».

ويستفاد من هذه العبارات أنّ روح التوكل هي الانقطاع إلى اللَّه وهجر التعلق بالمخلوقات والأسباب، وما لم يصل الإنسان إلى هذه المرتبة فهو بعيد عن حقيقة التوكل، وكذلك يستفاد من الروايات الرفض الأكيد للمفهوم السلبي من التوكل، أي ترك الاستفادة من الأسباب المادية، فقد ورد في حديث معروف أنّ رجلًا اعرابياً ترك ناقته وجاء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قائلًا: «تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ» فقال له النبي صلى الله عليه و آله: «اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ» «2».

ولهذا السبب ورد في الآيات الكريمة والسنّة النبوية نصوص كثيرة توجب على المؤمنين الأخذ بالأسباب الظاهرية وأنّ ذلك لا يتقاطع مع روح التوكل من قبيل قوله تعالى: «وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ...» «3».

ومن جهة اخرى نرى أنّ القرآن الكريم يبيّن للمسلمين كيفية صلاة الخوف ويقول: «...

وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَاسْلِحَتَهُمْ ...» «4».

وعلى هذا الأساس نرى أنّ القرآن الكريم يوجب على المسلمين الأخذ بأدوات الحذر والحيطة تجاه العدو حتّى في حال الصلاة، فكيف الحال في الموارد الاخرى؟

إن النبي الأكرم صلى الله عليه

و آله نفسه لم يتحرك في هجرته من مكّة إلى المدينة من موقع اللامبالاة بالخطر وبدون تخطيط مسبق والاكتفاء بقول «تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ»، بل تحرك على مستوى اغفال العدو بأن طلب من الإمام علي عليه السلام من جهة أن ينام على فراشه إلى الصباح، ومن جهة اخرى خرج من مكّة ليلًا وعلى أتم السريّة والخفاء، ومن جهة ثالثة لم يتوجه شمالًا صوب المدينة مباشرة، بل توجه نحو الجنوب قليلًا وبقي في غار ثور لثلاثة أيّام مختفياً عن الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 250

الأنظار، وعندما يأست قريش من العثور عليه خرج من الغار متوجهاً إلى المدينة مستديراً حول مكّة وكان يسير ليلًا وأحياناً يسلك الطرق غير السالكة حتّى وصل إلى المدينة.

إذن، فروح التوكل الّتي كان يعيشها النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بجميع وجوده واحساساته لم تمنعه من الأخذ بالأسباب الظاهرية.

وأساساً فإنّ مشيئة اللَّه تعالى قائمة على أساس أن يأخذ الناس في حركتهم لتحقيق مقاصدهم بالأسباب والوسائل الموجودة كما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام حيث قال: «ابَى اللَّهَ انْ يَجْرِيَ الأَشْيَاءَ الّا بِاسْبَابٍ فَجَعَلَ لِكُلِّ شَيْ ءٍ سَبَباً» «1».

وعليه فإنّ اهمال عالم الأسباب والمسببات ليس فقط لا يعدّ من التوكل، بل هو في الواقع اهمال للسنن الإلهيّة الموجودة في عالم الخلقة، وهذا ممّا لا ينسجم مع روح التوكل.

ونختم هذا الكلام برواية تتعلق بزمان النبي موسى عليه السلام حيث ورد «أنّ موسى عليه السلام اعتلّ بعلّة فدخل عليه بنو إسرائيل فعرفوا علّته فقالوا له: لو تداويت بكذا لبرأت. فقال: لا أتداوى حتّى يعافيني من غير دواء، فطالت علّته فقالوا له: إن دواء هذه العلّة معروف مجرّب وإنّا نتداوى به فنبرأ. فقال: لا أتداوى،

فدامت علّته فأوحى اللَّه إليه: «وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا ابْرَأْتُكَ حَتَّى تَتَدَاوَى بِمَا ذَكَرُوهُ لَكَ»، فقال لهم: داووني بما ذكرتم، فداووه فبرأ، فأوجس في نفسه من ذلك، فأوحى اللَّه إليه: «ارَدْتَ انْ تَبْطُلَ حِكْمَتِي بَتَوَكُّلِكَ عَلَيَّ، فَمَنْ اوْدَعَ الْعَقَاقِيرَ مَنَافِعَ الْاشْيَاءَ غَيْرِي» «2».

هذا الحديث الشريف يوضّح لنا حقيقة التوكل.

وعندما نرى أنّ إبراهيم الخليل عليه السلام لا يمدّ يده إلى الملائكة في اللحظات الحرجة ولا يطلب إليهم انقاذه من نار نمرود فإنّ ذلك لا يتعارض مع مسألة الاستفادة من الأسباب الطبيعية الّتي قرأناها في سيرة النبي موسى عليه السلام، لأن التوسل بالأسباب المادية والطبيعية لم تكن واردة في قصّة إبراهيم عليه السلام بل تحكي عن نوع من الاستمداد وطلب النجاة من الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 251

الأسباب الغيبية وغير الطبيعية، ولهذا لم يقبل إبراهيم عليه السلام في هذه المرحلة بالذات أن يمد يده إلى ما سوى اللَّه تعالى (فتدبّر).

2- معطيات التوكل وآثاره الإيجابية

بما أنّ المتوكل على اللَّه في الحقيقة يفوّض أمره وحاله وعمله إلى اللَّه تعالى، ويعلّق أمله بالقدرة اللامتناهية والذات المقدسة العالمة بكلّ شي ء، ويعتمد على اللَّه الّذي بإمكانه أن يحلّ له جميع المشكلات ويسهل عليه ما عسر من الصعوبات، فإنّ أوّل أثر إيجابي يخلقه التوكل في واقع الإنسان هو أن يثير في نفسه مسألة الاعتماد على الذات ومقاومة المشكلات والوقوف على قدميه أمام سيل الحوادث الكبيرة في حركة الحياة.

ولو أنّ شخصاً وجد نفسه وحيداً في ميدان القتال مع الأعداء فإنه مهما كان قوياً ومستعداً للقتال فإنه سرعان ما يجد الضعف يدبّ في نفسه ويفقد اعتماده على نفسه، ولكن إذا أحسّ بأنّ جيشاً قوياً يدعمه من الخلف فإنه سيشعر بالقدرة الفائقة والشجاعة رغم عدم امتلاكه لأدوات القوّة ورغم ضعفه

الذاتي.

وقد وردت الإشارة إلى هذا المعنى في الأحاديث الإسلامية أيضاً، ففي الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «كَيْفَ اخَافُ وَانْتَ امَلِي وَكَيْفَ اضَامُ وَانْتَ مُتَّكَلِي» «1».

وفي حديث آخر عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ لَايُغْلَبُ، وَمَنْ اعْتَصَمَ بِاللَّهِ لَايُهْزَمُ» «2».

أجل فكلّ إنسان يتوكل على اللَّه فإنه يعيش الغنى وعدم الحاجة ويشعر بالعزّة والكرامة كما ورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: «انَّ الْغِنَى وَالْعِزَّ يَجُولَانِ فَاذَا ظَفَرَا

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 252

بِمَوْضِعِ التَّوَكُّلِ اوْطَنَا» «1».

ومضافاً إلى ذلك فإنّ التوكل يُبعد عن الإنسان كثير من الصفات الرذيلة من قبيل الحرص والحسد وحبّ الدنيا والبخل وغير ذلك، لأنّه عندما يفوض الإنسان أمره إلى اللَّه تعالى ويعلم انه القادر على كلّ شي ء والعالم بحاجته وفقره فإنه سوف لا يبقى أثر لهذه الحالات السلبية في واقعه ونفسه.

فعندما يقرأ المؤمن هذه الآية الشريفة: «وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ» «2» يجد نفسه غارقاً في أسر التوفيق وغير محتاج إلى أيّ إنسان، كما ورد في بعض الأدعية قوله: «اللَّهُمَّ اغْنِنِي بِالْيَقِينِ وَاكْفِنِي بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْكَ» «3».

ومن جهة رابعة فإنّ التوكل يزرع في قلب الإنسان نور الأمل الّذي بإمكانه أن يمنح الإنسان القدرة والقوّة في حركته ويذهب عنه عنصر التعب المسلط عليه، ويشعر بالاستقرار والهدوء النفسي في كلّ الأحوال، ولذلك يقول أميرالمؤمنين عليه السلام في كلام مختصر وعميق المعنى «لَيْسَ لِمُتَوَكِّلٍ عَنَاءُ» «4».

ومن جهة خامسة فإنّ التوكل على اللَّه يزيد من ذكاء الإنسان وقدرة الذهن على التفكير الخلّاب، ويفتح آفاقه المعرفية، فيرى الأشياء من موقع الوضوح في الرؤية، لأنّه ومع غضّ النظر عن البركات المعنوية لهذه الفضيلة الأخلاقية فإنّ التوكل يتسبب في أنّ

الإنسان لا يجد في نفسه قلقاً واضطراباً مقابل المشكلات الّتي تفرزها الظروف الصعبة في حركة الواقع، وبذلك تحفظ له قدرته على التصميم الجدّي والهادف الّذي ينطلق من موقع التفكير المتّزن بحيث يجد طريق الحلّ أمامه بسهولة.

ومن ذلك نقرأ في الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين عليه السلام قوله: «مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 253

اضَائَتْ لَهُ الشُّبُهَاتِ وَكَفَى الْمَؤُونَاتِ وَامِنَ التَّبِعَاتِ» «1».

3- أسباب التوكل

إن التوكل كسائر الفضائل الأخلاقية له أسباب ودوافع عديدة، ويمكن القول أنّ أهمّ الأسباب والعوامل الّتي تمثل البنى التحتية لصرح التوكل هو الإيمان واليقين بالذات المقدسة والمعرفة بصفات الجمال والجلال الإلهية.

عندما يقف الإنسان على قدرة اللَّه وعلمه الواسع من موقع الوضوح والإدراك التام وأنّ جميع المخلوقات في عالم الوجود ما هي إلّاأدوات مسخرة للقدرة الإلهية المطلقة، ويدرك جيداً مفهوم «لَا مُؤَثِّرَ فِي الْوُجُودِ الَّا اللَّه»، فإنه يرى نفسه وقلبه معلّقاً بهذا الواقع الغيبي، ويرى عالم الوجود ميدان واسع للألطاف الإلهية العظيمة، ومن هذا المنطلق يجد في نفسه حالة التوكل على اللَّه تعالى ويفوض أمره إليه ويطرق بابه في الأزمات والشدائد والمشكلات الّتي تواجهه في واقع الحياة، ويطلب منه أن يعينه في حلّها والتغلب عليها (مع اقتران ذلك بسعيه وعمله).

وبعبارة اخرى إن التوكل هو ثمرة لشجرة (التوحيد الأفعالي) هذه الشجرة المباركة الّتي أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي اكلها كلّ حين بإذن ربها، ومن أهم ما يتناول الإنسان منها هو ثمرة التوكل.

وقد أشارت الآيات القرآنية والأحاديث الإسلامية كراراً إلى هذه العبارة الشريفة، ومن ذلك انها وردت في سبع آيات من القرآن الكريم وهي: «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ».

أي إن الإنسان الّذي يعيش الإيمان يجب عليه أن يتوكل على اللَّه فقط، وهذه العبارة تبين جيداً

الرابطة الوثيقة بين الإيمان والتوكل.

ويقول الإمام أميرالمؤمنين علي عليه السلام «التَّوَكُّلُ مِنْ قُوَّةِ الْيَقِينِ» «2».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 254

ويقول في حديث آخر: «اقْوَى النَّاسُ ايمَاناً اكْثَرُهُمْ تَوَكُّلًا عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ» «1».

وقد ورد في الحديث الشريف عن الأصبغ ابن نباتة عن أميرالمؤمنين علي عليه السلام في ما يقرأه الإنسان في سجوده يقول: «وَاتَوَكَّلُ عَلَيْكَ تَوَكُّلَ مَنْ يَعْلَمُ انَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٍ» «2».

وممّا يجدر ذكره أنّ الأشخاص الّذين يعيشون الخوف والجبن ليسوا من أهل التوكل، لأن التوكل على اللَّه يُزيل من روح الإنسان ونفسه ظلمة الخوف والجبن ويمنحه الشجاعة والشهامة في التصدي لمعالجة الظروف الصعبة.

عندما نتأمل جيداً في هذه المسألة يتضح لنا دور اليقين والإيمان بصورة أكبر في منح الإنسان عنصر التوكل وتطهير نفسه من شوائب الخوف والجبن، لأنّه كلّما كان إيمان الفرد أقوى وأشد ابتعد عنه الخوف والجبن مسافات أكبر.

ولا ينبغي إهمال هذه الملاحظة، وهي أنّ مطالعة معطيات التوكل والتدبر في آثاره الإيجابية وقراءة حالات المتوكلين على اللَّه وتاريخ حياتهم بإمكانه أن يورث الإنسان روح التوكل على اللَّه ويقوي في وجوده وقلبه هذه الشجرة الطيبة المثمرة.

4- درجات التوكل

رأينا ممّا تقدّم من البحوث السابقة السبب الّذي يدفع بعض الناس لأن يعيشوا التوكل في مرتبته الشديدة والبعض الآخر في مرتبة أدنى حيث تبين لنا أنّ التوكل هو وليد الإيمان، وكلّما اشتد إيمان الفرد باللَّه تعالى وصفاته واسمائه الحسنى فإنّ ذلك من شأنه أن يزيد من نسبة توكله بهذا المقدار، فالتوكل الّذي كان يعيشه إبراهيم كان وليد إيمانه الراسخ، وكذلك التوكل العجيب لأميرالمؤمنين عليه السلام الّذي تجلّى في (ليلة المبيت) (الليلة الّتي نام فيها أميرالمؤمنين عليه السلام في فراش النبي صلى الله عليه و آله وهاجر فيها

النبي إلى المدينة). كذلك وليد إيمانه القوي والراسخ، وهذ الحالات من التوكل نجدها لدى المؤمنين في مراتب متوسطة أو أقل الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 255

من ذلك بنسبة إيمانهم باللَّه تعالى.

وقد سأل شخص الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام عن مفهوم هذه الآية: «وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ»

فقال له الإمام عليه السلام: «لِلتّوَكُّلِ دَرَجَاتٌ» ثمّ أضاف: «مِنْهَا انْ تَثِقَ بِهِ فِي امْرِكَ كُلِّهِ فِي مَا فَعَلَ بِكَ فَمَا فَعَلَ بِكَ كُنْتَ رَاضِياً وَتَعْلَمَ انَّهُ لَمْ يَأْلُكَ خَيْراً وَنَظَراً، وَتَعْلَمَ انَّ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ لَهُ، فَتَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ بِتَفْويِضِ ذَلِكَ الِيْهِ» «1».

وقد ذكر بعض علماء الأخلاق للتوكل ثلاث مراتب:

الاولى: أن يعيش الإنسان الاعتماد والاطمئنان والثقة باللَّه تعالى كما يطمئن الإنسان ويثق بوكيله عندما يجده لائقاً ومخلصاً فيفوض اموره إليه (دون أن يفقد اصالته واستقلاله بهذا الاعتماد والثقة) وهذه هي أضعف مراتب التوكل.

الثانية: أن يكون حاله في اعتماده على اللَّه وثقته بنفسه كحال الطفل بالنسبة لُامّه، فالطفل في بداية الأمر لا يرى شيئاً سوى امّه ولا يعتمد على غيرها إطلاقاً، فما أن يراها حتّى يتعلق بها، وعندما يجد نفسه لوحده فإنه بمجرد أن يصيبه شي ء أو حادثة فإنه يطلب امّه فوراً ويبكي أيضاً في طلبها.

ولاشكّ أنّ هذه المرتبة من التوكل أعلى من السابقة، لأن الإنسان في هذه الحالة يجد نفسه غارقاً في تجليات الحقّ ولا يرى أحداً غيره ولا يطلب من أيّ أحد حلّ مشكلاته إلّا من اللَّه تعالى.

المرتبة الثالثة: وهي بدورها أعلى من المرتبة الثانية في سُلّم الكمال المعنوي، وهي أن يجد الإنسان نفسه عديم الإرادة والاختيار، فكلّما أراد منه اللَّه شيئاً ورضي به كان رضاه بذلك الشي ء وتعلّقت إرادته بذلك الشي ء أيضاً، وكلّما عَلِم

أنّ اللَّه لا يريد ذلك الشي ء فإنه لا يُريده أيضاً.

بعض العلماء يرى أن توكل إبراهيم عليه السلام كان يحكي عن هذه المرتبة الثالثة، عندما

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 256

وضعوه في المنجنيق وأرادوا قذفه في النار المهيبة، ولكنه مع ذلك لم يطلب شيئاً من الملائكة على مستوى انقاذه من الهلكة، وعندما قالت له الملائكة: هل لك حاجة؟ قال: لي حاجة ولكن ليست إليكم، وعندما قيل له: اطلب حاجتك من اللَّه لينقذك من هذه النار المحرقة، فقال: «حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي» «1».

وهذه الدرجة العالية من التوكل يندر وجودها بين الناس، وهي من خواص مقام الصديقين الّذين يعيشون الذوبان والعشق للذات المقدسة والغرق في صفات جماله وجلاله.

5- طرق تحصيل التوكل

لقد ذكر علماء الأخلاق طرقاً للتوصل إلى حالة التوكل وكلّ منها بمثابة عامل مؤثر لاكتساب هذه الفضيلة الأخلاقية الكبيرة، ومن ذلك: التوجه إلى حالة (التوحيد الأفعالي) وأن يعلم الإنسان يقيناً بأن كلّ شي ء في عالم الوجود متصلًا بذاته المقدسة ومرتبط بها وأنّ اللَّه تعالى هو مصدر عالم الوجود والعلّة التامة لوجوده ووجود الكائنات وانه مسبّب الأسباب، فلا مؤثر في الوجود إلّابأمره وكلّ المخلوقات إنما تقتات من صفات مائدة فضله ورحمته وكرمه.

فبعد التأمل والتدبر في هذه الامور يعود ينظر إلى حالاته الذاتية ليرى كيف أنّ اللَّه تعالى اخرجه من صقع العدم والظلمة إلى نور الوجود وألبسه رداء الوجود ومنحه كلّ تلك القوى والمواهب الكثيرة المادية والمعنوية ورعاه عندما كان في رحم امّه في (ظلمات ثلاث) حيث لم تكن تصل إليه يد إنسان، ومع ذلك فإنه كان يتقلب في نعمة اللَّه وفضله ولم يحتج إلى شي ء إلّاوأنعم اللَّه به عليه.

وبعد أن خرج من عالم الرحم إلى فضاء هذه الدنيا فإنّ اللَّه تعالى

وهب له كلّما يحتاجه من شرائط الحياة وما يفتقر إليه في بقائه وسلامته، من لبن الامّ إلى محبتها ورعايتها والسهر

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 257

عليه ودفع الخطر عنه وأمثال ذلك.

لقد وهب له اللَّه تعالى معرفة كيف يرتضع من صدر امّه وهداه إلى معرفة الطريق إلى تفعيل عواطفها وتسيير محبتها وحنانها تجاهه بحيث جعلها تخدمه ليل نهار في حين انها لا تجد في نفسها التعب من ذلك بل تحسّ باللّذة وتشعر بالرضا بهذه الخدمة الشاقة والمتواصلة.

وعندما بلغ به العمر سنّ الرشد تواترت عليه نعم اللَّه ومواهبه المختلفة من السماء والأرض واغرقته في ألطافه وعناياته اللامتناهية.

أجل عندما يتفكر الإنسان بكلّ هذه الامور يتبين له جيداً أنّ كلّ شي ء في عالم الوجود خاضع ومطيع للَّه تعالى، وينبغي عليه أن يفوض جميع اموره إلى الذات المقدسة ويتوكل عليه كما هو مضمون الآية الشريفة: «وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» «1».

إن الإيمان الراسخ بهذه الحقائق بإمكانه أن يوصل الإنسان إلى مرتبة (التوكل) ويصعد به في هذه الصفة الكمالية إلى مراتب اخرى ويجعله في زمرة المتوكلين الحقيقيين.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 258

13 و 14

الشهوة والعفاف

تنويه:

«الشهوة» في اللغة لها مفهوم عام يطلق على جميع اشكال الرغبات النفسانية والميل إلى التمتع واللّذة المادية وأحياناً تطلق كلمة الشهوة على العلاقة الشديدة بأمرٍ من الامور المادية.

إن مفهوم الشهوة مضافاً إلى المفهوم العام يطلق أيضاً على خصوص «الشهوة الجنسية»، وأما في القرآن الكريم فنلاحظ أنّ مفردة «الشهوة» استعملت بالمعنى العام وبالمعنى الخاص، وفي هذا البحث فإنّ مقصودنا من هذه الكلمة هو المعنى الخاص لأن تأثيراتها المخربة والمدمرة أكثر من

سائر أشكال الرغبات الجسدية الاخرى.

«الشهوة» تقع في مقابل «العِفة» والعفة أيضاً لها مفهوم عام ومفهوم خاصّ، فاما المفهوم العام هو ضبط النفس في مقابل الرغبات والميول النفسانية والأفراط في اتباعها، واما المفهوم الخاصّ فهو ضبط النفس في مقابل متطلبات الغريزة الجنسية والتحلل الأخلاقي.

«العفة» تعتبر من الفضائل الأخلاقية المهمة الّتي تساهم في ترشيد وتكامل المجتمعات البشرية بعكس الشهوة الّتي تقع في مقابلها والّتي يوجب اتباعها سقوط الفرد أخلاقياً وانحطاط المجتمع في حركته الحضارية.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 260

إن التحقيقات التاريخية تشير إلى أنّ المجتمعات الّتي كانت تتمتع بمقدار كافٍ من العفة كانت تتمتع بطاقات وقدرات حضارية وإنسانية وتعيش حالة من التقدّم والتكامل على المستوى الفردي والاجتماعي وتعيش الأمن والهدوء والاستقرار في مستويات عالية، ولكن وبعكس ذلك الأشخاص أو المجتمعات الّتي كانت غارقة في مستنقع الشهوات فإنّها فقدت طاقاتها البنّاءة وقواها الحيوية وبالتالي أضحت مستسلمة لتداعيات قوى الإنحراف والسقوط الحضاري.

وطبقاً لنظر الحقوقيين فإنّ «الشهوة الجنسية» تعتبر دعامة رئيسية في التورط في الجريمة والعدوان إلى درجة أنّه قيل: إنّ في كلّ جريمة هناك عنصر «الشهوة الجنسية»، ولعلّ هذا التعبير مبالغٌ فيه، ولكن الحقيقة أنّ طغيان «الغريزة الجنسية» وطلب الشهوة يعتبر منشأً ومصدراً للكثير من الجرائم والانحرافات الفردية والاجتماعية، فقد سفكت بسببها الكثير من الدماء واتلفت الكثير من الأموال والثروات، وتم تسريب الكثير من الأسرار المهمة للحكومات والدول بواسطة النساء الجاسوسات من خلال استخدامهن لعنصر الجمال والجاذبية الجنسية، وبالتالي كانت هذه الغريزة هي السبب في التورط في الفضائح الأخلاقية على مستوى الشخصيات والدول.

ومن خلال الآيات والروايات الشريفة، يمكننا أن نستوحي هذه الحقيقة، وهي أنّ «الشهوة الجنسية» تعتبر إحدى الوسائل والأدوات المهمة للشيطان، ونجد في القرآن الكريم اشارات متعددة لمفهوم

العفة والشهوة في موارد مختلفة، وفيما يلي بعض الآيات الكريمة الّتي تستنطق هذا المفهوم القرآني:

1- «فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَوةَ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَوَا تِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا* إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأوْلَئكَ يَدْخُلُونَ ا لْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا» «1»

2- «وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَا تِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلًا عَظِيًما» «2».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 261

3- «وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّنَ الْعَالَمِينَ* أَئنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُواْ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» «1».

4- «وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِى ءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ* وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِئَاتِ قَالَ ياقَوْمِ هَؤُلَا ءِ بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ* قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَالَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَانُرِيدُ* قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ ءَاوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ* قَالُواْ يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ لَنْ يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مّنَ الَّيْلِ وَلَايَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآأَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ* فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا علِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ مَّنضُودٍ* مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبّكَ وَمَاهِىَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ» «2».

5- «كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ* إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا ءَالَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ» «3».

6- «وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ ا لْفَاحِشَةَ مَاسَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّنَ ا لْعَالَمِينَ* إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ شَهْوَةً مّن دُونِ النّسَآءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ* وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم

مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ* فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ ا لْغَابِرِينَ* وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ا لُمجْرِمِينَ» «4».

تفسير واستنتاج:

آثار اتباع الشهوات في التاريخ البشري

«الآية الاولى بعد أن تذكر أسماء بعض الأنبياء الإلهيين وتستعرض صفاتهم الكريمة وخصالهم الحميدة تقول: «فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَوةَ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَوَا تِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا» «1».

وهنا تستثني الآية المذكورة فوراً بعض الأشخاص الّذين يحملون صفات متميزة وتقول: «إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأوْلَئكَ يَدْخُلُونَ ا لْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا» «2».

والجدير بالذكر أنّ الآية محل البحث تتحدّث عن اتباع «الشهوات» بعد مسألة إضاعة الصلاة وتتبعها حالة الضلال والغي، ويمكن أن نستوحي من هذه العبارة انها تشير من جهة إلى أنّ الصلاة تعد عاملًا مهماً في الحدّ من طغيان الشهوات وبالتالي العمل على تقويم سلوك الإنسان في طريق الحقّ والانفتاح على اللَّه بعيداً عن اشكال الإنحراف الأخلاقي وافرازات الأهواء النفسانية، وكما جاء في الآية 45 من سورة العنكبوت:

«... انّ الصَّلَوةَ تَنْهى عَنِ الفَحْشاءِ وَالمُنْكَرِ» ومن جهة اخرى تشير الآية إلى أنّ عاقبة «اتباع الشهوة» هي الضلال والإنحراف، كما نجد ذلك في الآية 10 من سورة الروم: «ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءوا السُّوأَى أن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ».

أجل أنّ عاقبة هؤلاء هي الضلالة والزيغ وما يستتبع ذلك من النتائج الوخيمة، أي الغضب الإلهي والعقاب الاليم في الآخرة.

ومعلوم أنّ «الشهوات» في الآية محل البحث لها مفهوم واسع ولا تنحصر في «الشهوة الجنسية»، بل تستوعب في مفهومها كلّ أشكال الميول النفسانية والنوازع الدنيوية والأهواء الشيطانية، وطبعاً فإنّ الأشخاص الّذين تابوا من بعد ذلك واستدركوا تورطهم في الذنوب بالعمل الصالح وتحركوا على مستوى تقوية إيمانهم القلبي الّذي تعرض للاهتزاز بسبب الاخلاق فى

القرآن، ج 2، ص: 263

الولوغ في الخطيئة فإنّ عاقبتهم أنّهم سيكونون من أهل الجنّة بعد تطهير قلوبهم من الآثار السلبية لاضاعة الصلاة واتباع الشهوات.

«الآية الثانية» وضمن بيان التقابل بين «الرجوع إلى اللَّه» و «اتباع الشهوات»، والإشارة إلى أنّ هذين المفهومين لا يلتقيان في الإنسان في جهة واحدة بل يسيران به في جهتين مختلفتين تقول: «وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَا تِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلًا عَظِيًما» «1».

أجل فالأشخاص الّذين غرقوا في وحول الخطايا والشهوات يريدون أن يورطوا الآخرين في الخطيئة وممارسة الاثم ليكونوا من أمثالهم ويتلوثوا بالذنوب، في حين أنّ اللَّه تعالى يريد للناس الطهر والنقاء القلبي بتركهم الشهوات وبعودتهم إلى اللَّه، وبالتالي لينالوا المعرفة والصفاء والتقوى والسعادة الدائمة، ويقول الأعاظم من المفسّرين أنّ المراد من «الميل العظيم» هو هتك الحدود الإلهية والتلوث بأنواع الذنوب والخطايا، والبعض منهم يرى أنّ المقصود منها هو نكاح المحارم وأمثال ذلك الّتي ورد النهي عنها في الآية السابقة والّتي هي في الواقع أحد مصاديق المفهوم أعلاه.

والجدير بالذكر أنّ اتباع الشهوات الوارد في الآية الكريمة يمكن أن يكون له مفهوم عام، وكذلك يمكن أن يكون إشارة إلى الشهوة الجنسية بالخصوص، لأن هذه الآية وردت بعد آيات تحدثت عن حرمة نكاح المحارم والنساء المحصنات والجواري والبغايا من الجواري، وعلى أي حال فإنّ هذه الآية تقرر حقيقة مهمة في هذا المجال، وهي أن طريق «اتباع الشهوات» تتقاطع تماماً مع طريق «الانفتاح على اللَّه».

الآيات الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة من الآيات محل البحث تتحدّث عن قصة قوم لوط وتورطهم في إنحراف أخلاقي في دائرة الغريزة الجنسية، فالشهوة هنا امتزجت مع انحرافات جنسية كثيرة على طول التاريخ، وفي كلّ آية من هذه الآيات الكريمة

هناك نكتة

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 264

خاصّة تشير إليها الآية القرآنية حيث نستعرضها ونشير إلى هذا المضمون الكامن فيها:

«الآية الثالثة» تتحدّث عن النبي لوط وتستعرض خطابه لقومه في اطار التوبيخ الشديد حيث تقول: «وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّنَ الْعَالَمِينَ» «1».

«الفاحشة» كلمة تطلق على كلّ عمل قبيح جداً، رغم أنّ المتعارف في المفهوم منها هو «الفحشاء الجنسي»، والآية الكريمة تشير إلى أنّ هذه الفاحشة قد بدأت من قوم لوط وأنّ إتيان المذكر أو ما يعبر عنه باللواط لم يكن قبل ذلك متداولًا في المجتمعات البشرية.

ويستمر لوط في التحدث مع قومه بلسان الذم والتقريع ويقول: «أَئنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ ...» «2».

في هذه الآية نجد انها تشير إلى أحد العلل والأسباب لتحريم «اللواط» ألا وهو ظاهرة انقطاع النسل، لأنّه لو تصورنا سريان هذا السلوك المنحرف إلى جميع أفراد المجتمع فإنّ هناك خطر انقطاع النسل البشري، وسوف تعيش الإنسانية حالة التهديد بالفناء والاندثار.

بعض المفسّرين ذهبوا إلى أنّ جملة «وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ» المذكورة في الآية أعلاه هي إشارة إلى عمل السرقة وقطع الطريق الّذي كان يمارسه قوم لوط، وبعض ذهب انها إشارة إلى التعرض الجنسي للآخرين وللمارة الّذين كانوا يمرون في طريقهم.

«نادي» من مادّة «ندى» بمعنى المجلس العام أو مجلس التفريح والترفيه حيث يتنادى الناس فيه وينادي بعضهم الآخر في مثل هذه المجالس.

وبالرغم من أنّ القرآن الكريم لم يذكر أنّ قوم لوط في مجالسهم الترفيهية هذه ماذا كانوا يرتكبون من منكرات اخرى، ولكن من الواضح أنّ أعمالهم الاخرى كانت متناغمة مع عملهم الشنيع هذا، وقد ورد في الروايات الشريفة أنّهم كانوا يخلعون ملابسهم أمام الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص:

265

الآخرين ويمارسون حالة التعري والتلفظ بالألفاظ الموهنة والركيكة ويتحدّثون بالكلمات القبيحة في ما بينهم ويقومون بأعمال وقحة وممارسات قبيحة يخجل القلم عن ذكرها.

قوم لوط هؤلاء كانوا قد غرقوا في مستنقع الشهوة إلى درجة أنّهم أخذوا يستهزئون بالقيم الأخلاقية والمثل الإنسانية، ولهذا السبب فعندما سمعوا كلام لوط تعجبوا من ذلك وأنكروا عليه هذا التوبيخ والذنب لأفعالهم وقالوا له كما تقول الآية: «... فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُواْ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» «1».

وبهذا فإنّهم استهزؤا بعذاب اللَّه وسخروا من كلام النبي لوط.

وفي «الآية الرابعة» من الآيات محل البحث نجد إشارة إلى جانب آخر من قصة قوم لوط حيث تتحرك الآية لبيان حادثة الضيوف الإلهيين الّذين نزلوا بمهمة انزال العذاب في قوم لوط وجاءوا على شكل شباب ذي وجوهٍ مليحة وجميلة إلى النبي لوط عليه السلام الّذي لم يكن يعرفهم، ولهذا أبدى خوفه وأنزعاجه لهذه الضيافة لما يعلم من سوء نية قومه اتجاه الغلمان والشبان فتقول الآية «وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِى ءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ» «2».

وفي هذه الاثناء تسامع قوم لوط بالخبر فأرادوا السوء بهؤلاء الضيوف الكرام: «وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِئَاتِ ...» «3».

فلمّا رأى لوط ذلك منهم تألم بشدة لهذا الموقف المخزي من قومه تجاه ضيوفه وأراد التخلص منهم بشتى الطرق، ومنها انه عرض على هؤلاء الأشرار وبايثار عجيب بناته ليتم الحجّة عليهم ويكفوا عن ممارساتهم الشنيعة: «قَالَ ياقَوْمِ هَؤُلَا ءِ بَنَاتِى هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 266

فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ» «1».

إن هؤلاء الأشرار أجابوه بمنتهى الوقاحة «قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَالَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ

حَقّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَانُرِيدُ» «2».

أي انك تعلم إننا لا نحب مقاربة النساء وتعلم انحرافنا عن هذا المسلك الطبيعي في إشباع الغريزة.

وعندما رأى لوط هذه الوقاحة من قومه وتملكه اليأس من إصلاحهم أو دفعهم عن ضيوفه نادى من صميم قلبه ووجوده: «قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ ءَاوِى إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ» «3».

أي يا ليتني كنت امتلك القوّة لأُريكم جزاء عملكم الشنيع هذا أو أنّ لي عشيرة واتباع أقوياء يعينونني على دفعكم عن ضيوفي ..

وتتحرك الآيات في هذا السياق لتبين أنّ هؤلاء الضيوف الكرام اخبروا لوطاً بأنّهم رسل اللَّه لإنزال العذاب على قومه وأنّهم مانعوه عن إيذاء قومه وعن أي تحرك عدواني اتجاهه واتجاه ضيوفه، وأخبروه أنّ العذاب نازل على قومه حتماً غداً صباحاً، وسوف لا يفلت أحد منهم من هذا العذاب الإليم والعقاب المخيف حيث ستنقلب مدينتهم رأساً على عقب وتمطر السماء عليهم حجارةً من سجيل، وحين ذاك امروا لوطاً بالخروج مع أهلهِ من هذه القرية باستثناء زوجته الّتي كانت مداهنة مع الأشرار ويتركوا مدينتهم إلى حيث ينجوا بأنفسهم من العذاب الإلهي.

«الآية الخامسة» من الآيات محل البحث وضمن الإشارة إلى إنزال العذاب الإلهي على قوم لوط بسبب أعمالهم الشنيعة تقول: «كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ* إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 267

حَاصِبًا إِلَّا ءَالَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ» «1».

وهكذا تم اهلاك هؤلاء القوم الظالمين وإنقاذ آل لوط من هذا العذاب الإلهي المقيم وطبعاً باستثناء زوجته الخائنة الّتي شملها العذاب مع قوم لوط.

وبالطبع كما ذكر في هذه الآية كان يمثل قسماً من العذاب الإلهي على هؤلاء الأشرار، لأن القرآن الكريم يقول في آية اخرى: «فَلَمَّا جَاءَ امْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا ...» «2».

أي أنّ الزلزلة الّتي أصابتهم

لم تدع لهم بناءاً ولا أرضاً إلّاقلبته رأساً على عقب ثمّ يقول:

«وَامْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِن سِجّيلٍ مَنْضُودٍ» «3».

هذا المطر من الحجارة يمكن أن يكون قسماً من الشهب المتناثرة في الفضاء حيث نزلت هذه الشهب والنيازك بأمر من اللَّه على اطلال هذه المدينة وأجساد أهلها المتناثرة.

وهناك احتمال آخر في معنى هذه الجملة، وهو أنّ كلمة «حاصب» تعني العاصفة من الرمل حيث تنقل الرياح العاتية في الصحراء كثبان الرمل من منطقة إلى اخرى فتظهر في منطقة من الصحراء تلال من الرمل لم تكن موجودة قبل ذلك، بل تتكون فجأة من خلال مطر من الرمال والحجارة الّتي تحملها العاصفة الرملية بحيث تدفن معها قرى كاملة، وأحياناً تدفن تحتها قافلة من القوافل التجارية الّتي تجوب الصحراء.

والجدير بالذكر أنّ هذه العواصف الرملية أو أمطار الحجارة قد تحدث بين الفينة والاخرى في عالم الطبيعة، ولكن هذه المرة حدثت هذه العاصفة الرملية بأمر من اللَّه تعالى بوقتٍ مخصوص ومكان معين كما أخبر بذلك ملائكة اللَّه الّذين ارسلوا إلى نبي لوط عليه السلام.

ويوجد احتمال آخر في هذا الصدد، وهو انه من الممكن أن تكون الزلزلة الشديدة قد أصابت هذه المدن والقرى ودمرتها عن آخرها ثمّ نزل عليهم مطر الحجارة السماوية، ثمّ الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 268

حلت بهم العاصفة الرملية لتمحوا آثارهم وتفني ما تبقى من وجودهم، وهذا العذاب الإلهي بهذه المراحل الثلاثة الشديدة يبين غضب اللَّه تعالى على هؤلاء القوم الظالمين.

«الآية السادسة» والأخيرة في هذه الآيات وضمن الإشارة الموجزة إلى قصة قوم لوط من بدايتها إلى منتهاها تقول: «وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ ا لْفَاحِشَةَ مَاسَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّنَ ا لْعَالَمِينَ» «1».

أجل، فإنكم تأتون الذكور لاشباع غريزتكم الجنسية دون النساء، ولذلك

فأنتم منحرفون عن السبيل القويم لأنكم تركتم القوانين والمقررات الطبيعية والسنن الإلهية لاشباع الغريزة وسلكتم مسلك الإنحراف والزيغ الّذي من شأنه أن يؤدي إلى انقطاع النسل واشاعة أنواع المفاسد الاجتماعية والأمراض التناسلية، ورغم أن مرض «الايدز» الموحش يعتبر أحد الأمراض العصرية الّذي اكتشف مؤخراً، ولكن لا يبعد أن يكون هذا المرض موجوداً من ذلك الزمان أيضاً وقد اصيب به بعض هؤلاء الأشرار من قوم لوط، ولهذا السبب فإنّ اللَّه تعالى بحكمته ورحمته قد دفن أجسادهم تحت كثبان الرمل والحجارة ليكون ذلك عبرة للآخرين من جهة، ونعمة للناس من جهة اخرى لمنع انتشار وسراية هذا المرض إلى أنحاء اخرى من المعمورة.

وعلى أي حال فإنّ هؤلاء القوم المجرمين كانوا على درجة من الوقاحة وعدم الحياء بحيث أنّهم مضافاً إلى عدم اصغائهم لكلمات لوط عليه السلام، أرادوا إخراجه مع أهله من مدينتهم بتهمة الطهر والنقاء حيث تتحدّث الآية القرآنية في هذا السياق عن موقفهم المخزي هذا وتقول: «وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ» «2».

ولكن اللَّه تعالى يحكي لنا عاقبة قوم لوط هؤلاء ومصير نبيّهم الكريم حيث يقول:

«فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ ا لْغَابِرِينَ* وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 269

عَاقِبَةُ ا لُمجْرِمِينَ» «1».

أجل، إن هؤلاء كانوا قد غرقوا في وحول الخطيئة وتلوثوا بأدران الإثم إلى درجة أنّهم كانوا يعتبرون أنّ الطهر والنقاء من الإثم والذنب اثماً وخطيئة بحد ذاته، ولهذا كانوا يرون إنزال العقوبة على الأبرياء والطاهرين من الناس بتهمة الطهر وعدم التلوث بالمعاصي ويحكمون عليهم بالنفي إلى مناطق بعيدة ويخرجوهم من بيوتهم ولكن العذاب الإلهي كان لهم بالمرصاد، وقد حلّ بهم قبل أن يطبقوا

أحكامهم المزرية على لوط وأهله.

إن القسم المهم من هذه الآيات وضمن بيان العاقبة المخزية لاتباع الأهواء والشهوات بالمعنى والمفهوم العام والخاصّ يشير إلى أنّ هذا العمل الشنيع يعد منبعاً للكثير من الذنوب والممارسات الخاطئة الّتي تورث الفرد والمجتمع الانحطاط والسقوط الأخلاقي والاجتماعي وتذُم وتُشنع على من يمارسون هذه الخطيئة.

اتباع الشهوات في الروايات الإسلامية:

لقد أولت الأحاديث والروايات الإسلامية هذه المسألة اهتماماً كبيراً حيث نجد أنّ الكثير من المصادر الروائية تشير إلى عواقب هذا الفعل الشنيع وتحذر الناس من افرازات مثل هذه الممارسات الخطرة على الصعيد الدنيوي والاخروي بحيث يجد القاري ء نفسه متأثراً بشدة من عمق مدلول هذه الروايات الشريفة، فهي تقرر أنّ التلوث بالشهوات سواءً بمفهومها العام أو الخاص يعد من الموانع الأساسية الّتي تصد الإنسان عن سلوك طريق السعادة والكمال، وكذلك من الأسباب المهمة لاشاعة الفحشاء والمنكر في المجتمعات البشرية، وفيما يلي نستعرض بعض هذه الروايات والأحاديث الشريفة:

1- ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «مَا تَحْتَ ظِلِّ السَّماءِ مِن الَه يُعبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 270

اعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ هَوىً مُتَّبِع» «1».

وبهذا يتضح أنّ اتباع الشهوة وهوى النفس يُعَدُّ من أخطر العوامل الّتي تقود الإنسان نحو منزلقات الخطيئة والانحطاط الأخلاقي.

2- ويقول الإمام علي عليه السلام «الشَّهَوَاتُ سُمُومٌ قَاتِلاتٌ» «2»

(حيث تقتل وتدمر شخصية الإنسان وايمانه ومروته).

3- وجاء في حديث آخر عن هذا الإمام عليه السلام أنّه قال: «الشَّهَوَاتُ مَصائِدُ الشَّيْطانِ» «3»

(حيث يصطاد الشيطان أفراد البشر بهذه الوسيلة بكلّ زمان ومكان وفي جميع سنوات العمر).

4- وورد أيضاً عن هذا الإمام عليه السلام قوله «امْنَعْ نَفْسَكَ مِنَ الشَّهَواتِ تَسْلَمْ مِنَ الآفاتِ» «4».

5- وجاء في حديث آخر عن الإمام «تَرْكُ الشَّهَوَاتِ افْضَلُ عِبَادَةٍ

وَاجْمَلُ عَادَةٍ» «5».

6- يقول الإمام الصادق عليه السلام «مَنْ مَلَكَ نَفْسَهُ اذا غَضِبَ وَاذا رَغِبَ وَاذَا رَهِبَ وَاذا اشْتَهى حَرَّمَ اللَّهُ جَسَدَهُ عَلَى النَّارِ» «6».

7- يقول الإمام علي عليه السلام في حديث آخر «ضَادُّوا الشَّهْوَةَ مُضادَّةَ الضِّدِ ضِدَّهُ وَحَارِبُوهَا مُحَارِبَةَ الْعَدُوِّ العَدُّوَ» «7».

وهذا الكلام يقرر بمنتهى الصراحة هذه الحقيقة وهي أن اتباع الشهوة يقع في الطريق المقابل للسعادة والكمال الإنساني.

عواقب اتباع الشهوة في كلمات أميرالمؤمنين عليه السلام:

اما بالنسبة إلى عواقب اتباع الشهوات والأهواء الشيطانية فقد وردت تعبيرات عميقة للأحاديث الإسلامية ونحن نكتفي في هذا المجال ببعض ما ورد عن الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام:

1- يقول أميرالمؤمنين علي عليه السلام «اهْجُرُوا الشَّهَوَاتِ فَانَّهَا تَقودُكُمْ الى رُكُوبِ الذُّنُوبِ وَالْتَهَجُّمِ عَلَى السَّيئاتِ» «1».

2- وفي حديث آخر نجد أنّ هذه المسألة تشتد لعاقبة اتباع الشهوات أنّ الإنسان يخرج من الدين والايمان كلياً فتقول الرواية «طَاعَةُ الشَّهْوَةِ تُفْسِدُ الدِّينَ» «2».

3- ويقول عليه السلام أيضاً: «طَاعَةُ الْهَوى تُفْسِدُ الْعَقلَ» «3».

4- «الْجَاهِلُ عَبْدُ شَهْوَتِهِ» «4»

يعني إن الإنسان الجاهل يكون كالعبد الذليل المطيع لشهواته ونوازعه الرخيصة فلا اختيار له ولا حرية في مقابلها.

5- وفي حديث آخر «عَبْدُ الشَّهْوَةِ اسيرٌ لَايَنْفَكُّ اسْرُهُ» «5»

6- ويُقرر الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام عاقبة اتباع الشهوة وانها تمثل الفضيحة والعار على صاحبها «حَلاوَةُ الشَّهْوَةِ يُنَغِّصُهَا عارُ الْفَضيحَةِ» «6».

7- وفي حديث آخر يقرر الإمام عليه السلام أنّ الشهوة هي مفتاح جميع الشرور «سَبَبُ الشَّرِّ غَلَبَةُ الشَّهْوَةِ» «7».

ونظراً إلى أنّ كلمة «الشر» وردت بالألف واللام للجنس وذكرت بشكل مطلق فانها تدلّ الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 272

على العموم وأنّ اتباع الشهوة يمثل منبعاً لجميع الشرور وأنواع الشقاء.

8- ويشير الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام في حديث آخر إلى هذه الحقيقة وهي أنّ غلبة الأهواء والشهوات على الإنسان تفضي إلى

إيصاد سبيل السعادة والهدى أمام الإنسان ويقول «كَيْفَ يَسْتَطيعُ الهُدى مَنْ يَغلِبُه الهَوى «1».

9- يقول هذا الإمام في حديث آخر مشيراً إلى أنّ غلبة الشهوات يؤدي إلى ضعف شخصية الإنسان فيقول «مَنْ زَادَت شَهْوَتُهُ قَلَّتْ مُرُوّتُهُ» «2».

10- وفي حديث آخر يبين الإمام عليه السلام هذه الحقيقة وهي أن طريق الجنّة يقع في الجهة المقابلة لاتباع الشهوة فيقول «مَن اشْتَاقَ الَى الْجَنَّةِ سَلا عَنِ الشَّهَوَاتِ» «3».

11- وفي رواية اخرى يُقرر الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام هذه الحقيقة، وهي أنّ الحكمة تتقاطع دائماً مع الشهوة في قلب الإنسان ويقول «لا تَسْكُن الْحِكْمَةَ قَلْباً مَعَ شَهْوَةٍ» «4».

النتائج الوخيمة لاتباع الشهوة:

اشارة

ومن خلال الأبحاث السابقة اتضح بأن «الشهوة» لها مفهوم عام وواسع بحيث يشمل كلّ رغبة وميل نفساني يتيح للإنسان اللّذة، وبهذا لا تختص بالشهوة الجنسية رغم انها أحياناً وردت بمعنى الشهوه الجنسية بالخصوص.

وقد ورد هذا المفهوم في القرآن الكريم في أحد عشر مورداً بالمفهوم العام، ولكن يستفاد المفهوم الخاص في موردين، وأما في الروايات الإسلامية وكلمات علماء الأخلاق فقد وردت هذه الكلمة في الأغلب بمفهومها العام، وفي مقابل مفردة «العفة» الّتي تعني الجام النفس وغض الطرف عن اللذائذ والذنوب.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 273

وقد ورد هذا المفهوم في النصوص الدينية في الأغلب بمعناه السلبي، ولكن أحياناً ورد بمعناه الإيجابي من قبيل قوله تعالى مخاطباً لأهل الجنّة «... وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ ...» «1» أو يقول في مكان آخر «... وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ ا لْأَنفُسُ وَتَلَذُّ ا لْأَعْيُنُ ...» «2».

وعلى أي حال فإنّ هذه المفردة وردت في الأغلب بمعناه السلبي والّذي يدلّ على الافراط في اتباع الأهواء والنوازع النفسانية وغلبة الميول المخربة والمفضية إلى الوقوع في الخطيئة والمعصية.

وهكذا نجد أنّ هذه

المفردة ومشتقاتها قد وردت في ثلاثة عشر مورداً في القرآن الكريم، ستة موارد منها تحمل المفهوم الإيجابي عن هذه المفردة، وسبعة اخرى تحمل في مضمونها المعنى السلبي.

وعلى أي حال فإنّ «الشهوة» بأي معنىً كانت إذا قصد منها المفهوم الخاصّ فإنّها تستبطن الأفراط في اشباع الشهوة وبالتالي يترتب عليها الآثار المخربة والنتائج الوخيمة المترتبة على هذا السلوك المفرط في طلب اللّذة، وقد مرّت الإشارة إلى هذه العواقب الوخيمة في الروايات والأحاديث المذكورة آنفاً، ولابدّ من الاذعان إلى أنّ مسيرة التاريخ مملوءة من هذه النتائج والعواقب الوخيمة للأفراط في اشباع الشهوات ويمكننا الإشارة إلى هذه العواقب بشكل مختصر في ما يلي:

1- التلوث بالذنب

إن طلب اللّذة وعبادة الشهوة يسوق الإنسان باتجاه منزلقات الإثم وارتكاب أنواع الذنوب، وفي الحقيقة انه يعد المصدر الأساس للذنب ومعصية اللَّه تعالى لأن الشهوات إذا تغلبت على الإنسان فبإمكانها أن تعمي وتصم الإنسان عن رؤية المخاطر ويكون مصداقاً للحديث النبوي الشريف حبُّك للشَّي ء يُعمي ويُصم» «3»

وبذلك تنقلب المفاهيم والحقائق الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 274

لدى العقل فيصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً.

ولهذا السبب بالذات رأينا في الروايات السابقة الواردة عن أميرالمؤمنين عليه السلام (الرواية الثامنة) أنّ الإمام عليه السلام يصرح متسائلًا «كَيْفَ يَسْتَطيعُ الهُدى مَنْ يَغلِبُه الهَوى «1».

ويشير الإمام عليه السلام في الحديث العاشر أيضاً إلى هذه الحقيقة وهي أنّ اتباع الشهوة يفسد شخصية الإنسان ويضعف مروئته، وكذلك قرأنا قوله في الحديث التاسع أنّ اتباع الشهوات بمثابة عبادة الوثن وبإمكانه أن يحطم إيمان الفرد ويتلف دينه، هذا وقد اورد المفسّرون وأرباب الحديث في ذيل الآيات 16 و 17 من سورة الحشر قصة العابد من بني إسرائيل والذي يدعى «برصيصا» الّذي يُعَدُ شاهداً حيّاً على هذا

المدعى ولا بأس من استعراض هذه القصة النافعة رغم انها قد وردت في الكثير من الكتب المعروفة حيث نقل بعض المفسّرين أنّ رجلًا من بني إسرائيل يدعى «برصيصا» قد عبد اللَّه زماناً من الدهر حتّى كان يؤتى بالمجانين يداويهم ويعوذهم فيبرؤون على يديه، وانه أُتي بامرأة قد جُنّت وكان لها أخوة فأتوه بها فكانت عنده، فلم يزل به الشيطان يزيّن له حتّى وقع عليها فحملت، فلما استبان حملها قتلها ودفنها، فلما فعل ذهب الشيطان حتّى لقى أحد اخوتها فأخبره بالّذي فعل الراهب وانه دفنها في مكان كذا، ثمّ أتى بقية أخوتها، وهكذا انتشر الخبر فساروا إليه فاستنزلوه فأقرّ لهم بالّذي فعل، فأمر به فصلب، فلمّا رفع على خشبة تمثل له الشيطان فقال: أنا الّذي ألقيت في قلوب أهلها، وأنا الّذي أوقعتك في هذا، فأطعني فيما أقول أخلصك ممّا أنت فيه،

قال: نعم.

قال: اسجد لي سجدة واحدة.

فقال: كيف أسجد لك وأنا على هذه الحالة،

فقال: اكتفي منك بالإيماء، فأومى له بالسجود فكفر باللَّه وقتل. فهو قوله تعالى: (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر ...».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 275

نعم هكذا هو مصير من ابتلي بوسوسة الشيطان وسار في خطّه.

2- فساد العقل

إن اتباع الشهوات والأهواء النفسانية يُلقي على عقل الإنسان وفكره حجاباً قائماً يمنعه من التمييز بين الحقّ والباطل، وأكثر من ذلك حيث يقلب الحقّ في نظره إلى باطل ويجعل الباطل حقّاً، وقد قرأنا في الروايات السابقة قوله عليه السلام «طَاعَةُ الهَوى تُفْسِدُ الْعَقلَ» «1»

ولهذا السبب فإنّ الكثير من طلاب الشهوة واتباع الهوى بعدما يرتكبون الممارسات القبيحة وتهدأ في باطنهم سورة الشهوة وتخمد نار الهوى فإنّهم يعيشون حالة الندم الشديد على ما صدر منهم وأحياناً يتعجبون من أنفسهم على الحماقة

الّتي ارتكبوها.

وفي هذا الصدد نقرأ قول أميرالمؤمنين عليه السلام «اذا ابْصَرَتِ الْعَينُ الشَّهْوَةَ عَمِىَ الْقَلْبُ عَنْ العَاقِبَةِ» «2».

3- تحقير شخصية الإنسان الاجتماعية

إن طلب الإنسان على اللّذة من شأنه أن يهدم شخصية الإنسان ويحطم كيانه ومكانته الاجتماعية ويسوقه إلى هاوية الذلّة والمسكنة، لأن مثل هذا الإنسان يسعى في تحقيق رغبته وارضاء شهوته إلى تحطيم الاطر الاجتماعية والثقافية السائدة في المجتمع ويرتكب الحماقات الّتي تفضي إلى أن يكون مهاناً وحقيراً في أنظار الناس، ومن البديهي أنّ الإنسان الّذي يعيش احترام الذات والمروءة فإنه يشعر بنفسه على مفترق طرق عند اشتداد النوازع والشهوات، فأما أن يرضخ لمتطلبات الشهوة ويذعن لتحديات الهوى، أو يحتفظ باحترامه لذاته وكيانه الاجتماعي بين الناس، ومن العسير غالباً الجمع بين هذين الاتجاهين.

وفي حديث ورد عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «زيَادَةُ الشَّهْوَةِ تُزري بِالْمُرُوَّةِ» «3».

4- اسر النفس

وأحد النتائج الوخيمة لاتباع الشهوات والأهواء هو أنّ الإنسان يقع اسيراً لنوازع النفس ومقيداً بقيود الشهوة، فالإنسان الشهواني نجده يرزح تحت اغلال الشهوات إلى درجة أنّ الابتعاد عنها وكسر هذه القيود يضحى بالنسبة له أمراً قد يصل إلى درجة المحال أحياناً، والمثال الواضح على هذه الحقيقة هو ما نراه من الحياة التعيسة والذليلة للمدمنين على المواد المخدرة، فإنّهم في ظاهر الحال أحرار، ولكنهم في الواقع أسرى العادة والادمان الناشي ء من أتباعهم لدواعي الشهوه فيعيشون حالة الأسر ويرزحون تحت قيود المواد المخدرة بحيث تمنعهم من أي حركة إيجابية ونافعة لأنفسهم ومجتمعهم وتطوقهم بأطواق حديدية تمنعهم عن أي انفلات ونجاة من هذا السجن المظلم، وخاصة إذا كان الهوى لدى الإنسان بمثابة أنواع من العشق الجنسي والشهوة الرخيصة للجنس الآخر، فحينئذٍ يصل الإنسان في عبودية الشهوة إلى الحدّ الأقصى

يقول أميرالمؤمنين عليه السلام في هذا الصدد: «عَبْدُ الشَّهْوَةِ اسيرٌ لا يَنَفَّكُ اسْرُهُ» «1».

وفي حديث آخر يقول هذا الإمام عليه السلام: «وَكَمْ مِنْ عَقْل

اسيرٌ تَحتَ هَوى أميرٍ» «2».

وأيضاً ورد في حديث آخر أنّه قال: «الشَّهَوَاتُ تَستَرِقُ الْجَهُولُ» «3».

5- الفضيحة والعار

الفضيحة الاجتماعية هي أحد نتائج وافرازات الشهوة والرضوخ تحت مطاليبها الرخيصة، وتاريخ البشرية مفعم بنماذج من حياة الشخصيات الممتازة والّتي لها رصيد اجتماعي وافر ولكنهم وقعوا تحت تحديات الشهوة ومطاليب الهوى فافضى بهم الحال إلى الفضيحة والعار.

وقد ورد في هذا الصدد الكثير من النصوص الدينية والأدبية في تراثنا الإسلامي الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 277

والشعبي والّتي توضح هذه العلاقة بين اتباع الشهوة وبين الفضيحة والمذلة والمهانة الّتي تصيب هذا الإنسان المنحرف كما نقرأ ذلك في قصة يوسف وزوجة عزيز مصر وكيف أنّ زوجة العزيز قد أدّى بها الأمر إلى الفضيحة والخزي رغم مقامها الشامخ لدى المجتمع المصري وكما يقول الشاعر:

انَ الْهَوى هُوَ الهَوانِ قُلِبَ اسمُهُ فَاذا هَوَيْتَ فَقَدْ لَقَيْتَ هَوانا «1»

عوامل وأسباب عبادة الشهوة:

اشارة

سبق وقلنا في البحوث السابقة، أنّ علاج المفاسد الأخلاقية يجب أن يبدأ من أسباب العلل والجذور، وتقدّم أنّ علماء الأخلاق يهتمون اهتماماً كبيراً في مباحث هذا العلم بالبحث عن العلل والدوافع للسلوك الأخلاقي لدى الفرد، ولهذا السبب لابدّ من التطرق إلى العوامل والأسباب المؤدية إلى أن يسلك الإنسان طريق عبادة الشهوة.

إن الرغبات والميول النفسانية والّتي يعبر عنها بالشهوات وخاصّة الشهوة الجنسية أمر طبيعي وموهبة الهية ومن عوامل حركة الإنسان نحو الكمال والتقدّم في حركة الحياة والمجتمع، ولهذا لا يمكن إزالتها نهائياً من واقع الإنسان ولا يصحّ كبتها والسعي إلى تهميشها والغائها، والتحرّك في سبيل ارضاء هذه الشهوات بالمستوى المطلوب وفي حد الإعتدال ليس فقط لا يوجد أيَّ مشكلة في حركة الإنسان بل يُعد أحد العوامل الّتي توجب للإنسان التكامل والرقي على المستوى التربوي والاجتماعي.

وامّا المفاسد الأخلاقية المترتبة على اشباع هذه الشهوات فتكمن في طغيان الشهوة وخروجها عن موازين العقل والاعتدال في ارضائها.

والآن لابدّ من

النظر في العوامل الّتي تسبب خروج هذه الرغبات والميول الباطنية من سيطرة العقل بحيث تشكل للإنسان قوّة مخربة وتكون من أدوات الانحراف، وهذه العوامل الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 278

المؤثرة في ازدياد ظاهرة الانحراف في سلوك الإنسان الأخلاقي هي كما يلي:

1- ضعف الإيمان

إن ضعف الإيمان هو العلّة الأصلية لتغافل الإنسان عن الأوامر والتشريعات الإلهية، فلو أنّ الإنسان كان يعيش بوجود اللَّه دائماً في واقعه وقلبه ويراه حاضراً وناظراً إلى سلوكياته وأفعاله، ويرى محكمة العدل الإلهية يوم القيامة بعين البصيرة فإنه لا يمكن أن يتجرأ على كسر طوق الحدود الإلهية ويتجاوز على التشريعات الدينية ويتلوث بالشهوات والمفاسد الأخلاقية.

وهذا المعنى هو البرهان الإلهي الّذي رافق يوسف في أحلك الظروف وانقذه من التورط في الإثم والمعصية الّتي توفرت جميع متقضيات ارتكابها وارتفعت جميع الموانع لممارستها مع امرأة العزيز.

فمع ضعف الإيمان وضعف التوجه إلى المبدأ والمعاد تتوفر حينئذٍ الأرضية الكافية لطغيان الشهوات بحيث يضحى الإنسان كالوحش الّذي خرج لتوّه من القفص، فلا يرى أمامه أي رادع ومانع حيث يهجم على كلّ شخص ويفترس كلّ ما يجده في طريقه من الأحياء.

وهنا نلقي نظرة فاحصة على ما ورد في الحديث الشريف الّذي قرأناه فيما سبق «مَنِ اشتَاقَ الَى الجَنَّةِ سَلا عَنِ الشَّهواتِ» «1».

أحياناً يتحرك الإنسان لاشباع الشهوة والتحرر من قيود الدين والأخلاق إلى كسر سد الإيمان، وفي هذا يقول القرآن الكريم «بَلْ يُريدُ الإنسانُ لِيَفْجُرَ امَامَهُ- يَسْئَلُ ايَّانَ يَوْمُ القيامَةِ» «2»؛ الإنسان هنا يريد أن يتحرر من القيود المعنوية ليمارس الخطايا بدون خوف من يوم القيامة، ولهذا يسأل سؤال انكار وترديد.

2- عدم الاهتمام بالكرامة الاجتماعية والشخصية الإنسانية

إن عدم اهتمام البعض بالكرامة الاجتماعية وعدم اهتمامهم بشخصيتهم الإنسانية هو أحد العوامل الّتي تسبب للإنسان التلوث بأنواع الخطايا والتورط في وحل الشهوات، في حين أنّ احترام الإنسان لنفسه ولشخصيته الإنسانية وحيثيته الاجتماعية بإمكانه أن يقف حاجزاً ورادعاً عن ممارسة الخطيئة وطغيان الشهوة حتّى عُدَّ من عدم الإيمان باللَّه والآخرة.

ولهذا السبب نجد أنّ الأشخاص الّذين يتمتعون بمكانة اجتماعية في المجتمعات غير الدينية

لا يستسلمون لطغيان الشهوة بسهولة ولا يقعون ضحية الأهواء والنوازع الرخيصة وخاصةً التحلّل الجنسي أو غريزة الغذاء واشباع البطن، لأن مكانتهم الاجتماعية وسمعتهم وماء وجههم يقف سداً قوياً أمام طغيان هذه الشهوات، وعليه فإنّ من يستسلم لنداء الشهوات ويرضخ لتحدياتها هم فقط الأشخاص الّذين يعيشون الحقارة وضعف الشخصية والدناءة.

3- الغفلة والجهل

وأحد العوامل الاخرى للتلوث بهذه الرذيلة الأخلاقية هو الغفلة والجهل عن معطيات اتباع الشهوة وتأثيراتها السلبية في حركة الإنسان والحياة، لأن أكثر الرذائل الأخلاقية تترتب عليها آثار سلبية في دائرة السلامة البدنية والصحية، الشخص الّذي يُفرط في الطعام ويعيش حالة النهم إلى الغذاء واشباع البطن فإنه يبتلى بأنواع الأمراض البدنية، وكذلك الشخص الّذي يفرط في الغريزة الجنسية فإنه يبتلى بضعف القوى البدنية ويورثه هذا السلوك تدميراً لشبكة الأعصاب ويورثه قصر العمر، وبالتالي يعرض سلامته الروحية والجسمية إلى الارباك والخلل.

ولهذا نجد كثيراً من الأشخاص في المجتمعات غير الدينية يلتزمون في حياتهم بالموازين الصحية ويقيدون انفسهم برعاية الاعتدال بالأكل والجنس، لأن الأطباء يوصون كثيراً في رعاية هذه الامور وينبهون الناس إلى نتائج الأفراط في إشباع هذه الشهوات الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 280

وعواقبها الوخيمة، وكذلك فإنّ المشكلات الاجتماعية الناشئة من اتباع الشهوات غير قابلة للانكار، فمن المعلوم أنّ افراط البعض في طلب التنوع في الأطعمة والاكثار من الغذاء هو السبب في أن يعيش البعض الآخر من الناس حالة الجوع وقلّة الغذاء، وهكذا الحال في التحلل الأخلاقي في المسائل الجنسية حيث يسبب القلق والاضطراب لدى أفراد الاسرة، وما أكثر ما يتسبب في سريان التلوث بالخطيئة إلى داخل الاسرة الواحدة.

وعلى هذا الأساس فإنّ كلّ إنسان يلتفت جيداً إلى هذه الامور فسوف يحصل لديه العلم اليقيني بضرورة تقييد هذه الشهوات وضبطها

من الانفلات والتحلل.

4- المعاشرة مع رفاق السوء

ومن العوامل الاخرى للانحراف في اشباع الشهوات هو العشرة مع رفاق السوء والمحيط الملوث وادوات الأعلام الفاسد وأمثال ذلك، فإنّ الغالب على رفاق السوء أنّهم يدفعون من يعاشرهم إلى ارتكاب المحرمات والتلوث بالذنوب من خلال تعليمهم على الطرق المتنوعة لاشباع الشهوات بطرق ممنوعة بحيث يمكن القول أنّ أهم أسباب التلوث بالخطيئة والإنحراف في اشباع الشهوة هو الاختلاط مع الملوثين والمنحرفين.

وهكذا بالنسبة إلى أدوات الأعلام الفاسد والمحيط الاجتماعي الملوث تعتبر من العوامل المهمة للتلوث والإنحراف، وفي هذا المجال تحدّثنا في الجزء الأوّل عن «الأرضية المساعدة للفساد الأخلاقي) بشكل وافر وذكرنا بشكل مفصل أنّ العشرة والاختلاط مع الملوثين لا تفسد أخلاق الإنسان فحسب، بل قد تصل به إلى حدّ الكفر في دائرة العقيدة أيضاً، ويتحدّث القرآن الكريم عن بعض أهل النار شارحاً لحالهم «وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا* يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا* لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا» «1».

وهكذا نرى أنّ البيئة الفاسدة وعنصر التربية وما يقوم به الوالدان من أساليب خاطئة في مجال تربية الطفل بسبب ممارستهم للذنوب وإنحرافهم عن الحقّ تعتبر من العوامل المؤثرة

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 281

في تلوث الإنسان بظاهرة الإنحراف وعبادة الشهوة، ولهذا نرى أنّ أغلب الأشخاص الّذين كانوا يعيشون الأمان والطهر في حياتهم عندما يلج في مثل هذه البيئة الفاسدة والمحيط المنحرف سوف يتلوثون بالخطيئة ويفقدون إيمانهم السابق ويغرقون في بحر الذنوب والمفاسد الأخلاقية.

وبما إننا بحثنا هذا المطلب في الجزء الأوّل في موضوع «كليات المسائل الأخلاقية» بشكل مفصل، فلذلك نكتفي بهذا المقدار من الإشارة إلى هذا المطلب المهم.

طرق علاج اتباع الشهوات:

اشارة

إن الطرق الكفيلة بعلاج المفاسد الأخلاقية تكاد تكون متشابهه في

الاصول في جميع الموارد، وتتلخص هذه الطرق بنحوين: علمي وعملي.

ألف) الطريق العلمي

والمراد من الطريق العلمي هو أن الإنسان يفكر ويتدبر بالنتائج والآثار السلبية لطلب اللّذة واشباع الشهوة ويرى كيف إن الإنسان المستسلم لشهواته يعيش الذلّة والأسر وإنهزام الشخصية والشعور بالدونية والحقارة والابتعاد عن اللَّه تعالى، وهذا المعنى نجده واضحاً على سلوك اتباع الشهوة وطلاب اللّذة الرخيصة وأنّهم كيف يعيشون الضعف والوهن في شخصيتهم الإنسانية وكرامتهم الاجتماعية.

وعلى هذا الأساس فإنّ التأمل في هذه الظاهرة النفسية والاجتماعية وكذلك التفكر في حال وسيرة «اولياء اللَّه» واتباعهم المخلصين وكيف أنّهم وصلوا مقامات سامية من التكامل الإنساني والأخلاقي بسبب محاربتهم للشهوات وامتناعهم عن سلوك طريق الخطيئة وصمودهم أمام تحديات الشهوة، مضافاً إلى ذلك فإنّ تقوية أركان العقل ودعائم الإيمان في قلب الإنسان يجعله قادراً على كبح جماع شهواته وغرائزه، وفي هذا المجال قال أميرالمؤمنين عليه السلام «مَنْ كَمُلَ عَقْلُهُ استِهَانَ بِالشَّهَوَاتِ» «1».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 282

وفي حديث له عليه السلام «مَنْ غَلَبَ شَهْوَتَهُ ظَهَرَ عَقْلُهُ» «1».

وكذلك قال عليه السلام «كُلَّمَا قَوِيَتِ الْحِكْمَةُ ضَعُفَتِ الشَّهْوَةُ» «2».

وفي حديث آخر يقول عليه السلام «اذْكُرْ مَعَ كُلِّ لَذَّةٍ زَوَالَهَا وَمَعَ كُلِّ نِعْمَةٍ انْتِقَالَهَا وَمَعَ كُلِّ بليَّةٍ كَشْفَها، فَانَّ ذَلِكَ ابْقى لِلنِّعمَةِ، وَانْفى لِلشَّهْوةِ، وَاذْهَبُ لِلبَطَرِ، وَاقرَبُ الَى الْفَرَجِ وَاجْدَرُ بِكَشفِ الغُمَّةِ وَدَرْكِ الْمَأمُولِ» «3».

وعليه فإنّ التفكر في العاقبة السيئة والآثار المخربة لاتباع الشهوات بإمكانه أنّ يصد الإنسان عن سلوك هذا الطريق، ولذلك نجد أنّ الأنبياء والقادة الإلهيين بذلوا جهوداً كبيرة في هذا السبيل ليخلصوا الناس من التورط في الخطايا والذنوب وينقذوهم من أسر الشهوات والأهواء.

وفي حديث شريف عن رسول اللَّه يقول «خَمْسٌ انْ ادْرَكْتَمُوهُنَّ فَتَعَوَّذُّوا بِاللَّهِ مِنْهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الفَاحِشَةُ فِي قَومٍ قَطُّ حَتَّى

يُعْلِنُوهَا، الّا ظَهَرَ فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالاوَجَاعُ الَّتي لَمْ تَكُنْ فِي اسْلافِهِم الَّذِينَ مَضَوُا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكيَالَ وَالْميزانَ الّا أُخِذُوا بِالسِّنينَ وَشِدَّةِ الْمَؤُنَةِ وَجَوْرِ السُّلطانِ، وَلَمْ يَمْنَعُوا الزَّكاةَ الَّا مُنِعُوا الْمَطَرَ مِنَ السَّماءِ، وَلَوْلا البَهَائِمُ لمْ يُمْطَرُوا وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ الّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيهِمْ عَدُوَّهُم وَاخَذُوا بِعضَ مَا فِي ايْديهِمْ، وَلَمْ يَحْكُمُوا بِغَيرِ مَا انْزَلَ اللَّهُ الّا جَعَلَ اللَّهُ عَزَّوَجَلَّ بِأسَهُمْ بَيْنَهُمْ» «4».

ولا شكّ أنّ التأمل والتدبر في هذه المعطيات والنتائج الخطيرة لها تأثير مستمر أو مؤقت في منع الإنسان عن ممارسة الخطيئة لارتكاب الذنب.

ب) الطريق العملي

ومن جهة اخرى فإنّ الطريق العملي لعلاج حالة «عبادة الشهوة» له وجوه وانحاء مختلفة منها:

1- إن أفضل الطرق العملية للنجاة من مستنقع الشهوة هو الاشباع الصحيح للغرائز البدنية والرغبات الجنسية بالخصوص، لأنّه إذا تم اشباع هذه الرغبات الباطنية والميول البدنية من طرق سليمة وبأدوات صحيحة فإنّ بإمكانها أن تنقذ الإنسان من النتائج السلبية والمخربة المترتبة على اتباع الشهوات، وبعبارة اخرى انه لا ينبغي للإنسان كبت هذه الغرائز والرغبات والتغافل عن ارضائها بل يجب أن يسير بها المسار الصحيح والبنّاء لتكون مفيدة ونافعة في حركة الحياة، وفي غير هذه الصورة يمكنها أن تتبدل إلى سيل مدمر ومخرب يهلك الحرث والنسل ولا يبقى للإنسان أي أثر من آثار الخير والصلاح.

ولهذا السبب نرى أنّ الإسلام لم يهتم بالتسلية والترفية السليم والمعتدل فحسب بل عمل على حث الناس وترغيبهم في هذا الطريق لارضاء الغرائز، ومن ذلك ماورد في خطبة معروفة للإمام الجواد الّتي قرأها عند عقد زواجه حيث قال «امّا بَعْدُ فَقَدْ كَانَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَى الْانَامِ انْ اغْناهُم بِالْحَلالِ عَنِ الْحَرامِ» «1».

وفي هذا الحديث المعروف هناك إشارة إلى هذا المعنى

أيضاً حيث تقول «لِلْمُؤمِنِ ثَلاثُ سَاعَاتٍ، فَسَاعَةٌ يُنَاجِي فيهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٌ يَرُمَّ مَعَاشَهُ، وَساعَةٌ يُخَلّي بَيْنَ نَفْسِهِ وَبينَ لَذَّتِهَا فيمَا يَحِلُّ وَيَجْمُلُ» «2».

2- ومن الطرق الاخرى للنجاة من قيود الشهوات هو أن يضع الإنسان لنفسه برنامجاً دقيقاً لحياته، لأنّه كلما سعى لبرمجة أوقاته في اليوم والليلة «حتّى لو كان البرنامج يتضمّن جانب الترفية والرياضة البدنية» فإنه لا يكاد يجد برنامج للإنسياق وراء طلب اللّذة وفراغاً كافياً لسلوك طريق الشهوة.

3- ومن العناصر الاخرى لعلاج هذه الظاهرة أو الوقاية منها هو إزالة عوامل التلوث الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 284

بالخطيئة، لأن إمكانية التلوث بالشهوات في البيئة الملوثة يكون أكثر، أي لو كانت أسباب المعصية متوفرة وطرق الإنحراف مفتوحة ووجود الحرية النسبية في ارتكاب الذنوب واتباع الشهوات فإنّ النجاة من التلوث بالخطيئة ولا سيّما للشباب الّذين لا يمتلكون من المعرفة الدينية إلّاالقليل سيكون أمراً عسيراً للغاية.

4- احياء الشخصية المعنوية والإنسانية لأفراد المجتمع يعد من الطرق المهمة للعلاج أو الوقاية من التلوث بالشهوات، لأنّه عندما يدرك الإنسان قيمة وجوده واعتباره وشخصيته ويعلم بانه يمثل عصارة الخلقة والغاية العليا بعالم الكائنات وخليفة اللَّه في الأرض فلا يبيع نفسه بسهولة ولا يسلمها إلى عناصر الشهوة وقوى الإنحراف.

يقول أميرالمؤمنين عليه السلام في هذا المجال «مَنْ كَرُمَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ هَانَتْ عَلَيْهِ شَهْوَتُهُ» «1»

وفي حديث آخر يقول عليه السلام «مَنْ عَرَفَ شَرَفَ مَعْنَاهُ صَانَهُ عَن دَنَائَةِ شَهْوَتِهِ ...» «2».

وآخر ما يقال في هذا المجال هو انه لابدّ من الاهتمام بالطريق العملي ليس للتصدّي إلى الشهوات فحسب بل في جميع موارد مكافحة المفاسد الأخلاقية لدى الفرد والمجتمع، بمعنى انه كلّما سلك الإنسان طريق مكافحة أهوائه الفاسدة وأخلاقه المنحرفة وسار في الطريق القويم فإنّ هذه القوى

والعناصر السلبية ستخف وستندثر في وجوده ونفسه وسوف ينتقل الإنسان في هذا السلوك إلى أن يعيش الحالة النفسية السليمة، ومن هذه الحالة ينتقل إلى العادة، ومن العادة ينتقل إلى الملكة حيث تتحول هذه الحالة والعادة إلى ملكة راسخة في نفسه وتكون بمثابة الطبع الكامل له، وعلى سبيل المثال إذا تحرّك الإنسان البخيل في علاج هذا المرض الأخلاقي نحو البذل والعطاء في دائرة الفعل والعمل، فإنّ نار البخل ستضعف وتخبو تدريجياً في باطنه إلى أن تنطفى ء تماماً.

فإذا تحرّك اتباع الشهوة أيضاً في هذا الطريق وسلكوا مسلك التصدي والمقاومة أمام طغيان الشهوات، فإنّ هذه الشهوات والقوى المنحرفة الموجودة في باطنهم ستضعف وتخبو

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 285

تدريجياً ويحل بدلها عنصر العقيدة ويعيش الإنسان حينئذٍ روح الطهارة والنقاء والانفتاح على اللَّه والمعنويات السامية.

وهذا المعنى نجده واضحاً بكلام أميرالمؤمنين عليه السلام «قَاوِمِ الشَّهْوَةَ بِالْقَمْعِ لَهَا تَظْفُرْ» «1».

شهوة الأكل والجنس:

لقد أورد الأعاظم من علماء الأخلاق كالفيض الكاشاني في «المحجّة البيضاء» والمحقّق النراقي في «معراج السعادة» والعلّامة السيّد شبّر في كتاب «الأخلاق» كلًا من شهوة البطن وشهوة الجنس بصورة مستقلة وبحثوهما كلًا على انفراد، وفي الحقيقة اتبعوا في ذلك ما ورد في الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة في هذا المجال حيث ورد الاهتمام الكبير بهاتين الغريزتين.

الفيض الكاشاني يذكر في كتابه «المحجّة البيضاء» هاتان الشهوتان ويقول: «أما بعد، فأعظم المهلكات لابن آدم شهوة البطن، فبها أخرج آدم عليه السلام وحواء من دار القرار إلى دار الذلّ والافتقار، إذ نهيا عن أكل الشجرة فغلبتهما شهواتهما حتّى أكلا منها فبدت لهما سوآتهما، والبطن على التحقيق مصدر الشهوات ومنبت الأدواء والآفات. إذ يتبعها شهوة الفرج وشدّة الشبق إلى المنكوحات، ثمّ تتبع شهوة المطعم والمنكح شدّة الرغبة في

المال والجاه اللذين هما الوسيلة إلى التوسع في المطعومات والمنكوحات، ثمّ يتبع استكثار المال والجاه أنواع الرعونات وضروب المنافسات والمحاسبات، ثمّ يتولد من ذلك آفة الرياء وغائلة التفاخر والتكاثر والكبرياء، ثمّ يتداعى إلى ذلك الحسد والحقد والعداوة والبغضاء، ثمّ يفضي ذلك بصاحبه إلى اقتحام البغي والمنكر والفحشاء.

وكلّ ذلك ثمرة إهمال المعدة وما يتولد منها من بطر الشبع والامتلاء، ولو ذلّل العبد نفسه بالجوع وضيّق به مجاري الشيطان لأذعنت لطاعة اللَّه ولم تسلك سبيل البطر والطغيان ولم الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 286

ينجر به ذلك إلى الانهماك في الدنيا وايثار العاجلة على العقبي، ولم يتكالب كلّ هذا التكالب على الدنيا.

وإذا عظمت آفة شهوة البطن إلى هذا الحدّ وجب شرح غوائلها وآفاتها تحذيراً منها، ووجب ايضاح طريق المجاهدة لها والتنبيه على فضلها ترغيباً فيها» «1».

والأخطر من ذلك أنّ الأشخاص من اتباع شهوة البطن والفرج يفقدون دينهم ويتركون إيمانهم في هذا السبيل حيث نقرأ في ذيل الآية القرآنية «وَءَامِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدّقًا لّمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُواْ بِآيَاتِى ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّاىَ فَاتَّقُونِ» «2».

إنّ اللَّه تعالى يذم اليهود الّذين كانوا يشترون بآيات اللَّه ويبيعونها بثمن بخس، فقد كانت هناك مجموعة من علماء اليهود وأحبارهم يقومون بتحريف آيات اللَّه من أجل اشباع نهم شهواتهم لغرض دعوتهم لمجالس البذخ وموائد الترف الّتي كان يقوم بها اليهود اتجاه علمائهم، وبهذا فهم باعوا عملياً آيات اللَّه بثمن بخس «ولهذا انكروا وجود ذكر النبي الّذي يظهر آخر الزمان والّذي كان ينتظره اليهود والمذكور عندهم بالتوراة».

وفي الروايات الإسلامية نجد بحوثاً واسعة عن اخبار هاتين الشهوتين حيث تشير إلى بعض هذه الموارد:

1- قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «ثَلاثٌ اخَافُهُنَّ

بَعدي عَلَى امَّتي الضَّلالَةُ بَعْدَ المَعْرِفَةِ وَمُضِلّاتُ أَلْفِتَنِ وَشَهْوَةُ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ» «3».

المقصود من الضلالة بعد المعرفة هو أن يترك الإنسان الحقّ والطريق المستقيم بسبب وساوس المنحرفين وشبهات المخالفين ويسلك سبيل الانحراف والزيغ والضلالة، وهذا المعنى موجود دائماً وفي كلّ زمان وخاصة في زماننا هذا.

والمقصود من «مضلات الفتن» هو اشكال الامتحان الإلهي والاختبار الرباني لعباده الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 287

حيث يقع الإنسان أحياناً بسبب اتباعه للشهوات والأهواء في الخطيئة ويسقط في الامتحان، والمراد من «شهوة البطن والفرج» هو الأفراط في الأكل وطلب اللّذة والأفراط في طلب اللّذة الجنسية.

إن سياق الحديث الشريف يوحي لنا بهذه الحقيقة، وهي أنّ الخطر المتوجه للناس والّذي يهدد وجودهم بسبب هذه الامور الثلاثة هو خطر عميق وجدي.

2- يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله في حديث آخر «اكْثَرُ مَا تَلِجُ بِهِ امَّتي النَّارَ الْاجْوَفَانِ الْبَطْنُ وَالْفَرْجُ» «1».

3- ويقول الإمام الباقر عليه السلام «اذا شَبَعَ البَطْنُ طَغى «2».

4- وأيضاً يقول هذا الإمام في حديث آخر «مَا مِنْ شَي ءٍ ابْغَضُ الَى اللَّهِ عَزَّوَجَلَّ مِنْ بَطْنٍ مَمْلُوءٍ» «3».

5- وورد عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «لا يُفْسِدُ التَّقوى الّا بِغَلَبَةِ الشَّهْوَةِ» «4».

6- وورد في حديث آخر عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «لا تَجْتَمِعُ الحِكْمَةُ وَالشَّهْوَةُ» «5».

7- وقال هذا الإمام عليه السلام أيضاً في حديث آخر «مَا رَفَعَ امَرءاً كَهِمَّتِهِ وَلَا وَضَعَهُ كَشَهْوَتِهِ» «6».

العفة من أكبر الفضائل الأخلاقية

تنويه:

تقع «العفة» في النقطة المقابلة ل «شهوة البطن والفرج» وتعتبر من أهم الفضائل الإنسانية والأخلاقية على السواء.

ويقول الراغب الاصفهاني في كتاب «المفردات» في معنى العفة أنّها حصول حالة للنفس تمتنع بها من غلبة الشهوة، والمتعفف المتعاطي لذلك.

ويقول صاحب مقاييس اللغة في معنى العفة: «العفة في الأصل تأتي لمعنيين،

الأول، الاجتناب عن القبائح، والآخر قلّة الشي ء، ولذا يقال للبن المتبقي في الرضع- عُفّة- على وزن مدّة».

ويقول مؤلف كتاب «التحقيق» عن مفهوم العفة: «مادة عفّة في الأصل بمعنى حفظ النفس من الميول والشهوات النفسانية، كما أنّ التقوى بمعنى حفظ النفس من ارتكاب الذنوب، وعلى هذا فالعفة صفة باطنية، في حين أن التقوى ناظرة إلى الأعمال الخارجية».

وقد ذكر علماء الأخلاق في تعريف العفة انها الحدّ الوسط بين الشهوة والخمود.

وماذكرنا آنفاً من معنى العفة كان في مفهومهاالعام، لأن البعض قد أورد في تعريف العفة النقطة المقابلة لها، أي الوقاحة وتمزيق ستار الحياء، ولهذا السبب نجد أنّ أكثر موارد

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 290

استعمال مفردة «العفة» تختص للمسائل الجنسية.

وعلى أي حال فإنّ المستفاد من آيات القرآن الكريم والروايات الإسلامية أنّ العفة (بكلا المعنيين) تعد من أعظم الفضائل الأخلاقية والإنسانية، ولا يمكن لأي شخص أن يسير نحو الكمال الإلهي ويسلك مسلك الانفتاح على اللَّه من دون التحلي بهذه الخصلة الشريفة، ونجد في حياتنا الدنيوية أنّ كرامة الإنسان وشخصيته وسمعته رهينة بالتحلي بهذه الفضيلة الأخلاقية.

بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته الكريمة هذا المفهوم السامي:

1- «لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحْصِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لَايَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ ا لْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيَماهُمْ لَايَسْئلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ» «1».

2- «وَرَا وَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَا بَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَ إِنَّهُ لَايُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» «2».

3- «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّءَا بُرْهَانَ رَبّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَا لْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ا لْمخْلَصِينَ» «3».

4- «قَالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِى لُمْتُنَّنِى فِيهِ وَلَقَدْ

رَا وَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئن لَّمْ يَفْعَلْ مَآءَامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مّنَ الصَّاغِرِينَ* قَالَ رَبّ السّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مّنَ الْجَاهِلِينَ* فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» «4».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 291

5- «وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ* إِلَّا عَلَى أَزْوَا جِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَلِكَ فَأوْلَئكَ هُمُ الْعَادُونَ» «1».

6- «... وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَا لْحَافِظَاتِ ...» «2».

التفسير:

الفقير المتعطش

في «الآية الاولى يتحدّث القرآن الكريم عن أفضل موارد الانفاق ويقول مخاطباً المؤمنين بأن انفاقكم يجب أن يختص بالفقراء الّذين هاجروا من بيوتهم واوطانهم ولم يستطيعوا تأمين نفقاتهم واحتياجاتهم عن طريق الجهاد في سبيل اللَّه أو السفر للكسب والتجارة «لِلْفُقَرَآءِ الَّذِينَ أُحْصِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لَايَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى الْأَرْضِ» «3».

ثمّ يشير إلى خصوصية مهمة اخرى من خصوصيات هؤلاء الفقراء، وهي أنّهم لشدة تعففهم وضبطهم لأنفسهم يحسبهم الناس أغنياء «يَحْسَبُهُمُ ا لْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيَماهُمْ ...) «4».

أجل فإنّ هؤلاء يعيشون الضبط الأخلاقي لنوازع النفس ولا يرسلون السنتهم بالشكوى رغم احتياجهم الشديد، ويسلكون مسلك الأغنياء بين الناس ولكن المطلع على أحوالهم يعرف حاجتهم ومسكنتهم من سيماهم.

ويبين القرآن الكريم سمة اخرى من سماتهم ويقول «لَايَسْئلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ...» «5».

فهؤلاء لا يطلبون قضاء حاجتهم من الآخرين مهما أمكنهم ذلك، ولو اشتد بهم الحال واضطروا إلى المسألة، فإنّهم يفضلون اقتراض ما يحتاجونه من المال على السؤال من دون الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 292

أن يكون لديهم اصرار على الآخرين.

وفي ختام الآية يقول تعالى «وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ» «1».

أجل، فإنّ الأنفاق عملٍ إنساني وفضيلة

أخلاقية وخاصة على من يتمتع بعزّة النفس وعلو الطبع وعفة الروح.

وبديهي أنّ المراد من «العفة» في هذه الآية هي العفة في المسائل المالية لا الامور الجنسية، وقد ذكر بعض المفسّرين في شأن نزولها انها نزلت في «أصحاب الصفة» هؤلاء كانوا جماعة يبلغ عددهم أربعمائة نفر تقريباً من المسلمين المهاجرين من مكّة وضواحي المدينة الّذين لم يكن لديهم دارٌ في المدينة ولا معارف وأقرباء فيها ولا عملٍ يتكسبون فيه، ولكنهم في نفس الوقت يعيشون في غاية التعفف في مكانٍ خاص إلى جوار مسجد النبي صلى الله عليه و آله، وكان هؤلاء يتحركون نحو الجهاد في سبيل اللَّه متى ما أمرهم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وكانوا يتمتعون بعزّة النفس والتعفف الشديد بالرغم من حاجتهم الشديدة وما يشعرون به من جوع.

وعلى أي حال فالقرآن الكريم ذكر هؤلاء في الآية محل البحث بتعبيرات مختلفة من المدح والثناء وجعلهم اسوة لجميع المسلمين.

في «الآية الثانية والثالثة» يتحدّث القرآن الكريم عن عفّة يوسف وطهارة ذيله في أحلك الظروف الّتي توفرت فيها جميع أسباب التورط في الإثم والمعصية ولكنَّ يوسف حفظ نفسه أمام تحديات الواقع وضغوط الحالة واستعاذ باللَّه تعالى، فنجح في هذا الامتحان الإلهي الكبير وخرج منه مرفوع الرأس، وكما يذكر القرآن الكريم واصفاً هذه الحالة والحادثة الّتي حدثت ليوسف وامرأة العزيز فيقول: «وَرَا وَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَا بَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَ إِنَّهُ لَايُفْلِحُ الظَّالِمُونَ» «2».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 293

فلم تجذب ملامح يوسف ووجهه الجميل عزيز مصر فحسب، بل احبته زوجة العزيز أيضاً وعشقته بشدّة إلى درجة أن هذا العشق أثَّر اثَرُهُ في نفس هذه الامرأة

وامتد إلى أعماق قلبها، وشيئاً فشيئاً تعمق في وجودها إلى درجة انها لم تعد تُطيق كبته، ولكن النبي يوسف الّذي كان يعيش العفة والطهارة والتقوى كان قد عشق اللَّه تعالى ولا غير.

هذا وقد استخدمت امرأة العزيز الشابة الجميلة شتّى الطرق بمختلف الوسائل للوصول إلى هدفها، هذه الوسائل الّتي كان يكفي بعضها في تحريك أي شابٍ أعزب في عمر النبي يوسف، ولكنَّ يوسف عاش حالة الصمود أمام تحديات الشهوة الشديدة وفوّض نفسه وسفينة حياته إلى ذكر اللَّه تعالى ورحمته، وإلّا لكان الغرق في الخطيئة من نصيبه كما تصرّح الآية الّتي تليها «وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّءَا بُرْهَانَ رَبّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَا لْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ا لْمخْلَصِينَ» «1».

إن عبارة «من عبادنا» وكذلك «مخلصين» من العبارات العميقة المعنى والّتي وردت في هذه الآية بعنوان اوسمة افتخار ليوسف على موقفه الشجاع هذا.

ورغم أنّ يوسف كان قد اتهم من قبل زوجة عزيز مصر بالخيانة مع عفته وطهارته بحيث يمكنها أن تودي بحياته، إلّاأنّ اللَّه تعالى قد وعد المؤمنين الطاهرين بالنجاة وانقذ يوسف بواسطة شهادة طفل رضيع في المهد ببراءته وطهارته من التهمة بصورة إعجازية.

وهناك مسطورات لبعض الأفراد الجهلة والمغرضين الّذين ذكروا في تفسير هذه الآيات أنّ المقصود بقوله «همَّ بها» هو أنّ يوسف بدوره همَّ بالمعصية ومقاربة زليخا، وكما هو المعلوم أنّ هذا المعنى لا يليق بمقام عصمة الأنبياء ولا ينسجم مع سياق الآيات المذكورة أعلاه بل إن القرآن الكريم يصرّح بأنه لولا برهان اللَّه الّذي أعان يوسف في وقت الشدّة لكان قد همَّ بها، ولكن بما إن برهان الرب حلَّ في الوقت المناسب فإنه لم يقصد الخطيئة.

وللفخر الرازي تعبير جميل في تفسير هذه

الآية حيث يقول: «وأما أنّ إبليس أقرّ بطهارته، فلأنه قال: فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلّاعبادك منهم المخلصين، فأقر بأنه لا

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 294

يمكنه اغواء المخلصين، ويوسف من المخلصين لقوله تعالى: «انه من عبادنا المخلصين» فكان هذا إقراراً من إبليس بأنه ما أغواه وما أضله عن طريق الهدى وعند هذا نقول: هؤلاء الجهال الّذين نسبوا إلى يوسف عليه السلام الفضيحة إن كانوا من اتباع دين اللَّه تعالى فليقبلوا شهادة اللَّه تعالى على طهارته وإن كانوا من اتباع إبليس فليقبلوا شهادة إبليس على طهارته» «1».

«الآية الرابعة» تتحدّث عن سيرة النبي يوسف المليئة بالأحداث بعدما حصل بينه وبين امرأة العزيز ماحصل، وتشير إلى محنة اخرى وامتحان آخر للنبي يوسف «قَالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِى لُمْتُنَّنِى فِيهِ وَلَقَدْ رَا وَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ» فعندما امتد خبر وقوع هذه الحادثة ليشمل جميع بيوت المدينة وعلم الناس بقضية العشق الملتهب الّذي ألَمَّ بقلب امرأة العزيز اتجاه غلامها، فإنّ نسوة مصر اطلقن السنتهنَّ باللوم والتوبيخ لامرأة العزيز، ولكنها لما رأت ذلك أرادت إثبات براءتها فأعدت مائدة كبيرة واستضافت النسوة المعروفات ونساء الشخصيات الكبيرة في مصر، ثمّ طلبت من يوسف أن يخرج عليهن ويدخل عليهنَّ ذلك المجلس الحافل.

وعندما وقعت أعينهنَّ على الجمال العجيب ليوسف ارتبكن بشدّة وفقدن اختيارهُنّ وجرحنَّ أيديهنَّ بالسكين الّتي كانت بأيديهنّ لتقطيع الفاكهة وقلن جميعاً «حَاشَ لِلَّهِ مَا هذَا بَشَرًا إِنْ هذَآ إِلَّا مَلَكٌ» «2».

فعندما رأت امرأة العزيز منهن ذلك ورأت انها قد انتصرت في هذا الموقف، توجهت إليهنّ بالخطاب وقالت «قَالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِى لُمْتُنَّنِى فِيهِ وَلَقَدْ رَا وَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئن لَّمْ يَفْعَلْ مَآءَامُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مّنَ الصَّاغِرِينَ» «3».

وكان هو ثاني امتحان صعب يمر بيوسف حيث وقع بين

أمرين وطريقين، فاما أن الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 295

يستسلم لنوازع امرأة العزيز ويُرضي هيامها وعشقها منه، وبالتالي يعيش حالة الترف والدلال والنعمة الدنيوية، واما أن يقاوم هذه الرغبة الممنوعة ويكون مصيره السجن وتحمل أنواع الضغوط والصعوبات.

ولكن يوسف ومن دون أي ترديد انتخب الطريق الثاني وسأل اللَّه تعالى أن يوفقه لذلك وقال «قَالَ رَبّ السّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مّنَ الْجَاهِلِينَ» «1».

ويتضح من سياق هذه الآية أنّ نسوة مصر اللواتي حضرن في مجلس امرأة العزيز قد دعون يوسف إلى التسليم لامرأة العزيز والرضوخ لطلبها، فكلّ واحدة تحدثت معه بأنواع الوسوسة فأحداهنَّ تقول: ايها الشاب ألم تر الجمال الآسر لامرأة العزيز، ألست تلتذ بالجمال وممارسة العشق معها؟ والاخرى تقول: إذا لم يؤثر في قلبك جمال هذه المرأة فلا ينبغي أن تنسى انها زوجة عزيز مصر، فلو استطعت أن تكسب قلبها فسوف يكون بإمكانك التمتع بالثروة والمقام وتمام ما تريد في الحياة.

الثالثة تحذره من أنك لو لم يؤثر فيك جمال هذه المرأة، ولم تكن تهم بمقامها ومكانتها الاجتماعية ولكنك يجب أن تعلم بأن هذه المرأة سوف تغضب عليك وتتحول إلى موجود خطر يهدد حياتك، وسوف تنتقم بنفسها وترسلك إلى قعر السجون المظلمة حيث تنسى إلى الابد.

وبما أنّ الطريق الأخير الّذي يقف أمام يوسف وهو الوقوع في السجن الموحش فإنّ يوسف طلب من اللَّه تعالى ذلك فوراً، وخاطب ربّه بأن السجن احبُ إليَّ من الوقوع بالمعصية والإثم، فانا مستعد لدخول السجن اطاعة لأمره وحفظاً لحدوده ومن أجل المحافظة على شرفي وعفتي في مقابل طلب هؤلاء النسوة، وكان تهديد هؤلاء النسوة ليوسف بصورة جدية، وقد تمّ ذلك عملياً وأُلقي يوسف في

السجن، وبذلك انقذ نفسه وشرفه من تلوثات القصر ومفاسد المحيط حيث تذكر الآيات الّتي تلي هذه الآية أنّ ذلك السجن الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 296

الموحش كان في الحقيقة سُلَّماً لنيل يوسف مراتب سامية من الكمال الإلهي والمعنوي، وأخيراً تمكن يوسف بمشيئة اللَّه أن يجلس على عرش مصر واستطاع بمحافظته على تقواه وعفته وشرفه أن ينال كلّ شي ء، في حين أنّ جميع الملوثين افتضحوا ولم ينالوا مرادهم، فكان هذا هو جزاء اللَّه تعالى وثوابه الدنيوي للشرفاء والمخلصين من عباده، ويقول القرآن الكريم في سياق هذه الآيات فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» «1».

العفة السمة الأخلاقية للمؤمن:

«الآية الخامسة» من الآيات محل البحث تتحدّث عن الصفات البارزة للمؤمنين حيث يذكرها القرآن الكريم بعبارات قصيرة ومليئة بالمعنى ضمن بيان قسم مهم من صفات المؤمنين، ويذكر صفة العفة والطهارة بأنّها إحدى الصفات والخصال الممتازة لهؤلاء المؤمنين ويقول «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ* إِلَّا عَلَى أَزْوَا جِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَلِكَ فَأوْلَئكَ هُمُ الْعَادُونَ» «2».

والملفت للنظر أنّ القرآن الكريم يذكر من ضمن الصفات الممتازة للمؤمنين صفة العفة بعد الصلاه والزكاة والامتناع من اللغو وحتّى انه يذكرها قبل صفة الأمانة والوفاء بالعهد أيضاً.

العفة مفتاح النجاة:

وفي (آخر آية) من الآيات محل البحث يستعرض القرآن الكريم عشرة طوائف من الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 297

الرجال والنساء الّذين نالوا المغفرة من اللَّه تعالى والأجر العظيم، فتذكر الآية في سياقها أنّ الطائفة التاسعة من هؤلاء الرجال والنساء هم الّذين يعيشون العفة والطهارة من التلوث بالذنوب والّذين حفظوا اذيالهم وشرفهم من وحل الخطيئة.

وتشير الآية الكريمة إلى الطائفة العاشرة من هؤلاء في سياق بيان أوصافهم أنّهم كثيراً ما يذكرون اللَّه تعالى ولا يصعب أن تكون هذه الصفة مرتبطة مع الصفة السابقة، وهي العفة لوجود الارتباط الوثيق بين العفة وذكر اللَّه تعالى، فتكون من نتائج التحلّي بهذه الصفات هي المغفرة الإلهية والأجر العظيم الّذي لا يعلم عظمته إلّااللَّه تعالى.

وقد وردت في النصوص الدينية إشارة اخرى إلى أحد الطرق لحفظ النفس أمام تحديات الشهوة وطغيان الغريزة الجنسية، وهو «الصوم»، فعليه يكون بين العفة والصوم ارتباط وثيق ومباشر حيث يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ من اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةُ فَلْيَتَزَوَّجُ فَانَّهُ اغَضُّ لِلْبَصَرِ وَاحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعُ فَعَلَيهِ بِالصَّوْمِ» «1».

العفة في الروايات الإسلامية:

وقد ورد في المصادر الروائية الاهتمام الشديد بالعفة حيث نشير إلى بعض ما ورد فيها:

1- ما ورد عن أميرالمؤمنين عليه السلام: «افْضَلُ الْعِبادةِ الْعِفافُ» «2».

2- يقول الإمام الباقر عليه السلام: «مَا عُبِدَ اللَّهُ بِشي ءٍ افْضَلَ مِنْ عِفَّةِ بَطْنِ وَفَرْجٍ» «3».

3- وفي روايةٍ اخرى عن هذا الإمام في تفسيره للرواية السابقة انه جاء رجل إلى الإمام عليه السلام وقال: إني ضعيف العمل قليل الصيام ولكني أرجو أن لا آكل إلّاحلالًا. فقال له الإمام عليه السلام: «ايُّ الإجْتَهَادِ افْضَلُ مِنْ عِفَّةِ بِطْنٍ وَفَرْجٍ» «4».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 298

4- ويقول الإمام علي عليه السلام:

«اذا أَرادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيراً اعَفَّ بَطْنَهُ وَفَرْجَهُ» «1».

5- وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام يقول للمفضل في وصف الشيعي الواقعي:

«انَّمَا شِيعَةُ جَعْفَرٍ مَنْ عَفَّ بَطْنَهُ وَفَرْجَهُ وَاشْتَدَّ جَهَادَهُ وَعَمَلُ لِخَالِقِهِ وَرَجَا ثَوابِهُ وَخَافَ عِقَابَهُ، فَاذَا رَأَيْتَ اولئكَ فَاولئكَ شِيعَةُ جَعْفرٍ» «2».

6- ويقول أميرالمؤمنين علي عليه السلام: «قَدْرُ الرَّجُلِ عَلَى قَدْرِ هِمَّتِهِ، وَصِدْقُهُ عَلَى قَدْرِ مُرُوَّتِهِ، وَشُجَاعَتُهُ عَلَى قَدْرِ انْفَتِهِ وَعِفَّتُهُ عَلَى قَدْرِ غَيْرَتِهِ» «3».

النتيجة:

لقد تحصّل لدينا من خلال الآيات والروايات الشريفة أنّ الإسلام يهتم اهتماماً بالغاً بمسألة عبادة شهوة البطن والفرج وجعل من مسألة الغيرة على العرض علامة الشخصية المؤمنة وظاهرة من ظواهر سلوك الإنسان الشيعي الموالي لأهل البيت عليهم السلام، والتاريخ البشري حافلٌ بالحوادث المأساوية الّتي تمتد جذورها إلى هذين العاملين «شهوة البطن والفرج» لأن شهوة البطن لا تسمح للإنسان في التفكير المشروع لتحصيل الغذاء ورعاية حقوق الآخرين وسلوك طريق العدالة في تحصيله، ولهذا السبب فإنّها تدفع الإنسان إلى أنواع الخطايا والذنوب في سبيل ارضائها، مضافاً إلى ذلك فإنّ شهوة البطن تعدُ مصدراً وسبباً أكيداً إلى الكثير من الأمراض الجسمية والأخلاقية إلى درجة أنّ هذه الغريزة تصبح بمثابة الوثن الّذي يدعو صاحبه إلى عبادته وطاعته في جميع سلوكياته في حركة الحياة والواقع الاجتماعي.

وفي هذا المجال يقول النبي الأكرم صلى الله عليه و آله في معرض حديثه عن آخر الزمان «يَأْتِي عَلَى النّاسِ زَمانَّ بُطُونُهُمْ آلِهَتُهُمْ وَنِسَائُهُم قِبْلَتُهُمْ وَدَنَانِيرُهُمْ دِينُهُمْ، وَشَرَفُهُمْ مَتَاعُهُمْ، لا يَبْقى مِنَ الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 299

الايمَانِ الّا اسْمَهُ وَلا مِنَ الاسلامِ الّا رَسْمَهُ وَلا مِنَ القُرآنِ الّا دَرْسَهُ، مَسَاجِدُهُمْ مَعْمُورُةٌ مِنَ الْبَنَاءِ وَقُلُوبُهُمْ خَرَابٌ عن الْهُدى» «1».

وقد ورد في ذيل هذا الحديث أنّ اللَّه تعالى سوف

يبتلي هؤلاء الناس بأربع بلايا: جور السلطان، وقحط الزمان، وظلم الامراء والحكّام.

والفرق بين الظلم والجور «كما ورد التقابل بينها في الكثير من الروايات» يمكن أن يكون من جهة أنّ مفردة الجور في الأصل تعني الإنحراف عن طريق الحقّ، وعليه فإنّ جور السلطان يطلق على إنحراف سلوكيات أصحاب السلطة، في حين أنّ الظلم يعني عدم العدالة.

وفي حديث آخر عنه يقول «ايّاكَ وَادْمَانَ الشَّبَع فَانَّهُ يُهَيّجُ الاسْقَامَ وَيُثيرُ العِلَلَ» «2».

وروي عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «من وُقي شرّ بطنه ولسانه وفرجه فقد وُقي من جميع البلايا» «3».

طرق الوقاية من التحلل الأخلاقي:

اشارة

ومن أجل الوقاية من التحلل الأخلاقي وضبط الشهوات وخاصةً الشهوة الجنسية وشهوة البطن، هناك عدّة طرق عامة وكلية، أي سارية في عملية الوقاية من جميع المفاسد الأخلاقية من قبيل تطهير المحيط الاجتماعي، دور الرفاق والأصدقاء، تربية الاسرة، العلم والمعرفة بنتائج وآثار الرذائل الأخلاقية، المسائل الثقافية وأمثال ذلك.

وقد تحدّثنا في هذا المجال بصوره مفصلة وكاملة في الجزء الأوّل من هذه الدورة الأخلاقية تحت عنوان الشرائط اللازمة لتربية الفضائل الأخلاقية وهناك طريق آخر خاصّ الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 300

يتعلق بمسألة «العفة» في المسائل الجنسية وسائر الشهوات النفسانية حيث يمكن استعراض عدّة امور للوقاية من استفحال وطغيان هذه الغريزة وضبط النفس على مستوى السلوك الأخلاقي:

1- الحجاب وترك الزينة أمام الأجانب

لا شكّ أنّ أحد الامور الّتي تفعِّل الغريزة الجنسية وتزيد من ضراوتها هو «التعري والتزين بالنسبة للرجال والنساء» حيث يقع تأثير أحدهما بالآخر بشدّة وخاصة بالنسبة إلى الشباب العزاب بحيث يمكن القول أنّ التلوث بالخطايا الجنسية والإنحراف الجنسي يرتبط مباشرة بعدم الحجاب والتعري والتزين أمام الأنظار حتّى انه طبقاً لبعض الأحصائيات أنّ هناك علاقة طردية بين زيادة واشتداد هذا العامل وبين زيادة التلوث الجنسي والتحلل الأخلاقي، مثلًا في فصل الصيف وبسبب حرارة الجو فإنّ النساء يخففن من البستهنّ، وبهذه النسبة يتعرضن إلى التحرشات اللاأخلاقية من قِبل الشباب، وعلى العكس من ذلك فإنّ النساء في فصل الشتاء وبسبب الملابس الشتوية وارتداء الثياب الّتي توفر لهنّ الحماية من برودة الجو فإنّ التعرض والتحرش بهنَّ يقل عن فصل الصيف، ولهذا فقد ورد التأكيد في الشريعة الإسلامية على الحجاب حيث يذكر القرآن الكريم في آيات متعددة منها الآيات 31 و 60 من سورة النور، والآيات 33 و 53 و 59 من سورة الأحزاب على مسألة الحجاب

ويخاطب أحياناً النساء المؤمنات، وأحياناً اخرى نساء النبي، وثالثة يستثني العجائز والمسنات منهنّ حيث يتضح من ذلك التكليف الشرعي لسواهن، وعلى هذا يبين القرآن بعبارات مختلفة أهمية هذه الوظيفة الشرعية في حركة الحياة والمجتمع الإسلامي.

وبديهي أن ترك الحجاب أي السفور والتبرج هو مقدمة للتعري والتحلل الجنسي الّذي يترتب عليه نتائج وخيمة ومفاسد كبيرة في كلّ عصر وزمان.

إن التبرج وعدم الإلتزام بالحجاب يسبب أن تتحرك بعض النسوة في حالة منافسة ومسابقة مستمرة لابداء وعرض مكامن اجسادهن وتحريك الشبان من هذا الطريق، وهذه الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 301

الظاهرة تكاد تستفحل في هذا العصر والزمان بسبب مشاكل التحصيل العلمي وما يرافق الزواج من مشكلات اقتصادية وارتفاع سن الزواج بحيث إن الغالبية من أفراد المجتمع هم من العزاب، وبهذا فإنّ المخاطر والأزمات الاجتماعية والنفسية الّتي يعيشها الناس في هذا الزمان هي أكثر من أي وقتٍ مضى مضافاً إلى ذلك فإنّ التبرج والسفور من الناحية الأخلاقية والاجتماعية يتسبب في ارباك العوائل على مستوى الأمن والاستقرار ويؤدي إلى بروز الجرائم الجنسية والأزمات العائلية، ويؤدي أيضاً إلى ازدياد الانفعال العصبي والأمراض النفسية الاخرى أيضاً الّتي تعد أحد افرازات ونتائج ضعف الوشائج الاسرية والروابط العائلية وضعف قيمة شخصية المرأة في المجتمع.

2- عدم اختلاط الرجل والمرأة

لا شكّ أنّ المجتمعات البشرية المعاصرة لا تتمكن من الفصل التام بين الرجل والمرأة في حركة الواقع الاجتماعي، ولكن يمكن توقي الاختلاط في الموارد غير الضرورية وبذلك يتسنّى للمجتمع التوصل إلى حفظ العفة الاجتماعية والتقوى الجنسية أكثر، والسبب الّذي يحتم هذ الضرورة هو كثرة المفاسد الأخلاقية والفضائح الاجتماعية في مجتمعاتنا المعاصرة كما هو الملاحظ في المجتمعات الغربية الّتي تبيح اختلاط الذكور والأناث بصورة فاحشة.

3- رؤية التصاوير الخليعة والأفلام الرخيصة

إن للافلام الخليعة وبعض البرامج التلفزيونية دور مؤثر وكبير في تحريك الغريزة الجنسية وخاصة بين الشباب، حيث يقوم الانتهازيون والفئات المنحرفة بالتكسب والتجارة عن هذا الطريق اللامشروع ويعملون على نشر الفحشاء والمنكر من خلال صناعة الأفلام المبتذلة أو كتابة القصص الخليعة ونشرها بين أفراد المجتمع بالوسائل المختلفة فتنتقل عِبر الأمواج إلى شتّى بقاع المعمورة من دون أي رادعٍ ووازع شرعي أو قانوني، وبهذا يتمكنون من خلق التعقيدات النفسية والأخلاقية للمجتمع البشري، وأي غفلة عن الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 302

هذه السلوكيات المنحرفة تؤدي إلى السقوط الأخلاقي والحضاري للمجتمع الإنساني.

ومع غاية الأسف أنّ بعض الكتّاب وأهل العلم والمعرفة راجعوا هذه المسألة من موقع الانفعال، واستسلموا لهذه الفتنة، وسكتوا في مقابل تحديات الواقع المنحرف بحجّة أنّ مخالفة هذه الظواهر المنحرفة غير ممكنة، أو مخافة الظهور أمام الناس بمظهر مختلف ورجعي أو مخافة الاتهام بالاصولية والرجعية، ولهذا فقد تركوا التصدي لقوى الإنحراف هذه وسلّموا المجتمع الإسلامي إلى أمواج الخطر.

16

عامل الغفلة

تنويه:

«الغفلة» لها مفهوم واسع وشامل بحيث تستوعب في طياتها الجهل بشرائط الزمان والمكان وظروف الواقع الّذي يعيش فيه الإنسان وتشمل الظروف الماضية والحاضرة والمستقبلية، وكذلك أفعال الشخص وصفاته وسلوكياته وما يظهر له من آيات الحقّ والنذر والعِبر الّتي تتزامن مع حوادث المعيشة والوقائع الّتي تصيب الإنسان في حركة الحياة، والغفلة عن هذه الوقائع والحوادث وعدم اتخاذ موقف صحيح منها يمثل خطراً كبيراً يواجه سعادة الإنسان وشخصيته، هذا الخطر الّذي يمكن أن يحيط بالإنسان ويبتلعه ويهوي به في مطاوي النسيان والعدم، الخطر الّذي بإمكانه أن يهدر أتعاب الإنسان بسنوات لذيذة من عمره في لحظة واحدة.

ولعلّكم سمعتم كثيراً بأن الشخص الفلاني الّذي كان يمتلك ثروة طائلة قد فقدها في لحظة من

لحظات الغفلة، وهكذا حال الإنسان في طريق السعادة والحياة المعنوية، فيمكن أن يعيش الإنسان الغفلة في لحظة واحدة حتّى تتحول ثروته المعنوية وملكاته الإنسانية إلى رماد وتراب.

ولهذا السبب فإنّ علماء الأخلاق قد تحركوا في كتاباتهم لاستعراض مسألة «الغفلة»

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 304

وما يقابلها من «التذكر» وبحثوا أسباب هذه الظاهرة والعوامل الّتي تؤدي إلى استفحالها في وجود الإنسان أو الطرق الكفيلة بإزالتها والحدّ من نتائجها السلبية.

وبهذه المقدمة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته الإلهية ما يسلط الضوء على هذه المسألة المهمة في حياة الإنسان، والآيات الكريمة الّتي تتحدّث عن ظاهرة الغفلة كالتالي:

1- «وَلَقَدْ ذَرَأْ نَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ ا لْجِنّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّايَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّايُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لَّايَسْمَعُونَ بِهَآ أوْلَئكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أوْلَئكَ هُمُ ا لْغَافِلُونَ» «1».

2- «وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِىَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَاوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَةٍ مّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ» «2».

3- «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَوةِ وَا لْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُعَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ا لْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَاتُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا» «3».

4- «إِنَّ الَّذِينَ لَايَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ ءَايَاتِنَا غَافِلُونَ* أوْلَئكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ» «4»

5- «يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْأَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ» «5»

6- «سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِىَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ ا لْحَقّ وَإِنْ يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لَّايُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِنْ يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لَايَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْاْ سَبِيلَ ا لْغَىّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ» «6».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 305

7- «فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِى الْيَمّ بِأَنَّهُمْ

كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ» «1».

8- «فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ» «2».

9- «وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ» «3».

10- «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ». «4»

11- «لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مّنْ هذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ا لْيَوْمَ حَدِيدٌ». «5»

12- «وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ ا لْحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ ا لْأَمْرُ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ وَهُمْ لَايُؤْمِنُونَ». «6»

تفسير واستنتاج:

«الغفلة» المنبع الأصلي للمشكلات

«الآية الاولى من الآيات محل البحث تتحدّث عن أسوأ أفراد البشر وتستعرض في طياتها فئة من الناس هم أشقى الناس جميعاً وتصفهم بعدّة أوصاف وتقول «وَلَقَدْ ذَرَأْ نَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ ا لْجِنّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّايَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّايُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لَّايَسْمَعُونَ بِهَآ أوْلَئكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أوْلَئكَ هُمُ ا لْغَافِلُونَ» «7».

في هذه الآية الشريفة نجد أنّ عنصر الغفلة يمثل العامل الأساس لشقاء الإنسان والسبب الأصلي الّذي يدفع الإنسان إلى جهنم وبئس المصير، الغفلة الّتي تنشأ من ترك الإنسان بالتفكر والتدبر وعدم استخدام بصيرته وعدم إصغائه لصوت الحقّ حتّى يصل به الأمر إلى الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 306

أن يصل إلى مستوى الانعام بل اضل منها واتعس، لأن الأنعام إنّما تعيش الغفلة في حياتها بسبب انها خلقت كذلك وعدم وجود ملكة التنبه والتعقل في ذاتها، في حين إن الإنسان إذا عاش الغفلة في حياته مع وجود عوامل التنبه بأدوات التذكر والتعقل فسيكون أضل من الأنعام بالتأكيد.

إن مفهوم الآية أعلاه لا يعني أنّ اللَّه تعالى يجبر بعض الناس على سلوك طريق جهنم بل كما ورد التصريح في الآية نفسها أنّ أهل النار عندما صاروا من

أهل النار بسبب اختيارهم لهذا الطريق والسلوك الشائن، لأن اللَّه تعالى قد أعطاهم العقل ولكنهم لم يستخدموا عقولهم، وأعطاهم السمع والبصر ولكنهم لم يصحوا إلى الحقائق الإلهية في آذانهم ولم يروا آيات اللَّه بأبصارهم، إذن فكلما يواجهونه من مشاكل دنيوية أو اخروية فهو بسبب اختيارهم ومن ناحيتهم، وغاية الأمر أنّ اللَّه تعالى قد قرر قانوناً وناموساً يحكم عالم الوجود في دائرة الإنسان، وهو أنّ كلّ من لم يستخدم المواهب الإلهية في مجالها الخاصّ ولم يتحرّك في سبيل استخدام قابلياته الذاتية في طريق التكامل المعنوي فسيكون مصيره إلى جهنم في الآخر، فحصول هذا الشرط في هذا القانون يرتبط بإرادة الإنسان ذاته.

«الآية الثانية» تتحدّث عن الكتاب في عرصات يوم القيامة، في ذلك الوقت الّذي يقترب فيه وعد اللَّه حيث تسري فيه الوحشة ويملك الخوف جميع وجودهم وتتحجر عيونهم من الرعب، وهناك يتعالى صراخهم وعويلهم وينادون بالويل والثبور على ما كانوا في غفلةٍ من هذا الحال «وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِىَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَاوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَةٍ مّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ» «1».

وعلى هذا فإنّ هذة الفئة من الناس يُقرون بأن «الغفلة» هي العامل الأساس في انحرافهم عن جادة الحقّ، الغفلة الّتي دعتهم إلى أن يتحركوا من موقع الظلم على أنفسهم وعلى الآخرين وتركهم لدعوة الأنبياء والكتب السماوية والقاءها وراء ظهورهم.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 307

هؤلاء يتحدّثون بهذا الكلام عندما تصيب الزلزلة جميع عالم الوجود وتتجلّى يومئذٍ علامات القيامة وتزول حجب «الغفلة»، وهناك يعيش هؤلاء الندم حيث تكون أبواب التوبة والانابة إلى اللَّه مؤصدة أمامهم «1».

«شاخصة» من مادّة «شخوص» وهي في الأصل بمعنى الخروج من المنزل أو المدينة إلى مدينة اخرى، وبما أنّ الإنسان عندما

يستولي عليه الرعب تشحب عيناه وتتوقفان عن الحركة حيث يظل ينظر إلى نقطة معينة في حالة من البهت بحيث تكاد تخرج حدقة العين من مكانها، فهذه الحالة يطلق عليها بالشخوص.

«الآية الثالثة» تخاطب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله من موقع الارشاد لمن يصح معاشرتهم والحياة معهم وتقول «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَوا ةِ وَا لْعَشِىّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُعَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ ا لْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَاتُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا» «2».

في هذه الآية نقرأ صفات الأشخاص الّذين يمتلكون اللياقة ليكونوا في صحبة النبي ورفقته من موقع اتصافهم بالايمان والعبادة وذكر اللَّه تعالى في الصباح والمساء، وتحذر الآية الشريفة أيضاً من اطاعة الغافلين عن ذكر اللَّه والّذين يتحركون من موقع الأهواء والشهوات إلى درجة الافراط، ومن خلال مضامين هذه الآية الكريمة نستوحي وجود علاقة بين اتباع الهوى وبين الغفلة، أجل فإنّ الغافلين عن ذكر اللَّه هم الّذين يتبعون أهوائهم ويعيشون حالة الافراط في سلوكياتهم، ولو لم يكن في ذمّ «الغفلة» الا هذا لكفى

وطبقاً لما بيّنته الآية أعلاه من أنّ اللَّه تعالى قد أغفل قلوب هؤلاء «أغفلنا قلبه عن الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 308

ذكرنا» يتضح جيداً أنّ ذلك كان نتيجة أعمالهم السيئة في الحياة الدنيا وعلى شكل عقوبة إلهية.

والمعروف أنّ الآية محل البحث نزلت في طائفة من الأثرياء والمتكبرين في عصر النزول حيث جاءوا إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وقالوا له: يا رسول اللَّه، إنك لو جلست في صدر المجلس ونحيت عنّا هؤلاء وأرياح جبابهم- يعنون بذلك سلمان وأبا ذر وفقراء المسلمين وكانت عليهم جباب الصوف ولم يكن عليهم غيرها- جلسنا إليك وحادثناك

وأخذنا عنك، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية إلى قوله: إنا اعتدنا للظالمين ناراً ... «1».

إن اللَّه تعالى كان يعلم ما في نفوس هؤلاء الغافلين وأنّهم يعيشون الادعاءات الفارغة والشعارات الجوفاء وأنّهم ليسوا بقابلين للاعتماد والثقة لا في حالة الصلح ولا في زمن الحرب ولا يمكن الاستفادة من أفكارهم، ولهذا حذّر اللَّه تعالى نبيّه الكريم صلى الله عليه و آله من وساوسهم.

«الآية الرابعة» تتحرك في سياقها من خلال استعراض بعض أوصاف أهل النار وتقول:

«إِنَّ الَّذِينَ لَايَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ ءَايَاتِنَا غَافِلُونَ* أوْلَئكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ» «2»

في هذه الآية الكريمة نقرأ أنّ السبب الأساس لانكار المعاد لدى بعض الناس ورضاهم بالحياة الدنيا ونسيان الآخرة هو «الغفلة» عن آيات اللَّه والّتي تمثل هذه الحالة المحور والمصدر الحقيقي لشقاء الإنسان وتورطه في المشاكل والمصائب، في حين أنّ السبب الحقيقي لسعادة المؤمنين وأصحاب النعيم في الآخرة يمتد في جذوره إلى حالة التنبأ والتذكر والانفتاح على اللَّه تعالى كما ورد ذلك في الآيات الّتي تلي هذه الآية.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 309

ونقرأ في تفسير روح البيان في ذيل هذه الآية حديثاً قدسياً يقول: العجب ممّن يؤمن بالنار كيف يضحك؟ وممّن يتعلق بالدنيا وهو يعلم أنّه مفارقها، ومن الغافلين كيف يلهون في حين أنّهم يعلمون أنّه لا يُغفل عنهم.

ويتحدّث صاحب التفسير المذكور في ذيل هذا الحديث الشريف عن قصة «النعمان بن المنذر» الّذي كان أحد ملوك الحيرة في عصر الجاهلية، ويقول: في أحد الأيّام كان هذا الملك جالساً للهو واللعب تحت شجرة وارفة الظلال، فقال له «عدي» وكان أحد أقربائه:

أيّها الملك أنّ هذه الشجرة تغني فهل تعلم ما تقول؟ هذه الشجرة تقول:

رُبَّ رَكْبٍ قَدْ

اناخُوا حَولَنا يَمزَجُون الخَمْرَ بِالمَاءِ الزُّلالِ ثُمَّ اضْحُوا اسَفَ الدَّهرُ بِهِم وَكَذاك الدَّهرُ حالًا بَعد حالٍ «1»

«الآية الخامسة» تتحدّث عن الأشخاص الّذين يعيشون «الغفلة» عن أسرار وقضايا عالم الوجود ولا يرون إلّاظواهر الامور، ويقنعون بهذا الظاهر الجذّاب لهذه الحياة الدنيا عن حقيقتها مع الغفلة عن باطنها الّذي يشير إلى الحياة الاخرى وتقول «يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْأَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ». «2»

فلو أنّ الغفلة لم تلق عليهم بظلالها ولم تكبل عقولهم بقيودها لرأوا في كلّ شي ء وفي كلّ كائنٍ وموجود من هذا العالم آية من الآيات الّتي تدلّ على اللَّه تعالى والمعاد، فالقرآن الكريم يستعرض أسرار عالم الخلقة ويقرر أنّ هذا النظام المدهش للعديد من عالم المادّة والطبيعة إنّما هو آية وعلامة على وجود اللَّه تعالى وعلامة كذلك على المعاد والحياة بعد الموت من خلال الحوادث المشاهدة والملموسة في حركة الحياة والواقع، غاية الأمر انه لا يدرك مغزى هذه الآيات والعلامات ولا يقرأ مضمونها الباطني سوى أصحاب البصيرة الّذين قرؤوا نغمة التوحيد والمعاد في باطن هذه الحوادث لا الأشخاص الّذين يتعاملون مع الحياة الدنيا من موقع الأهواء والنوازع المادية الرخيصة.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 310

هذا وإن تكرار ضمير «هم» في الآية الشريفة يعد تأكيداً على هذا المطلب، وهو أنّ «الغفلة» هي السبب في أن يتحرّك الإنسان من موقع الظواهر فحسب ولا يرى واقع الحال ويتوغل في باطن الامور.

والجدير بالذكر أنّ مفردة «الغفلة» وردت في موارد تكون فيها أسباب ومقدمات التذكر والتنبه متوفرة لدى الإنسان، ولكنه وبسبب اتباعه للأهواء أو بسبب ضعف الإيمان أو لأسباب اخرى فإنه يتغافل عنها، والشاهد على ذلك الآيات الّتي وردت بعد هذه الآية من سورة الروم حيث يستعرض اللَّه تعالى

فيها نماذج من آثار التوحيد والمعاد في عالم الخلقة وفي واقع الإنسان ويحذّر الغافلين عن التمادي في غفلتهم وينذرهم من عاقبة هذه الحالة الوخيمة.

«الآية السادسة» تتحدّث عن أخطر فئة من الكفّار، وهم الّذين يعيشون حالة التكبر والعناد مضافاً إلى كفرهم، وفي آخر الآية تقرر السبب الّذي ساقهم إلى الشقاء الدائم، وهو الغفلة عن آيات اللَّه وتقول: «سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِىَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِى الْأَرْضِ بِغَيْرِ ا لْحَقّ وَإِنْ يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لَّايُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِنْ يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لَايَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْاْ سَبِيلَ ا لْغَىّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ» «1».

وقد وقعت هذه الجملة من الآية الكريمة «سَأَصْرِفْ عَن آيَاتِي» مورداً لبحث المفسّرين ومناقشاتهم، ولعلّه كان بسبب أنّ من المسلّم أنّ اللَّه تعالى يهدي الناس إلى طريق الحقّ، وأساساً فإنّ جميع الأنبياء والأوصياء كانوا يهتمون بارشاد الناس وهدايتهم إلى اللَّه تعالى، فكيف يجتمع هذا المعنى مع قوله تعالى «سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِىَ» وانه تعالى هو الّذي يحرم هؤلاء عن الهداية والتوفيق لرؤية هذه الآيات على نفسها، ولهذا نجد أنّ الكثير من المفسّرين قد تكلفوا تأويل هذه الآية بما لا يتناقض مع الاصول والمبادى ء المسلمة.

ويتضح الجواب عن هذا السؤال من خلال استعراض الآيات القرآنية الاخرى في هذا

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 311

المجال، حيث تمثل بعض اعمال الإنسان وحالاته النفسية من قبيل التكبر والعناد أمام الحقّ والتعصب الشديد حجباً مظلمة على قلب الإنسان تمنعه من مشاهدة جمال الحقّ، وفي الواقع أنّ هذه الأعمال والصفات القبيحة هي الّتي تسبب حجبهم عن الحقّ وتمنعهم من رؤية آيات اللَّه، وعندما تنسب الآية عملية الحجب هذه إلى اللَّه تعالى فإنما ذلك بسبب أنّ اللَّه تعالى قد جعل هذه النتيجة كعقوبة

طبيعية واثر طبيعي مترتب على تلك الأعمال والصفات، أي أنّ الانصراف عن آيات اللَّه هو نتيجة طبيعية مقررة في قانون الخلقة لمن يمارس تلك الأعمال والصفات القبيحة.

والجدير بالذكر أنّ الآية الشريفة تقرر في ختامها وتؤكد على أنّ سبب انصرافهم عن آيات اللَّه هو تكذيبهم وغفلتهم عن هذ الآيات.

«الآية السابعة» تتحرك من خلال استعراض حالة العناد لدى الفراعنة في مقابل الآيات الإلهية والبلايا المتنوعة الّتي أنزلها اللَّه على هؤلاء القوم الفاسقين لينتهوا من غفلتهم ويؤوبوا إلى رشدهم ويتبعوا نبيّهم «موسى بن عمران» وتقول «فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِى ا لْيَمّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ» «1».

ومن خلال السياق القرآني في هذه الآية نستوحي أنّ مصدر شقاء قوم فرعون وهلاكهم هو تكذيب الآيات الإلهية والغفلة عنها، ويمكن أن تكون «الغفلة» سبباً للتكذيب، فإنّ الجذر الأصلي لشقائهم هو «الغفلة» عن آيات اللَّه، أو أنّهم قد تحركوا في مقابل الدعوة السماوية من موقع التكذيب أحياناً والغفلة أحياناً اخرى، وبهذا يكون كلّ من التكذيب والغفلة سبباً مستقلًا للشقاء والهلاك.

بعض المفسّرين يرى أنّ ضمير «عنها» يعود إلى النقمة الإلهية والعذاب الإلهي، ففي هذه الصورة يكون عنصر التكذيب بآيات اللَّه هو الموجب لشقائهم، ولكن هذا الاحتمال ضعيف جداً لأن هذا الضمير ورد إلى جانب الآيات، وحسب الظاهر انه يعود عليها، وقد أورد بعض الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 312

المفسّرين سؤالًا هنا، ولعلّ هذا السؤال كان هو السبب في احتمال عودة الضمير إلى النقمة والعذاب، وهو أنّ «الغفلة» حالة غير اختيارية ولذلك لا يمكن أن تستوجب عذاب اللَّه للإنسان.

ولكن الجواب عن هذا السؤال واضح، لأن «الغفلة» في كثير من الموارد تكون اختيارية في جذورها ومقدماتها، فعندما يتحرك الإنسان باتجاه آيات اللَّه ولا يتدبر

فيها ولا يصغي لكلمات الأنبياء، فمن الطبيعي أن تستولي عليه حالة الغفلة، ومن هذا المنطلق نجد الناس كثيراً ما يذمون المجرمين والمنحرفين بسبب غفلتهم.

«الآية الثامنة» وبالرغم من انها لم تذكر كلمة «الغفلة» في سياقها، إلّاأنّ محتواها العام يتضمّن مفهوم الغفلة، فهذه الآية تتحدّث عن المشركين في عصر النزول الّذين كانوا يتحركون من موقع الغفلة الشديدة وأحياناً ينتبهون من غفلتهم ويتجهون نحو التوحيد في حالات خاصّة، وأحياناً اخرى يغرقون في مستنقع الشرك والضلالة تماماً، فتقول الآية «فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ» «1».

أجل، فإنّ اعصار الحوادث والأخبار من شأنه أن يزيح حُجب «الغفلة» عن أبصار هؤلاء ويتجلّى لهم حقيقة الأمر وواقع الحياة الدنيا، فطائفة منهم تستثمر هذا التنبيه وهذه اليقظة في حركتها التكاملية والمعنوية ويتحركون لاصلاح أخطائهم وجبران ما فاتهم من العمر، ولكن هناك طائفة اخرى وهم الأكثرية يتنبهون في هذه اللحظات فحسب وبعد انتهاء الحادثة يعودون ادارجهم نحو ما كانوا يعيشونه من الغفلة واتباع الهوى في خط الباطل والإنحراف.

بعض المفسّرين يذكر في ذيل هذه الآية أنّ المشركين كانوا يصطحبون معهم أصنامهم في أسفارهم البحرية ليحفظونهم من الغرق ولكنهم عندما يواجهون الخطر ويرون أمواج البحر الرهيبة الّتي تتقاذفهم من كلّ جانب كالريشة في مهب الريح فإنّهم يلقون بأصنامهم الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 313

في البحر ويتجهون نحو اللَّه بكلّ اخلاص ويتعالى صراخهم «يااللَّه يا اللَّه» «1».

«الآية التاسعة» تقرر حكماً عاماً وكلياً بالنسبة إلى جميع أفراد البشر وتقول «وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ» «2».

أجل، فإنّ التوجه إلى اللَّه تعالى يتسبب أن يكون الذاكر جليس الملائكة بمقتضى قوله تعالى «انّ الَّذِينَ قَالُوا

رَبُّنا اللَّهُ ثُمَّ استَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائِكة ...».

والحال أنّ التغافل عن ذكر اللَّه يفضي بالإنسان أن يكون قرين الشياطين الّذين يسوقونه إلى حيث يريدون كما تقول الآية الشريفة «نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ» وفي الواقع أنّ عمله هذا أي «الغفلة» عن آيات اللَّه يورثه البعد عن رحمة اللَّه وبالتالي يكون قرين الشياطين البعيدة عن رحمة اللَّه، وبعبارة اخرى: أنّ هذه الحالة هي جزاءه الدنيوي على حالة الغفلة هذه.

وبالنظر إلى أنّ كلمة «يعش» من مادّة «عشو» على وزن «نَشَر»، بمعنى ضعيف النور في بصره فلا يرى شيئاً بوضوح وكأنما يغطي عينه حجاب فلا يرى الحقيقة بوضوح، ومفهومها ليس هو سوى الغفلة والاعراض عن اللَّه تعالى، ويقول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ شَرّاً قيِّضَ لَهُ شَيطاناً قَبْلَ مَوتِهِ بِسَنَةٍ، فَلا يرى حَسَناً الّا قَبَّحَهُ عِنْدَهُ حَتَّى لا يَعْمَلُ بِهِ، وَلا يَرى قَبِيحاً الّا حَسَّنَهُ حَتّى يَعْمَلُ بِهِ» «3».

وفي «الآية العاشرة» يتحدّث القرآن الكريم عن المتقين والّذين يقابلون امواج الوساوس الشيطانية ويعالجون حالات الغفلة مهما كانت قليلة بذكر اللَّه تعالى، فتكون النتيجة أنّ حجب الغفلة وتراكمات الوساوس تنقشع عن القلب وتنفتح البصيرة فتقول الآية

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 314

«إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ» «1».

هذا التعبير في الآية الكريمة يشير إلى أن ذكر اللَّه تعالى يورث الإنسان بصيرةً في قلبه في حين أنّ الغفلة عن ذكر اللَّه تمهد الطريق لنفوذ الشياطين إلى قلبه.

«طائف» يعني من يطوف حول شي ء معين، والمراد به كما ذكره جمعٌ من المفسّرين الكبار هو الوساوس الشيطانية الّتي تطوف حول قلب الإنسان لتتمكن من العثور على منفذ لها في كعبة القلب وتحول

هذا القلب إلى معبد للأوثان، وعملية النفوذ هذه لا تتسنى لهؤلاء الشياطين إلّافي حالة «الغفلة» عن ذكر اللَّه، لأن الإنسان بمجرد أن يذكر اللَّه تعالى فإنّ الوساوس والخطرات الشيطانية سوف تبتعد وتتلاشى ويتجلّى حينئذٍ نور الحقّ أمام بصيرة الإنسان في حركته المنفتحة على اللَّه والحقّ.

«الآية الحادية عشر» تتحدّث عن الغافلين الّذين يعيشون حالة الغفلة والجهل المطلق إلى آخر عمرهم، ولكن عندما يحين أجلهم ويقعون في سكرات الموت ويرون بامّ أعينهم آثار أعمالهم السيئة فحينئذٍ يعيشون الرعب والقلق الشديد، فيقال لهم حينئذٍ «لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ مّنْ هذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ا لْيَوْمَ حَدِيدٌ» «2».

إن الآيات القرآنية هذه توحي بوجود ملكين يصطحبون الإنسان في عرصات المحشر، أحدهما يسوقه إلى محكمة العدل الإلهي، والآخر يحضر بعنوان الشاهد على أعماله، ويحتمل أن يكون هذان الملكان هما الّذين كانا يصطحبان الإنسان في الحياة الدنيا ويكتبون أعماله الصغيرة والكبيرة، ففي القيامة يأخذان بيد المجرمين ومعهما كتابهما هذا إلى حيث المحكمة الإلهية الكبرى ولكنَّ هؤلاء المجرمين لم يكونوا يحسون بوجود هذين الملكين في الحياة الدنيا بل لم يكونوا يؤمنون بوجودهما بالرغم انهما يصحبون كلّ إنسان في هذه الحياة، ويوم القيامة حيث تزاح الحجب وتزال الاستار وتنفتح عين البصيرة يرى الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 315

الإنسان هذه الحقيقة الناصعة.

«الآية الثانية عشر» والأخيرة من هذه الآيات محل البحث تتحدّث عن يوم القيامة وتبين حالات الغافلين في هذا اليوم الملي ء بالحسرات واشكال الحزن وتقول «وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ ا لْحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ ا لْأَمْرُ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ وَهُمْ لَايُؤْمِنُونَ» «1».

وأحد أسماء يوم القيامة هو يوم الحسرة، لأن الغافلين الّذين كانوا يعيشون في هذه الدنيا بعيداً عن الحقّ سوف ينتبهون من نومتهم هذه ويرون

جميع أعمالهم، فهناك سيجدون أمامهم كتاب يقرر ما ارتكبوه من أعمال، فهناك من جهة اخرى الملائكة الّذين يشهدون عليهم، ومن جهة ثالثة والأشد من ذلك هو شهادة أعضاء الإنسان حتّى الجلد على ما ارتكبته في الحياة من أعمال وسلوكيات شائنة، وهناك ترتفع نار الندم والحسرة وتستولي على وجود الإنسان ولكنهم لا يجدون طريقاً سوى مزيد التحسر على ما فاتهم من فرص ثمينة في الحياة الدنيا، فليس لهم الرجوع للعودة لجبران ما فات لأن الطريق موصد من خلفهم والكتب قد اغلقت، فلا مجال للتوبة والانابة، ولذلك سيملأ الحزن وجودهم وخاصّةً عندما يسمعون نداء الملائكة الموبخ لهم حيث يقولون «لقد كنت في غفلةٍ من هذا».

وبديهي أنّ هذه الغفلة لا تتعلق بحالات يوم القيامة ولا عالم البرزخ، لأن الإنسان وبمجرد أن ينتقل من هذه الدنيا ويعانق الموت فإنّ سحب الغفلة ستزول أمام عينه ويرى حقائق العالم كما هي، وحينئذٍ لا يبقى معنى لمفهوم «الغفلة» كما تقول الآية 99 و 100 من سورة المؤمنون «حَتَّى إذا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُون* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيَما تَرَكْتُ كَلَّا انَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمِ بَرْزَخٌ الَى يَومِ يُبْعَثُونَ».

النتيجة:

وممّا نستوحيه من الآيات المذكورة آنفاً أنّ الخطر الّذي يعيشه الإنسان بسبب الغفلة

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 316

عن ذكر اللَّه وتجاهل الحقائق الّتي تستبطن عالم الوجود أكثر ممّا يتصور عادةً حيث بإمكان «الغفلة» أن تدمر جميع اركان سعادة الإنسان وتحرق في أجوائها جميع الآمال الإيجابية في حياة كريمة وتهدر جميع طاقاته وقابلياته الّتي يمكنه التوصل بها إلى أعلى مراتب الكمال المعنوي والإنساني وتحولها إلى رماد وهباء منثور.

الغفلة في الروايات الإسلامية:

وقد ورد في النصوص الروائية أحاديث مثيرة حول عواقب الغفلة وآثارها السيئة والمدمرة في حياة الإنسان، وبسبب كثرة هذه الروايات فسوف نختار منها ما يلي:

1- عندما توجه النبي صلى الله عليه و آله في معراجه إلى السماء سمع الخطاب الإلهي له يقول «يَا احْمَدَ انْتَ لا تَغْفَلْ ابَداً مَنْ غَفَلَ عَنِّي لا ابَالِي بِايٍّ وَادٍ هَلَك» «1»

. وهذا الحديث يبين بوضوح أنّ عاقبة الغفلة هي الهلاك والدمار والمحقّ.

2- ما ورد عن الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام في عبارة مختصرة ومليئة بالمعنى «الْغَفْلَةُ اضَرُّ الاعْدَاء» «2»

لأن الغفلة هي السبب في الكثير من الذنوب والآثام في واقع الإنسان وسلوكه.

3- ويقول أميرالمؤمنين عليه السلام أيضاً في حديث آخر «الْغَفْلَةُ تَكْسِبُ الإغْتَرارَ وَتُدْنِي مِنَ البَوَارِ» «3».

4- وأيضاً ورد عن هذا الإمام عليه السلام أنّه قال: «الْغَفْلَةُ ضَلالُ النُّفُوسِ وَ عُنْوَانُ النُّحُوسِ» «4».

لأن الطريق الوحيد للنجاة من الضلال هو التفكر والتدبر ولكن الغفلة هي الّتي تصد الإنسان عن هذا الطريق المنفتح على اللَّه والحقّ.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 317

5- وفي حديث آخر عن هذا الإمام عليه السلام أيضاً أنّه قال: «وَيلٌ لِمَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الْغَفْلَةُ فَنَسِىَ الرَّحْلَةَ وَلَمْ يَسْتَعِدْ» «1».

6- وعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «إنْ كَانَ الشَّيطانُ عَدُوّاً فَالْغَفْلَةُ لِمَاذَا» «2».

وتقدّم

في الأحاديث السابقة أنّ الغفلة تارةً تكون عن اللَّه، واخرى عن يوم القيامة، وثالثة عن وساوس الشياطين وهكذا.

7- ويقول أميرالمؤمنين عليه السلام: «فَيَا لَهَا حَسْرَةً عَلَى كُلِّ ذِي غَفْلَةٍ انْ يَكُونَ عُمُرُهُ عَلَيْهِ حُجَّةً وَانْ تُؤَدِّيَهُ ايَّامُهُ الَى الشَّقْوَةِ» «3».

والمقصود من الغفلة في هذا الحديث هو الغفله عن أداء الوظائف والواجبات الدينية طيلة العمر.

8- وقد ورد في بعض الروايات أنّ هذه المسألة إلى درجة من الأهمية حتّى انها اعتبرت هي الهدف لبعثة الأنبياء، أي لعلاج مرض «الغفلة» بين الناس، كما نقرأ في الخطبة 108 من خطب نهج البلاغة في بيان صفات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله «مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ وَمَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ» «4».

9- وفي حديثٍ آخر عن هذا الإمام العظيم يتحدّث فيه عن آثار الغفلة المخربة ونتائجها المدمرة في حياة الإنسان ويقول: «بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْمَوْعِظَةِ حِجَابٌ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالغِرَّةِ» «5».

10- وقد ورد في الروايات الإسلامية عن حالات عيسى ابن مريم أنه مرّ على قرية مات أهلها بسخط اللَّه، فأحيا عيسى بن مريم واحداً منهم وسأله عن أعمالهم. قال: عبادة

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 318

الطاغوت وحبّ الدنيا مع خوف قليل وأمل بعيد وغفلة في لهو ولعب» «1».

11- ويقول أميرالمؤمنين عليه السلام بالنسبة للآثار الاجتماعية لحالة الغفلة «مِنْ دَلائِلِ الدَولَةِ قِلَّةُ الْغَفْلَةِ» «2».

أجل فإنّ الغفلة وتجاهل الامور الاجتماعية ستفضي إلى ضياع الدولة.

12- ونختم هذا البحث بحديثٍ عن أميرالمؤمنين حيث يبين للناس مخاطر الغفلة ويحذرهم من سوء عاقبتها ويقول «اتَّقِ ايُّهَا السَّامِعُ مِنْ سَكْرَتِكَ وَاسْتَيْقِظْ مِنْ غَفْلَتِكَ، وَاخْتَصِرْ مِنْ عَجَلَتِكَ» «3».

وطبقاً لهذا البيان الشامخ فإنّ السبب الأساس لشقاء الإنسان يكمن في ثلاث أشياء:

سكر الشهوة، الغفلة عن حقائق العالم، العجلة في الامور، حيث نجد أنّ الإمام أميرالمؤمنين

يحذر في هذا الكلام المختصر أفراد الإنسان من كلّ طائفة وقوم من هذه العناصر الثلاثة ليكونوا من أهل النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة.

النتيجة:

وبالرغم من أنّ أكثر الناس يعيشون الغفلة عن نتائج حالة الغفلة، ولكن أئمّة الدين كانوا يرون الفاجعة المترتبة على هذه الحالة المأساوية، وبيّنوا للناس بعبارات مختلفة وخامة هذا المرض العضال كما تقدّم آنفاً في الأحاديث الشريفة ودعو الناس إلى التدبر والتفكر.

والجدير بالذكر أنّ «الغفلة» لها مفهوم واسع وشامل، أي أنّ هذه المفردة وهذا المفهوم يشمل موارد كثيرة منها الغفلة عن اللَّه، والغفلة عن يوم القيامة، والغفلة عن كون الحياة الدنيا

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 319

مهزوزة وغير مستقرة، والغفلة عن الشيطان ووساوسه، وبشكل عام فإنّ الغفلة تستوعب جميع الامور الّتي تتعلق بشكل أو بآخر بسعادة الإنسان في حركة الحياة.

ملاحظات مهمة حول الغفلة:

اشارة

بالرغم من أنّ هذه الصفة لها تأثير كبير في حياة الإنسان ومصيره وتعد من الصفات الرذيلة، ولكن قد يثار هذا السؤال، وهو انه لماذا لم يتعرض علماء الأخلاق لهذه الرذيلة في كتاباتهم وكلماتهم، وحتّى لو تعرضوا لها بالكلام فلا يكون كلاماً وافياً لهذا الموضوع المهم، وعلى أي حال فهناك عدّة مباحث في هذا الموضوع تستحق الدراسة والبحث كلًا على انفراد وهي:

1- عوامل الغفلة

ألف) الجهل «الغفلة» لها مصادر وأسباب كثيرة، من أهمها الجهل وعدم الاطلاع على حقيقة الحال، وكذلك عدم معرفة اللَّه في مقام الربوبية وعدم الاهتمام بمسألة المعاد وكذلك عدم معرفة وهمية الثروة والمناصب الدنيوية والجهل بوساوس الشيطان وأمثال ذلك.

ويقول الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام في هذا المجال «انَّ مَنْ عَرَفَ الايَّامَ لَمْ يَغْفَل عَنَ الاسْتِعْدَادِ» «1».

ب) الغرور والانانية

يعتبر الغرور أحد عوامل الغفلة وأحياناً يكون الغرور نتيجة للغفلة أيضاً، لأن الإنسان المغرور لا يرى إلّانقاطه الإيجابية ولا يفكر إلّابميزاته الذاتية، وقد يتصور أحياناً انها باقية له مدى الحياة، وهذا الأمر يسبب له الغفلة عن الحقائق في عالم الوجود والّتي يكون لها دور هام في أن يتعرض هذا الإنسان للهزيمة والاندحار.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 320

وقد شوهد في التاريخ البشري شخصيات كثيرة قد وقعت في أسر «الغفلة» بسبب الغرور والعجب وتعظيم الذات حيث سلبتهم هذه الحالة القدرة على رؤية الواقع كما هو فتعرضوا للهزيمة أمام الأعداء ولم يتمكنوا من الصمود لأنهم لم يكونوا يروا نقاط ضعفهم.

ج) سكر النعمة

سكر النعمة (والّذي يشبه الغرور إلى درجة كبيرة ولكنه يختلف عنه في الواقع) قد يوقع الإنسان في مستنقع الغفلة أيضاً، فعندما تنفتح الدنيا على بعض الأشخاص فسوف يصابون بسكر النعمة، وسكر النعمة هذا يوقعهم في مهاوي الغفلة عن الواقع المحيط بهم

وتستمر هذه الغفلة حتّى يحين أجلهم ويستيقظون من نومتهم وسكرهم كما ورد عن أميرالمؤمنين عليه السلام قوله «مَنْ غَفَلَ عَنْ حَوَادِثِ الايَّامِ ايْقَضَهُ الْحِمَامُ» «1».

ويقول الإمام زين العابدين عليه السلام أيضاً «انَّ قَسْوَةَ الْبَطْنَةِ وَفَتْرَ الْمَيْلَةِ وَسَكْرَ الشَّبَعِ، وَعِزَّةَ الْمُلْكِ مِمَّا يُثَبِّطُ وَيُبْطِي عَنِ الْعَمَلِ وَيَنْسِي الذِّكْرَ وَيُلْهِي عَنِ اقْتِرَابِ الاجَلِ حَتّى كَانَّ الْمُبْتَلى بِحُبِّ الدُّنيَا بِهِ خَبْلٌ مِن سُكْرِ الشَّرَابِ» «2».

د) العافية والسلامة البدنية

بالرغم من أنّ السلامة البدنية والعافية الجسمانية تعد من النعم الإلهية الكبرى على الإنسان، ولكنها من جهة اخرى تعد من عوامل الغفلة أيضاً، وهذا فإنّ من الالطاف الإلهية الخفية أن تؤخذ هذه السلامة البدنية من الإنسان ويبتلى بألوان المحنة والمرض لكي تزول عن بصيرته سُحب الغفلة، فيرى بعين القلب حقائق العالم، ويتحرك حينئذٍ في سلوكياته وأفكاره بالاتجاه المناسب والطريق الصحيح.

ولهذا أيضاً نجد أنّ الحديث الشريف الوارد عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يذكر فيه منافع وبركات المرض ويقول مخاطباً سلمان الفارسي حينما عاده في مرضه «انتَ مِنَ اللَّهِ بِذِكْرٍ وَدُعَاؤُكَ الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 321

فِيهِ مُسْتَجَابٌ» «1»

. أي أنك الآن تعيش حالة التذكر والتنبه وقد زالت منك حجب الغفلة ولهذا فإنّ دعائك مستجاب.

ه) طول الأمل وأحد العوامل الاخرى للغفلة هو طول الأمل والتمنيات الدنيوية الموهومة، حيث تستولي على قلب الإنسان وفكره وتجعله غافلًا عمّا يراد به، ويقول أميرالمؤمنين عليه السلام في الخطبة المعروفة بالديباج «وَاعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ انَّ الامَلَ يَذْهَبُ الْعَقْلَ وَيُكَذِّبُ الْوَعْدَ وَيَحِثُّ عَلَى الْغَفْلَةِ وَيُورِثُ الْحَسْرَةَ» «2».

2- العواقب المشؤومة للغفلة

إن الغفلة عن ذكر اللَّه والمعاد وما يتعرض له الإنسان في هذه الحياة من محن وابتلاءات بسبب الذنوب والآثام كلّ هذه الامور تؤدي بالإنسان إلى الوقوع في منزلقات الخسران

والفناء وتسبب له اضراراً غير قابلة للجبران والتدارك، كما ورد هذا المعنى في كلمات المعصومين وأئمّة الدين عليهم السلام ومن ذلك:

ألف) الغفلة تورث قساوة القلب إن قساوة القلب ليست سوى نتيجة للغفلة والابتعاد عن المعارف الإلهية، لأن العامل المهم في لطافة الروح وانعطاف القلب أمام الحقّ هو ذكر اللَّه تعالى، فعندما ينقطع مطر الرحمة الإلهية عن أرض القلب بانقطاع الذكر فسيتحول القلب إلى صحراء قاحلة مليئة بالاشواك والحجارة كما ورد عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «ايَّاكَ وَالْغَفْلَةَ فَفِيهَا تَكُونُ قَسَاوَةُ الْقَلْبِ» «3».

ب) الغفلة وموت القلب الغفلة تفضي في النهاية إلى موت القلب أيضاً، أي أنّ الإنسان بعد أن يعيش حالة

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 322

القساوة وعدم الانعطاف في قلبه وروحه فسوف يقترب من موته المعنوي بحيث لا تعد المواعظ والنصائح تأثر في مثل هذا الإنسان، وفي هذه الصورة سوف يوصد باب العودة والانابة إلى اللَّه أمامه ولا يبقى هناك أمل في نجاته، يقول أميرالمؤمنين عليه السلام «مَنْ غَلَبَتْ علَيْهِ الْغَفْلَةُ مَاتَ قَلْبُهُ» «1».

وفي حديث آخر عن هذا الإمام عليه السلام أنّه قال: «بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْمَوْعِظَةِ حِجَابٌ مِنَ الْغَفْلَةِ وَالْغِرَّة» «2».

ج) الغفلة وفساد الأعمال كما وأنّ «الغفلة» تسبب في بطلان أعمال الإنسان وفسادها، ولهذا نجد أنّ الأشخاص الّذين يعيشون الغفلة عن اللَّه والآخرة قلما يتحركون في سلوكياتهم في دائرة الخيرات والمبرات، ولو أنّهم تحركوا في هذا السبيل فإنّ الغفلة لا تسوغ لهم أن يتمتعوا بحالة الأخلاص في طريق الانفتاح على اللَّه، فلا يصدر منهم ذلك العمل بنية خالصة.

ومن ذلك يقول أميرالمؤمنين عليه السلام «ايَّاكَ وَالْغَفْلَةَ وَالِاغْتِرَارَ بِالْمُهْلَةِ فَانَّ الْغَفْلَةَ تُفْسِدُ الاعْمَالَ» «3».

ويحتمل في تفسير هذا الحديث أنّ المراد منه فساد الأعمال السالفة للإنسان بسبب

الغفلة اللاحقة، لأنّ الغفلة تتسبب في ارتكاب الذنب والوقوع في وادي الخطيئة، والخطيئة بدورها تستوجب حبط الأعمال وافسادها.

د) الغفلة والقرب الإلهي مضافاً إلى ذلك فإنّ الغفلة تستوجب سلب الإنسان اللياقة لنيل مرتبة القرب من اللَّه تعالى ولقائه، لأن الوصول إلى هذه المرتبة ونيل هذا المقام السامي لا يتسنّى للإنسان إلّافي ظلّ المعرفة والتذكر والتفكر وأن يعيش الإنسان حالة الوعي والاتصال مع المبدأ.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 323

وقد ورد في بحار الأنوار للعلّامة المجلسي إشارة إلى هذا الموضوع في مناجات أميرالمؤمنين عليه السلام حيث يقول: «الهِي انْ أَنامَتْنِي الْغَفْلَةُ عَنِ الاسْتِعْدَادِ لِلِقَائِكَ فَقَدْ نَبَّهْتَنِي الْمَعْرَفَةُ بِكَرمِ آلائِكَ» «1».

«مَنْ طَالَتْ غَفْلَتُهُ تَعَجَّلَتْ هَلَكَتْهُ» «2».

هذه العبارة هي مقطع للمناجات المعروفة بالمناجات الشعبانية حيث يقول العلّامة المجلسي عنها انها المناجات الّتي كان أميرالمؤمنين والأئمّة المعصومين عليهم السلام يدعون اللَّه بها في شهر شعبان.

ه) الغفلة سبب الوقوع في الهلكة

«الغفلة» كذلك تسبب للإنسان الهلاك في الدنيا والآخرة، لأن الإنسان الغافل سوف لا يدرك جيداً منافعه «سواء المادية أو المعنوية» وبالتالي فسوف يضيع الفرص الثمينة الّتي تتعرض له، وسوف يؤدي به هذا الحال إلى اتلاف طاقاته وقابلياته الحيوية، ومن هذا المنطلق نقرأ في الحديث الشريف الوارد عن الإمام علي عليه السلام «مَنْ طَالَتْ غَفْلَتُهُ تَعَجَّلَتْ هَلَكَتهُ» «3».

3- علائم الغفلة

الكثير من الناس يمكن أن يترددون في كونهم من الغافلين ولا يعلمون بهذه الحقيقه وهي هل أنّهم يتسمون بسمة الغفلة أم لا؟ إذاً فمن الضروري أن يفحص السالك إلى اللَّه ويتدبر حالته في كلّ مرحلة من حياته لئلّا يقع في زمرة الغافلين، ولذلك لابدّ من الالتفات والانتباه إلى علائم «الغفلة» حتّى لا يتورط في الوقوع في مخالبها وأسرها.

ولحسن الحظ فإنّ النصوص الشريفة والأحاديث الإسلامية قد

أوردت علائم كثيرة

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 324

للغافلين نكتفي بالإشارة إلى بعضها:

1- ورد في الحديث الشريف والمفصل عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في جوابه لشمعون بن لاوي أحد أقطاب النصارى في ذلك الزمان عندما سأل شمعون النبي الأكرم عن علائم الغافلين فقال: «امَّا عَلَامَةُ الغَافِلِ فَارْبَعَةٌ الْعَمى وَالسَّهْو وَاللَّهْو وَالنِّسْيَانْ» «1».

ونفس هذا المضمون نجد في حكم ونصائح لقمان الحكيم لولده حيث يقول: يا بني لكلّ شي ء علامة يعرف بها ويشهد عليها ... وللغافل ثلاث علامات: السهو واللهو والنسيان «2».

والفرق بين السهو والنسيان هو أنّ النسيان بمعنى عدم تذكر الحوادث والامور السابقة، ولكن السهو يعني عدم التوجه والانتباه للُامور الّتي ينبغي التوجه والانتباه لها.

2- وإحدى علائم الغفلة هي أنّ الإنسان يتحرك في معاشرته ومجالسته مع الفاسدين والمفسدين ويبتعد عن مجالس العبادة، وفي ذلك يقول الإمام الحسن عليه السلام «الْغَفْلَةُ تَرَكُكَ الْمَسْجَد وَطَاعَتُكَ الْمُفْسِدَ» «3».

3- ومن العلامات المهمة الاخرى للغفلة هي عدم الاكتراث بالنذر، مثلًا عندما يمر الشخص على مقبرة فإنه لا يخطر في ذهنه انه سوف يكون من أهالي هذه المقبرة غداً، أو عندما يشترك في تشييع جنازة أحد أقربائه أو أصدقائه فإنه لا يفكر في أنّه سوف يتعرض يوماً لمثل هذا الموقف ويكون هو المشيع ويسير الآخرون وراء جنازته.

وقد ورد في نهج البلاغة أنّ الإمام علي عليه السلام كان يسير خلف جنازة لأحد المؤمنين فسمع أحدهم يضحك بصوت عال فتألم الإمام من ذلك وقال: «كَأَنَّ المَوْتَ فيهَا عَلَى غَيرِنَا كُتِبَ وَكَأَنَّ الْحَقَّ فيهَا عَلَى غَيرِنَا وَجَبَ وَكَأَنَّ الّذي نَرَى مِنَ الْاموَاتِ سَفْرٌ عَمَّا قَلِيلٍ الَيْنَا رَاجِعُونَ».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 325

ثمّ أضاف: «نُبَوِّئُهُمْ اجْدَاثَهُمْ وَنَأْكُلُ تُرَاثَهُمْ كَأَنَّا مُخَلَّدُونَ بَعْدَهُم» «1».

4- ومن العلامات

الاخرى للغفلة أنّ الإنسان ينفق وقته وعمره الثمين في امور موهومة لا تنفعه لحياته الاخروية، أو يتلف السنوات المديدة من عمره وشبابه في مواقف وأعمال لا تعود عليه بالنفع الدنيوي ولا الاخروي، يقول أميرالمؤمنين عليه السلام: «كَفى بِالْرَّجُلِ غَفْلَةً انْ يُضِيعَ عُمْرَهُ فِي مَا لا يُنْجيهِ» «2».

وفي رواية اخرى عنه أنّه قال: «كَفى بِالْمَرْءِ غَفْلَةً أَن يَصْرِفَ هِمَّتَهُ فِي مَا لا يَعْنِيهِ» «3»

4- الطرق الكفيلة بمكافحة الغفلة

تعتبر «الغفلة» من الأمراض الأخلاقية الخطرة، ولابدّ في علاجها من استخدام الأصول الكلية والمبادئ العامّة المستخدمة في هذه المباحث الأخلاقية.

ففي المرحلة الاولى علينا التفكر في عواقب ونتائج الغفلة وخاصّة ما تقدّم ذكره من الروايات الشريفة والمباحث الأخلاقية السابقة في هذا الموضوع، فإنّ التدبر في العواقب الوخيمة هذه له أثرٌ كبير في التنبه في أن يعيش الإنسان حالة التنبه والوعي ويعود إلى سلوك طريق المعرفة واليقظة، مثلًا عندما يريد التخلص من الأدمان على المواد المخدرة أو يريد الوقاية من الوقوع في أسرها، فعليه أن يتفكر في الأشخاص الّذين ابتلوا بهذه البلية السوداء، وما كانت نتيجة حالهم وعاقبة أمرهم، وما حلَّ بهم وبأسرهم وابنائهم من الدمار والارباك والاهتزاز في العلاقة العائلية، وحينئذٍ سوف يتسنّى له التوقف والانتباه وسلوك طريق العودة بل وتقديم النصح للآخرين وتحذيرهم من الوقوع في هذا الوادي المهلك، وكذلك لابدّ من الرجوع إلى جذور هذه الحالة والعمل على علاجها وقطع جذورها و ... فما دامت أسباب المرض باقية في روح الإنسان فإنّ العلاج سوف يكون ابتراً.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 326

وقد تقدّم في المباحث السابقة تفصيل الكلام عن جذور الغفلة وأسبابها، فلا حاجة إلى التكرار، ولكن نواصل إلى المطالب السابقة نذكر فيما يلي بعض النقاط النافعة لإزالة الآثار السيئة للغفلة في

واقع الإنسان.

1- كسب العبرة من التاريخ يجب دراسة التاريخ بدقة وتأمل وكسب العبرة من حوادثه ومجرياته، فأيوان كسرى في المدائن واطلال قصور الملوك واهرام مصر تحدثنا بلسانها غير الناطق وتخبرنا عمّا جرى على الأقوام السالفة لنأخذ العبرة منهم، والخلاصة لابدّ من استطلاع تاريخ البشرية ومشاهدة آثارهم الباقية واستيحاء العبرة من كلّ ذلك.

القبور المندثرة للابطال وقادة الحروب بالأمس ترزح أبدانهم المترفة أسيرة التراب، رؤية المسنين والعجائز الّذين كانوا بالأمس القريب شباباً ممتلئين حيوية ونظارة وهم الآن يعيشون العجز وعدم القدرة على ممارسة نشاطاتهم اليومية، كلّ هؤلاء كانوا بالأمس القريب أشخاصاً أقوياء وممتلئين بالفتوة والحيوية، ولكن حوادث الأيّام والسنين قد أخذت منهم مآخذها وأكلت منهم قوتهم وسلبتهم نشاطهم، ونحن الآن على آثارهم وسوف نبتلي بحالتهم.

ومن الواضح إننا كلّما تفكرنا في هذا المواضع أكثر وتأملنا في تحول الأيّام وتبدل الحكومات وانتقال الثروات وتبدلّ المناصب الدنيوية فإننا سوف لا نعيش حالة الغفلة.

الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام يقول: «انَّ مَنْ عَرَفَ الْايَّامَ لَمْ يَغْفَل عَنْ الاسْتِعْدادِ» «1».

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام قال «اغْفَلَ النَّاسِ مَنْ لَمْ يَتَّعِظ بِتَغَيُّرِ الدُّنْيَا مِنْ حَالٍ إلَى حالٍ» «2».

2- استمرار ودوام الذكر

والعامل المؤثر الآخر لطرد آثار الغفلة هو استمرار ودوام الذكر، لأن ذكر اللَّه تعالى يحيي الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 327

القلب ويجلي الروح ويفتح نور البصيرة حيث يرى الإنسان حقائق عالم الوجود ويرى الحقّ حقّاً والباطل باطلًا، وحينئذٍ يتمكن من تشخيص الصديق والعدو لسعادته وكماله المعنوي في حركة الحياة.

ولذلك قال أميرالمؤمنين عليه السلام «بِدَوَامِ ذِكْرِ اللَّهِ تَنْجابُ الْغَفْلَةُ» «1».

3- الصلاة مع حضور القلب إن أداء الصلاة في الوقت المقرر مع حضور القلب والتوجه إلى مضامينها السامية ومفاهيمها العالية والتعامل مع اللَّه تعالى

في الصلاة من موقع الفقر والمناجاة كلّ ذلك من شأنه أن يطهر القلب من أدران «الغفلة» ويجلي مرآة الروح الإنسانية في حركة الانفتاح على اللَّه والكمالات الإلهية.

إن طبيعة الحياة الدنيوية موجبة للغفلة عادةً، ولذلك قد ينشغل الإنسان أحياناً إلى درجة انه ينسى ويغفل عن كلّ شي ء حتّى عن نفسه، والصلاة تعتبر فرصة مناسبة جداً للعودة إلى الذات والتدبر في واقع النفس وكيفية انقاذها من مخالب «الغفلة»، ولذلك يقول الإمام الباقر عليه السلام: «ايُّمَا مُؤْمِنٍ حَافَظَ عَلَى الصَّلَواتِ الْمَفْرُوضَةِ فَصَلّاهَا لِوَقَتِهَا فَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْغَافِلين» «2».

4- التفكر والتدبر

الطريق الآخر للوقاية من الغفلة وعلاجها هو التفكر والتدبر في الامور، فكلّما تحرك الإنسان في أعماله وأفعاله من موقع التدبر في نتائجها الإيجابية والسلبية وتفكر فيما يترتب عليها من نتائج معنوية في دائرة النفس والروح فإنّ ذلك من شأنه أن يبعد أمواج «الغفلة» الظلمانية عن الإنسان.

وقد ورد هذا المعنى في الحديث الشريف في خطابه لأبي ذرّ قال «يَا أَباذَر! هَمِّ بِالْحَسَنةِ

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 328

وَانْ لَمْ تَعْمَلْهَا لِكَي لا تُكْتَبَ مِنَ الْغَافِلِينَ» «1».

التفكير بالموت ونهاية الحياة من جملة الأفكار الّتي تورث الإنسان اليقظة وتبعده عن الغفلة وخاصّةً عندما يمر الشخص على مقبرة من المقابر ويتصور انه في الغد القريب سيكون أحد سكنة هذه المقبرة وينقطع عن الحياة الدنيا، فهذا التفكير من شأنه أن يزيل استار الغفلة الّتي تتراكم على القلب بسبب الأهواء والشهوات والنوازع الدنيوية الاخرى.

وفي ذلك يقول أميرالمؤمنين عليه السلام في أحد وصاياه لابنه الإمام الحسين عليه السلام «ايْ بُنَيَّ الْفِكْرَةُ تُورِثُ نُوراً وَالْغَفْلَةُ ظُلْمَةً» «2».

5- تغير المحيط

إن الكثير من الاجواء الاجتماعية والطبيعية تورث الإنسان الغفلة وخاصةً الاشتراك في مجالس الغافلين والبطالين، وجلسات اللهو واللعب، والسكن في

القصور الفخمة والمزخرفة وأمثال ذلك، فكلها تقود الإنسان باتجاه الغفلة عن حقائق الامور، وحتّى الكثير من المدن في عالمنا المعاصر قد تبدلت إلى مركز من مراكز الفساد والغفلة.

وأحد الطرق للخلاص من قيود الغفلة هذه هو ترك المشاركة في مثل هذه الجلسات والاماكن، والهجرة من المدن الملوثة بالفساد، وفي غير هذه الصورة فإنّ التخلص من سلطان الغفلة عسيرٌ جداً.

فلذلك نرى أنّ الإمام السجاد يقول لأبي حمزة الثمالي عند بيان أحد عوامل سلب التوفيق: «او لَعَلَّكَ رَأَيْتَني آلِفُ مَجَالِسَ البَطَّالِينَ فَبَيْني وبَيْنَهُم خَلَّيْتَني».

ونختم هذا البحث بحديثٍ عن أميرالمؤمنين عليه السلام حيث قال «احْذَرْ مَنَازِلَ الْغَفْلَةِ وَالْجَفاءِ وَقِلَّةَ الاعْوَانِ عَلَى طَاعَةِ اللَّه» «3».

5- اليقظة والانتباه

«اليقظة» هي اليقظة المقابلة للغفلة وتأتي بمعنى الانتباه من النوم البدني أو النفسي، وقد ذهب بعض العرفاء إلى أنّ اليقظة هي أوّل منازل السير والسلوك لأرباب المعرفة.

واليقظة في مصطلح العرفاء الإسلاميين هي الانتباه من نوم «الغفلة» والتوجه للأعمال والأفعال من موقع الضبط والوعي ولجبران الأخطاء السالفة وتصحيح المسيرة في حركة السلوك المعنوي للإنسان.

الإمام الخميني يرى في كتاب «الجهاد الأكبر أو جهاد النفس» ضمن اعتقاده بان اليقظة هي الخطوة الاولى في تهذيب النفس يقول في ذيل بحثه عن اليقظة «إلى متى تريد أن تبقى في نوم «الغفلة» وأنت غارق في لجة الفساد والشر، اتقِ اللَّه وأحذر عواقب الامور وانتبه من نوم الغفلة، فأنت لحدّ الآن لم تخطو الخطوة الاولى في سلوكِكَ إلى اللَّه تعالى فالقدم الأوّل في دائرة السلوك هو «اليقظة»، ولكنك مازلت في حالة النوم، فافتح عينيك وقلبك واترك نومك، فلو أنّ قلبك لم يكن ملوثاً بآفاق الذنوب السوداء لم تقنع وتستمر على هذا النوم وكأن شيئاً لم يكن، فلا تشعر ماذا يجري حولك بل

تستمر في سلوكك وأعمالك وأقوالك الباطلة، فلو أنك تفكرت قليلًا في أمر آخرتك وعاقبتك المخيفة يوم القيامة لتحركت من موقع الاهتمام بالتكاليف وأداء المسؤوليات الثقيلة الملقاة على عاتقك».

امّا الآيات والروايات الشريفة الّتي تقرر هذا المضمون والمحتوى فكثيرة، وأساساً فإنّ جميع آيات الإنذار والبشارة هو من أجل الوصول إلى هذه الغاية والهدف، أو إزالة آثار الغفلة عن قلب الإنسان وإيقاظه إلى ما ينتظره في الغد ولكي لا يبقى في نوم الغفلة والجهل.

إن من جملة التعبيرات القرآنية في دائرة الانذار والتحذير هي «افَلا تَعْقِلُون» «1»» «أَفَلاتَذَكَّرُون» «2» و «افَلَا تَتَفَكَرُونَ» و «او لَم يَتَدبَّرُوا القُرآن» وأمثال ذلك.

فكلّها بمثابة الاعلام عن الخطر المحدق بالإنسان وايقاظه من النوم العميق الّذي يعيشه الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 330

في أجواء الطبيعة المادية، ولذلك كان لابدّ له من منبه وجرس انذار ليستعد للمسير في خط الإيمان والصلاح والتقوى وكذلك الآيات الّتي تؤكد على ذكر اللَّه تعالى لأن الاعراض عن ذكر الحقّ من شأنه أن يفسد حياة الإنسان، ويعيش بالتالي «معيشة ضنكا» في هذا العالم ويحشر يوم القيامة أعمى ولذلك نجد أنّ المفاهيم القرآنية تتحرك باتجاه تحذير المسلمين من اسباب اللهو أو الغفلة وتسوقهم باتجاه ذكر اللَّه تعالى وكلّ ذلك من شأنه انعاش حالة «اليقظة» والوعي بالمصير في واقع الإنسان وفكره.

وقد أشارت الروايات الإسلامية بشكل واسع إلى مسألة «اليقظة» منها:

1- ما ورد عن أميرالمؤمنين في خطبته لدى الإشارة إلى الهدف من بعثة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وقال «ايُّهَا النَّاسُ انَّ اللَّهَ ارْسَلَ الَيْكُمْ رَسُولًا لِيُزِيحَ بِهِ عِلَّتَكُمْ وَيُوقِظَ بِهَ غَفْلَتَكُمْ» «1».

وليس هذا الهدف مختصٌ بنبي الإسلام فحسب بل يشمل جميع الأنبياء فإنّهم بعثوا لهذا الغرض أيضاً، وايقاظ

الناس من غفلتهم، أو على الأقل أنّ هذا الهدف هو أحد الأهداف الأساسية من دعوتهم.

2- ويقول الإمام الحسن عليه السلام في خطبته لأهل الكوفة:

«ايُّهَا النَّاسُ تَيَقَّظُوا مِنْ رَقْدَةِ الْغَفْلَةِ وَمِن تَكَاشُفِ الظُّلْمَةِ، فَوالّذي خَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَءَ النَّسَمَةَ وَتَرَدّى بِالْعَظَمَةِ، لَئنِ قَامَ اليَّ مِنْكُمْ عُصْبَةٌ بِقُلوبٍ صَافِيَةٍ وَنِيّاتٍ مُخلِصَةٍ، لا يَكُونَ فِيها شَوْبُ نِفاقٍ وَلا نِيّةَ اقْتِرَاقٍ لَاجاهِدنَّ السَّيفَ قَدَماً قَدَماً وَلَاضَيِّقَنَّ مِنَ السُّيُوفِ جَوَانِبَها وَمِنَ الرِّماحِ اطرافَهَا وَمِنَ الْخَيْلِ سَنابِكَها فَتَكَلَّمُوا رَحِمَكُمُ اللَّه» «2».

وهنا نرى أنّ الإمام الحسن عليه السلام في هذا الكلام يدعو أهل الكوفة إلى جهاد معاوية وجيش الشام في حين أنّهم قد تمكنت منهم «الغفلة» فلم يستجيبوا له.

3- ونقرأ في كتاب «فلاح السائل» الدعاء الّذي أقرّه الإمام الصادق عليه السلام أيضاً بغرض الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 331

جبران الأخطاء والغفلة في الصلاة حيث قال «فَصَلِّ عَلَى مُحَمّدٍ وَآلِهِ وَاجْعَلْ مَكَانَ نُقْصَانِها تَماماً وَعَجَلَتي تَثَبُّتاً وَتَمَكُّناً، وَسَهْوِي تَيَقُّظاً، وَغَفْلَتي تَذَكُّراً، وكَسَلي نَشاطاً» «1».

4- وورد عن الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة قوله مخاطباً للإنسان اللاأبالي «أما مِنْ دائك بُلُولٌ امْ لَيْسَ مِنْ نَوْمِكَ يَقْظَةٌ» «2».

5- ويقول أميرالمؤمنين في حديثٍ آخر أيضاً «الَا مُسْتَيْقِظٌ مِنْ غَفْلَتِهِ قَبْلَ نَفَادِ مُدَّتِهِ» «3».

وفي جميع هذه الروايات نجد أنّ «الغفلة» شبهت بنوعٍ من النوم تارةً، واخرى بنوعٍ من السكر، وشُبه قصد التذكر بنوعٍ من الانتباه واليقظة، ويقول أميرالمؤمنين عليه السلام في هذا المجال: «سُكْرُ الْغَفْلَةِ وَالْغُرورِ ابْعَدُ افاقَةَ مِنْ سُكْرِ الْخُمُورِ» «4».

6- ونختم هذا البحث بحديثٍ آخر عن الإمام أميرالمؤمنين في تشبيهه اليقظة بالمصباح المنير حيث قال «فَاسْتَصْبِحُوا بِنُورِ يَقْظَةٍ فِي الابْصَارِ وَالاسْماعِ وَالافْئِدَةِ» «5».

التغافل الإيجابي:

كما تقدّم أنّ الغفلة في نور الحياة سببٌ للشقاء والانحطاط المادي والمعنوي

فإنّ «التغافل» بالنسبة إلى هذه الامور يؤدي إلى نفس هذه النتيجة، أي أنّ الإنسان يجب أن يعلم بأن الواقع الدنيوي متزلزل وأنّ هذا العالم غير ثابت على أمرٍ واحد، وعليه أن يعبرهُ إلى حيث الحياة الخالدة، وأنّ الموت هو قانون طبيعي حتمي على الأشياء ولا اعتبار بالقوى الطبيعية والثروات المادية، ولكن مع كلّ ذلك فإنّ الإنسان الّذي يعيش الغفلة و «التغافل» يمر على هذه الحقائق من الكرام ولا يعنيه من أمرها شي ء.

هذا هو التغافل السلبي الّذي قد يترتب عليه آثار ونتائج مضرة أكثر من الغفلة نفسها،

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 332

لأن «الغافلين» قد يقعون في دوامة الحوادث والمشاكل عن جهلٍ وعدم علمٍ بواقع الحال، اما «المتغافل» فهو يخطو باتجاه هذه المشاكل عن وعي وعلم مسبق، وبذلك تكون مسؤوليته الإلهية أكثر وظلم الناس له أشد.

اما «التغافل الايجابي» فهو أن يعيش الإنسان بحالة يخفي معها الأشياء الّتي ينبغي اخفاؤها، أي أن يقوم الشخص باظهار عدم اطلاعه وعدم علمه بالأشياء الّتي يعلم بها ولكنَّ اظهارها له عواقب سيئة، ويتصرف معها تصرف المتغافل ويمر عليها مرّ الكرام من موقع سعة الصدر وقوّة الشخصية، لغرض حفظ ماء وجه الآخرين واحترامهم وحيثيتهم الاجتماعية.

ومن جملة موارد التغافل الايجابي هو اخفاء عيوب الآخرين، فإنّ لكلّ شخص عيوباً وأخطاءً لا يحب أن يطلع عليها الآخرون، ولذلك يسعى لكتمانها، ولكن أحياناً يعلم بها بعض الأشخاص الأذكياء، ففي مثل هذه الموارد يكون التغافل مطلوباً، وفي الحقيقة هو نوعٌ من ستر العيوب الخفية الّتي لا ينبغي اظهارها إلّافي موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذلك بشكل لطيف ومستور أيضاً.

وهناك بعض الموارد يكون الكشف عن العيب فيها مؤدياً إلى تسقيط شخصية الأفراد وكذلك يؤدي إلى حث الآخرين على

المعصية، فالفضيحة قد تؤدي إلى زيادة الايغال في ارتكاب الذنوب، وبعبارة اخرى: إذا زال حجاب الحياء عن المذنبين فإنّهم سوف يقدمون على ارتكاب الذنوب المختلفة، ولهذا ففي مثل هذه الموارد يكون «التغافل» مانعاً عن تفشي هذه الظاهرة الاجتماعية السلبية.

وببيان عام يمكن القول أنّ أحد الاصول المهمة بالحياة الهادئة والوادعة هي أن يعيش الإنسان «التغافل» عن بعض الامور لا سيّما بالنسبة إلى المدراء وأصحاب المناصب الحساسة في المجتمع حيث يجب عليهم الاستفادة من هذه المسألة بشكلٍ جيد لحلّ الكثير من المشاكل الّتي تعترضهم في عملهم الاجتماعي، وهذا يعني انه كلّما احتاج الأمر إلى تحذير وتنبيه فعليهم أن يقوموا بهذا الأمر، وكلّما احتاجت المسألة إلى «تغافل» لحلّها أو

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 333

جعلها تراوح في مكانها ولا تنتشر وتتفشى وتتعاظم فإنه عليهم سلوك هذا الطريق، ومن المعلوم ان المدير الّذي لا يرى للتغافل شيئاً حاسماً في سلوكه الإداري ولا يعير له اهتماماً فإنه سيوقع نفسه في مشاكل وصعوبات غير موجهة وبدون مبرر.

ولهذا السبب فإنّ الأئمّة المعصومين عليهم السلام أكدوا على هذه المسألة في أفعالهم وأقوالهم، فمثلًا نجد أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله يتعامل مع بعض الامور من موقع التغافل بحيث أدّى ذلك إلى اعتراض بعض المسلمين الجهلة، فمثلًا اعترضوا على النبي بأنه سريع التأثر بما يسمعه من كلمات من هنا وهناك، فلو قيل له إنّ فلان يقول عنك كذا وكذا لأسرع في تصديقه وقبوله وأرسل خلف ذلك الشخص معاتباً إياه، ولو أنّ ذلك الشخص أقسم له انه لم يقل هذا الكلام في حقّه لاسرع كذلك إلى تصديقه أيضاً.

القرآن الكريم يشير إلى هذا المعنى في الآية 61 من سورة التوبة ويقول «وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَ

وَيَقُولُونَ هُوَ اذُنٌ قُلْ اذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤمِنُ لِلمُؤمِنينَ وَرَحْمَة لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ...».

ومن البديهي أنّ نبي الإسلام مع كلّ ذلك الذكاء والحركة والدراية الّتي اعترف بها الأعداء والأصدقاء لم يكن بالشخص الساذج إلى هذه الدرجة، بل كان يرى أنّ وظيفته في بعض الموارد هي «التغافل» وهذا التغافل يُعد مصدر رحمة لجميع المؤمنين.

التغافل في كلمات المعصومين عليهم السلام:

1- ورد في الحديث المعروف عن الإمام زين العابدين عليه السلام وكذلك الإمام الباقر والصادق عليهما السلام عن «التغافل» قولهم «صَلاحُ حالِ التَّعايُشِ وَالتَّعَاشُرِ مِلُ مِكْيَالٍ ثُلْثاهُ فِطَنَةٌ وَثُلْثُهُ تَغَافُلٌ» «1».

هذه الرواية في الواقع ضمن تأكيدها على التغافل الايجابي تحذر الإنسان من التغافل السلبي، ففي البداية تؤكد على الفطنة والانتباه واليقظة في الامور وترك الغفلة وأنّ ذلك يعد

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 334

ثلثي مكيال المعاشرة، ومفهومه هو أنّ الإنسان لا ينبغي أن يعيش الغفلة وعدم الاطلاع بالنسبة إلى مسائل الحياة والمعيشة بل يجب الانتباه واليقظة والتعامل مع الامور بدقّة متناهية ليحرز بذلك خيره وصلاحه، ولكن من جهة اخرى يجب عليه أن يعيش «التغافل» بالنسبة إلى الامور الّتي ينبغي عليه التغافل عنها وجعلها في زاوية النسيان والاهمال من قبيل التفكير في المسائل الجزئية للحياة والّتي ليست بذات قيمة، لأنّ التفكر في مثل هذه الامور والسفاسف بإمكانه أن يمنع الإنسان من التفكير في المسائل الأهم منها، وكذلك اخفاء عيوب الآخرين المستورة في الموارد الّتي تستوجب المصلحة ذلك فإنّ التغافل في مثل هذه الموارد يعتبر أمراً محموداً.

2- وقد ورد عن أميرالمؤمنين عليه السلام قوله «مِنْ اشْرَفِ اعمالِ الْكَريمِ غَفْلَتُهُ عَمَّا يَعْلَمُ» «1».

3- وفي حديثٍ آخر عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «مَنْ لَمْ يَتَغَافَلْ وَلَا يَغُضَّ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الاموُرِ تَنَغَّصَتْ عِيْشَتُهُ» «2».

وبديهي

أنّ الحياة الدنيا لا تخلو من بعض الامور الّتي قد تحدث للإنسان من غير توقع أو لا تسير الحياة كما هو المطلوب وكما يريد لها الإنسان، فلو أنّ الشخص قد تحرّك في تعامله مع الحياة من موقع الفحص والدقّة في جزئيات الامور وعاش الفضول في حياة الآخرين وأخذ يحاسبهم ويعاتبهم على كلّ صغيرة وكبيرة فإنّ حياته ومعيشته سوف تتنغص ويتفرق الآخرون من حوله.

ونختم هذا البحث بالحديث الشريف الوارد عن أميرالمؤمنين عليه السلام أيضاً حيث يقول «وَعَظِّموُا اقْدَارَكُمْ بِالتَّغَافُلِ عَنِ الدَّنِّيِ مِنَ الامُورِ ... وَلَا تَكوُنوا بَحَّاثِينَ عَمَّا غَابَ عَنْكُمْ، فَيَكْثُرُ عَائِبُكُمْ ... وَتَكَرَّموُا بِالتّعَامِي عَنِ الاسْتِقْصَاءِ» «3».

ومن هذا الحديث وكذلك بعض الأحاديث الاخرى يستفاد جيداً أنّ هذا المفهوم «التغافل» لا يرد إلّافي الموارد الجزئية والصغيرة من سفاسف الحياة والواقع الاجتماعي.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 335

وعلى هذا الأساس فإنّ «التغافل» لا يتقاطع مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والانتقاد البنّاء في حركة الحياة الاجتماعية لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتعلقان بالواجبات والمحرمات الّتي هي خارجة عن دائرة «التغافل»، واما الانتقاد البنّاء فيتعلق بالامور المصيرية في حياة الفرد والمجتمع والّتي يترتب عليها نتائج مهمة، في حين أنّ التغافل لا يتعلق بالامور الجسيمة وذات الأهمية أو الامور الّتي تكون المصلحة في سترها والتغاضي عنها.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 336

البخل والشح

تنويه:

إن النعم والمواهب الإلهية على الإنسان تكون في كثيرٍ من الموارد أكثر من حاجة الإنسان نفسه بحيث يمكنه أن يسهم الآخرين بها ويشاركهم في الاستفادة منها بدون أي ضرر يُلحق به، ولكنَّ بعض الناس وبسبب البخل والشح يمتنعون من ذلك ولا يجدون في أنفسهم رغبة في العطاء والجود بما لديهم من نِعم كثيرة، وأحياناً يتحركون من موقع التفرج

والتفاخر بهذه النعم والثروات الدنيوية إلى درجة أنّهم يثيرون حفيظة المحرومين ويجرحون قلوبهم بذلك وكأن هؤلاء يجدون لذّة خاصّة في إثارة المحرومين هؤلاء.

وأحياناً تقترن هذه الصفة مع حالة «الانانية» و «التكبر» و «الحرص» وأمثال ذلك من الصفات السلبية القبيحة.

إذا نظرنا إلى عالم الوجود من موقع التدبر والتأمل فسوف نشاهد آيات البذل والكرم والجود والانفاق في كلّ مكان، الشمس تحترق دائماً وتبدل بعض وجودها إلى نور وحرارة وتُرسله إلى جميع المنظومة الشمسية حيث تعيش المخلوقات والأحياء بهذا النور الساطع وتستدفي بهذه الحرارة الكافية.

الأرض بدورها تُخرج ما في باطنها من أنواع الكنوز والمعادن الثمينة والمواد

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 338

الغذائية والمياه الجوفية، كلّ ذلك تضعه تحت اختيار الإنسان مجاناً وتعينه بذلك على مصاعب الحياة، وهكذا الحال في سائر موجودات هذا العالم الفسيح فإنّ كلّ واحدة منها يعطي للإنسان ما لديه مظهراً بذلك كرمه وجوده.

ومضافاً إلى هذا العالم الكبير نرى في العالم الصغير، أي الإنسان أيضاً نفس هذه المسألة، فالقلب، والجهاز التنفسي، والمعدة، العين، الاذن، اليد والرجل كلّها لا تعمل من أجل ذاتها فقط بل تخدم في حركتها وحياتها جميع أجزاء البدن، فلا معنى للبخل في وجودها، بل كلّما هناك هو الكرم والجود يترشح من جميع أجزاء البدن وجميع خلاياه.

في هذا العالم الّذي تحكم فيه معالم الكرم والسخاء فهل هناك من مكان للإنسان البخيل؟ ألا يتقاطع وجود هذا الإنسان البخيل مع عالم الوجود وبالتالي فإنه محكوم بالموت والاندثار والزوال؟

على هذا الأساس نرى ذمّ «البخل» ومدح «السخاء والكرم» بشكل واسع في الآيات والروايات الإسلامية حيث نرى أنّ «الجود والسخاء» بعنوان أنّهما من الصفات والأسماء الإلهية البارزة في عالم الوجود وتمثل سمة من سمات الأئمّة المعصومين عليهم السلام أيضاً.

بهذه الإشارة

نعود إلى آيات القرآن الكريم لنستوحي منها ما يضفي على مفهوم «البخل» و «السخاء» ضوءاً وجلاءاً أكثر:

1- «إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَءَاتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِى الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَاتَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ الْفَرِحِينَ* وَابْتَغِ فِيمَآ ءَاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْأَخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ» «1».

2- «انّا بَلَوْنَاهُم كَما بَلَوْنا اصْحَابَ الْجَنَّةِ اذ اقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحينَ* وَلايَسْتَثْنُونَ* فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُم نَائِمُونَ* فَاصْبَحَتْ كَالصَّريمِ» «2».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 339

3- «وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئنْ ءَاتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ* فَلَمَّآ ءَاتَاهُم مّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ* فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِى قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَاوَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ» «1».

4- «وَلَايَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَابَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ا لْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَا ثُ السَّمَاوَا تِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» «2».

5- «الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَآءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا» «3».

6- «وَامَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِرُهُ لِلْعُسْرى «4».

7- «هَا أَنتُمْ هَؤُلَا ءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ ا لْغَنِىُّ وَأَنتُمُ ا لْفُقَرَآءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَايَكُونُواْ أَمْثَالَكُم» «5».

8- «.. وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَاولئكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «6».

9- «وَالَّذِينَ اذَا انْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً» «7».

10- «قُلْ لَوْ انْتُم تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّي اذاً لَامْسَكْتُمْ خَشْيَةَ

الانْفَاقِ وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُوراً» «8».

تفسير واستنتاج:

مصير البخلاء

«الآيات الاولى من الآيات محل البحث تستعرض حادثة مهمة من الحوادث الّتي جرت على بني إسرائيل، فكانت عبرة لمن اعتبر ذلك أنّ أحد أثرياء بني إسرائيل وبسبب البخل والتكبّر والغرور، ابتلي بمصيرٍ عجيب وموحش.

لقد كان «قارون» من أقرباء النبي موسى عليه السلام ومن الوجوه والشخصيات الثرية المعروفة لبني إسرائيل، وحسب الظاهر كان من أوّل المؤمنين بموسى عليه السلام أيضاً وكان مطلعاً وعارفاً بالتوراة، ولكنه كان كمثل الكثير من الأثرياء انانياً ومحبّاً للدنيا وبعيداً عن اللَّه، وكان يحبّ بشكل عجيب اظهار مالديه من الثروة أمام فقراء بني إسرائيل، وكان في كلّ مرّة يظهر عليهم بزينته وثروته الهائلة يخفق قلوب أصحاب الدنيا وأهل الطمع من بني إسرائيل حتّى وصل بهم الأمر إلى أن يكون أملهم الوحيد أن يكونوا مثل قارون من حيث الثراء وكثرة المال.

يقول القرآن المجيد في هذه الآيات «إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ» «1».

لقد كان ظلمه وبغيه على قومه بسبب «البخل» الشديد حيث لم يكن راغباً في بذل شي ءٍ منها، وفي نفس الوقت كان يخرج على الناس والفقراء بزينته وثراءه الفاحش ويجد بذلك لذّة في نفسه، والأمر الآخر أيضاً الّذي زاد من بغيه هو مخالفته الشديدة للنبي موسى عليه السلام وتعامله مع الفراعنة وخاصّةً عندما طلب منه موسى عليه السلام اداء الزكاة.

وأساساً أنّ الأثرياء وأصحاب الدنيا لديهم علاقة شديدة في تقوية نفوذهم وقدرتهم في المجتمع، وهذه العلاقة تارةً تكون بدافع من حبّ التكاثر، واخرى بسبب الخوف من القدرات السياسية والاجتماعية الاخرى لكي لا يلحق بثروتهم الضرر من قبل هذه القدرات وقوى السيطرة والسلطة، ولهذا السبب كانوا يقفون من الأنبياء ودعوتهم السماوية الّتي كانت تستوعب الناس وتظلهم

تحت خيمة الحكومة الإلهية، كانوا يقفون منها موقف العناد والرفض.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 341

القرآن الكريم في إدامة حديثه عن قارون وثروته يقول في هذه الآية «وَءَاتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِى الْقُوَّةِ» «1».

لقد كان قارون فرحاً جدّاً من وضعه الاجتماعي وكان يعيش دائماً حالة اللهو واللّذة ولا يشعر بما يجري على البؤساء والفقراء ولا يعيش محنتهم وحرمانهم وحتّى عندما قال له العقلاء من قومه «إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَاتَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ الْفَرِحِينَ* وَابْتَغِ فِيمَآ ءَاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْأَخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَايُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ» «2».

هذه التعاليم الخمسة والنصائح المشفقة ليس لم تؤثر إطلاقاً في قلب قارون الأسود، بل زادته طغياناً وضلالًا إلى درجة انه انكر بصراحة التوحيد الأفعالي للَّه تعالى وقال: «إنما اوتيته على علم».

ويتحدّث القرآن الكريم في آياتٍ اخرى من هذه السورة عن إحدى الرذائل الأخلاقية لقارون الّتي تتمثل تقريباً بدرجة من الجنون الّذي يبتلي به جميع الأثرياء المغرورين والّذين يتحركون في خطّ الإنحراف وطلب المزيد من الثروة والمال بعيداً عن اللَّه تعالى فتقول الآية: «فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» «3».

وأخذ يتبرج بهذه الثروة الطائلة من موقع الغرور والتفاخر حيث استعرض معه الجياد الغالية المزينة بالذهب وحمل معه الجواري الجميلات الغارقات بأنواع الزينة والمجوهرات وكذلك سائر أنواع الأموال والثروة وزخارف الدنيا وبريقها الخداع حتّى أنّ طائفة من المؤمنين نصحوه بترك هذه السلوكيات الذميمة، إلّاأنّه بدلًا من أن يستمع إليهم ويسلك مع الفقراء والمعدمين مسلك اللطف والكرم والمواساة فانه انطلق من موقع العناد

الاخلاق

فى القرآن، ج 2، ص: 342

والإصرار لوضع الملح على جراح هؤلاء الفقراء والبؤساء ويجعلهم حيارى غارقون بالحسرة أمام هذا الغرور العجيب.

وعندما ازدادت حدّة طغيانه لم يمهله اللَّه تعالى أكثر من ذلك، فكان أن اصابت زلزلة قصره ومحل إقامته فقط فخسفت به الأرض وغاص في أعماقها هو وجميع ثروته، وهكذا صار حديثاً بعد عين وعبرةً لمن اعتبر على طول التاريخ البشري.

إن الجذور الأصلية لشقاء «قارون» هو حالة «البخل» الّتي كان يعيشها بعمق بكامل وجوده، البخل الّذي صار منشأً وسبباً لانكاره لنبوّة موسى عليه السلام وتعامله مع عقيدة التوحيد الإلهي من موقع الاعتراض والرفض، وأخيراً ادّى به الحال إلى اتهام نبي اللَّه موسى عليه السلام بالعمل المنافي للعِفة مع زانية معروفة، ولكن اللَّه تعالى فضح أمره سريعاً، فكان يتصور انه مع تملكه لهذه الثروة العظيمة فإنه لا أحد يقدر على إيصال الضرر إليه، ولهذا السبب فلم يكن يمتنع من أي ظلم وجور على قوم بني إسرائيل إلى أن نال جزاءه وعقابه.

«الطائفة الثانية» من الآيات محل البحث تشير إلى قصة اخرى من قصص هؤلاء البخلاء ومصيرهم الأسود حيث يتحدّث القرآن الكريم هنا عن جماعة يسموهم «أصحاب الجنّة» ويرى بعض المفسّرين أنّهم كانوا جماعة من بني إسرائيل يسكنون «اليمن» على مقربة من «صنعاء»، وذهب بعض المحققين إلى أنّ كلمة «حرد» الواردة في سياق هذه الآيات يعني «المنع» وهي من الكلمات المتداولة في اليمن وتشير إلى أنّ هؤلاء كانوا من أهل اليمن.

لقد كان عدد هؤلاء عشرة أشخاص وكان لديهم بستان كبير وثروه من أبيهم الّذي كان رجلًا كريماً وسخياً وصالحاً، وكان عندما يحين قطاف الثمار يفتح باب البستان على مصراعيه للفقراء والمساكين لينالوا منه حاجتهم، وبذلك كانت البركة وسعة المال والثراء

تزداد في أموال الأب، ولكنَّ ابناءه البخلاء كانوا يتصورون أنّ مثل هذا البذل والعطاء الكثير الّذي يصب في جيوب الفقراء والمحتاجين لا مسوّغ له، ولا مبرر لأن ينفق الإنسان من أمواله بهذه الدرجة، وبذلك لقد عزموا على أن يمنعوا كلّ فقير من الدخول إلى هذا البستان الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 343

الكبير، وقرروا أيضاً فيما بينهم أن ينهضوا في الصباح الباكر ومن دون اعلان أو سخط ليقطفوا ثمار هذا البستان مع مجموعة من العمال وقبل أن يستيقظ الفقراء والمساكين من نومهم ويصل إليهم الخبر فإنّهم يقومون بنقل هذا المحصول الكثير.

يقول البرسوئي في «روح البيان»: «إنّ هذه الحادثة وقعت بعد عصر عيسى بقليل حيث كان لهم أب كريم جداً، فكان يأخذ من بستانه ما يكفيه لسنته ويوزع الباقي على الفقراء، ولكن ما أن توفي الأب حتّى قال الأولاد: إننا إذا سرنا بسيرة والدنا فإنّ حياتنا ستكون شاقة، لكثرة عيالنا وأطفالنا، فأقسموا أن يعجلوا في الصباح الباكر على قطف الثمار وحتّى أنّهم لم يقولوا: إن شاء اللَّه» «1».

وقد أنزل اللَّه تعالى عليهم عذاباً أليماً وعاقبهم بأشد العقاب كما تقول الآية «فَطَافَ عَلَيهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ» «2».

أجل، إن صاعقة محرقة ونار رهيبة نزلت على ذلك البستان وأحرقته من أوّله إلى آخره «فَاصْبَحَتْ كَالصَّريمِ» «3».

«الصريم» هو الشجرة غير المثمرة، أي أنّ الصاعقة اتلفت الثمار فقط دون الأشجار الّتي بقي منها الجذوع فقط، وفي الغد عندما نهض الاخوة وذهبوا في الصباح الباكر إلى بستانهم ترجموا خطتهم على أرض الواقع، فلما وصلوا إلى ذلك البستان ورأوا ذلك المنظر المهيب والمفجع قالوا: «فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا انَّا لَضَالُّونَ* بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ» «4».

جملة «انّا لضالّون» إشارة إلى أنّهم لم يكونوا يصدقون أنّ

هذا البستان قد احترق بأكمله بعد ما كان قبل قليل زاهراً ومليئاً بالثمار ولكن عندما دققوا النظر أدركوا من خلال القرائن أنّ هذا البستان المحترق هو بستانهم الّذي اصبح بهذه الصورة لذلك قالوا «بَلْ نَحْنُ مَحرُومُونَ».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 344

وهناك احتمال آخر، وهو أنّ المراد بالضلالة هنا هي الانحراف عن طريق اللَّه والحقّ لأنهم كانوا يتصورون إن السعادة تكمن في عنصر «البخل»، والحال أنّ الطريق الصحيح لنيل السعادة الحقيقية هو الطريق الّذي سلكه أبوهم الكريم من قبل.

وجاء في الآيات التالية إن هذه المجموعة من البخلاء انتبهوا من نوم الغفلة بسرعة وأخذوا يلومون أنفسهم واعترفوا بذنبهم وعزموا على عدم تكراره في المستقبل بعد أن طلبوا من اللَّه تعالى بستاناً أفضل من السابق، وقد ورد في بعض الروايات أنّ اللَّه تعالى قبل توبتهم ووهبهم بستاناً أفضل وأحسن من بستانهم السابق.

وعلى أية حال فإنّ الآية أعلاه تبين العواقب المؤلمة لحالة «البخل» والشُّح بحيث إن هذه الرذيلة تضر الإنسان حتّى في أمر دنياه العاجلة.

والملفت للنظر أنّ القرآن الكريم يقول في بداية هذه الآيات «إنا بَلَوناهم كما بلونا أصحاب الجنّة» ولعلّ هذا التعبير إشارة إلى حالة القحط الشديد الّذي أصاب مكّة المكرمة بسبب البخل وترك الانفاق من قبل أثرياء قريش.

«الآية الثالثة» تتحدّث عن مصير شخص بخيل في عصر رسول اللَّه، وطبقاً للكثير من التفاسير فإنّ هذا الشخص كان من الأنصار ويدعى «ثعلبة بن حاطب» والّذي كان في بداية أمره معسراً وفقيراً بشدة وكان يتمنّى أن يكون يوماً من الأثرياء ولذلك طلب من النبي بإلحاح شديد أن يدعو له بذلك ليكون من الأثرياء.

فقال له النبي صلى الله عليه و آله: يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه،

ولكنه أصرّ على ذلك وقال: يا رسول اللَّه، ادع اللَّه أن يرزقني مالًا والّذي بعثك بالحق لئن رزقني اللَّه مالًا لاعطين كلّ ذي حقّ حقه وهو قوله «وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئنْ ءَاتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ» «1».

ثمّ إنّ النبي الأكرم دعا لهذا الرجل بعد إصراره الشديد ليكون عبرةً لغيره فلم تمض فترة

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 345

إلّا وانفتحت عليه أبواب الرزق والثراء ببركة دعاء النبي صلى الله عليه و آله وحصل على ثروة طائلة غير متوقعة، فملك قطعان كبيرة من الأغنام والإبل وأصبح من الموسرين جدّاً، ولكن عندما نزلت آية الزكاة وسمع بها وعلِمَ انه يجب عليه أن يدفع مقداراً قليلًا من هذه الأموال بعنوان الزكاة إلى الفقراء والمساكين، فما كان من هذا الرجل البخيل إلّاأن نقض عهده مع اللَّه تعالى ومع رسوله الكريم ونسي وعده بمساعدة الفقراء وامتنع من دفع الزكاة.

وهنا يتحدّث القرآن الكريم عن هذه الحالة بايجاز فيقول «فَلَمَّآ ءَاتَاهُم مّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ» «1».

وبالرغم من أنّ «ثعلبة» لم يكن سوى رجل واحد، ولكن عندما ازدادت أمواله وكثرت ثروته استخدم بعض الأشخاص لحفظها ورعايتها، ولذلك فمن المحتمل أن تكون صيغة الجمع الواردة في الآية إشارة إلى هذا المطلب.

وهناك احتمال آخر وذلك بأن مثل هذه الحالات لا تختّص بثعلبة وطلبه من النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، بل إن هذه الحالة تكثر بين الناس في المجتمعات البشرية حيث يطلبون من اللَّه تعالى هذا الطلب ويعدون بشتّى الوعود ولكنهم لا ينجحون في الامتحان الإلهي ويتحركون بعد ذلك من موقع نقض العهود هذه، والسلوك في خط الانانية والبخل وحب الدنيا وعلى أية حال فإنّ النتيجة الحتمية لنقض العهد والبخل

هو أن تدب ريح النفاق في قلوب هؤلاء البخلاء وتستمر معهم إلى يوم القيامة كما تقول الآية «فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِى قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَاوَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ» «2».

أجل، فإنّ الرجل كان في أحد الأيّام من العباد والزهّاد وكان يسمّى بحمامة المسجد وكانت جبهته متورمة كثفنات البعير من أثر السجود ولكن بسبب البخل والانانية والشح فإنه أصبح في مواجهة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بحيث إنه اعترض على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله بسبب الأمر بالزكاة وقال بأن الزكاة تشبه الجزية الّتي تؤخذ من أهل الكتاب، وبهذا أصبح في عداد

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 346

المنافقين وأخيراً تم طرده من المجتمع الإسلامي.

«الآية الرابعة» تبين في سياقها العقوبة الإلهية الشديدة للبخلاء، وما ورد في هذه الآية من المجازات والكنايات بالنسبة إلى البخل لم ترد في سائر آيات القرآن الكريم حيث تقول الآية «وَلَايَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ ...» «1».

ثمّ تضيف الآية «سَيُطَوَّقُونَ مَابَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ا لْقِيَامَةِ» «2». فتكون الأموال الّتي جمعوها على شكل سلسلة ثقيلة تكبلهم وتمنعهم من أي حركة في عرصات المحشر، وفي ختام الآية يقول تعالى «وَلِلَّهِ مِيرَا ثُ السَّمَاوَا تِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» «3».

هذه الآية تشير إلى أنّ المحافظة على المال والسعي لاكتنازه والبخل به لا ينفع الإنسان شيئاً في حياته الدنيوية لأنّه سوف يضطر إلى ترك كلّ ما لديه ويرحل.

وبالرغم من أنّ بعض الروايات فسّرت الآية أعلاه بمسألة منع «الزكاة» ولكن حسب الظاهر فإن مفهوم الآية يستوعب في مضمونه جميع أشكال البخل وحتّى مضافاً إلى البخل بالأموال يشمل البخل بالعلم والمعرفة وأمثال ذلك

كما ذكر بعض المفسّرين.

أمّا تصوير الحالة الّتي تجعل هذه الأموال على شكل حلقة وطوق حول رقبة البخيل يوم القيامة، فينبغي القول طبقاً لما ورد في بعض الروايات أنّ تلك الأموال تأتي يوم القيامة على شكل طوق من نار كما ورد في تفسير العياشي عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «ما من عبد منع زكاة ماله إلّاجعل اللَّه ذلك يوم القيامة ثعباناً من نار مطوقاً في عنقه ينهش من لحمه حتّى يفرغ من الحساب، وهو قول اللَّه: «سَيُطَوَّقُونَ مَابَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ ا لْقِيَامَةِ» قال: ما بخلوا به من الزكاة» «4».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 347

ومن التعبير أعلاه يستفاد بوضوح أنّ التعبير بكلمة «الطوق» هو في الواقع من قبيل تجسم الأعمال التي يسلكها الإنسان ويعملها في الدنيا. لأن «الطوق» لا يبتعد ولا ينفصل عن الإنسان بأية حال، وعلى كلّ حال فإنّ التعبيرات المختلفة للآية كلّها تحكي عن قبح «البخل» وحسن «الانفاق» في سبيل اللَّه والسخاء في المال وسائر المواهب الإلهية على الإنسان.

والملفت للنظر أنّ أموال «البخلاء» لا تطوق الإنسان البخيل يوم القيامة فحسب، بل في الدنيا أيضاً تكون بمثابة القيود الّتي تثقل كاهل الشخص بسبب الاهتمام بحفظها وحسابها والخوف من نقصانها او تلفها وأمثال ذلك حيث يتلف الإنسان السنوات العزيزة من عمره من أجلها، ثمّ يضطر إلى تركها والتوجه للحياة الاخرى محملًا بالمسؤولية بسببها.

«الآية الخامسة» تتحدّث عن الأشخاص الّذين لا يعيشون البخل لوحدهم فقط وإنّما يدعون الناس إلى البخل أيضاً، وتبين حالهم من موقع الذمّ والتقبيح وأنّهم مصداق عنوان «مختالٍ فخور»، وقد صرَّح القرآن الكريم في عدّة مواضع أنّ اللَّه تعالى لايحب من كان مختالًا فخوراً، ويقول اللَّه تعالى أيضاً بالنسبة إلى هذه الطائفة من الناس

«الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَآءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا» «1».

ومن البديهي أنّ اللَّه تعالى لا يحبّ الشخص الّذي يعيش التضاد المطلق مع صفاته الحسنى وأسماء الجلال والجمال للَّه تعالى، وبالتالي فإنّ مثل هذا الإنسان يخرج من دائرة سُبل عنايات اللَّه الخاصّة.

والملفت للنظر هو أنّ الآيات الّتي سبقت هذه الآية تشير إلى ما يصيب الإنسان من المصائب والبلايا وأن لا يتعلق الإنسان بهذه الحياة ولا يغتر بما لديه من امكانات مادية وقابليات دنيوية، وليعلم أنّ «البخل» لا يجديه شيئاً في عملية الثراء والغنى بل إنّ الحياة

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 348

الدنيا تتقلب من شكلٍ إلى آخر، وبذلك قد يكون أثرى الناس وأكثرهم مالًا في يوم آخر من أفقر الناس، ويتبدل حال الفقير كذلك بين عشية وضحاها ليكون من أغنى الناس، إذاً فلا داعي إلى الفخر والمباهات والغرور بهذه الثروات المتنقلة لانها لا تحل مشكلة حقيقية للإنسان في واقعه النفسي.

والملاحظة المهمة الاخرى هي دعوة هؤلاء البخلاء الآخرين لسلوك طريق البخل أيضاً ليصبح الناس كلّهم مثلهم، فلا يفتضح أمرهم ولا يعيب عليهم الناس حالة الشح والبخل فيهم، مضافاً إلى أنّ مثل هؤلاء الأشخاص قد سحقوا العواطف الإنسانية تحت أقدامهم فهم يعيشون قساوة القلب وعدم الاحساس بالرحمة والعطف تجاه الآخرين، لذلك فإنّهم يتألمون عندما يرون سخاء الآخرين وترحمهم وعطفهم على الفقراء والمحتاجين ويودون أنّهم لو كانوا مثلهم في البخل.

وفي هذا الصدد يقول الإمام الصادق عليه السلام: «إن أميرالمؤمنين عليه السلام بعث إلى رجل بخمسة أوساق من تمر المعيقة، وكان الرجل ممن يرجو نوافله ويؤمل نائله ورفده وكان لا يسأل علياً عليه السلام ولا غيره، فقال رجل لأميرالمؤمنين عليه السلام: واللَّه ما سألك فلان ولقد كان

يجزيه من الخمسة أوساق وسق واحد، فقال له أميرالمؤمنين عليه السلام: لاكثّر اللَّه في المؤمنين ضربك اعطي أنا وتبخل أنت، للَّه أنت، إذا أنا لم اعط الّذي يرجوني إلّابعد المسألة ثمّ أعطيته بعد المسألة فلم أعطه إلّاثمن ما أخذت منه، وذلك لأني عرضته أن يبذل لي وجهه الّذي يعفّره في التراب لربي وربّه ...» «1».

«الآية السادسة» وضمن الإشارة إلى العقوبة الشديدة والعذاب الاليم الّذي ينتظر البخلاء تقول «وَامَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِرُهُ لِلْعُسْرى وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ اذْا تَرَدّى «2».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 349

ويتضح جيداً من سياق هذه الآيات ما يلي:

1- إن البخل لا يتسبب في رفع حالة الاحتياج والفاقة في النفس بل إنّ سلوك هذا الطريق سوف يزيد من مشاكل الإنسان الدنيوية والاخروية (والملفت للنظر أنّ كلمة «العسرى» في الآية مطلقة تشمل جميع اشكال العسر في الدنيا والآخرة).

2- على فرض أنّ هذا الإنسان استطاع الحصول على ثروة طائلة من هذا السبيل واستطاع نقلها إلى الآخرة، ولكن ماذا ينفع ذلك عندما يهوي إلى جهنم في ذلك اليوم؟

وقد ذكر المفسّرون في تفسير كلمة «يسر» وهي النقطة المقابلة للعسر، احتمالات كثيرة تأتي كلّها أيضاً في النقطة المقابلة لها، أي مفهوم «العسر»، الاحتمال الأوّل: أنّ المقصود من ذلك تهيئة أسباب التوفيق للتحرّك في خطّ الطاعة والإيمان والانفتاح على اللَّه تعالى، وعلى العكس من ذلك كلمة «العسر» و الّتي تعني سلب التوفيق للطاعة والايمان، وذهب بعض آخر إلى أن معنى هذه الكلمة هو سهولة الحياة في الدنيا وعدم مواجهة الإنسان صعوبات ومشاكل مهمة في امور المعيشة، ويرى البعض الآخر آنها تعني تيسير طريق الجنّة والثواب الإلهي العظيم يوم القيامة، والبعض الآخر فسّرها بالامدادات

الإلهية الغيبية للإنسان وأمثال ذلك ولكن كما تقدّمت الإشارة إليه فإنّ مفهوم «العسر» وكذلك «اليسر» مفهوم واسع يستوعب جميع هذه الامور المتعلقة بحياة الإنسان الدنيوية والاخروية.

وفي «الآية السابعة» نجد خطاباً إلهياً لأصحاب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله من موقع الذم والتقريع حيث تقول الآية «هَا أَنتُمْ هَؤُلَا ءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ» «1».

ومن أجل أن لا يتصور بعض الجهّال أنّ اللَّه تعالى يحتاج لمثل هذه الأموال والانفاق تقول الآية في سياقها أيضاً «وَاللَّهُ ا لْغَنِىُّ وَأَنتُمُ ا لْفُقَرَآءُ» «2» وعلى هذا الأساس فإنّ ما ينفقه الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 350

الإنسان من الأموال هو في الواقع أداء للأمانة الإلهية الّتي أودعت عنده لغرض اختباره وامتحانه وتربيته، وبذلك فإنّ اللَّه تعالى أمر عباده بإيصال بعض هذه الأمانة إلى الفقراء والمساكين أو إنفاقها في طريق الجهاد في سبيل اللَّه.

وفي ختام الآية يتحرّك القرآن الكريم من موقع التهديد للأشخاص الّذين يعيشون البخل والشُّح ويقول: «وَإِنْ تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَايَكُونُواْ أَمْثَالَكُم» «1».

وعلى هذا الأساس تنطلق الآية من موقع التهديد للبخلاء بالفناء والاندثار، وهذا من أشد اشكال التهديد الوارد للبخلاء.

وبالرغم من أنّ مصداق الانفاق في سبيل اللَّه ومع ملاحظة سياق الآية والقرائن الموجودة هو الأنفاق في طريق الجهاد، ولكن المفهوم واسع ويشمل كلّ عملٍ خير يتحرّك فيه المؤمن من موقع البذل والعطاء للآخرين.

والكثير من المفسّرين من الشيعة وأهل السنّة ذكروا في ذيل هذه الآية انه بعد نزولها سأل بعض الصحابة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله عن مراد القرآن الكريم من هؤلاء القوم الّذين يأتون بعد البخلاء ويحلون محلهم ولا يكونوا أمثالهم من هم؟

فوضع النبي

الأكرم صلى الله عليه و آله يده على رجل سلمان الّذي كان جالساً إلى جنبه وقال «هَذَا وَقَومُهُ وَالّذي نَفْسي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ الإيمانُ مَنُوطاً بِالثُرَيّا لَتَناوَلَهُ رِجالٌ مِنْ فَارْسٍ» «2».

«الآية الثامنة» بعد أن تأمر بالانفاق وتؤكد على أنّ الانفاق يورث الإنسان كلّ خير وبركة تقول: «.. وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَاولئكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «3».

يقول الراغب الاصفهاني في كتابه «مفردات القرآن» الشُّح، (على وزن مخ) بخلٌ مع الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 351

حرص وذلك فيما كان عادة.

«الفلاح» بمعنى الشق والقطع، ويستخدم لكلّ اشكال السعادة والنجاح والنصر والوصول إلى المقاصد والأهداف في حركة الحياة، وينقسم أيضاً إلى الفلاح المادي والمعنوي.

وقد ورد في الآيات السابقة لهذه الآية انذار وتحذير للمسلمين بالنسبة إلى الفتنة من الأموال والأولاد، والظاهر انه مع هذا البيان تريد الآية أن تبيّن موانع الانفاق لانه أحياناً يواجه الشخص الوساوس من قبل الأبناء لكيلا يؤدي بهم انفاق الأب إلى الفقر والحاجة أو يعيشوا بدون ميراث، وأحياناً اخرى يعيش الإنسان الوساوس النفسية من مستقبل ابنائه وأنّهم سوف يعيشون حالة الفقر بعده، فيمنعه ذلك من الانفاق، ومن المعلوم أنّ جميع هذه الوساوس تعد من أحابيل الشيطان ومن موانع «الفلاح» والنجاح في معراج الكمال المعنوي، وتورث الإنسان الحرص والبخل الشديد.

وقد ورد في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام انه كان يطوف بالبيت من الليل إلى الصباح ويقول «اللّهُمَّ قِني شُحَّ نَفْسي» يقول الراوي فسألته: بأبي أنت وامّي لم اسمع منك هذه الليلة غير هذا الدعاء، فقال «وَايُّ شَي ءٍ اشَدُّ مِنْ شُحِ النَّفْسِ انَّ اللَّهَ يَقُولُ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَاولئكَ هُمُ المُفلِحُون» «1».

وعلى هذا فصفة «البخل» تعد من الموانع المهمة للفلاح إلى درجة أنّ الإمام الصادق عليه السلام

يدعو اللَّه تعالى في طوافه بالبيت من الليل إلى الصباح بهذا الدعاء ويعتبر أنّ هذه الحاجة هي من أهم حاجاته في خطّ الإيمان والطاعة والتربية النفسية.

وتعبير «خيراً لأنفسكم» بعد الأمر بالانفاق هو إشارة إلى هذه النكتة اللطيفة، وهي أنّ السخاء والانفاق في سبيل اللَّه تعود معطياته الايجابية على الإنسان نفسه حيث تربّي فيه الروح الإنسانية ويتخلص قلبه من ظلمات الحرص وقيود «البخل»، ويترتب على ذلك الكثير من البركات المادية والمعنوية في حياة الإنسان الفردية والاجتماعية.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 352

ونختم هذا البحث بذكر حديث شريف في تفسير معنى «الشُّح» عن الإمام الصادق عليه السلام حيث سأل «الفضيل بن عياض»: هل تعلم معنى «الشحيح» فقال: البخيل، فقال له الإمام «الشُّحُ اشَدُّ مِنَ الْبُخلِ انَّ الْبَخيلَ يَبْخَلُ بِمَا فِي يَدِهِ وَالشّحيحُ يَشُحُّ عَلَى مَا فِي ايْدِي النّاسِ وَعَلَى مَا فِي يَدِهِ حَتَّى لا يَرى فِي ايْدِي النّاسِ شَيْئاً الّا تَمَنّى انْ يَكُونَ لَهُ بِالْحِلِّ وَالْحَرَامِ، لا يَشْبَعُ وَلا يَقْنَعُ بِمَا رَزَقَهُ اللَّهُ عَزّوَجَلّ» «1».

«الآية التاسعة» وضمن استعراضها لمسألة «البخل» تحت عنوان التقتير تقول في ذكر صفات عباد الرحمان: «وَالَّذِينَ اذَا انْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً» «2».

«يقتروا» من مادّة «قتر» على وزن «صبر» ويقع هذا المفهوم في النقطة المقابلة للاسراف، وأحي

وفي الواقع فإ

النتيجة:

إن الآيات محل البحث تدلّ على المفهوم الإسلامي والموقف القرآني بالنسبة إلى «البخل» وقد ذكرت الآيات الشريفة نماذج من سلوك البخلاء ومصيرهم المشؤوم وعاقبتهم الاليمة والنتائج السلبية المترتبة على البخل في حياة الإنسان المادية والمعنوية، وقد ذكرت الآيات الشريفة البخل بعنوان رذيلة أخلاقية شنيعة من شأنها أن توقع الإنسان في ورطة الشقاء والتعاسة وتبعده عن «الفلاح» والسعادة المنشودة.

البخل في منظور الروايات الإسلامية:

ونقرأ في الأحاديث الشريفة روايات شديدة، توضح موقف الإسلام من ظاهرة «البخل» منها:

1- قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «الْبَخيلُ بَعيدٌ مِنَ اللَّهِ بَعيدٌ مِن النّاسِ، قَريبٌ مِنَ النّارِ» «1».

2- وفي حديث آخر يقول أميرالمؤمنين عليه السلام «النَّظَرُ الَى الْبَخيلِ يُقْسِيِ الْقَلْبَ» «2».

3- ونقرأ في حديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله انه كان يطوف بالبيت فإذا رجل متعلق بأستار الكعبة وهو يقول: بحرمة هذا البيت إلّاغفرت لي ذنبي، قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: وما ذنبك؟ صفه لي، قال: هو أعظم من أن أصفه لك، قال: ويحك ذنبك أعظم أم الأرضون؟ قال:

بل ذنبي يا رسول اللَّه، قال صلى الله عليه و آله: ويحك ذنبك أعظم أم الجبال؟ قال: بل ذنبي يا رسول اللَّه.

قال صلى الله عليه و آله: فذنبك أعظم أم البحار؟ قال: بل ذنبي يا رسول اللَّه، قال صلى الله عليه و آله: فذنبك أعظم أم الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 355

السماوات؟ قال: بل ذنبي يا رسول اللَّه، قال صلى الله عليه و آله: ذنبك أعظم أم اللَّه؟ قال: بل اللَّه أعظم وأعلى وأجل. قال: ويحك فصف لي ذنبك، قال: يا رسول اللَّه، إني رجل ذو ثروة من المال، وأنّ السائل ليأتيني ليسألني فكأنما يستقبلني بشعلة من النار،

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: إليك عني، لا تحرقني بنارك، فوالّذي بعثني بالهداية والكرامة، لو قمت بين الركن والمقام، ثمّ صليت الفي ألف عام، وبكيت حتّى تجري من دموعك الأنهار وتسقي بها الأشجار، ثمّ متّ وأنت لئيم، لأكبك اللَّه في النار، ويحك أما علمت أنّ اللَّه يقول:

«... وَمَن يَبْخَلْ فَانَّمَا يَبْخَلُ عَن نَفْسِهِ ...» «1».

«.. وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» «2» «3».

هذا الحديث يدلّ بوضوح على أنّ «البخل» هو مصدر لأنواع الذنوب والمفاسد بحيث يبعده عن اللَّه تعالى إلى هذه الدرجة.

4- وجاء في حديثٍ آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «يَقُولُ قَائِلُكُم الشَّحيحُ أَعْذَرُ مِنَ الظّالِمِ وَأَيُّ ظُلْمٍ أَظْلَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الشُحِّ حَلَفَ اللَّهُ بِعِزَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ وَجَلالِهِ لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ شَحيحٌ وَلا بَخيلٌ» «4».

5- وورد في حديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله «الشُّحُ وَالايمانُ لا يَجْتَمِعانِ فِي قَلْبِ واحِدِ» «5».

6- وورد في حديث آخر عن النبي صلى الله عليه و آله أيضاً قوله «الْبُخْلُ شَجَرَةٌ تَنْبُتُ في النّارِ فَلا يَلِجُ النّارُ الّا بَخيلٌ» «6».

7- وورد في أحد الروايات أنّ أحد أصحاب النبي صلى الله عليه و آله استشهد في ميدان الجهاد

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 356

فجاءت امرأة من ذويه وأرحامه تبكيه وتقول يا شهيداه، فقال النبي صلى الله عليه و آله: من أين علمتي انه شهيد، «فَلَعَلَّهُ كَانَ يَتَكَلّمُ بِمَا لا يَعنيهِ اوْ يَبْخَلُ بِمَا لا يَنْقُصُهُ» «1».

هذا الحديث يبين أنّ الكلام بما لا يعني والبخل ولا سيّما بما لا يضره يتسبب في سلب أكبر افتخار قد يناله الإنسان ألا وهو الشهادة في سبيل اللَّه.

8- وقد ورد في النصوص الإسلامية

عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله كذلك قوله «جَاهِلُ سَخيٌّ احَبُّ الَى اللَّهِ مِنْ عَابِدٍ بَخيلٍ وَادْوَى الدّاءِ البُخْلْ» «2».

هذا الحديث يوضح أنّ البخل قد يؤدي إلى تلف معطيات العبادة وزوال آثارها الايجابية في حياة الفرد.

9- وأيضاً نقل عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «المُوبِقاتُ ثَلاثٌ شُحٌ مُطاعٌ وَهَوىً مُتَبَّعٌ وَاعجَابُ المَرْءِ بِنَفِسهِ» «3».

10- ونختم هذا الموضوع برواية اخرى عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله رغم وجود روايات كثيرة في هذا الباب، فقد ورد في الحديث النبوي أنّ جماعة من الأسرى جي ء بهم إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فأمر أميرالمؤمنين عليه السلام بضرب أعناقهم ثمّ أمره بإفراد واحد منهم وأن لا يقتله فقال الرجل لم أفردتني من أصحابي والجناية واحدة؟ فقال: إن اللَّه عزّوجلّ أوحى إليّ أنك سخي قومك ولا اقتلك. فقال الرجل: فاني أشهد أن لا إله إلّااللَّه وأنك رسول اللَّه «4».

جذور البخل وعلائمه:

إن الجذور الأصلية لهذه الرذيلة الأخلاقية مثل سائر الرذائل الأخلاقية الاخرى تتمثل في ضعف دعائم الإيمان ومعرفة اللَّه لدى الشخص، فالإنسان إذا اعتقد بأن اللَّه تعالى قادر

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 357

على كلّ شي ء وإن جميع مفاتيح الخيرات والبركات بيده تعالى يجب أن يتيقن من أنّ اللَّه سيوفي بوعده بالنسبة إلى ما يترتب على الانفاق في سبيل اللَّه إلى النتائج المادية والمعنوية، فإذا عاش الإنسان بهذه العقيدة، فلا مجال لأن يتلوث قلبه بالبخل أو يتصف قلبه بالامساك.

يقول الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام «البُخْلُ بِالمَوجُودِ سُوءُ الظَنِّ بِالمَعْبُودِ» «1».

أي أنّ الإنسان يسي ء الظن بما وعد اللَّه تعالى من الثواب على الانفاق والبذل في سبيله.

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:

«ان كانَ الخَلَفُ مِنَ اللَّهِ عزّوجلّ حَقّاً فَالبُخْلُ لِماذَا» «2».

ونقرأ في كتاب «فقه الرضا» «ايّاكُمْ وَالبُخْلَ فَانَّهَا عَاهَةٌ لا تَكُونُ في حُر وَلا مُؤمِنٍ انَّها خِلافُ الإيمانِ» «3».

وورد في الحديث القدسي عن رسول اللَّه تعالى صلى الله عليه و آله يقول «يَاعَبدِي اتَبْخَلُّني ام تَتَّهِمُني أَم تَظُنُّ انّي عَاجِزٌ غَيرُ قَادِرٍ عَلَى اثَابَتِكَ» «4».

أجل، إن الأحرار والمؤمنين والّذين يؤمنون بوعد اللَّه تعالى فإنّهم يعيشون الاطمئنان لقدرة اللَّه تعالى على جميع أنواع الثواب، فلا تهتز لهم يد في عملية الانفاق في سبيل اللَّه، ولا يجد البخل إلى أنفسهم سبيلًا، بل يتحركون دائماً في خطّ الانفاق والجود على عباداللَّه من الفقراء والمساكين والمحتاجين ولا يطلبون الأجر إلّاممن هو قادر على كلّ شي ء وكريم بذاته وعليم بحال عباده.

ومن العلائم الاخرى للبخل هي الاعتذار بالأعذار المختلفة لتبرير الامساك ومنع البذل للآخرين، البخلاء يتحركون دائماً في عملية التغطية على هذه الرذيلة الأخلاقية المترسخة

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 358

في أنفسهم من موقع التذرع بالأعذار الواهية بل أنّهم يخدعون أنفسهم أيضاً بمثل هذه الأعذار، وعلى سبيل المثال من كان لديه مالٌ كثير ولكنه غير مستعد للانفاق منه أو إقراض الغير فإنه يتمسك في هذا المنع بالأعذار من قبيل انه يحتمل انني سأواجه مشكلة احتاج فيها إلى هذا المال، أو يحتمل أن يقع ابني مريضاً على الفراش، أو من المحتمل أن يرد عليّ بعض الضيوف، أو أنّ المستقبل الاقتصادي للسوق يتجه إلى الكساد وأمثال ذلك.

يقول الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام في هذا الصدد «الْبَخِيلُ مُتَحَجِّجٌ بِالمَعاذيرِ وَالتَّعاليلِ» «1».

ويقول في مكان آخر «كَثْرَةُ العِلَلِ آيَةُ البُخْلِ» «2».

فمن العلائم الاخرى للشخص البخيل هي ستر النعم والمواهب الإلهية بحجج وذرائع مختلفة عن أنظار الناس

لكيلا يطلب الناس منه شيئاً منها، وبالطبع فإنّ هذه الحالة في الكثير من الأوقات تلبس لباس المنطق والدليل من قبيل الخوف من الحسد أو الخوف من الأخطار غير المتوقعة وأمثال ذلك.

العلامة الاخرى للبخل هي انه عندما يواجه الأمر الواقع وينفق شيئاً في سبيل اللَّه فإنه يجد في نفسه ألماً وحزناً كبيراً وكأنه قد فقد شيئاً عزيزاً عليه أو أحد أحبته.

آثار ونتائج البخل:

إن من بين الصفات الذميمة والرذائل الأخلاقية قلما نجد صفة من الصفات تورث الإنسان مشاكل ومصاعب كالبخل بما له من افرازات سلبية كبيرة في حركة الحياة والمجتمع، ومن جملة ذلك فان البخيل بالرغم من سعيه لحفظ أمواله وثروته فإنه يتنازل ويفقد الكثير من شخصيته وحرمته بين الناس، وفي هذا الصدد نجد أنّ الروايات الإسلامية

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 359

قد أشارت إلى هذا المعنى على نحو الاجمال ومنها:

1- يقول الإمام علي عليه السلام «الْبَخيلُ يَسْمَحُ مِنْ عِرْضِهِ بِاكْثَرِ مِمَّا امْسَكَ مِنْ عَرَضِهِ» «1».

2- إن البخيل سوف يفقد باستمرار أصدقائه ورفاقه وبالتالي يصبح وحيداً غريباً أمام المشكلات الكبيرة الّتي تفرزها تحديات الواقع الصعب، وفي ذلك يقول أميرالمؤمنين عليه السلام «لَيْسَ لِبَخيلٍ حَبيبٌ» «2»

؛ وعلى فرض انه كان له صديق لمدّة قصيرة من الزمان فإنّ «البخل» يتسبب في الحاق الذلّة لأصدقائه والعزّة لأعدائه كما يقول أميرالمؤمنين عليه السلام «الَبُخْلُ (البَخيلُ) يُذِلُّ مُصاحِبَهُ وَيُعِزُّ مُجانِبَهُ» «3».

3- إن «البخيل» يوقع نفسه في التعب والضنك دائماً، وفي نفس الوقت فإنّ ورثته هم المستفيدون من عمله وتعبه، فهو في الدنيا يتعب نفسه في جمع الأموال، وفي الآخرة يجد نفسه مسؤولًا عنها كما يقول أميرالمؤمنين عليه السلام «الْبَخيلُ خَازِنٌ لِوَرَثَتِهِ» «4»

الورثة الّذين قد لا ينفقون من أمواله درهماً في سبيل اللَّه وفي سبيل

بذل الخيرات والمثوبات له.

4- «البخيل» يعيش عيشة الفقراء لأن البخل عندما يشتد على الإنسان فإنه يبخل حتّى على نفسه، وبذلك لايجد السعادة والحياة الطيبة والمريحة لأنّه يعيش التفكير الدائم في كيفية حفظ أمواله وزيادتها، وأحياناً تعرض عليه حالات نفسانية سلبية من قبيل سوء الظن الشديد بمن يحيط به، مثلًا يتصور أنّ الناس ينظرون إليه بعين الطمع ويحسدونه على ما لديه من الأموال والثروات بل ويعادونه أيضاً، وفي الأحاديث الإسلامية نجد أشارات جميلة إلى هذه المسألة، ومن ذلك ما ورد عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «عَجِبْتُ لِشَقِىَ الْبَخيلِ يَتَعَجَّلُ الفَقْرَ الّذي مِنْهُ هَرَبَ وَيَفُوْتُهُ الْغِنَي الّذي ايّاهُ طَلَبَ فَيَعيشُ في الدُّنيا عَيشَ الفُقَراءِ وَيُحاسَبُ فِي الآخِرَةِ حِسابَ الاغنياءِ» «5».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 360

وفي حديثٍ آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «اقَلُّ النّاسِ راحَةً الْبَخيلُ» «1».

5- «البخل» يوجب سوء الشهرة والسمعة ويؤدي إلى تهكم الناس ولعنهم لهذا الشخص البخيل كما قال أميرالمؤمنين عليه السلام «بِالْبُخْلِ تَكْثُرُ المَسَبَّةَ» «2».

6- «البخل» جامعٌ للكثير من الأخلاق الرذيلة والصفات الذميمة ويعتبر مصدراً للكثير من الرذائل الأخلاقيه من قبيل سوء الظن، الحسد، الخوف، الجبن، سوء النيّة وتلوث الباطن وقساوة القلب وما إلى ذلك، يقول أميرالمؤمنين عليه السلام في هذا الصدد «النَّظَرُ الَى البَخيلِ يُقْسِيَ الْقَلْبَ» «3».

وورد حديث آخر جامع لمساوى ء البخل، يقول أميرالمؤمنين عليه السلام «الْبُخْلُ جَامِعٌ لِمَساوِي العُيوبِ وَهُوَ زِمامٌ يُقادُ بِهِ الَى كُلِّ سُوءٍ» «4».

درجات البخل:

إن حال «البخل» كحال سائر الصفات الرذيلة في أنّ له درجات ومراتب، وبعض هذه المراتب قد تكون خفية إلى درجة تخفى حتّى على الشخص نفسه وتخفى على الآخرين أيضاً، وهناك بعض المراتب إلى درجة من الوضوح بحيث إن

كلّ إنسان يدركها حتّى الأطفال.

بعض الناس يبخلون بأموالهم فحسب أي أنّهم غير مستعدين بأن ينتفع الآخرون بأموالهم بأي مقدارٍ كان، والبعض الآخر يتجاوز هذا الحدّ فيبخل بأموال الناس أيضاً، أي انه لو رأى أنّ شخصاً يقوم بالبذل والانفاق على الآخرين فإنه يتألم بذلك، وبعض آخر يتجاوز هذه المرحلة أيضاً فكلما رأى كرماً من الناس حتّى على نفسه فإنه يتألم بذلك وهذا أعجب أشكال البخل.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 361

ومن جهة اخرى فإنّ البعض يبخلون في الامور المادية، والبعض الآخر في الامور المعنوية كمن يبخل في بذل العلم والمعرفة، وبعض الناس يبخلون في الموضوعات المهمة من قبيل بذل الأموال الكثيرة، في حين أنّ البعض الآخر يبخلون حتّى بالمسائل الجزئية من قبيل السلام، والبعض قد يبخل في العطاء والانفاق المستحب في حين أنّ هناك من يبخل حتّى في الواجبات مثل أداء الخمس والزكاة، وبعض البخلاء لا يتحركون في تبرير بخلهم وامساكهم بينما نجد البعض الآخر يتسترون على هذا الامساك والاقتار بالتمسك بعناوين ظاهرية من قبيل عدم الاسراف أو تأمين نفقات الابناء أو الابتعاد عن الرياء والتظاهر أو التشكيك في استحقاق المستحقين وأمثال ذلك.

وعلى هذا فإنّ للبخل فروع متعددة وأشكال مختلفة، وينبغي على المؤمن المتقي مراقبة جميع هذه الاشكال والحذر منها والتصدي لها بإبعادها عن نفسه والحذر من التلوث بها كيما يحصل على مقام القرب الإلهي والكمال المعنوي في حركة الحياة.

ونجد في الروايات الإسلامية اشارات لطيفة إلى أشكال وفروع البخل هذه ومنها:

1- ما ورد عن الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «الْبُخْلُ بِاخْراجِ مَا افْتَرَضَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنَ الامْوَالِ اقْبَحُ البُخلِ» «1».

2- وورد في حديثٍ آخر أنّ الإمام علي عليه السلام بعث إلى رجل بخمسة أوساق من تمر

...

فقال رجل لأميرالمؤمنين عليه السلام: واللَّه ما سألك فلان ولقد كان يجزيه من الخمسة أوساق وسق واحد، فقال له أميرالمؤمنين عليه السلام: لاكثّر اللَّه في المؤمنين ضربك، أعطي أنا وتبخل أنت ...» «2».

3- وجاء في الحديث الشريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «انَّ ابْخَلَ النّاسِ مَنْ بَخِلَ بِالسَّلامِ» «3».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 362

4- وفي الحديث عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «الْبَخيلُ حَقّاً مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ» «1».

5- ويستفاد من بعض الروايات أنّ بعض مراحل البخل ينطوي تحت عنوان «اللئيم» وهو الّذي يعيش الدرجة الشديدة من البخل كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «الرِّجَالُ أرْبَعَةٌ سَخيٌ وَكريمٌ وَبَخيلٌ وَلَئيمٌ، فَالسَّخيُ الّذي يَأْكُلُ وَيُعْطِيَ وَالكَريمُ الّذي لا يَأْكُلُ وَيُعطِيُ وَالبَخيلُ الّذي يَأكُلُ ولايُعطِيُ واللّئيمُ الّذي لا يَأكُلُ ولايُعطِيُ» «2».

الوقاية من البخل وعلاجه:

كما أنّ الأمراض البدنية يتم التصدي لها والوقاية منها بالبحث عن جذورها وأسبابها فكذلك الحال في الأمراض الأخلاقية، لأنّه ما لم تقلع جذور المرض فإنّ عناصر المرض تراوح في مكانها وسوف تظهر في آونة اخرى بالرغم من زوال آثارها بشكل مؤقت.

وبما أنّ دوافع «البخل» متعددة وكثيرة، فينبغي البحث عن جذور هذا المرض لأن البعض يعيشون التعلّق الشديد بشهوات الدنيا، وبما أنّ الأموال هي الوسيلة للوصول إلى هذه الشهوات فإنّهم يتعلقون بها ويعشقونها إلى درجة أنّهم غير مستعدين لبذل أي مقدار منها، هؤلاء الأشخاص يجب عليهم قطع هذه العلاقة الشديدة بتوجيه النفس واشغال العواطف بامورٍ اخرى والتفكر في العواقب الأليمة للخوض في الشهوات وما يقع فيه أهل الدنيا من المشاكل والازمات، وعند ذلك يتحفظون من السير في هذا الخط المنحرف.

الدافع الآخر للبخل هو

طول الأمل، فإنّ الآمال الطويلة تدعو الإنسان إلى جمع المال والبخل في انفاقه، فلو أنّ هذا الإنسان قطع آماله وطموحاته وأدرك أهتزاز الدنيا وتذبذبها وعدم استقامتها على حالٍ واحد، ورأى الأشخاص الّذين رحلوا عن هذه الدنيا بحوادث الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 363

مختلفة وأمراض متنوعة بدون انذار أو مقدمات وقد كانت لديهم أعمال وطموحات طويلة وعريضة في هذه الدنيا، فإنّ ذلك من شأنه أن يحد من حالة «البخل» لدى هذا الإنسان.

الباعث الآخر للبخل هو التعلق والعشق للأولاد والأهل والعيال حيث يدفعه ذلك إلى جمع الأموال وادخارها تحسباً لمستقبلهم في حين أنّ اللَّه تعالى قد ضمَّن رزقهم ومعيشتهم، فلو كانوا من أولياء اللَّه وأحباءه فإنّ اللَّه تعالى سوف لا يتركهم لوحدهم ولحالهم، ولو كانوا من أعداء اللَّه فإنّ جمع المال لمثل هؤلاء الأشخاص سيكون أداة لتوغلهم في الذنوب والآثام وستقع مسؤولية ذلك عليه، فليس من العقل والمنطق أن يجمع الإنسان المال ويدخره لمثل هؤلاء الأشخاص، وبالطبع أحياناً نجد بعض الأشخاص وبسبب لياقتهم الذاتية فإنّهم يتمتعون بعيشة حسنة وطيبة من دون أن يرثوا درهماً واحداً من والديهم بل قد يعيشون أفضل من حياة الّذين ورثوا أموالًا طائلة من أبيهم.

والباعث الآخر لذلك كما يقول بعض علماء الأخلاق هو ما يشبه المرض من دون علاج، أي أنّ البعض يحب المال من أجل نفس المال ويعشقه ويسعى دائماً لجمعه والاكثار منه ويستوحش من بذله وانفاقه، هؤلاء اصابتهم حالة من النسيان والغفلة عن أنّ المال إنما هو وسيلة للتوصل إلى الأغراض المادية أو المعنوية، وألا فلو استخدم في غير هذا السبيل وأصبح بحدّ ذاته هدفاً يجمعه الإنسان فإنه لا يختلف حاله مع الحجر والخشب والآجر.

امّا الطريق إلى الوقاية من «البخل» فإنّ

على الشخص البخيل أن يجاهد نفسه ويعض على نواجذه وينفق من أمواله مهما مانعته نفسه من ذلك، وكلما تكرر منه هذا العلم فإنّ العشق للمال سوف يذوب ويتلاشى من قلبه ومشاعره، كما هو الحال في الشخص الجبان الّذي إذا دخل ميادين الحياة من موقع مواجهة التحديات للواقع والمعيشة، فإنّ ذلك الخوف سوف يزول ويتلاشى بالتدريج، وهكذا بالنسبة إلى الشخص الخجول حيث إنه إذا دخل مجالس الكبار ودفع بنفسه إلى التحدّث في مثل هذه المجالس مرّات عديدة فسوف تزول منه حالة الخجل هذه.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 364

ومن الطرق الاخرى هي التفكر في كراهية الناس وانزجارهم من الشخص البخيل والأشخاص الّذين لا يعيشون حالة الكرم والبذل، فإنّ الناس يتعاملون معهم على مستوى أنّهم أشخاص غير مرغوب بهم ولا يحترمونهم كما يحترمون الاسخياء والكرماء من الناس، وأحد طرق علاج «البخل» والابتعاد عن هذه الرذيلة الأخلاقية هو التفكّر في العواقب الوخيمة والآفاق السلبية الكبيرة لحالة البخل حيث يترتب على ذلك أن يتخلص الإنسان تدريجياً من هذه الحالة الذميمة.

وفي هذا الصدد يقول أميرالمؤمنين عليه السلام «البَخيلُ يَبْخَلُ عَلَى نَفْسِهِ بِاليَسيرِ مِن دُنياهُ وَيَسمَحُ لِوُرّاثِهِ بِكُلِّها» «1».

وجاء في حديثٍ آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «مَن بَرِءَ مِنَ البُخلِ نالَ الشَّرَفَ» «2».

فالتفكر في كلّ هذه الامور بإمكانه أن يخلص الإنسان من أسر البخل وخاصّة إذا التفت إلى الروايات الشريفة الّتي تقرر أنّ البخل لا يجتمع مع الإيمان إطلاقاً.

18

الجود والسخاء

تنويه:

تقع هاتين المفردتين «الجود والسخاء» في مقابل البخل، وتستعملان غالباً بمعنى واحد، ولكن أحياناً يستفاد من بعض كلمات العلماء أنّ الجود لنفس المرحلة أعلى من السخاء، لانه ورد في تعريف الجود انه «البذل بدون طلب وفي نفسه يرى ما بذله

قليلًا» وقيل أيضاً في تعريفه «الجود هو الفرح من طلب الناس والسرور من العطاء لهم» وقال البعض أيضاً «الجود هو بذل المال بأن يراه مال اللَّه والسائل عبداللَّه ويرى نفسه فيما بينهما واسطة فقط» في حين أنّ السخاء له معنىً واسع ويشمل كلّ أنحاء البذل والعطاء.

وذكر البعض في تعريفهما أنّ «الشخص الّذي يهب قسماً من أمواله إلى الغير ويبقي لنفسه القسم الآخر فهو السخي، والشخص الّذي يهب أكثر ماله إلى الغير ويبقي مقداراً قليلًا منه لنفسه فهو الجواد» ويتبين طبقاً لجميع هذه التعاريف أنّ «الجود» مرحلة أعلى من «السخاء».

وعلى أية حال فإنّ «الجود والسخاء» من الفضائل الأخلاقية المهمة، وكلّما كان «البخل» من علامات الدناءة والحقارة وضعف الإيمان وفقدان الشخصية للإنسان البخيل كان الجود والسخاء من علائم الإيمان وقوّة الشخصية وسمو المكانة الاجتماعية للشخص.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 366

اما في القرآن الكريم رغم أنّ كلمة «الجود» أو «السخاء» لم تستخدم في سياق الآيات الكريمة، ولكن التعبيرات الاخرى للآيات تنطبق على هذين المفهومين حيث يتبين جيداً أنّ القرآن الكريم يعطي أهمية بالغة لهما، وكنموذج على ذلك نورد هذه الآيات الشريفة:

1- «... يُحِبُّونَ مَن هاجَرَ الَيهِم وَلايَجِدُونَ فِي صُدورِهِم حَاجَةً مِمَّا اوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى انْفُسِهُمْ وَلَوْ كَانَ بِهِم خَصَاصَةٌ ...» «1».

2- «وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكيناً وَيَتيماً وَاسيراً* إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُريدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلَا شُكوراً» «2».

3- «مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَا لَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِى كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَا سِعٌ عَلِيمٌ» «3».

4- «الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَا لَهُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلَاخَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَاهُمْ يَحْزَنُونَ» «4».

5- «لَنْ تَنَالُواْ ا لْبِرَّ حَتَّى

تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَاتُنفِقُواْ مِن شَىْ ءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ» «5».

6- «الَّذينَ يُؤمِنُونَ بِالغَيبِ وَيُقيمُونَ الصَّلاةً وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون» «6».

7- «وَلَا تَجْعَلَ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلِّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً» «7».

تفسير واستنتاج:

سيماء الكرماء في القرآن

«الآية الاولى من الآيات محل البحث تتحدّث عن طائفة من الكرماء الأنصار في الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 367

المدينة الّذين استقبلوا المهاجرين إليهم من مكّة برحابة صدر واستضافوهم في بيوتهم وفضلوهم على أنفسهم بل حتّى أنّهم قالوا: نحن على استعداد لتقديم أموالنا وبيوتنا بيننا وبين المهاجرين ولا نطمع بشي ءٍ من الغنائم الحربية.

القرآن الكريم يستعرض حالة هؤلاء المؤمنين في الآية الشريفة فيقول «... يُحِبُّونَ مَن هاجَرَ الَيهِم وَلايَجِدُونَ فِي صُدورِهِم حَاجَةً مِمَّا اوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى انْفُسِهُمْ وَلَوْ كَانَ بِهِم خَصَاصَةٌ ...» «1».

وقد ذكر بعض المفسّرين المعروفين أنّ التاريخ البشري لم يعرف مثل هذا الاستقبال والحفاوة لجماعة من الغرباء لدى دخولهم إلى مدينة من المدن حيث استقبلهم المؤمنون استقبالًا عظيماً حتّى أنّهم كانوا يفضلوهم على أنفسهم وسعوا إلى تقسيم كلّ ممتلكاتهم معهم بالسوية بل ورد في بعض الروايات أنّ عدد المهاجرين كان أقل من المستعدين لضيافتهم وكان ذلك سبباً في حدوث خلاف بينهم في نيل افتخار الضيافة. فكانوا يقترعون فيما بينهم على ذلك «2».

وعلى أية حال فإنّ اللَّه تعالى قد مدح هذا الخلق الكريم وأثنى على هذا الايثار والسخاء بهذه العبارات الكريمة.

«الآية الثانية» تتحدّث عن الكرماء الّذين قدموا طعامهم إلى المسكين واليتيم والأسير في حين أنّهم محتاجون إليه بشدّة ومن دون طمع في أجرٍ وثناء من الطرف المقابل «وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكيناً وَيَتيماً وَاسيراً* إنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُريدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلَا شُكوراً» «3».

وهناك روايات كثيرة من طرق الشيعة وأهل

السنّة تتحدّث عن أنّ الآيات 8- 9 من الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 368

سورة الدهر نزلت في أهل البيت عليهم السلام، كما ذكر العلّامة الأميني في كتابه «الغدير» عن أربع وثلاثين نفر من علماء السنّة المعروفين وأنّهم ذكروا هذا الحديث الشريف في كتبهم (مع ذكر اسم الكتاب ورقم الصفحة).

وعلى هذا فإنّ الحديث المذكور مشهور بين أهل السنّة بل متواتر، وأما علماء الشيعة فهو محل اتفاق وأنّ جميع سورة الدهر أو قسم مهم منها نزلت في أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله وهم «علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام».

ولدى التأمل والتدقيق في آيات سورة الدهر يتضح جيداً أنّ اللَّه تعالى قد ذكر هؤلاء الكرماء من موقع التمجيد والثناء والمدح ووعدهم جزيل الثواب في الآخرة ووصفهم بأوصاف سامية، فتارةً وصفهم بأنّهم «أبرار»، وفي مكانٍ آخر ذكرهم بعنوان «عباد اللَّه».

«الآية الثالثة» تتحرك من موقع التشويق والترغيب الشديد لمسألة الانفاق والبذل وتثني على الكرماء والاسخياء بتعابير في غاية العلو والجمال وتقول «مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَا لَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِى كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْ ئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَا سِعٌ عَلِيمٌ» «1».

فلو أننا أخذنا بظاهر الآية ولم نرتكب بعض التأويل والحذف والتقدير للمفهوم منها فإنّ الآية الشريفة تدلّ على أنّ روح المنفق والمحسن تنمو أو تشتد إلى درجة كبيرة بعملية البذل والانفاق كما أنّ أمواله تتضاعف وتتكاثر عدّة أضعاف بسبب الانفاق وكذلك يتصاعد الإنسان الكريم في مدارج الكمال بسرعة كبيرة وحتّى أنّ الخطوات الصغيرة في هذا السبيل تترتب عليها آثار عظيمة ونتائج كبيرة.

وعلى هذا الأساس فإنّ الانفاق والبذل مضافاً إلى أنّه يُعد قوّة تصعد بالإنسان في مدارج الرشد والكمال المعنوي

والإنساني للمجتمع البشري، فكذلك هو الحال بالنسبة إلى الشخص نفسه.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 369

وقد ورد في الرواية الشريفة عن الإمام زين العابدين عليه السلام انه كلّما جاءه سائل وأعطاه من ماله فإنه يُقبل يد السائل، فلمّا سُئل عن سبب ذلك قال «لِانَّها تَقَعُ فِي يَدِ اللَّهِ قَبْلَ يَدِ العَبدِ» «1».

«الآية الرابعة» وضمن الإشارة إلى نكتة مهمة في دائرة الانفاق تقول «الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَا لَهُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلَاخَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَاهُمْ يَحْزَنُونَ» «2».

وعلى هذا الأساس فإنّ «السخاء» و «الانفاق» في سبيل اللَّه بأي شكل كان فإنه مطلوب ومحبوب، ومن جهة اخرى فإنّ «الانفاق» يورث الإنسان الأمن من عذاب اللَّه ويزيل الهمَّ والحزن من قلبه، فالأشخاص الكرماء لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون لأن اللَّه تعالى قد ضمن رزقهم وسعادتهم فلا يحزنون على ما بذلوه في سبيل اللَّه لانهم يعلمون انما ينتظرهم من فضل اللَّه تعالى أكثر وأكثر ممّا بذلوه في هذه الحياة الدنيا.

«الآية الخامسة» تقرر هذا المعنى بتعبير آخر وتتحدّث عن الانفاق بالقول «لَنْ تَنَالُواْ ا لْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَاتُنفِقُواْ مِن شَىْ ءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ» «3».

وفي لغة العرب فإنّ كلمة «بر» تأتي بمعنى الاحسان المقارن للقصد والاختيار، وهذه من علامات شخصية الإنسان ومعنويته، واللطيف أنّ «البر» في هذه الآية جاء بشكل مطلق، وهذا يدلّ على أنّه ما لم يكن الإنسان سخياً وكريماً فإنه لا يصل إلى حقيقة البر والاحسان، رغم أنّ بعض المفسّرين فسّر كلمة «البرّ» بمعنى الجنّة، وبعض آخر ذكر أنّها بمعنى «التقوى و «الثواب الجزيل» ولكنَّ الظاهر أنّ مفهوم البرّ واسعٌ يشمل جميع ما ذُكر له من مصاديق.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 370

«الآية السادسة»

تقرر أنّ الانفاق مضافاً إلى انه أحد الأركان المهمة للتقوى وأنّه مصدر الهداية الإلهية للمؤمنين، تقول: «الَّذينَ يُؤمِنُونَ بِالغَيبِ وَيُقيمُونَ الصَّلاةً وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون» «1».

ومع ملاحظة أنّ «ينفقون» جاءت بشكل فعل مضارع، ومفهومها أنّ هؤلاء ينفقون من المواهب الإلهية والعطايا الربانية الّتي لديهم بصورة مستمرة، وهذا يدلّ على كرمهم وسخائهم المتجذر في نفوسهم بحيث اصبح ملكة إنسانية وصفة كريمة لديهم.

فتعبير «مما رزقناهم» يشير إلى نكتة لطيفة في المقام، وهي أنّ هؤلاء يرون أنّ جميع ما لديهم من الأموال والنعم هي مواهب إلهية ومن مال اللَّه، وعليه فلا دليل على البخل في بذل شي ءٍ منها إلى الفقراء والمساكين والمحتاجين، ويتضح أيضاً من ذلك أنّ «الانفاق» لا ينحصر بالزكاة بل يستوعب معنىً أكبر من ذلك بحيث يشمل الصدقات الواجبة والمستحبة.

«الآية السابعة» والأخيرة من الآيات محل البحث وضمن الأمر بضرورة رعاية الاعتدال في البذل والعطاء والابتعاد عن الافراط والتفريط تصور لنا صياغة للسخاء والكرم الّذي هو الحدّ الوسط بين البخل والإسراف وتقول: «وَلَا تَجْعَل يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً» «2».

وقد ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام بيان هذا المطلب في مثال جميل حيث قال أخذ الإمام عليه السلام قبضة من التراب من الأرض وأمسك عليها بشدة وقال:

هذا هو البخل، ثمّ أخذ قبضة اخرى وفتح يده إلى درجة أنّ جميع التراب انثال على الأرض فقال: هذا هو الإسراف، وفي الثالثة أخذ قبضة وقلب كفه نحو السماء وفتحها فوقع شي ء من الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 371

التراب من بين أصابعه وأطراف كفه على الأرض فقال عليه السلام: «القوام ما يخرج من بين الأصابع ويبقى في الراحة منه شي ء» «1».

وفي الآية مورد

البحث ورد التعبير عن البخل بأنه «اليد المغلولة إلى العنق»، وعبّرت الآية عن الإسراف بقولها «تبسطها كلّ البسط»، وبذلك تحدّثت عن هذين المفهومين من موقع الذمّ والتوبيخ وذكرت في هذا السبيل عاقبة هذين السلوكين بقولها «ملوماً محسوراً».

ومن مجموع الآيات الشريفة المذكورة آنفاً والّتي تحدّثت عن السخاء والانفاق والبذل وما ورد في تفسيرها يتضح جيداً عظمة وأهمية هذه الصفة الإنسانية والسامية من بين الصفات الأخلاقية والقيم الإنسانية حيث إنّ الجود والكرم والسخاء لا تتسبب في سعادة المجتمعات البشرية ومحاربة الفقر وأنواع الحرمان والّتي هي بدورها تكون منشئاً للكثير من الذنوب والسلبيات الاخرى فحسب، بل لها دورٌ مهم في تكامل الإنسان المعنوي والروحي في خط التقوى والانفتاح على الحقّ.

السخاء في الروايات الإسلامية:

وقد ورد في الروايات الإسلامية تعبيرات كثيرة وشامخة حول الجود والسخاء يقل نظيرها بالنسبة إلى الصفات الاخرى، ونختار منها نماذج لبيان هذا المضمون والمحتوى

1- ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «السَّخاءُ خُلْقُ اللَّهِ الاعْظَمُ» «2».

وفي الحقيقة أنّ جميع أشكال السخاء والكرم في عالم الوجود ما هو إلّاتجليات للكرم الإلهي الواسع لأن كلّ ما لدينا فهو من اللَّه تعالى من أنواع النعم والمواهب، الأرض والسماء، الحياة ومتعلقاتها الكثيرة وكلّ شي ء فهو من نعمه وكرمه، وكلّ كرم فهو فرعٌ من ذلك الأصل اللامتناهي والأبدي، لأنّه لو لم نحصل على نعمة وموهبة من اللَّه تعالى فليس بامكاننا بذل الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 372

شي ء منها، وحتّى صفة الجود والكرم هي من مواهبه ونعمه على الإنسان.

2- يقول الإمام الصادق عليه السلام «السَّخاءُ مِن اخْلَاقِ الْانْبِيَاءِ وَهُوَ عِمَادُ الْايْمَانِ وَلَا يَكُونُ المُؤمِنُ الّا سَخِيّاً وَلايَكُونُ سَخِيّاً الّا ذُو يَقينٍ وَهِمَّة عَالِيَةٌ لَانَّ السَّخاءُ شُعاعُ

نُورِ اليَقينِ، وَمَنْ عَرَفَ مَا قَصَدَ هانَ عَلَيْهِ مَا بَذَلَ» «1».

ويستفاد من هذا الحديث أنّ هذه الصفة السامية تتمثل أوّلًا في وجود الأنبياء كصفة كريمة من الصفات الأخلاقية العالية ومن علامات الإيمان واليقين للمؤمن.

3- ونقرأ في حديث آخر عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «تَحَلَّ بِالسَّخاءِ وَالْوَرَعِ فَهُما حِلْيَةُ الإيمَانِ وَاشْرَفُ خَلالِكَ» «2».

وهذا الحديث يبين أنّ هذه الصفة الشريفة من أفضل صفات المؤمن على الاطلاق.

4- وورد في حديثٍ آخر عن هذا الإمام عليه السلام أيضاً أنّه قال: «السَّخاءُ ثَمَرَةُ العَقْلِ وَالقَناعَةُ بُرهانُ النُبُلِ» «3».

فالأشخاص الّذين يمتنعون عن بذل شي ءٍ ممّا لديهم إلى الآخرين ويسعون لجمع الأموال الطائلة ثمّ يتركونها ويرحلون إلى العالم الآخر، فهم في الحقيقة ليسوا بعقلاء لأنهم لم يحصلوا من جزاء ذلك سوى على التعب والنصب ولن ينتفعوا من أموالهم على المستوى المادي والمعنوي، فأيُّ عقلٍ يرتكب مثل هذه الحماقة؟!

5- وفي تعبير آخر عن هذا الإمام في بيانه لأهمية «السخاء» يشير إلى نقطة لطيفة اخرى ويقول «غَطُّوا مَعايِبَكُم بِالسَّخاءِ فَانَّهُ سَتْرُ العُيوبِ» «4».

وقد ثبت بالتجربة صدق هذا الكلام الحكيم حيث نرى أشخاصاً لهم عيوب كبيرة ولكنَّ الناس مع ذلك يحترمونهم من أجلٍ كرمهم وجودهم.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 373

6- وفي تعبير آخر عن هذا الإمام عليه السلام يقول «السَّخاءُ يَمْحَصُ الذُّنُوبَ وَيَجْلُبُ مَحَبَّةَ الْقُلُوبِ» «1».

وهذا التعبير يدلّ على أنّ السخاء كفّارة للكثير من الذنوب.

7- ويقول مولى الموحدين الإمام علي عليه السلام في بيانه للتأثير العميق للسخاء في جذب قلوب الناس ومحبتهم «مَا اسْتَجْلَبَتِ المَحَبَّةُ بِمِثلِ السَّخاءِ وَالرِّفْقِ وَحُسْنُ الخُلْقِ» «2».

8- ويقول رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في هذا الصدد «السَّخيُّ قَريبٌ مِنَ اللَّهِ قَريبٌ مِنَ النّاسِ قَريبٌ مِنَ الجَنَّةِ» «3».

9- وفي

حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «شَابٌّ سَخيٌّ مَرْهَقٌ في الذُّنُوبِ احَبُّ الَى اللَّهِ عَزّوَجلّ مِنْ شَيخٍ عَابدٍ بَخيلٍ» «4».

ومن المعلوم أنّ «السخاء» هو يتسبب في الامدادات الإلهية للإنسان وبالتالي فإنه يفضي إلى انقاذ ذلك الشاب الملوث بالذنوب من واقعه المزري، ولكنَّ ذلك الشيخ العابد والبخيل يغرق في الذنوب بسبب بخله.

10- ونختم هذا البحث بحديثٍ شريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله حيث يقول «تَجَافُوا عَنْ ذَنْبِ السَّخي فَانَّ اللَّهَ آخِذٌ بِيَدِهِ كُلَّما عَثُرَ» «5».

ومن مجموع الأحاديث الشريفة المذكورة آنفاً تتبين الأهمية الكبيرة للسخاء في كلمات المعصومين عليهم السلام حيث رأينا أنّ هذه الفضيلة تتميز من بين سائر الفضائل الأخلاقية على مستوى الأهمية والفضيلة.

معطيات السخاء:

إنّ الآفاق والمعطيات الإيجابية للسخاء ثابتة بالتجربة في حياة الإنسان الفردية والاجتماعية، وقد مرّت الإشارة إليها في الأحاديث الإسلامية أيضاً، وهي معطيات كثيرة منها:

1- ما يستفاد من الروايات المتعددة والتجارب الكثيرة ان السخاء يولد المحبّة في قلب الصديق والعدو وبالتالي فإنه يزيد من كثرة الأصدقاء ويقلل من عدد الأعداء.

2- إنّ «السخاء» يعد ستاراً على عيوب الشخص وبالتالي يحفظ ماء وجهه وحيثيته في أنظار الناس والمجتمع.

3- إن السخاء في الوقت الّذي هو ثمرة من ثمار شجرة العقل فإنه يزيد من عقل الإنسان أيضاً، فالعقل يقول: انه لا معنى لأن يتعب الإنسان في جمع الأموال وتكديسها وبالتالي تركها للورثة بدون أن يستفيد منها في تحصيل الثواب وكسب الوجاهة بين الناس، ومن جهة اخرى فإنّ «السخاء» بإمكانه أن يجمع العلماء حول هذا الإنسان السخي وبالتالي يمكنه الاستفادة من أفكارهم وعقولهم وعلومهم.

4- إن «السخاء» يتسبب في تقليل الفاصلة بين طبقات المجتمع وبذلك يعمل على إزالة حالات التوتر النفسي المتولدة من

حالات الصراع الطبقي أو يقلل من حدثها وتأثيرها، ويطفى ء نار الحقد على الأثرياء في قلوب المحرومين ويقلل من حس الانتقام لديهم، وبذلك يعمل على توطيد عنصر المحبّة والمودّة بين أفراد المجتمع.

5- إن «السخاء» يؤدي إلى زيادة أنصار الإنسان السخي ويحفظ له وجاهته وسمعته في المجتمع، ويدفع عنه شرَّ الأعداء والمغرورين، فلذلك يقول أميرالمؤمنين عليه السلام «الْجُودُ حَارِسُ الَاعْرَاضِ» «1».

6- إن الجود و «السخاء» لهما من الآثار والمعطيات المعنوية الكبيرة جدّاً، ولهذا السبب فإنّها من صفات الأنبياء بالخصوص كما قرأنا في الروايات السابقة، والسخاء شعاعٌ لنور

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 375

اليقين، وحتّى لو كانت هذه الفضيلة لدى الأشخاص الّذين يعيشون البعد عن الإيمان والتقوى فإنّ ذلك سيكون مفيداً لهم، وفي حديثٍ شريف أنّ اللَّه تعالى أوحى للنبي موسى عليه السلام بأنه «لا تَقْتُلُ السَّامِريَّ فَانَّهُ سَخِيٌّ» «1».

ومن المعلوم أنّ السامري تسبب في فساد عظيم في بني إسرائيل واشاع فيهم دين الوثنية وعبادة الاصنام وفي النهاية عاش طريداً وحقيراً إلى درجة انه ربما رجّح الموت على الحياة، ولكن مع ذلك فإنّ اللَّه تعالى أوحى لموسى عليه السلام أنّ يحفظ دمه ولا يقتله لسخاءه وكرمه.

وقد نقل عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال لعدي ابن حاتم الطائي «دُفِعَ عَن أبَيكَ العَذابُ الشَّديدُ لِسَخاءِ نَفْسِهِ» «2».

وفي ذيل هذا الحديث ورد أنّ رسول اللَّه عليه السلام أمر بقتل جماعة من الجناة القتلة في أحد الغزوات واستثنى منهم واحداً، فتعجب ذلك الرجل وقال: إن جنايتنا واحدة، فلماذا لم تأمر بقتلي؟ فقال له النبي صلى الله عليه و آله: إن اللَّه تعالى أوحى إليّ بانك كريم قومك ولا ينبغي أن أقتلك.

فلمّا سمع الرجل هذا الكلام من النبي اسلم وتشهد

الشهادتين، أجل فإنّ سخاء هذا الرجل قاده إلى الجنّة.

ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قوله: «السخيّ محبب في السماوات، محبب في الأرض ...

والبخيل مبغض في السماوات ومبغض في الأرضين» «3».

حدود السخاء:

إن السخاء كسائر الصفات والأفعال الحسنة لابدّ له من مقدار بحيث إذا تجاوز الإنسان ذلك المقدار وقع في الإفراط وبالتالي يكون من الرذائل، فلا ينبغي أن يؤدي السخاء إلى الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 376

الاضرار بشخصية الإنسان ووجاهته وحيثيته ووجاهة من يلوذ به أيضاً.

يجب أن يكون «السخاء» في الأموال الحلال لا في الأموال الّتي يحصل عليها الإنسان من الطريق الحرام والظلم والعدوان مثل سخاء الكثير من السلاطين والملوك الجبابرة وامراء الجور.

وكذلك لا ينبغي أن يكون «السخاء» في الأموال المتعلقة ببيت المال، لأن أموال بيت المال ينبغي فيها الدقّة في الحساب ورعاية العدالة فيها.

طرق تحصيل ملكة السخاء:

إن هذه الفضيلة الاجتماعية كسائر الفضائل الاخرى تحصل في نفس الإنسان بالتعليم والتربية والتفكر والممارسة العملية.

إذا توجه الإنسان والتفت إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ هذه الأموال والثروات أمانة إلهية بيده ولا دوام لها، فهذا العلم يدفع الإنسان إلى البذل والعطاء ويحسب ذلك وكأنه يضع هذه الأموال في صندوق أمين يحفظها ليوم الحاجة والفاقة، وكذلك التأمل في آثار وبركات السخاء ومعطياته المهمة في واقع الإنسان وحياته فإنّ ذلك يمكنه أن يكون مؤثراً في تحريك عامل الشوق بالبذل والسخاء.

إن مطالعة تاريخ حياة الكرماء والبخلاء وسيرتهم والمقارنة بين هاتين الطائفتين من الاحترام الكبير والشخصية النافذة لدى الناس بالنسبة إلى الطائفة الاولى، والذلّة والحقارة والدناءة وسوء السمعة الّتي تحدق بالطائفة الثانية، كلّ ذلك من شأنه أن يورث الإنسان «السخاء» في دائرة السلوك الأخلاقي.

هذه الامور هي من البعد النظري للمسألة، اما من حيث البعد العملي فإنّ الإنسان كلّما مارس هذا العمل أكثر وتمرّن عليه في واقعه الاجتماعي فان هذه الفضيلة سوف تتعمق في نفسه حتّى تحصل له ملكة الجود والسخاء، لأن تكرار الأعمال الكريمة والتحرّك من موقع

البذل والعطاء في التعامل مع الناس حتّى لو كان ذلك شاقاً على النفس فإنّه سيكون الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 377

بالتدريج عادة، ثمّ يتحول إلى حالة، وبالتالي يكون ملكة أخلاقية في واقع النفس.

وضمناً فإنّ عملية تربية الوالدين والمعلم والاستاذ مؤثرة كثيراً في هذا المجال، فلو أنّهم عودوا الطفل حالة الجود والسخاء منذ الطفولة فإنّ هذه الملكة الأخلاقية سوف تمد جذورها إلى أعماق نفوسهم وقلوبهم وتكون في الكبر جزءاً من شخصيتهم، ويذكر في حالات «الصاحب بن عبّاد» أنّه كان في أوان صغره إذا أراد المضيّ إلى المسجد ليقرأ تعطيه والدته ديناراً ودرهماً كلّ يوم وتقول له تصدّق بها على أوّل فقير تلقاه فجعل هذا دأبه في شبابه إلى أن كبر وماتت والدته. وكان لا يدخل عليه في شهر رمضان بعد العصر أحد كائناً من كان فيخرج من داره إلّابعد الافطار عنده وكانت داره لا تخلو في كلّ ليلة من ليالي شهر رمضان من ألف نفس مفطرة فيها وكانت صلاته وصدقاته وقرباته في هذا الشهر تبلغ مبلغ ما يطلق منها في جميع شهور السنة «1».

ونختم هذا البحث في بعض الأحاديث الشريفة:

ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «الَجَنَّةُ دَارُ الاسْخِياء» «2».

ويقول الإمام الصادق عليه السلام أنّ اللَّه تعالى يقول «انّي جَوادٌ كريمٌ لا يُجَاوِرُني لَئيمٌ» «3».

وفي حديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «طَعامُ الجَوادِ دَواءٌ وَطَعامُ البَخيلِ داءٌ» «4».

وأحد العرفاء يدعى «ابن سمّاك» «5»

يقول «عَجِبْتُ لِمَن يَشتَرِيَ الْمَماليكَ بِمالِهِ الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 378

وَلايَشتَرِي الْاحرارَ بِمَعروفِهِ» «1».

وقيل لابن عربي: من هو سيّدكم؟ فقال: «مَنِ احْتَمَلَ شَتْمَنَا وَاعطى سَائِلَنَا وَاغْضى جَاهِلَنا» «2».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 379

العجلة والتسرع

تلويح:

إن لكلّ عمل مقدّمات بحيث إذا لم تتوفر هذه المقدمات فالاقدام عليه يكون بغير طائل وبلا نتيجة مثمرة، وإذا توفرت هذه المقدمات ولم يقدم الشخص عليه وأفلتت الفرصة من بين يديه فالنتيجة تكون كذلك، فالشخص المدير والمدبر هو الّذي ينتظر ويصبر إلى أن تحين اللحظة المناسبة وتترتب المقدمات ثمّ يقدم على العمل لتحصيل النتيجة المرجوة ولا يتكاسل أو يهمل الموضوع حتّى تفلت منه الفرصة، ولهذا ورد في معنى العجلة والتسرع، أنّ هذه الحالة من الصفات الرذيلة حيث يقدم الإنسان على عملٍ بدون توفر المقدمات المطلوبة وبدون أن تتهيأ الأرضية اللازمة لذلك، وفي مقابل هذه الحالة ورد «الصبر والتأني» الّذي يعد من الفضائل الأخلاقية ودليلًا على عقل الرجل وحركته «وبالطبع فإنّ الصبر له أقسام اخرى سنشير إليها في الفصول اللاحقة».

إن الخسارة العظيمة الّتي تلحق بالأفراد والمجتمعات من جهة العجلة والتسرع أكثر من أن تحصى والقرآن الكريم يوصي الناس من موقع صياغة برنامج جامع للحياة بالصبر والتأني والاجتناب من «العجلة والتسرع» مستعيناً بذلك بقصص من سيرة الأنبياء والقادة المصلحين للمجتمعات البشرية السالفة ليبين من خلال هذه القصص والوقائع اضرار

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 380

العجلة المخربة ومعطيات الصبر والتأني الطيبة.

وبهذه الأشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته الشريفة ومن سيرة الأنبياء الماضين مفاهيم مؤثرة في حركة الحياة الفردية والاجتماعية للإنسان:

1- «قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلّمَنِ مِمَّا عُلّمْتَ رُشْدًا* قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا* وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَالَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا* قَالَ سَتَجِدُنِى إِنْ شَآءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِى لَكَ أَمْرًا» «1».

2- «وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ ا لْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ ا لِمحْرَابَ* ... وَظَنَّ دَاوُودُ أَ نَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ» «2».

3-

«فَاصْبِر لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُن كَصاحِبِ الحُوتِ اذ نادى وَهُوَ مَكظُومَّ* لَولَا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالعَراءِ وَهُوَ مَذمُومٌ* فَأجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحينَ» «3».

4- «.. وَلَا تَعْجَلْ بِالقُرآنِ مِن قَبْلِ ان يُقضى الَيكَ وَحيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» «4».

5- «خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ ءَايَاتِى فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ» «5».

6- «وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا» «6».

7- «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ» «7».

8- «وَلَوْ يُعَجّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَايَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ» «8».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 381

9- «وَيَقُولُونَ مَتَى هذَا ا لْفَتْحُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ* ... فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ» «1».

10- «فَاصْبِر كَمَا صَبَرَ اوُلُوا العَزمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَستَعْجِلْ لَهُم كَانَّهُم يومَ يَرَونَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلبَثُوا الّا سَاعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ الّا الْقَومُ الفَاسِقُونَ» «2».

تفسير واستنتاج

في «الآيات الاولى من الآيات محل البحث يستعرض القرآن قصة الخضر عليه السلام والنبي موسى عليه السلام، وطبعاً فإنّ القرآن الكريم لم يذكر اسم الخضر بل عبّر عنه بقوله «عَبْدَاً مِنْ عِبَادِنَا»، هذه القصة مشهورة ومعروفة لدى القارى ء الكريم، وما هو محل نظرنا وبحثنا منها هو أنّ النبي موسى عليه السلام طلب العلم وذهب إلى حيث ينال العلم بسفرٍ خاصّ وجاء إلى الخضر ليستقي من علومه ومعارفه ما يختلف عن العلوم الّتي اكتسبها عن طريق الوحي، وهي العلوم المتعلقة بأسرار الطبيعة وحقائق الامور والحياة البشرية الّتي لابدّ أن يطلع على قسم منها نبيّ من اولي العزم مثل موسى عليه السلام لتتضح له الصورة جيّداً في عملية التفاعل الإنساني

والاجتماعي وليكون على بيّنة من هذه الامور.

وهنا قال الخضر لموسى عليه السلام بعد طلب موسى عليه السلام التعلم منه: بانك لا تتحمل ولا تطيق ما تراه من هذه العلوم لأنك لم تدرك حقائق الامور في باطنها، ولكنَّ النبي موسى عليه السلام وعده بالصبر والتأني واجتناب العجلة والتسرع، فشرط عليه الخضر هذا الشرط وانه إذا صحبتني فيجب أن تلتزم السكوت اتجاه أي فعلٍ يصدر مني مهما كان عجيباً ومنافياً للمقررات والاصول السائدة بين الناس، ولابدّ أن تعلم أنّ في ذلك حكمة سوف أُطلعك عليها، فتقول الآيات وهي تحكي هذه الحادثة «فَوَجَدا عَبداً مِن عِبادِنا ... قَالَ فَانِ الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 382

اتَّبَعْتَني فَلا تَسْئَلْني عَنْ شَي ءٍ حَتّى احدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكراً» «1».

وعلى هذا الأساس أراد الخضر عليه السلام أن يُعلم موسى عليه السلام درساً في روح الصبر والتأني أمام الحوادث والمسائل المختلفة في حركة الحياة ليتربى موسى عليه السلام على هذه الصفة الأخلاقية، ويسلك حياته الاجتماعية بعيداً عن حالة «العجلة والتسرع» في تعامله مع الواقع والحياة «خاصة العجلة في القضاء والحكم ولا سيّما بالنسبة إلى أعمال شخصيات كبيرة مثل موسى عليه السلام ء ومع هذا الوعد والشرط تحركا في مسيرهما وسفرهما حتّى وصلا البحر فوجدا سفينة تريد أن تتحرك وترحل فركبا فيها، فلمّا مضت مدّة رأى موسى عليه السلام أمراً عجيباً من الخضر عليه السلام حيث شاهد الخضر عليه السلام وهو يحاول ايجاد ثقب في اسفل السفينة سراً، فلم يتمالك موسى عليه السلام نفسه أمام هذا العمل الشنيع واعترض على الخضر بشدّة، ولكنَّ الخضر عليه السلام ذكره بوعده والشرط الّذي اشترط عليه، فما كان من موسى عليه السلام إلّاأن تراجع واعتذر عن فعله.

ثمّ استمر في

طريقهما وسفرهما، وفجأة ارتكب الخضر عملًا أعجب من الأوّل حيث شاهد صبياً فقتله، وهنا صرخ به موسى عليه السلام محتجاً عليه بانك لماذا تقتل الأبرياء، ولماذا ترتكب هذه الأفعال القبيحة؟

وهنا نجد الخضر عليه السلام يذكره مرّة اخرى بعهده ووعده السابق من إلتزام الصبر والسكوت، فأجابه موسى معتذراً عن هذا التسرع وقال له: إذا رأيت مني اعتراضاً للمرّة الثالثة فإنّ لك الحقّ في أن تنفصل عني.

ثمّ تحركا متنقلين من مدينة إلى اخرى إلى أن وصلا إلى قرية يتسم أهلها بالبخل الشديد وعدم اعتنائهم بالضيف، ولكنَّ الخضر عليه السلام لم يهتم لذلك بل شرَع في ترميم جدار وجده في حالة الانهيار والسقوط، فرأى موسى عليه السلام أنّ مثل هذا العمل تجاه ما رأوه من جفاء أهل هذه القرية هو عمل سخيف، ولذلك نسي مرّة اخرى عهده مع الخضر عليه السلام واعترض عليه في هذا العمل.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 383

وهنا جلس الخضر عليه السلام ليشرح لموسى عليه السلام أسرار هذه السلوكيات والأفعال الغريبة ويبين له الحقائق الخفية لعالم الوجود بحيث إن موسى عليه السلام شعر بأنه قد فتحت أمامه نافذة جديدة على أسرار حياة الناس، وعندها ودع الخضر عليه السلام موسى عليه السلام بعد أن حمله معارف جمة من هذه العلوم الغريبة.

وأخيراً تقول الآيات الكريمة في استعراضها لما حدث بين الخضر وموسى عليهما السلام حيث تبين تفاصيل ورموز العلل الكاملة وراء هذه التصرفات العجيبة للخضر عليه السلام وتقول على لسان الخضر عليه السلام «أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً».

«وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً* فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ

رُحْماً».

«وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً» «1».

ولو أنّ موسى عليه السلام لم يستعجل بحكمه على أفعال الخضر عليه السلام لكان قد بقي مع الخضر واستفاد أكثر من علومه، ولكنَّ «العجلة والتسرع» كانا السبب لأن يحصل على هذه الثمار الثلاثة فقط ويحرم من الزيادة.

«الطائفة الثانية» من الآيات محل البحث تستعرض واقعة اخرى لأحد الأنبياء العظام حيث تسببت العجلة والتسرع في القضاء والحكم أن يقع مورد العتاب الإلهي.

والقصة هي انه بينما كان داوود عليه السلام يوماً في محرابه إذ دخل عليه رجلان أحدهما يشتكي من الآخر ويقول: «انَّ هَذَا اخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 384

اكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ» «1».

وقبل أن يتحقق داود من المسألة ويدرس كافة تفاصيلها تسرع في الحكم «... لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤآلِ نَعْجَتِكَ الَى نِعَاجِهِ ...» «2».

وهنا انتبه النبي داوود عليه السلام إلى انه ارتكب الترك الأولى «وَظَنَّ دَاوُودُ أَ نَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ» «3».

وليس هذا البحث محلًا مناسباً لدراسة هذه الواقعة بتمام تفاصيلها الدقيقة «وقد بحثناها في التفسير الأمثل بالتفصيل» ولكننا نقتصر على بيان هذه الحقيقة، وهي أنّ «العجلة والتسرع» وخاصّةً بالنسبة إلى القضاء والحكم بين الناس سيفضي حتماً إلى تعقيد الامور والفضيحة وتعميق المشكلة على المستوى الفردي والاجتماعي.

وتتعرض «الطائفة الثالثة» من الآيات محل البحث إلى قصة النبي يونس عليه السلام ومسؤوليته العظيمة في الدعوة إلى الحقّ وهداية الناس إلى اللَّه، ولكنه في لحظة من اللحظات تساهل في أمر هذه المسؤولية الإلهية وارتكب

الترك الأولى وبالتالي أصابه العقاب الإلهي بسبب ذلك.

والقصة هي أنّ النبي يونس عليه السلام عاش مدّة طويلة مع قومه كالأب الحنون حيث تحمل مسؤولية انقاذ قومه من الضلالة والإنحراف، ولكنه لم يواجه منهم أمام منطقه الحكيم سوى السفسطة والمغالطة والسخرية، ولم يؤمن له من قومه إلّاعدد قليل جدّاً، ولعلّه لم يتجاوز الرجلين «أحدهما عابد والآخر عالم»، وأخيراً فإنّ النبي يونس عليه السلام أصابه اليأس من إيمان قومه، فدعى عليهم باقتراح من الرجل العابد، واستجاب اللَّه دعاءه، وأوحى إليه انه سينزل عليهم العذاب الإلهي في اليوم الفلاني، وعندما اقترب زمان نزول العذاب ترك النبي يونس الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 385

عليه السلام هؤلاء القوم وصحب معه الرجل العابد بدون أن يُتم الحجّة عليهم فلعلّهم يتوبون تلك اللحظات الأخيرة ويعودون إلى اللَّه تعالى، ولكنَّ الرجل العالم بقي معهم واستمر في تبليغ الرسالة الإلهية.

وقد أثمر هذا التبليغ وهذه الدعوة من الرجل العالم ثمره تزامناً مع اقتراب لحظات نزول العذاب، فحدث أن أوجب كلام هذا العالم وعلامات نزول العذاب تحولًا كبيراً في أعماق نفوس هؤلاء القوم، وأثابوا إلى رشدهم وخرجوا مصطحبين معهم ذلك العالم إلى الصحراء ليعلنوا توبتهم وانابتهم إلى اللَّه وسلوكهم في طريق الإيمان والتقوى، فلعلّ اللَّه يرحمهم ويغفر لهم، وهكذا قبل اللَّه تعالى توبتهم وتاب عليهم ولكنه وبخّ يونس عليه السلام على تسرعه وعجلته في ترك هؤلاء القوم.

القرآن الكريم يخاطب نبي الإسلام في هذه الآيات الكريمة أن لا يستعجل في طلب العذاب الإلهي على المشركين من قريش ولا يكون كيونس عليه السلام «فَاصْبِر لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُن كَصاحِبِ الحُوتِ اذ نادى وَهُوَ مَكظُومَّ* لَولَا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالعَراءِ وَهُوَ مَذمُومٌ» «1».

ولكن اللَّه تعالى قبل

توبته من هذا الترك الأولى، وعندما خرج يونس عليه السلام من بطن الحوت كان قد تطهر من كلّ ذنب وترك للأولى، ولهذا نقرأ بعد هذه الآية قوله تعالى «فَأجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحينَ» «2».

فالبرغم من أنّ يونس لم يتم الحجّة على قومه بالمقدار اللازم، ولكن اللَّه تعالى كان يتوقع من هذا النبي الكريم أن يصبر ويتأنى أكثر من ذلك، ولذلك عاقبه على عجلته وتسرعه في مقابل عناد اولئك القوم.

وتتحرك «الآية الرابعة» من موقع منع نبي الإسلام صلى الله عليه و آله من «العجلة والتسرع» وتقول الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 386

«فَتَعالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ وَلَا تَعجَلْ بِالقُرآنِ مِن قَبلِ ان يُقضى الَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» «1».

ويستفاد من بعض الآيات القرآنية الاخرى أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله عند نزول الوحي كان يعيش حالة خاصّة من الشغف والشوق والحرارة تقوده إلى الاستعجال في استلهام الوحي، ولذلك تصدت هذه الآية الشريفة لتذكير النبي صلى الله عليه و آله بذلك ومنعه «.. وَلَا تَعْجَلْ بِالقُرآنِ مِن قَبْلِ ان يُقضى الَيكَ وَحيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً» «2».

ورغم أنّ المفسّرين ذكروا احتمالات عديدة في تفسير هذه الآية الشريفة، ولكنّهم متفقون على أنّ الآية ناظرة إلى أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله لا ينبغي أن يستعجل في استلام الوحي بالرغم من أنّ أصل الموضوع هو عمل إلهي ويتضمّن هداية الناس إلى اللَّه تعالى.

وعلى الرغم من أنّ استعجال النبي صلى الله عليه و آله في استلام الوحي أو تلاوة الآيات القرآنية على أصحابه أو طلبه بنزول الوحي كلّ ذلك كان بسبب عشقه وشوقه لهداية الناس، ولكن حتّى هذا العمل الإيجابي والإنساني لا ينبغي أن يتم من

موقع العجلة بل ينبغي أن يكون متزامناً مع الصبر والتأني.

«الآية الخامسة» تتحدّث عن جميع الناس، أو بتعبير آخر عن طبيعة الإنسان وتقول:

«خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ ءَايَاتِى فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ» «3».

وكأن الإنسان في سلوكه وحركته في حياته إلى درجة من العجلة وكأن ذاته ونفسه قد عجنت بالعجلة فهي عين العجلة.

وتشير هذه الآية إلى أنّ طبيعة الإنسان مخلوقة منذ اليوم الأوّل بالعجلة والتسرع، ولكنه يجب عليه استخدام هذه الحالة وسلوك طريق التسرع والعجلة بعد توفر المقدمات للعمل لا

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 387

قبل ذلك.

وعبارة «بآياتي» يمكن أن تكون إشارة إلى معجزات النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أو آيات القرآن الكريم أو علائم العذاب الإلهي أو حلول القيامة أو جميع ذلك من الآيات الإلهية، فلا يختلف الحال في أخذنا لكلّ هذه التفاسير المذكورة لهذه الآية، لأن جميع هذه الامور من نزول آيات القرآن وظهور المعجزات وحصول علائم القيامة وكذلك نزول العذاب الإلهي كلّها تتفق مع الحكمة الإلهية في ظرف نزولها الخاصّ، ولا تقترن مع العجلة والتسرع لأن اللَّه الحكيم لا يعمل عملًا على خلاف حكمته، وعليه فلا ينبغي الاستعجال في طلب هذه الامور.

أمّا قوله تعالى للآية الشريفة «خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ» فهو إشارة إلى الأشخاص الّذين لم يتحركوا في خطّ التربية الإلهية ولم يرّبوا أنفسهم في عملية تهذيب النفس وجهادها، وبعبارة اخرى: إن طبع الإنسان الأولي هو أن يتحرك بسرعة باتجاه اشباع حاجاته ورغباته البدنية والنفسية، وقد ورد هذا المضمون أيضاً في الآية 19 من سورة المعارج حيث يقول تعالى «انّ الإنسانَ خُلِقَ هَلُوعاً» أي حريصاً وقليل الصبر.

ولذلك نجد أنّ بعض الآيات الّتي تشير إلى كون الإنسان عجولًا فإنّها تتحدّث عن هداية الإنسان قبل ذلك كما

في الآية 11 من سورة الإسراء والّتي ستأتي الإشارة إليها لاحقاً.

وهذه الخاصية في الإنسان «كونه عجولًا» حالها حال الأهواء النفسية والنوازع البدنية الاخرى الّتي هي بنّاءة وضرورية ومفيدة فيما لو تحرّك الإنسان على مستوى تعديلها وتهذيبها والاستفادة منها في خطّ السعادة والتكامل المعنوي والإنساني، وبذلك تخرج هذه الحالات السلبية في الظاهر كونها مخربة وسلبية، فهي مثل السيل الهادر فإنه رغم ظاهره المدمر ولكنه إذا بنى الإنسان أمامه السدود لضبطه والاستفادة من قوته فإنه يتحول إلى قوّة ايجابية تؤدي إلى العمران والنور والرقي في حركة الحياة الدنيوية.

ونفس هذا المضمون ورد أيضاً في «الآية السادسة» من الآيات محل البحث مع تفاوتٍ الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 388

يسير وهو أنّ في هذه الآية نجد إشارة إلى أحد الافرازات السلبية والسيئة للعجلة والتسرع حيث تقول الآية: «وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا» «1».

وهنا أيضاً نجد مفردة «الإنسان» الّتي تشير إلى طبيعة الإنسان الأولية، وقد تكررت هذه الكلمة في أوّل الآية وفي آخرها أيضاً.

«دعا» في هذه الآية بمعنى طلب وأراد، سواءاً كان باللسان أو بالعمل، وبما أنّ الإنسان يتصف بالعجلة في ذاته والتسرع في تحصيل المنافع الشخصية فإنّ ذلك قد يتسبب في أن لا يدرس جوانب المدرسة بشكل جيد ولا يدرك خيره وشره وبالتالي يوقع نفسه في المخاطر والمشاكل المتنوعة.

وهذا «الدعاء» تارةً يكون بصورة لفظية، يعني أنّ الإنسان يطلب من اللَّه تعالى وباصرار شديد بعض الامور الّتي لا تكون خيراً له في الواقع بل هي شرُّ له وإن كانت في ظاهرها أنيقة ومطلوبة كما يقول الإمام الصادق عليه السلام «وَاعِرِفْ طَريقَ نِجاتِكَ وَهَلاكِكَ كَي لاتَدعُوا اللَّهَ بِشَي ءٍ عَسى فِيهِ هَلاكُكَ وَانْتَ تَظُنُّ انّ فيهِ نَجاتُكَ قَالَ اللَّهُ تَعالى

«وَيَدَعُ الإنسانُ بِالشَّرِّ دُعائَهُ بِالخَيرِ وَكانَ الإنسانُ عَجُولًا» «2».

وأحياناً يتحرّك الإنسان على مستوى العمل في طلب شي ءٍ بدافع من وحي الأهواء والشهوات ويكون شقاءه في ذلك ولكنه بسبب تزيين النفس وتسويلات الشيطان يحسب ذلك خيراً له وموجباً لسعادته ويحزن عندما لم يحصل عليه، في حين انه سيتضح له بمرور الزمان انه إذا كان اللَّه قد استجاب له طلبه ذلك ونال حاجته وحقق هدفه فإنّ ذلك سيكون سبباً لشقائه مدى الحياة.

وتستعرض «الآية السابعة» مطلباً جديداً على مستوى عجلة الإنسان، وهو أنّ هذا الإنسان العجول أحياناً بدلًا من أن يستعجل في طريق الخير واكتساب الحسنات على الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 389

الأقل فإنه يستعجل في طريق الشر والفساد، كما نرى هذا الحال لدى الكفّار المعاندين عندما يحذرهم النبي الأكرم صلى الله عليه و آله من عذاب اللَّه وعقوباته الدنيوية، فتجدهم يستعجلون بهذا العذاب ويطلبون من النبي أن يسرع في نزول العذاب المهلك، وفي الحقيقة يطلبون موتهم وهلاكهم من النبي الأكرم صلى الله عليه و آله كما تتحدّث الآية مورد البحث عن ذلك: «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ» «1».

أجل، إذا اقترنت العجلة لدى الإنسان بالعناد والإصرار، فالنتيجة هي ما قرأناه في هذه الآية الشريفة، فبدلًا من الاستعجال لطلب الخير واكتساب الحسنات فإنّهم يستعجلون في طلب الشرّ ويوقعون أنفسهم بأمواج البلاء والشقاء كما نجد هذا المضمون في الآية الاولى من سورة المعارج «سَئَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ وَاقِعٍ* لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ».

وقد ذكر الكثير من المفسّرين وأرباب الحديث أنّ هذه الآية نزلت في «النعمان بن الحارث الفهري» عندما نصب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله

الإمام علي في غدير خم خليفة له وقال قولته المشهورة «مَنْ كُنتُ مَولَاهُ فَهَذَا عَليٌّ مَولاهُ» فلمّا سمع بذلك هذا الرجل اغتاظ من ذلك وجاء إلى النبي معترضاً بشدّة، وعندما سمع من النبي أنّ هذا الأمر إنما هو أمرٌ إلهيٌّ ازداد غيظاً وقال: إلهي إن كان هذا هو الحقَ من عندك فانزل علينا حجارةً من السماء، فلم يمكث مدّة حتّى نزلت عليه حجارةً من السماء فأصابته في رأسه وقتلته، وقد نزلت الآية في هذه الواقعة «2».

ألم يكن من الأفضل لمثل هؤلاء الأشخاص أن يطلبوا من اللَّه تعالى بدلًا من العناد واللجاجة، الهداية والمغفرة وإزالة حالة التعصب والعناد في ذاتهم؟ وطبقاً للآية مورد البحث فإنّ مغفرة اللَّه تسبق عذابه «سَبَقَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ» وهكذا فإنّ اللَّه تعالى لا يعذب أحداً ما دام احتمال هدايته موجوداً، ولكن مع الأسف فإنّ بعض الناس المعاندين الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 390

والمتعصبين يستعجلون بالعذاب الإلهي بدلًا من المغفرة والرحمة.

وتتحرّك «الآية الثامنة» من الآيات مورد البحث للكشف عن بعد آخر من أبعاد صفة العجلة لهذا الإنسان وتقول: «وَلَوْ يُعَجّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ...» «1» ولكن بما أنّ اللَّه تعالى غفور رحيم كريم فإنه لا يسرع في عقاب القوم الفاسقين فلعلّهم ينتبهون من غفلتهم ويسيرون في خطّ التقوى والإيمان والتوبة.

ويضيف القرآن الكريم في ذيل هذه الآية الشريفة «فَنَذَرُ الَّذِينَ لَايَرْجُونَ لِقَآءَنَا فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ» «2» إلى أن يحين وقت مجازاتهم وعقوبتهم.

وعليه فإنّ اللَّه تعالى لا يعمل مثل عملكم، فانتم تستعجلون باكتساب الخيرات والمنافع، ولكن اللَّه تعالى لا يُسرع في عقابكم، لأن المقصود الأصلي للَّه تعالى ليس هو عقابكم بل غرضه هدايتكم وأنزال الرحمة عليكم.

وطبقاً للآيات القرآنية الاخرى فيحتمل في

تفسير هذه الآية أن يكون المراد منها هو أنّ هؤلاء الناس يستعجلون بطلب نزول العذاب الإلهي عليهم كما يستعجلون في طلب الخيرات والمنافع الدنيوية، ولكن القرآن الكريم يقول لهم: «لو أنّ اللَّه تعالى استجاب لطلبكم في مسألة التسريع بنزول العذاب لم يبق أحداً منكم» «3»، ولكنَّ المعنى الأوّل أو التفسير الأوّل للآية ينسجم أكثر مع ظاهرها.

وفي «الآية التاسعة» وضمن الإشارة إلى حالة الاضطراب والقلق لدى الكفّار والمشركين في مقابل وعد اللَّه تعالى للمسلمين بالنصر وهزيمة أعدائهم الكافرين الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 391

ومعاقبتهم تقول: «وَيَقُولُونَ مَتَى هذَا ا لْفَتْحُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ» «1».

أي لماذا لم تتحقق هذه الوعود الإلهية؟ أليس هذا دليلٌ على كذبكم وانكم تخادعون أنفسكم بهذه الوعود الزائفة؟

ويجيب القرآن الكريم على هذا التساؤل ويأمر النبي صلى الله عليه و آله بأن يقول لهم «قُل يَوْمَ الفَتحِ لا يَنْفَعُ الّذِينَ كَفَرُوا إيمَانُهُمْ وَلَا هُم يُنْظَرُونَ ...» «2».

فلا تستعجلوا بنزول العذاب، لأنّه في ذلك اليوم لايجد هؤلاء الكافرون فرصة للعودة إلى الحقّ.

إن اللَّه تعالى بلطفه وكرمه وعنايته قد أمهلكم هذا اليوم لتعودوا إلى وجودكم وتسلكوا في طريق الحقّ والإيمان، ولكن عندما يأتي ذلك اليوم فإنّ العذاب الإلهي سينزل عليكم وتوصد أمامكم أبواب التوبة فلا تستطيعون العودة والانابة إلى اللَّه، إذاً فبدلًا من أن تستعجلوا نزول العذاب عليكم، لابدّ أن تستثمروا هذه الفرصة والمهلة الإلهية وتتحركوا من موقع إصلاح الذات والسلوك في خطّ التوبة والإيمان والانفتاح على اللَّه تعالى.

ثمّ تأمر الآية الشريفة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وتقول «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ» «3»، فعليك أن تنتظر رحمة اللَّه ونصره وهؤلاء ينتظرون عذابه وعقوبته.

وقد ذكر بعض المفسّرين أنّ جملة «أنّهم منتظرون» هي إشارة إلى

ما كان ينتظره الكفّار من موت نبي الإسلام أو هزيمته في ميدان القتال، ولكنَّ التفسير الأوّل المذكور أعلاه أنسب إلى جو الآية.

«الآية العاشرة» تخاطب النبي الأكرم صلى الله عليه و آله وتوصيه بالصبر والاستقامة كما هي حالة

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 392

الأنبياء الماضين، وبالرغم من أنّ التاريخ شاهدٌ على أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه و آله لم يتحرك من موقع العجلة والتسرع بل كان يسلك في خطّ المثابرة والصبر والاستقامة في كلّ أعماله وأفعاله، ولكنَّ الآية الشريفة جاءت لتؤكد هذا المعنى على نبيّنا الكريم وتقول «فَاصْبِر كَمَا صَبَرَ اوُلُوا العَزمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَستَعْجِلْ لَهُم كَانَّهُم يومَ يَرَونَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلبَثُوا الّا سَاعَةً مِنْ نَهارٍ» «1».

ونظراً إلى أنّ جميع عمر الدنيا في مقابل الآخرة لا يعد سوى ساعة واحدة من الزمان، فعليه لا تستعجل في الأمر إلى أن تتم الحجّة عليهم، ويستفاد من هذا التعبير إلى أنّ جميع الأنبياء والمرسلين كانوا يعيشون الصبر والمثابرة والاستقامة مقابل عناد أقوامهم وجهالتهم ولجاجتهم وكانوا يمهلون أقوامهم حتّى النفس الأخير لغرض اصلاحهم وهدايتهم.

ولم يكن نبي الإسلام صلى الله عليه و آله إلّاكأحد هؤلاء الأنبياء اولي العزم، وما ورد في الآية أعلاه هو في الواقع يعبر عن تأكيد الآية على هذا المعنى أو أنّ مضمون الآية له بعد تعليمي أو تربوي للآخرين، أو هو إنذارٌ إلى الكافرين بأن لا يهمل هذه الفرصة الثمينة ولا يُسي ء الاستفادة من الامهال الإلهي.

وهذه الآية شاهدٌ أكيد على أنّ الصبر والاستقامة وترك العجلة من الفضائل الأخلاقية المتوفرة لدى جميع الأنبياء العظام الّذين كانوا طيلة التاريخ البشري أُسوةً وقدوةً لأقوامهم في التحلّي بهذه الصفة الأخلاقية السامية.

النتيجة:

ويتضح من مجموع الآيات أعلاه أنّ العجلة والتسرع

لدى الأقوام والشعوب البشرية المختلفة في نظر الإسلام صفة سلبية، وتقع في مقابل القيم الأخلاقية الايجابية من الصبر والمثابرة والتأني إلى أن تتوفر مقدمات العمل، وأنّ الصبر والتأني يعد من أهم الفضائل الأخلاقية والإنسانية، وهي الفضيلة الّتي كانت متوفرة لدى جميع الأنبياء العظام وقادة البشرية في خطّ الحقّ والإيمان.

العجلة والتسرع في الروايات الإسلامية:

وقد وردت بحوث كثيرة في الروايات الإسلامية في ذمّ العجلة ومدح التأني والصبر ونقرأ في مضامينها نكات دقيقة في هذا الموضوع من قبيل:

1- ما ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «الْاناةُ مِنَ اللَّهِ وَالعَجَلةُ مِنَ الشَّيْطانِ» «1».

2- وقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في حديث آخر «انَّما اهْلَكَ النّاسَ الْعَجَلَةُ وَلَوْ انَّ النّاسَ تَثَبَّتُوا لَمْ يُهلِكْ أَحدٌ» «2».

وطبعاً أنّ المقصود من الهلكة هو الموت بسبب الحوادث غير المتوقعة والّتي تكون معلولة بالعجلة وعدم التثبت من الامور.

3- وقد ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله قوله: «ايّاكَ وَالعَجَلةَ فَانّكَ ان عَجَّلْتَ اخْطَأْتَ حَظَّكَ» «3».

4- ويقول أميرالمؤمنين عليه السلام: «مَعَ العَجَلِ يَكثِرُ الزَّلَلَ» «4».

5- وفي وصية الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام لابنه الإمام الحسن عليه السلام عندما كان الإمام علي على فراش المرض قال: «انْهاكَ عَنِ التَّسَرُّعِ بِالقَوْلِ وَالْفِعْلِ» «5».

6- وقد ورد أيضاً عن الإمام أميرالمؤمنين قوله «الْعَجَلُ قَبلَ الْامْكانِ يُوجِبُ الغُصَّةَ» «6»

؛ لأنّ العجلة تهدر أتعاب الإنسان وسعيه ولا يصل إلى نتيجة مطلوبة.

7- وورد عن هذا الإمام عليه السلام قوله: «مَن رَكَبَ العَجَلَ رَكِبَتْهُ المَلامَةُ» «7».

8- وعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «مَعَ التَّثَبُّتِ تَكونُ السَّلامَةُ وَمَعَ العَجَلَةِ تَكونُ النَّدامَةُ» «8».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 394

9- وجاء عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «العَجَلَةُ مَذمُومَةٌ فِي كُلِّ أمْرٍ

الّا فِي مَا يَدفَعُ الشَّرَّ» «1».

10- ونختم هذا البحث بحديثٍ شريف عميق المغزى عن الإمام علي عليه السلام أنّه قال: «مَنْ اسْتَطَاعَ ان يَمْنَعَ نَفْسَهُ مِن أَرَبَعَةٍ أَشياءٍ فَهُوْ خَليقٌ بِانْ لا يَنْزِلَ بِهِ مَكرُوهٌ ابَداً. قِيلَ وَ مَا هِي؟

قَالَ: الْعَجَلَةُ وَاللِّجاجَةُ وَالعُجْبُ وَالتَّواني» «2».

وقد رأينا في هذه الأحاديث الشريفة أنّ التأني هو عطية إلهية وموهبة ربانية للإنسان بينما «العجلة» هي صفة شيطانية تدفع بالإنسان إلى طريق الخسران والزيغ في حركة الحياة وتضيع عليه الفرص الثمينة، وتكثر اشتباهاته، وتكون عاقبته إلى الندم والهلكة، في حين أنّ النقطة المقابلة لها، أي التأني والصبر والتدبر يقود الإنسان إلى الفلاح والسعادة والاستفادة الكبيرة من الفرص الثمينة في حياته الدنيوية.

ملاحظات مهمة:

1- مفهوم العجلة والتسرع

إن العجلة بما هي صفة ذميمة في سلوك الإنسان تظهر باشكال مختلفة، بمعنى أنّ الإنسان وقبل أن يوفر مقدمات العمل يُقدم على تحصيل النتيجة، وهذا العمل لا يترتب عليه سوى الفشل أو يثمر ثمرة ناقصة.

وهذا كما لو أنّ الإنسان قطف الثمرة قبل نضجها فإنه يحرم نفسه من طيب هذه الثمرة أو تكون ذات فائدة قليلة، أو أنّه يقوم بنثر البذور على الأرض قبل أن يحرثها فتكون النتيجة تلف البذور أو قلّة المحصول الزراعي، ويقول أميرالمؤمنين عليه السلام في هذا الصدد: «وَمُجْتَنِي الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 395

الثَّمَرةِ لِغَيرِ وَقتِ ايناعِهَا كَالزّارعِ لِغَيرِ ارْضِهِ» «1».

أي انه يتلف طاقاته ورأس ماله بدون أن يعود عليه بالفائدة المطلوبة،

والعجول: يقال للأشخاص الّذين لا يتمتعون بحالة الصبر في أعمالهم وأقوالهم وتعاملهم مع الآخرين ولغرض الوصول إلى هدفهم لا يسلكون الطريق الصحيح لذلك، فلهذا السبب فإنّهم يقعون في دوامة من المشكلات والنواقص في حركتهم الاجتماعية وسلوكهم في خطّ التكامل المادي والمعنوي.

والصفة المقابلة للعجلة والتسرع هي

«التأني» والتريث والتحمل والطمأنينة والوقار.

ولا ينبغي أن تؤخذ «العجلة» بمعنى السرعة في الأقدام على العمل والّذي يحمل مضموناً ايجابياً في حركة الحياة، فالسرعة في العمل تكون بعد ترتب وتوفر المقدمات المطلوبة لذلك العمل وأن لا يدع الإنسان الفرصة تفلت من يده للحصول على النتيجة والثمرة، فمثل هذا العمل من الواضح أنّه يعد أحد العوامل المهمة للفلاح والنجاة والموفقية، ولكننا نرى في موارد كثيرة وجود الاشتباه والخلط بين مصاديق العجلة وموارد السرعة، أو نرى أنّ البعض ولغرض تبرير كسلهم واهمالهم يضيعون الفرص الثمينة ويقولون انه لا ينبغي العجلة في الامور وأنّ العجلة من الشيطان، في حين أنّ هناك فرقاً واضحاً بينهما، ففي بعض الروايات نقرأ أنّ العجلة تعد من أسباب الندم، وأنّ التأني من أسباب السلامة، وهذا هو ما أشرنا إليه آنفاً.

ونختم هذا الكلام بحديثٍ عن أميرالمؤمنين عليه السلام يبين فيه الفرق بين مفهوم العجلة والسرعة أو مفهوم التسرع والسرعة ويقول «ايّاكَ وَالعَجَلَةَ بِالامُورِ قَبْلَ اوانِهَا، وَالتَّساقُطَ فِيها عِندَ امْكانِها» «2».

2- المسارعة في الخيرات

ونقرأ في القرآن الكريم في آيات متعددة انه يدعو إلى المسارعة في الخيرات والمسابقة في الحسنات، ومن ذلك ما ورد في الآية 114 من سورة آل عمران في وصف بعض المؤمنين الحقيقين حيث يقول «.. وَيُسارِعُونَ فِي الخَيراتِ وَاولئكَ مِن الصَّالِحينَ ...».

ويقول فى سورة الأنبياء الآية 90 في وصف جماعة من الأنبياء العظام مثل زكريا ويحيى ويقول عنهم «.. انَّهُم كَانُوا يُسارِعُونَ فِي الخَيراتِ ...».

ويقول في الآية 61 من سورة المؤمنين في شرح الصفات البارزة لهؤلاء المؤمنين ويقول: «اولئكَ يُسارِعُونَ فِي الخَيراتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ».

وجاء في الآية 133 من سورة آل عمران أنّ هذه المسألة بعنوان خطاب عام لجميع المؤمنين أن يتحركوا من موقع المسارعة،

ويقول: «وَسَارِعُوا الَى مَغفِرةٍ مِن رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْارْضُ اعِدَّتْ لِلمُتَّقينَ».

ونفس هذا المعنى ورد في الآية 142 من سورة البقرة تحت عنوان المسابقة في الخيرات حيث تقول الآية «... فَاستَبِقُوا الخَيراتِ ...».

وبديهي أنّ المسارعة في الخيرات كلها إشارة إلى هذه الحقيقة الواحدة، وفي الواقع آنها من قبيل اللازم والملزوم لأن المسابقة لا تتحقق بدون المسارعة، وكلّما طوى الشخص الطريق إلى مقصوده بسرعة أكثر فإنه بلا شكّ سيصل إلى مقصوده أسرع.

وقد ورد في الروايات الإسلامية إشارات جميلة وعميقة المعنى بالنسبة إلى هذا الموضوع، نختار منها نماذج معيّنة وهي:

1- قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «انّ اللَّهَ يُحِبُّ مِنَ الخَيْرِ مَا يُعَجَّلُ» «1».

2- وفي حديث آخر عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «بَادِرُوا بِعَمَلِ الخَيرِ قَبلَ ان تُشغَلُوا عَنْهُ بِغَيرِهِ» «2».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 397

3- وفي أحاديث متعددة عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «مَن هَمَّ بِخَيرٍ فَلْيُعَجِّلْهُ وَلا يُؤَخِّرْهُ» «1».

4- وجاء هذا المعنى أيضاً في حديث آخر بصورة مفصلة، قال الإمام الصادق عليه السلام «اذا هَمّ احَدُكُم بِخَيرٍ أَوَ صِلَةٍ فَانّ عَن يَمينِهِ وَشِمالِهِ شَيطانَينِ فَلْيُبادِرْ لا يَكُفّاهُ عَن ذَلِكَ».

5- وقال أميرالمؤمنين عليه السلام «لَيْسَ مِن عَادَةِ الْكِرامِ تَأخيرُ الْانعامِ» «2».

6- وقال الإمام الباقر عليه السلام «مَن هَمَّ بِشَيْ ءٍ مِنَ الخَيرِ فَلْيُعَجِّلْهُ فَانَّ كُلَّ شَيْ ءٍ فيهِ تَأخيرٌ فَانَّ لِلشَّيطانِ فِيهِ نَظْرَةً».

وخلاصة الكلام فإنّ الموانع النفسانية والوساوس الشيطانية تصد الإنسان دائماً عن أعمال الخير، ولهذا فعندما تتوفر مقدمات ذلك العمل تجب المسارعة إليه قبل أن يضع بعض الجهال الضيقوا الافق العوائق في طريق الحركة نحو الخير ويثبطوا الإنسان عن سلوك طريق الكمال المعنوي، ولابدّ أيضاً أن يفرق الإنسان بين السرعة والمسارعة في

أعمال الخير، وبين العجلة المذمومة الّتي تكون قبل توفر مقدمات العمل.

ونختم هذا الكلام بحديث شريف عن أميرالمؤمنين عليه السلام حيث قال «لا تُؤَخِّر انالَةَ الْمُحتَاجِ الَى غَدٍ، فَانَّكَ لا تَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَكَ وَلَهُ فِي غَدٍ» «3».

الآثار السلبية للعجلة والتسرع:

1- اتلاف الوقت والطاقات

إن هذه الصفة الذميمة يترتب عليها آثار مخربة كثيرة في حياة الإنسان الفردية والاجتماعية، والأضرار التي تعود على الإنسان بسبب هذه الحالة السيئة هي أكثر من أن الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 398

تحصى ومن ذلك أنّها تعمل على اهدار طاقات الإنسان واتلافها وبالتالي تمنعه من الوصول إلى مقصوده ومطلوبه، مثلًا إذا قصد جيش العدو بلاد الإسلام ولم يتريث جيش الإسلام لكي يباغت العدو في موقف من مواقف الضعف والعسر بالنسبة للعدو، أو قبل أن ينتهي جيش الإسلام من حيث العدّة والعدد والخطّة العسكرية يقوم هذا الجيش بالهجوم على العدو، فتكون النتيجة الاندحار والهزيمة لجيش الإسلام واتلاف الكثير من الطاقات والقوى وبالتالي تقوية جيش الأعداء وجرأتهم أكثر.

وهذا المعنى يصدق أيضاً بالأعمال الفردية، لأن كلّ حركة تتصف بالعجلة فإنّها تتسبب في اهدار الطاقات واتلاف الامكانات للإنسان.

وينقل الفيض الكاشاني في «المحجّة البيضاء» حديثاً جميلًا ويعتبر شاهداً ناطقاً على ما تقدّم آنفاً، حيث جاء في هذا الحديث انه عندما ولد المسيح عليه السلام فإنّ الشياطين جاءوا إلى إبليس فقالوا: أصبحت قد نكست رؤوسها، قال: هنا حادث قد حدث، مكانكم، فطار حتى جال خافقي الأرض ولم يجد شيئاً، ثم وجد عيسى عليه السلام قد ولد، وإذا الملائكة قد حفّت حوله، فرفع إليهم فقال: إنّ نبيّاً قد ولد البارحة ما حملت انثى قط ولا وضعت إلّاوأنا بحضرتها إلّاهذا فآيسوا أن تعبد الأصنام بعد هذه الليلة ولكن ائتوا بني آدم من قبل العجلة

والخفّة «1».

2- اليأس

ومن المعطيات السلبية الاخرى للعجلة، هو حالة اليأس الّتي تصيب الإنسان عندما لا ينال مقصوده ولا يتسنّى له تحصيل النتيجة من عمله، وقد يفضي به هذا الحال إلى أن يسي ء الظنّ بكلّ شي ء حتّى بالتقدير الإلهي، ولذلك ورد في الحديث الشريف عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام أنّه قال: «لا تَعْجَلْ عَلَى ثَمَرَةٍ لا تدرك وَانَّما تَنالُها فِي اوانِها وَاعْلَمْ انَّ المُدَبِّرَ لَكَ اعْلَمُ بِالوَقتِ الّذي يُصلِحُ حَالُكُ فيهِ، فَثِقْ بِخِيَرَتِهِ فِي جَميع امورِكَ، يُصلِحُ حَالُكَ، وَلا تَعجَلْ بِحَوائِجِكَ قَبلَ وَقِتها فَيَضِيقُ قَلبُكَ وَصَدرُكَ وَيَخشاكَ (يغشاك) القُنوط» «2».

3- الندامة

الثالث من الآثار السيئة للعجلة هي الندم كما مرّت الإشارة إليه في الأحاديث السابقة، فما أكثر الأشخاص الّذين استعجلوا في تحصيل النتيجة قبل أن تتوفر المقدمات وقبل أن تتهيأ الأرضية لذلك، فكانت النتيجة هي اتلاف طاقاتهم وامكاناتهم وعدم تحصيل مقصودهم الحقيقي، في حين أنّهم لو مكثوا وصبروا قليلًا فسوف لا يتورطون في ما وصلوا إليه، وما أكثر الأشخاص الّذين اتجهوا من موقع العجلة في طريق خاص وإذا بهم يرون الخسارة تحيط بهم من كلّ جانب وعندها أدركوا خطأ هذا الطريق بعد فوات الأوان فاصبحوا يتحسرون على ما صدر منهم ويقولون يا ليتنا لم نسلك هذا الطريق.

وفي ذلك يقول أميرالمؤمنين عليه السلام: «فَكَمْ مِن مُستَعجِلٍ بِما ان ادرَكَهُ وَدَّ انَّهُ لَمْ يُدرِكْهُ» «1».

4- الحزن والغم

الرابع من العواقب السلبية للعجلة في الأعمال هو أن يعيش الإنسان امواج الحزن والهم، لأن الفشل في حركة الحياة الاجتماعية المترتب على العجلة والتسرع تكلف الإنسان غالياً في كثير من الأوقات وتجعل الإنسان يعيش دائماً القلق والاضطراب والحزن.

وقد ورد هذا المعنى في إحدى الكلمات القصار لأميرالمؤمنين عليه السلام حيث قال «العَجَلُ قَبْلَ الإمكانِ يُوجِبُ الغُصّةَ» «2».

5- زيادة الخطأ

إن من الآثار السيئة الاخرى للعجلة والتسرع هو كثرة ما يقع فيه الإنسان من الخطأ والاشتباه بسبب ذلك، لأن التخطيط الصحيح يحتاج إلى كثير من التأمل والتدبر والدقّة، وهذا المعنى يتقاطع مع العجلة والتسرع، ولذا نرى الأشخاص الّذين تستولي عليهم حالة العجلة في تصرفاتهم وسلوكياتهم فإنّهم يبتلون عادة بأخطار كثيرة سواءً على مستوى تشخيص الهدف أو على مستوى المنهج والطريق للوصول إليه.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 400

يقول أميرالمؤمنين عليه السلام «مَعَ العَجَلِ يَكْثُرُ الزَّلل» «1».

وكذلك يقول عليه السلام: «مَن عَجَل كَثُرَ عِثارُهُ» «2».

6- كثرة الزلل

السادس من آثار العجلة والتسرع «كثرة الزلل» والّذي يمكن أن يكون بمعنى واحد مع كثرة الأخطاء ويمكنه أن يكون قسماً مستقلًا «الخطأ في تشخيص الهدف والزلل في طريق الوصول إليه».

ويقول أميرالمؤمنين عليه السلام في هذا المجال «اصابَ مُتَأَنٍّ اوْ كادَ، واخطَأَ مُسْتَعجِلٌ او كَادَ» «3».

وعلى أية حال فإنّ الأضرار الناشئة من العجلة والتسرع أكثر من أن يتصورها الإنسان، والضرر والخسارة الّتي يدفعها الإنسان العجول في واقع الحياة من الامكانات المادية والأضرار النفسية والمعنوية أكثر من أن تحصى

جذور هذه الصفة الذميمة:

1- اتباع الهوى

إن هذا الخلق الذميم حال سائر الأخلاق الرذيلة الاخرى ينبع من اتباع الهوى في الأساس، فالإنسان إذا تحرّك بوحي أهوائه فإنه عادةً ولأجل تحصيل مطامعه ورغباته النفسية يستعجل في ذلك، والغالب أنّ الهوى لا يسمح له بأن يتدبر عواقب الامور ويتأمل في الطريق السليم في الوصول إلى مقصده، ولهذا السبب فإنه يلقي بنفسه بصورة عشوائية في هذا الاتجاه ويركض خلف ارضاء النوازع الذاتية والأهواء النفسية وبالتالي يتورط فيما لا يحمد عقباه.

2- حبّ الدنيا والتعلق بها

الثاني من أسباب العجلة والتسرع هو حبّ الدنيا والتعلق بها الّذي يعد رأس كلّ خطيئة،

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 401

فمن كان عبداً للدنيا فإنه لا يرى غيرها وكأنما يغلق عينه واذنه عن رؤية عواقب الامور ويلقي بنفسه وبدافعٍ من العشق للدنيا والشوق إلى تحصيل زخارفها من موقع العجله والتسرع وهو يتصور إنما يسعى لخيره ومصلحته ولكنَّ الأغلب هو أنّ هذه العجلة تتسبب في تورطه بالمشاكل واصطدامه بالموانع الّتي لم يكن يراها بسبب العجلة ولم يكن مستعداً نفسياً لمواجهتها، ولهذا السبب فإنه يمنى بالهزيمة والفشل الذريع.

3- ضيق الصدر وسعته

ومن الدوافع الاخرى للعجلة والتسرع هو ضيق الصدر وافق التفكير، فالأشخاص الّذين يعيشون ضيق الصدر وضيق الافق هم الّذين يسلكون طريق العجلة في تحصيل مبتغاهم، واما من كان يعيش سعة الصدر ويتسم بسعة الافق في تفكيره فنجده يخطو في حركته الاجتماعية بتأنٍ ووقار وتدبّر فيما يصدر منه من سلوكيات وأعمال ويتجه لتحصيل مقاصده بعزم قوي وفي نفس الوقت ببرودة أعصاب، ولهذا فإنه قلما يصاب بالفشل والهزيمة.

إن تسويلات الشيطان وخداع رفاق السوء والمتملقين والكاذبين والحساد والنمامين هي بدورها من العوامل المهمة للوقوع في دائرة الاستعجال والتسرع.

يقول أميرالمؤمنين عليه السلام في هذا الصدد «وَلا تَعجَلَّنَّ الَى تَصديقِ ساعٍ فَانَّ السَّاعِيَ غَاشٌّ وَان تَشبَّهَ بِالنَّاصِحينَ» «1».

4- الجهل

وأحد العوامل الاخرى للاستعجال بالامور الجهل والسفه، فان الشخص الجاهل والسفيه يعيش في الغالب في دائرة الأوهام والخيالات الباطلة فيتصور أن مقدمات هذا العمل الفلاني متهيئة وأنّ الأرضية مساعدة لذلك فيلقي بنفسه في دوامة الحوادث ولا يرجع منها إلّابخف حنين ولا يكون مصيره منها سوى الفشل، في حين أنّ الشخص العالِم بالامور والعاقل الذكي فإنه يسعى لبرمجة خطواته العملية في سبيل الوصول إلى هدفه ومقصده وبالتالي فسوف يحصد ثمار هذا التأني والتدبر ولا يصيبه سوى الفلاح.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 402

يقول أميرالمؤمنين عليه السلام «مِنَ الْحُمُقِ الْعَجَلَةُ قَبلَ الْامْكانِ» «1».

طرق العلاج:

ولغرض التصدي لهذه الرذيلة الأخلاقية وعلاجها أو الوقاية منها فقبل كلّ شي ء يجب التفكر في هذه العواقب الوخيمة والآثار السيئة لحال الاستعجال والتسرع، فنحن نشاهد الكثير من الوقائع المؤلمة والحوادث والمشاكل الكثيرة الّتي تكون بسبب التسرع ... وهناك نماذج كثيرة من ذلك ذكرها لنا تاريخ الانسانية.

فلو أنّ الشخص تفكر في هذه الامور والآثار السيئة، فإنه سيدرك حتماً أنّ الاستعجال في العمل مضافاً إلى انه لا يوصله إلى مقصده ولا يحصل على غايته بسرعة فإنه قد لا يحصل عليها أبداً فيما بعد.

وما تقدّم من العبارات العميقة في الروايات الشريفة من قبيل «العَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطانِ» و «وَالعَجَلَةُ قَبْلَ الامْكانِ يُوجِبُ الغُصّةَ وَمَعَ العَجَلَةِ تَكوُن النَّدامَةُ» «2»

. يجب أن تكون بمثابة الشعار لحياة الإنسان الفردية والاجتماعية يضعه نصب عينه كي يحد ذلك من عجلته في الامور، ويضع في خاطره دائماً الحديث الشريف الوارد عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إنّما أهلك الناس العجلة ولو أنّ الناس تثبّتوا لم يُهلك أحد» «3».

ومن جهة اخرى يجب عليه أن يمارس عملية التأني ويتمرن عليها ويلقن نفسه بها

حتّى يمتزج هذا الخُلق الحسن بروحه ويمتد إلى أعماق وجوده، فيكون له كالطبيعة الثانية، لأن كلّ عمل يتبدل بالممارسة والتمرن إلى عادة، وكلّ عادة تتبدل إلى خُلق وطبيعة في نفس الإنسان.

الصبر والتأني

تنويه:

إن الحياة الدنيوية مليئة بالمشاكل والمصائب الّتي تستوعب حياة الإنسان في واقعه الفردي والاجتماعي، ولو انه تصدى لهذه المشكلات وواجه هذه المخاطر والتحديات للواقع العملي بصبرٍ ومقاومة ومثابرة فإنه سوف يتجاوزها وينتصر عليها قطعاً، وإلّا فإنه لن يصل إلى مقصوده أبداً، وسيجد نفسه يعيش الخنوع والخضوع للتحديات الصعبة الّتي يفرضها عليه الواقع.

والمراد من الصبر هو الاستقامة أمام المشاكل والحوادث المختلفة، والصفطة المقابلة له هو «الجزع» ويعني افتقاد عنصر المقاومة والاستسلام أمام تحديات الواقع والمشاكل الاجتماعية والنفسية في حركة الحياة على المستوى المادي والمعنوي، فلو أنّ الإنسان لم يقف أمام أهوائه الطاغية ونوازعه النفسية ولم يقاوم الجوانب الدنيوية ولم يسلك في طريق «معرفة اللَّه» واطاعته، فإنه لن يصل إلى أي مرتبة من مراتب الكمال المعنوي والإنساني، ولذلك قسم علماء الأخلاق الصبر إلى ثلاثة أقسام:

1- الصبر على الطاعة، أي على المشكلات الّتي تواجه الإنسان في خط التقوى والإيمان وطاعة اللَّه تعالى.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 404

2- الصبر على المعصية، ويعني الصمود أمام النوازع النفسية والأهواء الشيطانية ومقاومتها والتصدّي لها.

3- الصبر على المصيبة، ويعني الصمود أمام المصائب والحوادث المرة الّتي تصيب الإنسان في حركة الحياة وعدم الانفعال عند حدوثها والخضوع لتحدياتها وترك الجزع والفزع في عملية مواجهتها.

ويعتبر «الصبر» من أهم أركان الإيمان حيث يشبه الإمام علي مكانة الصبر بالنسبة إلى الإيمان كمكانة الرأس بالنسبة إلى الجسد، وقد لا نجد في القرآن الكريم مورداً اهتم فيه القرآن من موقع التأكيد والمدح مثل ما نجد ذلك بالنسبة إلى الصبر،

فقد وردت سبعون آية تقريباً في هذا الموضوع، عشرةٌ منها مختصة بتوصيات القرآن للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله نفسه.

ونقرأ في آيات القرآن أنّ اللَّه تعالى وعد الصابرين أجراً عظيماً وبدون حساب «انَّما يُوَفّى الصَّابِرُونَ اجْرَهمِ بِغَيْرِ حِسَابٍ» «1».

وأنّ الصبر هو مفتاح الجنّة كما تقول الآية «سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارُ» «2».

وجاء في الحديث النبوي المعروف اشارات إلى هذا المعنى وأنّ الصبر نصف الإيمان، كما سيأتي تفصيله لاحقاً.

وبهذه الإشارة نعود إلى آيات القرآن الكريم بدراسة هذا الموضوع الأخلاقي المهم من جوانبه وابعاده المختلفة.

آيات الصبر:

1- «إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نّعْمَ ا لْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ» «3».

2- «وَجَآءُو عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 405

الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَاتَصِفُونَ» «1».

3- «وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مّنَ الصَّابِرِينَ» «2».

4- «قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا» «3».

5- «قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلقُواْ اللَّهِ كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» «4».

6- «فَاصْبِر كَمَا صَبَرَ اوُلُوا العَزمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَستَعْجِلْ لَهُم كَانَّهُم يومَ يَرَونَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلبَثُوا الّا سَاعَةً مِنْ نَهارٍ ...» «5».

7- «فَاصْبِر صَبراً جَميلًا» «6».

8- «يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» «7».

9- «يَا ايُّها الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلوةِ انَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» «8».

10- «قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَا سِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ» «9».

11- «سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارُ» «10».

12- «أوْلَئكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا» «11».

13- «وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَىْ ءٍ مّنَ ا لْخَوْفِ وَا لْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ الْأَمْوَا لِ

وَالْأَنفُسِ وَالَّثمَرَا تِ الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 406

وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ» «1».

14- «.. وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَواْ بِالصَّبْرِ» «2».

تفسير واستنتاج:

اسوة الصبر والمقاومة

«الآية الاولى تستعرض حياة أحد الأنبياء العظام الّذي صار مثلًا للصبر والاستقامة في مواجهته للبلايا والمصائب في الحياة، في حياته الفردية والاجتماعية، ولهذا فإننا نقرأ في حالاته وسيرته المذكورة في سورة «ص» إن القرآن الكريم يضربه مثلًا للمسلمين في أوائل البعثة الّذين كانوا يعيشون التحديات الصعبة والضغوط المستمرة من قِبل المشركين في مكّة ويتعلموا منه درس الصبر والاستقامة والصمود في مواجهة المشاكل والمصاعب المفروضة عليهم.

وصحيح أنّ اسم النبي أيوب عليه السلام أو سيرته قد وردت في عدّة سور في القرآن الكريم، ولكنَّ ما ورد في سورة «ص» يعدو شرحاً وافياً لسيرته الكريمة حيث تقول الآية 44 من هذه السورة: «إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نّعْمَ ا لْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ» «3».

وهكذا واجه النبي أيوب عليه السلام مصائب عظيمة لغرض اختباره وامتحانه لمعرفة درجة شكره وطاعته للَّه تعالى وليصعد بهذا الطريق إلى مقامات سامية من القرب الإلهي، فقد كانت له ثروة كبيرة وبساتين وأغنام كثيرة وأبناء صالحون، ولكن كلّ ذلك فقده بين عشية وضحاها حتّى أبناءه أيضاً ونفس أيوب ابتلي بمرض شديد ومزمن إلى درجة انه كان يتلوى في فراشه من شدّة الالم الّذي أوقعه في الفراش أسيراً، ولكن أي واحدٍ من هذه الامور لم يستطع أن يقلل من شكره للَّه تعالى، ولم يتمكن أن يخدش في صبره واستقامته في الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 407

خط الإيمان والطاعة.

هذا وقد سمع أيوب الكثير من التعريض به وبشخصيته، ولعلّ هذه المصيبة كانت عليه من أعظم المصائب، وأحياناً كان عُبّاد بني إسرائيل ورهبانهم يأتون لرؤيته ويقولون له بصراحة: ما هو الذنب العظيم الّذي ارتكبته حتّى ابتلاك

اللَّه بهذا الابتلاء والعذاب الشديد؟

ولكن هذا النبي العظيم لم يفقد صبره بل كان يعيش الانضباط الأخلاقي أمام نوازعه النفسية ويلهج لسانه بشكر اللَّه تعالى ويتعامل مع كلّ هذه المصائب من موقع الشكر لا من موقع كفران النعمة والشكوى والجزع، وبعد أن مضت عليه سنوات عديدة وهو يتحدى هذه الصعاب العظيمة دعا اللَّه تعالى لأن يكشف عنه هذا البلاء كما تقول الآية: «وَاذْكُر عَبْدَنا ايّوبَ اذ نَادى رَبَّهُ انّي مَسَّنِيَ الشَّيطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ».

فعندما ختم هذا النبي العظيم جميع مراحل هذا الامتحان الإلهي الكبير ووقف أمام البلايا والمصائب المختلفة كجبلٍ من الصبر والاستقامة وأخجل الشيطان الرجيم من أن ينال منه ولو كلمة جزع وشكوى واحدة حتّى يئس منه، عندها فتح اللَّه تعالى أبواب رحمته عليه، وعاد عليه كلّ ما فقده من المال والأولاد والمواهب الدنيوية الاخرى بل ضاعفها له أضعافاً مضاعفة، والأهم من ذلك انه نال من ذلك مقاماً عظيماً في دائرة القرب الإلهي ونال وسام «نّعْمَ ا لْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ».

وذكر المفسّر المعروف «ابن مسعود»: إن أيوب عليه السلام كان «رَأسُ الصَّابِرينَ الَى يَومِ القِيامَةِ» «1»

وهكذا سجَّل أيوب لنفسه هذا الشرف والافتخار على طول التاريخ البشري.

ولا ينبغي التساهل في المرور على هذا المطلب، وهو أنّ إنساناً كان يتمتع بجميع الامكانات المادية والدنيوية، وفجأةً فقد كلّ شي ء وجلس صفر اليدين حتّى انه لم يسلم من تعريضات قومه من الأصدقاء والأعداء وكناياتهم الموجعة الّتي كانت تؤلمهُ أكثر من طعنات السيوف والخناجر ومع ذلك لم يصدر منه حتّى كلمة واحدة على خلاف رضى اللَّه تعالى بل كان لسانه لهجاً بذكر اللَّه وشكره، وفي نهاية أمره قال كلمة واحدة تعبر عن دعاءه الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 408

وتضرعه إلى اللَّه تعالى

لا غير، وهي العبارة الّتي تصور البعض أنّها من قبيل الشكوى ولكنه خطأ فاحش لأنها لاتتضمن أي نوع وأي أثرٍ للشكوى فيها حيث تقول: «اذ نَادى رَبَّهُ انّي مَسَّنِيَ الشَّيطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ».

وتأتي «الآية الثانية» لتستعرض صبر «النبي يعقوب» الّذي يُعد اسطورة في الصبر والاستقامة، فقد فَقَدَ ابنه وأعز ما لديه في الحياة، وهو «يوسف» الّذي كان يحبّه حبّاً جمّاً، وعاش سنوات مديدة بعينٍ باكية وصبرٍ عظيم حتّى انه عميت عيناه، ولكن رغم ذلك فإنه لم تفلت منه كلمة مخالفة لرضى اللَّه تعالى وكان شاكراً وصابراً دائماً وكما تعبر الآية على لسان يعقوب نفسه بكلمة «صبرٌ جميل» حيث تقول «وَجَآءُو عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَاتَصِفُونَ» «1».

وهكذا نرى إن الاخوة الكذّابين غفلوا عن تمزيق قميص يوسف عندما جاءوا به ملطخاً بالدم وقالوا لأبيهم إنّ الذئب قد أكل يوسف في غفلة منا، ولهذا لم يصدق يعقوب كلامهم هذا وقال: «بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا»، ولكن بما انه لم يكن يملك أي شي ء اتجاه هذه الحادثة المؤلمة فاكتفى بالبكاء على يوسف وقال: «فَصَبْرٌ جَمِيلٌ» أي الصبر المقترن مع الشكر للَّه على هذه المحنة دون أن تمتد إلى قلبه حالة الجزع الذميمة.

وبالنسبة لعبارة «فَصَبْرٌ جَمِيلٌ» فللمفسّرين بيانات مختلفة في تفسيرها، فذهب البعض إلى أنّ «الصَبْرٌ الجَمِيلٌ» هو الصبر الّذي لا يخالطه الجزع ولا الشكوى للناس من المصيبة، وذهب البعض الآخر إلى أنّ الصبر الجميل أن يكون بدافع إلهي وطلباً لرضى اللَّه تعالى وقد ورد في الروايات انه سُئل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عن الصبر الجميل ما هو؟ وقال «هُوَ الّذي لَا شَكْوَى مَعَهُ» «2».

وذهب آخرون

إلى أنّ الصبر الجميل هو ما لم يقترن مع الشكوى إلى الناس، وأجمل منه الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 409

أن يعرض حاله على اللَّه تعالى ويلتجي إليه في هذه المصيبة ويؤدي حقّ الطاعة والعبودية له.

فعندما اعترض أبناء يعقوب على أبيهم بسبب كثرة البكاء على يوسف وتذكره الدائم قال لهم إنني لا أشكو حالي إلى الناس وإليكم بل «قَالَ انَّمَا أشْكُوا بَثّي وَحُزْنِي الى اللَّهِ وَاعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلمُونَ» «1».

«الآية الثالثة» تتحدّث عن طائفة اخرى من الأنبياء الإلهيين الّذين سلكوا في دعوتهم لأقوامهم وفي مواجهة المشكلات والمصاعب في خطّ الاستقامة والتحمل، من أجل ذلك فإنّ اللَّه تعالى أغرقهم برحمته وجعلهم في زمرة الصالحين:

«وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مّنَ الصَّابِرِينَ» «2».

أما صبر إسماعيل فواضح، وذلك بانه أوّلًا: استعد لأن يضحي بنفسه في طاعة اللَّه وامتثال أمره وامتثل لما أمره به أبوه من ذبحه كما أمر اللَّه، ولكن اللَّه تعالى شملهما بعنايته وأرسل لإبراهيم خروفاً أو كبشاً ليذبحه بدل إسماعيل.

وثانياً: لبقائه في الصحراء المحرقة في منطقة مكّة وإلى جانب بيت اللَّه الحرام كي ما يقوي ويشتد أمر هذا المركز الإلهي ويشيع أمرهُ بين الناس.

وأمّا بالنسبة إلى صبر إدريس فقيل: أنّه أوّل من بُعث من بين قومه يدعوهم إلى عبادة اللَّه تعالى ولكنه بالرغم من ذلك واجه صعوبات كبيرة في هذا السبيل ولم يستجب له أحدٌ من قومه.

وأمّا «ذي الكفل» فإنما سمي بهذا الاسم وصار في زمرة الصابرين الكبار من الأنبياء الإلهيين فبسبب انه كان يعيش في بني إسرائيل، وكان يحكمهم نبيّاً من الأنبياء، وفي يوم من الأيّام جاء الوحي إلى ذلك النبي وأخبره بحلول أجله وأنّ عليه أن يسلم مقاليد الحكم إلى الاخلاق فى القرآن، ج 2،

ص: 410

شخص آخر تتوفر فيه هذه الصفات الثلاثة: أن يقوم في كلّ ليلة بالعبادة والصلاة، وأن يصوم كلّ يوم، وأن يحكم بين الناس دون أن يغضب، فقال شابٌ من المؤمنين: أنا أتكفل بكلّ هذه الامور، قال ذلك واستمر على الوفاء بعهده والاتيان بهذه الثلاثة (مع جميع ما تتضمنها من مشاكل وصعوبات) وبذلك نال مقام النبي أيضاً فسُمي: ذي الكفل.

أجل، فإنّ هؤلاء العظماء الثلاثة كانوا اسطورة للصبر والاستقامة بحيث إنّ القرآن الكريم جعلهم اسوة لجميع المسلمين في العالم وأشار إليهم بذلك في هذه الآية الكريمة.

وتتعرض «الآية الرابعة» إلى الحديث عن «قصة موسى عليه السلام والخضر عليه السلام» ونقرأ في هذه القصة دروساً وعبراً مهمة ونافعة حيث جاء موسى عليه السلام إلى الخضر عليه السلام لطلب العلم وسأله أن يعلمه من العلوم والأسرار الإلهية، لأن هذه العلوم والأسرار هي غير «علم الشريعة» الّذي تلقاه موسى عليه السلام بطريق الوحي وكان على اطلاع عام به، ولكنَّ تلك العلوم والمعارف متعلقة بأسرار عالم التكوين والحوادث الواقعة في عالم الوجود، ولكن على أية حال فإنّ الخضر عليه السلام كان قلقاً من عدم تحمل موسى عليه السلام بهذه العلوم والمعارف وقال له كما تذكر الآية «قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا* وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً» «1».

فكان أن وعد موسى عليه السلام معلمه بأن يصبر ويتريث ولا يعترض على شي ء، ولكن الحوادث والوقائع الّتي رآها فيما بعد كانت عجيبة وغريبة إلى درجة أنّ موسى عليه السلام لم يطق صبراً إلى أن يخبره الخضر عليه السلام عن أسرارها، وفتح فمه بالاعتراض على معلمه، فما كان من الخضر عليه السلام إلّاأن ذكره بوعده بالصبر والتريث، فاعتذر موسى عليه السلام بذلك

ولكنه في المرّة الثالثة قرر الانفصال إلى الأبد.

وهذه القصة العجيبة تتضمن دروساً ومعارف كثيرة، ولكن ما يرتبط ببحثنا هذا هو أنّ موسى عليه السلام لو صبر أكثر ولم يعترض على الخضر عليه السلام لكان يكتشف أسراراً جديدة ويزداد علماً إلى علمه، ولكن عدم صبره هذا تسبب بأن لا يتعلم سوى ثلاثة امورٍ فقط، في حين انه الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 411

وكما يقول بعض المفسّرين المعروفين أنّ موسى عليه السلام لو صبر أكثر لكان يتعلم من الخضر عليه السلام آلاف الأسرار والمعارف الموجودة في عالم التكوين والخلقة.

وعلى هذا فإنّ الصبر يعد أحد مفاتيح العلوم والمعارف.

ويمكن أن يتساءل البعض: ألم يكن الأنبياء أعلم الناس في زمانهم؟ فكيف طلب موسى من اللَّه تعالى أن يتعلم بعض العلوم من الخضر وحتّى انه فارقه بعد ذلك ولم يتعلم منه سوى بعض الامور والأسرار القليلة؟

والجواب على هذا السؤال واضح، وهو أنّ كلّ نبي يجب أن يكون أعلم الناس بالنسبة إلى دائرة مهمته ووظيفته في تحمل مسؤولية الدعوة إلى اللَّه وهداية الناس إلى الحقّ، وهكذا كان موسى أعلم الناس بنظام الشريعة والدين، ولكنَّ مسؤولية الخضر ودائرة علومه ترتبط بعالم التكوين وعمله وهو كعمل الملائكة «المدبرات أمراً» المأمورين بتدبير عالم الوجود، ولهذا فإنّ الأعمال الّتي صدرت من الخضر قد لا تكون مطابقة لموازين الشرع في الظاهر حتّى أنّ موسى عليه السلام اعترض عليه في ذلك، ولكن عندما شرح الخضر عليه السلام الأسرار الكامنة في أعماله قبل موسى عليه السلام منه ورضى بذلك.

وأساساً فإنّ القوانين الحاكمة على عالم التكوين رغم أنّها تصب في نتيجة واحدة مع قوانين عالم التشريع إلّاآنها منفصلة عنها في الظاهر، ولهذا السبب فإنّ صداقة موسى والخضر عليهما السلام لم

تدم طويلًا.

ومن الممكن أنّ أن يكون لبعض الأنبياء وكذلك الأئمّة إحاطة بأسرار عالم التكوين أيضاً «كما يستفاد ذلك من الروايات بالنسبة إلى نبي الإسلام والأئمّة المعصومين عليهم السلام» ولكن هذا الأمر لا لزوم له في توكيد مرتبة النبوة للأنبياء وكذلك مرتبة الإمامة للأئمّة لأن ذلك يعد مجرد فضيلة لا شرطاً للرسالة والإمامة.

«الآية الخامسة» تتحدّث عن أحد أنبياء بني إسرائيل الّذي ورد اسمه في التفاسير والتواريخ انه «اشموئيل» لكي يعين لهم رئيساً وقائداً للجيش ليحاربوا معه جالوت، فاختار

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 412

لهم رجلًا يدعى «طالوت» لانه يمتاز ببعض المميزات والصفات الإيجابية الموجودة فيه بتفاصيل قد تخرج عن موضوع هذا البحث.

وعندما جاء طالوت بذلك الجيش العظيم من بني إسرائيل لحرب جالوت أدرك جيداً بفراسة من اللَّه تعالى أنّ هذا الجيش العظيم غير قابل للاعتماد، لانه رأى كثيراً من أفراده يعيشون حالة الكسل والخمول وعدم الهمة، فمضافاً إلى أنّ وجودهم ليس فقط لا يبعث على تقوية الجيش، بل سيؤدي إلى تضعيف روحية الآخرين أيضاً، لذا عزم على تصفية جيشه بالعديد من الاختبارات والامتحانات، وبعد أن نجح في ذلك وأتم اختباره لجيشه لم يبق منه إلّاعدّة قليلة.

وهذه الفئة القليلة كانت تعيش القلق والاضطراب من قلّة الأفراد، فكان أحدهم يقول للآخر: نحن لا نستطيع مقاومة جيش جالوت العظيم ولا نتمكن من الصمود أمام قوته وجحافله، ولكنَّ البعض منهم كما يقول القرآن الكريم «قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلقُواْ اللَّهِ كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» «1».

ثمّ إن هذه الفئة القليلة عندما برزوا لجالوت دعوا اللَّه تعالى أن يرزقهم حسن الصبر كما تقول الآية: «وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا

وَانصُرْنَا عَلَى ا لْقَوْمِ ا لْكَافِرِينَ» «2».

وعلى هذا فقد اثبتوا أنّ الجماعة الكثيرة للجنود والجيش العظيم إذا كانوا فارغين من الدوافع المعنوية والاستقامة والصبر فإنّهم سينالهم الفشل الذريع في ميدان القتال، بخلاف الفئة القليلة، الّتي تعيش الاستقامة والصبر والثبات فإنه يمكنها الانتصار على الجيش العظيم في العدّة والعدد، وبذلك استطاعت هذه العدّة القليلة مع قائدهم طالوت بالانتصار على جالوت وجنوده الكثيرين ويهزموهم شرَّ هزيمة، وهناك قتل داود الّذي كان شاباً قوياً في جيش طالوت، «جالوت» واستطاع بنو إسرائيل العودة إلى ديارهم وأهليهم فتخلصوا من الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 413

سيطرة عدوهم جالوت وتحرروا من أسره، وبهذا فقد خلفوا للتاريخ البشري درساً آخر عن أهمية الصبر والاستقامة في سلوكهم العملي.

ويستفاد من هذه الآيات الشريفة أنّ التوكل على اللَّه بالإيمان بالآخرة والثواب الإلهي يشكل دعامة قوية للصبر والاستقامة في واقع النفس، ونقرأ في بعض الروايات أنّ عدد جيش جالوت 313 نفراً كما كان أصحاب بدر كذلك في العدد، واللطيف أنّ داود مع صغر سنه ولكنّه كان مسلحاً بقوّة الإيمان، وكان قد أخذ معه مقلاعاً وعدّة أحجار ورمى بأحدها باتجاه جالوت فأصابته بجبينه وخرَّ جالوت صريعاً بسبب ذلك، فلمّا رأى جيشه ذلك أسرعوا بالفرار يحدوهم خوف عظيم وتلاشى ذلك الجيش الكبير الّذي يبلغ عدده كما ورد في بعض الروايات «منه ألف نفر» مسلحين بأنواع الأسلحة.

وتستعرض «الآية السادسة» خطاب اللَّه تعالى للنبي الكريم صلى الله عليه و آله موصيةً له بالاستقامة وأن يقتدي بذلك بسيرة الأنبياء اولي العزم من قبله وتقول: «فَاصْبِر كَمَا صَبَرَ اوُلُوا العَزمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَستَعْجِلْ لَهُم ...» «1».

ورغم أنّ هذه الآية الشريفة تتحدّث عن الصبر والتأني في مقابل طلب نزول العذاب الإلهي على المخالفين

والأعداء إلى أن تتم الحجّة عليهم فلعلّه يوجد من بينهم من له رغبة في سلوك طريق الحقّ ويهتدي بالتالي إلى الإيمان ويكون في زمرة السعداء، ولكن هذا الأمر الإلهي بمثابة دستور عام ودليل واضح على فضيلة الصبر بعنوان منهج عام لجميع الأنبياء من اولي العزم.

أجل فإنّ جميع الأنبياء العظام وأصحاب الشرائع السماوية عندما كانوا يواجهون أعدائهم المعاندين والأشخاص الّذين يعيشون الجهل والسفه والعناد كانوا يتسلحون بالصبر والاستقامة أكثر ليتمكوا من هداية الامّة إلى ساحل النجاة بصورة أفضل.

النبي نوح عليه السلام دعا قومه إلى طاعة اللَّه «950 سنة» ليل نهار في الخفاء والاجهار

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 414

ووعظهم وحذرهم طيلة هذه المدّة المديدة ولكنه لم يؤمن له سوى بضع أفراد معدودين.

النبي إبراهيم عليه السلام أُلقي في النار الملتهبة، والنبي موسى عليه السلام تعرض هو والمؤمنين من قومه إلى أشد العذاب من قبل فرعون وأتباعه، وكذلك ما واجهه عيسى عليه السلام من بني إسرائيل من الأذى والاتهام والطرد إلى أن أرادوا صلبه وقتله ولكن اللَّه تعالى انقذه في اللحظة الأخيرة، والخلاصة أنّ الحياة الدنيا هي دائماً محل التضاد بين الحقّ والباطل حيث لا يمكن التغلب على المشكلات والمصاعب الّتي يواجهها الإنسان في حركة الحياة إلّابقوّة الصبر والاستقامة.

امّا المراد من الأنبياء اولي العزم من هم؟ فقد ذكر بعض المفسّرين أنّ المراد به هم الأنبياء الّذين يأتون بشريعة جديدة وعددهم مع نبي الإسلام خمسة أشخاص، وامّا اختيار هذا الأسم والعنوان لهم فهو من أجل ارادتهم القوية وعزمهم القاطع في الدعوة إلى الحقّ وهداية الناس إلى اللَّه تعالى، ولا شكّ أنّ هذه الفئة من الأنبياء كانوا يواجهون من المشاكل والمصاعب في حركة التغيير بالرسالة الإلهية أكثر من غيرهم، لأن عرض

شريعة جديدة تتقاطع مع كلّ ما يألفه الناس من الشرائع والقوانين السائدة لديهم يتضمّن مشكلات كثيرة وصعوبات يقوم بها المتعصبون من هذه الأقوام البشرية.

وذهب بعضٌ آخر إلى أنّ عددهم «18 نفر» حيث ورد اسمهم في الآيات 83 إلى 90 من سورة الأنعام، وذهب البعض الآخر إلى أنّهم تسعة أشخاص، وآخرون إلى سبعة أشخاص، بينما ذهب البعض إلى ستة أشخاص، وبعض قال بأنّهم خمسة أشخاص، وذكر آخرون أنّ جميع الأنبياء الإلهيين هم «اولي العزم»، لأنهم يرون أنّ جميعهم يتمتعون بالعزم الراسخ في أداء المسؤولية الإلهية الملقاة على عاتقهم، ولكنَّ القول الأخير بعيد حسب الظاهر، وسائر الأقوال لا دليل عليها سوى ما ورد من الروايات الشريفة عن المعصومين عليهم السلام في تفسير هذه الآية وأنّ عددهم مع نبي الإسلام هو خمسة أشخاص.

وأما «الآية السابعة» فتعود لتخاطب نبي الإسلام صلى الله عليه و آله من موقع الأمر بالصبر مقابل الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 415

استهزاء وتكذيب المشركين واذاهم وتقول: «فَاصْبِر صَبراً جَميلًا» «1».

وقد ذكر المفسّرون في تفسير «صبراً جميلًا» تفاسير مختلفة وقد تقدّم البحث عنها في تفسير الآية الثانية في هذا البحث وسنتابع الكلام فيها في حديثٍ آخر لاحقاً، ويقول الإمام الباقر عليه السلام في الجواب عن معنى الصبر الجميل في هذه الآية، «صَبْرٌ لَيْسَ فِيهِ شَكْوىً الَى النّاسِ» «2».

وفي «الآية الثامنة» يخاطب اللَّه تعالى جميع المؤمنين ويأمرهم بالصبر والمثابرة وأنّ ذلك هو مفتاح السعادة والنجاة ويقول «يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» «3».

فنقرأ في هذه الآية أربع أوامر تمثل مفتاح السعادة ومصدر الخيرات والبركات على الإنسان في حياته المادية والمعنوية.

الأوّل: الصبر والاستقامة والصمود أمام الحوادث والمشكلات والمصائب والموانع الّتي يجدها الإنسان في حركته

الدنيوية لتحديات الواقع وصعوبة الظروف.

الثاني: المصابرة، وهي من باب «مفاعلة» وتأتي بمعنى الصبر والاستقامة مقابل صبر واستقامة الآخرين، وفي الحقيقة فإنّ الدستور الأوّل ناظرٌ إلى الصبر والاستقامة أمام أنواع المشكلات والحوادث الّتي يفرضها الواقع على الإنسان، أما الدستور الثاني فناظرٌ إلى الصبر والاستقامة أمام الأعداء، وعليه فكلّما بذل الأعداء جهداً في سبيل المقاومة في ميدان القتال، فعلى المؤمنين أن يبذلوا جهداً أكبر من ذلك ويعيشوا الصبر بأقوى ممّا لدى العدو كي ينالوا النصر والغلبة عليه.

«رابطوا» من مادّة «مرابطة» وهي في الأصل من «رباط» بمعنى شد الشي ء إلى مكان معين، وتستعمل هذه المفردة «مرابطة» عادّةً بمعنى مراقبة الحدود والثغور لأن جنود

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 416

الإسلام يضعون مراكبهم وأدوات حربهم وامتعتهم في ذلك المكان.

وآخر دستور إلهي في هذه الآية هو الأمر بتقوى اللَّه الّذي هو من قبيل الخيمة الّتي تستوعب بظلّها جميع الأوامر والدساتير السابقة، فعندما يكون الصبر والمصابرة والمرابطة من أجل اللَّه وبعيداً عن أي أشكال الرياء والأمراض الشخصية وتكون مقترنة بالتقوى فإنّ ذلك سيتسبب في الفلاح والنجاة في الدنيا والآخرة.

بعض المفسّرين ذكر في تفسير «المصابرة» أنّها الصمود ومقاومة العادات والأهواء النفسانية، لانها تقف في المقابل أمام الإنسان لتمنعه من سلوك طريق الهدى والصلاح والسير في خطّ التقوى والإيمان، فيجب على الإنسان أن يقف في مقابلها بالمثل، وقالوا في تفسير «المرابطة» أنّ المراد منها هو ربط النفس بطاعة اللَّه أو ربط القلب باللَّه تعالى

وقد نقل عن أحد العرفاء انه كان يتجه إلى الحجّ مشياً على الأقدام، فالتقى بأعرابي راكباً جمله فقال له الأعرابي: أين تذهب يا شيخ؟ فقال له: إلى بيت اللَّه الحرام. فقال: لماذا أنت راجل؟ فقال: بل لدي مراكب كثيرة، فتعجب الأعرابي

من ذلك فسألة: وما هي هذه المراكب؟ فقال العابد: عندما تنزل عليّ مصيبة فسأركب مركب الصبر، وعندما تنزل عليّ نعمة أركب مركب الشكر، وعندما يداهمني القضاء والقدر أركب مركب الرضا، وعندما تطغى نفسي وتطلب مني شيئاً فأعلم أنّه لم يبق من عمري شي ء وما مضى منه أكثر ممّا بقي.

فقال الأعرابي: في الواقع أنت الراكب وأنا الراجل والسلام عليكم، فودعه وانصرف.

«الآية التاسعة» تخاطب جميع المؤمنين بتعبيرٍ جديد وتتحرك ضمن توصيتهم بأن يلتزموا الصبر ويستعينوا بالاستقامة والتحمل في مقابل تحديات الواقع الصعبة والمشكلات المفروضة عليهم وتقول: «يَا ايُّها الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلوةِ انَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» «1».

وهذه الآية لها مفهوم واسع بحيث تشمل كلّ أشكال الصبر والاستقامة، سواءٌ الصبر على الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 417

الطاعة أو الصبر على المعصية أو الصبر على المصيبة، فتوجب على الإنسان أن يستعين بكلّ عمل مهم بالصبر سواءً كان ذلك العمل هو الجهاد في سبيل اللَّه أو غير ذلك، فلابدّ من الاستعانة بأحد أقسام الصبر بما يتناسب مع المشكلة الّتي تواجه الإنسان.

ولابدّ من القول في من فسّر الصبر بالصوم أنّ الصوم أحد المصاديق البارزة للصبر لا أنّه يستوعب جميع مفهوم الصبر في هذه الآية الشريفة.

وهنا يثار سؤال، وهو أنّه ما هي الرابطة بين الصبر بمعناه الواسع، وبين الصلاة؟

ذكر بعض المفسّرين في مقام الجواب أنّ الرابطة بينهما هو أنّ الإنسان قد يفقد صبره أحياناً أو يتضعضع أمام المشكلات وضغط الواقع الصعب فتأتي الصلاة لتمنحه قوّة القلب الإرادة والعزم والتوكل على اللَّه تعالى، وبذلك فإنّ الصلاة تزيد الإنسان قوّة في عملية الصبر والمقاومة.

وبتعبير آخر: عندما يتجه الإنسان إلى الباري تعالى من خلال الصلاة فإنه يجد نفسه مرتبطاً بالقدرة اللامتناهية والحقّ الأزلي، وهذا

العمل يزيد من مقاومة الإنسان في مقابل المشكلات بحيث يبلغ به مرتبة أن يتغلب على جميع ما يواجهه من صعوبات ومشاكل ويستمر في خط الاستقامة والتحمل والمثابرة، ولهذا ورد في الحديث الشريف عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، وأحياناً عن أميرالمؤمنين عليه السلام، وكلا الحديثين صحيحان من حيث السند: «اذَا أَهَالَهُ أَمْرٌ فَزِعٌ، قَامَ الى الصَّلَوةِ ثُمَّ تَلى هَذِهِ الآيَةِ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَوةِ «1»» «2».

وعلى أية حال فإنّ هذه الآية من أوضح الآيات القرآنية الّتي تبيّن أهمية الصبر وكونه عاملًا مهماً في نجاح الإنسان في حركة الحياة الفردية والاجتماعية.

«الآية العاشرة» تخاطب نبي الإسلام صلى الله عليه و آله «من جانب اللَّه تعالى» بأن يقول لجميع عباده المؤمنين: «قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 418

وَأَرْضُ اللَّهِ وَا سِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ» «1».

وهذه الآية الشريفة تدلّ من جهة على أنّ الإنسان يجب عليه أن يستعين بقوّة الصبر والاستقامة في مقابل الصعوبات الّتي يفرضها الواقع وتفرضها عليه عملية الصراع مع الظالمين والجبابرة، لأنّه بدون ذلك فلا يوجد منفذ أمام الإنسان سوى الاستسلام للظالمين وقوى الإنحراف والخضوع لهم.

ومن جهة اخرى فإنّها تشير إلى ثواب الصابرين عند اللَّه وأنّه لا يقبل العد والحساب.

عبارة «بغير حساب» تشير إلى أنّ اللَّه تعالى سوف يجازي هؤلاء الصابرين بالثواب العظيم إلى درجة أنّ أحداً لا يقدر على عدّه واحصائه إلّااللَّه تعالى، ولهذا نقرأ في الحديث الشريف عن رسول اللَّه أنّه قال: «إذا نشرت الدواوين ونُصبت الموازين لم ينصب لأهل البلاء ميزان ولم ينشر لهم ديوان، ثمّ تلا هذه الآية: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ» «2».

وهذه العبارة «بغير حساب»

وردت في آيات متعددة اغلبها يتعلق بالرزق الدنيوي الكثير الّذي يهبه اللَّه تعالى لبعض الناس، ولكن فقط في هذه «الآية 40 من سورة المؤمن» فتتحدّث عن الثواب الإلهي للمؤمن والصابر يوم القيامة، ومن المعلوم انه إذا كان الرزق الدنيوي بدون حساب فإنّ ذلك لا يعني انه يتناسب مع كمية العمل أو كيفيته، بل يتناسب مع لطف اللَّه تعالى وعنايته لعبده، وبالتالي تكون ثمرته سامية جداً في مقام القرب الإلهي والكمال المعنوي.

ونقرأ في «الآية الحادية عشر» تعبيراً جميلًا جداً عن أهمية الصبر والاستقامة، وذلك أنّ الملائكة عندما تستقبل أهل الجنّة من كلّ باب يردون إليها يقولون لهم: «سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 419

صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارُ» «1».

واللطيف أنّ الملائكة هنا أشاروا من بين جميع الأعمال والطاعات والعبادات الّتي أتى بها أهل الجنّة إلى الصبر والاستقامة لأن ذلك كان سبب دخولهم الجنّة، ولو دققنا النظر لرأينا أنّ الصبر بحد ذاته له دورٌ مهم في سعادة الإنسان ونجاته في الآخرة ودخوله الجنّة لانه بدون الصبر فلا يستطيع الإنسان أن يتوقى من الذنوب ولا يؤدي العبادات والطاعات ولاجهاد النفس أو جهاد الأعداء، ولهذا السبب فإنّ الملائكة في أوّل سلامٍ وتبريك لهؤلاء ذكروا مسألة الصبر.

والشاهد على هذا الكلام أنّ جميع الطاعات يأتي بها الإنسان في ظلّ عنصر الصبر ونقرأ في الآية 22 من هذه السورة قوله تعالى: «وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَاقَامُوا الصَّلَوةَ وَانْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَئُونَ بِالْحَسَنَةِ السيِّئَة ...».

وجاء في تفسير هذه الآية حديثاً جميلًا عن الإمام علي بن الحسين عليه السلام أنّه قال: «إذا كان يوم القيامة ينادي مناد: ليقم أهل الصبر، فيقوم جمعي من الناس فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة، فتتلقاهم الملائكة

فيقولون إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنة. قالوا: قبل الحساب؟

قالوا: نعم، فيقولون: من أنتم؟ فيقولون: نحن أهل الصبر، قالوا: وما كان صبركم؟ قالوا:

صبرنا أنفسنا على طاعة اللَّه، وصبرناها عن معاصي اللَّه، وصبرناها على البلاء والمحن في الدنيا، قال علي بن الحسين عليه السلام: فتقول لهم الملائكة: «سلام عليكم بما صبرتم فنعم أجر العاملين» «2».

وذكر بعض رواة هذا الحديث أنّ الملائكة تقول لهم: «سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ» «3».

«الآية الثانية عشر» تكرر هذا المطلب بصورة جذابة، وهذه الآية هي استمرار للآيات الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 420

الّتي تحدّثت عن صفات «عباد الرحمان» واستعرضت في سياقها اثنى عشر صفة ايجابية تبين شخصيتهم السامية في جميع الأبعاد «اولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَروا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً» «1».

«غُرفة» من مادّة «غَرْفَ» على وزن «ظرف» بمعنى حمل الشي ء وأخذه باليد ولذلك يقال لمن يتناول الماء من العين بيده انه: اغترف من الماء، وكذلك تطلق هذه الكلمة على الأقسام العلوية من البناء فيقال لها «غرفة» وفي هذه الآية اطلقت هذه الكلمة على أعلى المنازل في الجنّة وأنّها من نصيب الصابرين.

ويستفاد من تعبير الآية أعلاه أنّ الصبر هو العنصر المشترك الممتد في جميع الصفات الاثنى عشر لهؤلاء العباد المخلصين «عباد الرحمان».

وتأتي «الآية الثالثة عشر» وهي من الآيات المعروفة في مسألة الصبر لتثير في أجواء الصابرين البشارة بالثواب الإلهي الجزيل وتقول: «وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَىْ ءٍ مّنَ ا لْخَوْفِ وَا لْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ الْأَمْوَا لِ وَالْأَنفُسِ وَالَّثمَرَا تِ وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ اذَا اصَابَتْهُمْ مُصيبَةٌ قَالُوا انَّا للَّهِ وَانَّا الَيهِ رَاجِعُونَ* اولئِكَ عَلَيْهِم صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِم وَرَحْمَةٌ وَاولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» «2».

وبالرغم من أنّ هذه الآيات تشير إلى غصن واحد من اغصان شجرة الصبر، وهو الصبر على المصائب والمشكلات، ولكن

تتضح أهمية ذلك من خلال ما يترتب على هذا اللون من الصبر من صلوات اللَّه ورحمته على هؤلاء الصابرين وأنّهم يسيرون في خطّ الهداية والاستقامة والتوجه إلى اللَّه تعالى من خلال حالة الاستقامة والصبر أمام البلايا والمصائب.

فنظراً إلى أنّ الامتحان الإلهي للإنسان في هذا العالم الدنيوي يُعد من السنن الحتمية في عالم التكوين، وأنّ العبور من هذا النفق والوادي العسير لا يتسنّى ألا بالاستعانة بالصبر،

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 421

وحينئذٍ يتضح دور الصبر والاستقامة في حركة الحياة الدنيوية والنتائج المترتبة على ذلك، فما أعظم أن يجد الإنسان نفسه مشمولًا بثلاث عنايات إلهية في مقابل الصبر وهي:

الاولى: الصلوات والتحيات الإلهية من النوع الّذي يصلي فيه اللَّه تعالى على نبيّه الكريم، ثمّ شمول رحمته الواسعة لهذا الإنسان ودخوله في دائرة اللطف الإلهي، والأهم من ذلك أنّ الهداية الإلهية ستكون من نصيب هؤلاء والّتي هي مصدر جميع النعم والمواهب وأشكال السعادة الدنيوية والاخروية.

وأما لماذا وردت كلمة «صلوات» بصورة جمع؟ هنا ذكر تفسيران كلّ منهما محتمل في معنى الآية، الأوّل أنّ ذلك إشارة إلى أنواع الاكرام الإلهي والاحترام الرباني لهؤلاء، والآخر انه إشارة إلى تكرار هذه العملية وأنّ اللَّه يصلّي عليهم عدّة مرّات، اما التعبير بالرحمة بصورة نكرة فهو إشارة إلى الأهمية والعظمة لهذه النعمة.

واما الفرق بين الصلوات والرحمة فقد ذكر البعض أنّ الصلوات إشارة إلى مدح اللَّه ولطفه ومغفرته، في حين أنّ الرحمة إشارة إلى النعم المادية والمعنوية في الدنيا والآخرة.

«الآية الرابعة عشر» والأخيرة من الآيات مورد البحث والّتي وردت في سورة العصر فإنّها ضمن بيان هذه الحقيقة، وهي أنّ جميع الناس سيكون مصيرهم إلى الخسران حتماً ما عدا الأشخاص الّذين يتمتعون بأربع صفات، وأحدها: الصبر والاستقامة وتقول

«وَالْعَصْرِ* انَّ الْانْسَانَ لَفِي خُسْرٍ* الَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلوا الصَّالِحَاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ» «1».

جملة «تواصوا» من مادّة «تواصي» وتشير إلى انه ينبغي على المؤمنين بعد الإيمان والمعرفة والعمل الصالح أن يتحركوا من موقع التكاتف والتعاون لاحقاق الحقوق والانصاف والعدالة في التعامل مع الغير والتوصية بذلك فيما بينهم، لأنّ إحقاق الحقّ واجراء العدالة في المجتمع الإنساني لا يتسنّى إلّابالاستقامة والصبر أمام تحديات الواقع الصعبة

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 422

والموانع العسيرة، ولذلك أوصت الآية الشريفة بالصبر على مستوى العامل الرابع من العوامل المؤدية إلى النجاة، وفي الحقيقة أنّ هذا العامل هو دعامة وأساس للعوامل الثلاثة الاخرى، وعليه فإنّ الصبر يعد أحد الأركان الأصلية لسعادة الناس وتحركهم في خطّ الإيمان وتعميق شجرة الأخلاق والصلاح في قلوبهم، وبدونه سوف لا تثمر القيم الأخلاقية والأعمال الصالحة في واقع الإنسان والمجتمع شيئاً، ولا يمكن احقاق الحقوق واجراء العدالة في المجتمع البشري، ولا شكّ أنّ احقاق الحقوق واجراء العدالة يعد من أهم الامور والوظائف، لأنّه أحياناً يكون الحقّ في الطرف المقابل للإنسان أو لأحد أحبته وأقربائه، وهنا تكون اجراء العدالة والعمل بالحقّ بحاجة إلى الاستمداد والاسترفاد من عنصر الصبر.

ومن مجموع ما تقدّم من الآيات الشريفة تتضح هذه الحقيقة، وهي أنّ أهمية الصبر والاستقامة والمثابرة في خطّ العدالة والحقّ إلى درجة من الأهمية أكثر ممّا نتصور، وكما يقول بعض المفسّرين أنّ الصبر في القرآن الكريم ورد أكثر من سبعين مرّة أو تكرر بما يقرب من مئة مرة، في حين اننا لا نجد فضيلة من الفضائل الأخلاقية والإنسانية قد وردت بمثل هذا التأكيد في الكتاب العزيز، وهذا إنما يدلّ على أنّ القرآن الكريم يولي هذه الفضيلة الأخلاقية أهمية كبيرة ويعدها عصارة جميع الفضائل

والأساس لجميع أشكال السعادة الدنيوية والاخروية والاداة الحاسمة للوصول إلى أي نوع من أنواع الفلاح والنجاح والموفقية.

الصبر في الأحاديث الإسلامية:

وكما يقول بعض علماء الأخلاق أنّ الروايات الواردة عن المعصومين عليهم السلام في فضيلة الصبر والاستقامة أكثر من أن تحصى وقد ورد في بعض الكتب الأخلاقية ما يقرب من الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 423

تسعمائة حديثاً عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله والأئمّة المعصومين عليهم السلام في هذا الموضوع، ولذلك نختار بعض النماذج من هذه الأحايث الشريفة لنستوحي منها دورساً في هذه الفضيلة:

1- قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «الصَّبْرُ خَيْرُ مَرْكَبٍ مَا رَزَقَ اللَّهُ عَبْداً خَيراً لَهُ وَلَا اوسَعُ مِنَ الصَّبْرِ» «1».

وعبارة «خيرُ مركب» الواردة في هذا الحديث الشريف تشير إلى أنّ الصبر هو أفضل وسيلة للوصول إلى السعادة والنجاة وأنّ الإنسان بدونه لا يصل إلى شي ء من المقامات الاجتماعية والمعنوية في الدنيا والآخرة.

2- وعن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «عَلَيْكُم بِالصَّبْرِ فَانَّ الصَّبْرَ مِنَ الْايمَانِ كَالرَّأسِ مِنَ الجَسَدِ» «2».

وهذا الحديث يدلّ على أنّ الصبر يعد مفتاحاً لجميع الأبعاد الحيوية في حركة الإنسان المادية والمعنوية، ولهذا ورد في ذيل الحديث المذكور «لا ايمانَ لِمَنْ لا صَبْرَ لَهُ».

3- وفي حديث آخر عن هذا الإمام عليه السلام أيضاً أنّه قال: «لا يَعْدِمُ الصَّبُورُ الظَّفَرَ و انْ طَالَ بِهِ الزَّمانُ» «3».

ومع الالتفات إلى أنّ الصبر ذكر هنا بشكل مطلق وكذلك الظفر والنصب، فهذا يدلّ على أنّ هذه الحكم يستوعب جميع الأبعاد المادية والمعنوية في حياة الإنسان.

4- وقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في باب الصبر «الصَّبْرُ نِصْفُ الإيمانِ» «4».

وجاء في بعض الروايات الاخرى أنّ نصف الإيمان هو الشكر والنصف الآخر هو الصبر.

أي الصبر

والاستقامة للوصول إلى النعم والمواهب الإلهية ثمّ الشكر على هذه النعمة، أي الاستفادة الصحيحة من المواهب والنعم الإلهية.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 424

ومن الواضح أنّ هذا الحديث لا يتنافى مع الأحاديث السابقة، لأنّه كما تقدّم أنّ المؤمن إذا لم يتمسك بالصبر فإنّ إيمانه سوف يتعرض للاهتزاز والارتباك بسبب الموانع الكثيرة الّتي يجدها في طريقه، وكذلك لو لم يكن شكوراً على نعم اللَّه تعالى، فإنّ هذه النعم ستزول وتهرب من يده كما ورد في الآية: «وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ انَّ عَذَابِي لَشَديد».

5- وفي حديث آخر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «الصَّبْرُ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ» «1».

6- ودليل هذا المعنى ما ورد في حديث آخر عن أميرالمؤمنين عليه السلام يوضح هذا المعنى ويقول «الصَّبْرُ عَوْنٌ عَلى كُلِّ امْرٍ» «2».

لأنّه كما تعلمون أنّ نظام الحياة في الدين والدنيا يضع أمام كلّ عملٍ مهم بعض الموانع الّتي لايتجاوزها ولا يعبرها إلّابالاستعانة بالصبر والاستقامة.

7- اما بالنسبة للصبر عند المعصية فورد في الحديث الشريف «وَمَنْ صَبَرَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَهُوَ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبيلِ اللَّهِ» «3».

أجل فكليهما مجاهد في سبيل اللَّه، مع فارق أنّ أحدهما يجاهد العدو الخارجي «الجهاد الأصغر» والآخر يجاهد العدو الداخلي «الجهاد الأكبر».

8- وورد في حديثٍ آخر عن أميرالمؤمنين قوله: «انْ صَبَرْتَ ادْرَكْتَ بِصَبْرِكَ مَنازِلَ الابْرارِ وَان جَزَعْتَ اوْرَدَكَ جَزَعَكَ عَذابَ النّارِ» «4».

9- وعن الإمام الصادق عليه السلام قال في الصبر في مقابل البلايا والمصائب «مَن ابْتُلي مِنَ المُؤمِنينَ بِبَلاءٍ فَصَبَرَ عَلَيهِ كَان لَهُ مَثلُ اجرِ الْفِ شَهِيدٍ» «5».

ويقول العلّامة المجلسي بعد ذكر هذا الحديث في الجزء 68 من بحار الأنوار انه كيف يعقل أنّ للصبر مثل هذا الثواب في حين أنّ للشهيد بنفسه أحد الصابرين

لانه صبر أمام الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 425

العدو حتّى استشهد؟

ويمكن في مقام الجواب عن هذا السؤال أن نقول: إنّ الشهيد يصبر أمام هجوم الأعداء، وهؤلاء الصابرون إنما يصبرون في مقابل الصعوبات المرة الّتي تعترضهم في الحياة من قبيل أنواع المرض، الفشل، وفقد الأحبّة وأمثال ذلك.

والدليل الآخر على أفضلية الصابر بالنسبة إلى الشهيد هو أنّ الشهادة تحدث مرة واحدة للإنسان، ولكنَّ صعوبات الحياة تتكرر آلاف المرات.

10- ويقول النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بالنسبة إلى الثواب المعنوي للصابرين «مَنْ ابْتُلِيَ فَصَبَرَ وَاعْطِيَ فَشَكَرَ وَظُلِمَ فَغَفَرَ اولَئِكَ لَهُم الْامْنُ وَهُم مُهتَدونَ» «1».

11- ويقول الإمام الصادق عليه السلام أيضاً: «الصَّبْرُ يُظْهِرُ مَا فِي بَوَاطِنِ العِبادِ مِنَ النُّورِ وَالصَّفاءِ والْجَزَعُ يُظْهِرُ مَا فِي بَوَاطِنِهِم مِنَ الظُّلْمَةِ وَالْوَحْشَةِ» «2».

12- ونختم هذا البحث عن أحاديث الصبر بحديث آخر عن أميرالمؤمنين عليه السلام يقول «الصَّبْرُ مَطَيِّةٌ لا تَكبُوا وَالقَناعَةُ سَيفٌ لا يَنْبُوا» «3».

معطيات الصبر ونتائجه:

كما تقدّم في المباحث السابقة فإنّ طبيعة الحياة الدنيا تقترن بالموانع والمشكلات والبلايا، فلو أنّ الإنسان لم يلتزم بالمقررات والقوانين الّتي تنسجم مع هذه الحياة ويحل بذلك ما يواجهه من مشكلات فإنّه سوف لايصل إلى مقصده ولا يحقق غايته، وكذلك فإنّ الآفات والمصائب موجودة في ضمن النعم والمواهب وتتسبب في فقدها أو الاضرار بها من الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 426

قبيل المصائب الّتي تواجه الإنسان في أولاده وأقربائه وأمثال ذلك.

فالإنسان بدون الاستعانة بالصبر والاستقامة سوف لا يتمكن من سلوك طريق الكمال والسعادة في بعده الإيجابي، وكذلك لا يتمكن من الصمود أمام عناصر الشَّر في حركة الحياة، ولهذا السبب فإنّ المفتاح الأصلي للموفقية والنجاح في الحياة هو الاستعانة بالصبر والاستقامة، وبما أنّ الدين هو عبارة عن مجموعة الواجبات

والمحرمات، أو الطاعات وترك المعاصي، فإنّ الإيمان والإلتزام بالدين لا يكون ولا يتحقق بدون الصبر والاستقامة، لانه وطبقاً لما تقدّم من البيان فإنّ الصبر بالنسبة للإيمان كالرأس بالنسبة إلى الجسد، ولذلك ورد في بعض الأحاديث الإسلامية «ومنها الأحاديث الواردة عن أميرالمؤمنين عليه السلام» أنّ الصبر قرين الظفر «الصَّبْرُ الظَّفَرُ» «1».

ونقرأ أيضاً في الآيات القرآنية أنّ الشرط المهم لإنتصار المجاهدين في سبيل اللَّه هو الصبر والاستقامة في هذا الطريق ومن ذلك قوله تعالى «... إِنْ يَكُن مّنكُمْ عِشْرُونَ صبِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْ ئَتَيْنِ وَإِنْ يَكُن مّنكُم مّاْ ئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ» «2».

ما هذه القوّة الّتي تمنح رجلًا واحداً القدرة على مقابلة عشرة أشخاص، وتمنح مئة شخص القدرة على مقابلة ألف شخص؟

إن هذه القوّة هي قوّة الصبر والاستقامة الّتي ورد التصريح بها في الآية الشريفة.

فالأشخاص الّذين يعيشون ضعف الإرادة وقلّة العزيمة سوف يواجهون الحوادث والمشاكل من موقع الاذعان والخنوع أو يديرون ظهورهم لها ويجمحون عن مقاومتها، ولكنه لا الدنيا تتحقق للإنسان بدون الصبر والاستقامة ولا الآخرة، ولهذا السبب فان الشعوب الّتي حقّقت تقدماً علمياً وتطوراً حضارياً فإنما تحقق لها ذلك بواسطة الاستقامة والمثابرة والصبر، ويذكر في حالات العلماء الكبار، سواءاً الشخصيات الدينية الّتي فتحت أبواب العلوم والمعارف الدينية أمام الناس، أو علماء العلوم الطبيعية الّذين حققوا للبشرية

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 427

اكتشافات واختراعات مهمّة، أنّهم كانوا يعيشون قبل كلّ شي ء حالة الصبر والاستقامة والمثابرة في أعمالهم ودراساتهم، فأحياناً يضطر أحد العلماء للكشف عن قانون علمي إلى اختيار العزلة والانزواء في المكتبة أو المختبر لعدّة سنوات حتّى يوفق أخيراً إلى هدفه واكتشافه.

وقد ورد عن الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام قوله «مَنْ رَكِبَ مَراكِبَ الصَّبْرِ اهْتُدِىَ الَى مَيْدَانِ النَّصْرِ»

«1».

وكذلك ورد عن هذا الإمام قوله «مِفْتَاحُ الظَّفَرِ لُزُومِ الصَّبْرِ» «2».

ومن جهة اخرى نجد أنّ الأشخاص الّذين يشكون ضعف العزم وقلّة الصبر والاستقامة فإنّهم يتلوثون بسرعة بأنواع الذنوب، لأنّ الذنوب لها جاذبية قوية للنفس الأمارة في الإنسان، فلو لم تكن في الإنسان قدرة على مقاومتها لأسرع الإنسان الخطى في منزلقات الانحطاط والرذيلة.

وورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام قوله «كَمْ مِنْ صَبْرِ سَاعَةٍ قَدْ اوْرَثَتْ فَرَحَاً طَويلًا وَكَمْ مِنْ لَذَّةِ سَاعَةٍ قَدْ اوْرَثَتْ حُزْناً طَويلًا» «3».

ومن الممكن أن يبتلي الإنسان في مسيرة حياته بأنواع الضرر والخسارة المادية والمعنوية والاجتماعية، مثلًا بالنسبة إلى موت الأحبّة يجب القول: إن هؤلاء الأحبّة من الأصدقاء والاقرباء لم يتولدوا في وقت واحد وسوف لا يرحلون من هذه الدنيا في وقتٍ واحد أيضاً، فهناك من يرحل قبل الآخر وهناك من يتأخر، والأشخاص الّذين يرحلون من هذه الدنيا أسرع سوف يخلفون في قلوب أحبتهم حالات الغم والحزن على فراقهم، فلو أنّ الإنسان لم يتحل بالصبر فسوف يفقد سلامته النفسية وصحّته الجسمية ويعيش اليأس في الحياة ويتأخر عن القافلة.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 428

أجل فإنّ الصبر مع وجود جميع هذه الحوادث والمصاعب يمنح روح الإنسان وقلبه القدرة على الاستمرار في حركة الحياة وإدامة السلوك في خطّ التكامل الإنساني.

وقد رأينا في الأحاديث السابقة أنّ الإمام الصادق عليه السلام يقول إنّ ثواب الصبر لدى الشيعة مقابل المصائب والبلايا يعادل ثواب ألف شهيد، وهذا المعنى يدلل على ما تقدّم آنفاً من أهمية الصبر.

والخلاصة هي إننا كلّما تحدّثنا عن أهمية الصبر ودوره في الصعود بالإنسان في مدارج الكمال المادي والمعنوي، الدنيوي والأخروي، فلا نصل إلى غاية الكلام ولا نحيط بتمام الموضوع، ولهذا فلا ينبغي أن

نتصور أنّ ما ورد في الروايات الشريفة عن ثواب الصابرين هو مبالغة في الكلام، وبعبارة اخرى: يمكن التمسك بالحديث الشريف الوارد عن الإمام الباقر عليه السلام حيث قال «انَّهُ مَنْ صَبَرَ نَالَ بِصَبْرِهِ دَرَجَةَ الصّائِمِ الْقائِمِ، وَدَرَجَةِ الشَّهيدِ الّذي ضَرَبَ بِسَيفِهِ قُدّامَ مُحمَّدٍ صلى الله عليه و آله» «1».

أقسام الصبر:

وقد ورد في الكثير من كتب الأخلاق وكلمات علماء الأخلاق أنّ الصبر ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

1- الصبر على الطاعة.

2- الصبر على المعصية.

3- الصبر على المصيبة.

والمراد من «الصبر على الطاعة» هو مقاومة المشكلات الّتي تعترض طريق الطاعة للَّه تعالى وامتثال أوامره من قبيل أداء الصلاه والصوم والحجّ والجهاد ودفع الحقوق المالية مثل الخمس والزكاة، وكذلك الصبر والاستقامة مقابل المشكلات الّتي تقع في طريق طاعة الأوامر الاستحبابية والّتي تستوعب دائرة عريضة، والمقصود من «الصبر على المعصية» هو

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 429

الوقوف أمام الأهواء والدوافع النفسية والنوازع الدنيوية الّتي تستعر في قلب الإنسان وباطنه، وقد تستعر نيرانها إلى درجة أن تتحول إلى اعصار يدمر جميع عناصر الخير في الإنسان، ويتلف ما لديه من الإيمان والتقوى والطهارة والصدق والصفاء وأمثال ذلك.

والمقصود من الصبر على المصيبة هو أن يتحلّى الإنسان بالصبر في حياته مقابل الحوادث المؤلمة من قبيل فقد الأحبّة، الخسارة المالية الكبيرة، وقوع شخصيته وسمعته الاجتماعية في الخطر، وقوع الإنسان في مخالب المرض العسير والمؤلم، والابتلاء برفاق السوء أو الشريك الخائن أو الحكومة الظالمة وأحياناً الزوج والزوجة الفاسدة وأمثال ذلك.

وقد أورد علماء الأخلاق هذا التقسيم للصبر اقتباساً من الروايات الشريفة كما ورد في الحديث الشريف النبوي أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال: «الصَّبْرُ ثَلاثَةٌ، صَبْرٌ عَلَى الْمُصيبَةِ وَصَبْرٌ عَلَى الطَّاعَةِ وَصَبْرٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَمَنْ صَبَرَ عَلَى

المُصيبَةِ حَتَّى يَرُدَّهَا بِحُسْنِ عَزائِهَا، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ ثَلاثَ مِائةٍ دَرَجَةٍ مَا بَينَ الدَّرَجَةِ الَى الدَّرَجَةِ كَما بَينَ السَّمَاءِ الَى الارضِ، وَمَنْ صَبَرَ عَلَى الطَّاعَةِ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ سِتَّ مائةِ دَرَجَةٍ، مَا بَينَ الدَّرَجَةِ الَى الدَّرَجَةِ كَمَا بَينَ تُخُومُ الْارضِ الَى الْعَرْشِ وَمَنْ صَبَرَ عَلَى الْمَعْصيةِ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ تِسْعَ مِائةِ دَرَجَةٍ مَا بَينَ الدَّرَجَةِ الى الدَّرَجَةِ كَمَا بَينَ تُخُومِ الارْضِ الَى مُنْتَهَى الْعَرْشِ» «1».

ويستفاد من عبارات هذا الحديث الشريف الصبر على المعصية أهمّ من الجميع، ثمّ الصبر على الطاعة، ثمّ الصبر على المصيبة الّذي يأتي في المرتبة الثالثة من حيث الأهمية والثواب.

ويقول أميرالمؤمنين عليه السلام في حديث آخر بعد أن يقسم الإيمان إلى أربع «الصَّبْرُ مِنْهَا عَلَى ارْبَعِ شُعَبٍ، عَلَى الشَّوْقِ وَالشَّفَقِ وَالزُّهْدِ وَالتَّرَقُبِ» «2».

ومع قليل من التأمل يتضح أنّ هدف الإمام عليه السلام من هذا البيان هو شرح دوافع الصبر والاستقامة لا فروعه وأغصانه، وهو مثل ما تقدّم من الحديث النبوي الشريف.

دوافع الصبر والاستقامة:

إن العوامل والعناصر الّتي تمنح الإنسان القدرة على الصبر مقابل مشكلات الطاعة وترك المعصية أو مقابل المصائب هي كثيرة، ولكلٍّ واحدٍ منها تأثير خاصّ في تقوية وتعميق هذه الفضيلة الأخلاقية في واقع النفس، وأهمها:

1- تقوية دعائم الإيمان واليقين في القلب، وخاصّةً مع ملاحظة هذه النكتة، وهي أنّ اللَّه تعالى هو أرحم الراحمين وهو المتكفل لرعاية مصالح عباده والعناية بهم، ومن هذا المنطلق قد يبتلي الإنسان ببعض الحوادث الّتي تكون أسرارها ومنافعها خفية على الإنسان ليقوي به روح الصبر، وهنا ينبغي الالتفات والتفكر بالثواب العظيم الّذي أعده اللَّه تعالى للمطيعين والورعين عن ارتكاب المعاصي فإنّ ذلك من شأنه أن يرسخ في عزم الإنسان عنصر الصبر والاستقامة.

ومن ذلك ما ورد عن أميرالمؤمنين عليه

السلام قوله: «أَصْلُ الصَّبْرِ حُسْنُ الْيَقِينِ بِاللَّهِ» «1».

وبديهي انه كلّما اشتد إيمان الإنسان وكثرت معرفته بحكمة اللَّه ورحمته فإنّ صبره سيزداد تبعاً لذلك، وبتعبير آخر: أنّ تحمل الصبر سيكون أسهل وأيسر، ولهذا ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال لبعض أصحابه «انَّا صُبَّرٌ وَشِيعَتُنا اصْبَرُ مِنّا» فقال له الراوي: جعلت فداك كيف يكون شيعتكم أصبرُ منكم؟ فأجابه الإمام عليه السلام «لَانّا نَصْبِرُ عَلَى مَا نَعْلَمُ وَشيعَتُنا يَصْبِرُونَ عَلَى مَا لايَعْلَمُونَ» «2».

2- إن تحصيل ملكة الصبر واكتساب هذه الفضيلة حاله حال الفضائل الأخلاقية الاخرى لابدّ فيه من الممارسة والتمرن ومقابلة الحوادث الصعبة ومواجهة التحديات المفروضة على الإنسان، ولهذا ورد عن أميرالمؤمنين قوله «مَنْ تَوالَتْ عَلَيهِ نَكَباتُ الزَّمانِ اكْسَبَتْهُ فَضيلَةُ الصَّبْرِ» «3».

وبعبارة اخرى: إن الإنسان في بداية مواجهته للمصيبة قد يصرخ ويحزن بشدّة، وكذلك الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 431

عندما يتحرّك في خط الطاعة والاتيان بالعبادة فإنه قد يواجه مشكلة من ثقل هذه العبادة ويشعر بالتعب، ولكن تكرار هذه الحوادث وممارسة هذه العبادات سوف تكسبه بالتدريج فضيلة الصبر وتمنحه القوّة في ذاته على الاستمرار في خطّ الاستقامة.

3- ومن العوامل المهمة في تقوية ملكة الصبر في الإنسان أن يلتفت الشخص إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ الدنيا دار الحوادث والمشكلات، ولا يتسنّى له الحصول على أية موهبة من المواهب المادية والمعنوية من دون عبور هذه الموانع المختلفة والتغلب على تلكم المشكلات، وأيضاً يلتفت إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ الأفراد الّذين يعيشون النزق وقلة الصبر وسرعة الانفلات لا يصلون إلى مرتبة من مراتب الكمال النفسي والاجتماعي، كلّ ذلك من شأنه أن يقوي في الإنسان العزم والإرادة والصمود أمام المشكلات والحوادث.

وكما تقدّمت الإشارة إليه انه لابدّ لقطف

الوردة من تحمل ألم الوخزة، ولتناول جرعة من العسل لابدّ من تحمل لسع النحل، وأنّ الكنوز موجودة عادّةً في الخرائب، والجنّة كامنة في أعماق المشاكل والحوادث المؤلمة.

ومن المعلوم أنّ كلّ إنسان يتفكر جيّداً في هذه الامور فإنه سيجد في نفسه القدرة على الصبر أكثر وتتعمق فيه هذه الفضيلة الأخلاقية، ومن ذلك ورد في حديث آخر عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «لِكُلِّ نِعْمَةٍ مِفْتاحٌ وَمِغْلاقٌ وَمِفتاحُهَا الصَّبْرُ وَمِغلاقُها الْكَسَلْ» «1».

4- وأحد العوامل والدوافع الاخرى للصبر وسُبل تقويته في وجود الإنسان هو أن يتشبه الإنسان بالصابرين، وهذا الأمر يصدق على جميع الفضائل الأخلاقية، فكلّما تحلّى الإنسان في الظاهر بصفة معيّنة فسوف تنفذ وتمتد إلى باطنه بالتدريج ويكتسب بذلك هذه الملكة.

وورد في حديث شريف عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله «مَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرُهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَعْفِف يَعُفَّهُ اللَّهُ، وَمَن يَسْتَغْنِ يُغْنِهُ اللَّهُ وَمَا اعْطِي عَبْدٌ عَطاءً هُوَ خَيرٌ وَاوسَعُ مِنَ الصَّبْرِ» «2».

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 432

5- الصبر له علاقة وثيقة بسعة وجود الإنسان وشخصيته، فكلّما اتسعت ظرفية الإنسان وقويت شخصيته فإنه يعيش الصبر والاستقامة أكثر وأشد، ولهذا السبب فإنّ الأطفال وكذلك الكبار الّذين يعيشون حالة الطفولة يجزعون لأقل حادثة، في حين أنّ الأشخاص الّذين يتمتعون بشخصية قوية وسعة صدر فإنه يهضمون المشكلات ويتغلبون عليها.

إن المسبح الصغير قد يتماوج بأدنى نسيم وأقل ريح بينما البحر الكبير لا يتماوج بهذه السهولة، وإنما سمّي أكبر المحيطات في الدنيا بالمحيط الهادي لأن هيجان أمواجه هي أقل من هيجان الأمواج في المحيطات الاخرى.

إن مطالعة سيرة الشخصيات المهمة في التاريخ البشري وخاصّة الأنبياء والأولياء الإلهيين الّذين وصلوا إلى مقامات عالية ومراتب سامية في دائرة الكمال المعنوي بسبب الصبر والاستقامة، يمكنها

أن تكون من العوامل المؤثرة في تقوية هذه الملكة الحميدة في الإنسان ويكون دافعاً له على التحلي بهذه الفضيلة أسوةً بهؤلاء العظام.

إن مسألة الصبر والاستقامة مقابل الحوادث المؤلمة والمشكلات الكبيرة الّتي تواجه الإنسان في حركة الحياة لا تقتصر على البعد الأخلاقي والمعنوي فحسب بل هي مؤثرة بالنسبة إلى سلامة البدن وقواه الحيوية، فالأشخاص الّذين لا يملكون حالة الصبر أمام الحوادث فإنّ حياتهم عادةً تكون مقترنة بأنواع الأمراض وأهمها الأمراض القلبية والعصبية، في حين أنّ الصابرين يتمتعون بعمرٍ طويل مع سلامة بدنية نسبية، ولذلك فإنّ علماء النفس يرون أنّ الدين بصورة عامة «والّذي يقوي في الإنسان حالة الصبر أمام المشكلات» يعد أحد شروط سلامة الجسم والصحّة النفسية.

وفي الحديث الشريف عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال: «مَن احَبَّ الْبَقاءَ فَلْيُعِدَّ لِلْمَصائِبِ قَلْباً صَبُوراً» «1».

«الجزع» يقع في النقطة المقابلة للصبر، وهو الحالة النفسية الّتي لا تنضبط فيها النفس أمام الحوادث والمشاكل بحيث يعيش الإنسان الرضوخ والإذعان بالأمر الواقع وتحدياته الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 433

الصعبة وتتملكه حالة اليأس من الخلاص، أو تمنعه هذه الحالة من التحرّك والسعي نحو المقصود والهدف.

إن الجزع يعد من اشنع الصفات الأخلاقية وأسوأ الحالات النفسية للإنسان حيث تفضي به إلى الشقاء في الدنيا والآخرة وتمنعه من تحصيل المقامات والمراتب العالية في معراج الكمال، وتؤدي كذلك إلى فقدان شخصيته وحيثيته في المجتمع وتكون حياته مليئة بالمنغصات والمؤلمات فلا يرى للراحة والسعادة وجهاً.

وقد وصف القرآن الكريم الإنسان في سورة المعارج بأنه موجود حريص وقليل الصبر عندما يدهمه بلاءٌ وسوء، وعندما يحصل على شي ء من النعمة والخير فإنه يتحرك فيه عنصر البخل ويمنعه من البذل والعطاء كما تقول الآية: «انَّ الْانْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً* اذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً*

وَاذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً» «1».

والمراد من الإنسان في هذه الآية «كما وردت هذه الكلمة في آيات قرآنية اخرى تصف الإنسان بصفات سلبية مشابهة» هو الإنسان الّذي لم يصل بعد إلى مستوى النضج الأخلاقي والعاطفي ولم يسلك في خطّ تهذيب النفس، ولذلك ورد في ذيل هذه الآيات استثناء الأشخاص الّذين يعيشون الإيمان ويسلكون في خطّ الصلاة ومساعدة المحرومين ومراعاة اصول العفة والأمانة كما تقول الآيات «الَّا الْمُصَلِّينَ ..... والَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِم يُحَافِظُونَ» «2».

إنّ تعبير الآيات أعلاه لعلّه إشارة إلى هذه الحقيقة وهي أنّ الأشخاص الّذين يعيشون الجزع وقلّة الصبر هم عادةً من البخلاء أيضاً، كما أنّ البخلاء يتسمون بالجزع أيضاً، وبعبارة اخرى: أنّ هاتين الصفتين يرتبطان برابطة وثيقة ويجتمعان في دائرة مفهوم «هلوع».

وقد ورد في الروايات الإسلامية أيضاً بحوث عميقة وجذابة تتضمن ملاحظات دقيقة في هذا المجال، وفيما يلي نشير إلى بعض النماذج منها:

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 434

1- ما ورد عن أميرالمؤمنين عليه السلام في ذمّ الجزع قوله «ايَّاكَ وَالْجَزَعَ فَانَّهُ يَقْطَعُ الامَلَ وَيُضَعِّفُ الْعَمَلَ وَيُورِثُ الهَمَّ» «1».

2- وقد ورد أيضاً عن هذا الإمام يقول في حديث آخر ضمن الإشارة إلى نكتة لطيفة اخرى: «الْجَزَعُ اتْعَبُ مِنَ الصَّبْرِ» «2».

والسبب في ذلك واضح، وهو أنّ الجزع وقلّة الصبر لا يحل أيَّة مشكلة وليس له أثر سوى أن يحطم عناصر القوّة والاستقامة في روح الإنسان وجسمه، ولهذا فإنّ الّذي يعيش الجزع يوقع نفسه في التعب أكثر من الصابر، مثلًا عندما يفقد الإنسان عزيزاً له يمكن أن يصرخ ويلطم وجهه ويضرب رأسه بالجدار أو ينتحر أخيراً، ولكن أية واحدة من هذه السلوكيات لا تعيد له عزيزه، بل من شأنها أن تدمر دعائم الإيمان في قلبه وتحطيم أركان

سلامته البدنية والروحية، مضافاً إلى انه سيتلف ثوابه الأُخروي.

3- ويقول الإمام علي عليه السلام أيضاً «الْجَزَعُ لا يَدْفَعُ الْقَدَرَ وَلَكِنْ يُحْبِطُ الاجْرَ» «3».

وبالنسبة إلى سبب احباط الأجر فلابدّ من القول: أنّ الجزع وعدم الصبر علامة على عدم الرضا وعدم التسليم لقضاء اللَّه وقدره، فهو في الواقع اعتراض على عدل اللَّه وحكمته حتّى لو كان الجازع غافلًا عن هذا المطلب.

4- وورد في حديثٍ آخر عن الإمام الهادي عليه السلام وضمن الإشارة إلى نكتة اخرى «الْمُصِيبَةُ لِلصَّابِرِ وَاحِدَةٌ وَلِلْجَازِعِ اثْنانِ» «4»

. وكما تقدّم أنّ الجزع وعدم الصبر من شأنه مضافاً إلى زوال أجره وانعدام ثوابه أن يزيد في مشكلته، وعليه فإنّ المصيبة على الجازع مضاعفة.

5- ويقول الإمام الكاظم عليه السلام في بيانه لأحد وصايا المسيح عليه السلام «وَلَا تَجْعَلُوا قُلُوبَكُم مَأْوىً لِلشَّهَواتِ انَّ اجْزَعَكُم عِنْدَ الْبَلاءِ لَاشَدُّكُم حُبّاً لِلدُّنيَا وَانَّ اصْبَرَكُمْ عَلَى الْبَلاءِ

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 435

لَازْهَدُكُم فِي الدُّنيَا» «1».

ويستفاد من هذه الرواية أنّ المصدر الأساس للجزع وعدم الصبر هو الحرص وحبّ الدنيا، ولأجل أن يخفف الإنسان من شدّة الجزع عليه أن يخفف من حبّه للدنيا وتعلقه بزخارفها.

6- ونقرأ في حديثٍ آخر عن الإمام الصادق عليه السلام عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «انْ تَحْتَسِبُوا وَتَصْبِرُوا تُوجَرُوا، وَانْ تَجْزَعُوا تَأْثِمُوا وَتُوزَرُوا» «2».

7- وفي حديثٍ مختصر وعميق المعنى عن أميرالمؤمنين عليه السلام يقول «مَنْ لَمْ يُنْجِهِ الصَّبْرُ اهْلَكَهُ الْجَزَعُ» «3».

ونختم هذا البحث بحديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله بعنوان «مسك الختام» فقد ورد في هذا الحديث أنّ رسول اللَّه كتب إلى بعض أصحابه يعزّيه بابنه: «أما بعد فعظم اللَّه جلّ اسمه لك الأجر والهمك الصبر ... فلا تجمعن أن

يحبط جزعك أجرك وأن تندم غداً على ثواب مصيبتك وانك لو قدمت على ثوابها علمت أنّ المصيبة قد قصرت عنها واعلم أنّ الجزع لا يرد فائتاً ولا يدفع حزن قضاء فليذهب أسفك ما هو نازل بك مكان ابنك والسلام» «4».

وينقل المرحوم المحدّث القمّي في «سفينة البحار» قصة جميلة عن «بزرجمهر» وزير كسرى تتعلق بمسألة الصبر هذه ويقول: «حكي عن بعض التواريخ أنّه سخط كسرى على بزرجمهر، فحبسه في بيت مظلم وأمر أن يصفّد بالحديد، فبقي أياماً على تلك الحال، فأرسل إليه من يسأله عن حاله، فإذا هو منشرح الصدر مطمئن النفس، فقالوا له: أنت في هذه الحالة من الضيق ونراك ناعم البال. فقال: اصطنعت ستة أخلاط وعجنتها واستعملتها فهي الّتي ابقتني على ما ترون.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 436

قالوا: صف لنا هذه الأخلاط لعلّنا ننتفع بها عند البلوى.

فقال: نعم، أما الخلط الأوّل فالثقة باللَّه عزّوجلّ.

وأما الثاني: فكلّ مقدّر كائن.

وأما الثالث: فالصبر خير ما استعمله الممتحن.

وأما الرابع: فإذا لم أصبر فماذا أصنع ولا أعين على نفسي بالجزع.

وأما الخامس: فقد يكون أشدّ ممّا أنا فيه.

وأما السادس: فمن ساعة إلى ساعة فرج.

فبلغ ما قاله كسرى فأطلقه وأعزّه «1».

علاج الجزع وقلّة الصبر:

اشارة

إن هذا المرض النفسي والأخلاقي مثل بقية الأمراض الاخرى له طرق للعلاج ونشير إليها فيما يلي:

1- تشخيص المرض

عندما يتوجه المريض إلى الطبيب الروحاني يقوم هذا الطبيب بالفحص عن علامات المرض الأخلاقي والروحي من قبيل: الضرب على الرأس والوجه، عض الأنامل، الصراخ والعويل، سوء الأخلاق والجفاف في التعامل مع الآخرين، سوء المعاملة مع الزوجة والأطفال وكذلك الشكوى وعندها يدرك هذا الطبيب وجود مرض الجزع في مثل هذا الشخص وبالتالي يقوم بعلاجه بطرق مختلفة.

2- التفكير بالعواقب السلبية للجزع وقلّة الصبر

إن تفكير المريض بعواقب الجزع الوخيمة والآثار السلبية لقلّة الصبر له دورٌ مهم في علاج هذا المرض الروحي، وقلما يسمع الإنسان بعواقب هذا المرض الوخيم ولا ينزجر لهذه الحالة ويتصدّى لرفعها من نفسه وإزالتها من أخلاقه.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 437

أجل، فعندما يعلم الإنسان أنّ الجزع يذهب بأجره وثوابه عند اللَّه تعالى من دون أن يحل له أية مشكلة، وكذلك يحطم أعصابه وقواه النفسية ويسلب منه سلامته البدنية والروحية، والأسوأ من ذلك انه يوصد أمامه أبواب حلّ المشكلة، لأن الإنسان إذا احتفظ ببرودة أعصابة عند بروز المشكلات والمصائب وتسلط على نفسه فإنّ ذلك من شأنه أن يفتح أمام عقله أبواب الحلّ لذلك المشكل أو على الأقل يقلل من شدّة المصيبة، ولكنَّ الإنسان وبسبب حالة الجزع والاضطراب وعدم التسلط على الأعصاب وبالتالي عدم تمركز الفكر فإنه لا يجد أمامه نافذة مفتوحة للأمل والحلّ، بل حتّى لو فتحت له الأبواب والنوافذ ليرى حلًا لهذه المشكلة فإنه وبسبب ما يعيشه من حالة الأضطراب والتوتر لا يرى هذه الأبواب والنوافذ، بخلاف ما إذا هدأ لحظة وضبط نفسه لفترة وجيزة ونظر إلى ما حوله فسيجد طريق النجاة والحلّ أمامه يسيراً.

إن النظر الدقيق إلى هذه الحقائق والتدبر فيها له تأثير مهم في تغير حالة الجزع لدى الإنسان وبالتالي مع تكرارها سينطوي الشخص تحت لواء الصابرين.

3- مطالعة الآيات والروايات الواردة في هذا الباب

إن مطالعة الآيات والروايات الشريفة الّتي تتحدث عن أجر الصابرين وثوابهم ومقامهم عند اللَّه له دور مهم في تقوية عناصر الصبر والاستقامة في روح الإنسان، ومن ذلك ما ورد في الآية الشريفة الّتي تبشر الصابرين بأعظم بشارة وتقول: «وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ اذَا اصَابَتْهُمْ مُصيبَةٌ قَالُوا انَّا للَّهِ وَانَّا الَيهِ رَاجِعُونَ* اولئِكَ عَلَيْهِم صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِم وَرَحْمَةٌ

وَاولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» «1».

وعبارة «أُولئك هم المهتدون» تتضمن معنىً عميقاً ولها تفاسير مختلفة، وأحدها هو ما ذكر آنفاً من أنّ الصابرين سيجدون حلًا لمشكلاتهم أسرع من الآخرين وتفتح أمامهم أبواب النجاة والخلاص من الأزمات والبلايا، لأن أحد العوامل الأصلية للجزع هو «ضعف النفس» فكلّما سعى الإنسان في تقوية معنوياته وتكريس عناصر الشد والقوّة في نفسه فإنّ الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 438

ذلك من شأنه أن يمنحه التوفيق لإزالة عناصر الجزع وقلّة الصبر من نفسه.

4- مطالعة حالات الأنبياء والأولياء

وأحد الطرق لعلاج حالة الجزع هي مطالعة حالات الأنبياء والأولياء في دائرة صبرهم واستقامتهم أمام المصائب والبلايا الكثيرة وما كانوا يتحملونه من أعدائه وأقوامهم، وتذكر هذه الحالات ومطالعتها يلهم الإنسان القوّة في الصمود أمام حجم التحديات المفروضة عليه من الواقع الخارجي والداخلي.

5- تلقين الاعتماد على النفس في تحمّل الصعاب

ولا ينبغي أن ننسى هذه الحقيقة، وهي أنّ التلقين سواءً كان من طرف الشخص نفسه أو من قبل الآخرين فإنه يشكل عاملًا مؤثراً في إزالة الأخلاق السيئة والصفات الذميمة من واقع النفس، فلو أنّ الشخص الّذي يعيش قلّة الصبر والجزع يلقن نفسه كلّ يوم بضرورة أن يتحلّى بالصبر، وكذلك يسعى ممن حوله من افراد الاسرة أو الأصدقاء في تعميق هذا التلقين لديه، فلا شكّ في ظهور آثار الصبر على سلوكياته وحالاته النفسية.

ونختم هذا البحث بدعاء شريف للإمام زين العابدين عليه السلام يقول فيه: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ أَوَّلَ يَوْمِي هَذَا صَلاحاً وَاوسَطَهُ فَلاحاً وَآخِرَهُ نَجاحاً واعُوذُ بِكَ مِنْ يَومٍ اوَّلُهُ فَزَعُ وَاوسَطَهُ جَزَعٌ وَآخِرُهُ وَجَعٌ»

ويستفاد من هذا الحديث أنّ الجزع يورث الإنسان الألم والوجع، فمضافاً إلى انه لا يزيل همه وألمه فإنه من شأنه أن يزيده ألماً وهمّاً.

الفرق بين الجزع والعواطف المعقولة:

إن قلب الإنسان هو مركز العواطف والاحساسات الإنسانية، وكلّما فقد الإنسان عزيزاً له فإنه يتألم لذلك ويجري دمع عينه من شّدّة التأثر، ولكن لا ينبغي الخلط بين إظهار التأثر والحزن مع الجزع وقلّة الصبر، لأن قلب الإنسان يتأثر بالحوادث المؤلمة بطبيعة الحال، ويمكن أن تعكس عينه حالة التأثر هذه وتبكي بسبب ذلك.

الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 439

وعليه فإنّ البكاء والحزن على فقد الأحبّة يعد أمراً طبيعياً وإنسانياً.

فالمهم هو أنّ الإنسان لا يسلك في المصيبة في خطّ الجزع والشكوى وعدم الشكر ويتكلّم بكلمات لا تنسجم مع الإيمان والعبودية للَّه تعالى والرضا بقضائه، وفي هذا المجال نقرأ حديثاً عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله يقول: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ وَشَقَّ الجُيُوبَ وَدَعا بِدَعْوَىَ الجَاهِليَّةِ» «1».

وقد ورد في سيرة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله انه عندما توفي ولده

إبراهيم عليه السلام بكى النبي صلى الله عليه و آله عليه بحيث جرت دموعه على خديه وصدره الشريف فقالوا: يا رسول اللَّه أنت تنهانا عن البكاء ولكنك تبكي لوفاة إبراهيم؟ فقال «لَيْسَ هَذَا بُكاءً وَانّ هَذِهِ رَحْمَةٌ وَمَن لَم يَرحَمْ لا يُرْحَمُ» «2».

أي هذا نوع من إظهار المحبة والرحمة الصادرة من العاطفة الإنسانية الّتي يعيشها الإنسان الواقعي.

وقد ورد هذا الموضوع بتفصيلٍ أكثر في كتاب «بحار الأنوار» حيث ذكر المجلسي أنّه عندما اتى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه فوضعه في حجره فقال له: يا بني أنّي لا أملك لك من اللَّه شيئاً وذرفت عيناه، فقال له عبدالرحمن: يا رسول اللَّه تبكي أو لم تنه عن البكاء، قال: إنّما نهيت عن النوح عن صوتين أحمقين فاجرين صوت عند نعم لعب ولهو ومزامير الشيطان وصوت عند مصيبةٍ خمش وجوه وشق جيوب ورنّة شيطان إنّما هذه رحمة، من لا يرحم لا يرحم، لولا أنّه أمر حقّ ووعد صدق وسبيل باللَّه وأن آخرنا سيلحق أولنا لحزنا عليك حزناً أشد من هذا وأنا بك لمحزونون»، «وَإِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ تَبْكِيَ الْعَينُ وَيَدْمَعُ الْقَلْبُ وَلا نَقولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ عَزَّوَجَلَّ» «3».

وأحياناً يمكن أن يفقد الإنسان انضباطه وإلتزامه ويشق جيبه ويخمش وجهه ولكن كلّ ذلك يكون بالمقدار المعقول والطبيعي لغرض إيجاد الهيجان العام وتعبئة العواطف الاخلاق فى القرآن، ج 2، ص: 440

والاحساسات في مقابل الأعداء فإنّ ذلك قد يكون ضرورياً أيضاً ويستثنى من الأصل، إذاً فما ورد من بعض الحالات الاستثنائية لبعض العظماء يكون من هذا الباب.

ونختم هذا الحديث بحديث آخر عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله يقول: «النِّياحَةُ عَمَلُ الجَاهِلَيَّةِ» «1».

والمراد من النياحة هنا ليس

إقامة المآتم أو ذكر المصيبة والبكاء على الميت بصورة فردية أو جماعية بل هو إشارة إلى ما كان مرسوماً ومتداولًا في زمان الجاهلية بين العرب عندما كان يفقدون أحد الأحبّة، فإنّهم يدعون نسوة لإقامة النياحة والتحدّث بكلمات لزيادة النوح والبكاء على الميّت، وفي الغالب يصفونه بأوصاف كاذبة ومبالغ فيها وقد يعملن على تمزيق ثيابهنَّ فيلطمن وجوههن ويخدشن خدودهن، وبذلك يسعين إلى تثوير عواطف أهل العزاء وتفعيل حرارة المجلس.

نهاية الجزء الثاني:

اللّهمّ! أنت تعلم جيداً بأننا إذا وفقنا لسلوك طريق أوليائك في تهذيب النفس وحسن الأخلاق وصفاء الباطن فانّا نطلب ذلك ونتعشقه من صميم القلب، فزدنا توفيقاً في سلوك هذا الطريق وأعنا في سلوك خطّ الإيمان والتقوى وحسن الأخلاق والحقنا بجماعة «مَنْ انْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» واجعلنا من جملة «وَحَسُنَ اولئكَ رفِيقاً».

(آمين يا ربَّ العالمين)

الاخلاق فى القرآن، ج 3، ص: 4

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.