نفحات القرآن المجلد 1

اشارة

سرشناسه : مكارم شيرازي ناصر، - 1305 عنوان و نام پديدآور : نفحات القرآن اسلوب جديد في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم ناصر مكارم شيرازي بمساعده مجموعه من الفضلا مشخصات نشر : موسسه ابي صالح النشر و الثقافه [1377؟]. مشخصات ظاهري : ج 6 وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي يادداشت : عربي مندرجات : ج 1. العلم و المعرفه في القران .-- ج 2. معرفه الله في القرآن .-- ج 3. .-- ج 4. معرفه صفات و جلال الله .-- ج 5، 6. المعاد في القرآن موضوع : تفاسير شيعه -- قرن 14 رده بندي كنگره : BP98/م7ن7 1377 رده بندي ديويي : 297/179 شماره كتابشناسي ملي : م 77-13711

المقدمة:

اشارة

1- أنواع التفسير.

2- ما هو التفسير الموضوعي؟

3- ما هي المشكلات التي يمكن حلُّها بواسطة التفسير الموضوعي؟ (و كيفية الاستفادة من هذا النوع من التفسير).

4- تاريخ التفسير الموضوعي.

5- الاسلوب الأمثل في التفسير الموضوعي.

6- العقبات التي تعترض التفسير الموضوعي.

7- لماذا لم يتطور هذا اللون من التفسير؟

أنواع التفسير:

عندما نريد الحديث عن تفسير القرآن الكريم يتبادر إلى الذهن التفسير المتعارف (التفسير الترتيبي) حيث تجري عملية بحث آيات القرآن الكريم بالترتيب ويتمّ توضيح مضمونها وماهيتها، وهو الاسلوب المتَّبع في تفسير القرآن منذ صدر الإسلام وإلى يومنا هذا، وقد قام علماء الإسلام بتأليف مئات أو آلاف الكتب تحت عنوان «تفسير القرآن الكريم» على هذه الطريقة.

وهناك نوع آخر من التفسير الرائج إلى حدّ ما والذي يهدف إلى تفسير «مفردات القرآن»

نفحات القرآن، ج 1، ص: 6

أي أنّه يتناول كلمات القرآن كلُّ على حدة وبالتسلسل حسب الحروف الأبجدية وعلى هيئة مُعْجم، ومن أبرز نماذج هذا التفسير هو كتاب «مفردات الراغب» و «وجوه القرآن» و «تفسير غريب القرآن» للطريحي، وأخيراً كتاب «التحقيق في كلمات القرآن الكريم» و «نثر طوبى» أو «دائرة معارف القرآن الكريم».

بينما توجد هناك أنواع اخرى من تفسير القرآن منها «التفسير الموضوعي» الذي يحقق ويبحث آيات القرآن الكريم على أساس مختلف المواضيع المتعلقة باصول الدين وفروعه والامور الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأخلاقية.

وهناك نوع آخر من التفسير نطلق عليه «التفسير الإرتباطي» أو التسلسلي، حيث يتناول مواضيع القرآن المختلفة من حيث علاقتها ببعضها.

فعلى سبيل المثال، بعد بحث موضوع «الإيمان»، و «التقوى و «العمل الصالح» كلٌّ على حدة في التفسير الموضوعي تتمّ عملية بحث علاقة هذه المواضيع الثلاثة ببعضها من خلال الإعتماد على الآيات والملاحظات الواردة في ذلك، ومن المسلَّم أنّ حقائق جديدة سوف تنكشف لنا عن

كيفية ارتباط هذه المواضيع ببعضها تكون بالغة الأهمية والفائدة.

إنّ أفضل طريقة للبحث حول عالم الخلقة والتكوين وما يتضمنه ويحويه من كائنات هو دراسة العلاقة بين هذه الكائنات التي تؤلف هذا العالم، ففي الحقيقة أنّ الشمس والقمر والأرض والإنسان والمجتمعات البشرية هي موجودات لا تنفصل عن بعضها البعض وهي تشكِّل في مجموعها كياناً واحداً مترابطاً، والاسلوب الصائب في دراستها هو أن نبحثها من حيث ارتباطها مع بعضها.

وهكذا الأمر في كتاب «التدوين» أي القرآن الكريم، فهنالك علاقات دقيقة وظريفة بين مواضيع القرآن الكريم، ولابدّ من تفسيرها من حيث ارتباطها مع بعضها.

النوع الآخر من التفسير هو «التفسير العام» أو «الرؤية الكونية للقرآن» وهنا يتناول المفسّر جميع مضمون القرآن فيما يتعلق بعالم الوجود، وبتعبير أكثر وضوحاً: يربط كتاب «التكوين» مع كتاب «التدوين» وينظر إليهما معاً، وتتم دراستهما من حيث ارتباطهما ببعضهما.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 7

وعلى هذا الأساس فإنّ هناك خمسة أنواع من التفاسير:

1- تفسير مفردات القرآن.

2- التفسير الترتيبي.

3- التفسير الموضوعي.

4- التفسير الإرتباطي.

5- التفسير العام، أو النظرة الكونية للقرآن.

والمشهور والمعروف من بين هذه الأنواع الخمسة هو النوع الأوّل والثّاني، وإلى حدٍ ما النوع الثالث، أي أنّ التفسير الموضوعي لا زال يسير في مراحله الأولية، على أمل أن يقطع مراحله التكاملية تدريجياً من خلال الإهتمام الذي أولاه علماء الإسلام به مؤخراً ومن خلال المزيد من الجد والمثابرة، وأن يحتل مكانه اللائق في المستقبل القريب.

أمّا النوع الرابع والخامس من تفسير القرآن فلم يحظيا باهتمام المفسّرين بعد، وهذا العمل يقع على عاتق الجيل الحاضر وأجيال المستقبل بأن يتناولوا هذا الباب بعد تكامل التفسير الموضوعي بما فيه الكفاية، ويقوموا باداء حقّهِ بالقدر المستطاع.

ما هو التفسير الموضوعي؟

قبل الإجابة على هذا السؤال لابدّ من طرح سؤال آخر وهو:

لماذا لم يُرتب القرآن باسلوب موضوعي يشبه الكتب المتداولة؟ بل أنّه جمع بشكل يختلف عنها جميعاً.

والجواب هو: إنّ المؤلف أو المؤلفين يأخذون بنظر الاعتبار مختلف المواضيع المتشابهة في حقل واحد من أجل اعداد الكتب المتداولة، فمثلًا في علم الطب يؤخذ بنظر الاعتبار «مختلف الأمراض التي ترتبط بمسألة صحة الإنسان» ثمّ تُقسم المسائل المتعلقة بهذه المواضيع على فصول وأبواب (أمراض القلب، الأمراض العصبية، أمراض الجهاز الهضمي، أمراض جهاز التنفس، الأمراض الجلدية وسائر الأمراض).

ومن ثمّ يبحثون كلَّ فصلٍ وكلَّ بابٍ من خلال الاعتماد على المقدّمات ونتائجها وبهذا

نفحات القرآن، ج 1، ص: 8

النحو يتمّ تأليف كتاب باسم كتاب «الطب».

بيد أنَّ القرآن ليس كذلك، فهذا الكتاب نزل على مدى 23 سنة وفقاً للحاجات والظروف الاجتماعية المختلفة والوقائع المتباينة، والمراحل التربوية المتفاوتة، وكافة شؤون حياة المجتمع الإسلامي، وفي نفس الوقت لم يتعلق بزمانٍ ومكانٍ معينين!

ففي وقت تدور كافة بحوث القرآن حول محور مقارعة الوثنية والشرك وبيان التوحيد بكل فروعه، والسّور والآيات النّازلة في هذه المرحلة كلّها في المبدأ والمعاد: (كالسور التي نزلت في مكّة خلال السنوات الثلاث عشرة الاولى من البعثة).

وفي زمان آخر نرى محور البحث والحديث ساخناً وقوياً حول الجهاد وكيفية مواجهة الأعداء في الداخل والخارج والمنافقين.

وعندما تقع غزوة الأحزاب فتنزل سورة الأحزاب، وما لا يقل عن 17 آية منها تتحدث عن هذه المعركة والتجارب والقضايا التربوية فيها ووقائعها.

وحينما جرت واقعة صلح الحديبية نزلت سورة الفتح وبعدها فتح مكّة وغزوة حنين نزلت سورة الإخلاص وآيات اخرى.

والخلاصة، فتزامناً مع انتشار الإسلام والتحرك العام للمجتمع الإسلامي كانت تنزل الآيات المناسبة وتصدر الأوامر اللازمة، وهذا ما كان يكمّل المسيرة التكاملية للإنسان.

واستناداً إلى ما ذكرنا آنفاً، يتضح المغزى من التفسير الموضوعي وهو جمع الأحداث

والوقائع المتعلقة بذلك الموضوع وترتيبها لتتجلى وجهة نظر القرآن الكريم بشأن ذلك الموضوع وأبعاده.

فمثلًا، تُجمع الآيات المتعلقة ببراهين معرفة اللَّه كالفطرة، وبرهان النظم وبرهان الوجوب والإمكان وباقي البراهين، وحيث إنّ القرآن يفسّر بعضُه بعضاً تتضح أبعاد هذا الموضوع «1».

______________________________

(1). لقد رويت عبارة «القرآن يفسّر بعضه بعضاً» عن ابن عباس، وليس من المستبعد أن يكون قد أخذها عن النبي صلى الله عليه و آله وأمير المؤمنين عليه السلام نتيجة لعلاقته القوية معهما في مسائل القرآن، كما ورد مضمونها في نهج البلاغة حيث يقول: «وَذَكرت أنّ الكتاب يصدّقُ بعضُه بعضاً» (نهج البلاغة، الخطبة 18) وقد أورد بعض العلماء في كتبهم جملة «القرآن يفسر بعضه بعضاً» على أنّها حديثٌ، كما في صفحه 106 من كتاب (تنزيه التنزيل) للمرحوم الشهرستاني، إذ وردت هذه العبارة باعتبارها رواية بدون أن ترد عليها مؤاخذة، كما تُلاحظ في نهج البلاغة إشارة اخرى إلى هذا الأمر، حينما يقول بشأن القرآن الكريم: «وينطقُ بعضه ببعض ويشهد بعضُه على بعض» (نهج البلاغة، الخطبة 133).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 9

وهكذا بالنسبة للآيات المتعلقة بالجنّة أو النار، والصراط وصحيفة الأعمال، والآيات المتعلقة بالقضايا الأخلاقية والتقوى وحسن الخلق والشجاعة، و ... والآيات المتعلقة بأحكام الصلاة والصوم والزكاة والخمس والأنفال، والآيات المتعلقة بالعدالة الاجتماعية وجهاد الأعداء وجهاد النفس و ...

والمسلّم به أنّ هذه الآيات التي نزلت في مناسبات مختلفة، عندما تُجمع كلُّ طائفةٍ منها على حدةٍ وتنظم وتُفسَّر فسوف تنكشف عنها حقائق جديدة، ومن هنا تتّضح أهميّة التفسير الموضوعي، حيث سيأتي الكلام عنه في البحث الآتي إن شاء اللَّه.

ما هي المشاكل التي يُمكن حلُّها بواسطة التفسير الموضوعي؟

إنّ الجواب على هذا السؤال واضحٌ للغاية من خلال ملاحظة ما مرَّ ذكره آنفاً، ولكن للمزيد من التوضيح ينبغي الالتفات إلى هذا الأمر

وهو:

إنّ الكثير من آيات القرآن الكريم تتناول بُعداً واحداً من أبعاد موضوع ما، فمثلًا، فيما يخص مسألة «الشفاعة» فقد ورد في بعض الآيات أصل إمكان الشفاعة.

وفي البعض الآخر «شروط الشفاعة» (سبأ 23، مريم 78).

وفي بعضها شروط «المشفَّع لهم» (الأنبياء 28، غافر 18).

وفي بعضٍ تُنفى الشفاعة عن الجميع ما عدا اللَّه تعالى (الزمر 44).

وفي بعض آخر ثبتت الشفاعة لغير اللَّه (المدثر 48).

نجد أنَّ حالةً من عدم الوضوح تحيط بأُمور الشفاعة بدءً من حقيقة الشفاعة وحتى سائر الشروط والخصوصيات الاخرى ولكن عندما نأخذ آيات الشفاعة من القرآن

نفحات القرآن، ج 1، ص: 10

ونضعهاجانب بعضها ونفسّرها على ضوء بعضها البعض يرتفع هذا الغموض ويحلّ الابهام على أحسن وجه.

وكذلك الآيات المتعلقة بالجهاد، أو فلسفة أحكام وتعاليم الإسلام، أو الآيات المتعلقة بالبرزخ، أو مسألة علم اللَّه، وكذلك موضوع علم الغيب، وهل أنّ العلم بالغيب ممكنٌ لغير اللَّه أم لا؟ فلو وُضعت آيات كل موضوع في جانبٍ فمن الممكن أداء حق هذا الموضوع وحل الإشكالات الموجودة عن طريق التفسير الموضوعي.

وعلى هذا الأساس فإنّ الآيات المتعلقة ب «المحكم» و «المتشابه» والتي تدعو تفسير «المتشابهات» بالاستعانة «بالمحكمات» يعدُ نوعاً من التفسير الموضوعي.

ومن هنا يبدو أنّه من خلال تفسير الآيات المتعلقة بموضوع ما بالاستعانة بالآيات الاخرى تنبثق عنها معارف وعلوم جديدة، هذه العلوم تكمن فيها معارف القرآن والحلول لكثير من المعضلات العقائدية وأحكام الإسلام.

من هذا الباب يُمكن تشبيه آيات القرآن بالكلمات المتفرقة، حيث إنَّ لكلٍّ منها مفهوماً ذاتيّاً، ولكن حينما تُرتَّبُ وتجمع في جمل مفيدة فهي تُعطي مفاهيم جديدة.

أو تشبيهها بالعناصر الحياتية مثل «الاوكسجين» والهيدروجين» التي حينما تتفاعل مع بعضها ينتج عنها الماء الذي هو عنصر حياتي آخر.

خلاصة القول إنّه لا يمكن حلّ الكثير

من اسرار القرآن إلّاعن هذا الطريق، ولا يُمكن النفوذ إلى مكنوناتها إلّامن خلال هذا السبيل، ونعتقد بأنّ هذا القدر كافٍ لتوضيح أهميّة التفسير الموضوعي.

وباختصار يمكن تلخيص فوائد التفسير الموضوعي في النقاط التالية:

1- إزالة الإشكالات التي تبرز في بعض الآيات للوهلة الولى وحلّ أسرار وأَلغاز المتشابه في القرآن.

2- الاطّلاع على خفايا ودقائق وعلل وأسباب ونتائج المواضيع والقضايا المختلفة الواردة في القرآن الكريم.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 11

3- الحصول على معلومات جامعه لمواضيع مختلفة مثل «التوحيد» و «معرفة اللَّه» و «المعاد» و «العبادات» و «الجهاد» و «الحكومة الإسلامية» وعلوم مهمّة اخرى

4- كشف أسرار وخفايا جديدة من القرآن من خلال الجمع بين الآيات.

تاريخ التفسير الموضوعي:

يمكننا ملاحظة نماذج من التفسير الموضوعى للقرآن الكريم في نفس آيات القرآن الكريم حيث أمرت هذه الآيات بتفسير المتشابه منها بالمحكم، ويعد هذا الاسلوب نوعاً من التفسير الموضوعى.

وفي كلام أئمّة الهدى عليهم السلام أمثلة كثيرة تهدينا إلى اسلوب جمع الآيات المتعلقة بموضوع معين وترتيبها ثم الاستفادة منها، ولأجل إثبات هذا الأمر نكتفي بذكر عدد من الأمثلة:

1- في الرواية المعروفة «1» بعنوان وصيّة النبي صلى الله عليه و آله وموعظته لعبداللَّه بن مسعود المذكورة في بحار الأنوار- وهي رواية طويلة وكثيرة المضامين، وفيها أمثلة كثيرة بنحو يمكن القول أنّ الرواية تدور حول محور التفسير الموضوعي- عندما يتكلم صلى الله عليه و آله عن ذم الدنيا حيث يقول: «يا ابن مسعود إنّ الأحمق من طلبَ دنيا زائلة»، ثم يستدل على هوانِ الدنيا وزخارف هذا العالم بالآيات التالية:

«اعلَمُوا أَنَّما الحَيَاةُ الدُنيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتكَاثُرٌ في الأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ...». (الحديد/ 20)

«وَلَوْ لَاأَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ

عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ* وَلِبُيُوتِهِم أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ . (الزخرف/ 33 و 34)

«مَنْ كَانَ يُريدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيْهَا مَا نَشاءُ لِمَنْ نُّريدُ ثُمَّ جَعَلنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً». (الاسراء/ 18)

وفي محل آخر يتحدث عن (القول بغير علم)، ويقول صلى الله عليه و آله: يا ابن مسعود لا تقل شيئاً

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 74، ص 94.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 12

بغير علم ولا تتفوه بشي ء ما لم تسمعه وتراه، ثم يذكر آيات عديدة حول هذا الموضوع:

قال تعالى: «وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ والفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا». (الاسراء/ 36)

وقال تعالى: «سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ . (الزخرف/ 19)

وقال تعالى: «مَّا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ». (ق/ 18)

وقال تعالى: «وَنَحْنُ اقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ». (ق/ 16)

وكذلك ذكرت الرواية ابحاثاً حول الذكر والإنفاق في سبيل اللَّه، ومكارم الاخلاق وغيرها اعتماداً على جمع الآيات وتبويبها.

2- جاء في حديث آخر عن أمير المؤمنين علي عليه السلام تقسيم لمعنى «الكفر في القرآن المجيد»:

إنّ الكفر في القرآن على أربعة أقسام:

الأوّل: الكفر بمعنى الجحود والانكار، وهو على قسمين:

أ) إنكار اصل وجود اللَّه والجنّة والنار والقيامة كما يحكي القرآن عن لسانهم «وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ». (الجاثيه/ 24)

ب) الكفر المقارن للمعرفة واليقين كما جاء في القرآن:

«وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً». (النمل/ 14)

الثاني: الكفر بمعنى المعصية وترك الطاعة كما أخبر اللَّه سبحانه عن قوم من بني اسرائيل يؤمنون ببعض الكتاب ويكذبون ببعض اذ يقول سبحانه: «أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرونَ بِبَعْضٍ . (البقرة/ 85)

الثالث: الكفر بمعنى البراءة والتنصُّل كما قال سبحانه عن لسان ابراهيم عليه السلام لعبدة الأصنام «كَفَرْنَا بِكُمْ . (الممتحنة/ 4)

وقال سبحانه أيضاً «يَوْمَ القيامَةِ يَكْفُرُ بعْضُكُمْ

بِبَعْضٍ . (العنكبوت/ 25)

الرابع: الكفر بمعنى عدم شكر النعمة كما قال سبحانه: «لَئِنْ شَكَرْتُم لَأَزِيدَنَّكُم وَلَئِنْ

نفحات القرآن، ج 1، ص: 13

كَفَرْتُمْ انَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ». (ابراهيم/ 7)

ثم يجمع عليه السلام الآيات الواردة في الشرك وأقسامه في القرآن فيقسمها إلى الشرك في العقيدة، والشرك في العمل، والشرك في الطاعة، وشرك الرياء، ويوضح كلًا منها بذكر الآيات القرآنية «1».

وكما تلاحظ فإنّ الإمام عليه السلام بتقسيمه لآيات الكفر والشرك يلقي نظرة كلية على هذا الموضوع، ويوضح بأنّ لهذين المصطلحين مفهوماً واسعاً شاملًا، فالكفر يشمل كل اخفاء للحق سواء كان في العقائد أو في العمل أو في المواهب الإلهيّة، والشرك يعني أن نجعل للَّه شريكاً أو نداً سواءً كان في العقائد أو في العمل أو الطاعة للقوانين، ويتضح جيداً بهذا العرض الجميل للتفسير الموضوعي في المثالين المذكورين لكلمات الإمام عليه السلام الدور الكبير لهذا التفسير في سعة ذهنية الإنسان والفهم العميق للآيات القرآنية.

والنموذج البديع الآخر ما ورد في كلام الإمام موسى بن جعفر عليه السلام مع هشام بن الحكم.

فالإمام عليه السلام وفي مقام بيان منزلة العقل يذكر الآيات المرتبطة ب «اولي الألباب» ويجمعها كلها ويقول لهشام: «أنظر كيف أنّ اللَّه سبحانه وصف اولي الأَلباب على أحسن وجه وزينهم بأفضل لباس»، ثم يذكر سبع آيات من القرآن المجيد تتكلم عن منزلة اولي الألباب وهي (البقرة/ 269- آل عمران/ 7- آل عمران/ 9- المؤمن/ 54) «2».

فالقيام بجمع هذه الآيات والنظر اليها منضمة بعضها إلى البعض يعطي للإنسان رؤية عميقة يستطيع معها فهم معنى اولى الألباب ومقامهم ومنزلتهم، وهذا عمل لا يتمّ إلّاعن طريق التفسير الموضوعي.

هذه نماذج من اصول التفسير الموضوعي في كلمات قادة الإسلام العظام، النبي صلى الله عليه و آله وأئمّة

الهدى عليهم السلام، وهناك نماذج عديدةٌ اخرى لم نذكرها تجنباً للاطالة.

ج ج

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 69، ص 100- 120 (خلاصة الحديث).

(2). اصول الكافي، ج 1، ص 15 كتاب العقل والجهل.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 14

التفسير الموضوعي في كلمات العلماء السابقين:

لم يكن التفسير الموضوعي متداولًا إلّافي فترات محدودة وحول موضوعات خاصة، إلّا أنّه ورد كثيراً على ألسنة العلماء السابقين، ولكن يجب الاعتراف بأننا لا نعرف أحداً منهم تناول التفسير الموضوعي في جميع المجالات.

ومن الروّاد الأوائل في هذا المضمار، العلّامة المجلسي قدس سره حيث نراه قد تصدى لجمع كل الآيات ذات العلاقة بالموضوع عند دخوله في كل فصل من فصول بحار الأنوار، ثم يلقي عليها نظرة شاملة وينقل أحياناً آراء المفسرين، ويسعى لتوضيح ما يذكره من الآيات.

فنرى مثلًا في الجزء 67 عندما يتكلم حول «القلب» والسمع» والبصر» ومعنى كلٍّ منها في القرآن الكريم، يجمع عشرات الآيات ثم يذكر رواية من الكافي ثم يقوم بذكر بيان جامع لها، فيستغرق بحثه في هذا المجال عشر صفحات تقريباً «1».

وفي الجزء 58 في باب حقيقة الرؤيا وتعبيرها يذكر أولًا أكثر من عشر آيات من القرآن حول هذا الموضوع ثم يبحث في تفسيرها عدة صفحات «2».

وفي الجزء 22 في الباب الأول يبحث عن ما جرى لليهود والنصارى والمشركين بعد الهجرة، فيذكر عشرات الآيات من مختلف السور حول هذا الموضوع ثم يقوم بتفسيرها «3».

وقد اتبع هذا المحقق العظيم نفس الاسلوب في الفصول الاخرى من الكتاب.

ومن الأمثلة الاخرى للتفسير الموضوعي في كلمات المتقدمين، الكتب المؤلفة تحت عنوان آيات الأحكام، ففي هذه الكتب ذكرت الآيات المتعلقة بالأحكام الفقهية، مثل الآيات التي لها ارتباط بأجزاء وشروط الصلاة وأقسام وشروط الصوم، والحج والنكاح والطلاق وأحكام الحدود والديات والقضاء وغيرها، حيث جمعت الآيات وتمّ

بحثها على نحو موضوعي بالاستعانة ببعضها الآخر.

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 67، ص 27 إلى 43.

(2). المصدر السابق، ج 58، ص 151 إلى 158.

(3). المصدر السابق، ج 22، ص 1 إلى 62.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 15

ويبدو أنّ أوّل كتاب أُلّفَ في هذا المجال هو كتاب (أحكام القرآن) تأليف (محمد بن صاحب الكلبي)، وهو من أصحاب الإمام الباقر عليه السلام والإمام الصادق عليه السلام والمتوفى سنة 146 ه فهو سابق حتى للشافعي الإمام المعروف المتوفى سنة 204 ه بتأليف كتاب في هذا المجال.

وبعده تصدى العديد من الفقهاء والعلماء لتأليف الكتب في مجال آيات الأحكام (تارة بهذا الاسم وتارة بأسماء اخرى وقد ذكر المرحوم المحدّث الطهراني في كتاب «الذريعة» ثلاثين كتاباً من هذه السلسلة «1»، واشهرها بين العلماء والفقهاء المعاصرين كتاب آيات الأحكام للمحقّق الأردبيلي قدس سره المسمى «زبدة البيان»، وآيات الأحكام للفاضل المقداد المسمى (كنز العرفان).

وجاء في الكتاب الأخير أنّ مِن المشهور بين العلماء أنّه توجد خمسمائة آية في القرآن المجيد حول الأحكام الفقهية، إذا أخذنا في الحسبان الآيات المتكررة في هذا المجال وإلّا فالعدد أقل من ذلك «2».

وقد كُتب في هذا المجال كتاب «إعجاز القرآن في العلوم المعاصرة» وفيه الآيات ذات العلاقة بالاكتشافات العلمية المعاصرة، والتي تعدّ من المعجزات العلمية للقرآن، وكتاب «المجتمع والتاريخ» و «الحقوق في القرآن المجيد»، وكلها تعبير عن السعي المستمر في التأليف في حقل التفسير الموضوعي.

كما ألفت كتب حول قصص القرآن تمّ فيها توضيح الوقائع الواردة في قصص الأنبياء بواسطة جمع آيات القرآن.

ولكن مع هذا يجب الإذعان بأن كل هذه المحاولات ناظرة للتفسير الموضوعي في مجال معين وزاوية محددة، وهى ليست بصدد تفسير جامع وشامل لكل موضوعات القرآن، وفي الفترة الأخيرة

بذلت محاولات وجهود لتفسير القرآن تفسيراً موضوعياً واسعاً، وهذه الجهود تستحق كل تقدير.

______________________________

(1). الذريعة إلى تصانيف الشيعة، ج 1، ص 40- 44.

(2). كنز العرفان، ج 1، ص 5.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 16

ومن جملة هذه الكتب يمكن ذكر كتاب «مفاهيم القرآن» وقد صدر عدد من أجزائه بالفارسية والعربية وهو كتاب قيِّم.

ولكن مع هذه المساعي التي تستحق التقدير يجب الاعتراف بأَنَّ مسألة التفسير الموضوعي للقرآن لا زالت في مرحلة البداية، وتحتاج إلى زمان كي تحتل المكانة المناسبة لها كالتفسير الترتيبي، وهذا لا يتم إلّابالسعي المستمر الدائب للعلماء والمفسرين، وبالاستفادة من تجارب الماضين وتنميتها وايصالها إلى درجة الكمال المطلوب.

وما تراه في هذا الكتاب هو حلقة من هذه السلسة التي نأمل لها أن تنضمَّ إلى الحلقات المعتبره الاخرى والمهم أن يتجنب أصحاب النظر والمعرفة الأعمال المكررة في هذا المجال، وأن يبادر كل منهم إلى الإبداع والتجديد حتى نتمكن تحت ظل هذه الإبداعات أن نطوي هذا الطريق الطويل.

الاسلوب الصحيح في التفسير الموضوعي:

يوجد اسلوبان للتفسير الموضوعي:

الاسلوب الأول: الذي اختاره بعض المفسرين في عملهم، وهو أنّهم يتناولون المواضيع المختلفة كالموضوعات العقائدية (التوحيد والمعاد و ..) والموضوعات الأخلاقية (التقوى حسن الخلق و ...)، وبعد ذكر بحوث فلسفية وكلامية أو أخلاقية يذكرون بعض الآيات القرآنية المرتبطة بالموضوع بعنوان الشاهد على ذلك.

الاسلوب الثاني: وهو الذي يتمّ فيه قبل كل شي ء جمع الآيات الواردة حول الموضوع من جميع أجزاء القرآن، وقبل أيّ حكم أو ابداء نظر يتمّ جمع الآيات وتفسيرها مجتمعة، وبجمعها وملاحظة العلاقة فيما بينها نحصل منها على الصورة الكاملة.

وهنا لا يملك المفسّر شيئاً من عنده مطلقاً، ويسير كالظل خلف آيات القرآن فيفهم كل شي ء من القرآن، ويكون كل همّه كشف محتوى الآيات، وإذا أراد الإِستعانة بآراء

الآخرين

نفحات القرآن، ج 1، ص: 17

بل حتى بالأحاديث، فذلك في المرحلة الثانية وبصورة مستقلة.

وقد إخترنا هذا الاسلوب في (نفحات القرآن) حيث جمعنا كل الآيات الواردة في كل موضوع وجعلناها في مقدمة كل بحث، وجعلنا كل مسائل البحث تسير تحت ظل الآيات، ونعتقد أن هذا هو السبيل الأمثل لإيصالنا إلى حقائق القرآن.

وهذان الاسلوبان متبعان في التفسير المعتاد (التفسير الترتيبي حسب السور والآيات) فجماعة يحملون آيات القرآن على آرائهم وجماعة اخرى يجعلون آراءهم تابعة لآيات القرآن، ومن الواضح أنّ الاسلوب التفسيري الصحيح هو الثاني.

القرآن (نور وكتاب مبين) فهو يبين كل الحقائق المرتبطة بسيادة الإنسان: «قَدْ جَاءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ . (المائدة/ 15)

عقبات تواجه التفسير الموضوعي:

يواجه المفسّر في طريقه ثلاث عقبات مهمّة.

1- ليس التفسير الموضوعي بأن تجعل فهارس الآيات أمامك وتجمع الآيات التي ورد فيها ذكر لكلمات المواضيع التي تريد البحث فيها، مثل الجهاد والتقوى لأنّ الكثير من الآيات تتكلم حول هذه المواضيع بدون أن تُذكر فيها كلمة التقوى أو الجهاد، ولا بأس هنا أن نذكر مثالًا واحداً، نحن نعلم أنّ اللَّه سبحانه «رحمن» و «رحيم» و «أرحم الراحمين» وهذا المعنى وارد، في الكثير من آيات القرآن، ولكن توجد آيات تبيّن هذه الحقيقة بدون استعمال مادة «رحم»، منها: «وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ» «1». (النحل/ 61)

______________________________

(1). لابدّ من الإشارة إلى أنّ الآية الاولى تشير إلى ظلم الناس وفي الآية الثانية جاء بدل الظلم الاكتساب، ومن جمع الآيتين معا يظهر أنّ الكثير من الأعمال التي تصدر من الناس ليست خالية من نوع مِن أنواع الظلم.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 18

ونفس هذا المعنى مع اختلاف يسير ذكر في الآية 45 من سورة فاطر: «وَلَوْ يُؤَاخِذُ

اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ».

هاتان الآيتان تشيران إلى رحمة اللَّه ولطفه المطلق على عباده من غير أن تُستعمل مادة (رحم) في الآيتين.

2- العقبة الاخرى التي تعترض التفسير الموضوعي مشكلة جمع الآيات وأخذ النتيجة منها، فهذه العملية تحتاج إلى دقة وظرافة وذوق ووعي كامل واحاطة تامّة بالآيات القرآنية والتفاسير، وعندما تكون الآيات المرتبطة بموضوع ما كثيرة ويكون لكل منها بعدٌ خاصٌ بها فإنّ الجمع سيكون أكثر تعقيداً.

مضافاً إلى ذلك فإنَّ التفسير الموضوعي لا يزال يخطو خطواته الاولى ولم يُبذل في هذا النطاق جهد وسعيٌ حثيث، وهذا يجعل الأمر أكثر صعوبة وتعقيداً بالنسبة للمبتدئين ويختلف كثيراً عن التفسير المعتاد المتّبع منذ نزول القرآن.

3- العقبة الكبيرة الثالثة: إنّ موضوعات القرآن الكريم، هذا الكتاب الإلهي العظيم لا حدّ لها ولا حصر، ففيه المسائل العقائدية والعلمية، وفيه المسائل الأخلاقية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، وآداب العشرة وأحكام الحرب والسلم وتاريخ الأنبياء وامور الكون و .. الخ.

وفي كل واحدة من هذه الامور موضوعات كثيرة بحثها القرآن، ومناقشة كل هذه المسائل تحتاج إلى وقت طويل وصدر واسع.

وأحياناً تبحث الآية الواحدة في التفسير الموضوعي أبحاثاً عديدة من جهات مختلفة، وفي كل بُعد من أبعادها يجب بحث فصل خاص به، في حين تفسر الآية في التفسير الترتيبي تفسيراً واحداً فقط.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 19

لماذا لم يتطور هذا الموضوع من التفسير؟

يبدو أنّ جواب هذا السؤال قد اتّضح من الأبحاث السابقة، فالمشكلات الكثيرة التي تواجه التفسير الموضوعي، قد منعت من تطوره خاصة، وأنّ التفسير الموضوعي يحتاج إلى معاجم دقيقة وجامعة بحيث يمكن استخراج الآية منها بسهولة ولم تكن توجد في السابق، ولكنها اليوم بحمد اللَّه في متناول الأيدي.

ومن الطريف ما جاء في مقدمة المعجم القرآني المعروف ب «المعجم

المفهرس لألفاظِ القرآن الكريم» حيث قال: (إنّ المتقدمين اهتموا كثيراً بالعلوم القرآنية ولكن لم يهتموا باعداد معجم دقيق لتعيين آيات القرآن، والسبب في ذلك أنّ أغلبهم كان من حفظة القرآن)!

ولا نعلم مدى صحة هذا الرأى، ولو افترضنا كون الإنسان حافظاً للقرآن فهذا لا يجعله مستغنياً عن المعجم، الذي هو وسيلة لابدّ منها من أجل تسهيل عملية التفسير الموضوعي (وإن كانت بوحدها ليست كافية)، وهذا العمل لم يتم في السابق إلّابنحو ناقص ودون الطموح أحياناً.

ولابدّ من الإشارة إلى مسألة هنا وهي أن جمعاً من المفكرين الغربيين والأجانب المحبين للقرآن المجيد بذلوا جهوداً من أجل إعداد معاجم لهذا الكتاب السماوي ومن نماذجها المعتبرة كتاب «نجوم الفرقان في اطراف القرآن» إعداد المستشرق الالماني «فلوگل» وتأليفات اخرى قام بها المسلمون مثل «مفتاح كنوز القرآن» وكتاب «فتح الرحمن».

وبناءً على ما ورد في مقدمة «المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم» فإنّ هؤلاء هم الذين مكنوا المؤلف من إعداد هذا المعجم الغني البديع وجعلهِ في متناول أيدي علماء الإسلام.

وآخر ما نقوله هنا هو أنّه على الرغم من جميع المشكلات والمعوقات الموجودة في طريق التفسير الموضوعي، فإنّ بركاته ومعطياته كثيرة وبنفس النسبة وخاصة بالنسبة للعلماء والمحققين، حيث تنكشف لهم في ضوئه الحقائق التي تزيدهم إيماناً وقوة ونشاطاً

نفحات القرآن، ج 1، ص: 20

لمواصلة العمل، وتؤجج في قلوبهم نار الشوق والمحبة حيث إنّ مَثَل الآية القرآنية عندما تتحدث حول موضوع ما لوحدها، كمثل النقطة التي إذا اجتمعت مع نقاط اخرى ورتبت كونت شكلًا جذاباً وصورة بديعة لم تكن موجودة من قبل، وهذا أمر مهمّ جدّاً ويبعث على النشاط والاشتياق، وكما ذكرنا فإنّ النبي صلى الله عليه و آله وأئمّة أهل البيت عليهم السلام، أرشدونا منذ البداية إلى

التفسيرالموضوعي ووردت في كلامهم نماذج مختلفة جميلة وجذابة وقد أشرنا إلى البعض منها.

ج ج

وحيث ننتهي من هذه المقدّمة نجد أنفسنا أمام هذا العمل العظيم المملوء بالمصاعب، ولا ريب في أننا لا نستطيع- اعتماداً على أنفسنا- أن نحمل هذه الأمانة ونوصلها إلى الهدف إلّابلطف اللَّه وعونه وعنايته، ونحن هنا بكامل وجودنا نتوجه إلى اللَّه سبحانه وتعالى ونمد إليه أيدينا قائلين.

إلهنا! خذ بأيدينا في هذا الطريق، اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم، احفظنا في هذا الطريق الكثير المزالق من السقوط في وادي الضلالة، وتفضل علينا بالتوفيق لإتمام هذا العمل على النحو الأحسن.

آمين يا رب العالمين

قم- الحوزة العلمية- ناصر مكارم الشيرازي

26/ محرم الحرام/ 1408 ه

نفحات القرآن، ج 1، ص: 21

كل عمل باسم اللَّه

تمهيد:

علّمنا القرآن الكريم في بداية كل سورة (عدا سورة التوبة) وفي آيات كثيرة اخرى أن نبدأ عملنا باسم اللَّه وأن نعطّر أجواء قلوبنا وأرواحنا بطيب اسمه.

باسم «اللَّه» وهو الجامع للصفات الكمالية.

باسم «الرحمن» و «الرحيم».

باسمه الذي هوعلى كل شي ء قدير.

باسمه الذي هو بكل شي ء عليم.

إنّ هذا الاسم المقدّس ينوّر القلب ويهب للروح الصفاء والقوة والنشاط.

ذِكر رحمته الخاصّة والعامّة تبعث في الإنسان عالماً من الأمل.

ذكر قدرته وجبروته يبعث في الإنسان الجرأة لمواجهة المصاعب.

ذكر علمه واحاطته بكلِّ فرد وبكل شي ء يُطمئِنُ الإنسان بأنّه ليس لوحده.

فإذا بدأنا عملنا بهذه الروح فاننا سنصل إلى الغاية المطلوبة بلا شك، وكل سعي وجهاد يبذل وفق هذا المنهج فسوف تكون نتيجته الموفقية والفلاح.

لذلك فقد ارتأينا أن أفضل ما نبدأ به بحثنا في هذا الكتاب هو موضوع (بداية كل عمل باسم اللَّه).

فنبدأ أولًا بمناقشة الآيات ذات العلاقة بهذا المعنى ثم نقوم بعملية التفسير والجمع، وفي المرحلة الأخيرة نذكر بحوثاً مكملة تحت عنوان «توضيحات» وسنواصل اتباع

هذا الأسلوب بالترتيب المذكور إلى آخر الكتاب إن شاء اللَّه.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 22

الآيات:

1- «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ . (كل سور القرآن عدا سورة براءة)

2- «إقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ . (العلق/ 1)

3- «وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّى لَغَفُورٌ رَّحيمٌ . (هود/ 41)

4- «قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَؤُا إِنِّى الْقِىَ إِلَىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ* انّهُ مِنْ سُلَيَمانَ وَانَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* الَّا تَعْلُوا عَلَىَّ وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ . (النمل/ 29- 31)

ج ج

شرح المفردات:

«الاسم»: يعتقد الكثير من علماء اللغة أنّ هذه الكلمة في الأصل مشتقة من مادة «سمو» (على وزن علو) بمعنى الارتفاع، وحيث إنّ التسمية سبب للمعرفة والظهور وعلو المنزلة لكل شي ء استخدمت كلمة اسم في هذا المعنى «1».

«الرحمن» و «الرحيم»: كلمتان مشتقتان من مادة «رحمة» والمعروف أنّ (الرحمن) يعني ذو الرحمة العامة الشاملة للجميع، و (الرحيم) يوصف بها ذو الرحمة الخاصة، وعلى هذا رحمانية اللَّه جعلت فيضه ونعمته شاملة للعدو والصديق والمؤمن والكافر، ولكن رحيميته أوجبت للمؤمنين مواهب خاصة في الدنيا والآخرة في حين أنّ هذه المواهب محرّمة على الغافلين والبعيدين عن اللَّه.

والشاهد على هذا الاختلاف ما يلي:

1- «الرحمن» صيغة مبالغة والرحيم صفة مشبهة، وصيغة المبالغة تفيد معنى التأكيد

______________________________

(1). البعض يرى أنّ الاسم من مادة (وَسْم) بمعنى (العلامة) ولكن يبدو أنّ هذا غير تام لأنّ جمعه على هيئة أسماء وتصغيره ب (سُمّي) و (سمّيه) يدل على عدم وجود (الواو) في أصله والبعض يعتبره مشتقاً من كلمة (شما) وهي اصطلاح عبري وعند التعريب صارت بهيئة اسم وسماء (التحقيق في كلمات القرآن الكريم) ولكن هذا مستبعد أيضاً ولا شاهد عليه، والشاهد الآخر على عدم كون الاسم مشتقاً من مادة (وسم) أنّ الهمزة في اسم تسقط

عند وصل الكلام ولو كانت من مادة (وسم) فالهمزة بدلًا عن الواو ولا ينبغي أن تسقط.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 23

بنحو أكثر وتدل على سعة هذه الرحمة، ولكن البعض يرى أنّ كليهما صفة مشبهة أو أنّ كليهما صفة مبالغة، ولكن مع ذلك صرحوا بأنّ الرحمن تفيد معنى المبالغة الكثيرة «1».

2- وقال البعض: إنّ الرحيم صفة مشبهة وتُفيد الإستمرار والثبات، لذلك هي مختصة بالمؤمنين، لكن الرحمن صيغة مبالغة ولا تدل على المعنى المذكور.

3- «الرحمن» اسم خاص باللَّه ولا يطلق على غيره، في حين أنّ الرحيم يقال للَّه ولغيره، وهذا دليل على أنّ مفهوم الرحمن يدل على رحمة أوسع.

4- هناك قاعدة معروفة في الآدب العربي وهي: (زيادة المباني تدل على زيادة المعاني)، يعني أنّ الكلمة التي حروفها أكثر فإنّ مفهومها يكون أكبر وحيث إنّ (رحمن) خمسة أحرف و (رحيم) أربعة أحرف فمفهوم (رحمن) أوسع «2».

5- كما أنّ البعض استفاد هذا المعنى من آيات القرآن حيث إنَ (الرَّحمن)، ذكر غالباً بنحو مطلق، في حين أنّ (رحيم) ذكر مقيداً في كثير من الموارد، مثلًا، قوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ . (البقرة/ 143)

وقوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً». (النساء/ 29)

أمّا الرحمن فذكر من غير قيود فهو يدل على عموم رحمته.

6- وتشهد بعض الروايات على هذا الاختلاف، ففي حديث ذي مغزى ومعانٍ عن الإمام الصادق عليه السلام نقرأ: «الرحمن اسمٌ خاص بصفة عامة والرحيم اسم عام بصفة خاصة» «3».

ولكن مع هذا لا يمكن أن ننفي استخدام الكلمتين في معنى واحد، كما ورد في دعاء الإمام الحسين عليه السلام في يوم عرفة: «يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما» ويمكن أن يعدّ هذا استثناءً فلا ينافي الاختلاف المذكور.

«مجراها» و «مرساها»: كلتا

الكلمتين اسم زمان أو اسم مكان بمعنى مكان الحركة

______________________________

(1). راجع تفاسير مجمع البيان وروح المعاني والميزان، ج 1، ص 20 و 55 و 16 على التوالي.

(2). تفسير شبرّ، ص 38؛ روح المعاني، ج 1، ص 56.

(3). تفسير مجمع البيان، ج 1، ص 21.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 24

وزمانها، أو مكان التوقف وزمانه «1».

الاولى مشتقة من مادة (جريان) والثانية من مادة (رسو) على وزن (رَسم) بمعنى الثبات والاستقرار، لذلك يقال للجبال (الرواسي) جمع (راسية) لأنّها ثابتة ومستقرة.

جمع الآيات وتفسيرها

لماذا نبدأ فقط باسم اللَّه؟

في الآية الاولى (بسم اللَّه الرحمن الرحيم) التي تصدرت كل سور القرآن (ما عدا سورة براءة) يعني نعلمكم أن تبدأوا عملكم باسم اللَّه الرحمن الرحيم وتستعينوا به في أداء عملكم وتنفيذ خططكم «2».

إنّ أعمالنا مهما تكن فهي فانية زائلة وصغيرة محدودة، أمّا عندما ترتبط بالذات القدسية الباقية الخالدة التي لا حدّ لها ولا نهاية، فانّها ستصطبغ بصبغته وتستلهم من عظمته وازليته.

قدراتنا مهما تكن فهي ضعيفة لا تمثل إلّاقطرة في بحر، لكن عندما ترتبط تلك القطرات بالبحار العظيمة للقدرة الإلهيّة فانّها ستجد العظمة وتكتسب روحاً جديدة وهذا كله سرُ بسم اللَّه في بداية كل عمل.

ج ج

في الآية الثانية كلام عن خطاب جبرئيل الأمين في بداية البعثة للنبي الأكرم صلى الله عليه و آله عندما احتضن النبي وضمه وقال: «إِقْرَأْ بِسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ .

وبهذا فقد بدأ جبرئيل منهاج رسالته عند بعثة النبي صلى الله عليه و آله باسم اللَّه.

ج ج

______________________________

(1). قال بعض المفسرين إنّها اسم زمان فقط كما في (مجمع البيان) والبعض اعتبرها اسم مكان فقط كما في (الميزان) والبعض اعتبرها اسم زمان ومكان كما في (تفسير شبّر).

(2). البعض يعتقد أنّ هناك جملة محذوفة وهي (ابتدي ء)، والبعض قال هي (استعينُ)، نعم في صورة

كون الجملة عن اللَّه سبحانه (كما في جميع السور عدا الحمد) فحينئذ يتعيّن المعنى الأول ولكن في خصوص سورة الحمد حيث إنّ الجمله تعبير عن لسان العباد فيكون فيها المعنى الأول أو الثاني أو كلاهما وعلى هذا فإنّ (ب) في بسم اللَّه إمّا بمعنى الاستعانه أو بمعنى الإِبتداء (تأمل جيداً).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 25

الآية الثالثة تتحدث عن قصّه نوح عندما حلت لحظة الطوفان والجزاء الإلهي الشديد على قومه الكفرة والطغاة، وعندما استعدت السفينة للحركة وصدر الأمر لأصحاب نوح الذين لم يتجاوز عددهم الثمانين بأن يركبوا في الفلك قال (بسم اللَّه مجريها ومرسها) ثم استعان بمغفرة اللَّه ورحمته وقال: «إِنَّ رَبِّى لَغَفُورٌ رَحِيمٌ .

ج ج

وفي الآية الأخيرة كلام عن كتاب سليمان إلى ملكة سبأ بعد أن أخبره الهدهد عن قوم سبأ وعبادتهم للاصنام.

وعندما تناولت ملكة سبأ الكتاب جمعت أعوانها وافراد البلاط وقالت: «يَا أَيُّهَا المَلَؤُا إِنِّى أُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ* إِنَّهُ مِنْ سُلَيَمانَ وانَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* أَلَّا تَعْلُوا عَلَىَّ وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ .

ج ج

من مجموع الآيات الأربع المذكورة ندرك جيداً أنّ ابتداء كل عمل يجب أن يكون ب (بسم اللَّه)، سواء كان في التعليم والهداية مثل سور القرآن أو كان دعاءً من العباد مع الذات القدسية مثل سورة الفاتحة، أو بداية البعثة والرسالة وأول نداء للوحي مثل بداية سورة العلق، أو أنّه بداية الحركة للنجاة من الأخطار والطوفان وبداية توقف السفينة والنزول منها للابتداء بالمنهج الجديد كما في قصة نوح، أو ابتداء الكتاب المرسل من أجل الدعوة للتسليم إلى الحق كما في كتاب سليمان لملكة سبأ.

وخلاصة الكلام أنّ العمل سواء كان من اللَّه سبحانه أو من الخلق أو من جبرئيل أو من الأنبياء مثل نوح وسليمان أو

من عامة الأفراد، يجب أن يبدأ ب (بسم اللَّه) ويرتبط بالذات المقدَّسة ويستمد منه القوّة والعلم والإدراك.

وهذا هو معنى الحديث المعروف للنبي صلى الله عليه و آله: «كل أمر ذي بال لم يذكر فيه اسم اللَّه فهو ابتر» «1».

______________________________

(1). سفينة البحار، ج 1 مادة (سما).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 26

والأمر الذي ينبغي ملاحظته أنّ الصفات التي ذكرت بعد بسم اللَّه في الآيات المذكورة تناسب العمل الذي بدأ ب (بسم اللَّه) ففي قصة نوح جاء ذكر (غفور رحيم) وهو إشارة شمول الرحمة الإلهيّة لأصحاب نوح، وفي قصة نزول أول آية جاء ذكر صفة الربوبية والخالقية ونحن نعلم أنّ مسألة الوحي بداية لعمل تربوي وعلى هذا فإنّ التربية التشريعية تقترن بالتربية التكوينية.

وبهذا نعلمُ أنّ الاستفادة من ذكر الصفات المناسبة هو بمثابة درس للجميع حول كيفية ابتداء أعمالهم ب (بسم اللَّه).

ج ج

توضيحات

1- الأهميّة الخاصة ل «البسملة»

نلمس في الروايات الإسلامية أهميّة كبيرة لهذه الآية المباركة وأنّها في درجة (اسم اللَّه الأعظم)، كما روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «بسم اللَّه الرحمن الرحيم أقرب إلى اسم اللَّه الأعظم من ناظر العين إلى بياضها» «1».

وفي حديث آخر عن الإمام الرضا عليه السلام: «أقرب من سواد العين إلى بياضها» «2».

إنّ ل (بسم اللَّه) أهميّة بالغة إلى درجة بحيث أنّ بعض الروايات ذكرت أنّ في تركها تعريض النفس للعقاب الإلهي، كما ورد في رواية أنّ عبداللَّه بن يحيى دخل في مجلس أمير المؤمنين عليه السلام وكان أمامه سرير فأمره الإمام أن يجلس عليه فتحطم السرير فجأة ووقع عبداللَّه على الأرض وجرح رأسه وخرج منه الدم فأمر أمير المؤمنين عليه السلام بماء فغسلوا الدم ثم وضع الأمير يده على الجرح فأحس عبد اللَّه بألم شديد في أوّل

الأمر ثم بري ء جرحه فقال الإمام عليه السلام: «الحمد للَّه الذي يغسل ذنوب شيعتنا ويطهرها بالحوادث المؤلمة».

______________________________

(1). تفسير البرهان، ج 1، ص 41، ح 2.

(2). المصدر السابق، ح 9.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 27

فقال عبد اللَّه: يا أمير المؤمنين لقد نبهتني، أخبرني أي ذنب ارتكبته حتى أصاب بهذا الحادث المؤلم كي لا أعود إلى ذنبي فإنّ ذلك يسعدني.

فقال عليه السلام: «عندما جلست على السرير لم تقل: (بسم اللَّه الرحمن الرحيم) ألم تعلم أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قال عن لسان ربِّه: (إنّ كل عمل ذي بال لم يبدأ فيه ببسم اللَّه فهو أبتر ولا ثمرة فيه)».

فقال عبد اللَّه: فديتك لا أدعها بعد هذا أبداً.

فقال الإمام عليه السلام: «إذن ستكون سعيداً» «1».

ولكن من الواضح أنّ الاسم الأعظم أو بسم اللَّه الذي هو أقرب ما يكون إليه ليس المقصود منه جريان ألفاظه على اللسان، فالتلفظ لوحده لا يحل العقد المستعصية ولا يفتح أبواب الخيرات والبركات ولا ينتظم به شتات الأمور، بل المراد هو التخلق به.

يعني أنّ مفهوم بسم اللَّه يجب أن يذوب في روح الإنسان وباطنه، وعندما يتلفظ بها بلسانه يشعر أنّ كامل دقائق وجوده قد دخل في الحِمى الإلهيّة وصار من أعماق وجوده يستمد من ذاته المقدّسة.

وينبغي الانتباه إلى أنّ التأكيد على الابتداء ببسم اللَّه ليس فقط في الكلام وإنّما في الكتابة أيضاً كما في كتاب سليمان عليه السلام إلى بلقيس.

في حديث الإمام الصادق عليه السلام: «لا تدع البسملة ولو كتبت شعراً» ثم ذكر الإمام عليه السلام أنّهم كانوا يبدأون رسائلهم قبل الإسلام بعبارة (بسمك اللهم).

ولما نزلت الآية الكريمة «إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وإِنَّه بِسمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، بدأوا رسائلهم بعبارة (بسم اللَّه).

وفي حديث آخر

نقرأ أنّ الإمام الهادي عليه السلام وصى أحد وكلائه وهو داود الصرّمي الذي قال: أمرني عليه السلام بحوائج كثيرة فقال لي: قل كيف تقول؟، فلم أحفظ مثل ما قال لي، فمدّ الدواة وكتب «بسم اللَّه الرحمن الرحيم اذكر إن شاء اللَّه والأمر بيد اللَّه، فتبسمت، فقال: «ما

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 73، ص 305 مع التلخيص.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 28

لك» قلت خير. فقال: «أخبرني». قلت: جعلت فداك ذكرت حديثاً حدثني به رجل من أصحابنا عن جدك الرضا (عليه السلام) إذا مرّ بحاجة كتب: «بسم اللَّه الرحمن الرحيم اذكر إن شاء اللَّه فتبسمت، فقال لي: «يا داود لو قلت إنّ تارك التسمية كتارك الصلاة لكنت صادقاً» «1».

إنّ لبسم اللَّه أهميّة بالغة وعظيمة بحيث نقرأ في حديث عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إذا قال المعلّم للصبي بسم اللَّه الرحمن الرحيم (ويكرر الطفل ذلك) كتب اللَّه براءة للصبي وبراءة لأبيه وبراءة للمعلِّم» «2».

ونختم هذا الكلام، بمقالة مشهورة بين جماعة من المفسرين وهي:

إنَّ معاني كل الكتب الإلهيّة مجموعة في القرآن.

ومعاني كل القرآن مجموعة في سورة الحمد.

ومعاني كل سورة الحمد في بسم اللَّه.

ومعاني بسم اللَّه مجموعة في الباء «3».

وتمركز جميع مفاهيم القرآن والكتب الإلهيّة في باء بسم اللَّه يمكن أن يكون لكون أن كل المخلوقات في عالم التكوين، وكل التعليمات في عالم التشريع تستمد وجودها من الذات المقدّسة حيث إنّها علة العلل لجميع الكائنات، ونعلم أن باء بسم اللَّه هي الوسيلة للاستعانة وطلب النصرة من اللَّه وهذه مسألة جديرة بالدقة والتأمل.

2- هل أنّ بسم اللَّه جزء لكلِّ سورة؟

لم يعدّ المفسرون وعلماء العلوم القرآنية البسملة من آيات السور عند حسابهم للآيات القرآنيه إلّافي سورة الفاتحة، التي أجمع الفقهاء واتفقوا على أنّ

البسمله جزء منها ولذلك

______________________________

(1). سفينة البحار، ج 1، ص 663، مادة (سما).

(2). تفسير البرهان، ج 1، ص 43، ح 32.

(3). تفسير روح المعاني، ج 1، ص 37.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 29

فقد ذكروا أنّ آياتها سبع ومنها البسملة.

وكذلك فإنَّ أحد الأسماء المعروفة لهذه السورة هو «السبع المثانى» لأنّها سبع آيات «مثاني»، لأنّها نزلت على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مرتين نظراً لاهميّتها.

ولكن مع هذا فإنّ كتابة البسملة في جميع المصاحف القديمة والجديدة دليل قاطع على جزئيتها للسور.

روى عن عبد اللَّه بن عمر، أنّه كان إذا بدأ الصلاة بعد التكبير قرأ بسم اللَّه الرحمن الرحيم، وكان يقول إذا لم تقرأ بسم اللَّه الرحمن الرحيم فلماذا كتبت في القرآن؟! «1».

واورد السيوطي في المجلد الأول في تفسيره الدر المنثور وهو عالم معروف من أهل السنة روايات كثيرة حول جزئية بسم اللَّه لسورة الحمد.

وهناك روايات كثيرة من طرق أئمّة الهدى وأهل البيت عليهم السلام وردت في جزئية بسم اللَّه لسورة الفاتحة ولبقية سور القرآن الكريم، لذلك فإنّ علماء الشيعة متفقون ومجمعون على جزئيتها في جميع الموارد «2».

ونذكر مثالًا على الأحاديث الواردة من طرق أهل السنة ما ورد عن «جابر بن عبد اللَّه» أنّ النبي صلى الله عليه و آله قال له: «إذا قمت للصلاة فكيف تقرأ؟» فقال جابر: أقول الحمد للَّه ربّ العالمين (أي بدون بسم اللَّه) فقال له النبي صلى الله عليه و آله قل: «بسم اللَّه الرحمن الرحيم» «3».

ومن أجل رفع سوء الفهم والتوهم أصرَّ النبي صلى الله عليه و آله أن يجهر بالبسملة في كثير من الصلوات، تقول عائشة: «ان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان يجهر ببسم اللَّه الرحمن الرحيم» «4».

وفي حديث

آخر يقول أحد أصحاب النبي صلى الله عليه و آله: كنت اصلّي خلف النبي صلى الله عليه و آله وكان

______________________________

(1). سنن البيهقي، ج 2، ص 43- 47.

(2). راجع كتب الخلاف للشيخ الطوسي، ج 1، ص 102 مسألة 82؛ سنن البيهقي، ج 2، ص 44- 45- 46؛ تفسير در المنثور، ج 1، ص 7- 8؛ البيان في تفسير القرآن، ص 552.

(3). تفسير در المنثور، ج 1، ص 8.

(4). المصدر السابق.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 30

يجهر ببسم اللَّه في صلوات المغرب والعشاء والصبح وصلوة الجمعة خاصة «1».

والملفت للنظر ما رواه البيهقي من أنّ معاوية صلى بأهل المدينة فتلا: بسم اللَّه الرحمن الرحيم في أوّل سورة الحمد، ولكن لم يقرأ بسم اللَّه للسورة التي بعدها ولم يكبر حتى ذهب للركوع، فعندما سلّم للصلاة اعترض عليه جماعة من المهاجرين وقالوا: أسرقت من الصلاة أم نسيت؟ فكان معاوية بعد ذلك يقرأ بسم اللَّه للسورة بعد الحمد أيضاً «2».

ولكن مع ذلك فإنّ جماعة من علماء السنة لا زالوا يتركون البسملة في الصلاة وحتى في سورة الحمد أو يقرأونها اخفاتاً!، ومما يلفت النظر أنّ الفخر الرازي ذكر في تفسيره تسعة عشر دليلًا على إثبات أنّ بسم اللَّه الرحمن الرحيم جزء من سورة الحمد وأكثرها روايات عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله.

الآلوسي مفسّر القرآن المعروف ناقش هذه الادلة في تفسيره (روح البيان)، ولكنه يصرّح بأنّ البسملة آية مستقلة في القرآن وإن كانت ليست جزءً من سورة الحمد «3»!

فهو يعترف بأنّ البسملة جزء من القرآن، لكن لا نعلم لماذا يصر على أنّها آية مستقلة وليست جزءً من سورة الحمد؟

ومهما كان فلا يخفى أنّ البسملة موجودة في جميع المصاحف طوال التاريخ الإسلامي في

بداية جميع السور إلّاسورة البراءة، ومن المسلَّم أنّ هذا بأمر من النبي صلى الله عليه و آله ولا يمكن أن نعقل أنّ النبي صلى الله عليه و آله أمر أن يكتب في القرآن شي ء ليس منه، وعلى هذا فلا حجّة لنا إذا فصلنا البسملة من السور لأنّ هذا نوع من أنواع التحريف للقرآن الكريم.

ولهذا يقول الإمام الباقر عليه السلام في مثل هؤلاء: «سرقوا أكرم آيةٍ في كتاب اللَّه: بسم اللَّه الرحمن الرحيم» «4».

______________________________

(1) تفسير در المنثور، ج 1، ص 8.

(2) ذكر «الحاكم» هذه الرواية في المستدرك، ج 1 ص 233 واعتدَّ بسندها، وورد نفس هذا المضمون بتفاوت ضئيل في تفسير درالمنثور، ج 1، ص 8؛ وتفسير روح المعاني، ج 1، ص 39.

(3) تفسير روح المعاني، ج 1، ص 37.

(4) تفسير البرهان، ج 1، ص 42، ح 15.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 31

ويضيف الإمام الصادق عليه السلام: «ما لهم قاتلهم اللَّه عمدوا إلى أعظم آية في كتاب اللَّه فزعموا أنّها بدعة إذا أظهروها وهي بسم اللَّه الرحمن الرحيم» «1»!

ولهذا فقد ورد عن الأئمّة عليهم السلام الاصرار على الجهر ببسم اللَّه الرحمن الرحيم خاصة وفي جميع الصلوات الليلية والنهارية لأجل القضاء على هذه البدعة الموروثة.

وخلاصة الكلام أنّ أهميّة البسملة بين آيات القرآن أوضح من أن تحتاج إلى البحث ولذلك يجب أن نعطيها أهميّة كبيرة، ومن المؤسف أنّ البعض من فاقدى الذوق السليم وخشية من أن تقع كتاباتهم بأيدي الأفراد غير المتوضئين أو أن تُداس بالأقدام أو تقع في الأزقة والأسواق، يمتنعون من كتابة البسملة في رسائلهم وكتاباتهم، ويضعون محلها عدداً من النقاط غافلين عن أنّ سيئة ترك بسم اللَّه أشدّ بكثيرٍ من هذه المساوي ء.

نحن مأمورون بأن نكتبها، وأن

نسعى من أجْلِ المحافظة عليها واحترامها، وإذا لم يراع الآخرون الحرمة اللازمة فلسنا مسؤولين عن أعمالهم، ولا ينبغي لنا أن نترك البسملة لهذا العذر لأنّ الضرر الذي يصيبنا سيكون أكبر.

لذلك ينقل لنا التاريخ أنّ أول سكة ضربت في الإسلام كانت في زمان «عبد الملك بن مروان» وبأمرٍ من الإمام الباقر عليه السلام وكتب على أحد وجهيها «لا اله إلّااللَّه» وعلى الوجه الآخر «محمد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله»، ومن الواضح أنّ هذه السكة تقع في أيدي عامة الناس حتى غير المسلمين الذين كانوا يعيشون في محيط الإسلام، فلم تكن مراعاة هذا الأمر مانعة من ضرب السكة والشعارات الإسلامية الحية ولا ينبغي لها أن تكون «2».

3- لماذا لم تُذكر بسم اللَّه في بداية سورة براءة؟

الجواب على هذا السؤال ورد صريحاً في حديث روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: «لم تُنَزَل بسم اللَّه الرحمن الرحيم على رأس «سورة براءة» لأنّ بسم اللَّه للأمان والرحمة، ونزلت

______________________________

(1) تفسير البرهان، ج 1، ص 42.

(2) تاريخ التمدن الاسلامي، جرجي زيدان، ج 1، ص 143.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 32

براءة لرفع الأمان وبالسيف» «1» يعني رفع الأمان عن الكفار الناكثين للعهود.

ويعتقد جماعة بان هذه السورة تتمة لسورة الأنفال لأنّ سورة الأنفال تتكلم عن العهود ولهذا لم يذكر بينهما «بسم اللَّه الرحمن الرحيم».

وهذا المعنى ذكر في رواية عن الإمام الصادق عليه السلام: «الأنفال والبراءة واحدة» «2».

واحتُمل أيضاً أنّ اللَّه سبحانه ومن أجل أن يبيّن حقيقة أنّ البسملة جزء في جميع سور القرآن لم يذكرها في بداية هذه السورة.

والجمع بين هذه الأقوال الثلاثة ممكن.

وهناك آيات متعدّدة حول البسملة في القرآن وخصوصاً في مورد ذبح الحيوانات، والكلام عنها ينبغي أن يكون في محل آخر.

4- لا تقرنوا اسم اللَّه باسم غيره؟

إنّ القادر المطلق والرحيم الحقيقي هو الذات الإلهيّة المقدّسة سبحانه وتعالى.

وما عالم الوجود إلّامائدة من موائد احسانه، وكل ما لدنيا منه فيجب طلب الحاجة والعون منه والابتداء باسمه، والآيات المتعلقة «ببسم اللَّه» والروايات الواردة في هذا المجال كلها تؤكّد على هذا المعنى

ولهذا فإنّ الذين يقرنون مع اسم اللَّه اسم غيره كالطواغيت الذين يضعون أسماء السلاطين المتجبرين والمتكبرين إلى جنب اسمه سبحانه ويفتتحون بها ويبدأون بها، أو الأشخاص الذين يبدأون أعمالهم باسم (اللَّه) و «الشعب»، كل هؤلاء في الحقيقة مصابون بنوع من الشرك، وحتى اسم النبي صلى الله عليه و آله لا ينبغي أن يُقرن إلى جنب اسم اللَّه في هذا المجال فلا يقال بسم اللَّه ونبيّه.

ففي حديث ورد في تفسير الإمام الحسن العسكري

(عليه السلام): «إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه و آله كان

______________________________

(1). تفسير مجمع البيان، ج 5، ص 2 وهذا الحديث ذكره الفخر الرازي عن ابن عباس عن علي عليه السلام مع اختلاف يسير وقال عليه السلام هناك: لأنّ بسم اللَّه الرحمن الرحيم أمان وهذه السورة نزلت بالسيف ونبذ العهود وليس فيها أمان.

(2). تفسير مجمع البيان، ج 5، ص 1.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 33

جالساً يوماً مع أمير المؤمنين على عليه السلام فسمعا شخصاً يقول «ماشاء اللَّه وشاء محمد» وآخر يقول «ما شاء اللَّه و شاء علي».

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «لا تقرنوا محمداً ولا علياً باللَّه عزّ وجلّ».

ثم اضاف: «ولكن إذا أردتم فقولوا ما شاء اللَّه ثم شاء محمد، ما شاء اللَّه ثم شاء علي»، يعني اعلموا أنّ مشيئة اللَّه قاهرة وغالبة على كل شي ء فليس لها في الوجود من مساوٍ أو نظير أو قرين، وما محمد في دين اللَّه وأمام قدرة اللَّه إلّاكطير يحلِّق في فضاء هذا الكون الواسع وكذلك علي «1».

______________________________

(1) إثبات الهداة، ج 7، ص 482، ح 79 (مع قليل من التلخيص).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 35

نظريةالمعرفة

تمهيد:

إنَّ أول قضية تواجه الإنسان في ابحاثه العلمية هي قضية المعرفة، وأول أسئلة تنقدح في ذهن الإنسان هي:

1- هل هناك عالَم موجود خارج وجودنا أم أنّ ما نسمعه ليس إلّاكالرؤيا والأحلام التي نراها في منامنا وأنّ ما وراء الطبيعة ما هو إلّاوهم وخيال؟

2- إذا كان هناك عالم ما وراء الطبيعة فهل بامكاننا إدراكه ومعرفته؟

3- إذا وجد عالم في الخارج وأمكننا معرفته، فما هي الطرق التي يجب أن نسلكها للوصول إلى معرفته وما هي مصادر معرفته؟

هل أنّ طريق الاستدلالات العقلية كاف لذلك، أم عن

طريق التجربة والعلوم التجريبية الطبيعية؟

أم عن طريق الوحى أو بواسطة طرق اخرى وأيّ هذه الطرق أفضل وأكثر اعتماداً؟

4- أضف إلى ذلك ما هي الوسائل التي نستطيع بها معرفة العالم؟

5- وبعد قبول المسائل المذكورة يطرح هذا السؤال وهو: ما هي الأمور التي تؤدّي إلى تقوية وتوسيع مجالات وآفاق المعرفة عند الإنسان، وتجعل روحه وقلبه أكثر استعداداً لتلقي المعارف؟

وما هي الموانع والعقبات التي تقف حائلًا بين الإنسان والمعارف الحقيقية لعالم الوجود، وتجره إلى الحيرة والضلال؟

نفحات القرآن، ج 1، ص: 36

هل هناك عالم خارج أذهاننا؟

حول هذه المسألة الأُولى انقسم الفلاسفة إلى قسمين:

1- «الواقعيون» (رئاليسم).

2- «المشككون أو المثاليون أو التصوريون» (أيدياليسم).

والقسم الثاني في الواقع هم فرع من السوفسطائيين المنكرين للحقائق بل إنّ البعض يعتقد أنّ السوفسطائيين هم أنفسهم المثاليون الذين يعترفون بوجود أنفسهم وأذهانهم ويعتبرون ما سواه وهماً وخيالًا، وإلّا فكيف يمكن لعاقل أن ينكر كل شي ء حتى وجود نفسه إلّاأن يكون مصاباً بخلل عقلي.

وعلى أيّة حال فإنّ أفضل الطرق لإدراك ما وراء الطبيعة هو ايكال الأمر إلى الوجدان، الوجدان العام لكل الناس ولجميع العقلاء، بل حتى وجدان المثاليين أنفسهم شاهد على هذا المدّعى

لأنّ كل المخلوقات عندما تشعر بالعطش تقوم بالبحث عن الماء، فالعطش والماء وتأثير الماء في رفع العطش امور يدركها حتى الأطفال والحيوانات، والسوفسطائيون أيضاً لا يختلفون في عملهم عن الآخرين، فعندما يريد الإنسان أن يعبر شارعاً مزدحماً يقف جانب الشارع قبل كل شي ء وينظر يميناً وشمالًا، وينتظر حتى يخلو الشارع من السيّارات فيعبر الشارع مع الاحتياط، خشية أن تدهسه سيارة فيصاب بأذىً أو جراح.

هذا العمل يتساوى فيه الواقعيون والمثاليون فالكل يعترف بوجود الشارع والسيارات وخطر الدهس والاصطدام والأمور الاخرى، وكلهم يعبرون الشارع مع الحيطةِ والتحفظ.

وهكذا عندما يمرض الإنسان ويرى

الآثار غير العادية للمرض في نفسه، فيراجع الطبيب فيأمره الطبيب بان يجري له التحليل وبعد ذلك يكتب له الطبيب وصفة الدواء، ويحدد له الغذاء المناسب واوقات تناول الدواء والغذاء ومقاديره، فيرى المريض نفسه مكلفاً بأن يمتثل لهذه الأوامر كي يستعيد صحته السابقة.

وفي كل ذلك لا فرق بين الواقعيين والمثاليين، فالكل يستجيبُون للمرض بواسطة

نفحات القرآن، ج 1، ص: 37

ادراكهم الوجداني ويعترفون بالعشرات من الحقائق العينية، من آثار المرض إلى وجود الطب والطبيب والمختبرات والدواء والغذاء.

وبهذا الدليل نقول «ان المثاليين في الحقيقة واقعيون»!

وان المشككين عندما يردونَ ميدان الحياة يتناسون كلامهم ويرون أنفسهم امام الواقع العيني فيتعاملون معه وفق ما يقتضيه.

وقد أيّد القرآن الكريم في آياته الكريمة صحة هذا المعنى فكلّ آيات القرآن تخبر عن الحقائق والواقع العيني الخارجي، من سماوات وأرض وملائكة وبشر وعالم الطبيعة وما وراءه والدنيا والآخرة.

وإنّ هذا الأمر في القرآن بدرجة من الوضوح والجلاء بحيث لا يحتاج إلى بحث أكثر، لذلك ننهي هذه المسألة وننتقل إلى مسألة إمكان المعرفة «1».

ج ج

______________________________

(1). نؤكّد هنا مرّة اخرى بأنّ هدفنا في جميع مباحث هذا الكتاب ليس متابعة الآراء الفلسفية أو التاريخية أو ... بل هدفنا في الأصل التفسير الموضوعي يعني متابعة البحث من نظر القرآن ومدى انعكاس الموضوع في الآيات المختلفة ... وإذا وجدت ضرورة للبحوث الفلسفية وغيرها فسنفرد لها بحوثاً منفصلة بعنوان توضيحات في الخاتمة.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 39

القرآن و ضرورة المعرفة

40 ملاحظة قرآنية حول أهميّة العلم والمعرفة

نفحات القرآن، ج 1، ص: 41

القرآن وضرورة المعرفة

تمهيد:

اشارة

لم يعتبر القرآن الكريم مسألة معرفة الإنسان لماوراء الطبيعة أمراً ممكناً فحسب بل اعتبرها من أهم الضرورات.

فالقرآن يدعو إلى معرفة أسرار عالم الوجود وحل رموز الكون والمخلوقات، ويستخدم القرآن في دعوته لأتباعه- للتزود بالعلم- الأساليب الصريحة

والظاهرة المباشرة وغير المباشرة.

والبحث فيما صرح به القرآن في هذا المجال يفتح أمام أعيننا افقاً جديداً، ويرينا أنّ أمر المعرفة من الواجبات المؤكّدة وبمستوى عال جدّاً من الأهميّة.

والطريف: إنَّ هذه الدعوة قد جاءت في زمان ومكان كانت قد غطت الافق فيه سحب الجهل الظلماء، حقّاً إنّ عمق وسعة ماورد في القرآن يدل قبل كل شي ء على عظمة القرآن وصدق المبعوث به.

ومن أجل ذلك نطالع آيات القران ونبحث عن ماورد من تعابير مختلفة في هذا المجال.

هذه الدعوة لها وجوه متنوعة وبشكل كامل، وقد جمعنا (أربعين أنموذجاً) من الآيات المختلفة وكل واحد منها ينظر إلى هذه المسألة المصيرية من زاوية خاصة.

وفي الضمن ذكرنا في الحواشي الروايات المعتبرة المتناسبة مع الآيات، ليتضح التنسيق والسنخية الكاملة بين الكتاب والسنة.

ج ج

نفحات القرآن، ج 1، ص: 42

1- وجوب تحصيل العلم

وردت في (27) آية من القرآن المجيد دعوة صريحة للتزود بالعلم، والاستفادة من جملة «اعلموا» إليكم نماذج منها:

1- «فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . (البقرة/ 209)

2- «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَى ءٍ عَلِيمٌ . (البقرة/ 231)

3- «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ». (البقرة/ 233)

4- «اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْىِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا». (الحديد/ 17)

5- «وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرونَ . (البقرة/ 203)

6- «فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ . (المائده/ 92)

7- «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمتُم مِّنْ شَى ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ . (الأنفال/ 41)

8- «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنيَا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ». (الحديد/ 20)

ج ج

الآيات الاولى والثانية والثالثة تنظر إلى الذات الإلهيّة المقدّسة وإلى صفاته الأعم من «صفات الذات» و «صفات الفعل».

الآية الرابعة تشير إلى الحياة والخلق.

الآية الخامسة تتحدث عن القيامة والحشر.

الآية السادسة تتكلم عن النبوة وسالة النبي صلى الله عليه و آله.

الآية السابعة تبين الأحكام العملية الإسلامية.

والآية الثامنة ترينا الوجه الحقيقي

للدنيا وتظهر لنا تفاهتها، كأسلوب للدعوة إلى الزهد والتقوى والنجاة من حُبّ الدنيا وما يترتب عليه من ذنوب.

وبهذا نستنتج أنّ كل ما يرتبط بالعقائد والأعمال ومنهج الحياة قد ورد مشفوعاً بكلمة (اعلموا) وهي تتضمّن دعوة للتسلّح بالوعي والمعرفة في كلّ هذه المجالات «1».

______________________________

(1). ورد أيضاً التأكيد الكثير في الروايات الإسلامية على طلب العلم، والحديث المعروف (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) المروي عن النبي صلى الله عليه و آله شاهد واضح على هذا المعنى، بحار الأنوار، ج 6، ص 117، والإمام الصادق عليه السلام: «طلب العلم فريضة على كل حال»، ج 2، ص 172.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 43

2- التأكيد المتواصل على عدم ترك التفكر

تارة يقول سبحانه: «أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ . (الأنعام/ 50)

وتارة يقول بعد بيان الآيات الإلهيّة المختلفة الأعم من التكوينية والتشريعية: «لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ «لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ . (البقرة/ 219) و (الاعراف/ 176)

وأحياناً يقول: «أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا». (الروم/ 8)

كل هذه الآيات تدلّ على ضرورة التفكر، وهذه الضرورة في التفكر تدلّ على إمكان المعرفة «1».

3- التأكيد على لزوم التعليم والتعلم

جاء في سورة التوبة:

«فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّيْنِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِم لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ . (التوبة/ 122)

هذه الآية الكريمة لا تؤكد على تعلّم الدين الإلهي فحسب بل تحث على تعليمه ونشره بعد تعلمه أيضاً.

والتعبير ب (نفر) تطلق على الخروج إلى ميدان الجهاد وقد استعمل في الآيات القرآنية الاخرى بهذا المعنى وعلى هذا فإنّ أفراد الأُمة الإسلامية في غير الحالات الضرورية لا يجوز لهم الخروج بأجمعهم إلى ساحة القتال، بل ينبغي على مجموعة منهم أنْ تبقى في المدينة لتتعلم الأحكام الإلهيّة وتعلّمها للآخرين بعد رجوعهم.

______________________________

(1). جاء في حديث عن النبي صلى الله عليه و آله: «اغدُ عالماً أو متعلماً أو مستمعاً أو محبّاً ولا تكن الخامس» المحجة، ج 1، ص 22.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 44

والتفسير الآخر للآية هو: أنّ المسلمين يجب أن ينقسموا إلى قسمين: قسم يبقى في المدينة ليحافظ عليها، وقسم يذهب إلى ميدان الجهاد ليُشاهدَ آثار العظمة الإلهيّة والمعجزات والامدادات الغيبية والنصر الإلهي، ثم وبعد رجوعهم يُخبروا سائر الناس بذلك.

وهناك احتمال ثالث في تفسير الآية وهو ضرورة نفير بعض سكان ضواحي المدينة إليها ليتفقهوا في أحكام الدين وتبليغها للآخرين عند الرجوع، ومكث البعض الآخر في تلك المناطق لحفظ نظام الحياة هناك «1».

ولكلِّ تفسير ميزة لا توجد في التفسير الآخر «2».

ولكنْ بغضّ النظر عن الاختلاف في التفاسير، فإنّ ما نسعى

لإثباته- وهو وجوب التعلم والتعليم- ثابت بلا منازع، وتأكيد القرآنِ على هذين الواجبين دليل واضح على إمكان وضرورة المعرفة «3».

ج ج

4- العلمُ والمعرفة هما الهدف من خلق العالم

«اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَموَاتٍ وَمِنَ الْارْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْامْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا انَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَىْ ءٍ قَديرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْ ءٍ عِلْماً». (الطلاق/ 12)

لقد شرحنا المراد من السماوات السبع والأرضين ما فيه الكفاية في التفسير «الأمثل» «4».

______________________________

(1). تفسير الكبير، ج 16، ص 225؛ تفسير الميزان، ج 9، ص 427؛ تفسير مجمع البيان، ج 5، ص 83.

(2). في التفسير الأول مرجع الضمير في جملة (ليتفقهوا) و (لينذروا) اسم محذوف والتقدير هو «وتبقى طائفة»، وهذا فيه حذف، والحذف يعتبر خلاف الظاهر. بينما (نفر) جاء بمعنى الجهاد هنا، هذه نقطة قوة التفسير الأول. في التفسير الثاني مرجع الضمير مذكور وهو (طائفة)، لكنّ الثاني ضعيف لأنّ ميدان الجهاد ليس محلًا للتعلم إلّابالتوجيه الذي ذكر، وفي التفسير الثالث يقدر المحذوف، لكنه يتفق مع الروايات التي تفسر النفير (بالهجرة للتفقه في الدين). «ذكر في تفسير الثقلين 9 روايات في هذا المجال».

(3). يقول الإمام الصادق عليه السلام: «لوددتُ أن اصحابي ضربتُ رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا» (اصول الكافي، ج 1، ص 31).

(4). بالنسبة للسموات السبع يرجع إلى ذيل الآية 29 من سورة البقرة وبالنسبة للارضين السبع إلى ذيل الآية 12 من سورة الطلاق.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 45

وكيفما كان فإنّ الآية تبين بوضوح حقيقة أنّ أحد أهداف الخلق هو العلم والمعرفة، وتعريف الإنسان بعلم اللَّه وقدرته وصفاته وذاته، وهذه الآية صريحة في بيان إمكان المعرفة إلى حدٍ بعيد «1».

5- الهدف من بعثة الأنبياء هو التعليم والتربية

إنّ القران الكريم ذكر هذه المسألة بشأنِ الرسول الكريم صلى الله عليه و آله عدة مرّات، من جملتها ما جاء في سورة البقرة:

«كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا ويُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ويُعَلِّمُكُمْ مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ . (البقرة/ 151)

وقد

جاء هذا المعنى في كلّ من الآيات 129 من سورة البقرة و 164 من سورة آل عمران و 2 من سورة الجمعة.

فإذا كانت المعرفة غير ممكنة،: فكيف أمكن أن تشكل المعرفة أحد الأهداف المهمّة لبعثة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله «2».

6- التفكّر والتدبّر هو الهدف من نزول القرآن

«كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أوُلُوا الْالْبَابِ . (ص/ 29)

«أَفَلَا يَتَدَبَّروُنَ الْقُرآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا». (سورة محمد/ 24)

______________________________

(1). جاء في حديث أنّ الإمام الحسين بن علي عليه السلام خاطب أصحابه قائلًا: «أيّها الناس إنّ اللَّه جلّ ذكره ما خلق العباد إلّاليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة ما سواه» (بحار الأنوار، ج 50، ص 312).

(2). يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «كفى بالعلم شرفاً أن يدَّعيه من لا يحسنه ويفرح إذا نسب إليه وكفى بالجهل ذمّاً أنْ يبرأ منه مَن هو فيه» (بحار الأنوار، ج 1، ص 185).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 46

مادتها (دُبُر) وتعني ظهر الشي ء، ومن ثم استعملت بمعنى التفكّر والتفكير بعواقب الامور، وذلك لأنّ عواقب الامور ونتائجها تتّضح بالتفكّر.

إنّ الآية الاولى أوضحت أنّ التدبر هو هدف نزول القرآن كي لا يقتنع الناس بقراءة الآيات ككلمات مقدسة فحسب وينسوا الهدف الأخير منها.

والآية الثانية اعتبرت ترك التدبر دليلًا على أقفال القلوب وتعطيل الحس.

وعلى أيٍّ فإنّ هاتين الآيتين دعوة عامة للتدبر، دعوة تثبت بوضوح إمكانية المعرفة «1».

7- المعرفة هي الهدف من المعراج

«سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ». (الاسراء/ 1)

ونفس معنى الآية هذه ورد في سورة النجم، حيث تحدثت عن المعراج بأسلوب آخر، والآية هي:

«لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرى . (النجم/ 18)

تبين هاتانِ الآيتان- على الأقل- أحد الأهداف المهمّة لمعراج النبي صلى الله عليه و آله وهي قضية رؤية آيات الحق الكبرى الرؤية التي تعتبر أهم مصادر المعرفة «2».

8- الدعوةُ للإسلام بدأت بالدعوة للعلم

«إِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ* خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَم الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم . (العلق/ 1- 5)

إنّ هذه الآيات التي تعتبر أول أنوار الوحي التي شعّت في قلب الرسول الطاهر صلى الله عليه و آله في

______________________________

(1). يقول الإمام الكاظم عليه السلام لهشام بن الحكم: «ما بعث اللَّه أنبياءه إلى عباده إلّاليعقلوا عن اللَّه فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة». (أصول الكافي، ج 1، ص 16).

(2). للتفصيل راجع التفسير الأمثل، ذيل الآيه 18 من سورة النّجم.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 47

غار «حراء» في جبل «ثور»، بدأت بقضية المعرفة وختمت بها.

إستهلّت الآيات بِحَث الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله على القراءة التي هي احدى وسائل المعرفة، وختمت بالبحث عن المعلِّم الأعظم للكون أي اللَّه الذي يُعتبر الإنسان تلميذه المُبْتَدِى ء.

أليست هذه كلها دلائل واضحة على إمكانية المعرفة؟!

ج ج

9- العلم نور وضياء

«قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ». (الرعد/ 16)

«وَمَا يَسْتَوِى الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ* وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ* وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ». (فاطر/ 19 و 21)

إنّ هذه الآيات جعلت الظلمات في عداد العمى والنور في عداد البصر، وهي إشارة إلى أنّ العلم نور وضياء، والجهل يساوي العمى وهي من أجمل التعابير للتشجيع على المعرفة «1».

10- إدراك أسرار الوجود خاصّ بالعلماء

«وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِى ذلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ . (الروم/ 22)

«وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ . (العنكبوت/ 43)

في الآية الأولى عُدَّ إدراك اسرار كتاب التكوين خاصاً بالعلماء وفي الثانية عُدَّ فهم كتاب التدوين خاصاً بهم كذلك.

وهذا تشجيع لطلب العلم والمعرفة من جهة، ودليل على مسألة المعرفة من جهة أخرى

ج ج

______________________________

(1). يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: «العلم نور يقذفه اللَّه في قلب من يريد أن يهديه». (الوافي، ج 1، ص 7).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 48

11- اللَّه أول معلّم

«وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا». (البقرة/ 31)

«الْرَّحْمنُ* عَلَّمَ الْقُرآنَ* خَلَقَ الإِنْسَانَ* عَلَّمَهُ الْبَيَانَ . (الرحمن/ 1- 4)

«الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . (العلق/ 4)

«عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَم يَعْلَمْ . (العلق/ 5)

إنّ معلم الكون العظيم تارة يعلم آدم الأسماء، وتارة اخرى يعلم الإنسان ما يحتاجه ومالم يعلمهُ (بواسطة التكوين والتشريع).

وتارة يوعز للإنسان بتناول القلم لِتَعلّمِ الكتابة، وتارةً اخرى يجري على لسانه حرفاً أو حرفين ويعلمه الكلام، وهذا يكشف عن احدى صفاته عزوجل هي تعليم العباد، التعليم الذي هو وسيلة للمعرفة.

ج ج

12- بالعلم يتميَّز الإنسان عن الموجودات الأُخرى

«قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا انْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ اقُلْ لَّكُمْ إِنِّى أَعْلَمُ غَيْبَ السَّموَاتِ وَالْارْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ . (البقرة/ 33)

إنّ هذا الخطاب الذي ورد في الآية كان موجهاً للملائكة بعد أن أمرهم بأن يسجدوا ويخضعوا لخليفته (آدم) عندما خلقه، لكي يوقروه بعد علمهم بمكانته وتفوقه عليهم، وقد فهم الملائكة أهلية آدم عليه السلام لخلافة اللَّه سبحانه وتعالى في الأرض بعد أن وجدوا فيه القابلية والاستعداد لتقبل العلم والمعرفة بأقصى درجاتهما، كما أعربوا عن شديد أسفهم وندمهم حيال ما ساورهم من تردد أو استفسار عن أهليته للخلافة الإلهيّة في بادى ء الأمر «1».

ج ج

______________________________

(1). يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: «أكثر الناس قيمة أكثرهم علماً وأقل الناس قيمة أقلهم علماً». (بحارالأنوار، ج 1، ص 164).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 49

13- درجاتُ القرب من اللَّه تتناسبُ مع درجات المعرفة

«يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ . (المجادلة/ 11)

بدأت الآية بالحديث عن الاصول الأخلاقية في آداب المجلس، ثم عن درجات العلماء والمؤمنين بعنوان النتيجة والجزاء لعملهم بهذه الاصول الأخلاقية.

«الدرجات» جمع «درجة» وهي تستعمل للسلم عندما يرتفع إلى الأعلى تقابلها «الدركات» جمع «دركة» التي تستعمل لنفس السلم عندما ينزل إلى الأسفل كسلم السرداب (الطابق الأسفل).

إنّ استعمال «درجات» نكرةً ايحاءٌ إلى عظمة تلك الدرجات، واستعمالها جمعاً لا مفرداً يمكنه أن يكون إشارةً إلى اختلاف درجات العلماء.

بالطبع أنّ الرفع هنا لم يقصد به الرفع المكاني، بل السمو في طريق القرب من الساحة الربانية.

استنتج العلّامة الطباطبائي رحمه الله في تفسير (الميزان) أنّ المؤمنين قسمان:

قسم (المؤمنون العالمون) وقسم (المؤمنون غير العالمين)، والمؤمنون العالمون أفضل درجة من المؤمنين غير العالمين ثم استدل بالآية: «هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذينَ لَا يَعْلَمُونَ . (الزمر/ 9)

ويحتمل

أنّ الآية تشير إلى علاقة الإيمان بالعلم «1»، وسنشير إلى هذه الآية تفصيلًا إن شاء اللَّه «2».

14- الأنبياء يُطالبون بعلم أكثر

«وَقُلْ رَّبِّ زِدْنِى عِلْماً». (طه/ 114)

______________________________

(1) تفسير الميزان، ج 19، ص 216.

(2). جاء في حديث الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ الثواب بقدر العقل». (بحار الأنوار، ج 1، ص 84).

نفحات القرآن ج 1 100

نفحات القرآن، ج 1، ص: 50

إنّ الآية الكريمة تخاطب الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله وتدعوه إلى طلب العلم بالرغم من أنّ الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله يحضى بمقام علمي شامخ وعظيم، وهذا يكشف عن أنّ الإنسان لا تقتصر عملية طلبه للعلم على مرحلة من المراحل، بل إنّ طريق العلم مستمر وليس له نقطة انتهاء.

«قَالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْداً». (الكهف/ 66)

فموسى عليه السلام بالرغم من أنّه من اولي العزم وبالرغم من انشراح صدره بمقتضى الآية:

«رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى . (طه/ 25)

وبمقتضى الآية «ولَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً». (القصص/ 14)

وبالرغم من هذا المقام العلمي الرفيع، إلّاأنّه كان مطالباً بأن يخضع أمام «الخضر» ويتعلم منه كالتلميذ.

وعلى أي حالٍ، فإنّ هذه الآيات أدلة واضحة على إمكانية وضرورة طلب العلم، والسعي المستمر في طريق التعلم والمعرفة «1».

15- المعرفة مفتاح نجاة الإنسان

«قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للَّهِ مَثْنى وَفُرَادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا». (سبأ/ 46)

إنّ خطاب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في هذه الآية موجه لأعدائه المنغمسين في الكفر والشرك، ومختلف أنواع الفساد الأخلاقي.

وقد بيّن لهم أنّ مفتاح نجاتهم من هذا المستنقع الخطر هو التفكّر والعلم الذي هو طريق وسبيل المعرفة.

وعلى هذا الأساس بالامكان معرفة جذور أي ثورة وأي تحول أساسي في المجتمعات البشرية من خلال معرفة ثوراتهم الفكرية والثقافية.

______________________________

(1). يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «العلم ميراث الأنبياء والمال ميراث الفراعنة». (بحار الأنوار، ج 1، ص 185).

نفحات القرآن، ج 1،

ص: 51

فلو كانت المعرفة غير ممكنة فلماذا التفكير؟ بالخصوص بعد حصر الموعظة بالتفكّر وذلك باستعمال «إنّما» التي تفيد الحصر، وهنا يثبت أنّ مفتاح النجاة هو المعرفة فقط!

لكن هذا التفكر سواءاً كان- جماعياً أو فردياً- ينبغي أن يكون متزامناً مع القيام للَّه وفي سبيله، ولهذا يقول «انْ تَقومُوا للَّه أي بعيداً عن التعصب والعناد، والهوى النفساني الذي سيأتي شرحه في موانع المعرفة إن شاء اللَّه.

وقد أكّد النبي يوسف عليه السلام على هذا الموضوع، وقال عند جلوسه على عرش السلطة في مصر:

«رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّموَاتِ وَالْارْضِ أَنْتَ وَلِىِّ فِى الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ . (يوسف/ 101)

من الملفت للنظر هنا هو أن علم تعبير المنام من العلوم ذات الأهميّة القليلة، وبالرغم من ذلك فإنّ قصة يوسف عليه السلام في القرآن تكشف بوضوح عن أن علمه بتعبير الرؤيا أدّى إلى إنقاذه من سجن عزيز مصر، كما أدى إلى إنقاذ مصر من القحط والمجاعة، لأنّ العزيز رأى مناماً عجيباً عجز المفسرون عن تأويله، إلّاأنّ أحد السجناء الذين قد أُطلق سراحهم وسبق ليوسف انْ فَسَّرَ رؤياه في السجن كان حاضراً في البلاط آنذاك فقال: إنّي أعرف من يفسّر الرؤيا جيداً، وعندما فسّر يوسف عليه السلام له ما رآهُ في منامه الذي يتعلق بالامور الاقتصادية لسبع سنوات مقبلة، أطلق سراحه وتهيَّأت مقدمات حكومته من جهة، ومن جهة اخرى استطاع أن يضع برنامجاً دقيقاً لانقاذ أهل مصر من المجاعة خلال سنوات القحط المقبلة.

إنّ الآية السابقة التي تحدثت عن علم تأويل الأحاديث (في المنام) بعد حديثها عن ملك يوسف (حكومته)، يمكن أنّها تشير إلى العلاقة بين هذين الاثنين.

وكيفما كان فإنّ هذه الآية توحي بأنّ مفتاح

النجاة هو العلم والمعرفة.

وحتى أنّ أبسط العلوم يمكن أن يكون سبباً لانقاذ دولة «1».

ج ج

______________________________

(1). يقول الإمام علي عليه السلام مخاطِباً كميل: «يا كميل ما من حركة إلّاوأنت محتاج فيها إلى معرفة» (تحف العقول، ص 19).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 52

16- العلم فخر بجميع أشكاله

«وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذى فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤمِنِينَ* وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا ايُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَىْ ءٍ إِنَّ هذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ . (النمل/ 15 و 16)

بالرغم من ملك وعظمة «سليمان» و «داود» اللذيْن لم يكن لهما مثيل بل ويحتمل عدم قيام حكومة كحكومتهما على مرّ التاريخ كما في الآية 35 من سورة (ص) «وَهَبْ لِى مُلْكاً لَا يَنْبَغِى لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِى خصوصاً وأن حكومتهما لم تخص الانس، بل امتدت حتى شملت الجنّ والحيوانات وحتى القوى الطبيعية كالريح، مع هذا كله فاللَّه عندما يَهَبُ نعمه إلى الوالد وولده، يبدأ بنعمة العلم والمعرفة، لذا كانا يشكرانه لما فضّلهما على كثير من عباده (يحتمل أن يكون الشكر بهذا الاسلوب) «على كثير من عباده» لا غير لأنّه كان هناك من أُتُوا علماً أوفر مما أوتيَ سليمان وداود)، والجدير بالذكر هو أنّ (سليمان) بالرغم من ملكه العظيم «بحيث إنّ كل من شك في ذلك ضحكت على عقله الطيور والأسماك»، رغم هذا، فانه كان يفتخر بعلوم قليلة الأهميّة مثل معرفته بلغة الطيور قبل افتخاره بملكه وحكومته ومواهبه الإلهيّة الاخرى.

إنّ هذه النصوص الجميلة تُبيّنُ عظمة مقام العلم بجميع أبعاده، وهو بنفسه دليل واضح على إمكانية وضرورة المعرفة «1».

17- المعرفة شرط أساسي للادارة والقيادة

عندما اقترح على يوسف التصدي لمسؤولية مهمة في حكومة مصر، قال:

«إِجْعَلْنِى عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ . (يوسف/ 55)

عندما أعلن بنو اسرائيل عن استعدادهم لمقارعة الملك الظالم آنذاك «جالوت» الذي شردهم، طالبوا نبيّهم بأن يعين لهم قائداً كي يجاهدوا «جالوت» الظالم، تحت رايته، قال لهم النبي:

______________________________

(1). جاء في حديث للإمام الصادق عليه السلام: «العلم أصل كل حال سني ومنتهى

كل منزلة رفيعة» (المحجة البيضاء، ج 1، ص 68).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 53

«انَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادهُ بَسطَةً فِى الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ . (البقرة/ 247)

والجدير بالذكر إنّ «طالوت» الذي كُلِّفَ بمهمة قيادة بني اسرائيل لمقارعة الملك القوي والظالم، كان قروياً مجهولًا يعيش في احدى القرى الساحلية وكان يرعى مواشي أبيه ويزرع!

لكنّه كان ذا قلبٍ واعٍ، وجسم قوي، ومعرفة دقيقة وعميقة بكثير ممّا يجري حوله، ولهذا عندما رآه النبي «اشموئيل» عينّه قائداً على بني اسرائيل ولم يعبأْ باعتراضاتهم على تعيينهِ، تلك الاعتراضات الناشئة عن معايير وهمية في انتخاب القائد كامتلاك الثروة والأموال الطائلة والسمعة والتقاليد الموروثة من الآباء، حيث كانوا يعترضون بأنّه مع ما عندنا من أشخاص ذوي سمعة وثروة، وهم أجدر من طالوت لهذه المسؤولية، فكان يجيبهم النبي: إنّ هذا الاختيار هو انتخاب الهيّ، والكل يجب أن يسلّم لأمره.

إنَّ هاتين الآيتين تدلان بوضوح على أنّ المعرفة والعلم من عناصر القيادة والإدارة، وتؤكدان ما قلناه عن المعرفة حتى الآن «1».

18- العلم منبع الإيمان

«وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِى أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِى إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ». (سبأ/ 6)

«إِنَّ الّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً* وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِنَا لَمَفعُولًا». (الاسراء/ 107- 108)

«فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسى . (طه/ 70)

«وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ اوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَّبِّكَ فَيُؤمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ...».

(الحج/ 54)

______________________________

(1). يقول الإمام الصادق عليه السلام: «الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على

الملوك».

نفحات القرآن، ج 1، ص: 54

«... وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقوُلُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبَابِ . (آل عمران/ 7)

إنَّ الآية الأخيرة تلقي الأضواء على العلاقة الوثيقة بين العلم والإيمان، وتبيّن بأنّ المطلع والمتبحر هو الأرسخ في الإيمان والتسليم «1».

إنَّ هذه الآيات تبين بوضوح أن المعرفة هي إحدى السّبل المؤدية إلى الإيمان، والإيمان الذي ينبع منها سيكون راسخاً قوياً ومتجذراً إلى مستوىً بحيث نقرأ في قصة موسى عليه السلام السحرة في عصر فرعون، أنّ إيمانهم بموسى عليه السلام كان بسبب معرفتهم بأنّ ما جاء به موسى عليه السلام لم يكن سحراً، فما كان من فرعون إلّاأنْ هدّدهم بشدّة قائلًا لهم: «آمنتُم لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ؟!» فالطغاة يريدون التحكم حتى بعقول الناس وإيمانهم القلبي وفهمهم ولا يتصرف أحدٌ بأي شي ء إلّاباذنٍ منهم، وقد جاء في تهديد فرعون لهم أنّه قال:

«فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ ...». (طه/ 71)

لكنهم كانوا بدرجة من الصمود بحيث كانوا يقولون له:

«لَنْ نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِى فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ». (طه/ 72)

وفعلًا فقد نفّذ فرعون وعيده الذي قطعهُ على نفسه بالإنتقام من السحرة المؤمنين، واستشهدوا من أجل المعتقد الذي ذابوا فيهِ عشقاً ونالوا مبتغاهم الاسمى وهو الشهادة.

يقول المفسر الكبير المرحوم الطبرسي إنّهم: «كانوا في أول النهار كفاراً سحرة وفي آخر النهار شُهَداء بَرَرَةٌ».

إنَّ ثمرات العلم له تنحصر بالإيمان فحسب بل تشمل الإستقامة والصمود أيضاً. «2»، «3»

______________________________

(1) ما ذكرناه حقيقة لا تنكر سواء قلنا بأن كلمة «الراسخون» معطوفة على «اللَّه»، أو قلنا بأنها مبتدأ وخبرها الجملة اللاحقة، لأنّه على كلا الفرضين، الضمير في «يقولون» يرجع إلى «الراسخون في العلم» وبه تتّضح

العلاقة بين الإيمان والعلم في الآية.

. (2) يعتقد البعض أنّ «العلم» والإيمان» شي ءٌ واحد. فإذا كنا نعلم بأنّ هناك خالقاً لهذا العالم وهو قادر وعالم، فنفس هذا العلم إيمان به، لكن المحققين يقولون بفصل الإيمان عن العلم، لأنّ الإيمان يمكن أن يكون ثمرة من ثمار العلم (وليس الثمرة الضرورية والدائمية) لكنه ليس عين العلم والإيمان التسليم القلبي والقبول والاعتراف الرسمي، بينما كثيراً ما يحصل أن يعتقد الإنسان بشي ء ولم يسلم به، كما يحكي القرآن عن البعض في سورة النمل الآية 14 «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمَاً وعُلُوّاً» ..

(3) يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: «العِلمُ حياة الإسلام وعماد الإيمان». (كنز العمال، ج 10، ص 181).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 55

19- العلم منشأ تقوى اللَّه وخشيته

«إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ». (فاطر/ 28)

يقول الراغب في مفرداته «الخشية هي الخوف الذي يكون متزامناً مع التعظيم، وغالباً ما ينشأ عن العلم».

«وَاتَّقُونِ يَا أُولِى الْالْبَابِ . (البقرة/ 197)

إذ لم تكن هناك علقة بين «العلم» و «التقوى لم يخاطب اللَّه سبحانه وتعالى «أولو الألباب» داعيهم للتقوى في الآية، وهذا الخطاب دليل على هذه العلقة المباركة.

«فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِى الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . (المائده/ 100)

«كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ . (البقرة/ 187)

إنَّ هذا التعبير في الآية الأخيرة يدل بوضوح على أنّ اللَّه تعالى يبين الآيات كمقدمة لإيجاد الوعي لدى الناس، والوعي يكون أحد سُبل التقوى

بالطبع ليس كلما كان العلم كانت التقوى لأنّ هناك علماء غير عاملين، لكن المتيقن أنّ العلم مقدمة وأرضية خصبة للتقوى ويعتبر من المصادر الأساسية للتقوى وَالتقوى غالباً ما تكون قرينة العلم، العلم الذي يكون مقروناً بالإيمان سيكون منشأً للتقوى كذلك.

والعكس بالعكس، فالجهل غالباً

ما يؤدى إلى نفي التقوى والورع «1».

20- العلم منشأ الزهد

«وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ . (القصص/ 80)

______________________________

(1) يقول أمير المؤمنين عليه السلام «أعظم الناس علماً أشدّهم خوفاً من اللَّه». (غرر الحكم، الحكمة 326).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 56

أشارت هذه الآية التي جاءت في أواخر سورة القصص إلى قصة (قارون) ونقلت نصيحة علماء بني اسرائيل لكافة الناس، الذين تمنوا امتلاك ثروة قارون عند استعراضه لثروته.

فعندما شاهد أهل الورع من علماء بني اسرائيل تَعَلُّقَ الناس بالدنيا وحبهم الشديد لها وارتباطهم الوثيق بها خاطبوهم قائلين: ويلكم يا عبدة الدنيا! لا تخدعكم الثروة وبهارج الدنيا، فالجزاء الإلهي خير لكم في الدنيا والآخرة إن عملتم صالحاً وكنتم مؤمنين، لكن لا ينالُ هذا الثواب الإلهي إلّاالصابرون الرافضون الظلم والاغراءات المادية.

إنّ عبارة (اوتوا العلم) تدل بوضوح على وجود علاقة بين (الورع والزهد) من جهة والعلم والمعرفة) من جهة اخرى، وأنّ العارفين بزوال الدنيا وحقارة الثروات المادية في قبال الجزاء الإلهي وخلود الآخرة، فانّهم لا ينخدعون بالماديات ولم يتمنوا ثروة قارون «1».

21- التطور المادي مرهون بالعلم

«قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِى . (القصص 78)

الكلام الذي ورد في الآية الكريمة قاله قارون الغني والمغرور والأناني عندما نصحه علماء قوم موسى أَن استثمر ثروتك في مجال منافع العباد ولا تنسَ نصيبك من الدنيا، وأحسن لعباد اللَّه كما أحسنَ اللَّه اليك ولا تتخذ ثروتك وسيلة للفساد.

لكنه أجاب قائلًا: إنّي جمعت هذه الثروة بفضل علمي ومعرفتي.

والذي ينبغي ذكره هنا هو أنّ اللَّه لم ينفِ ادّعاءهُ هذا.

بل يقول تعالى «اوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً». (القصص/ 78)

______________________________

(1). يقول الإمام الصادق عليه السلام: «إنَّ ممّا خاطب اللَّه به

موسى بن عمران قال: إنّ عبادي الصالحين زهدوا فيها بقدر علمهم بي». (بحار الأنوار ج 18، ص 339).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 57

إنَّ هذا التأييد الضمني يكشف أنّ لقارون علماً تمكن بواسطته أن يجمع ثروته العظيمة (سواء كان ذلك العلم هو علم الكيمياء- كما يدعي بعض المفسرين أو كان معرفته لقواعد وفنون التجارة والأعمال).

إنَّ المسلَّم به هو أنّ ادعاء قارون لم يصلح حجة لمنع انتفاع الناس بثروته، وذلك أنّ الإنسان مهما كانت لديه من مؤهلات وقابليات، لا يمكنه لوحده أن يكسب ثروة بهذا الحجم فلابدّ أنّه قد استفاد من الآخرين في سبيل تحصيلها، لذا فهو مَدينٌ للمجتمع ولتعاونهم معه.

وعلى أي حالٍ، فإنّ ما تبينه هذه الآية هو وجود علاقة بين «العلم المادي» والتطور المادي»، وهذا ما نشاهده بوضوح في عصرنا الحاضر، حيث إنّ أقواماً تقدموا مادياً في مجال الصناعة والحضارة المادية وذلك بفضل علومهم وتقنيتهم وصناعاتهم «1».

22- العلم مصدرالقوة أو (العلم قوّة)

«قَالَ الَّذِى عِنْدَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّى . (النمل/ 40)

هذه الآية لها علاقة بقصة سليمان وملكة سبأ، فعندما أراد سليمان أن يأتي بعرشها، تعهد عفريتٌ من زعماء الجنّ بأن يأتي به قبل أن يقوم سليمان من مجلسه، لكن وزير سليمان «آصف بن برخيا» الذي كان عنده علم من الكتاب، والذي كان علمه يمكنه من القيام بأعمال خارقة للعادة قال لسليمان: إنّي استطيع أن آتي به قبل أن يرتد إليك طرفك وفعل ما قال، فشكر سليمان ربّه على الفضل الذي آتاه إيّاه من الأنصار والأعوان والأصدقاء.

وهذه الآية وإن جاءت في مورد خاص، لكنها تكشف بوضوح عن العلاقة الموجودة بين العلم والقوّة، وترغب وتشجع على

كسب العلم «2».

______________________________

(1). يقول الإمام علي عليه السلام: «لا غنى أخصب من العقل ولا فقر أحط من الحمق». (اصول الكافي، ج 1، ص 29).

(2). يقول الإمام الصادق عليه السلام: «العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس». (اصول الكافي، ج 1، ص 290).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 58

23- العلم و التزكية

«رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . (البقرة/ 129)

ما ورد في الآية الكريمة الذي يعد بمثابة دعاءٍ دَعا به «إبراهيم» و «إسماعيل» عليهما السلام في ضمن أدعية دعيا بها اللَّه، يكشف بوضوح عن العلاقة الوثيقة بين «العلم والحكمة» من جهة، و «التزكية والتربية» من جهة اخرى وقد تقدم العلم هنا على التزكية.

لكن في الآيتين التاليتين واللتين تناولتا منهج الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله بعد البعثة، تقدمت التزكية على العلم فيهما، حيث يقول اللَّه تعالى هناك:

«لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُّبينٍ . (آل عمران/ 164)

كما أنّ الآية الثانية من سورة الجمعة تشبه الآية المتقدّمة مضموناً.

الظاهر أنّ الاختلاف في التعبير حين يقدم العلم على التزكية تارة والتزكية على العلم تارة اخرى ناشى ءٌ من التأثير المتبادل بين هذين الاثنين، فإنّ العلم مصدر التربية الأخلاقية، والتربية الأخلاقية تصلح لأنّ تكون في- بعض مراحلها- مصدراً للعلم.

وعلى هذا، فكل منهما يهيى ء الأرضية للآخر، وهذا هو معنى التأثير المتبادل للعلم والتزكية (وسيأتي شرح هذا الموضوع في بحث مؤهلات المعرفة إن شاء اللَّه) «1».

24- علاقة العلم بالصبر

«وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً». (الكهف/ 68)

هذا الحديث نطق به العالم الرباني (الخضر) مخاطباً به موسى بن عمران، عندما سأله أن

______________________________

(1). يقول أمير المؤمنين في حديث له حول العلم: «ومن ثمراته التقوى واجتناب الهوى ومجانبة الذنوب». (بحار الأنوار، ج 78، ص 6).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 59

يعلمه من علومه، فاجابه الخضر: إنّك لم تَحُط بأسراري وألغاز أعمالي، ولن تتحملها وذلك لقلّة احاطتك ومعرفتك.

وهذا التعبير

يبين بوضوح أنّ عدم العلم والمعرفة يؤدّي إلى نفاد صبر الإنسان.

بالطبع أنّ الصبر قد يكون مصدراً لزيادة العلم والمعرفة، وعليه فهذان الإثنان بينهما تأثير متبادل كما يصرح بذلك القرآن في عدد من الآيات:

«إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ».

(ابراهيم/ 5)، (لقمان/ 31)، (سبأ/ 19)، الشورى 33)

ومن الواضح أن طريق العلم والمعرفة طريق صعب ملي ءٌ بالمنغّصات، ولا يمكن أن يدرك العلم إلّابالصبر والتحمل والصمود، وأنّ العلماء والمخترعين والمكتشفين لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه إلّابالمثابرة والصبر.

25- العلم والمعرفة خير كثير

«يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْراً كَثيراً». (البقرة/ 269)

وكلمة «الحكمة» مشتّقة من مادة «حَكْم» على وزن (خَتْم) وتعني الصدّ والمنع بهدف الإصلاح ولهذا يقال لزمام الحيوان «حَكَمَة» على وزن (شَجَرة)، وبما أنّ العلم والمعرفة يحول دون اتخاذ الإنسان سلوكاً مشيناً، فلهذا سميت «حكمة».

كما أنّ «العقل» يعني الامساك والحفظ، ولهذا قيل للحبل الذي تُربط به رِجلا الجمل «عقال»، فالعقل قيل له عقلًا لأنّه يصون الإنسان من الانحراف عن جادة الصواب.

وعلى أيّة حال، فإنّ القرآن الكريم وصف العلم بأبلغ وأجمل توصيف حيث قال (خيراً كثيراً)، وهذا التعبير يشمل جميع النِعَم والمواهب الإلهيّة المادية منها والمعنوية.

إنَّ المستخلص من خمسة وعشرين عنواناً ذكر حتى الآن حقيقة بيّنه واضحة وهي: إنّ القرآن وبالاستعانة بعبارات شيقة ولطائف البيان يحثّ الإنسان على طلب العلم والمعرفة

نفحات القرآن، ج 1، ص: 60

ويعدّهما أفضل موهبة ونعمة إلهية، ويستفاد من التعبيرات السابقة بالدلالة الالتزامية أنّ طريق العلم مفتوح للجميع، ولا شي ء أنفع منه، وهذا هو الشي ء الذي نحن بصدده «1».

والآن ننتقل إلى عناوين اخرى تدور حول محور «الجهل» وبملاحظة آثاره السلبية والمدمرة، نشق طريقنا نحو العلم والمعرفة وما ينتح عنهما من آثار إيجابية وحيوية.

26- أصحاب السعير هم الجاهلون

«وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ والْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّايَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّايَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْانْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ . (الاعراف/ 179)

إنَّ كلمة «ذرأ» مأخوذة من مادة ذَرْء على وزن (زَرْع) وتعني الخلق، لكن المستخلص من «مقاييس اللغة» أنّ أصلها يعني «نثر البذور».

ويحتمل لهذا السبب ذكر الراغب في «مفرداته» أن معناها الأصلي هو «الاظهار والايضاح»، بينما قال البعض كما في «التحقيق في كلمات القرآن»: إنَّ معناها الأصلي هو «النثر والنشر».

فإذا

أُريد منها الخلق فيكون معنى الآية: إنَّ أولئك الذين وهب اللَّه لهم السمع والبصر والفؤاد ... (وسائل المعرفة) ولم يستفيدوا منها لا مصير لهم غير جهنم، وإذا كانت «ذرأ» بمعنى النشر والنثر، فالآيةُ تُشير إلى أنّ أشخاصاً كهؤلاء سينثرون في جهنم.

وعلى أيّة حال فهذه الحقيقة تكشف عن أنّ عاقبة الجهل وتعطيل وسائل المعرفة ليست سوى نار جهنم.

«وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَابِ السَّعِيرِ* فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ». (الملك/ 10 و 11)

______________________________

(1). يقول الإمام علي عليه السلام: «لا كنز أنفع من العلم». (بحار الأنوار، ج 1، ص 183).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 61

نعم إنَّ ذنبهم العظيم هو أنّهم لم يستفيدوا من عقولهم وعطلوها عن النهوض بمهامها، ولم يصغوا لقول الحق وبهذا أغلقوا أبواب المعرفة والعلم، وفتحوا أبواب جهنم ليدخلوها داخرين.

إنّ سياق الآية الثانية التي تنسب الإثم إلى أصحاب السعير وهم يعترفون بأنّ مصيرهم ما كان هذا لو أنهم استفادوا من عقولهم، وهذا الاعتراف الكاشف عن الندم، دليل على أنّ سلوكهم لهذا الطريق كان باختيارهم، وإذا زعم بعض المفسّرين كالفخر الرازي عند تفسيره للآية الاولى أنّها دليل على الجبر، فإنّ الثانية تنفي مزاعمه وتصلح لأنّ تكون مفسرةً للاولى لأنّ «القرآن يفسر بعضه بعضاً».

وعلى أيّة حال فإنّ العلاقة بين «جهنم» و «الجهل» لاجدال فيها في القرآن وسوف تتضح في الأبحاث القادمة أكثر «1».

27- الجهل مصدر انحطاط البشر

«إِنَّ شَرَّ الدَّوَآبِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ البُكْمُ الَّذِينَ لَايَعْقِلُونَ . (الأنفال/ 22)

إنَّ هذه الآية والتي قبلها تُشيران إلى موضوع واحد لكن الأخيرة تشير له صراحة والسابقة تلميحاً، والموضوع هو: إنّ الإنسان متى ما ترك الاستعانة بوسائل المعرفة التي منحها اللَّه له فانّه سينحط ويسقط إلى مستوى يجعله أضل من جميع الدواب

التي على وجه الأرض، ولَم لا يكون كذلك مَن بإمكانه أن يصل إلى أعلى عليين في جوار ربّ العالمين، وأن يصل إلى مقام «لا يرى به إلّااللَّه»، ولكن بتركه جميع المواهب والمِنَح الإلهيّة فإنّه سيسقط إلى أسفل سافلين.

إضافةً إلى هذا، فإنّ الإنسان الذي لا يسير في جادة الخير والهداية، فانه ربّما يستخدم تلقائياً جميع المواهب والقابليات الإلهيّة في طريق الشر، وسيرتكب جرائم مفجعة ويخترع

______________________________

(1). في حديث للرسول صلى الله عليه و آله يقول فيه: «إنّ اللَّه أوحى إليَّ أنَّه مَن سلك مسلكاً يطلب فيه العلم سهلت له طريقاًالجنة». (بحار الأنوار، ج 1، ص 173).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 62

وسائل رهيبة لم يدنُ إلى مستوى وحشيته أيٌّ من الحيوانات المفترسة، كما نشاهد نماذجه في عصرنا الحاضر عند أُناس بعيدين عن اللَّه والبشرية «1».

28- الجهل عمى

«افَمَنْ يَعْلَمُ انَّمَا انْزِلَ الَيْكَ مِنْ رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ اعْمَى انَّمَا يَتَذَكَّرُ اولُوا الْالْبَابِ .

(الرعد/ 19)

تضع الآية الكريمة العلماء وذوى الفكر في مقابل العُمي، والتقابل هذا يكشف عن أنّ العمى والجهل سواء، وقد جاء هذا المعنى في آيات اخرى بأسلوب آخر:

«وَمَا يَسْتَوِى الْاعْمَى وَالْبَصِيرُ* وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ* وَلا الظِّلُّ وَلَاالحَرُورُ* وَمَا يَسْتَوِى الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ...» «2». (فاطر/ 19- 22)

29- الحياة مع الجهل هي أرذل العمر

«وَمِنْكُمْ مَّنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ...». (الحجّ/ 5)

وقد جاء في سورة النحل الآية 70 نفس ما جاء في هذه الآية من معنىً مع اختلاف ضئيل.

إنَّ كلمة «أرذل» مشتقة من مادة «رذل» وتعني الموجود الضال، كما في كثير من معاجم اللغة مثل «المقاييس» و «صحاح اللغة» و «المفردات» وغيرها، وبتعبير آخر الشي ء الذي لا يُعتنى به أو لا قيمة له.

______________________________

(1). يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «الجهل مطية شموس من ركبها زلَّ ومن صحبها ضلَّ». (غرر الحكم، ج 1، ص 85).

(2). يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: «من لم يصبر على ذلّ التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً». (بحار الأنوار، ج 1، ص 177).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 63

وعليه فالمراد من «أرذل العمر» أيّام وساعات من العمر التي تقلّ قيمةً عن بقية أيّام العمر، وقد نعت القرآن الأيّام الأخيرة من الشيخوخة التي تتزامن مع نسيان العلوم وفقدانها ب «أرذل العمر»، وعليه فأفضل أيّام العمر وساعاته هي الأيّام والساعات التي تكون مقرونه بالعلم والمعرفة «1».

30- الجهل مصدر الكفر

«وَجَاوَزْنَا بِبَنِى إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَّنَا إِلهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ . (الأعراف/ 138)

إنَّ ما يثير العَجب هو أنّ بنى اسرائيل شاهدوا بأم أعينهم الإعجاز والعظمة الإلهيّة في غرقِ الفراعنة، ونجاتهم عندما عبروا النيل، وبالرغم من ذلك كله يقترحون على موسى أن يجعل لهم صنماً يعبدونه.

لكن موسى أجابهم أنَّ جهلكم دعاكم إلى عبادة الأصنام.

وفي الحقيقة أنّ عبادة الأصنام دائماً تنشأ عن الجهل، وإلّا فكيف يمكن للإنسان أن يعبد ما يصنع بيده؟ وكيف له أن يطلب حل المعضلات والمشاكل الكبرى التي تعتري

حياته من قطعة من خَشب أو معدن؟!

إنَّ تاريخ عبادة الأصنام يكشف عن أنّ هذا العمل القبيح نَما وتطور تحت ظلِّ من الخرافات والأوهام، وكلما تقدمت الشعوب في مجال العلوم والتقنية كلما تراجع الشرك وعبادة الأصنام وازدادت أنوار التوحيد ضياءً:

إنَّ النبي العظيم «هود» كان يصرح لقوم «عاد» بهذا الأمر إلّاأنّه عندما شاهد فيهم الإصرار على عبادة الأصنام طلب من اللَّه سبحانه أن يُنزل العذاب عليهم قال:

«إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَاللَّهِ وَأُبَلّغُكُم مَّا أُرسِلْتُ بِهِ وَلكِنّى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ .

(الاحقاف/ 23)

______________________________

(1). يقول الإمام علي عليه السلام: «الجهل في الإنسان أضرّ من الأكلة في الأبدان» (غرر الحكم).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 64

إنَّ التعبير ب «تجهلون» أي بصيغة المضارع الذي عادة ما يدل على الاستمرار، يوضح أنّ «الجهل المستمر» كان منبع الشرك وعبادة الأصنام، وفي الحقيقة إنَّ تعاضد ثلاثة أنواع من الجهل ولدت هذه الحالة الاجتماعية، وهي: الجهل باللَّه وبأنّه لا كفو ولا مثيل له، والجهل بمقام الإنسان وأنّه أشرف المخلوقات، والجهل بالطبيعة وأنّه لا قيمة للجمادات في قبال موجود كالإنسان.

ترى كيف سمح الإنسان لنفسه أنْ يجعل قطعة من الحجر اقتطعت من الجبل تارة في درجات السلّم في منزلة يسحقها بأقدامه، وتارة يصنع منها صنماً يركع ويسجد له ويطلب منها حل مشكلاته الكبرى ، يعدون هذا جهلًا «1»؟

31- الجهل السبب الأساسي للفشل

«يَا ايُّهَا النَّبِىُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنينَ عَلَى الْقِتَالِ انْ يَكُنْ مِّنْكُمْ عِشْرونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِأَتَيْنِ وَانْ يَكُنْ مِّنْكُمْ مِأَةٌ يَغْلِبُوا الْفاً مِّنَ الَّذينَ كَفَرُوا بِانَّهُمْ قَوْمٌ لَّايَفْقَهُونَ . (الأنفال/ 65)

الظاهر أنّ الآية ناظرة إلى معركة «بدر» وعدم تساوي عدد المشركين والمؤمنين فيها، وهي تنفي اسطورة توازن القوى كإيعاز إسلامي إلهي تأمر الآية بعدم التراجع في المعركة حتى لو كان عدد جنود الإسلام عُشْرَ

جنود العدوّ! لكن الذي يسدُّ النقص الكمي في القوات الإسلامية- كما تصرح الآية- هو شيئان: الأول هو الصبر والاستقامة والثبات عند المؤمنين، والثاني هو جهل وحماقة الأعداء.

وهذا يدل بوضوح على أنّ الاستقامة والصبر هما الطريق للنصر، وأنّ الجهل هو سبب الخسران والفشل.

الجهل بالقابليات والطاقات الإلهيّة المودعة في ذات الإنسان.

______________________________

(1). يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «الجاهل لا يرتدع، وبالمواعظ لا ينتفع». (غرر الحكم، ج 1، ص 68). ويقول الإمام الصادق عليه السلام: «ليس بين الإيمان والكفر إلا قلّة العقل». (اصول الكافي، ج 1، ص 28).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 65

الجهل بقدرة اللَّه عزّ وجلّ وعظمته.

الجهل بتقنيات وقواعد المعركة، وأنواع اخرى من الجهالة «1».

32- الجهل مصدر لاشاعة الفساد

«أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّنْ دُونِ النِّسَآءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ . (النمل/ 55)

إنّهم قوم لايؤمنون باللَّه يجهلون بهدف الخلق وقوانينه، ويجهلون الآثار السيئة لهذا الإثم والعار يعني «اللواط»

إنّ هذا الحديث الذي نطق به النبي العظيم «لوط» يشير بوضوح إلى أنّ ميل أولئك القوم إلى هذا العمل البشع والقبيح (اللواط) نشأ عن الجهل وعدم المعرفة.

والنبي يوسف عليه السلام يُشير إلى هذا المعنى باسلوب آخر:

«قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِمَّا يَدْعُونَنِى إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّى كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِّنَ الْجَاهِلينَ . (يوسف/ 33)

إنَّ ذكر النساء بصيغة الجمع يدل على أنّ نساء مصر كُنَّ يُردنَ أن يُخرجنَ يوسف عن جادة العفاف وليس امرأة عزيز مصر (زليخا) فقط، ويوسف عليه السلام كان مستعداً لتقبل السجن برحابة صدر على الابتلاء بحبِّ نساء مصر له.

إنَّ الجملة الأخيرة من الآية السابقة تُشير إلى أنَّ العشق الملوّث بالإثم والانحرافات الجنسية (على الأقل في كثير من الموارد) ناشي ءٌ عن الجهل، الجهل بالقيم المجبول عليها الإنسان، الجهل بالآثار القيمة للعفاف والطهارة والنزاهة،

والجهل بمردودات الإثم، وأخيراً الجهل بالأوامر والنواهي الإلهيّة.

وكما نرى في قصة يوسف بوضوح أنّ السبب الأساسي في ارتكاب الجريمة من قِبَلِ

______________________________

(1). يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: «من عمل على غير علم كان ما يُفسدُ أكثر ممّا يصلح». (مشكاة الأنوار، ص 135).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 66

إخوانه هو الجهل وعدم معرفتهم:

«قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ انْتُمْ جَاهِلُونَ . (يوسف/ 89)

نعم أنتم الذين عذبتم أخاكم أولًا، ثم ألقيتموه في الجب عن جهل ثانياً! أنتم الذين كذبتم على أبيكم ذلك الشيخ العجوز وأَدْمَيْتُمْ قلبه عندما أخفيتم ابنه عنه، وفي النهاية بيعه بعدة دراهم بخسة كما يُباع الرق ولم تفوا بعهدكم الذي عاهدتم به أباكم تجاه الأخ الآخر «بنيامين» عندما اتُّهِمَ بالسرقة فتركتموه وحيداً.

وجهلكم هو وحده منشأ جميع هذه الأفعال «1».

33- الجهل أساس التعصب والعناد

«إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى قُلُوبِهِمُ الحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ...». (الفتح/ 26)

إنَّ كلمة «حمية» مشتقة من مادة «حَمْي» على وزن «حَمْد»، وكما يذكر الراغب في «مفرداته» أنّ معناها الأولي هو الحرارة الناشئة من أشياء مثل النار والشمس والقوة الباطنية في جسم الإنسان (الحرارة الذاتية والباطنية للأشياء)، ولهذا يقال لارتفاع درجة حرارة المريض (حُمّى على وزن (كُبْرى ، وبما أنَّ التعصب والغضب يولدان حرارة وحرقة في باطن الإنسان قيل «حمية»، وقد جاء في كتاب «التحقيق في كلمات القرآن الكريم» أنّ «الحمية» هي شدة الحرارة والعلاقة والتعصب في الدفاع عن النفس «2».

إنَّ هذه الآية نزلت في حوادث صلح الحديبية وتوضيح قصة سبب النزول: أنَّ الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله قصد مكة للحج في السنة السادسة من الهجرة، إلّاأنّ المُشركين منعوا المسلمين من دخول مكّة

تعصباً لجاهليتهم، مع أنَّ السماح بزيارة مكة كان مباحاً للجميع

______________________________

(1). يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: «فقيه واحد أشدُّ على إبليس من ألف عابد». (بحار الأنوار، ج 1، ص 177).

(2). «هي شدة الحرارة، والعلاقة والتعصب في الدفاع عن نفسه والتعفّف والترفع». (مادة حمى .

نفحات القرآن، ج 1، ص: 67

حسب قوانينهم وسننهم المتعارفة، فهم بهذا انتهكوا حرمة الحرم الإلهي، ونقضوا سنتهم، إضافة إلى أنّهم وضعوا حائلًا ضخماً بينهم وبين الحقائق.

إنّ إضافة «الحمية» إلى «الجاهلية» من قبيل إضافة «السبب» إلى «مسببه»، التعصب والعناد والغضب ينشأُ عن الجهل دائماً، لأنّ الجهل لا يسمحُ للإنسان أن يفكر بعواقب أعماله، ولا يسمحُ له قبول أن فكرته قد تكون خاطئة، وأنَّ هناك علماً أوسع وأكبر من علمه، ولهذا نرى أنّ شدّة عناد وتعصّب الأقوام الجاهلة أكثر منها في الأقوام الاخرى، ولهذا السبب نجد أن الأنبياء والرسل عندما يبعثون إلى قوم بالرسالات والأَنوار الإلهيّة الساطعة، يواجهون مقاومة عنيفة، ويتهمون بمختلف التهم، وقد أورد القرآن الكريم نموذجاً من ذلك:

«وَعَجِبُواْ أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنهُمْ وَقالَ الكَافِرونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ* أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلهاً وَاحِداً إِنَّ هَذا لَشَى ءٌ عُجَابٌ* وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُواْ وَاصْبِرُواْ عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَى ءٌ يُرَادُ* مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِى الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ . (ص/ 4- 7)

حيث ترى أنّ حديثهم مملوء بالعناد، الناشي ءُ عن الجهل والغرور «1».

34- الجهل مصدر لاختلاق الحجج

«وَقَالَ الَّذِينَ لَايَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَاْتِينَا آيَةٌ كَذلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ . (البقرة/ 118)

هناك قضية تتكرر دائماً في تاريخ الأنبياء والرسل وهى أنّ الجاهلين والمعاندين يختلقون الحجج الواهية من أجل الهروب من الإيمان بالأنبياء والرسل والتسليم للحق

الذي يرونه بأم أعينهم من خلال المعاجز الإلهيّة ووسائل الاقناع التي يأتي بها الرسل فتراهم تارة يقولون لِمَ بَعثَ اللَّهُ بشراً رسولًا؟ لِمَ لَمْ يأت مَلَك محله؟

______________________________

(1). يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «العلم أصل كل خير والجهل أصل كُل شر». (غرر الحكم، ص 20 و 21).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 68

وتارة يقولون: لِمَ لم ينزل علينا كتاباً نقرأُه؟

و أُخرى يقولون: لن نؤمن ما لَمْ نرَ اللَّهَ والملائكة جهرة.

وتارة اخرى يقولون: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً أو تكون لك جنّة من نخيل وعنب وتفجر الأنهار خلالها تفجيرا، كما في سورة (الإسراء) في الآيات 90، 93.

كما أنّ هناك أمثلة ونماذج اخرى ذكرت في القرآن الكريم.

في الحقيقة أنّ ذوي العلم يكتفون بدليل منطقي واحد، وإذا تعددت الأدلة عندهم ازدادوا رسوخاً وإيماناً.

لكن المتعصبين والجاهلين المعاندين غير مستعدين للتخلي عن عقائدهم وخرافاتهم، فيتمسكون كل يوم بحجّة في سبيل الهرب من الحقيقة، وإذا ما دُحِضَتْ حجتهم تركوها وتمسكوا بحجة اخرى، ذلك لأنّ هدفهم ليس طلب الحقيقة بل التملص منها «1».

35- الجهل هو سبب التقليد الأعمى

«إِذْ قَالَ لِابيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ الَّتمَاثِيلُ الَّتِى انْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ* قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنا لَهَا عَابِديِنَ* قَالَ لَقَدْ كُنْتُم انْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِى ضَلَالٍ مُّبينٍ . (الأنبياء/ 52- 54)

إنَّ كلمة «التماثيل» جمع «التمثال» والتي تعني الموجود الذي له وجه، وتطلق على التماثيل المنحوتة والرسوم.

وكلمة «عاكفون» مشتقة من مادة «عكوف» وتعني التوجه المستمر نحو شي ءٍ والمتزامن مع التعظيم، واصطلاح «اعتكاف» يطلق على العبادة الخاصة المعروفة التي تقام في المسجد وهي مشتقة من نفس المادة.

نعم، إنَّ عبدة الأصنام لم يكن لهم دليل منطقيٌّ على عملهم القبيح هذا، وغالباً ما كانوا

______________________________

(1). يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «الجاهل صغير وإن كان شيخاً كبيراً

والعالم كبير وإن كان حدثاً». (بحار الأنوار، ج 1، ص 183).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 69

يقتنعون بتقليدهم الأعمى ولهذا نعتهم ابراهيم عليه السلام بأنهم وآباءهم في ضلالٍ مبينٍ.

إنّ ابراهيم عليه السلام في بقية محاكمته التاريخية لعبدة الأصنام في بابل يقول: «أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَايَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ ؟! ثم يضيف «أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ . (الأنبياء/ 66- 67)

يعني أنّ هذا التقليد الأعمى ناشي ءٌ عن عدم التعقل والتأمل وهو نابع من الجهل، ودليله واضح، فإنّ ذوي العلم يتمتعون باستقلال فكري، واستقلالهم الفكري هذا لا يسمحُ لهم بالتقليد الأعمى بينما الجاهلون تراهم مرتبطون بهذا وذاك وبشكل أعمى فيتبعون الآخرين على غير بصيرة.

36- الجهل عامل الخلاف والفرقة

«لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَميعاً الّا فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ اوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُم جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِانَّهُمْ قَوْمٌ لَّايَعْقِلُونَ . (الحشر/ 14)

إنَّ كلمة «قرى تعني جمع «قرية» ومعناها الأماكن المعمورة أعم من الأرياف والمدن، وقد تطلق على مجموعة يسكنون في مكانٍ ما، و «قرىً محصَّنةٍ» تعني المناطق الآمنة من العدو بسورٍ أو ابراج أو خنادق أو غيرها.

إنَّ هذه الآية تتحدث عن طائفة «بني النضير» (إحدى ثلاث طوائف يهودية تقطنُ المدينة) حيث تكشف عن فزعهم وخوفهم الباطني واختلافهم وفرقتهم، فتصرح الآية للمسلمين: إنّكم تحسبونهم جميعاً ومتحدين لكنّ الواقع أنّ شملهم متفرق بسبب جهلهم وعدم معرفتهم.

إنّ الاختلاف ينشأ عن الجهل، والاتحاد ينشأ عن المعرفة دائماً، فالجاهلون لا يجهلون الأخطار الجسيمة للفرقة، ولا يجهلون فوائد الاتحاد وبركاتِهِ فحسب، بل يجهلون اسس التعايش السلمي، واسلوب التعاون وشروط النشاطات المشتركة، وهذه المسألة أدّت بهم إلى الاختلاف والفرقة.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 70

إنّ المتعصبين والمعاندين والمتكبرين والحاقدين والسفهاء، لا يمكنهم

الاتحاد مع الآخرين، لأنّ كلًا من هذه الصفات تكون مانعاً كبيراً امام الوحدة، ويجب أن نعلم بان منشأ جميع هذه الرذائل هو الجهل «1».

37- الجهل هو سبب سوءالظن بالآخرين

«ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِّنْكُمْ وَطَائِفةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ ...». (آل عمران/ 154)

تحدثت هذه الآية عن الليلة المضطربة والملتهبة التي عاشها المسلمون بعد معركة أُحُد، حيث احتمل بعض المسلمين هجوم قريش في تلك الليلة مرّة اخرى لتدمير آخر ما تبقى من مقاومة المسلمين بعد ما أُنهكوا في المعركة نهاراً.

في هذه الأثناء أنزل اللَّه على المسلمين نعاساً مهدئاً لهم، إلّاأنّ ضعيفي الإيمان قد تاهوا في أفكارٍ رهيبة فما استطاعوا النوم آنذاك، وكانوا يتساءلون: يا ترى هل أن وعود الرسول حقّةٌ؟ هل أننا سننتصر في النهاية مع ما حصل لنا في أحد؟ هل سننجو من هذه المهلكة؟ أو أنّ كل ما قيل لنا كان كذباً؟ وما إلى ذلك من الوساوس وإساءة الظن الجاهلي.

لكن الحوادث التي حصلت فيما بعد بينت لهم خطأهم الفاحش، وأنّ كافة الوعود الإلهيّة حقة، ولو أنّهم انفصلوا عن أفكار الجاهلية تماماً لَما أساءوا الظن باللَّه ورسوله.

والتعبير في الآية يوحي بأنّ الجهل هو أحد أسباب إساءة الظن، وأنّ عدم قدرتهم على التحليل الصحيح للحوادث جعلهم يسيئوون الظن، ولو كانت لهم القدرة الكافية على تحليل الحوادث وفهمها لما وقعوا في شباك سوء الظن.

ج ج

______________________________

(1). يقول الإمام علي عليه السلام: «لو سكت الجاهل ما اختلف الناس». (بحار الأنوار، ج 78، ص 81).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 71

38- سوء الأدب ينشأ عن الجهل

«انَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَايَعْقِلُونَ . (الحجرات/ 4)

كان البعض يضايق الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله حيث كانوا يقفون عند باب بيته منادين بصوت عالٍ: «يا محمد!» «يا محمد! اخرج إلينا» فكان رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يتأذى من اسلوبهم هذا، ولكنّه كان يكظم

غيظه وذلك لما كان يتصف به من خُلُقٍ عظيم، إلى أن نزلت هذه الآية، فعلمتهم أدب الحديث مع الرسول ومحاطبتِهِ (في سورة الحجرات).

والتعبير ب «أكثرهم لا يعقلون» إشارة جميلة إلى أنّ سوء الأدب غالباً ما ينشأ عن الجهل فكلما فُقِد العلم حل سوء الأدب مكانه، وكلما تواجد العلم تواجد الأدب معه.

«وَاذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ انَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ انْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ انْ اكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ . (البقرة/ 67)

إنَّ الآية تتعلق بقضية قتلٍ حدثت في بني اسرائيل كادت أن تجر إلى معارك كبيرة بين قبائل بني اسرائيل لجهلهم بالقاتل: فأمر اللَّه أن يذبحوا بقرة ويضربوا بقسمٍ منها المقتول كي ينطق ويُعرفهم قاتله.

وبما أنّ هذه القضية كانت معجزة ومدهشة للغاية بالنسبة لبني اسرائيل، فقد قالوا لموسى ابتداءً: أتتخذنا هزواً؟

فأجاب موسى عليه السلام: أعوذ باللَّه أن أكون من الجاهلين أي أنّ الاستهزاء من معالم الجهل ودليل على العجب والتكبر والغرور، فإنّ الذين يتمتعون بهذه الصفات يتخذون الآخرين هزواً كي يحقّروهم، ونعلم أن التكبر والعجب ينشآن عن الجهل حتى أن كثيراً من الجاهلين يستهزئون بالعلماء «1».

39- الجهل سبب الندم والمشاكل الاجتماعية

«يَا ايُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ان جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَاٍ فَتَبَيَّنُوا انْ تُصِيْبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى

______________________________

(1). يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «العلماء غرباء لكثرة الجهال بينهم». (بحار الأنوار، ج 78، ص 81).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 72

مَا فَعَلْتُمْ نَادِمينَ . (الحجرات/ 6)

إنَّ هذه الآية تمثل قاعدة أساسية تأمر المسلمين بأنْ يتبيّنوا ويتأكّدوا من كون الرواة ناقلي الأخبار من الثقات ويحققوا في الخبر الذي وصلهم من فاسق أو شخص لا يُعتمد عليه فلا يستعجلوا باتخاذ الإجراءات على ضوء ما نُقِلَ لهم من خبر، لأنّه قد يوجب لهم كثيراً من الندم

والمشاكل والمصائب الاجتماعية.

فمن البديهي أنَّ الجاهلَ لا يُمكنه أنْ يتّخذ موقفاً صحيحاً تجاه مختلف القضايا، وعدم معرفته هذه تؤدّي به إلى كثير من المآسي والمشاكل الاجتماعية والتي نهايتها النّدم.

40- الجهلُ وتبدّل القيم

«كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى انْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى انْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُو شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمْ وَانْتُمْ لَاتَعْلَمُونَ . (البقرة/ 216)

إنَّ نشاطات الإنسان وفعالياته تنسجم دائماً مع القيم التي يعتقد بها، ومعرفة هذه القيم لها دور أساسي في تبلور وتوجيه نشاطات الإنسان وفعالياته.

فالجهلُ وعدم المعرفة قد يؤدي به إلى الوقوع في الخطأ عند التمييز بين (القيم) وبين (أضدادها)، أي أنْ يشخص ما هي القيم التي تكون سبباً في التقدّم والخير والبركة، ويفرق بينها وبين ما هو عامل الشرّ والشقاء والانحطاط.

إنّ الآية السابقة تقول: إنّ للجهاد في سبيل اللَّه قيمة- فهو سبب للعزة وصيانة ماء الوجه والفخر والموفقية-، لكنكم تكرهونه لجهلكم وعدم معرفتكم بآثاره، وتعتبرون القعود وترك الجهاد قيمةً وعاملًا للسلامة والسعادة، لكنه عامل وسبب لشقائكم.

وعلى هذا، فالجهل هو سبب الخطأ في تمييز القيم، وهو عامل اتخاذ المواقف غير الصحيحة وغير المدروسة تجاه القضايا المختلفة والحوادث المتنوعة التي تحدث في الحياة اليرمية وعامل للافراط والتفريط «1».

______________________________

(1). يقول الإمام علي عليه السلام: «لا ترى الجاهل إلَّا مفْرِطاً أو مُفَرِّطاً». (نهج البلاغة الكلمات القصار، الكلمة 70).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 73

الخلاصة و النتيجة:

إنّ المستخلص من البحوث القرآنية السابقة والتي دُرجت تحت أربعين عنواناً، ولربّما تكون أكثر حيث (لا ندعي تحديدها بهذه العناوين أبداً) والتي تحثُ على طلب العلم والمعرفة، تمثل اهتمام القرآن البالغ بمسألة المعرفة في جميع المجالات، سواء في مجال معرفة الذات والصفات الإلهيّة، أو في مجال معرفة الكون والسماوات والأرض وجميع الكائنات والإطّلاع على أسرار المخلوقات الأرضية والسماوية الطبيعيّة أو ما وراء الطبيعة، ومعرفة النفس والأِلمام بمختلفِ العلوم.

ومن خلال البحث في الآيات السابقة نستخلص بوضوح الأُمور التالية:

1- إنَّ طريق العلم والمعرفة ميسر

للناس كافة، وكلٌّ حسب استعداده وسعيه يستطيع أن يطوي ما أمكنه منه، وبدون ذلك فالدعوة للعلم والتأكيد على أهميته لا معنى لها.

2- إنَّ قيمة الإنسان لها علاقة مباشرة بمقدار معرفته للَّه وأسرار عالم الوجود.

3- إنَّ أكبر مفخرة وموهبة للإنسان هو قابليته واستعداده لتقبل المعارف بالرغم من ضعفه الجسماني.

4- إنَّ طلب العلم هو طريق الانتصار والغلبة على مختلف المشاكل: وهو طريق تزكية النفس.

5- من أجل مواجهة الشقاء ومختلف المفاسد نحتاج إلى العلم والمعرفة قبل أي شي ءٍ آخر.

نؤكّد أنَّ هذه الآيات نزلت في زمان خيمت فيه غيوم الجهل السوداء، وغطت أفق المنطقة بل العالم ظلاماً، في حين أنّ شمس العلم قد غابت وغرق الناس في أمواج الجهل.

حقّاً إنَّه لشي ءٌ عجيب أن تكون مثل هذه البيئة مهداً لهذه الرسالة ذات التعاليم السامية أن يكون إنساناً امياً رسولًا لمثل هذه المدرسة العظيمة مدرسة الإسلام الخالد وهذا دليل حي على حقانية القرآن.

إنَّ الملفت للنظر هو احصاء سبعمائة آية من قبل بعض المحققين تتحدث عن العلم

نفحات القرآن، ج 1، ص: 74

والمعرفة وأرضياتها ومصادرها، وبالقياس إلى آيات الأحكام والتي تقدر بخمسمائة آية، نستطيع أن نستنتج أن القرآن أولى أهميّة كبرى للعلم والمعرفة فاقت الأهميّة التي أَوْلاها للأحكام الشرعية.

ج ج

توضيحات

1- إمكانية المعرفة من وجهة نظر فلسفية

اشارة

إنَّ وجود عالم خارج الذهن أمر مسلم وبديهى لايحتاج إلى برهان، ويعترف بهذا عملياً حتى السوفسطائيون أو المثاليون الذين ينكرون وجود الأعيان الخارجية.

لكن البحث ينصب في هل من سبيل إلى معرفة هذه الواقعيات؟

وإذا كان الجواب بالايجاب فما هي سُبُل المعرفة ووسائلها؟

ما هي شروط الوصول إلى المعرفة؟

وبتعبير آخر، هل يمكن تبديل الواقعيات الخارجية إلى حقائق ذهنية، أي انعكاس صورة ما في الخارج عيناً في الذهن أم لا؟ إنَّ جميع تعاريف المعرفة والاختلافات الحاصلة حول ذلك ترجع إلى هذا الموضوع «1».

ومن جهة اخرى فإنّ جذور جميع العلوم والمعارف البشرية تكمن في الإجابة عن هذا السؤال.

وبالرغم من أنّ أغلب الفلاسفة (سواء الماديين منهم أو الإلهيين) يؤيدون إمكانية معرفة الواقعيات الخارجية، إلّاأنّ البعض منهم لا يعتقد بإمكانيتها، وقد ذكرت أربعة أدلة لإثبات مرادهم:

______________________________

(1). وعلى هذا يكون تعريف المعرفة عبارة عن: تبديل الواقعيات الخارجية إلى حقائق ذهنية، وانعكاسها في مرآة الذهن كما هي.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 75

1- إنّ الحواس هي أهم وسائل المعرفة، والبصر يقع في الدرجة الاولى من حيث الأهميّة، لكننا نجد الكثير من الأخطاء تصدر عن هذه الحاسة!

فالشهاب المشتعل في المساء نراه كخط من النور الممتد، بينما هو عبارة عن نقطة ضوئية متحركة لا أكثر!

وإذا كنّا نمشي في شارع مُشجّر الطرفين، وابتعدنا عن الأشجار رأيناها تقترب من بعضها البعض، وتتصل وتشكل زاوية في نقطة بعيدة عنّا بينما الأشجار لم تلتقِ على طول الطريق ولم تُشكل أية زاوية، والفاصلة بينها متساوية في جميع نقاط الشارع.

وإذا كانت احدى يديك باردة والاخرى حارة ووضعتهما في ماء دافي ء، فانّك تحس بالحرارة باليد الباردة، وبالبرودة باليد الحارة، فيرتسم في الذهن إحساسان متضادان اتجاه الماء في آن واحد.

ولدينا الكثير من الأمثلة عن عدم إمكان الاعتماد على حاسة البصر

وبقيّة الحواس (اللامسة وغيرها).

ومع وجود هذا النقص فكيف نعتمد على حواسنا؟! بل إنَّ عالم الخارج يمكن أن يكون وهماً أو أضغاث أحلام ولا غير، وهل أنّ الذي نراه في الرؤيا ونعتبره حقيقة في ذلك الحين، يُمثل الحقيقة؟

2- لا نكاد نرى اثنين من العلماء أو المفكرين في هذا العالم يتفقان في جميع المسائل، وما هذه الاختلافات بين العلماء إلّادليلًا على فقداننا الطريق الذي يهدينا إلى معرفة الحقائق.

فالذي رأه واقعاً عينياً قد يكون برأي الآخرين وهماً وخيالًا لا أكثر والعكس صحيح.

وحتى الإنسان الواحد قد تتغير رؤيته وأفكاره تجاه قضية معينة تحت ظروف مختلفة، وهذا يزلزل أسس قضية المعرفة.

3- إنّ الموجودات في العالم كلّها في حركة مستمرة، وينتج عن هذه الحركة تحول أوضاع الموجودات وحتى أفكارنا ومعارفنا وعلومنا خاضحة لهذه الحركة، فكيف يمكن

نفحات القرآن، ج 1، ص: 76

أن تحصل لنا معرفة حقيقية لهذه الموجودات والعلاقات بينها، مع أنّ المعرفة تستدعي الاستعاذة بأمرِ ثابت.

4- نعلم أنّ العالم يُمثل نظاماً موحداً ومترابطاً، ومعرفة جزء منه تستدعى معرفة الكل، وعليه، فإنّ فقدان حلقة من السلسلة المترابطة للعالم يُخلّ بمعرفتنا ويحول دون معرفة أي جزء منه.

ومن جهة اخرى فإنّ الواقعيات التي لايمكن للبشر إدراكها كثيرة ولا يحصى عددها بالقياس إلى حجم المعلومات البسيطة.

وعلى هذا، فكيف يمكن لنا أن نعد معرفة العالم أمراً متيسراً؟ إذن يجب الاعتراف بأنّ ما في أذهاننا مجرّد تصورات لها قيمة علمية فقط، وليست لها أية قيمة واقعية.

ج ج

الجواب:

يمكن الإجابة على هذه الاستدلالات بثلاث طرق:

1- إنّ جميع الذين يقولون بعدم إمكان المعرفة الواقعية، يؤمنون بالكثير من المسائل الواقعية، فهم يمسكون بأقلامهم ليبرهنوا ويستدلوا في مؤلفاتهم على صحة ما ذهبوا إليه وخطأ مخالفيهم، ومن خلال انكارهم فانّهم عرفوا المئات من المسائل

الواقعية، ومن خلال هذه المعرفة دقوا طبول الحرب ضد مخالفيهم واستفادوا في حربهم هذه من الكثير من الامور الواقعية مثل، القلم، والورق، الخطوط، الكلمات، الجمل والعبارات، الكتب، دور الطبع والنشر والمكتبات، المخالفين أنفسهم، المخاطبين، الأمواج الأثيرية، النور وغيرها، كل ذلك يمثل اموراً واقعية استفادوا منها في معرفتهم ليشنوا بها حرباً على المعرفة، فلقد استعانوا بالمعرفة ضد المعرفة وهو خطأ فاضح يستدعي الدقة والتأمل.

2- إنَّ خطأهم الكبير هو عدم تمييزهم بين مسألة كون معرفة الإنسان محدودة وبين أصل مسألة المعرفة، فأن استدلالاتهم لا تنفي إمكانية المعرفة مطلقاً، غاية الأمر أنّها تثبت

نفحات القرآن، ج 1، ص: 77

أنّ معرفة الإنسان محدودة أو مقرونة بالاخطاء أحياناً.

أَجَل، لا يمكنهم إنكار وجود «الشهاب» بل إنّ ما يقولونه في هذا المجال هو أنّ الخط النوراني الذي نراه ليس خطاً نورانياً بل نقطةٌ نورانيةٌ، والتصور الخاطى ء هذا نشأ عن خطأٍ في حاسة البصر، إذ ليس الخطأ في وجود نفس الشهاب بل في تصور خطٍ ممتدٍ ملتهبٍ.

كما أنّ الخطأ ليس في نفس وجود الشارع والأشجار على طرفيه بل الخطأ في أنّ الأشجار كلما ابتعدنا عنها اقتربت من بعضها البعض في أبصارنا، وكذا الأمر بالنسبة للماء الدافي ء، فليس الخطأ في نفس وجود الماء ودرجة حرارته المعينة، بل في تمييز درجة الحرارة.

ولكنّا- كما سبقت الإشارة- لا ندعي إدراكنا لجميع حقائق الوجود، كما لا ندعي أن معرفتنا منزهة عن أي خطأ، بل ما نريد إثباته هو إمكانية المعرفة على سبيل القضية الجزئية، وقد نشأ خطأ أصحاب الرأي القائل بعدم إمكان المعرفة من ادعائهم القاطع الجازم بعد وجود المعرفة.

والملفت للنظر هو أن ما ذكره مخالفو إمكانية المعرفة من أدلة يمكن أن يستخدم كدليل ضدهم، لأنّهم عندما يبحثون مسألة

خطأ الحواس، فإنّ مفهوم ادعائهم أن هذه الحقيقة اكتشفناها بحواسنا الاخرى أو بطرق عقلية، فندرك خطأ الحاسة المعيَّنة في ذلك المورد، وهذا اعتراف صارخ بصحة بعض المعارف.

فعندما نقول مثلًا: إنّ الخط الملتهب الممتد الذي نراه عند ظهور الشهاب في السماء خطأٌ، فذلك بسبب إنا لاحظنا بحواسنا الاخرى إنَّ الشهاب قطعة حجر تحترق عند وصولها إلى الأرض وذلك لسرعتها واحتكاكها بطبقة الهواء، وعندما تبدو لنا كالنقطة النيرة، وبما أنّها تتحرك بسرعة هائلة فتخطأ العين في التمييز ونراه خطاً ممتداً وملتهباً، مستقيماً منحنياً.

كذلك الأمر بالنسبة للخطين المتوازيين عندما نراهما متقاطعين من بعيد، بينما رأيناهما من قريب متوازيين فعند مقارنة المعلومات التي حصلنا عليها من بعيد ومن قريب نعترف بخطأ أبصارنا من بعيد.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 78

إذن يجب القول بأنّ أي حكم بخطأ بعض المعلومات، دليل على معرفة كثيرٍ من الحقائق (دقّق النظر في ذلك).

3- إنّهم في الحقيقة لم يميزوا جيداً بين «البديهيات» و «النظريات» ولا بين «المعرفة الإجمالية» و «المعرفة التفصيلية» ولا بين «الامور المطلقة» و «الامور النسبية»، ولأجل عدم معرفتهم الدقيقة وتمييزهم لهذه المواضيع الثلاثة وقعوا فيما وقعوا فيه من خطأ.

ج ج

إيضاح:

إنّ هناك حقائق لا يشك بها أحد إلّاالسوفسطائيون وكما قلنا سابقاً أنّهم ينكرون الحقائق بالسنتهم ويعتقدون بها في قلوبهم وهي الحقائق التي لا حاجة إلى التفكير في إثباتها، فالكل يعرف مثلًا أنّ اثنين زائداً اثنين يساوي أربعة، وأنّه لا يمكن أن يحصل الليل والنهار أو الصيف والشتاء في آن ومكان واحد، أو شخصاً واحداً يكون في مكة والمدينة في آن واحد وحتى أولئك الذين يعدّون اجتماع النقيضين أو الضدين ممكناً، فانّهم يتلاعبون بالألفاظ فقط، ويذعنون لهذه الحقائق قلبياً، فمثلًا بالنسبة ل «اجتماع الضدين» يقولون بإمكان

أن يكون الجو ممطراً في ساعة ومشمساً في ساعة اخرى، إذن اجتماع الضدين أمر ممكن، أمّا إذا سألناهم هل يمكن أن يكون الجو ممطراً ومشمساً في ساعة ومكان واحد؟ فسيجيبون: لا.

وفي مقابل هذه المعلومات البديهية هناك قسم آخر من المعلومات وهي «المعلومات النظرية» التي تحتمل الخطأ والترديد، وما ذكره المنكرون من عدم إمكانية المعرفة فانّه يتعلق بهذا النمط من المعلومات.

كما أنّ هناك مجموعة من الحقائق مطلقة ولا نسبية فيها كالأمثلة السابقة (العلاقات الرياضية بين الأعداد وامتناع اجتماع النقيضين والضدين).

ولكن لا يمكن إنكار أنّ هناك مجموعة من المفاهيم النسبية التي تتغير بتغير الظروف،

نفحات القرآن، ج 1، ص: 79

فمثلًا الحرارة والبرودة أمران نسبيان، فكل شي ءٍ حرارته أكثر من حرارة جسم الإنسان فهو حار، وكل شي ءٍ حرارته أقل من حرارة جسم الإنسان فهو بارد، فإذا ما تغيرت درجة حرارة أجسامنا تتغير مفاهيم الحرارة والبرودة عندنا، ولهذا قد يجلس شخصان في غرفة يشعر أحدهما بالبرودة فيطلب تشغيل المدفئة والآخر يشعر بالحرارة فيطلب فتح الأبواب.

بالطبع، في هذا المجال توجد حقيقتان وهما درجة حرارة الجسم ودرجة حرارة الغرفة وتصورنا عن الحرارة والبرودة ينشأ عن المقارنة بين هاتين الحقيقتين فيختلف الحكم تجاه المسألة.

كما أنّ في العالم هناك حقائق ثابتة وحقائق متغيرة، والأمثلة التي ذكرناها سابقاً وما شابهها تدخل تحت عنوان الحقائق الثابتة، وحتى الماركسيون القائلون بتغير وتبدل الحقائق في العالم يستثنون حقيقة التحول والتغير كقانون ثابت، ويعتقدون أنّ كل ما في العالم في تحولٍ وتغيّر مستمر إلّانفس قانون التحول والتغير فانّه ثابت دائماً (بالطبع هناك مجموعةً اخرى من القوانين يفرضون ثباتها اضافةً إلى هذا القانون).

وإذا تجاوزنا الأمر السابق فإنّ هناك «معرفةً إجماليةً» ومعرفةً تفصيليةً» هناك حقائق لا نعرف عنها إلّاشيئاً إجمالياً، فلا معرفة

لنا بخصائصها وعلاقاتها بالأشياء الاخرى في العالم تفصيلًا، لكن عدم معرفتنا التفصيلية عنها لا يعني نفي المعرفة الإجمالية عنها.

فمثلًا العين جزء من الجسم، وما لم نعرف الجسم بجميع أعضائه جيداً لا نتمكن من معرفة علاقة العين بأعضاء الجسم الاخرى، لكن عدم معرفتنا للعين تفصيلًا لا يمنع من معرفتنا لها إجمالياً وأنّها تقع في الرأس وتحت الجبين، ولها سبع طبقات، وكل طبقة مهمّة خاصة بها، وفائدتها رؤية المناظر واللقطات المتنوعة.

وبالنظر لما تقدم يتضح أنّ أدلة المخالفين لنظرية المعرفة نشأت من عدم دقتهم في التقسيمات السابقة، فعندما يقولون: إنّ العالم كتلة واحدة، وعدم معرفتنا لمفردة من مفرداته يفقدنا المعرفة بأي جزء منه، فقولهم هذا خلطٌ في الحقيقة بين المعرفة التفصيلية والإجمالية، لأنّا إذا أردنا معرفة جزءٍ ما في العالم بجميع علاقاته بباقي أجزاء العالم يجب

نفحات القرآن، ج 1، ص: 80

علينا معرفة جميع أجزاء العالم بدقّة، فهذه معرفة تفصيلية، بينما المعرفة الإجمالية لا تستدعي ذلك كله، ومعرفتنا للأرض والسماء وأفراد البشر والكائنات التي من حولنا هي كلها من هذا القبيل من المعرفة «1».

وهناك ايضاحات أكثر في هذا المجال سنعرض لها في الفصل اللاحق إن شاء اللَّه تعالى

ج ج

2- العلم البشري المحدود

اشارة

1- «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ امْرِ رَبّى وَمَا اوتِيتُمْ مِّنَ العِلْمِ الَّا قَلِيلًا».

(الاسراء/ 85)

2- «... وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدَاً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِاىِّ ارْضٍ تَمُوتُ ...».

(لقمان/ 34)

3- «وَانْ مِّنْ شَىْ ءٍ الَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَّاتَفْقَهُونَ تَسْبيحَهُمْ ...». (الاسراء/ 44)

4- «وَعَسَى انْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى انْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَانْتُمْ لَاتَعْلَمُونَ . (البقرة/ 216)

5- «لَخَلْقُ السَّموَاتِ وَالْارْضِ اكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ اكْثَرَ النَّاسِ لَايَعْلَمُونَ .

(غافر/ 57)

6- «... لَاتَدْرِى لَعَلَّ

اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ امْراً». (الطلاق/ 1)

7- «قُلْ لَّاامْلِكُ لِنَفْسى نَفْعاً وَلَا ضَرّاً الَّا مَا شآءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِىَ السُّوءُ ...». (الاعراف/ 188)

8- «... آبَائُكُمْ وَابْنَائُكُمْ لَاتَدْرُونَ ايُّهُمْ اقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً ...». (النساء/ 11)

9- «وَلَوْ انَّمَا فِى الارْضِ مِنْ شَجَرَةٍ اقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ ابْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّه انَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَكيمٌ . (لقمان/ 27)

______________________________

(1). قد يقال إنّ منكري المعرفة لا ينكرونها كلياً، وعلى هذا فالنزاع بينهم وبين المؤيدين لنظرية المعرفة يكون نزاعاً لفظياً.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 81

شرح المفردات:

إنّ كلمة «روح»- وكما جاء في قواميس اللغة- في الأصل اشتقت من مادة «ريح» ويطلق على التنفس كذلك، وبما أنّ هناك علاقة وثيقة بين التنفس وبقاء الحياة ونفس الإنسان استعملت الروح بمعنى النفس، ومن ثم بمعنى تلك الحقيقة المجرّدة التي يتوقف بقاء الإنسان عليها.

إنّ «روْح» على وزن (لَوْح) تعني النسيم البارد، وكذلك اللطف والرحمة، ومنه اشتُقّت كلمة «الرائحة» و «المروحة».

وَإنّ كلمة «تفقهون» مشتقة من مادة «فقه» وقد جاءت- كما في لسان العرب- بمعنى الاطلاع على شي ءٍ وفهمه، لكنها تطلق اطلاقاً خاصاً على علم الدين (أو علم الأحكام)، وذلك لرفعة وأهميّة هذا العلم، والراغب في مفرداته يقول: «الفقه يعني الاطلاع على شي ء خفي بواسطة الاطلاع على أمرٍ ظاهر ومكشوف» وعلى هذا مفهومه أخص من مفهوم العلم.

وَمعنى كلمة «غَيْب»- وكما جاء عن ابن منظور في لسان العرب- هو «الشك» ويطلق على كل شي ءٍ خفي عمله عن الإنسان، (ولعل ذلك بسبب أنّ الأشياء الخفية غالباً ما تقع مجالًا للشك).

يقول الراغب عند تفسيره لجملة «يؤمنون بالغيب»: إنّ الغيب شي ء خارج عن دائرة الحس والعقل الابتدائي ويعرف بواسطة إخبار الأنبياء.

وكلمة «نفدت» أُخذت

من مادة «نَفَدَ» على وزن (حَسَدَ)، «والنفاد» كما يستخلص من المفردات ولسان العرب- يعني الفناء والدمار، و «مُنَافِد» تُطلق على الشخص القوي للغاية في استدلالاته بحيث يدحض جميع حجج خصمه، و «نفاد» جاءت بمعنى نضوب ماء البئر.

جمع الآيات وتفسيرها

كان عدد من المشركين أو أهل الكتاب يسألون النبي صلى الله عليه و آله عن «الروح»، فأمر اللَّه سبحانه الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله وكما جاء ذلك في الآية الاولى أن يجيبهم بأنّ «الروح» من أمر ربي

نفحات القرآن، ج 1، ص: 82

ويضيف لهم بأنهم ما أُوتوا من العلم إلّاقليلًا، ولهذا فلا قابلية لهم لإدراك حقيقة «الروح» «1».

وفي هذه الآية إشارة واضحة إلى كون العلم البشري محدوداً (وذلك لأنّ الروح المقصودة فيها هي روح الإنسان) وهي أقرب شى ء إلى الإنسان وذلك لأنّ الإنسان ما استطاع الاحاطة علماً بجوهر روحه التي هي أقرب إليه من الحقائق والموجودات في الكون، وأنّ ما يعرفه عنها هو معرفة سطحية وإجمالية، فكيف يمكنه معرفة حقائق العالم الاخرى !

ج ج

أمّا الآية الثانية والتي هي آخر آية من سورة لقمان، تكشُف عن علوم خاصة باللَّه تعالى وأشارت إلى خمسة منها: قيام الساعة، نزول المطر، الجنين الذي في رحم الام، الحوادث المستقبلية التي تتعلق بأعمال الإنسان والمكان الذي يموت فيه الإنسان، وقد أُشير إلى هذه العلوم الخمسة في الروايات تحت عنوان «مفاتيح الغيب الخمسة» التي لا يعرف عنها أحد إلّا اللَّه «2».

وقد يعلم الإنسان علماً إجمالياً عن هذه الأمور الخمسة بالاستعانة بالقرائن، إلّاأنّ الجزئيات لا تتضح لأحد أبداً، فلا يعلم- مثلًا- ما هي قابليات الجنين الجسمية والروحية وهل هو جميل أم قبيح وأنّه سليم أم سقيم، وحتى جنسه (المذكر والمؤنث) لا يمكنه معرفته إلى مراحل

متأخرة من حياته في الرحم.

إنَّ القرآن يخاطب الإنسان في هذه الآية ويقول: يا أيّها الإنسان أنّك لا تعلم عن غدك شيئاً ولا تعلم في أي أرض تموت، وعليه فكيف تتوقع أن تعرف عن جميع ما في العالم وعلمك محدود؟!

______________________________

(1). إنّ جملة «ما أُوتيتم من العلم إلا قليلًا» فُسّرت من قبل أغلب المفسرين بكونكم أُوتيتم قليلًا من العلم، إلّاأنّ البعض فسّرها بأنّ قليلًا منكم أُوتي علماً، إلّاأنّ هذا التفسير الأخير يتنافى مع ظاهر الآية التي تجعل المشركين وأهل الكتاب السائلين عن الروح مخاطباً لها فتأمل.

(2). تفسير مجمع البيان، ج 8، ذيل الآية 34 من سورة لقمان.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 83

وقد تحدثت الآية الثالثة عن تسبيح وحمد جميع الكائنات للَّه، فجميعها بلسان حالها وبالنظام الدقيق والعجيب الذي يهيمن عليها- تحمد وتثني على اللَّه وتشهد بنزاهته عن أي نقص وعيب، وتملأ العالم بلسان حالها- أو بقولها إضافة إلى لسان حالها- بهمهمة التسبيح والتحميد، وكل ذرة في هذا العالم بلا استثناء لها عقل وعرفان وشعور خاص بها، تحمد اللَّه وتثني عليه بمعرفة، وقد شرحنا هذين الرأيين في التفسير الأمثل «1».

وعلى أيّة حال، فنحن لا نستطيع فهم لسان حال الموجودات لأننا لا نعرف كل شي ء عن أسرار هذا العالم ونظامه، كما لا نستطيع فهم ما تقول أيضاً.

و من هنا يتّضح أنّ العالم ملي ءٌ بالهمهمة والألحان الإلهيّة ونحن غافلون عن ذلك لأننا لم نحط به خبراً، وهذا دليل واضح على كون علمنا البشري محدوداً.

ج ج

وتحدثت الآية الرابعة عن «الجهاد» وتقول للذين يكرهون الجهاد: أنتم تجهلون «الخير» و «الشر» ولا تميزون بينهما، فانّكم أحياناً ما تكونون في حرب مع مصالحكم وقد تتقدمون نحو الشر حبّاً ورغبةً فيه، وهذا دليل واضح على علمكم المحدود

حيث إنّكم لا تميزون أحياناً بين ما هو شرٌ لكم وما هو خيرٌ لكم، إلّاأنّ اللَّه يعلم ذلك وقد اوضح بواسطة الوحي (الذي هو أحد مصادر المعرفة) وبيّنَ لكم ما فيه خير وما فيه شر.

إنّ الآية الخامسة مع إشارتها إلى عظمة خلق السموات والأرض أشارت إلى حقيقة أن خلقهما أعظم وأهم من خلق الإنسان، وأشارت أيضاً إلى عدم معرفة أكثر الناس لهذه القضية، هذا في الوقت الذي كانت فيه معلومات الإنسان بصورة عامة وفي الحجاز بصورة خاصة محدودة تجاه خلق السموات والأرض، ولعلهم كانوا يتصورون النجوم آنذاك مسامير فضية في كبد السماء، واليوم حيث توسعت معلوماتنا تجاه خلق السموات والأرض، فانّها لا زالت محدودة.

______________________________

(1). التفسير الأمثل، ذيل الآية 44 من سورة الاسراء.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 84

والآية السادسة بعد أن أشارت إلى قضية الطلاق والعدّة وضرورة بقاء المطلقة في بيت الزوج عند إعتدادها بالعدة الرجعية، تقول: قد يحدث اللَّه أمراً جديداً في هذه الأثناء أي اثناء مجاورتها لزوجها السابق، الأمر الذي قد يؤدّي إلى الصلح بينهما.

والملفت للنظر هنا هو أنّ مخاطب الآية نفس الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله فإذا كان الرسول صلى الله عليه و آله مع علمه الواسع يُخَاطَب بخطاب كهذا فما حال باقي أفراد البشر؟!

وهذا دليل على قصور العلم البشري إلى مستوى بحيث لا يستطيعون أن يعلموا بمستجدات يومهم اللاحق.

ج ج

وفي الآية السابعة يؤمر الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله بأن يقول: إنّي لا أملكُ لنفسي نفعاً ولا ضرّاً، وأن يعترف:

إنّي لا أعلمُ الغيب (إلّا ما علمني اللَّه) واني لو كنت أعلمُ الغيب لاستكثرت وازددتُ من الخير لنفسي وما مسني ضرٌّ وما حصلت لي مشكلةٌ.

إنّ هذا الحديث قاله الرسول صلى الله عليه

و آله عندما كان أهل مكة يسألونه عمّا إذا كان يوحى إليه فلِمَ لا يعلم ما سيؤول إليه امر ارتفاع وانخفاض اسعار السِّلع أو الجفاف وهطول الغيث في المناطق المختلة كي يستزيد من الخير وينتفع أكثر، فأجابهم: إنّ عالم الغيب هو اللَّه وهو صاحب العلم غير المحدود.

عندما يعترف الرسول صلى الله عليه و آله مع علمه الواسع حيث يقول اللَّه تعالى فيه «... وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمْ ...». (النساء/ 113)

بأني لا أعلم من الغيب (وهو الأمر الخارج عن الحس) إلّا ما علمني اللَّه فكيف حال بقيّة البشر؟

ج ج

نفحات القرآن، ج 1، ص: 85

والآية الثامنة بعد أن بينت أحكام إرث الأولاد والأب والأم في حالات مختلفة ذكرت:

حتى أنفسكم لا تعلمون أيّاً من الأب والأم أو الأولاد أنفع لكم؟ وأيهم أحق بأموالكم كي يخصص له سهم أكثر.

نعم، لستم على بينة بمصالحكم الشخصية، لهذا السبب لا تستطيعون أن تسنّوا قوانين دقيقة تليق بمقام الارث وغيره، إنّ المُقنّن يجب أن يكون الهاً محيطاً بِكل أسرار الوجود، نعم، إنّ قصور علم البشر بدرجة لا يستطيع أن يسن قوانين تحافظ على مصالحه، ولهذا نرى أنّ القوانين البشرية في حالة تغيير دائمي، فإذا كان الإنسان يجهل مصيره إلى هذا الحد، فكيف به تجاه الموجودات الاخرى الموجودة في الكون؟

وأخيراً، فإنّ الآية التاسعة والأخيرة في البحث هذا تحدثت عن العلم الإلهي اللامتناهي، وصوّرت اللانهاية في الأذهان بحيث يستطيع حتى الذي لم ينل من العلم إلّا القليل بل وحتى الأُمي أن يرسم في ذهنه صورة عنها، بالرغم من صعوبة تصور اللانهاية حتى للعلماء، حيث قالت: لو أنّ ما في الأرض من شجر يصير أقلاماً رغم أن الأشجار قد يصل عددها إلى مليارات (بل قد يُصنع الملايين

من الأقلام من شجرة واحدة: وبالرغم من أنّ حوضاً صغيراً قد يملأ الملايين من الدواة فكيف بالمحيطات والبحار، وإضافة إلى هذا كله، لو اجتمعت الملائكة وكُتاب الانس والجن على أن يكتبوا بهذه الأقلام وهذا الحبر كلمات اللَّه وعلمه ما استطاعوا وسوف تنصرم الأقلام وينتهي الحبر وما زالت كلمات اللَّه جلّ جلاله وعلومه في بداية الدفتر، هذا من جهة.

ومن جهة اخرى فأنّنا نعلم أنّ المراد من كلمات اللَّه هو الكائنات الموجودة في العالم، وعلى هذا فالآية دليل واضح على سعة العالم وقصور علم البشر.

ج ج

نتيجة البحث:

إنّ ما يستخلص من الآيات السابقة هو أنّ معرفة الإنسان وعلومه رغم سعتها بحدّ ذاتها

نفحات القرآن، ج 1، ص: 86

ورغم أنّ علوم ومعارف البشر في حالة ازدياد في كل يوم بل كل ساعة ولحظة، ورغم امتلاء الدنيا بالمدارس والجامعات والمكتبات ومراكز التحقيق، رغم هذا كله فإنّ هذه المعلومات بالقياس إلى المجهولات كالقطرة بالنسبة للبحر.

إذا لم يكن الإنسان عارفاً بخيره وشرّه ونفعه وضره ولا بِكُنْهِ روحه التي هي أقرب إليه من أي شي ءٍ آخر، ولا بالحوادث المقبلة عليه، ولا بساعة موته، فكيف يمكنه أن يعرف ما يدور في الكواكب البعيدة في العالم اللا متناهي.

ومما لا شك فيه أنّ جهل الإنسان بهذه الامور لا لعجزه بل لسعة الكون، وقد يكون انكار البعض لنظرية إمكان المعرفة نشأ من خلطهم بين هذه المسألة ومسألة قصور العلم البشري واقترانه بالاخطاء.

إنّ القرآن كما يدعو إلى العلم والمعرفة ويؤكّد على أن باب العلم مفتوح للجميع، يصرح بقصور العلم البشري، هذا النقص والقصور اللذان يدعوانه إلى الاعتراف بعظمة الكون وخالقه وبحاجته إلى الرسل وأصحاب الوحي.

ونختم هذا الحديث بمقطع من دعاء الإمام الحسين عليه السلام المعروف بدعاء يوم عرفة، حيث يقول:

«إلهي أنا

الفقير في غناي، فكيف لا أكون فقيراً في فقري، الهي أنا الجاهل في علمي، فكيف لا أكون جهولًا في جهلي».

ج ج

3- الفلاسفة والعلماء يشهدون بقصور العلم البشري

اشارة

إنّ كون علم البشر محدوداً أمرٌ مسلم به وبديهي ولا يحتاج إلى دليل أو برهان لإثباته، إلّا أنّه بالالتفات إلى النقاط التالية يتّضح لنا الأمر أكثر:

1- إنّ قدرة حواس الإنسان محدودة، فالعين رغم أنّها أهم وسيلة للمعرفة في الامور الحسية فهي لا تستطيع رؤية شي ءٍ من بعيد، إضافة إلى أنّ عدد الألوان التي يشاهدها

نفحات القرآن، ج 1، ص: 87

الإنسان محدودٌ جدّاً لأنّ الألوان ما فوق البنفسجية وما تحت الحمراء بالرغم من كثرتها فلا قدرة للعين على رؤيتها.

كذلك بالنسبة للاذن فانّها لا تسمع كل شي ءٍ بل تسمع أمواجاً صوتية محدودة، وبمجرّد ارتفاع أو هبوط درجة تردد الأمواج فسوف لا تسمع شيئاً، وكذا الحال في بقية الحواس.

إنّنا بالعين المجرّدة نستطيع رؤية عدّة آلاف من النجوم في السماء فقط، بينما هناك المليارات من النجوم موجودة في السماء.

صحيح أنّ الوسائل العلمية ضاعَفَت من قدرة الحواس، إلّاأنّها هي بدورها محدودة القدرة أيضاً.

2- إنّ قدرة إدراكاتنا وأفكارنا محدودة وما وراءها فهو مجهول عندنا على الاطلاق، وهذا الأمر يصدق حتى بالنسبة إلى أكثر الناس علماً وذكاءً فإنّ قدرة فكره وإدراكه تكون محدودة أيضاً.

3- من جهة اخرى فإنّ العالم واسع بدرجة لا يمكننا استيعابه، ونستطيع أن نقول: إنّ علمنا كلما إزداد، ازدادت عظمة العالم في أذهاننا.

ولإدراك عظمة هذا العالم (إلى المستوى الذي يصل إليه فكرنا) يكفي أن نعرف أنّ المنظومة الشمسية والنجوم التي نشاهدها حولنا جزء من المجرّة التي تسمى بدرب التبّانة (المجرّات أو مدن النجوم مجموعة ضخمة من النجوم التي تشكل عالماً خاصاً بحد ذاتها).

وفي هذه المجرة- على ما يقول العلماء- يوجد أكثر

من مائة مليارد نجمة! والشمس بالرغم من عظمتها ونورانيتها فانّها تعتبر من النجوم المتوسطة الحجم في هذه المجرة.

ونفس هؤلاء العلماء يقرّون- وبالاستعانة بالتلسكوب والحسابات الكمبيوترية- أنّ هناك مليارد مجرة في هذا العالم تقريباً! «1»

______________________________

(1). جاء في كتاب (هل وكيف ولماذا) أنّ الفكليين يعتقدون بوجود عدد كبير وهائل من المجرات قرب مجرتنا وبعضها أكبر والبعض الآخر أصغر حجماً وقد كشفت التلسكوبات القوية والحاسوبات العادية للنجوم عن وجود مليارد مجرة تقريباً في هذا العالم.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 88

إنّ ذكر هذه الأرقام سهل على اللسان لكن ما أصعب تصورها؟! وينبغي أن لا ننسى أنّ معلوماتنا عن هذه المجرات والنجوم الهائلة تدور حول محور الأرض فكيف بنا إذا تجاوزنا هذا المحور؟!

4- ومن جهة ثانية فإنّ عالمنا هذا له بداية ونهاية فلا يعلم أحد عن المليارد سنة الماضية ولا عن المستقبل شيئاً، فهو كالسلسلة بدايتها الأزل وتمتد إلى عمق الأبد، وما نعرفه هو حلقة واحدة من هذه السلسلة وهي الحلقة التي نعيش فيها، وما ماضيها أو مستقبلها إلّاكشبح مرسوم في أذهاننا.

صحيح أن الإنسان- وبدافع من فطرته- في سعي مستمر لتحصيل علم أكمل وأشمل عن نفسه وعن العالم، وأنه قد جمع خلال آلاف السنين الماضية معلومات كثيرة ادخرها في خزائن مكتبات العالم الكبيرة والصغيرة.

وصحيح أنّ بعض المكتبات كبيرة إلى مستوى بحيث يصل مجموع طول رفوف الكتب فيها إلى مائة كيلومتر (كما هو الحال بالنسبة لمكتبة المتحف الانجليزي)! وقد يصل عدد الكتب في بعضها إلى ستةُ ملايين كتاباً (كما هو الحال بالنسبة لمكتبة باريس)، بل قد يصل عدد الكتب في بعضها إلى خمسة وعشرين مليوناً (كما هو الحال بالنسبة للمكتبة الأمريكية المعروفة)، وقد تصل فهارس الكتب فيها إلى حجم مكتبة كبيرة، وقد

يصل الأمر بالبعض أن يستعمل وسائل النقل للتنقل فيها من مكان إلى آخر! لكن بالرغم من كل هذه المعلومات عن العالم وأسراره، فإنّ مجموعها لا يشكل إلّاكقطرةٍ من محيط كبير للغاية.

ج ج

ولا بأس أن نشير هنا إلى شهادات بعض العلماء في هذا المجال كي يعرف القارى ء أنّ ما ذهبنا إليه معترف به عند الجميع.

1- يقول «كريس موريس» الطبيب والعالم النفساني في كتابه «سر خلق الإنسان»:

«عندما نفكر بالفضاء اللامتناهي، أو الزمان السرمدي، أو الطاقة العجيبة المودعة في

نفحات القرآن، ج 1، ص: 89

الذرة، أو بالعوالم غير المحدودة والتي تسبح فيها كواكب كثيرة، أو بقدرة تشعشع بعض الكواكب، أو بقوة جاذبية الأرض، أو بالقوانين الاخرى التي يرتبط قوام العالم بها، عندما نفكر بهذه ندرك مدى ضعفنا ونقصان علمنا» «1».

2- ويذكر الدكتور «الكسيس كارل» في كتابه «الإنسان ذلك المجهول»:

«إنَّ المساعي التي بذلت في العلوم التي اطلع عليها الإنسان لم تصل إلى نتيجة مطلوبة، ومعرفتنا لأنفسنا ما زالت ناقصة إلى حدٍ كبيرٍ» «2».

ولهذا السبب جعل «الإنسان ذلك المجهول» عنواناً لكتابه القيّم، فإذا كانت معرفة الإنسان عن نفسه محدودة إلى هذه الدرجة، فواضح حال معرفته عن الأكوان والعوالم الاخرى.

3- ويقول العالم المعروف «وليام جيمس»:

«علمنا قطرة، وجهلنا بحر عظيم».

4- ويقول الفكلي المعروف «فلا ماريون»:

«أستطيعُ أن أهيي ء أسئلة ولمدة عشر سنوات عن مجهولات لا تستطيعون الإجابة عليها» «3»!

5- ويضيف في كلام آخر له:

«نحن نفكر لكن ما هو فكرنا؟ ونمشي، لكن ما هو عملنا العضلي هذا؟ لا أحد يعلم بذلك.

أرى أنّ إرادتي قدرة غير مادية، لكنني عندما أريد أن أرفع يدي أرى أنّ الإرادة غير المادية تحرك يدي والتى هي عضو مادي، كيف يحصل هذا؟ وما هي الواسطة التي تحول

______________________________

(1). سرّ خلق الإنسان، ص

87 (بالفارسية).

(2). الإنسان ذلك المجهول، ص 5.

(3). على اطلال المذهب المادي، ص 138.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 90

الطاقة غير المادية إلى مادية؟ لا يوجد من يجيب على هذا السؤال» «1».

إذا كانت معلوماتنا تجاه أوضح وأبسط الامور العادية هكذا، فما هو الحال بالنسبة للقضايا المعقدة أو البعيدة عن متناول أيدينا زماناً ومكاناً.

6- يقول (انشتاين» الرياضي المعروف والمكتشف للنظرية النسبية والبُعد الرابع، في أحد كتبه:

«لقد علّمنا كتاب الطبيعة الذي نقرأه الكثير من الأمور وقد عَرفْنَا أُسس لغة الطبيعة ...

لكن رغم قراءتنا للمجلدات وفهمنا لها فإنّنا مازلنا بعيدين عن كشف أسرار الطبيعة» «2».

وينبغي هنا اضافة هذه الجملة على الشهادات السابقة:

من العجيب حقّاً أن كل اكتشاف جديد يحصل في هذا العالم يزيد من مجهولات الإنسان، وبعبارة اخرى إنّ اكتشافات العلماء في مختلف المجالات كاكتشاف مكتبة جديدة، أو اكتشاف كنز قيم في نقاط مختلفة من الأرض.

وبديهي فإننا إذا اطلعنا على وجود مكتبة في احدى المدن، أو كنز قيم في خربةٍ فقد أزلنا النقاب عن مجهول واحد، لكن الآلاف من المجاهيل تكشف عن نفسها من خلال هذا الاكتشاف، مثل عدد الكتب ومحتواها وكُتّابها وشخصياتهم وقضايا اخرى من هذا القبيل، كذا الحال بالنسبة للكنز فإذا اطلعنا على وجوده تبلورت في أذهاننا مجاهل اخرى عنه مثل نوعيته ومحتواه ....

ولا نذهب بعيداً، فإنّ عالم الكائنات المجهرية (المكروبات والبكتريا والفايروسات) كان في يوم ما مجهولًا كلياً، وعندما خطا (باستور) الخطوة الاولى عند كشفه لبعضٍ من هذه الكائنات تجلى أمامه عالم كبير من المجهولات.

إنّ اكتشاف الكواكب «اورانوس» و «نبتون» و «بلوتون» في المنظومة الشمسية وكذا

______________________________

(1). على اطلال المذهب المادي، ص 138.

(2). خلاصة الفلسفة النسبية.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 91

كشف المجرات الجديدة كلها من قبيل كشف (باستور) لعالم الكائنات

المجهرية، ومن هنا يجب الاذعان والاعتراف بأنّ العلوم البشرية كنور شمعةٍ وان حقائق هذا العالم العظيم كنور الشمس بل أعظم من ذلك!

ومن هنا ينبغي القول: «سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلّا مَا عَلَّمْتَنا». (البقرة/ 32)

ونختم هذا الحديث بكلام عظيم لمتكلم عظيم ألا وهو الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، حيث يقول في خطبة الأشباح:

«واعلم أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السُّدَدِ المضروبة دون الغيوب، الاقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فمدح اللَّه- تعالى اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً، وسمّى تركهم التعمّق فيما لم يكلفهم البحث عن كنهه رسوخاً، فاقتصر على ذلك ولا تُقدّر عظمة اللَّه سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين»! «1».

ج ج

تذكير:

إنّ الالتفات إلى كون علم البشر محدوداً لهُ آثار ونتائج إيجابية بنّاءة، نذكرها هنا:

1- الحد من الغرور العلمي: نعلم أنّ البشر قد واجه مصائب كثيرة من جراء الغرور العلمي، ومثاله ما ظهر في حدود القرن الثامن عشر الميلادي في اروبا فعندما حصلت قفزة في العلوم الطبيعية آنذاك، تصور بعض العلماء أنّ جميع ألغاز الكون قد حلت وأنّ أسراره قد كُشفت، ولهذا أنكروا كل شي ء يكمن وراء معلوماتهم، بل سخروا من جميع الامور التي لا تدخل في اطار معلوماتهم، وقد وصل انكارهم إلى حدٍ سخروا من وجود الروح حيث قال بعضهم: لا نؤمن بوجود الروح مالم نشاهدها تحت سكاكين الجراحة في غرفة العمليات، أو بما أنّ اللَّه لا يدرك بالحس فلا وجود له!

إنّ هذا النوع من الغرور خلق مشاكل كثيرة، والأمر الوحيد الذي يمكنه أن يحطم هذا

______________________________

(1). نهج البلاغة، الخطبه 91.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 92

الغرور العلمي هو الالتفات إلى ضآلة العلوم البشرية بالقياس إلى المجهولات،

طبقاً للأدلة التي ذكرت سابقاً.

إنّ الالتفات إلى هذه الحقيقة هو الذي جعل العلماء المتعمقين يعترفون بما قاله أحدهم:

«إنّ علمي وصل إلى مستوىً بأنّي أعلم أنّي لا أعلم» و «معلوماتي صفر والمجهولات بالقياس لها غير متناهية».

2- الحركة العلمية الأسرع: إنّ الالتفات إلى هذه الحقيقة يسوق الإنسان نحو السعي الحثيث والجهاد المخلص والمتواصل لحل ألغاز عالم الوجود، خاصة وأنّه يرى أنّ أبواب العلم مفتوحة أمامه، ولا ييأس من الحصول على علوم أكثر.

وَمن الواضح أنّ الإنسان لا يسعى وراء الكمال مالم يشعر بالنقص، ولا يبحث عن الدواء ما لم يحس بألم المرض، ولهذا يقال: إنّ الاحساس بالألم احدى نِعَم اللَّه العظيمة، وان أسوء الأمراض هي تلك التي لا يصحبها الألم لأنّ المريض لا يطّلع على المرض إلّابعد أن ينقض عليه ويهلكه.

إنّ الالتفات إلى ظئالة العلم البشري يخلق عند الإنسان ردّ فعل إيجابيّ يدفعه نحو التحقيق والتفحص أكثر فأكثر، وقد يكون هذا الأمر هو أحد أهداف القرآن الكريم عند تأكيده على نقصان العلم البشري.

3- الالتفات إلى مبدأ أسمى من الآثار الإيجابية التي يتركها الاحساس بالنقص العلمي عند كل فرد هو أن الإنسان شاء أم أبى يجد نفسه بحاجة إلى مبدأ أعظم تكون عنده جميع أسرار العالم مكشوفة، وألغازه محلولة، إنّ هذه القضية تهيي ء الأرضية لقبول دعوة الأنبياء، وتفتح أمامه سبلًا للاهتمام بالمصادر والطرق العلمية التي تفوق علم البشر.

على أيّة حال، إنّ الالتفات إلى كون علم البشر محدوداً مع غض النظر عن كونه حقيقة، له آثار تربوية وإيجابية جمة.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 93

مصادر وسُبُل المعرفة

اشارة

(مصادر المعرفة الستة)

الحس والتجربة

العقل والتحليل المنطقي.

التاريخ و الآثار التاريخية.

الفطرة والوجدان

الوحي السماوي

الكشف والشهود

نفحات القرآن، ج 1، ص: 95

تمهيد:

بعد ما ثبت لنا إمكان المعرفة وإمكانية الوصول إليها إجمالًا، جاء الدور للبحث عن سبل المعرفة، وبتعبير آخر عن مصادرها ومنابعها التي تمكننا من معرفة الحقائق الموجودة في العالم، لأنّنا بالاستعانة بهذه السُبُل يمكننا تبديل «الواقعيات» إلى «حقائق»، بواسطة هذه المعالم وذلك لأنّ كلًا من هذه السُبلُ معلم وهادٍ يرفع الحجاب عن أسرار العالم ومجهولاته.

وقبل كلّ شي ء ينبغي معرفة رأي القرآن في هذه المسألة، لأنّ محور دراستنا هذه هو التفسير الموضوعي والتحقيق حول تعليمات القرآن الكريم.

وقد وصلنا بالتحقيق والتتبع الدقيق في الآيات المختلفة والمنتشرة في القرآن الكريم إلى هذه النتيجة وهي أنّ طرق المعرفة ومصادرها في القرآن الكريم تتلخص في ستة أمور:

1- الحس والتجربة (الطبيعة).

2- العقل والتحليل المنطقي.

3- التاريخ والآثار التاريخية.

4- الفطرة والوجدان.

5- الوحي السماوي.

6- الكشف والشهود.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 97

1- الحس والتجربة

اشارة

لنمعن النظر خاشعين في البداية إلى الآيات الكريمة التالية:

1- «افَلَمْ يَنْظُرُوا الَى السَّمَاءِ فَوقَهُم كَيْفَ بَنَينَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَها مِنْ فُرُوجٍ . (ق/ 6)

2- «اوَ لَمْ يَنْظُروا فِى مَلَكُوتِ السَّموَاتِ وَالارْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَى ءٍ ...». (الاعراف/ 185)

3- «افَلَا يَنْظُرُونَ الَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ* وَالَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعتْ* وَإِلَى الجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ* وَالَى الارْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ . (الغاشية/ 17- 20)

4- «فَانْظُر الَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْىِ الارْضَ بَعْدَ مُوتِها ...». (الروم/ 50)

5- «فَلْيَنْظُرِ الْانْسَانُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِنْ مَّاءٍ دافقٍ . (الطارق/ 5- 6)

6- «فَلْيَنْظُرِ الْانْسَانُ الَى طَعامِهِ* انَّا صَبَبْنَا المَاءَ صَبّاً* ثُمّ شَقَقْنَا الْأَرضَ شَقّاً* فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً* وَعِنَباً وَقَضْباً». (عبس/ 24- 28)

7- «اوَ لَمْ يَرَوا الَى الْارْضِ كَمْ انْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ . (الشعراء/ 7)

8- «اوَ لَمْ يَرَوا انَّا نَسُوقُ المَاءَ الَى الارْضِ الجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تأْكُلُ

مِنْهُ انْعَامُهُم وَ انْفُسُهُمْ افَلَا يُبْصِرُونَ . (السجدة/ 27)

9- «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِى الْآفَاقِ وَفِى أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ انَّهُ الحَقُّ ...». (فصلت/ 53)

10- «اوَ لَمْ يَرَوا الَى الطَّيرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ الَّا الرَّحْمنُ انَّهُ بِكُلِّ شَى ءٍ بَصِيرٌ». (الملك/ 19)

11- «وَفِى الارْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ* وَفِى انْفُسِكُمْ افَلَا تُبْصِرُونَ .

(الذاريات/ 20- 21)

نفحات القرآن، ج 1، ص: 98

12- «وَاللَّهُ اخْرَجَكُمْ مِّنْ بُطُونِ امَّهَاتِكُمْ لَاتَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالابْصَارَ وَالْأَفئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشكُرُونَ . (النحل/ 78)

ج ج

إنَّ الآيات الواردة في هذا المجال كثيرة جدّاً، وما ذكر هنا نماذج واضحة في مجالات مختلفة «1».

شرح المفردات:

إنَّ كلمة «ملكوت»- على ما يقوله الراغب في مفرداته- مصدر «مَلَك» وقد اضيفت لها التاء، وتستعمل في الإشارة إلى (ملك اللَّه) فقط دون غيره، بينما جاء في «مجمع البحرين» و «لسان العرب» أنّ الملكوت يعني «العزة والسلطنة»، ويقول البعض: إنّها اشتقت من «مُلك» على وزن «حُكْم» وتعني «الحكومة والملكية»، واضيفت لها التاء والواو للمبالغة.

وكلمة «قضب» على وزن (جَذْب)- وكما جاء في لسان العرب- في الأصل تعني «قطع» بحيث قال بعض المفسرين: إنّها تعني الخضروات التي تُحصد في فصول مختلفة «2».

وكلمة «جُرُز» تعني الأرض الفاقدة للنباتات، أو الأرض التي لا ينبت فيها نبات، و «جَرَزَ» على وزن (مَرَض) وتعني القَطع ونقل صاحب «لسان العرب» عن بعض أئمّة اللغة أنّ الأرض الجرز تطلق على الأرض التي قلع نباتها أو انقطع عنها المطر.

______________________________

(1). يمكن الرجوع إلى الآيات التالية: الاعراف، 185؛ ويوسف، 109؛ الروم، 9؛ غافر، 6؛ النحل، 79؛ الشعراء، 7؛ الاحقاف، 33؛ الملك، 19؛ يس، 77؛ الأنعام، 6؛ النحل، 78؛ المؤمنون، 78؛ ق، 37؛ الاحقاف، 26؛ هود، 24؛ غافر، 21؛ محمد، 10.

(2). تفسير الميزان، ج 2، ص 316؛ تفسير

مجمع البحرين، ج 10، ص 440. نُقِلَ عن ابن عباس أنّ المراد من «القضب» في الآية هو «الرُطَب» الذي يقتطف من النخيل لكن بالنظر إلى الآية الاخرى التي أشارت إلى نفس الكلمة فإنّ هذا التفسير بعيد. وقال البعض: يحتمل أن يكون المراد منها هو فواكه الشجيرات مثل الخيار والرقي، أو جذور بعض المزروعات مثل الجزر والبطاطس.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 99

وأمّا كلمة «افئدة» جمع «فؤاد» وتعني القلب- كما يقول الراغب- إلّاأنّ الفؤاد يطلق على القلب الذي له حالة إنارة وإضاءة، وهذا أمرٌ ملفت للنظر حيث يعد اللَّه القلب المنَّور والمنير من مواهبه، وجدير بالذكر أنّ صاحب «لسان العرب» ذكر أنّ أصلها جاء من «فأد» على وزن (وَعْد) ويعني المشوي، وعلى هذا تكون كلمة «فؤاد» إشارة إلى العقول التي تتحلى بالأفكار الناضجة!

ج ج

جمع الآيات وتفسيرها

في الآية الاولى يدعو اللَّه الإنسان إلى الالتفات إلى السموات والأرض وجمالهما وكيفية بنيانهما والنظام الذي يتحكم بهما وإحكامهما واتقانهما وخلوهما من العيب.

وفي الآية الثانية يدعو اللَّه الناس إلى مشاهدة نظام السموات والأرض والكائنات، وذلك لإيقاظ القلوب للسير في طريق التوحيد ومعرفة الخالق.

والآية الثالثة تلقي نظرة من السماء إلى الأرض حيث تلفت نظر الإنسان إلى شيئين:

أحدهما خلق الإبل وعجائب هذا الخلق (بالخصوص لُاناس يعيشون في محل نزول القرآن).

والآخر تسطيح الأرض بحيث تصلح الحياة عليها، ويعتبر القرآن المشاهدة في جميع هذه المراحل منبعاً مهماً للمعرفة.

وفي الآية الرابعة والتي يخاطب اللَّه فيها الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله يلفت نظره إلى مسألة نزول الغيث وإحياء الأرض بعد موتها ويقول له: «فانظر إلى آثار رحمة اللَّه كيف يحيي الأرض بعد موتها».

وفي الآية الخامسة يشير اللَّه إلى مبدأ خلق الإنسان وأنّه يجب أن ينظر من أي شي ءٍ خُلِقَ؟

قد خلق من ماء دافق، ويذكر المشاهدة هنا كوسيلة للمعرفة كذلك.

وفي الآية السادسة يأمر اللَّه الإنسان بأن ينظر إلى غذائه وطعامه كيف نبت وشق الأرض

نفحات القرآن، ج 1، ص: 100

وخرج النبت من التربة بواسطة نزول المطر فصارت الحبوب والفواكه والخضروات، فإذا نظرنا إليها ودققنا في كل ورقة من أوراقها لوجدناها كتاباً وسفراً يحكي لك عن معرفة اللَّه.

ج ج

والآيات الست السابقة تدعو إلى «النظر» بينما الآيات الخمس التي بعدها تدعو إلى «الرؤية» بالرغم من أنّ كلًا من هذين الاصطلاحين في كثير من الأحيان يستعملان بمعنى واحد، إلّاأنّه كما يستفاد من قواميس اللغة المعروفة- يطلق «النظر» على حركة العين والتفحص والدقة في مشاهدة شي ءٍ، بينما تطلق «الرؤية» على نفس المشاهدة «1»، بالطبع أنّ كلا المفردتين تستعملان بمعنى المشاهدة الحسية تارة وبمعنى المشاهدة الذهنية والفكرية تارة اخرى، إلّاأنّه ينبغي الالتفات إلى أنّ المعنى الأولي لهما هو المشاهدة الحسية.

وعلى أيّة حال، فإنّ الآية السابعة تدعو المشركين لمشاهدة مختلف النباتات التي تنبت أزواجاً أزواجاً في أرجاء المعمورة.

والآية الثامنة تدعو المشركين كذلك إلى رؤية مياه البحار ومصدرها تلك القطرات العالقة في الغيوم وهطولها منها على الأرض اليابسة وخروج الزرع الذي يستفيدون منه هم وأنعامهم.

وقد أشارت الآية التاسعة إلى جميع آيات «الآفاق» و «الأنفس»، وهي آيات اللَّه في هذا العالم العظيم وفي العالم الصغير وهو وجود الإنسان، وقالت: نحن نريكم آيات الآفاق والأنفس كي يتبين لكم الحق ويتضح.

والآية العاشرة دعت إلى مشاهدة الطيور وكيفية طيرانها في السماء، فتارة صافّات اجنحتها وتارة اخرى قابضات، وهذا الأمر هو الذي يجعلها تطير في السماء خلافاً لجاذبية الأرض، كما أنّ طيرانها بسرعة تارة بصف الأجنحة واخرى بقبضها، وكأنّ هناك قدرة خفية تدفعها إلى الأمام، ولكلٍ من الطيور

شكلها الخاص بها والوسائل الضرورية لحياتها.

______________________________

(1). يراجع مفردات الراغب ولسان العرب مادة «نظر».

نفحات القرآن ج 1 149

نفحات القرآن، ج 1، ص: 101

والآية الحادية عشرة لفتت الأنظار إلى مسألة خلق الأرض ومن ثم خلق الإنسان الذي يعتبر خلقة عالَماً عظيماً مليئاً بالضجيج رغم صغر حجمه، وأنبّت الذين لا يبصرون رغم أنّهم قادرون على الإبصار بخطاب «أفلا يبصرون».

(ينبغي الالتفات إلى أنّ «البصيرة» جاءت من مادة «بصر» الذي يعني «العين» إنّ «بصر العين»، ورغم استعمالها بمعنى «النظر» و «الرؤية» إلّاأنّها تختلف عنهما بالتأكيد على عضو البصر وقوته، لكنها كالمفردتين السابقتين قد تستعمل بمعنى المشاهدة الباطنية والفكر).

وأخيراً، فإنّ الآية الثانية عشرة تؤكد على الأعضاء الثلاثة أى الأذن والعين والقلب والتي تعتبر ثلاثة أعضاء أساسية للمعرفة وهذا دليل واضح على اعتبار المشاهدة والحس من المصادر الأساسية للمعرفة.

النتيجة:

إنّ الآيات السابقة والتي غالباً ما تحدثت عن قضية التوحيد ومعرفة اللَّه، أمرت الناس بأن يفتحوا أعينهم أثناء سلوك طريق المعرفة والتوحيد من أجل الوصول إلى الهدف، عندها سيرون اسم «اللَّه» على جبين كل موجود في هذا العالم، ويشاهدون الأنظمة الدقيقة والغريبة التي تتحكم بالعالم، ومن ثم يصلون- بواسطة برهان النظم- لا إلى معرفة ذات اللَّه فحسب، بل صفاته وتوحيده وتدبيره وقدرته وعلمه اللامتناهي.

وبالنظر إلى أنّ أهم مسألة في الإسلام هي مسألة التوحيد ومعرفة اللَّه، وأنّ أهم دليل في القرآن على المعرفة هو برهان النظم، وأهم منبع لبرهان النظم هو الطبيعة والمخلوقات فمن هنا تتضح أهميّة الحس والمشاهدة والتجربة من وجهة نظر القرآن الكريم.

وقد استعان القرآن كثيراً ب «المشاهدة الحسية» ليس في مسألة التوحيد فحسب بل في مسألة المعاد أي ثاني أهم مسألة في الإسلام أيضاً، وقد صوّر لنا لقطات من المعاد بالاستعانة

بنفس الطبيعة المشهودة لنا، كما جاء ذلك في سورة (ق) حيث يقول تعالى

نفحات القرآن، ج 1، ص: 102

«وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَاءً مُّبارَكاً فَأَنْبَتنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ* ... وَاحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ الخُرُوجُ : أي في يوم القيامة. (ق/ 9 و 11)

كما- وأنّه للكشف عن عاقبة الظلم والجور وأهلهما- دعا اللَّه الناس لمشاهدة ما خلَّف هؤلاء من آثار ومشاهدة مدنهم الخربة.

هذا كلّه تأكيد من القرآن على ضرورة الاستعانة ب «الحس والمشاهدة» كمصدر للمعرفة.

توضيح

الفلاسفة ومصدر الحس:

هناك اختلاف كبير في وجهات نظر الفلاسفة فيما يخص قضية اطّلاعنا على العالم الذي يحيط بنا وما هي المراحل التي نطويها للوصول إلى هذه المعرفة؟ ومن أي مصدر تصل أذهاننا؟ إنّ أكثر الفلاسفة عدّوا الحس أحد مصادر المعرفة رغم ظهور قطبين على طرفي الإفراط والتفريط في هذا المجال.

1- «الحسيون» حيث يعتبرون الحس الطريق الوحيد للمعرفة وينكرون المصادر الاخرى كالعقل.

«إنّ هؤلاء الذين ظهروا في القرن السابع عشر أنكروا قيمة البرهان القياسي العقلي، واعتبروا اسلوب التجربة الاسلوب الوحيد والسليم والمعتمد عليه في هذا المجال، وتعتقد هذه المجموعة بعدم أصالة وتجذر الفلسفة النظرية العقلية المستقلة عن العلوم التجريبية، ويعدون العلم ثمرة الحواس فقط، والحواس لا تتعلق إلّابظاهر وعوارض الطبيعة، إذن لا اعتبار للمسائل الفلسفية الأولية، وذلك لأنّها نظرية وعقلية بحتة وتتعلق بالامور غير المحسوسة، ولا يدرك الإنسان هذه المسائل نفياً أو إثباتاً» «1».

______________________________

(1). اصول الفلسفة والمنهج الواقعي للشيخ المطهّري، ج 1، ص 6 (مع تلخيص قليل).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 103

إنّ الماديين ومن ضمنهم أتباع المذهب «الديالكتيكي» من المتحمسين لهذه النظرية، فهم يقولون:

«إذا انقطعت جميع قنوات التأثير الخارجي عن حسّنا، فهذا يعني أنّا سوف لا نعرف شيئاً، وسيعجز الذهن عن جميع نشاطاته، وتبقى معرفة الواقعيات أمراً

محالًا، وعلى هذا فالحس منشأ المعرفة ومبنى أحكامنا اتجاه أي مسألة، فينبغي القول أنّ الحس منبع المعرفة بل منبعها الوحيد» «1».

2- المجموعة الاخرى هي التي تقع في الطرف المقابل للمجموعة الاولى تماماً وهي التي لا تولي أي أهميّة للحس في مجال المعرفة.

يقول «ديكارت»: «لا نستطيع الوثوق بالمفاهيم التي وصلتنا من الخارج بواسطة الحواس الخمسة بأنّ لها مصداقاً خارجياً أم لا، وإذا كان لها مصداق فلا يقين لنا بتطابقه مع الواقع» «2».

مسار الحكمة في اوربا: «يعتقد (ديكارت) أنّ محسوسات الإنسان لا تتطابق مع الواقع، وأنّ الحس هو وسيلة ارتباط بين جسم الإنسان والخارج، ويرسم لنا صورة كاذبة عن العالم، فهو يعتقد أن المفاهيم النظرية هي أساس العلم الواقعي» «3».

والخلاصة: أنّ هذه المجموعة تعتقد أن المعقولات فقط لها قيمة علمية يقينية، أمّا المحسوسات فلها قيمة علمية غير يقينية «4».

إنّ المجموعةَ الاولى تستند إلى أخطاء العقل النظري والاختلاف الفاحش بين العلماء في المسائل العقلية، بينما تستند المجموعة الثانية إلى أخطاء الحواس، حيث يذكرون أعداداً لا تحصى من أخطاء حاسة البصر التي تعتبر أهم وأوسع حس للإنسان.

______________________________

(1). المادية الديالكتيكية «نيك آئس»، ص 302، (ملخص)- بالفارسية-.

(2). مسار الحكمة في اوربا، ج 1، ص 172 (مع تلخيص)- بالفارسية-.

(3). المصدر السابق.

(4). اصول الفلسفة، المقالة الرابعة (قيمة المعلومات).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 104

لكن ممّا لا شك فيه أنّ كلتا المجوعتين خاطئتان، ونوضح ما ندعيه بصورة مركزة فنقول:

بالنسبة للحسيين يمكن حصر أهم إشكالاتهم في النقاط التالية.

1- إنّ كلّ إنسان عند مشاهدته للموجودات الخارجية يواجه مجموعة من الحوادث والقضايا الجزئية لا يمكن الاستفادة منها للاستدلال، لأنّ كل استدلال يجب أن يستند إلى قضية كلية.

ومن هنا تبدأ مسؤولية العقل، حيث يقوم بصياغة قضايا كلية من هذه الجزئيات،

فمثلًا نلاحظ أن قطعة الحجر تكسر الزجاج العادي في ظروف مختلفة، فهذه الحوادث الجزئية الحاصلة بالحس تنتقل إلى العقل، فيصوغ العقل قاعده كلية تجاه هذه المسألة، وكذلك الأمر بالنسبة للتجربة في الظروف والازمنة والأمكنة المختلفة التي تكشف عن أن الضوء ينتشر بصورة خط مستقيم، فالعقل يصوغ قاعدة كليّة من هذه الحوادث الجزئية لا وجود لها في الخارج والموجود في الخارج هو مصاديقها لا ذاتها.

وعليه فالإدراكات الحسية كالمواد الخام التي قد «تتحلل» وقد تتركب في مختبر العقل، ومن خلال هاتين العمليتين نحصل على المفاهيم الكلية التي يستفاد منها في المنطق والاستدلال.

2- ممّا لا شك فيه أنّه ينبغي الاستفادة من العقل لإصلاح الأخطاء الناشئة من خطأ الحواس، فعندما نقول:

فإذا اخطأ البصر في رؤية الأشجار المتوازية متقاطعة من بعيد فإنّ المعيار في تشخيص و إدراك الخطأ هذا هو العقل.

صحيح أن تمييزنا لهذا الخطأ يستند إلى الحس أيضاً حيث إننا ندرك خطأ بصرنا من بعيد لأنا طوينا الشارع من اوله إلى آخره عدة مرّات وشاهدنا الأشجار في طول الشارع متوازية ولم تلتقِ في مكانٍ، لكن هذا الاستدلال الذي يستند إلى الحس يقوى عندما يقول لنا العقل إنّ اجتماع النقيضين محال، ويقول بامتناع أن تكون الأشجار متوازية ثم تلتقي في

نفحات القرآن، ج 1، ص: 105

نقطة واحدة، فاستدلالنا بهذا الشكل يثبت لنا خطأ ما نشاهده من بعيد. في الحقيقة إن قضية امتناع اجتماع النقيضين التي تدرك بالعقل تشكل حجر الأساس لجميع الاستدلالات، وعليه فلا يؤخد بالدليل الحسي دون الاستناد إليها.

3- فضلًا عما سبق، فإنّ ما ندركه بالحس هو ظاهر الأشياء، وما نرى من الجسم بالحس مجرد مظهره لا شي ء آخر، وعليه فبدون تدخل الإدراكات العقلية لا نستطيع معرفة حقيقة الجسم.

قد يقال:

إنّ الحواس لا دور لها لوحدها بل يجب الاستعانة بالإدراكات العقلية حتى في العلوم التجريبية، لكن ينبغي الاذعان إلى هذه الحقيقة- وهي أنّ جميع الإدراكات العقلية حصلت بواسطة الحواس وكما يقول «جان لاك» الفيلسوف الانجليزي المعروف: «لا شي ء في العقل لم يوجد قبله في الحس».

إنّ هذه الجملة التي أصبحت مثلًا وبقيت ذكرى منه تدل على أنّ الذهن كان كاللوحة البيضاء في البداية وقد ينقش عليها بعد ذلك بواسطة الحواس، وأن لا وظيفة للعقل غير «التجريد» و «التعميم» أو «التحليل» و «التركيب» لمدركات الحواس.

لكن هذا خطأ فظيع، وذلك لأنّ علمنا بأنفسنا (الذي هو علم حضوري) لم يحصل بواسطة الحواس، كذلك علمنا بوجود الحواس، أو علمنا باستحالة اجتماع النقيضين لم يحصل عن طريق الحواس، فنحن ندرك محالة أن نكون موجودين ومعدومين في آن واحد وإن لم نملك حواساً، كذا الأمر بالنسبة لقضايا أخرى لا حاجة فيها إلى الحواس.

وتوجد أبحاث كثيرة في هذا المجال لو أسهبنا فيها لابتعدنا عن هدف هذا الكتاب، وتَطَرُّقُنا لبعضها هنا كان بهدف توضيح نظريتي «الحسيين» و «العقليين» الذين حصروا سبل المعرفة في بُعد واحد، وأن نظريتيهما سقيمتان وأن كلًا من «الحس» و «العقل» يشكلان منبعاً ومصدراً للإدراك، كما انعكس ذلك في القرآن المجيد.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 107

2- العقل و التحليل المنطقي

تمهيد:

في القرآن الكريم تعابير كثيرة استعملت للإشارة إلى هذا المصدر كما يشاهد الكثير من الآيات التي تدعو الناس إلى المعرفة بالاستعانة ب «التفكير».

ونذكر هنا بعض تلك التعابير التي استعملت للإشارة إلى هذا المصدر المهم للمعرفة:

1- العقل.

2- اللب (وجمعه ألباب).

3- الفؤاد.

4- القلب.

5- النُهى

6- الصدر.

7- الروح.

8- النفس.

كما أنّ هناك تعابير استعملت في القرآن لبيان مهمة العقل مثل:

9- الذكر.

10- الفكر.

11- الفقه.

12- الشعور. نفحات القرآن، ج 1، ص: 108

13- البصيرة.

14-

الدراية.

والآن نبحث كلًا من العناوين السابقة في ضمن بحثنا عن الآيات التي وردت فيها تلك التعابير «1».

ج ج

لنمعن خاشعين أولًا في الآيات التالية:

1- «كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ . (البقرة/ 242)

2- «انَّ فِى خَلْقِ السَّموَاتِ وَالارْضِ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ والنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّاولِى الْالبَابِ .

(آل عمران/ 190)

3- «وَاللَّهُ اخْرَجَكُمْ مِّنْ بُطُونِ امَّهَاتِكُمْ لَاتَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْابصَارَ وَالْأَفئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . (النحل/ 78)

4- «وَكَمْ اهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ قَرْنٍ هُمْ اشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِى البِلَادِ هَل مِنْ مَّحِيصٍ* انَّ فِى ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ اوْ الْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ». (ق/ 36- 37)

5- «كُلُوا وَارْعَوا انْعَامَكُمْ انَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّاوْلِى النُّهَى . (طه/ 54)

6- «بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِى صُدُورِ الَّذِينَ اوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجحَدُ بِآيَاتِنَا إلَّاالظَّالِمُونَ .

(العنكبوت/ 49)

7- «فَاذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فيه مِنْ رُّوحِى فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ».

(الحجر/ 29) و (ص/ 72)

______________________________

(1). إضافة إلى العناوين والتعابير السابقة التي اشير إليها، هناك تعابير استعملت في القرآن وأريد بها مراحل الإدراك مثل: الظن والزعم والحسبان واليقين، وعلم اليقين وعين اليقين وحق اليقين، والتي تبدأ بمرحلة هشة ومتزلزلة من الإدراك وتنتهي باليقين الذي هو أعلى مراحل الإدراك ولا يتصور درجة ومرحلة أعلى منه.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 109

8- «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا». (الشمس/ 7- 8)

9- «... وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُون . (البقرة/ 221)

10- «قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاعْمَى وَالْبَصِيرُ افَلَا تَتَفَكَّرُونَ . (الأنعام/ 50)

11- «انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ . (الأنعام/ 65)

12- «وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ في سَبِيلِ اللَّهِ امْوَاتٌ بَلْ احياءٌ وَلَكِنْ لَّاتَشْعُرُونَ .

(البقرة/ 154)

13- «انَّ الّذِينَ اتَّقَوا اذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَاذَا هُمْ مُّبْصِرونَ .

(الاعراف/ 201)

14- «وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا

تَكْسِبُ غَدَاً وَمَا تَدرِى نَفْسٌ بِأَىِّ أَرضٍ تَمُوتُ .

(لقمان/ 34)

شرح المفردات:

«العقل» كما جاء في لسان العرب ومفردات الراغب- من العقال أي الحبل الذي يُشدْ به ساق البعير لمنعه من الحركة وبما أنّ العقل يردعُ الإنسان عن القيام بالأعمال المشينة اطلقت هذه المفردات عليه.

وقد ذكر صاحب الصحاح أنّها تعني «الحُجْر» «المنع» بينما قال البعض كصاحب القاموس: إنّها تعني «العلم بصفات الأشياء كالحسن والقبح والكمال والنقص»، أمّا صاحب مجمع البحرين فقد فسر العاقل بانه: «الذي يستطيع أن يسيطر على نفسه ويتغلب على أهوائه وميوله».

ويظهر أنّ معناه الأولي هو الصد والمنع ولهذا يقال لمن امتنع لسانه عن النطق «اعتقل لسانه» كما يقال «للدية» «عقل» لأنّها تحول دون إهراق دماءٍ أكثر، ويقال للمرأة العفيفة والمحجبة والطاهرة «عقيلة».

نفحات القرآن، ج 1، ص: 110

يقول «الخليل بن أحمد» في كتابه «العين»: إنّ العقل يطلق على القلعة والحصن أيضاً.

كما نلاحظ هنا فإنّ مفهوم الحجر والمنع متضمّن لجميع هذه المعاني، وعليه فإن أصلهُ يعني المنع.

أمّا كلمة «اللب» وجمعها «الألباب»- كما يقول كثير من أهل اللغة- يعني الخالص والصفوة من كلّ شي ء، ولهذا يطلق على المرحلة الرفيعة من العقل «اللب»، فإنّ كل لبٍ عقلٌ لكن ليس كل عقلٍ لُباً، لأنّ اللب هو العقل في مراحله الرفيعة والخالصة، ولهذا السبب نُسِبَتْ امورُ القرآن الكريم إلى «أُولي الألباب» لا تدرك إلّابالمراحل الرفيعة من العقل، كما يطلق اللب على باطن كثير من الفواكه لأنَّه خالص من القشر «1».

وإنّ كلمة «الفؤاد»- كما أشرنا سابقاً- من مادة «فأد» على وزن (وَعْد) وفي الأصل معناه وضع الخبز على الرماد أو الحصى الحارة، كي يُخبز جيداً، كما يطلق على طبخ وشوي اللحم «2».

وعلى هذا فالعقل عندما ينضج يطلق عليه «فؤاد» وجمعهُ «أفئدة».

ويضيف الراغب

في مفرداته: إنّ «الفؤاد» يعني القلب مع زيادة وهي الإنارة واللمعان.

إنّ «القلب»- كما جاء في القاموس والمفردات والعين ولسان العرب- في الأصل يعني تغير الشي ء وتحوله، وغالباً ما يستعمل بمعنيين، فتارة يطلق على العضو الذي يتكفل بضخ الدم إلى جميع أعضاء البدن، وتارة اخرى يستعمل فيرادُ به الروح والعقل والعلم والفهم والشعور، وجاء هذا الاطلاق من حيث إنّ القلب الجسماني والقلب الروحي في حركة وتغيّر مستمرين، وكما يقول بعض أهل اللغة:

ما سمي القلب إلّامن تقلبه والرأي يصرف بالإنسان اطوارا!

كما أنَّ كلمة «القلب» تطلق على مركز كل شي ء مثل: قلب العسكر، لأنّ القلب مركز جسم وروح الإنسان، وقد جاء في القاموس أنّ خالص كلّ شي ءٍ يقال له «قلب».

______________________________

(1). لسان العرب والمفردات ومجمع البحرين.

(2). لسان العرب وتاج العروس ومفردات الراغب.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 111

وكلمة «النُهى تَعني «العقل» ومن مادة «نهي» على وزن (سَعْي) ويعني المنع من شي ء مأخوذ، وقد صرح كثير من أئمة اللغة (كصاحب المفردات ومجمع البحرين ولسان العرب وشرح القاموس) أنّ هذه التسمية جاءت من حيث إنّ العقل ينهى عن الأعمال المشينة.

وَ «الصدر» في الأصل يعني القسم الأمامي الذي تحت الرأس (في الجسم) ومن ثم اطلق على القسم الأعلى والمقدم لأي شي ءٍ، مثل صدر المجلس أي أعلاه، وصدر الكلام أي بدايته، وصدر النهار أي أوله (كما جاء ذلك في المفردات ولسان العرب).

إلَّا أنّه قد يستفاد من بعض الكلمات معنى المقدمية والبداية لكل شي ء، وعلى كل حال، بما أنّ العقل عضو مهم ويقع في الجزء الأعلى من البدن أُطلق عليه صدر، خاصة وأنّ القلب الجسماني يقع في وسط الصدر (العضو المعروف من البدن)، وسنذكر فيما بعد أنّ هناك علاقة وثيقة بين انقلاب القلب العضوي والانقلابات العقلية.

أمّا

كلمة «الروح» في الأصل تعني التنفس، وبما أنّ هناك علاقة وثيقة بين التنفس وبقاء الحياة، استعملت بمعنى النفس ومركز العقل وفهم الإنسان.

وقد صرح البعض أن كلمتي «الروح» و «الريح» اشتقتا من أصل واحد، وإذا سميت الروح- التي هي وجود مجرّد ومستقل- روحاً فذلك من حيث إنّ الروح كالريح توجد الحيوية والحركة من دون أن تُرى

وَكلِمة «النفس»- وكما يقول الراغب وصاحب القاموس ولسان العرب وكتاب العين- تعني الروح التي هي مركز إدراكات الإنسان، إلّاأنّ القرآن الكريم ذكر مراحِلَ النفس:

«فالنفس الامارة» هي النفس التي تأمر الإنسان بالمعاصي وترغبه بها، و «النفس اللوامة» وهي التي تندم على المعاصي التي ارتكبها الإنسان وتوبخه عليها، و «النفس المطمئنة» وهي التي تتحكم بجميع الشهوات والميول وقد وصلت إلى مرحلة الاطمئنان.

من مجموع ما سبق، يتبين لنا أنّ القرآن المجيد استعمل مفردات كثيرة للإشارة إلى العقل، وكلٌّ من هذه المفردات تشير إلى جانب من جوانب هذا الوجود النفساني، وبتعبير آخر كلٌّ منها يتعلق ببعد من أبعاد العقل.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 112

وبما أنّ هذه القدرة الغامضة تردع الإنسان عن الأعمال المشينة وتمنعه عنها قيل لها عقل ونُهى

وبما أنّه في حال انقلاب وتحول دائم قيل له «قلب»، وبما أنّه في القسم الأعلى من بدن الإنسان قيل له «الصدر».

وبما أنّ هناك علاقة وثيقة بينه وبين الحياة قيل له «روح» و «نفس»، وعندما يصل إلى مرحلة الإخلاص ويصفو من الشوائب يقال له «لُبّ»، وأخيراً عندما تنضج أفكاره يطلق عليه «فؤاد».

نستنتج من هذا البيان أنّ استعمال هذه المفردات المتنوعة في القرآن لم يكن اعتباطاً بل كان منسجماً ومتماشياً مع الموضوع الذي في الآية، وهذا من عجائب القرآن التي يدركها الإنسان عند تتبعه لآيات القرآن وتفسيره لها

موضوعياً.

ج ج

أفعال العقل:

إنَ «الذكر» يمثل الاصطلاح المقابل للنسيان، وكما يقول الراغب: إنّه حالة في الإنسان تمكنه من حفظ ما أدرك واستحضاره في الذهن عند الحاجة، وهذا المعنى قد يتم بالقلب وقد يحصل باللسان.

وإنّ «الفكر» يعني فعالية العقل، وعلى ما يقوله الراغب: إنّه قوة تسوق العلم إلى المعلومات، ويعتقد بعض الفلاسفة: أنّ حقيقة الفكر تتركب من حركتين: حركة نحو المقدمات، ثم حركة من المقدمات إلى النتيجة، ومجموع هاتين الحركتين اللتين تؤدّيان إلى العلم والمعرفة يقال لهما «الفكر».

و «الفقه» يعني «الفهم» بصورة عامة- كما جاء ذلك في لسان العرب- إلّاأنّ الراغب في مفرداته يقول: إنّه بمعنى الاطلاع على أمرٍ خفي بالاستعانة بأمرٍ ظاهر وجلي، وعليه فالفقه علم يحصل بالأدلة (بالطبع إنّ الفقه المصطلح فعلياً هو علم الأحكام الإسلامية).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 113

أمّا «الشعور» فيعني العلم والمعرفة- كما يقوله بعض من أئمّة اللغة كصاحب القاموس ولسان العرب ومقاييس اللغة وغيرهم- إلّاأنّ الراغب قال في مفرداته: يعني «الاحساس»، وإذا كان المقصود هو الاحساس الباطني فلا اختلاف مهم بين ما قاله الراغب وما قاله الآخرون في شرح معنى الشعور، وقد جاء الشعور في كثير من آيات القرآن وأُريد به (العلم)، إلّاأنّه استعمل في موضع آخر وقصد به الاحساس الخارجي.

إنَّ كلمة «البصيرة» اشتقت من البصر، وقد جاءت- كما يقول الراغب- بثلاثة معانٍ:

بمعنى العين، وبمعنى قوة العين، وبمعنى قوة الإدراك والعلم.

وقد قال البعض: إنّ معناها في الأصل هو العلم سواء حصل بالمشاهدة الحسية أو بالعقل «1».

وتستعمل مفردة «البصيرة» بالخصوص في «الإدراك القلبي والعلم»، ولهذا جاء في لسان العرب أنّها تعني الاعتقاد القلبي، وقد فسرها البعض بالذكاء الذهني.

وقد استعملت بالمعنى الأخير في القرآن الكريم حيث يقول: «قُلْ هَذِهِ سَبِيْلِى أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ

أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى «2». (يوسف/ 108)

وكلمة «الدراية» تعني العلم والخبرة بصورة عامة، أو العلم والخبرة في الامور الخفية والمستترة، كما قد جاءت بمعنى «الكياسة»، كما يستفاد من قواميس اللغة أنّها في الأصل تعني الالتفات إلى شي ءٍ ثمّ استعملت وأُريد منها الخبرة بشي ءٍ، وقد استعملت في القرآن الكريم مراراً وقصد بها مفهوم «العلم»، ويستخلص من هذا القسم من بحثنا أنّ الألفاظ التي استعملت للتعبير عن العقل وأريد منها مفهوم العلم والإدراك ألفاظ متنوعة، وكلٌّ منها تُعبّر عن بُعد وجانب من أبعاد وجوانب العقل، وقد استعملت كلٌّ في موردها!

فعند البحث عن الخبرة مع الدقة استعملت «الدراية»، وعند البحث عن التحليل والعقل

______________________________

(1). التحقيق في كلمات القرآن الكريم مادة (بصر).

(2). وقد جاءت في آيات اخرى واريد منها نفس المعنى كما في الآيات: القيامة 14؛ و الأنعام 104؛ الأعراف 203؛ الاسراء 102.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 114

استعمل «الفكر»، وعند البحث عن أمرٍ خفي ومعرفته بالاستعانة بأمرٍ محسوس استعمل «الفقه»، وعند البحث عن الخبرة المقترنة بالحفظ والحضور بالبال استعمل «الذكر»، وعلى هذا السياق تستعمل كل مفردة في محلها وكل لفظ في مقامه.

وينبغي الالتفات هنا إلى هذه النقطة وهي أنّ التعبيرات التي استعملت في القرآن لبيان مهام العقل لها مراحل ورتب، تبدأ ب «الشعور» ويراد منه الإدراك البسيط، ثم مرحلة «الفقه» والذي يعني إدراك المسائل الخفية من المسائل الجليّة، وبعدها تأتي مرحلة «الفكر» ويُراد منه التحليل العقلي، ثم تأتي مرحلة «الذكر» أي الحفظ في الذهن والحضور في البال، ثم مرحلة «النُهى التي تعني الإدراك العميق لحقائق الامور، وتنتهي هذه المراحل بمرحلة «البصيرة» التي تعني النظر الذهني العميق.

وهذا هو معنى البلاغة والفصاحة!

ج ج

جمع الآيات وتفسيرها

قيمه العقل في مقياس القرآن:

إنَّ أول آية تناولناها بالبحث هنا تؤكد بان الهدف

من نزول الآيات هو العقل والتفكير لدى الإنسان، وتكشف عن هذه الحقيقة بالتعبير ب (لعلَّ) التي تفيد بيان الهدف في موارد كهذا المورد.

وقد أكدت بعض الآيات على هذا الموضوع وذهبت إلى ابعد من ذلك حيث وبّخت الناس على عدم تفكرهم وتعقلهم وآخذتهم بعبارةٍ كهذه: «أَفَلَا تْعقِلُونَ «1».

وقد تكرر هذا المضمون بصيغة جملة شرطية، حيث يقول تعالى «قَدْ بَيَّنَا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ . (آل عمران/ 118)

______________________________

(1). آل عمران، 65؛ الأنعام، 32؛ الاعراف، 169؛ يونس، 61؛ هود، 51؛ يوسف، 109؛ الأنبياء، 10 و 67؛ المؤمنون، 80؛ القصص، 10؛ الصافات، 138.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 115

إنّ هذه التعابير المختلفة: «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، أَفَلا تَعْقِلُونَ، إنْ كُنْتُم تَعْقِلُونَ تكشف بوضوح عن هذه الحقيقة وهي: إنّ اللَّه وهب الإنسان العقل كي يستعين بقدرته على إدراك الحقائق وفهمها، ويستحق اللوم والتوبيخ إذا ترك الانتفاع بهذه القدرة.

والآية الثانية ومن خلال اشارتها إلى آيات اللَّه في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار صرحت: إنّ إدراك هذه الآيات أمر يسير لأُولي الألباب.

وكما أشرنا سابقاً، فإنّ (اولي الألباب) هم العلماء الذين خلصت عقولهم من جميع ترسبات الأوهام، فهم يدركون وقائع نظام الخلق، ويرون جمال الخالق من خلالِ المخلوقات، وهذا يكشف عن أهميّة العقل كطريق لمعرفة الحق جل وعلا.

ج ج

أمّا الآية الثالثة، فبعد أن أشارت إلى خروج الإنسان من بطن امّه لا يعلم شيئاً شرحت وسائل المعرفة، فبدأت بحاسة «السمع» الذي تُعرف علومه ب «العلوم النقلية»، من خلال الاصغاء إلى أقوال الآخرين، ثم ذكرت «البصر» الذي تميز به الأشياء بعد مشاهدتها ثم ختمت ب «الفؤاد» الذي تُدرك به الحقائق غير المحسوسة، وقد قلنا سابقاً: إنّ الفؤاد هو العقل عند نضوجه، فهو أعلى درجة من

العقل.

ج ج

والآية الرابعة بعد إشارتها إلى الأقوام السالفة المقتدرة والتي أُبيدت واهلكت بسبب، وقد أُهلكوا لطغيانهم وفسادهم، ولم يستطيعوا الفرار والنجاة، قالت: «إنَّ في ذلِكَ (في سيادتهم ثم إبادتهم) لَذِكْرِى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ (أي عقل) أَوْ الْقَى السَّمْعَ (أي يصغي للنصائح)»!

والآية الخامسة بعد الإشارة إلى إحياء الأرض الميتة وانبات الزرع فيها الذي يمثل غذاء الإنسان ودوابّه، صرحت: إنّ هذه الامور آيات يدركها أصحاب النهى

وكنّا قد أشرنا إلى أنَّ النهى هو العقل بما هو ناهٍ عن فعل الأفعال القبيحة.

ج ج

نفحات القرآن، ج 1، ص: 116

أمّا الآية السادسة فبعد أن أشارت إلى الآيات العظيمة والبيّنة للقرآن، قالت: إنّ هذه الآيات في صدور (قلوب) الذين أُوتوا العلم، وكما بيّنا من قبل فانَّ الصدر يعني الجزء المقدم والأعلى من كل شي ء، وهذا يبيّن أنّ العقل الذي يعتبر من المصادر المهمّة للمعرفة، يشكل أشرف جزء في الإنسان.

والآية السابعة بعد أن ذكرت قصة خلق آدم عليه السلام خاطبت الملائكة بالقول: «فَاذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُّوحِى فَقَعُوا لَهُ سَاجِديِنَ . (29/ حجر) و (ص/ 72)

وهذه (الروح الإلهيّة) هي (جوهر العقل)، وقد اضيفت إلى اللَّه لأهميتها (ويقال لهذه الإضافة اضافة تشريفية) لأنّ اللَّه لا روح له ولا جسم، ولأجل هذه الروح الإلهيّة سجد جميع الملائكة المقربين لآدم عليه السلام، وإلّا فالطين والتراب لا قيمة لهما، وهذا تأكيد شديد على أهميّة وقيمة العقل.

ج ج

والآية الثامنة تشير إلى خلق (النفس) أي الروح والعقل، وتُقسم بخالق النفس، ثم تضيف: إنّ اللَّه ألهم وكشف للنفس طريقي الفجور والتقوى بعد أن أوضح لها هذين الطرِيقَيْن، وهذا تلميح جميل إلى الإدراكات الفطرية التي جُبِلَ عليها الإنسان منذ أن بدأ حياته.

كان هذا مجموع العناوين والمفردات الثمانية التي استعملت في القرآن وأريد

بها الإشارة في كل مفردة منها إلى جانب وبُعد من جوانب وأبعاد جوهر العقل، وقد بينت هذه العناوين الأبعاد المختلفة لهذا المصدر المهم للمعرفة.

ج ج

إنَّ ما ذكر سلفاً كان بحثاً في جوهر العقل، أمّا بالنسبة لنشاط ووظيفة العقل، فهنالك تعابير عديدة في القرآن كانت قد اختصت بهذا الموضوع وكلٌّ منها تبيّن جانباً من جوانب وأبعاد نشاط العقل، وهي كالتالي:

نفحات القرآن، ج 1، ص: 117

الآية التاسعة بحثت التذكر واعتبرته الهدف من بيان آيات اللَّه، والتذكّر هو الحفظ والخطور في الذهن وهو أحد أهم وظائف العقل، وإذا لم يكن التذكر حاصلًا عند الإنسان ما استفاد الإنسان من علومه شيئاً.

وفي هذا المجال نرى تعبيرات مختلفة في القرآن، فقد يذكر الموضوع الاستعانة بالأداة (لعل) التي تفيد بيان الهدف في موارد كهذا المورد، وتارةً اخرى يعبر عن الموضوع باسلوب التوبيخ واللوم مثل «أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ «1».

وقد يبين الموضوع باسلوب التوبيخ لأولئك الذين لا ينتفعون بالعقل والفكر، فلا يحفظون الحقائق ولا يتذكرونها، كما هو الأمر في: «قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُون .

(الاعراف/ 3) و (النمل/ 62).

ج ج

وقد تحدثت الآية العاشرة عن (التفكر) بعد استفهام استنكاري: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الأَعْمَىْ وَالْبَصِير»؟ وقد وجهت اللوم بقولها: «أفلا تتفكرون»، وكما أشرنا سابقاً إلى أنَّ التفكير يعني تحليل وتجزئة المسائل للوصول إلى حقائقها، وهو سبيل للفهم الأكثر والأفضل.

وقد تنوّعت تعبيرات القرآن في هذا المجال، فتارةٌ يكون الاسلوب هكذا «لَعَلَّكُمْ تَتَفكَّرُون . (البقرة/ 219)

وتارة يكون: «لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون . (يونس/ 24)، و (الرعد/ 3)، و (النحل/ 11)

وتارة اخرى يكون: «أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا في أَنْفُسِهِمْ . (الروم/ 8)

ج ج

وتحدثت الآية الحادية عشرة عن «الفقه» الذي يعني الفهم العميق، حيث قالت: «انظر

______________________________

(1). كما في سور الأنعام، 80؛ هود، 24؛ النحل، 90؛ المؤمنون، 85؛ الصافات، 155.

نفحات القرآن،

ج 1، ص: 118

كيف نصرّف الآيات» بأنواع من البينات «لَعَلَّهُم يَفْقَهُونَ فقهاً عميقاً.

وقد جاءت العبارة هنا بصيغة: «لَعَلَّهُم يَفقهُونَ . (الانعام/ 65)

كما قد جاءت في مكان آخر بصيغة: «لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ . (الأنعام/ 98)

وفي آية اخرى باسلوب: «لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ . (التوبة/ 81)

وفي اخرى: «بَلْ كَانُوا لَايَفْقَهُونَ الَّا قَليلًا». (الفتح/ 15)

وكلها تبين الأهميّة القصوى للفهم والإدراك العقلي.

وكما قلنا سابقاً، فإنّ كلمة «الفقه» تعني إدراك الامور الخفية بالاستعانة بمشاهدة الامور الجلية، وهذا الإدراك هو أحد أبعاد الإدراك العقلي.

وتحدثت الآية الثانية عشرة عن «الشعور»، فبعد أن نهت المؤمنين عن نعت الشهداء بالأموات قالت: إنّهم أحياء ولكن لا تشعرون أي لا تدركون.

وقد يراد بالشعور هنا معنى الاحساس الظاهري، أو الاحساس الباطني، وقد استعمل بكلا المعنيين في القرآن المجيد.

وقد ذمّ القرآن في موارد مختلفة، أولئك الذين لا يشعرون ولا يستخدمون شعورهم «1».

ج ج

وقد تحدثت الآية الثالثة عشرة عن «البصيرة» بعد ما أشارت إلى المتقين، حيث قالت:

إنَّ المتقين إذا ما ابتلوا بوساوس الشيطان تذكروا اللَّه وأبصروا وادركوا الحقيقة فنجوا من شباك الشياطين.

إنّ «البصيرة» و «الأبصار» هو الرؤية وقد تتم الرؤية بواسطة العين الظاهرة فيكون بصراً حسياً، وقد تتم بواسطة العين الباطنية أي العقل فذلك «الإدراك العقلي»، والمراد من البصيرة في هذه الآية هو المعنى الثاني.

______________________________

(1). كما في الآيات الآتية، الشعراء، 113؛ الحجرات، 2؛ البقرة، 9؛ آل عمران، 69؛ الأنعام، 36 و 123؛ المؤمنون، 56.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 119

إنّ الإنسان على نفسه بصيراً: «بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ». (القيامه/ 14)

والرسول وأتباعه على بصيرة فيما يدعون إليه: «قُلْ هَذِهِ سَبِيِلى أَدْعُو الَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى . (يوسف/ 108)

وقد استعملت البصيرة في جميع هذه الموارد بمعنى المعرفة الحاصلة عن طريق العقل قطعاً.

ج ج

وقد

تحدثت الآية الرابعة عشرة والأخيرة عن «الدراية» التي تعني الذكاء والخبرة والاحاطة بالمسائل الخفية أو غير المحسوسة، حيث قالت: «وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىِّ أَرْضٍ تَمُوتُ . (لقمان/ 34)

وقد استعملت الدراية في القرآن بصيغ السلب دائماً، ويفيدنا في هذا أنّ الدراية مرحلة عميقة من الفهم والإدراك لا تحصل لِكلِّ إنسان.

ج ج

نستنتج من الآيات السابقة النتائج الآتية:

1- إنَّ القرآن يعتبر العقل من المصادر الأصلية للعلم والمعرفة، وقد أولاه أهميّة قصوى

2- القرآن يدعو الجميع للتعقل والتفكّر في جميع الامور.

3- التفت القرآن التفاتاً خاصاً إلى ماهيّة الروح الإنسانية وأبعادها المختلفة، وأكّد على كلٍ من هذه الأبعاد.

4- عبر القرآن عن نشاطات الروح في مجال إدراك الواقعيات تعبيرات مختلفة، وقد استخدم واستفاد من كل تعبير في محله.

إلّا أنّ القرآن ذكر موانع عديدة تحول دون الإدراك الصحيح للعقل، سنبحثها في فصل (حجب المعرفة) إن شاء اللَّه.

ج ج

نفحات القرآن، ج 1، ص: 120

توضيحات

1- الإدراكات العقلية برؤية فلسفية

بالرغم من أنّ أغلب الفلاسفة يعتبرون الإدراك العقلي أحد المصادر المهمّة للعلم والمعرفة، إلّاأنّ الفلاسفة الحسيّين يخالفون هذا الأمر، ولا يعيرون للإدراكات العقلية أهميّة واعتباراً- كما أشرنا إلى ذلك سابقاً- ويحصرون طرق المعرفة بالتجارب الحسية متذرّعين بالحجج الواهية الآتية:

1- اختلاف الفلاسفة في المسائل العقلية، فإنّ كلَّ طائفة منهم قدّمت أدلة ظاهرها يوحي بأنّها منطقية لإثبات مدعاها.

2- وقوع كثير من العلماء بأخطاء معتقداتهم بحيث يضطر البعض في مواقع عديدة للاعتراف بخطئه ويسعى لتصحيحه.

3- كما يجب إضافة أمر آخر إلى الأمرين السابقين وهو: إنّ التقدم والتطور السريع للعلوم الطبيعية في القرون الأخيرة حلَّ الكثير من ألغاز العالم وأسراره عن طريق التجربة الحسية، وهذا الأمر قَوّى فكرة الاستناد إلى التجربة الحسية (في مجال المعرفة) فقط، وألغى بقيّة الطرق.

ونقرأ في

«تاريخ الفلسفة»: إنّ موضوعاً كهذا الموضوع سبب انكار الحقائق (الحسية وغير الحسية) من قبل السوفسطائيين في اليونان القديمة، فمن جهة نظروا إلى اختلاف الفلاسفة، ومن جهة اخرى نظروا إلى عوام الناس، فبعضهم يؤيدون ادّعاء وكيلي المتنازعين في المحكمة، ويعطون الحق لكلٍ من الطرفين وكأن كلا الطرفين على حق، ولهذا قويت عندهم فكرة أن لا حقيقة واقعاً.

وهنا ينبغي الالتفات إلى عدة امور لرفع هذه الالتباسات:

الأمر الاول: هو وجوب فصل «الإدراكات البديهية» عن «النظرية» عند التحقيق في مسألة الإدراكات العقلية، وذلك لأنّ الاخطاء لا تحصل في البديهيات، فلا يشك أحد في أنّ الاثنين نصف الأربعة، أو أن شيئاً لا يمكن أن يكون موجوداً ومعدوماً في آن واحد ومكان

نفحات القرآن، ج 1، ص: 121

واحد، وإذا شاهدنا أشخاصاً يشككون في هذا الأمر أو يعتقدون، بخلاف ما هو بديهي فهم في الواقع يتلاعبون بالألفاظ لا أكثر، فيفسرون (النقيضين) أو «الضدين» بمعانٍ غير تلك المعاني المتعارف عليها، والّا فلا خلاف في اصل الموضوع.

الامر الثاني: لا يخطأ الاستدلال إذا استند إلى مقياس دقيق، فالخطأ ينشأ عندما يستند الدليل إلى مقاييس غير دقيقة، ولهذا لا نشاهد اختلافاً في مسائل الرياضيات وقوانينها، لأنّها تعتمد على أسسٍ دقيقة، ونمتلك معايير واضحة لمعرفة صحة أو خطأ النتيجة لأي مسألة، والنتائج تكون قطعية كذلك.

الأمر الثالث: إنّ قولنا بوجود أخطاءٍ في الإدراكات العقلية، دليل على قبولنا للإدراكات العقلية لا على نفيها، وذلك لأنّ مفهوم حديثنا عن الأخطاء في الإدراكات هو أننا نقلب بعض الحقائق ونخطّي ءُ عقائد الآخرين على أساس تلك الحقائق المقبولة لدينا.

مثلًا عندما حكمنا بصحة أحد آراء الفلاسفة المختلفين، فانّنا نعلم أنّ صحة اعتقادين متضادين محال، وهذا إدراك عقلي بديهي، وقضية القائلين: «إنّ الحس لا اعتبار له

لأنّه يُخطِى ءُ» تماثل هذه القضية، وكما ذكرنا سابقاً، فان تخطئتنا للباصرة في إدراكها لخط دائري ممتد ناشئة عن معرفتنا بأن هذا الخط نقطة نورانية متحركة، وبما أنّ «النقطة» تضاد «الخط» حكمنا بخطأ الباصرة في إدراكها للخط الممتد، وهذا اعتراف ضمني يوجد حقائق وإمكانية إدراكها.

وآخر الحديث، نقول: في الحقيقة إنّ جميع المنكرين للإدراكات العقلية يريدون إثبات مدعاهم بنفس الإدراكات، أي أنّهم ينقضون مدعاهم عملياً، وقد هبوا لحرب الإدراكات العقلية بواسطة الإدراكات العقلية.

2- منزلة العقل في الروايات الإسلامية

أكّدت الروايات الإسلامية على أنّ للعقل أهميّة قصوى أكثر مما هو متوقع، وأشادت به

نفحات القرآن، ج 1، ص: 122

بعناوين مختلفة مثل: أساس الدين، وأكبر غنىً، وأفضل رأس، واعلى قضية، وأفضل صديق، وأخيراً المقياس والمعيار للتقرب إلى اللَّه ونيل الثواب الإلهي.

ونكتفي هنا بذكر اثنتي عشرة رواية فقط من بين عشرات بل مئات الروايات المأثورة والمنقولة عن الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله، والأئمّة عليهم السلام.

ففي هذا المجال:

1- قال الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله: «قِوامُ المرءِ عَقلُه، ولا دينَ لِمن لا عقلَ لهُ» «1».

2- قال أمير المؤمنين عليه السلام: «لا غنى كالعقل ولا فقر كالجهل» «2».

3- وقال في حديث آخر: «إنَّ اللَّه تبارك وتعالى يحاسب الناس على قدر عقولهم» «3».

4- وجاء في حديث للإمام الصادق عليه السلام: «إنَّ الثواب على قدر العقل» «4».

5- كما جاء في حديث للرسول صلى الله عليه و آله: «ما قسَّم اللَّه للعباد شيئاً أفضل من العقل ... وما أدّى العبد فرائض اللَّه حتى عَقَلَ عنه، ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل» «5».

6- وجاء في حديث أنّ الإمام موسى بن جعفر عليه السلام خاطب هشام بن الحكم قائلًا: «يا هشام! ما بعث اللَّه أنبياءه ورسله

إلى عباده إلّاليعقلوا عن اللَّه، فاحسنهم استجابة أحسنهم معرفة، وأعلمهم بأمر اللَّه أحسنهم عقلًا، وأكملهم عقلًا أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة» «6».

7- وقال الرسول صلى الله عليه و آله في حديث آخر: «لكل شي ء آلة وعُدّة، وآلة المؤمن وعدَّته العقل، ولكلِ شي ء مطية ومطية المرء العقل، ولكلّ شي ء غاية وغاية العبادة العقل» «7».

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 1، ص 94، ح 19.

(2). نهج البلاغة الكلمات القصار، الكلمة 54.

(3). بحار الأنوار، ج 1، ص 106، ح 2.

(4). اصول الكافي، ج 1، ص 12، ح 8 (كتاب العقل والجهل).

(5). المصدر السابق، ص 12، ح 11.

(6). المصدر السابق، ص 16.

(7). بحار الأنوار، ج 1، ص 95، ح 34.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 123

8- وجاء في حديث للإمام الصادق عليه السلام: «إذا أراد اللَّه أن يزيل من عبد نعمة كان أول ما يغير منه عقله» «1».

9- ويقول الإمام علي عليه السلام في هذا المجال: «العقل صاحب جيش الرحمن، والهوى قائد جيش الشيطان، والنفس متجاذبة بينهما، فأيّهما غلب كان في حيّزه» «2».

10- ويقول في حديث آخر: «العقول أئمّة الأفكار والأفكار أئمّة القلوب، والقلوب أئمّة الحواس، والحواس أئمّة الأعضاء» «3»، (وبهذا فإنّ أعضاء الإنسان تستند إلى حواسه وحواسه تستعين بعواطفه، وتعتمد عواطفه على أفكاره، وأفكاره على عقله).

11- وجاء في حديث للرسول صلى الله عليه و آله: «إنَّ الرجل ليكون من أهل الجهاد ومن أهل الصلاة والصيام، وممَّن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا يُجزى يوم القيامة إلَّاعلى قدر عقله» «4».

12- وقال الإمام الباقر عليه السلام: «لا مصيبة كعدم العقل» «5».

3- المخالفون لتحكيم العقل

إنَّ لهذا الجوهر الإنساني (العقل) شأناً رفيعاً وصفات إيجابية كثيرة جداً، والملفت للنظر حقاً أنّه بالرغم من اتصاف العقل بهذه الصفات وامتلاكه هذه

المكانة المرموقة نجدُ مَنْ يذمّونه وَمَن يتأسفون لأنّهم عقلاء، والأغرب من ذلك أنّهم يمتلكون الحجج- حسب زعمهم- على ادّعاءاتهم الجوفاء!

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 1، ص 930، ح 20.

(2). غرر الحكم.

(3). بحار الأنوار، ج 1، ص 96، ح 40.

(4). تفسير مجمع البيان، ج 10، ص 324.

(5). بحار الأنوار، ج 71، ص 165.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 124

فتارة يقولون: إنَّ العقل يحد من تصرفات الإنسان ويسلبه حرّيته، حيث يجعل أمامه موانع تحول بينه وبين ما يريد أن يقوم به من عمل حراماً كان أو حلالًا حسناً أو قبيحاً خيراً أو شرّاً، فلو لم تكن لنا عقول لكنّا أحراراً.

وتارة يقولون: إنّه يسلب راحة الإنسان حيث نرى العقلاء والأذكياء من الناس لا راحة لهم، إلّاأنّ البسطاء من الناس فرحون وسعداء دائماً لانعدام تأثير العقل عليهم.

وإذا قرأنا أشعاراً مفادها ذمُّ العقل أو الانتقاص منه أو الاستهانة به فمن الواضح كونها مزاحاً أو سفسطة أو كناية عن مفاهيم اخرى ويستبعد أن يكون مرادهم ذم العقل، بل إنّهم يقصدون أنّ هناك اموراً مؤلمة تحيطهم، والناس في غفلة عنها.

أو أنّ قصدهم من الجنون المذكور في بعض الأشعار كصفة للعقل، هو الجنون العرفاني والمراد منه العشق الإلهي، والتضحية بكل شي ء في سبيله.

وعلى أيّة حال، صحيح أنّ العقل يقيد حرية الإنسان وبعض تصرفاته،

إلّا أنّ هذا فخر له، لأنّه يرشدهُ نحو التكامل، إنَّ هذا الادّعاء يُشْبِهُ ادعاء من قال: «إنّ الاحاطة بعلم الطب يحد من انتخاب الإنسان لأنواع الأطعمة ومن امور اخرى»، وهل هذا نقص؟! أم أنّه ينقذ الإنسان من الاصابة بالامراض وفي بعض الأحيان من التسمم القاتل.

أمّا القول بأن العقل يزيد من هموم الإنسان وأحزانه، فهذا يرفع من منزلة الإنسان، العاقل من يتحسّس آلام المضطهدين والمظلومين

ويتألم من سلوك المعاندين وبالتالي فهو دليلٌ على الكمال، وكما جاء في المثل: (إمّا أن يكون ضعيفاً ونحيفاً كسقراط في زهده أو سميناً وبديناً كالخنزير).

نعم، إذا غفلنا عن مسألة التكامل الإنساني واعتبرنا الأصل في الحياة هو اللذّة المادية، فان ما يتفوه به بعض المؤيدين لأصالة اللذة المادية صحيح، لكن هذا الحديث مضحك ولا قيمة له من وجهة نظر الإنسان الموحّد الذي يؤمن بالرسالة والهدف وتكامل الإنسان.

إضافة إلى هذا، فإنّ المؤيدين لأصالة اللذة مضطرون لأنّ يسلموا ويخضعوا لكثير من القوانين الاجتماعية الحادة من حرياتهم وتصرفاتهم، وأن يفرضوا على أنفسهم العناء من

نفحات القرآن، ج 1، ص: 125

هذه الناحية، ومن هنا ندرك كيف أنّ الإنسان يسقط في الهاوية عند ابتعاده عن تعاليم الوحي والأنبياء.

إلى هنا ننهي البحث عن المصدر الثاني من مصادر المعرفة (العقل) وننتقل إلى المصدر الثالث بالرغم من بقاء بحوث كثيرة لم تطرح في هذا الفصل.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 127

3- التاريخ والآثار التاريخية

تمهيد:

تعرَّض القرآن للقضايا التاريخية باسلوبين:

1- الاسلوب المدوّن، أي أنّ القرآن المجيد يَسردُ للمسلمين بعض الحوادث التاريخية للأقوام السالفة بألفاظ وعبارات شيقة ودقيقة، ويبين الامور الغامضة والمشرقة من تاريخهم، ويشير إلى عواقب أعمالهم، وذلك لتوعية المسلمين وتعريفهم بالقضايا المختلفة، ولكي يرى الناس حقائق من حياتهم في مرآة تاريخ السالفين.

2- الاسلوب الثاني، التكويني، أي كشف القرآن عن الآثار التاريخية التي خلفتها الأقوام الغابرة، الآثار الصامتة ظاهراً والتي تمثل عالماً صاخباً ومثيراً، الآثار التي يمكنها أن تصوّر لنا التاريخ الغابر، الآثار التي تعتبر مرآة أمام الإنسان يرى فيها وجه حياته في الحاضر والمستقبل.

ج ج

نبدأ أولًا بقراءة نماذج من كلا القسمين في الآيات التالية:

1- «لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبرَةٌ لِّأُوْلِى الْأَلبَابِ . (يوسف/ 111)

2- «فَاقصُصِ القَصَصَ لَعلّهُم يَتَفَكَّرُون . (الاعراف/ 176)

3-

«ذَلِكَ مِنْ أَنباءِ القُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنهَا قَائمٌ وَحصِيدٌ». (هود/ 100)

4- «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيكَ أَحْسَنَ القَصَصِ بمَا أَوحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا القُرآنَ وَإنْ كُنتَ مِنْ قَبلِهِ

نفحات القرآن، ج 1، ص: 128

لَمِنَ الغَافلين . (يوسف/ 3)

5- «فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبرَةً لِّمَنْ يَخْشَى .

(النازعات/ 25- 26)

6- «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُم قُلوبٌ يَعقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسمَعُونَ بِهَا ...».

(الحج/ 46)

«افَلَم يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا». (محمد/ 10)

8- «قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِى الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ .

(آل عمران/ 137)

9- «قُلْ سِيرُوا فِى الأَرضِ فَانْظُرُوا كَيفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِى ءُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَى ءٍ قَدِيرٌ». (العنكبوت/ 20)

10- «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِى حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِى رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ المُلْكَ . (البقرة/ 258)

11- «أَلَمْ تَرَ كَيفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ* إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ». (الفجر/ 6- 7)

12- «أَلَمْ تَرَ كَيفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيلِ . (الفيل/ 1)

شرح المفردات:

1- إنَّ كلمة «قصص» تعني التتبع لآثار شي ءٍ ما «1»، وقد سمّيت القصة قصة لأنّ فيها تتبعاً للأخبار والحوادث المختلفة، وعليه فالقصّة لا تعني الرواية فحسب، بل تعني- لغوياً- التتبع لآثار الأشياء.

كما تطلق «القصص» على كل شي ء متتابع ومتسلسل.

______________________________

(1). ينبغي الالتفات إلى أنّ (قصص) كما هي مصدر لقصَّ يقصّ، هي جمع (قصة)، والمراد منها في سورة يوسف في الآيتين 3 و 111 هو المعنى الثاني.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 129

وبما أنّ (المِقَصّ) يقص الشعر على التوالي قيل له (مِقَصّ)، والقُصّة، على وزن «غُصّة» وتعني مجموعة الشعر الإمامي «1».

2- أمّا كلمة «عِبْرة» فاشتقت من مادة (عبور) و (عَبْر) وتعني الانتقال من حالة إلى

حالة اخرى، و «العبور» في الأصل- يعني عبور الماء سباحة أو بالزورق أو على الجسر وأمثال ذلك، وقد استعملت هذه المفردة بمعنى أوسع وهو الانتقال من حالة إلى حالة اخرى، ويقال لقسم من الحديث (عبارة) لأنّها تمثل العبور من لسان المتكلم إلى اذن السامع.

أمّا (العبرة) فهي الحالة التي يتوصل بها من معرفة المُشاهدِ إلى ما ليس بِمُشاهَدٍ «2».

وقد ذكر البعض أن «العبرة» تعني الدلالة التي توصل الإنسان إلى مراده «3».

كما جاءت هذه المفردة بمعنى التعجب «4» (وقد يكون هذا الاطلاق الأخير لأنّ كثيراً من الامور التي يكتشفها الإنسان عن طريق الحوادث المهمّة والجلية تثير العجب).

3- كلمة «السير» تَعني الحركة على الأرض، وإذا قيل (سيروا في الأرض) فإنّ القيد الأخير تأكيد للسير، وقد قال الراغب في مفرداته: ذُكِرَ معنيان للسير في الأرض: أحدهما الحركة الجسمانية على الأرض (ومشاهدة الكائنات وآثارها المختلفة)، والثاني هو الحركة الفكرية ودراسة الكائنات، وقد صرح البعض: إنّ السير يعني العبور المستمر في جهة واحدة «5».

أمّا كلمة «السيرة» فتعني الطريقة والأسلوب، واستعمالها إشارة إلى تاريخ حياة الأشخاص، وقد أخُذت من هذا المعنى

4- أمّا «الرؤية» فقد جاءت بمعنيين، أحدهما المشاهدة بالعين، والآخر العلم والمعرفة

______________________________

(1). لسان العرب، ومفردات الراغب، ومجمع البحرين.

(2). مفردات الراغب.

(3). تفسير مجمع البيان، ج 5، ص 271.

(4). لسان العرب.

(5). تفسير مجمع البيان، ج 5، ص 268.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 130

أو المشاهدة الباطنية «1»، وقد استعملت في القرآن الكريم في موارد كثيرة بالمعنى الثاني أي بمعنى العلم والاطلاع، وأمّا «الرأي» فيعني الاعتقاد القلبي والنظرية سواء كان اعتقاداً يقينياً أو ظنياً، وأمّا «الرويّة» و «التروّي» فيعنيان التفكير أو السعي والبحث للحصول على النظرية.

5- كلمة «نظر» في الأصل تعني دوران العين أو حركة الفكر

لإدراك أمرٍ ما، أو مشاهدته، وجاء أيضاً بمعنى البحث والتفحص وتارة جاء بمعنى المعرفة الحاصلة بعد الفحص، وقد ذكر صاحب مجمع البحرين ثلاثة معانٍ للنظر: 1- مشاهدة الشي ء، 2- التدقيق في الشي ء بواسطة العين؛ 3- التفكير للحصول على العلم أو الظن «2».

أمّا صاحب لسان العرب فقد شرح النظر بأنّه المشاهدة بالعين والثاني المشاهدة بالقلب، والمفيد أنّه استشهد بعد ذلك بحديث للرسول صلى الله عليه و آله حيث قال فيه: «النظر إلى وجه علي عبادة»، وفي تفسير هذا الحديث ينقل عن ابن الأثير أنّه قال: معنى الحديث هو أن الناس حينما كانت أعينهم تقع على علي غ عليه السلام كانوا يقولون:

«لا إله إلّااللَّه ما أشرف هذا الفتى لا إله إلَّااللَّه ما أعلم هذا الفتى ...» «3».

جمع الآيات وتفسيرها

بعد أن أشارت الآية الاولى إلى المصير المؤلم لبعض الأمم السالفة قالت: «لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِم عِبْرَةٌ لِّأُولِى الْأَلبَابِ فالتفكير في مصير هؤلاء يُعد الاسلوب الأَمثَل لأُولي الألباب لمعرفة عوامل السعادة والشقاء، وتمييز طريق الهلاك عن طريق النجاة.

______________________________

(1). وفعلها يتعدى لمفعول واحد على المعنى الأول، ومفعولين على المعنى الثاني (لسان العرب والمفردات).

(2). مفردات الراغب مادة (نظر).

(3). لسان العرب، مادة (نظر).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 131

ج ج

والآية الثانية خاطبت الرسول قائلة ذكرهم بتاريخ ومصير الامم السالفة من أجل أن تبعث فيهم روح التفكير والتأمل: «فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلّهُم يَتَفَكَّرُون وهذا يدل على أنّ البيان الصحيح لتاريخ السالفين موجب لصحوة الأفكار ومصدراً للمعرفة.

ج ج

والآية الثالثة بعد أن بيّنت مصير بعض الأقوام السالفة مثل قوم نوح وشعيب وفرعون ولوط وعاد وثمود، قالت: «ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنهَا قَائمٌ وَحَصِيدٌ» (أي من القرى من هو باق لحدّ الآن ومنها من زال وفنى «مَا ظَلَمْنَاهُمْ

وَلَكِن ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ . (هود/ 101)

ثم أضافت في النهاية «إِنَّ في ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرةِ». (هود/ 103)

ج ج

و الآية الرابعة التي جاءت في بداية سورة يوسف، هَيَّأَتْ أَذهانَ المخاطبين في البداية لتلقي وإدراك ما سَيُقال لهم فقالت: «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيكَ احْسَنَ القَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا الَيْكَ هَذَا الْقُرآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الغَافِلِينَ .

(يوسف/ 3)

فقد استندت الآيات الأربع إلى موضوع «القصة» والقصص» كوسيلة للمعرفة.

ج ج

والآية الخامسة بعد اشارتها إلى تعذيب فرعون قالت: «فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالاولى إِنَّ في ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَنْ يَخْشَى .

إنَّ هذه الآية ذكرت (العبرة) التي تعني الانتقال والعبور من حالة قابلة للمشاهدة إلى حقائق غير قابلة للمشاهدة واعتبرتها وسيلة للمعرفة.

ج ج

نفحات القرآن، ج 1، ص: 132

وقد أكدت الآية السادسة والسابعة والثامنة والتاسعة على مسألة «السير في الأرض»، ودعت الناس إليه باساليب خطابية مختلفة، فمرة خاطبتهم ب: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَيَنْظُروا كَيْفَ كانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ومرة «فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبينَ بعد ما ذمتهم لعدم سيرهم في الأرض.

وفي آيات أُخَر خُوطِبَ جميع الناس أو المسلمين بالقول: «قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِى الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبينَ .

وفي آية اخرى هناك دعوةٌ للناسِ لأنّ يسيروا في الأرض للبحث عن بدء الخلق والاستفادة من ذلك للعلم بكيفية النشأة الآخرة.

ج ج

وقد أكدت الآيات العاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة على مسألة المشاهدة و «الرؤية» ليس بالعين الباصرة، بل بالعقل والبصيرة.

إنّ الخطاب في الآيات الثلاث في الظاهر موجَّهٌ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إلَّاأنّ المراد بها جميع المؤمنين، بل الناس كافة، والخطاب بصيغة استفهام تقريري، حيث خاطبه اللَّه تارة بالنحو الآتي:

ألم ترَ إلى الذي (أي نمرود ذلك السلطان

الطاغي المغرور) حاجّ ابراهيم في ربّه، وإلى أيّ نهاية انتهى به المطاف؟ وتارة يخاطبه بهذا الخطاب: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ* إرَمَ ذَاتِ الْعِمَاد».

وخاطبه تارة اخرى بنحو آخر قائلًا له: «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفِيْلِ ، مذكّراً بقصة أصحاب الفيل الذين قدموا من اليمن لهدم الكعبة فانزل اللَّه عليهم طيوراً- بالرغم من ضعفها- ترميهم بحجارة من سجيل تحملها بمناقيرها فهلكوا بهذه الأحجار الصغيرة.

ومن المسلم به أنّه لا الرسول ولا غيرَه من المسلمين رأى إبراهيم ونمرود وسمعَ

نفحات القرآن، ج 1، ص: 133

محاجتهما، وكذا الأمر بالنسبة لقوم عاد، فلم يروهم ولم يروا مدنهم العامرة يومذاك، وحتى بالنسبة لأصحاب الفيل فإنّ الرسول صلى الله عليه و آله وُلِدَ في السنة التي هجم فيها (ابرهة) طبقاً للرواية المشهورة، فلم يرَ شيئاً من الحادث وكذا أكثر المسلمين، وعلى هذا فالمراد من الرؤية هو التدقيق في تاريخهم.

إنّ ما يلفت النظر هنا هو أنّ الآيات الخمس الاولى ركّزت بحثها على التاريخ المدوّن أي ما جاء في صفحات الكتب التاريخية بينما ركزت الآيات الاربع الأخيرة بحثها على التاريخ التكويني الحي أي الآثار الباقية عن الأقوام الغابرة في بقاع مختلفة من العالم.

من الممكن أن تكون الآيات الثلاث الأخيرة فيها إشارة إلى التاريخ المدون أو التاريخ الخارجي أو كليهما، ويتضح من مجموع هذه الآيات (وأمثالها في القرآن الكريم) الأهميّة القصوى التي أولاها القرآن لقسمي التاريخ كمصدر للمعرفة والعلم.

إنَّ اللَّه عزّ وجلّ يدعو الناس تارةً لأنّ يشاهدوا بأم أعينهم قصور الفراعنة وآثار دمار مدن عاد وثمود وقصور نمرود وأعوانه والبلاد التي جُعِلَ عاليها سافلها التابعة لقوم لوط لكي يعرفوا أنَّ مَصير المتجَبّرين سيؤول إلى هذه النهاية.

وتارة نجد القرآن نفسه يشرح بدقة هذه الحوادث

ويسلط الأضواء عليها ويعدُّ العِبَر بعد العِبَر ذاكراً عاقبة (المكذبين) و (الظالمين) و (الكافرين) و (المفسدين) في ضمن بحوثه التاريخية هذه.

في الحقيقة إنّ القرآن تارة يأخذ بأيدي الناس إلى «مصر» ويريهم الآثار التاريخية ويصور لهم الراقدين تحت التراب ويضع أمام أعينهم العروش التي عصفت بها الرياح، وتارة اخرى يريهم الذين أُركسوا في العذاب وهُدّمت عروشهم، والخلاصة: فإنّ القرآن يريهم ما خفي عن العيان من قصص الأسلاف.

إنّه يمضي بهم إلى المدن المُخربة كمدينة (سدوم) مركز قوم لوط ليشاهدوا عن كثب ما حلّ بها ومن هناك إلى جنة شداد، وبلاد بابل، (مركز حكومة نمرود)، ومناطق اخرى.

إنّه يجعل من ايوان كسرى في المدائن وزخارف كل قصر عبرة لمن اعتبر ونصيحة جديدة.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 134

والخلاصة: إنّ القرآن يستند كثيراً في مجال التعليم والتربية والتوعية إلى التاريخ المدون في الكتب، وما موجود على وجه الأرض، وهذه، مسألة جديرة بالاهتمام كثيراً.

ج ج

توضيحات

1- مرآة التاريخ

إنّ أهم ما يحصل عليه الإنسان في حياته هو تجاربه الشخصية، التجارب التي تفتح له بها آفاق جديدة وواسعة من أجل حياة أفضل وجهاد اكثر ليسعى جاهداً للوصول إلى التكامل الأمثل.

لكن ما هو مقدار التجارب التي يستطيع الإنسان الحصول عليها خلال عمره القصير البالغ مثلًا عشرين سنةً أو خمسين أو ثمانين؟

هذا إذا قضى عمره في ميادين التجربة ولم يِقضِهِ على وتيرة واحدة.

إننا، لو استطعنا أن نجمع تجارب جميع من عاش في عصر واحد، أو تجارب جميع من عاش في القرون والعصور الماضية، لَحَصَلْنا على تجارب كثيرة، وستكون تلك التجارب مصدراً مهماً لمعرفتنا وخبرتنا.

إنّ التاريخ- إذا تمّ تدوينه بالطريقة الصحيحة والكاملة- فسوف يقدم للباحثين والدارسين تجارب البشر على مرّ القرون، وحتى إذا كان ناقصاً فانّه يضم بعض تجارب العصور الغابرة.

ومن

هنا تبدو أهميّة التاريخ حيث إنّ ما يحدث الآن قد تكرر نموذج أو نماذج منه في التاريخ سابقاً، وما يقال عن التاريخ من أنّه «يعيد نفسه» حقيقة لا تنكر وقد تستثنى موارد منه إلّاأنّ اكثر الحوادث داخلة في اطار هذا القانون.

وقد أشار الإمام علي عليه السلام لهذا الموضوع بوضوح في خطبةٍ له، حيث قال فيها: «عباد اللَّه

نفحات القرآن، ج 1، ص: 135

إنّ الدهر يجري بالباقين كجريه بالماضين» «1».

وقد جاء في حديث شريف أنّ ما يجري في الامة الإسلامية قد جرى مثله في بني اسرائيل.

ومن هنا تتضح أهميّة ودور التاريخ في مجال المعرفة والفكر، ونستطيع القول بتحدى:

إنّه بالتحليل والدراسة الدقيقة لتاريخ البشر نجد:

عوامل الفشل والسقوط.

وعوامل الانتصار والفوز.

وعوامل إزدهار الحضارات.

وعوامل سقوط وانقراض الحكومات (الدول).

وعاقبة الظلم والاستبداد.

وعاقبة العدل والانصاف.

ونتائج وحدة الكلمة والحركة والسعي.

ودور العلم والمعرفة.

وعواقب الجهل والبطر والكسل، كلها قد انعكست في مرآة التاريخ.

وإن أراد أحد أن يمنحه اللَّه حياة ثانية فحريٌّ بنا أن نقول له: إنّك إذا درست التاريخ بدقة لوجدت إنّك لم تمنح حياة ثانية فحسب، بل وُهِبَت الآلاف المضاعفة.

وما أجمل ما خاطب به الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ولدَهُ الاكبر الإمام الحسن عليه السلام: «أي بني إنّي وإن لم أكن عُمّرتُ عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم، وفكرت في أخبارهِم وسرتُ في آثارهم، حتى عُدْت كأحدهم، بل كأني بما انتهى الىَّ من امورهم قد عمِّرتُ مع أولهم إلى آخرهم» «2».

______________________________

(1). نهج البلاغة، الخطبة 157.

(2). نهج البلاغة، وصيته للإمام الحسن المجتبى عليه السلام.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 136

ومع أنّنا لا ننكر النواقص والإشكالات على التاريخ المتداول بين أيدينا، ولكن رغم هذه النواقص- التي سنشير اليها فيما بعد- فهو غني بالعلم والمعرفة.

2- جاذبية التاريخ

لِمَ كان التاريخ

معلماً؟ الإجابة عن هذا السؤال ليست صعبة، وذلك لإمكانية تشبيه التاريخ بالمختبر الكبير الذي تخضع فيه قضايا حياة الإنسان المختلفة للتحليل.

وعلى هذا الأساس، فكما أنّ العلوم التحليلية حلت الكثير من مسائلها وقدّمت الكثير من البراهين الحية لإثبات الواقعيات بالاختبار، كذلك التاريخ ذلك المختبر العظيم حيث تختبر فيه الكثير من القضايا والمسائل، حيث يميز فيه الذهب الخالص من الذهب غير الواقعى، وبه تزول الأوهام عن الأذهان.

إذا حللت ظواهر الأجسام أو تركيباتها في مختبرات الكيمياء والفيزياء، فانّك في مختبر التاريخ تحلل أسرار انتصار وفشل الأقوام السالفة، وسبب سيادة وتطور أو انحطاط الحضارات، وردود الفعل وصفات ومعنويات الأقوام والأشخاص، واسلوب عملهم بجاذبية وجمال فائق.

وبذلك يكون التاريخ وسيلة مناسبة لدراسة عوامل السعادة وشقاء البشر.

وإذا شاهدنا في القرآن الكريم تأكيداً على تاريخ الامم السالفة، وشاهدنا فيه من السور الدالّة على المباحث التاريخية حتى أنّ بعض السور تدور معظم آياتها أو كلّها حول تاريخ الأقوام السالفة فذلك كله ناشي ء من هذه الملاحظة التي أشرنا اليها.

وقد ينكر المعاندون بعض المسائل النظرية، إلّاأنّه لا يمكنهم انكار واقعيات التاريخ القطعية، وبالخصوص الحوادث التي أشار اليها القرآن حيث نراه يأخذ بأيدي الناس إلى ما خلّفته الأقوام الغابرة، ويروي قصصهم على قبورهم وقمم مدنهم الخربة.

إنّ التاريخ- في الحقيقة- فرع من المسائل التجريبية، وبتعبير آخر يمكن ادغامه في مصدر «الحس والتجربة» إلّاأنّه يختلف عن الحس والتجربة اختلافاً طفيفاً فالحس والتجربة يتعلقان بالحاضر لكن التاريخ يتعلق بالماضي، وأنّ الحس والتجربة قد يتعلقان بذات الفرد فقط بينما التاريخ يتعلق بجميع ذوات البشر.

ولكن الأهميّة الفائقة لهذا الفرع من التجربة تفرض علينا دراسته كمصدر مستقل للمعرفة.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 137

3- شوائب التاريخ

بالرغم من أنّ التاريخ مرآة كبيرة وجميلة تعكس الواقعيات إلّاأنّ المؤسف

فيه هو وجود أيادٍ ملوَّثة سعت وتسعى دائماً لتغيير وتشويه الوجه الناصع لهذه المرآة، ولهذا السبب فإنّ هناك كثيراً من الشوائب في التاريخ تحول دون معرفتنا للحقيقة ودون تمييزنا الصادق من الكاذب منه.

إنّ سبب التشويه واضح، حيث لم يكن المؤرخون محايدين دائماً، بل كثيراً ما يؤرخون التاريخ بالشكل الذي يتناسب مع دوافعهم الشخصية والفئوية، هذا من جهة، ومن جهة اخرى فإنّ جبابرة كل عصر سعوا لإِغراء المؤرخين وجذبهم ليكونوا تحت سيطرتهم ونفوذهم، ليملوا عليهم ما يحلو لهم فيكتبوا ما يريد هؤلاء الجبابرة.

وبالرغم من المساعي التي تُبذل بعدَ زوال كلٍّ من الحبابرة والظالمين وتوفر أجواء حرة أكثر في سبيل إصلاح الأخطاء، وتصحيح ما لحق بالتاريخ من فساد، إلّاأنّ المؤرخين قد لا يوفّقون في هذا المجال لإصلاح الخطأ، أو تكون إصلاحاتهم غير كافية.

والملفت للنظر أنّ قضايا التاريخ تتبدّل كلما تبدلت الحكومات المستبدة ذات الميول والإتّجاهات المتضاربة، ف «بنو امية» مثلًا حرفوا التاريخ الإسلامي بشكل، و «العباسيّون» حرفوه بشكل آخر، كما أنّ الذين خلفوا العباسيين صاغوه بشكل آخر.

إنَّ (استالين) كتب في زمن ما تاريخ الثورة الشيوعية في روسيا بشكل، وقد دُرِّس هذا التاريخ في جميع المدارس آنذاك، والذين خلفوه كانوا يعتبرونه جلاداً مصاصاً للدماء فجمعوا تلك الكتب ودوّنوا تاريخ الثورة بصيغة اخرى، وهكذا فعل كل من خلف الحكومة في الاتحاد السوفيتي فكتب التاريخ بما يتناسب مع ميوله الشخصي والمذهبي.

ولهذا السبب، فإنّ البعض أساء الظن بالتاريخ وقال فيه- مبالغةً- هذه العبارة: «إنّ التاريخ مجموعة حوادث لم تحدث أبداً، وأقوام لم توجد أبداً»!!

إلّا أنّ الانصاف يفرض علينا أن نعدّ التاريخ أحد مصادر المعرفة بالرغم من الغبار الذي غطّاه، وذلك لأنّ التاريخ كأي خبر آخر منه «المتواتر» ومنه «الموثوق» ومنه «الضعيف»

ومنه «المجهول».

نفحات القرآن، ج 1، ص: 138

ولا يمكن انكار ما تواتر في التاريخ عن جُند المغول وجيش هتلر والحوادث المفجعة في «الاندلس»، والمئات من هذه الحوادث، والذي يصلح للنفي والإثبات والإشكال هو جزئيات التاريخ، وهي بدورها إذا ثبتت باخبار الثقات أصبحت صالحة للاعتماد عليها.

بالطبع فإنّ الأخبار الضعيفة في هذا المجال ليست قليلة.

و هذا حكم عادل بحق التاريخ، فينبغي عدم الأخذ بكل ما جاء في التاريخ، كما لاينبغي نبذ كل ما ورد فيه.

وقد سَلِمَ قسمان من التواريخ من أي تحريف وتلويث وهما:

التواريخ التي ظلّت في صورة آثار تكوينية في الخارج، فلا يمكن تحريفها ببساطة، وقد أكد القرآن المجيد على هذا القسم كثيراً، وآيات «السير في الأرض» بهدف التعرف على تاريخ الامم السالفة ناظرة إلى هذا القسم منه.

والأكثر من ذلك التواريخ التي وصلتنا عن طريق «الوحي» مثل تواريخ القرآن التي تعتبر أصيلة وخالصة من جميع الرغبات والنزعات، فكما أن اللَّه عزّ وجلّ أفضل مقنّن فهو أفضل مؤرخ كذلك، لأنّه خبير بجميع الجزئيات ومنزه عن الإتّجاهات الفردية والجماعية، ومع توفر هذين الشرطين فهو أفضل مؤرخ روى لنا التاريخ.

وقد يتعجب البعض ويسأل: لماذا يعيد اللَّه تعالى قصة نوح أو موسى أو فرعون أو مواجهة الأنبياء للمستكبرين والجبابرة عدّة مرّات؟

لقد غفلوا عن أن كل حكاية ناظرة إلى الحادث من زاوية واحدة فقد يكون لكل حدث تاريخي زوايا وجوانب متعددة، فقد ينظر- مثلًا- إلى تاريخ بني اسرائيل من حيث مواجهتهم لطاغوت زمانهم، وقد ينظر لتاريخهم من حيث عنادهم لأنبيائهم، وقد ينظر لتاريخهم من حيث عواقب الاختلاف والتشتت وعدم الاتحاد، أو من حيث آثار ونتائج نكران النِعَم، والخلاصة: إنّ كثيراً من الحوادث التاريخية كالمرآة ذات الأبعاد المختلفة، يسلط كلُّ بعد من ابعادها الأضواء

على جانب من الجوانب (وسيأتي شرح هذا بالتفصيل في بحث تواريخ القرآن).

ج ج

نفحات القرآن، ج 1، ص: 139

4- فلسفة التاريخ

إنّ المهم في التاريخ هو العثور على «جذور» و «نتائج» الحوادث التاريخية.

فإذا حصلت ثورة في بقعة ما من العالم- مثلًا- ينبغي أولًا دراسة العوامل التي أدت هذه الثورة والتحقق منها بدقة.

ثانياً النظر في نتائج هذه الثورة، وهذان الأمران هما اللذان يخرجان التاريخ عن كونه مجرد حكايات مسلّية، ويبدلانه إلى مصدرٍ مهم للمعرفة.

لكن يؤسفنا أن يكتفي المؤرخون بذكر الحوادث التاريخية، في مرحلة تبلورها فقط، وقلّما يتجهون نحو جذور وعلل الحوادث ونتائجها، ولم يتركوا في مجال تحليل القضايا التاريخية آثاراً تُذكر.

إلّا أنّ القرآن قرن تدوين الحوادث مع البحث عن أُصولها ونتائجها فتارة بعد ذكره لمقطعٍ تاريخي يقول:

«فَانْظُرُوا كَيفَ كانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ . (آل عمران/ 137)

وتارة يقول: «وَانْظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُفْسِدِينَ . (الاعراف/ 86)

وتارة يقول: «فَانْظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبةُ الْمُجْرِمِينَ . (النمل/ 69)

وتارة يقول: «انَّ اللَّهَ لَايُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتّى يُغيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ . (الرعد/ 11)

والجدير بالذكر أن للتاريخ فروعاً عديدة أهمّها تاريخ الإنسان والمجتمعات البشرية، وتاريخ الحضارات، وتاريخ العلوم والفنون البشرية، وهي تواريخ محورها الأساس ومحرك عجلتها هو الإنسان.

يالهم من بسطاء أولئك الذين يظنون أن التاريخ- بالرغم من كل فروعه وتشعباته- نتاج قسري للقضايا الاقتصادية وخاصةً وسائل الانتاج، أي أنّ التاريخ خلقته وسائل الانتاج واجهزته التي صنعها الإنسان بنفسه!

وعلى هذا الأساس يمكننا القول: إنّ هؤلاء بتصورهم الخاطى ء وتفكيرهم الشاذ لم يعرفوا الإنسان ولا التاريخ أبداً.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 140

5- التاريخ «النقلي» و «العلمي» و «فلسفة التاريخ»
اشارة

قسم أحد العلماء المعاصرين التاريخ- من وجهة نظر وزاوية خاصة- إلى ثلاثة أقسام:

1- التاريخ النقلي: وهو عبارة عن مجموعة من الحوادث الجزئية المعينة التي حدثت في الماضي، وهو أشبه ما يكون بالفلم الذي يصور حادثة أو حوادث، لهذا فانه جزئي دائماً وليس كلياً، ويتحدث عمّا كان لا عمّا

يكون، ويتعلق بالماضي لا بالحاضر، ونقلي لا عقلي.

وهذا الفرع من التاريخ يمكنه- عن طريق المحاكمات- أن يكون معلماً مفيداً، وعبرة من أناس ذلك الزمان، وهو أشبه بتأثّر الإنسان بجليسه، وأشبه بالاسوة التي يذكرها القرآن للناس ليعتبروا منها ويقتدوا بها.

2- التاريخ العلمي: وهو التاريخ الذي يتحدث عن قواعد وسنن الامم السالفة التي تُستنبط من دراسة وتحليل حوادث العصور السابقة، وفي الحقيقة فإنّ التاريخ النقلي كالمادة الخام لهذا التاريخ.

ومن ميزات هذه السنن هي إمكانية تعميمها، وكونها علمية، وإمكانية جعلها مصادِر للمعرفة، وإحاطة الإنسان- عن طريقها- بالمستقبل.

وبالرغم من أنّ هذا النوع من التاريخ كلي وعقلي، فانّه علم بما كان لا بما يكون.

3- فلسفة التاريخ: وهو علم يتحدث عن تحول المجتمعات من مرحلة إلى أُخرى أو بتعبير آخر: هو علم بما يكون لا بما كان.

ويمكن توضيح هذا بالمثال الآتي:

إنّ «علم الأحياء» علم يبحث عن القواعد الكلية التي تحكم حياة الموجودات الحية، إلّا أنّ نظرية «تكامل الأنواع» إذا قلنا بها- تبحث عن كيفية تحول وتبدل نوع من الحيوانات إلى نوع آخر، إذن، موضوع البحث في فلسفة التاريخ هو كيفية حركة وتكامل التاريخ، إنّ هذا الفرع من التاريخ يتسم بجانب كلي وعقلي، ورغم ذلك فانّه ناظر إلى مجريات التاريخ من الماضي إلى المستقبل وفائدة هذا النوع من التاريخ لا تخفى على أحد «1».

______________________________

(1). ملخص من كتاب فلسفة التاريخ تأليف الشهيد المطهري.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 141

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ ما ذكرناه في شروحنا للاقسام الثلاثة كان صحيحاً وإن لم يتفق شيئاً ما مع الاستعمالات العصرية لمفردتي «العلم» و «الفلسفة» وأنّ المراد كان ايصال المفهوم إلى أذهان القراء فقط.

فضلًا عما ذُكر سابقاً نضيف هنا القول بامكانية ادغام القسم الثاني والثالث في

قسم واحد، ذلك لأنّ القوانين الكلية التي رسمت التاريخ وتُستخرج وتُستنبط من التاريخ النقلي، تارة تكون ناظرة إلى الوضع الراهن للمجتمعات، وتارة اخرى تكون ناظرة إلى تحول وتكامل المجتمعات.

والمهم هنا هو أنّ القرآن المجيد لم يقتنع بالسرد المجرد لحوادث التاريخ بل أشار أيضاً إلى السنن والقوانين الكلية التي حكمت المجتمعات، القوانين التي يمكنها أن تزيل القناع عمّا كان ويكون، أو عن أي تغير وتحول تاريخي كأيّ تقدمٍ أو سقوطٍ أو فشلٍ حصل للمجتمعات.

يشير القرآن- مثلًا- إلى هذه السنة: «ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ . (الأنفال/ 53)

وينبغي الالتفات إلى أنّ القرآن ذكر هذه السنة بعد ما أشار إلى قصة قوم فرعون وعذابهم بسبب ذنوبهم.

ويقول في آيات اخر (بعد اشارته إلى تاريخ الأقوام القويّة التي أُهلكت بسبب تكذيبهم الرسل وشركهم وذنوبهم وظلمهم): «فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ ايمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِى قَدْ خَلَتْ في عِبَادِهِ . (المؤمن/ 85)

نعم تنبغي الوقاية قبل العلاج، وهذا قانون كلي، لأنّ الإنسان لو ابتلي بجزاء أعماله فلا فرصة حينئذٍ لجبران الماضي.

الإجابة على إشكال:

قد يُقال إنّ قبول وجود قانون كلي في تاريخ الإنسان يجسد مفهوم الجبر في تاريخ

نفحات القرآن، ج 1، ص: 142

البشر ولا ينسجم وحرية الإرادة والاختيار.

لكن الالتفات إلى نقطة في هذا المجال يرفع الإشكال بالكامل والنقطة هي:

إنَّ قولنا بوجود قوانين وسنن كلية معناه أن أعمال البشر الاختيارية (سواء الفردية منها أو الجماعية) لها مردودات وانعكاسات قهرية، فمصير الأمم الصامدة والعارفة والمثابرة- مثلًا- هو النصر، ومصير الأمم المشتتة والجاهلة هو السقوط والفشل.

هذه سنة تاريخية، فهل أنّ مفهوم هذا القانون الكي هو أنّ الإنسان مجبور، أم إنَّه تأكيد لتأثير ونفوذ إرادة الإنسان في تعيين

مصيره؟

وهذا الأمر أشبه ما يكون بقولنا: إنّ الإنسان يموت إذا تناول سُمّاً، وهذا المردود قهري ولا يتنافى واختيار الإنسان وأصل إرادته.

6- التاريخ في نهج البلاغة والروايات الإسلامية

بما أنّ نهج البلاغة كتاب عظيم ذا محتوى تربوي غني جدّاً، وبما أنّ التربية بلا معرفة، والمعرفة بلا تربية أمر محال، فقد أكد هذا الكتاب على القضايا التاريخية كثيراً.

إنّ أمير المؤمنين عليه السلام عند حديثه عن الحوادث التاريخية يصورها وكأنّه يأخذ بأيدي الناس إلى مكان الحدث ويريهم فرعون وجنوده ويقتفون آثار مستضعفي بني اسرائيل ومن ثم يشاهدون غرقهم في نهر النيل.

إنّه يصور قوم نوح وقوم عاد وثمود تحت تأثير الدمار الشامل الذي خَلَّفَهُ الطوفان والصواعق والزلازل والحجر الذي أُمطروا به، والناس يشاهدون أخذ هذه الامم الطاغية واللاهية مع قصورهم ومدنهم وبطغيانهم وهلاكهم في طرفة عين بحيث لم يبق إلّاآثار الخراب والصمت القاتل المهيمن عليها، وكل من سَاحَ في نهج البلاغة مرَّ بهم ورجع بكنزٍ هائل من العلم والمعرفة والخبرة، إنّ قدرة نهج البلاغة في تصوير الحوادث قدرة عجيبة حقاً، وكذا الأمر عند بيانه لفلسفة التاريخ.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 143

وقد شرحنا سابقاً كلام الإمام علي عليه السلام للإمام الحسن عليه السلام حول تأثير التاريخ على طول عمر الإنسان، طول يمتد بامتداد أعمار جميع البشر من حيث المعرفة والتجربة.

وهناك عبارات جميلة له عليه السلام حول جريان السنن التاريخية حيث يقول:

«عباد اللَّه إنَّ الدهر يجري بالباقين كجريه بالماضين، يعود ما قد ولّى منه، ولا يبقى سرمداً ما فيه، آخر فعاله كأوّله، متشابهة اموره، متظاهرة أعلامه» «1».

وفي تفسيره للإيمان باعتباره ذا أربعة أعمدة الصبر واليقين والعدل والجهاد)، يقول:

«اليقين منها على أربع شُعَب، على تبصرة الفطنة وتأوّل الحكمة، وموعظة العبرة وسنة الأولين» «2».

ويقول عليه السلام في موضع آخر:

«واعلموا عباد

اللَّه أنّكم وما أنتم فيه من هذه الدنيا على سبيل من قد مضى قبلكم، ممن كان أطول منكم أعماراً، وأعمر دياراً، وأبعد آثاراً، أصبحت أصواتهم هامدة، ورياحهم راكدة، وأجسادهم بالية، وديارهم خالية، وآثارهم عافية، فاستبدلوا بالقصور المشيدة، والنمارق الممهدة، الصخور والأحجار المسندة، والقبور اللاطئة المُلْحَدة التي بُني على الخرب فناؤها وشيّد بالتراب بناؤها» «3».

ويقول في خطبة اخرى:

«فاعتبروا بما أصاب الامم المستكبرين من قبلكم، من بأس اللَّه وصولاته ووقائعه ومثلاته، واتّعظوا بمثاوى خدودهم ومصارع جنوبهم» «4».

كما يقول في نفس الخطبة:

«فانظرو كيف كانوا حيث كانت الأولاد مجتمعة والأهواء مؤتلفة، والقلوب مهتدلة.

______________________________

(1). نهج البلاغة، الخطبة 157.

(2). المصدر السابق، الكلمات القصار، الكلمة 31.

(3). المصدر السابق، الخطبة 226.

(4). المصدر السابق، الخطبة 192، (الخطبة القاصعة).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 144

والأيدي مترادفة، والسيوف متناصرة، والبصائر نافذة والغرائم واحدة، ألم يكونوا أرباباً في أقطار الأرضين؟ وملوكاً على رقاب العالمين؟! فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر امورهم، حين وقعت الفرقة، وتشتّت الألفة، واختلفت الكلمة، والافئدة، وتشعبوا مختلفين، وتفرقوا متحاربين، قد خلع اللَّه عنهم لباس كرامته، وسلبهم غضارة نعمته، وبقي قصص أخبارهم فيكم عبراً للمعتبرين» «1».

ويقول في خطبة اخرى:

«وإنّ لكم في القرون السالفة لعبرة! أين العمالقة وابناء العمالقة! اين الفراعنة وأبناء الفراعنة «2»! اين أصحاب مدائن الرّس «3» الذين قتلوا النبيين، واطفئوا سنن المرسلين، وأحيوا سنن الجبارين؟ اين الذين ساروا بالجيوش، وهزموا الألوف، وعسكروا العساكر ومدّنوا المدائن؟» «4».

كما أنّ الروايات الإسلامية أولت عناية كبيره لهذه المسألة، واعتبرتها أحد المصادر المهمّة للمعرفة وبالأخصّ للمسائل الأخلاقية، وتهذيب النفوس، والالتفات إلى واقعيات الحياة.

وقد جاء في رواية أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام عندما كان في طريقه مع عسكره إلى صفين وصل إلى مدينة (ساباط) ثم إلى مدينة (بهرسير)

«5» (المناطق التي كانت مركزاً لحكومة الساسانيين) التفت أحد صحابته فجأة إلى آثار كسرى (والملك الساساني

______________________________

(1). نهج البلاغة، الخطبة 192، (الخطبة القاصعة).

(2). العمالقة: أقوام قوية ومتمكنة وجبارة وظالمة كانوا في شمال العراق، وقد فتحوا «مصر» وحكموها لفترة في عهد الفراعنة.

(3). يعتقد الكثير أنّ أصحاب الرس قوم سكنوا اليمامة جنوب الحجاز، وكان لهم نبي باسم حنظلة، وقال البعض أنّهم قوم شعيب، ويعتقد بعض آخر أنّ مدنهم كانت بين الشام والحجاز (يراجع التفسير الأمثل، ذيل الآيه 38 من سورة الفرقان).

(4). نهج البلاغة، الخطبة 182.

(5). يقول البعض إنّها مشتقة من الأصل الفارسي أي (بوارد شير) أو (دهار دشير) وهي إحدى المدائن السبعة التي كانت تقع غرب نهر دجلة (معجم البلدان، ج 1، ص 515).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 145

المعروف) وانشد البيت:

جرت الرياحُ على مكان ديارهم فكأنّهم كانوا على ميعاد

فقال الإمام عليه السلام: «لِمَ لم تقرأ، هذه الآيات: «كَمْ تَرَكَوا مِنْ جَنّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنِعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذلِكَ وَاورَثْنَاهَا قَوماً آخَرِينَ فَمَا بَكَتْ عَلَيهِمُ السَّمَاءُ وَالْارْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ » «1».

وقد جاء في حديث الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ داود عليه السلام خرج من المدينة وهو يقرأ (الزبور)، وما من جبل أو حجر أو طير أو حيوان وحشي إلّاويقرأ معه، وهو مستمر في طريقه حتى وصل إلى جبل، يعيش على قمته نبي عابد اسمه (حزقيل)، أدرك مجي ء داود عندما سمع ترتيل الجبال والطيور والوحوش، وعندما سأل داود النبيَّ: هل تأذن لي بالصعود إليك؟ فأجابَهُ النبي العابد: لا، فبكى داود، فأوحى اللَّه إلى (حزقيل) بأن لا يوبّخ داود، وأن يطلب من اللَّه تعالى حسن العاقبة، فقام حزقبل وأخذ بيد داود وجاء به إلى محله.

فسأله داود: هل عزمت على الذنب

يوماً؟

فاجاب: لا.

ثم سأل: هل حصل عندك الغرور والعجب لكثرة عبادتك؟

أجابه: لا، ثم سأله: هل رغبت في الدنيا وهل أحببت شهواتها ولذاتها؟

أجاب: نعم، نعم قد يخطر هذا في قلبي.

فسأله: ماذا تفعل آنذاك؟ أجاب: أدخل في هذا الوادي واعتبر بالذي فيه.

فدخل داود الوادي، فرأى أريكة من حديد وعليها جمجمة متآكلة وعظاماً رميمة ولوحة مكتوبة، فعرف داود: أن ذلك يتعلق بملك مقتدرٍ حكم سنينَ طويلة وبنى مدناً كثيرة.

وقد بلغ به الأمر إلى ما تراه ...» «2».

ج ج

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 68، ص 327.

(2). المصدر السابق، ج 14، ص 22 (ملخص الحديث).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 146

آخر الحديث حول التاريخ المعلِّم:

إنَّ ما ذكرناه عن التاريخ كمصدر للمعرفة والعلم مشروط بالامور الآتية:

أولًا: أن لا يدرس الإنسان التاريخ للتسلية.

ثانياً: أن يدرس العلاقة الحقيقية بين القضايا التاريخية وأعمال الإنسان، ولا يحُلل القضايا التاريخية على أساس التبريرات الوهمية كالحظ والصدفة، أو المصير المحتوم أو القضاء والقدر (على التفسير الذي يعتقد به الجاهلون، والذي تُسلب على أساسه قدرة الإنسان في الاختيار).

ثالثاً: أن يستنبط القوانين التاريخية الكلية من الحوادث الجزئية، وأن يحقق في اصول ونتائج كل حادثة ثم يجعل نفسه مصداقاً لهذه القوانين ويخرج بالنتيجة.

رابعاً: أن لا يسعى ليجرّبَ الحوادث (التي جربت قبله) بنفسه، وذلك لكي لا يكون مصداقاً لهذا الحديث «من جرّب المجرَّب حلّت به الندامة».

خامساً: أن يكون ناقداً للحوادث التاريخية ومميزاً للمسلَّمات من المشكوكات والأساطير من الواقعيات.

وخلاصة الحديث هو أن يتلقى التاريخ كمصدرٍ مُلْهِم للمعرفة والخبرة في حياته، وليس بشكله المحرَّف.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 147

4- الفطرة والوجدان

تمهيد:

عندما يصل الإنسان إلى سنّ الرشد، يتعرف على بعض الحقائق من دون الحاجة إلى معلم كاستحالة اجتماع الضدين أو النقيضين حيث تكون واضحة عنده.

و يدرك حسن وقبح كثير من الامور، مثل: قبح الظلم وحسن العدل والاحسان.

و عندما يقوم بعمل مشين، يناديه صوت الوجدان الرادع الباطني يؤنبه على عمله، وعندما يأتي بعمل حسن يشعر بالطمأنينة والرضا النفسي.

يستأنس بالجمال ويحب العلم والمعرفة.

يحس في باطنه ارتباطاً بمبدأ مقدس، وبتعبير آخر: إنّ في باطنه ما يجرّه ويجذبه إلى اللَّه عزّ وجلّ.

وهذا يكشف عن وجود مصدرٍ للمعرفة في باطن الإنسان غير المصادر التي قرأنا عنها سابقاً، يطلق عليه «الفطرة»، وتارة «الوجدان» واخرى «الشعور الباطني».

ولتعيين حدود العقل وحدود الفطرة نتأمل الايضاحات الآتية:

إنّ روح الإنسان تمثل ظاهرة عجيبة ذات جوانب وأبعاد متعددة، ندرك بعضها، ونجهل الآخر، كما أن لها نشاطات مختلفة

بمحاذاة جوانبها المختلفة.

وإنّ العقل يشكل قسماً من الروح، ووظيفته التفكير، كما أنّ هناك قسماً آخر وهو الحافظة ووظيفتها حفظ المعلومات وخزنها وتقسيمها وتبويبها واستخراج المراد والمطلوب منها- بشكل معجز- من بين الملايين من المفاهيم والحوادث والذكريات.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 148

والقسم الآخر هو العواطف أو مركز الحب والعشق والعداء والخصومة والبغضاء.

والقسم الآخر هو الأعمال الباطنية كالاختيار والإرادة والعزم والتصميم.

والخلاصة ينبغي القول: إنّ الروح بحر عظيم ملؤُهُ العجائب والغرائب، وإنّ القوانين التي تحكمها قوانين متنوعة ومعقدة للغاية.

إلّا أنّه يمكن تقسيم الروح إلى قسمين كليين:

1- القسم الذي يتعلق بالتفكير والإدراكات النظرية، أي ما يكتسبه الإنسان عن طريق الاستدلال.

2- القسم الذي يتعلق بالإدراكات البديهية الضرورية، أي ما هو حضوري ومعلوم عند الإنسان بلا دليل أو برهان.

وكلما تحدثنا عن الفطرة والوجدان، فإنّ مرادنا هو القسم الأخير من الإدراكات.

«الفطرة»: وتعني الخلقة الاولى أي خلق الروح والنفس ممتزجة مع مجموعة من المعلومات الفطرية.

و «الوجدان»: ما يجده الإنسان في نفسه من دون حاجة لتعلمه.

و «الشعور الباطني»: الإدراك الباطني للإنسان الذي يستلهم منه الإنسان، وعلى أيّة حال، فإنّ ممّا لا شك فيه أنّ هذا الشعور أحد مصادر العلم ومعرفة الحقائق، الذي قد يعبر عنه ب «القلب» وهو يختلف بوضوح عن «العقل» الذي هو مركز الإدراكات النظرية بالرغم من أنّهما فروع لشجرة واحدة وثمرتان لروح الإنسان (فتأمل).

بالطبع، ليس كل ما قيل هنا متفق عليه من قبل الفلاسفة جميعهم، بل أردنا الإشارة إلى هذا الموضوع، وسنعيد الإشارة إليه مرّةً اخرى بشكلٍ استدلالي إن شاء اللَّه.

وبعد الالتفات إلى هذه الملاحظة، نتأمل في القرآن لنرى كيف يكشف لنا عن هذا المصدر.

ج ج

نفحات القرآن، ج 1، ص: 149

نقرأ أولًا الآيات الآتية:

نفحات القرآن ج 1 192

1- «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَالهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا». (الشمس/

7- 8)

2- «فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ . (الأنبياء/ 64)

3- «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّموَاتِ والْأَرضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ . (لقمان/ 25)

4- «فَإِذَا رَكِبُوا فِى الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ . (العنكبوت/ 65)

5- «صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ . (البقرة/ 138)

6- «خَلَقَ الْإِنْسَانَ* عَلَّمَهُ البَيانَ . (الرحمن/ 3- 4)

7- «عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَالَمْ يَعْلَمْ . (العلق/ 5)

8- «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَاتَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون . (الروم/ 30)

ج ج

معاني المفردات:

إنَّ كلمة «الهمها» مأخوذة من مادة «الإلهام» أي- كما يصرح به كبار اهل اللغة- الشي ء الذي يقع في قلب الإنسان، ويقول الراغب في مفرداته: «الإِلهام: إلقاء الشي ء في الروع ويختص ذلك بما كان من جهة اللَّه وجهة الملأ الأعلى ، والروع يعني القلب، أمّا الرَّوْع فيعني الخوف والانبهار.

ثم استشهد بالآية «فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا» كدليل على ما قاله.

وقد جاء في لسان العرب: أنّها من مادة (لَهْم) وتعني البلع، والالهام يعني التلقين الإلهي، وهو نوع من أنواع الوحي (الوحي بمعناه العام).

ومع الالتفات إلى أصل هذه الكلمة يمكن العثور على سبب الاطلاق، وكأن الروح تفتح فم الإنسان وتلقي فيه حقيقة بواسطة التعليم الإلهي فيمضغها فمه.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 150

«الفطرة»: جاءت من مادة فَطْر، ويعتقد البعض أنّها في الأصل تعني «البَقْر» وهو الشقّ «1»، بينما يعتقد البعض الآخر أنّها تعني الشق طولًا، ثم استعملت بمعنى الخلق، وكأنّ ستار العدم يُبْقر ويُمزّق فتخرج منه الموجودات الحية، كما يقال للعمل المنافي للصوم كتناول الطعام (إفطار)، فيقال: إنّ ذلك بسبب بِقْر شي ء ممتد ومتصل.

ويقال للنبات الذي يفطر الأرض

ويبقرها «فُطر» لأنّه يبقر الأرض ويخرج منها، وقد يطلق على حلب الثدي بالأصابع «فَطْر».

كما أنّ العجين إذا اختمر وصُيِّرَ خبزاً اطلق عليه «فَطْر» «2».

وعلى كل حال، فإنّ المراد من هذه المفردة في الآيات هو الخلقة الإلهيّة الاولى والهداية التكوينية نحو حقائق مودعة في روحِ الإنسان وهو مجبول عليها.

وأمّا كلمة «النفس»- وكما أشرنا سابقاً- فتعني «الروح» وقد يطلق على ذات الشي ء «نفس الشي» كما جاء ذلك في القرآن الكريم (ويحذّركم اللَّه نفسه) كما قد جاءت هذه المفردة بمعنى «الدم» و «العين» و «الشخص» «3».

كما أنّها قد تطلق اطلاقاً خاصاً على «النفس الامارة» إلّاأنّها جاءت في الآيات هنا بمعنى «الوجدان» الذي يشكل قسماً من روح الإنسان.

وكلمة «صِبْغَة» مشتقة من مادة «صَبَغَ» أي طلى لوناً، ويطلق على نتيجة العمل «صبغة»، و «صِبْغ» يعني الطعام الذي يؤكل مع الخبز بحيث يكون الخبز كالصبغة لذلك الطعام، وادعى البعض أنّه يعني زيت الزيتون الذي يغمس فيه الخبز ويؤكل.

ويقول الراغب: إنّ «الصبغة» المذكورة في الآية إشارة إلى العقل الذي جُبِلَ عليه الإنسان وميّزه عن الدواب، وهو كالفطرة «4».

______________________________

(1). لسان العرب.

(2). كتاب العين، ولسان العرب، ومفردات الراغب.

(3). مجمع البحرين الطريحي، مادة (نفس)، ومفردات الراغب.

(4). مفردات الراغب، مادة (صبغ).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 151

إنّ التعبير بالصبغة، كما يقول عدد من أئمة اللغة- قد يكون بسبب أنَّ «النصارى يغسلون الوليد بعد اليوم السابع بماء ممزوج بمادة صفراء اللون (غسل التعميد) معتقدين أنّ هذا الصبغ يطهره وينزهه، والقرآن يصرح لهم: إنّ صبغة الإسلام والتوحيد أحسن من هذه الصبغة وأشرف.

وعلى هذا، فالتعبير بالصبغة يتناسب كثيراً مع الفطرة والخلقة الاولى خاصة وأنّ بعض الروايات فسرت الصبغة ب «الإسلام والولاية» «1».

جمع الآيات وتفسيرها

في الآية الاولى بعد أن أقسم

اللَّه بالنفس وبالذي سوّاها وما فيها من قابليات، أشار إلى المصدر المُلْهِم للمعرفة وهو «الوجدان الأخلاقي»، وقال: إنّ اللَّه ألهم الإنسان المعرفة في مجال التقوى والفجور.

وقد جاء في آية اخرى ما يماثل مفاد هذه الآية، فبعد إشارته إلى خلق الإنسان قال:

وهديناه النجدين.

وينبغي الالتفات هنا إلى أن «نجد»- في الأصل- المكان المرتفع ويقابله «تَهَامة» أي الأرض المنخفضة، إلّاأنّ النجد هنا- بقرينة ما قبل وما بعد الآية، وبقرينة بعض الروايات التي فسرت النجد- كناية عن الخير والشر وعوامل السعادة والشقاء «2».

كما أنّ الآية: «إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرَاً وإِمَّا كَفُوراً». (الإنسان/ 3)

قد تشير إلى نفس المعنى، أو على الأقل تندرج «الهداية الفطرية» في المفهوم العام للهداية التي جاءت في هذه الآية.

ج ج

______________________________

(1). تفسير البرهان، ج 1، ص 167- 158.

(2). تفسير القرطبي، ج 10، ص 7155؛ تفسير مجمع البيان، ج 10، ص 494.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 152

والآية الثانية ناظرة إلى تحطيم الاصنام من قبل بطل التوحيد ابراهيم الخليل عليه السلام:

ومحاكمة عبدة الأصنام له في بابل، فعندما سُئِلَ: «أَأَنْتَ فَعلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْراهِيمُ ؟ (الانبياء/ 62)

اجابهم عليه السلام: «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُم هَذَا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونْ . (الانبياء/ 63)

ثم قالت الآية: «فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ أي ظالمون لأنفسهم ولمجتمعهم وربّهم وخالقهم الذي يغدق عليهم النعم.

يعتقد بعض المفسرين: أنّ عبارة: «فَرَجَعُوا الَى انْفُسِهِمْ تعني لوم احدهم الآخر، إلّاأنّ هذا خلاف ظاهر الآية، فالتفسير الأول أصح.

نعم، إنّه الضمير الذي يجعل عبدة الأصنام المغرورين يلومون أنفسهم ويوبّخونها.

إنّ التعبير ب «النَّفْس اللَّوّامَة» في الآية الشريفة: «وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ».

(القيامة/ 2) خاصة وأنّ اللَّه قرنها بيوم القيامة، إشارة واضحة إلى هذه المحكمة الباطنية والوجدان الفطري.

والآية الثالثة تشير إلى أمر

المشركين، حيث يعرضون عن اتباع آيات اللَّه عندما يُدعون إليها ويصرون على اتباع ما كان عليه آباؤهم، فيقول اللَّه في هذا المجال: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّموَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ، وبالرغم من ذلك لم يخضعوا للَّهِ تعالى بل لأصنامهم التي صنعوها بأيديهم لجهلهم: «الْحَمْدُ للَّهِ بَلْ اكْثَرُهُمْ لَايَعْلَمُونَ . (لقمان/ 25)

وجوابهم على هذا السؤال عن خلق السموات والأرض، يمكن أن يكون نابعاً عن «الفطرة»، ويوضّح حقيقة أنّ الأنوار الإلهيّة متأصّلة في الإنسان منذ تكوينه فطرياً ولكن الناس غافلون عن هذا الحكم الفطري، فيذهبون عنهُ شططاً.

ج ج

وتشير الآية الرابعة إلى نفس المفاد الذي جاء في الآية الثالثة، فقد وضّحت التوحيد الفطري الذي يتجلى في باطن الإنسان عندما يمرّ بالأزمات والشدائد، ومثال ذلك أنّ الناس

نفحات القرآن، ج 1، ص: 153

عند ركوبهم السفينة ومواجهتهم الأمواج المتلاطمة والزوابع والعواصف يذكرون اللَّه، لأنّهم لا يجدون أحداً يستطيع انقاذهم آنذاك من الشدائد غير اللَّه.

فعندما تُرفع ستائر التقاليد الخرافية والأوهام والتعاليم الخاطئة وتتجلى فطرة البحث عن اللَّه، يذكرونه ويدعونه بإخلاص كامل.

وما أن يهدأ البحر أو يصلوا إلى الساحل، حتى تساورهم الأفكار الملوثة بالشرك مرّة اخرى وتستعيد الأصنام وجودها في قلوبهم وتسدل ستاراً على فطرتهم مرّة ثانية؟

ج ج

والآية الخامسة، بعد ما عَدَّتْ التوحيد دين وملة إبراهيم وانبياء عظام آخرين كإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وعيسى عليهم السلام قالت: «صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ .

إنَّ النصارى الذين يعتقدون بالتثليث، ويغسلون أولادهم بغسل التعميد، ويضيفون- احياناً- مادة صفراء إلى الماء الذي يُغسل به، ويقرنون عملهم هذا باسم «الأب» و «الابن» و «روح القدس» يعتبرون هذا العمل مطهراً لهم من الذنوب التي ورثوها من آدم عليه السلام «1».

إنَّ القرآن أبطل هذه الأفكار

جميعها وصرح: إنّ صبغة اللَّه أحسن من هذه الصِبَغ الخرافية، فسلموا لهذه الصبغة لتطهر أرواحكم من كل شرك وإثم وعبادة للأصنام.

وقد جاء في الروايات- كما قلنا سابقاً- أنّ المراد من الصبغة هو الإسلام والولاية «2»، وهذا تأكيد على وجود إلهامات فطرية في ذات الإنسان.

ج ج

______________________________

(1). لقد جاء في قاموس الكتاب المقدس: أنّ غسل التعميد أحد القواعد المقدّسة التي كانت معروفة قبل ظهور المسيح عليه السلام، وهو من فرائض الكنيسة، ويستعملون فيه الماء ويثلثون عليه، ويعتبرونه مطهراً من النجاسات ويعتقد الكثير من المسيحيين أنّ الغسل هذا وجب على أولاد المؤمنين (القاموس، ص 257- 258).

(2). تفسير الميزان، ج 1، ص 316؛ تفسير الدر المنثور، ج 1، ص 141.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 154

والآية السادسة والسابعة تحدثنا بعد الإشارة إلى خلق الإنسان عن تعليمه البيان وما لم يعلم.

«الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . (العلق/ 4)

وعلى هذا فهو معلم البيان كما هو معلم بالقلم، وهو معلم الإنسان ما لم يعلم، وهذه التعاليم قد تكون تلميحاً إلى التعاليم الفطرية المودعة في باطن الإنسان بشكل معلومات ملخصة وأولية، وقد تكون تلميحاً للوسائل والأسباب والمقدمات التي جعلها اللَّه في الإنسان، والتي تمكنه من اختراع اللغة والخط واكتشاف واقعيات الكون الاخرى.

وعلى المعنى الأول تكون الآيات شاهداً على بحثنا.

ج ج

أمّا الآية الثامنة في البحث فقد تحدثت عن دين الفطرة وأمرت الرسول بأن: «أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حِنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَاتَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه .

الجميل هنا أن القرآن لم يذكر كون معرفة اللَّه فطرية فحسب، بل إنّ الدين بجميع أبعاده وجوانبه فطري.

والأمر كذلك بالضرورة، وذلك لتنسيق الموجود بين جهاز «التكوين» وجهاز «التشريع» أي أنّ ما جاء مفصلًا في عالم التشريع، جاء بصورة مجملة في عالم التكوين، وعندما يتفق

نداء الفطرة مع نداء الأنبياء والشريعة، فإنّ هذا الاتفاق يجعل الإنسان في طريق الهدى

وسنخوض تفصيلًا في هذا الموضوع عند بحثنا في التوحيد الفطري في المجلد الثاني إن شاء اللَّه.

النتيجة:

طبقاً لما قرأناه، فإنّ القرآن المجيد يعتبر «الفطرة» أو «الوجدان» مصدراً غنياً للمعرفة، وقد دعا الجميع- بتعابير مختلفة- للالتفات إلى هذا المصدر لأهميّته البالغة.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 155

توضيحات

1- فروع الفطرة والوجدان

إنَّ المعلومات الفطرية والوجدانية لها فروع مختلفة وأهمّها الفروع الأربعة التالية، والملفت للنظر أنّ كل آية من الآيات التي جاءت في أوّل البحث أشارت إلى فرعٍ من هذه الفروع، وهي:

1- إدراك الحسن والقبح- أي الأخلاق التي يطلق عليها- احياناً- «الوجدان الأخلاقي»، وتعني أن الإنسان ومن دون الحاجة إلى استاذ أو معلم يعتبر كثيراً من الصفات حسنةً مثل «الاحسان» و «العدل» و «الشجاعة» و «الايثار» و «العفو» و «الصدق» و «الأمانة» وغير ذلك من الصفات.

وفي مقابل هذه الصفات، صفات قبيحة مثل «الظلم والجور» و «البخل» و «الحسد» و «الضغينة» و «الكذب» و «الخيانة» وأمثالها.

والآية: «فَالْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا» تشير إلى هذا النوع من التعاليم الفطرية.

2- إدراك البديهيات العقلية: التي تعتبر أُسس الاستدلالات النظرية، ولا يمكن اقامة البرهان في أي موضوع من دون الاستناد اليها.

وتوضيح ذلك: أنّ في الرياضيات مجموعة من القضايا البديهية تنتهي إليها جميع الاستدلالات الرياضية وهي وجدانية، مثل (الكل أكبر من الجزء)، وإذا تساوى أحد شيئين متساويين مع شي ء آخر، تساوى كلٌّ منهما مع ذلك الشي ء، أو إذا أنقصنا مقدارين متساويين من شيئين متساويين أو اضفنا ذلك المقدار إلى كلٍّ منهما فالنتيجة تساويهما كذلك.

وكذلك الأمر بالنسبة للاستدلالات العقلية الفلسفية، فلا يمكن الاستدلال من دون الاستناد إلى قضية استحالة اجتماع الضدين أو النقيضين وغير ذلك.

ويستخدم القرآن- احياناً- هذه الاصول المسلّم بها لاثبات قضايا مهمة، كما في قوله:

«قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَايَعْلَمُونَ . (الزمر/ 9)

ويقول في آية اخرى: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ امْ هَلْ تَستَوى الظُّلُمَاتُ

وَالنُّورُ». (الرعد/ 16)

نفحات القرآن، ج 1، ص: 156

3- الفطرة المذهبية- أنّ الإنسان يتعلم بعض القضايا والمسائل العقائدية من دون الاستعانة بمعلم أو استاذ كمسألة معرفة اللَّه والمعاد وقضايا عقائدية اخرى يأتي شرحها في المجلد الثاني إن شاء اللَّه.

والآية: «فَاذَا رَكِبُوا فِى الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخلِصيِنَ لَهُ الدِّينَ تشير إلى هذا القسم من المعرفة الفطرية.

ولهذا السبب نرى الإيمان بمبدأ مقدس موجوداً على مرِّ العصور، كما أنّ لدينا قرائن تثبت تجذّر هذا الإيمان عند الإنسان البدائي كذلك ولا يمكن اتساع هذا المعتقد واستمراره عند البشر عبر مرّ العصور إلّاإذا كان متأصلًا في فطرة الإنسان.

4- محكمة الوجدان: توجد في باطن الإنسان محكمة عجيبة يمكن تسميتها «القيامة الصغرى ، تحاكم الإنسان على أعماله، فتشجعه على الحسنات، وتوبخه على السيئات، ونجد هذه التشجيعات والعقوبات في باطننا جميعاً (بالطبع مع وجود اختلاف)، وهي نفسها التي نقول عنها تارة: (إنّ ضميرنا راضٍ)، وتارة: (إنّ ضميرنا يؤنبنا) إلى حدٍ حيث يسلب منا النوم، بل قد يؤدّي- احياناً إلى نتائج مأساوية مثل الانتحار والجنون والابتلاء بأمراض نفسية، والآية: «فَرَجَعُوا الَى انْفُسِهِمْ تشير إلى هذا القسم.

2- هل توجد معرفة فطرية؟

بالرغم من أنّ الجميع يشعرون بشكل عام بوجود هذا المصدر في ذواتهم، أي يشعرون بوجود مجموعة من الخطابات والالهامات، أو بتعبير آخر وجود إدراكات لا تحتاج معلماً أو استاذاً، إلّاأنّ بعضاً من الفلاسفة شكك في هذا المصدر، وعلى العموم توجد ثلاث نظريات في هذا المجال:

أ) نظرية الذين يعتقدون أن كل ما لدى الإنسان من معلومات موجود في باطنه، وما يتعلمه في الدنيا، يتذكره في الحقيقة، لا أنّه يتعلمه من جديد! هذا ما نقل عن افلاطون واتباعه «1».

______________________________

(1). يقول افلاطون: إنّ الروح قبل حلولها في البدن ودخولها في العالم

المجازي كانت في عالم المعقولات والمجردات و «المُثل»، أي أنّها أدركت الحقائق ونسيتها بمجرّد دخولها في عالم الكون والفساد، إلّاأنّها لم تنمحِ عنها بالكامل، فالإنسان كالظل والشبح فما هو في «المُثل» يتذكره بمجرّد الالتفات إليه، فكسب العلم والمعرفة تذكر في الحقيقة، وإذا كان الإنسان جاهلًا منذ البدء فلا يمكنه تحصيل العلم (مسير الحكمة في اروبا ج 1، ص 23- نظريات افلاطون).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 157

ب) نظرية أولئك الذين يدّعون أنّ المعرفة بجميع أقسامها عند الإنسان فطرية، بالرغم من اذعانهم لِقابلية الإنسان على إدراك القضايا المختلفة، ويتصورون أنّ إدراكهُ الفطري انعكاس لتجاربه وحاجاته والضرورات الاجتماعية.

اعتبر «فرويد» عالم النفس المعروف «الوجدان الأخلاقي» مجموعة من النواهي الاجتماعية والميول المكبتوتة في ضمير الإنسان، يقول: إنّ «الوجدان الأخلاقي» لا يمثل سلوكاً ذاتياً وعميقاً لروح الإنسان، بل إنّه رؤية باطنية بسيطة للنواهي الاجتماعية، ولا يوجد في تاريخ المجتمع ولا تاريخ الفرد تصورات بدائية عن حسن الأشياء وقبحها، وقد تولدت هذه التصورات من البيئة الاجتماعية وتشعبت عنها «1».

وقد فسر أتباع المذهب المادي (الديالكتيك) الإدراكات الفطرية على أساس مقولتهم المعروفة «كل شي ء وليد الظروف والاوضاع الاقتصادية»، فانكروا وجودها.

ج) نظرية أولئك الذين يرون أن قسماً من معلوماتنا فطرية والقسم الآخر مُكتسب، والمعلومات المكتسبة تنتهي إلى تلك المعلومات الفطرية وهي أساسها.

وقد أثبتت الأدلة المنطقية العقلية، والأدلة النقلية من الآيات والروايات هذه النظرية وذلك للاسباب الآتية:

أولًا: أننا نعتقد بوجود قضايا بديهية مُسَلّمٌ بها في الرياضيات وبدون تلك البديهيات لا يمكن اثبات أيّة قضية رياضية، كذلك الأمر بالنسبة للقضايا الاستدلالية الاخرى، فلابد من اعتمادها على قضايا بديهية مسلّم بها تكون الأساس لكلِّ استدلال.

وبعبارة اخرى: لو أنكرنا القضايا الفطرية بالكامل لأَنكرنا جميع معارفنا، لأنّ جميع القضايا العقلية ستكون

مرفوضة، وسنسقط في النهاية في وأدّي السفسطة.

______________________________

(1). أفكار فرويد، ص 105؛ ومجموعة ماذا أعلم- للأمراض اخر الروحية-، ص 64 (بالفارسية).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 158

وإذا أثبتنا- مثلًا- بالحس والتجربة أو بدليل عقلي وجود أمر ما، فإذا كنّا غير واثقين بقضية «استحالة اجتماع النقيضين» التي تعتبر من القضايا البديهية جدّاً، فعندئذٍ يمكننا التشكيك بالأمر، والقول بإمكانية عدم وجود الأمر الذي أثبتنا وجوده!

وإذا أردنا إثبات هذه الاصول البديهية بالتجربة والاستدلال فسينتهي الأمر بنا إلى الدور والتسلسل ولا تخفى سلبيات هذا الأمر على أحد.

ثانياً: فضلًا عمّا سبق، فكما نعترض على السفسطائيين (الذين ينكرون كل شي ء) وكذا المثاليين (الذين ينكرون الحقائق الخارجية، ويعتقدون بالامور الذهنية فقط) وبالاستناد إلى الوجدان نقول: إنّ الوجدان يشهد ببطلان مثل هذه العقائد، لأننا ندرك أنفسنا والعالم الخارجي الذي يحيط بنا بوضوح، فكذلك الأمر هنا، لأنّ هذه الضرورة الوجدانية دليل على وجود كثير من الإدراكات الباطنية.

وكما أننا نحس بحاجات جسمية وروحية كثيرة (الحاجات الجسمية مثل الأكل والشرب والنوم، والروحية مثل الميل إلى العلم والاحسان والجمال والعبادة والقداسة) ويقول بعض علماء النفس: (إنّ هذه المقتضيات تشكل الأبعاد الأربعة لروح الإنسان).

فهذا الوجدان ذاته يصرح لنا بحسن الاحسان والعدالة وقبح الظلم والاعتداء، وفي هذه الإدراكات لا نحتاج إلى مصدر اجتماعي أو اقتصادي أو غير ذلك بل يكفينا الوجدان.

إنَّ حجة أمثال «فرويد» و «ماركس» واضحة، حيث أنّهم يعتقدون بأصل واحد وهو رجوع كل قضية اجتماعية وفكرية إلى الجنس أو الاقتصاد، ويصرون على توجيه كل شي ء على ضوء هذا الأصل.

ثالثاً: إنّ الموضوع واضح من جهة نظر توحيدية، لأنا إذا سلّمنا أنّ الإنسان خُلِقَ للتكامل على أساس سنة إلهية، فلا ينبغي الشك في أنّ وسائل ودوافع مثل هذا التكامل يجب أن تكون

مهيئة في ذاته، وموجودة، وأنّ ما جاء به الأنبياء وما ورد في الكتب

نفحات القرآن، ج 1، ص: 159

السماوية متناسب وهيئة الإنسان التكوينية.

وعليه، فحاكم التكوين والخلقة متناسب وفي تناسق كامل مع عالَم التشريع.

أو بتعبير آخر، فإنّ خلاصة هذه التعليمات مودعة في ذات الإنسان وأنّ ما جاء في الشرائع السماوية هو شرح مفصل لهذه الخلاصة من التعليمات.

ولهذا، فلا يمكن التشكيك في التعاليم الفطرية التي يؤيدها العقل والرؤية الكونية التوحيدية.

سؤال:

لقد صرّح القرآن بقوله عز من قائل: «وَاللَّهُ اخْرَجَكُمْ مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَاتَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْابْصَارَ والْافْئِدَةَ». (النحل/ 78)

ألا يستفاد من هذه الآية أن لا وجود للمعلومات الفطرية أبداً؟

الجواب:

أولًا: إنّ الإنسان في ساعات ولادته لا يعلم شيئاً قطعاً، وحتى المعلومات الفطرية ليست فعالة، وعندما يعرف نفسه ويصبح مميزاً يتحسس المعلومات النظرية ويدركها بلا معلم أو استاذ أو حسٍ أو تجربة، وإلّا فكيف يمكن القول بأنّ الإنسان يعلم كل شي ء حتى بوجوده الذاتي- بالتجربة وأمثالها «1».

ثانياً: ألَمْ نقل بأنّ القرآن يفسر بعضه بعضاً؟

حيث إنّ آياتٍ مثل: «فَالْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا» و «فِطْرَتَ اللَّه الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها»

______________________________

(1). نقلت عبارة معروفة عن (ديكارت) قال فيها: «كنتُ شاكاً حتى في نفسي، ثم رأيت أني افكر، فأدركتُ أني موجود» إنّها عبارة مليئة بالأخطاء، لأنّ الذي يقول: أنا أُفكر فانّه يعترف بال (أنا) قبل اعترافه بالتفكير، لا أنّه يعترف بالتفكير قبل الأنا.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 160

التي جاءت في أول البحث تفسر الآية: «وَاللَّهُ اخْرَجَكُم مِنْ بُطُونِ امَّهَاتِكُم لَاتَعْلَمُونَ شَيْئاً»، فتكون المعلومات الفطرية مستثناة من هذه الآية.

سؤال آخر:

وقد يطرح هنا سؤال آخر عكس السؤال الأول وهو: أنّ القرآن الكريم في الكثير من الآيات أطلق مفردة «التذكير» على علوم الإنسان، مثل: «إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيةً

لِقوْمٍ يَذَّكَّرُونَ». (النحل/ 13)

ويقول في آية اخرى: «وَمَا يَذَّكَّرُ الّا اولُوا الْأَلْبَابِ . (آل عمران/ 7)

وفي اخرى أيضاً: «وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلّنَاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ . (البقرة/ 221)

ألَمْ يكن المراد من هذه الآيات وهو نفس ما ذهب إليه افلاطون، أي أنّ العلوم عبارة عن تذكير لما هو موجود في سريرة الإنسان، وحاصل عنده منذ القدم؟

الجواب:

إنّ «التذكير» من مادة «ذكر» ومعناه الأولي- كما يقول أئمّة اللغة- هو الحفظ، وكما يقول الراغب في مفرداته: الذكر قد يطلق على حالة نفسية تُعين الإنسان على حفظ العلوم والمعارف، وقد يقال لحضور الشي ء في القلب، أو البيان، وما جاء في لسان العرب قريب لما جاء في المفردات، حيث قال: الذكر، يعني الحفظ كما يعني الموضوع الذي جرى على الألسن.

وعلى هذا، فالذكر والتذكر لا يعني حضور الشي ء في القلب بعد النسيان أو استعادة الذكرى فقط، بل يشمل جميع المعلومات.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 161

3- «الفطرة» و «الوجدان» في الروايات الإسلامية

لقد أُشير في الروايات الإسلامية إلى هذا المصدر كثيراً ونذكر هنا نماذج من تلك الروايات:

1- قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في حديث معروف له: «كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه وينصّرانه» «1».

يدل هذا الحديث بوضوح على أن التوحيد، بل حتى الاصول الأساسية للإسلام مودعة في فطرة الإنسان «2».

2- وقد جاء في حديث أنّ شخصاً سأل الإمام الصادق عليه السلام عن الآية: «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا»، فأجاب الإمام عليه السلام: «التوحيد» «3».

3- وفي حديث آخر أجاب عن نفس السؤال بهذا الجواب: «هي الإسلام» «4».

4- وقد قال الإمام عليه السلام في حديث آخر في هذا المجال: «فَطَرَهُمْ على المعرفة» «5».

5- وقد جاءت روايات عديدة عن الإمام الصادق عليه السلام فسرت الآية: «صِبْغَةَ اللَّه وَمَنْ

أَحْسَنُ مِنَ اللَّه صِبْغَةً» بالاسلام «6».

6- وقد جاء في حديث قدسي: «خلقتُ عبادي حُنَفَاء»، وقال صاحب مجمع البحرين بعد ذكره لهذا الحديث يعني مؤهلين لقبول الحمد، ثم اعتبر معنى الحديث نفس معنى الحديث المعروف «كل مولود يولد على الفطرة».

وهناك ملاحظة جديرة بالذكر وهي: إنّ الروايات الإسلامية عبرت عن الأعمال الحسنة

______________________________

(1) بحار الأنوار، ج 3، ص 281.

(2) يأتي شرح هذا الحديث مفصلًا في، المجلد الثاني من هذا التفسير.

(3) اصول الكافي، ج 2، ص 12، باب فطرة الخلق على التوحيد، ح 1.

(4) المصدر السابق، ح 2.

(5) المصدر السابق، ح 4، والروايات التي جاءت في هذا المجال كثيرة ويمكن الرجوع إلى المصادر التالية: بحار الأنوار، ج 3 باب 11 من أبواب التوحيد.

(6) بحار الأنوار، ج 3، ص 280.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 162

بالمعروف وعن الأعمال السيئة والقبيحة بالمنكر وتطلق هذه المفردة على الأمر المجهول، فقد يُثْبِتُ هذا الاطلاق أنّ الأعمال الحسنة سلوكات تعرفها الروح وتستأنس بها وتسكن إليها أمّا الأعمال القبيحة والسيئة فهي ممارسات تتنفر منها الروح، ومجهولة عندها.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 163

5- الوحي السماوي

تمهيد:

توجد آيات كثيرة في القرآن الكريم حول الوحي، بل إنّ بحثه طرح في جميع الكتب السماوية، وفي الحقيقة فأَن أتباع الأديان السماوية يعتبرون «الوحي» أهم مصدرٍ للمعرفة، لأنّه ينهل من العلم الإِلهي الواسع، في حين أنّ المصادر الاخرى تتعلق بالإنسان نفسه، وهي محدودة جداً بالنسبة لهذا المصدر.

إنّ الرؤية الكونية الإلهيّة تقول: إنّ اللَّه عزّ وجلّ (ولأجل هداية البشر (أي بيان الطريق له) أوحى إلى رجال الوحي (أي الرسل العظام) بكل ما يحتاجه الناس في سبيل اجتياز الطريق إلى التكامل والسعادة.

وفي الحقيقة، إنّ العقل إذا كان سراجاً منيراً قويا فإنّ الفطرة والوجدان والتجربة بمنزلة سراجٍ من نوع

آخر، و «الوحي» بمنزلة الشمس الساطعة، الأكبر والأعظم من السراجين المذكورين.

وعلى هذا فيُعدُّ الوحي- من وجهة نظر الإلهيين- أهم وأغنى مصدر للمعرفة.

والآن نقرأ خاشعين الآيات الآتية.

1- «وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ انْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ الَّا وَحْياً اوْ مِنْ وَراءِ حِجَابٍ اوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِىَ بِاذْنِهِ مَا يَشَاءُ انَّهُ عَلِىٌّ حَكِيمٌ . (الشورى 51)

2- «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى انْ هُوَ الَّا وَحْىٌ يُوحَى . (النجم/ 3- 4)

3- «قُلْ انَّمَا انَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى الَىَ . (فصلت/ 6)

نفحات القرآن، ج 1، ص: 164

4- «ذَلِكَ مِمَّا اوْحَى الَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ...». (الاسراء/ 39)

5- «قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَانَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِاذْنِ اللّهِ ...». (البقرة/ 97)

6- «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَىْ ءٍ». (النحل/ 89)

7- «وَكَذَلِكَ اوْحَيْنَا الَيْكَ رُوحاً مِّنْ امْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِى مَا الكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِى بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِى الَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ .

(الشورى 52)

8- «وَمَا ارْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ الَّا رِجَالًا نُّوحِى الَيهِمْ . (النحل/ 43)

9- «لَقَدْ ارْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّناتِ وَانْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ...». (الحديد/ 25)

10- «انَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ . (الحجر/ 9)

11- «قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ انْ كُنْتُمْ تَعقِلُونَ . (آل عمران/ 118)

12- «وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً». (النساء/ 164)

شرح المفردات:

1- «الوحى» استعمل هذا الاصطلاح في القرآن والروايات والأدب العربي بمعانٍ كثيرة، إلّا أنّ المعنى الأولي للوحي- كما يقول الراغب في مفرداته- هو «الإشارة السريعة»، ولذا يقال للأعمال السريعة «وحي»، كما يقال «وحي» للحديث الرمزي المتضمن كتابات، والذي يُتبادل بسرعة، والذي قد يحصل بالكتابة أو الإشارة، ثم اطلقت هذه المفردة على المعارف الإلهيّة التي تقذف في قلوب الأنبياء والأولياء.

وللوحي أشكال متعددة،

فتارة يكون بمشاهدة ملك من الملائكة واستماع حديثه، كما هو الحال بالنسبة لجبرئيل عليه السلام حيث كان اللَّه يُوحي إلى الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله بواسطته.

وتارة باستماع صوته فقط دون مشاهدته كما كان يوحى إلى موسى عليه السلام.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 165

وتارة يُوحى بالألقاء بالقلب فقط.

وتارة يوحي اللَّه بالالهام فقط كما هو الحال بالنسبة لأُم موسى عليه السلام.

وتارة بالمنام (كالرؤيا الصادقة) «1».

ذكر الخليل بن أحمد في كتاب العين: إنّ أصل معنى «الوحي» هو «الكتابة»، وقال ابن منظور في لسان العرب: إنّ الوحي يعني «الإشارة» و «الكتابة» و «والرسالة» و «الالهام» و «والحديث الخفي» و «كل خطاب يُلقى على شخص آخر».

ومن مجموع ما تقدم نستشف أنّ «الوحي» في الأصل يعني الإشارة السريعة والحديث الرمزي والخطاب الخفي المتبادل بالرسائل أو الإشارات، وبما أنّ التعاليم الإلهيّة أوحيت إلى الأنبياء بشكل غامض، أطلقت مفردة «الوحي» عليها، لأنّ الألفاظ التي نستعملها وضعت لمستلزمات حياتنا اليومية، فإذا أردنا أن نستعملها في الامور الخارجة عن مستلزمات حياتنا اليومية، فينبغي توسيع معانيها، أو تجريدها أو استعمالها في مناسبات خاصة.

يقول الشيخ المفيد قدس سره في «شرح الاعتقادات»: إنّ أصل الوحي يعني الكلام الخفي، وقد أطلق على كل شي ء القصد منه تفهيم المخاطب بشكل يخفى عن الآخرين، وإذا نسب الوحي إلى اللَّه عزّ وجلّ فالمراد به التعاليم والأوامر الإلهيّة التي يُخاطب بها الأنبياء والرسل «2».

2- أمّا «الانزال» و «التنزيل» فاشتقتا من مادة «نزول» وتعني- في الأصل- الهبوط والمجي ء من المكان العالي إلى المكان الداني، وفرقهما عن النزول أنّهما مصدران لفعلين متعديين في حين أنّ النزول مصدر لفعل لازم.

وقد يكتسب الانزال معنىً حسياً مثل ما جاء في هذه الآية: «وَانْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً».

(الفرقان/ 48)

______________________________

(1). مفردات الراغب مادة (وحي).

(2). سفينة البحار، ج 2، ص 638.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 166

وقد يكون بمعنى موهبة تُؤهب من صاحب مقامٍ عالٍ إلى صاحب مقامٍ دانٍ: «انْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ ازْوَاجٍ . (الزمر/ 6)

وقد يكون الانزال بمعنى إِلقاء المعارف الإلهيّة من قِبَلِ اللَّه، وقد استعمل هذا المعنى في القرآن كثيراً، وهناك بحث لأئمة اللغة في كون الانزال والتنزيل بمعنى واحد، أو أنّ لكلٍ معنى يختص به، فبعض يقول: إنّه لا اختلاف في المعنى بينهما غير أنّ التنزيل يفيد الكثرة فقط «1»، بينما يعتقد بعض آخر: أنّ «التنزيل» يفيد التدريج، و «الانزال» يفيد التدريج والدفعي، واعتمد الراغب في تفريقه هذا على الآية:

«وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَولَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَاذَا انْزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا القِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنْظُرُونَ الَيْكَ نَظرَ الْمَغْشِىِّ عَلَيهِ مِنَ الْمَوتِ . (محمد/ 20)

فالآية تحدثت أولًا عن طلب المؤمنين لنزول آيات الجهاد تدريجياً، ثم أشارت إلى نزول حكم الجهاد بصورة قاطعة وجامعة، وعندها ينظر المنافقون إلى الرسول نظر المغشي عليه من الموت.

3- إنّ «تبيين» اشتقت من مادة «بَينْ» أي المسافة الفاصلة بين الشيئين، ثم جاءت بمعنى «الايضاح» و «الفراق»، وذلك لأنّ الفصل بين الشيئين يستدعي هذين الأمرين، ثم استعملت بعد ذلك لكلٍ من المعنيين بصورة مستقلة، فتارة تعني «الفراق» واخرى «الايضاح».

وقد جاء في «صحاح اللغة» أن «بين» تأتي بمعنيين متضادين هما، الفراق والآخر الاتصال، ويظهر أنّ معناهما في الأصل- كما جاء في غير صحاح اللغة- هو الفراق، إلّاأنّ الفراق قد يؤدّي إلى الاتصال بشي ء آخر فاستعمالها في الاتصال لأنّه يلازم الفراق.

وعلى أيّة حال فإنّ مفردة (تبيين» جاءت في كثير من آيات القرآن بمعنى الظهور والانكشاف والوضوح، ولهذا يقال

للدليل الواضح والمنكشف «بيّنة» سواء كان عقلياً أو محسوساً، فيطلق «البينه» على الشاهدين العادلين (اللذين يعتبران بينة محسوسة)، كما

______________________________

(1). وهذا رأي صاحب لسان العرب، حيث نقله عن ابي الحسن.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 167

تطلق «البينة» على معاجز الأنبياء، و «البيان» يعني رفع ستار الأبهام عن شي ءٍ، سواء كان بالنطق أو بالكتابة أو بالإشارة.

4- «التكليم» و «تكَلُّم» من مادة «كلم»، وفي الأصل- كما يقول الراغب- يعني التأثير الذي يُرى أو يُسمع، فالذي يُرى كجُرح الآخرين، والذي يُسمع فهو الحديث الذي نسمعه من الآخرين.

يذكر الخليل بن أحمد في كتابه «العين»: أن أصل التكليم يعني «الجرح»، وعلى هذا فاطلاقه على النطق كان بسبب التأثير العميق الذي يتركه الحديث في قلوب المستمعين له، بل قد يكون تأثير الكلام أشد من تأثير السيف والخنجر، وكما يقول الشاعر العربي المعروف:

جراحات السنان لها التئامٌ ولا يلتامُ ما جرح اللسانُ

ويستفاد من بعض العبارات أنّ «التكليم» و «التكلم» لهما معنى واحد، وكلاهما بمعنى النطق والحديث، ولهذا عدت «متكلِّم» احدى صفات اللَّه، في حين إِذا أردنا التقيد بالآية:

«وَكَلَّمَ اللَّه مُوسى تَكْلِيما» ينبغي القول أن اللَّه «مُكلِّم».

ولا يستبعد احتمال استعمال مفردة «التكلّم» في موارد حيث يحدّث شخصٌ شخصاً آخرَ، إلّاأن «التكليم» مثل «المكالمة» تطلق على الحديث المتبادل بين طرفين، وكلام اللَّه مع موسى عليه السلام في جبل طور من هذا القبيل.

ومن هنا يطلق «علم الكلام» على علم العقائد، لأنّه يذكر أنّ أول بحث بُحث فيه بعد الإسلام هو كلام اللَّه (القرآن)، حيث كان البعض يعتقد أنّه أزلي، والبعض الآخر: أنّه حادث.

وقد أدّى الخلاف في هذه المسألة في القرون الاولى من عهد الإسلام إلى شجار ونزاعات شديدة، حدثت بين المسلمين آنذاك «1».

ونعلم الآن أنّ ذلك النزاع لم يكن

له أساس ولا نتيجة، لأنّه إِذا اريد من القرآن محتواه،

______________________________

(1). ذكر هذا الاحتمال في دائرة معارف القرن العشرين كأول احتمال في مجال التسمية هذه، دائرة معارف القرن العشرين، فريد وجدي، ج 8 مادة (كلم).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 168

فالمسلم أنّه كان مع علم اللَّه أزلياً، وإذا كان المراد منه ألفاظه وكتابته ونزوله بواسطة الوحي، فهذا حادث في زمن بعثة الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله بلا شك، وعلى أية حال، فالهدف من هذا الحديث كان بيان وجه تسمية «علم العقائد» ب «علم الكلام».

شرح الآيات وتفسيرها

الوحي شمس مشرقة:

لقد انعكس صدى الوحي في القرآن الكريم بشكل واسع.

حيث أشارت مئات الآيات إلى الوحي كمصدرٍ عظيم للعلم والمعرفة، وأشارت بعضها إليه بهذا العنوان «الوحي» وبعضها ب «التنزيل» و «الانزال» وبعضها ب «تبيين الآيات الإلهيّة» وبعضها ب «تكليم اللَّه للرسل»، وبمصطلحات اخرى.

وأفضل تعبير يُذكر في هذا المجال أن يقال: إذا كان العقل في المنظار القرآني بمثابة «مصباح» شديد الاضاءة لكونه مبيناً للحقائق، فإنّ الوحي «كالشمس» الساطعة التي تضي ء أرجاء المعمورة».

اشير في الآية الاولى إلى ثلاثة طرق من طرق اتصال الأنبياء باللَّه عزّ وجلّ، حيث قالت:

«وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ انْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ الَّا وَحْياً اوْ مِنْ وَراءِ حِجَابٍ او يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشاءُ انَّهُ عَلِىٌّ حَكِيمٌ فالطريق الأول هو الايحاء، والثاني هو التكلم من وراء الحجاب كما تكلم اللَّه مع موسى في جبل طور سيناء، والطريق الثالث هو إرسال رسول لابلاغ الخطاب الإلهي إلى النبي، كما كان يهبط جبرئيل عليه السلام على النبي صلى الله عليه و آله لإبلاغه الخطابات الإلهيّة.

وعلى هذا، فالالهام القلبي وايجاد الأمواج الصوتية وهبوط ملك مكلف بنقل الوحي، ثلاثة طرق لاتصال الأنبياء بعالم ما وراء الطبيعة.

والآية الثانية بعد

أن أقسمت بالنجم قالت: «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى انْ هُوَ الَّا وَحىٌ يُوحَى .

نفحات القرآن، ج 1، ص: 169

إنّ القسم (بالنجم إِذا هوى يعنى النجم في حالة الأفول قد يكون إشارة إلى غروب وافول نور الإيمان والهداية عن الوجود في عصر الجاهلية، الغروب الذي كان مقدمة لطلوع آخر، أي طلوع شمس الوحي على لسان الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله.

وعلى هذا الأساس، فالآية أدرجت كلام الرسول صلى الله عليه و آله تحت أصلٍ كليٍّ ناتج عن الوحي والإرتباط الغيبي.

ج ج

والآية الثالثة أمرت الرسول بأن يتخذ موقفاً تجاه طلبات بعض المشركين العجيبة وغير المألوفة، ويقول لهم: إِني لستُ ملكاً من ملائكة اللَّه ولا موجوداً أعلى من البشر ولا ابن اللَّه، ولا شريكه، «إنّمَا أنَا بَشَرٌ مِثْلُكُم يُوحَى إِلَىَ وهذا (الإيحاء) هو الذي يمثل الاختلاف بيني وبينكم.

وعلى هذا، فالرسول يمتاز عن بقية البشر بميزة خاصة وهي اختصاصه بمصدر المعرفة هذا وهو (الوحي).

ج ج

والآية الرابعة، بعد ما ذكرت ستة من أحكام الإسلام المهمّة (حرمة قتل الأولاد وحرمة الزنى وقتل النفس والتصرف في مال اليتيم ووجوب الوفاء بالعهد وايفاء الكيل) خاطبت الرسول صلى الله عليه و آله قائلة: «ذَلِكَ مِمَّا اوْحى الَيكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ».

وطبقاً لهذه الآية، فإنّ الأحكام الجزئية شأنها شأن اصول الدين والعقيدة توحى إِلى الرسول صلى الله عليه و آله.

ج ج

والآية الخامسة نزلت لتجيب على أولئك اليهود الذين قالوا: إنّ جبرئيل عدونا عندما سمعوا أنّه يأتي الرسول بتعاليم الإسلام، حيث أمرته بأن يقول لهم: «قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً

نفحات القرآن، ج 1، ص: 170

لِّجِبْرِيلَ فَانَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِاذْنِ اللّهِ .

والتعبير في هذه الآية يكشف عن أن جبرئيل عليه السلام كان يُنزل- أحياناً- آيات القرآن على قلب الرسول

مباشرة في حين أنّ بعض الروايات تشير إلى أنّ جبرئيل كان يأتي للرسول صلى الله عليه و آله على هيئة إنسان أحياناً ويقوم بابلاغه الخطاب الإلهي بهذا الطريق «1».

ج ج

والآية السادسة وضحت الحقيقة الآتية: إنّ القرآن الذي أنزلناه على الرسول فيه تبيانٌ لكلِّ شي ء وحاملًا للهداية والرحمة والبشارة إلى جميع المسلمين، وعليه فإنّ جميع هذه المعارف تصدر عن هذا المصدر العظيم أي الوحي.

بديهي أنّ المراد من «كل شي ء» هو جميع القضايا التي تتعلق بسعادة الإنسان، فتعلم أنّ اسس جميع هذه القضايا قد جاءت في القرآن (سواء المادية منها أو المعنوية) في صورة قوانين كلية.

ج ج

وقد صرحت الآية السابعة بأنّ القرآن روح نزلت على الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله من قِبَل اللَّه عزّ وجلّ، ولم يكن يدري ما الكتاب ولم يكن يدري ما الإيمان، وقد قيل للقرآن «روح» لأنّه يبعث الحياة في قلوب المجتمع البشري، وهذا حديثٌ يذهب إليه كثير من المفسرين «2».

والمراد ب: «ما كنت تدري ما الكتاب» هو أنّ الرسول لم يكن عارفاً بمحتوى الآيات قبل البعثة، وهناك شواهد تاريخية وروائية تكشف عن سبق معرفته باللَّه قبل البعثة.

______________________________

(1). أصرَّ الفخر الرازي على تأويل الآية بما يتناسب مع ما ذهبت إليه الروايات من أن جبرئيل عليه السلام كان يتمثل امام الرسول صلى الله عليه و آله في صورة إنسان، وبما أن القلب هو مركز حفظ الآيات عبر اللَّه بهذا التعبير «فَانَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ» (تفسير الكبير، ج 3، ص 196)، لكننا لا نرى ضرورة لتأويل الآية بالشكل الذي قاله الفخر الرازي، بل يمكن القول بأن اتصال جبرئيل عليه السلام بالرسول كان يتم بطريقين: جسماني وروحي.

(2). يقول الراغب: «سمي روحاً لكون القرآن سبباً للحياة الاخروية».

نفحات القرآن،

ج 1، ص: 171

وعلى أيّة حال إنّ هذا تأكيد آخر على قبول «الوحي» كأهم مصدر للمعرفة، لأنّ القرآن عُدَّ هنا «روحاً و «نوراً» و «هداية».

والآية الثامنة بعد ما تجاوزت نبوة الرسول صلى الله عليه و آله أشارت إلى الأنبياء من قبله وقالت:

«وَمَا ارْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ الَّا رِجَالًا نُّوحِى الَيهِمْ فَاسْئَلُوا اهْلَ الذِّكْرِ» فهم على ارتباط وعلم بمنبع المعرفة هذا.

ج ج

وتحدثت الآية التاسعة عن «البينات» ونزول الكتب السماوية وقوانين الحق والعدالة على الرسل، وقالت: إنّا أنزلنا الرسل وزودناهم بمعاجز من جهة، وبكتب وقوانين حقة من جهة اخرى لكي يقوم الناس بالقسط والعدول عن الظلم، وهذه كلها امور ملهمة من مصدر الوحي.

ج ج

وقد تحدثت الآية العاشرة عن انزال «الذكر» أي الآيات التي تكون سبباً لتذكر الناس ووعيهم، في الوقت نفسه فإنّ اللَّه يعد الناس في هذه الآية بحفظ هذا القرآن من أي نقص أوزيادة أو تلف أو تحريف، فالوحي- إذن- هو عامل يقظة الناس، وبما أنّ اللَّه له حافظ، فسيحفظه كمصدر مهم للمعرفة.

ج ج

وتقول الآية الحادية عشرة: «قَدْ بَيَّنَا لَكُمُ الآيَاتِ انْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ وهذا دليل واضح على أنّ الآيات الإلهيّة سبب ليقظة العقول ونشاطها.

ج ج

نفحات القرآن، ج 1، ص: 172

وأخيراً، فقد تحدثت الآية الثانية عشرة عن تكليم اللَّه لموسى عليه السلام، وقد كان الكلام هذا مصدراً لمعرفة موسى الإلهيّة، وهو نوع من الوحي.

هذه نماذج من آيات القرآن التي صرحت- رافعةً لأي ابهام وشبهة- بأنّ الوحي مصدر وأساس للمعرفة.

هذا في وقت ينكر فيه الفلاسفة الماديون هذا المصدر على الاطلاق، ويفسرونه بتفاسير نقرأُها في البحوث القادمة.

وبعدما اتّضح أصل هذا المصدر، نذهب إلى بحث قضايا مختلفة تحوم حوله.

ج ج

توضيحات

1- أقسام «الوحي» في القرآن المجيد

من خلال ملاحظتنا لآيات القرآن فقد استعملت مفردة «الوحي» في القرآن المجيد في عدة معانٍ، بعضها تكوينية

واخرى تشريعية، وبصورة عامه فانّها مستعملة في سبعة معان:

1- «الوحي التشريعي» وهو الذي يهبط على الرسل، وقد جاءت في أول البحث نماذج من الآيات التي استعملت فيها هذه المفردة بهذا المعنى

2- «الالهامات التي توحى لغير الأنبياء» كما هو الأمر بالنسبة لأم موسى «وَاوْحَيْنَا الَى امِّ مُوسَى انْ أَرْضِعِيهِ ...». (القصص/ 7)

وهناك إلهام يماثل هذا إلّاأنّه يختلف عنه شكلياً، كالذي حدث لمريم، حيث تمثل لها الوحي وبشرها بولادة عيسى (مريم/ 17- 19).

3- «وحي الملائكة» أي الخطابات الإلهيّة التي توجه إِليهم، كما جاء ذلك في قصة غزوة بدر الكبرى في سورة الأنفال الآية 12: «اذْ يُوحِى رَبُّكَ الَى الْمَلَآئِكةِ أنِّى مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا».

4- «الخطاب مع الإشارة» كما جاء ذلك في قصة حديث زكريا مع قومه: «فَخَرَجَ عَلَى

نفحات القرآن، ج 1، ص: 173

قَوْمِهِ مِنَ الِمحْرَابِ فَأَوْحَى الَيْهِم انْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً». (مريم/ 11)

5- (الالقاءات الشيطانية الغامضة» كما جاء في الآية: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِى بَعضُهُمْ الَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً». (الأنعام/ 112)

6- «تقدير القوانين الإلهيّة في عالم التكوين» كما في الآية: «وَاوْحَى فِى كُلِّ سَمَاءٍ امْرَهَا». (فصلت/ 12)

وما جاء في شهادة الأرض يوم القيامة: «يَومَئِذٍ تُحَدِّثُ اخْبَارَهَا* بِانَّ رَبَّكَ اوْحَى لَهَا».

(الزَّلْزَلَةِ/ 4- 5)

قد يكون تلميحاً لهذا المعنى من الوحي.

وقد جاءت مفردة الوحي بمعنى «خلق الغرائز» كما في الآية: «وَاوْحَى رَبُّكَ الَى النَّحلِ انِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ . (النحل/ 68)

ومن جهة اخرى فإنّ هبوط الوحي على الرسل جاء على أربع صورٍ على الأقل، كما جاء ذلك في القرآن المجيد، وهي:

1- صورة ملك يشاهده الرسول.

2- وسماع صوت الوحي دون رؤيته.

3- وفي صورة إِلهام قلبي.

4- وفي صورة رؤيا صادقة،

كما جاء ذلك في قصة إبراهيم عليه السلام عندما أمره اللَّه أن يذبح ابنه إسماعيل (الصافات/ 102)، أو ما حصل للرسول صلى الله عليه و آله عندما بشره اللَّه- بالرؤيا- بدخول المسلمين الكعبة آمنين (الفتح/ 27).

وقد جاء في رواية أنّ أحد الصحابة سأل الرسول صلى الله عليه و آله: كيف ينزل عليك الوحي؟

فأجابه الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله: «يأتيني أحياناً مثل صلصلة الجَرس، وهو أشدُّهُ عليّ، فيفصم عني وقد وعيتُ ما قال، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلًا فيكلمني فأعي ما يقول» «1».

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «الأنبياء والمرسلون على أربع طبقات:

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 18، ص 260.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 174

فنبيّ منبّأ في نفسه لا يعدو غيرها، ونبي يرى في النوم ويسمع الصوت ولا يعاينه في اليقظة، ولم تبعث إلى أحد وعليه إمام مثل ما كان إبراهيم على لوط عليه السلام ونبيٌّ يرى في منامه ويسمع الصوت ويعاين الملك، وقد أرسل إلى طائفة قلّوا أو كثروا كيونس عليه السلام ...

والذي يرى في نومه ويسمع الصوت ويعاين في اليقظة وهو إمام مثل اولي العزم وقد كان إبراهيم عليه السلام نبياً وليس بإمام حتى قال اللَّه «انِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِى» فَقَالَ اللَّهُ: «لَايُنَالُ عَهْدِى الظَّالِميِنَ» من عبد صنماً أو وثناً لا يكون إماماً» «1». (البقرة/ 124)

2- ما هي حقيقة الوحي؟

لقد قرأنا وسمعنا الكثير عن حقيقة الوحي، لكن رغم ذلك كله، فإنّ معرفتنا لحقيقته غير ممكنة، لعدم ارتباطنا بهذا العالم الغامض، وحتى لو فسّره لنا الرسول بنفسه، فانّه لا ينطبع شي ء في أذهاننا عنه سوى شبح.

ومثل ذلك كمثل شخص بصير يريد أن يصف أشعة الشمس الجميلة، وأمواج البحر الهائجة وأجنحة الطاووس الملوّنة

والمنظر الخلّاب للورد وبراعم الحديقة الخضراء.

لشخص ولد أعمى وقد تحصل صور مبهمة ومشوشة لهذه المخلوقات عند الأعمى إلّاأنّ إدراك صورها الحقيقية فهو أمر مستحيل.

لكننا نستطيع توضيح الوحي عن طريق آثاره وأهدافه ونتائجه، ونقول: إنّ الوحي هو الالقاء الإلهي الذي يتمّ بهدف تحقيق النبوة والتبشير والانذار، أو نقول: إنّه نور يهدي به اللَّه من يشاء، أو نقول: إنّه وسيلة الإرتباط بعالم الغيب وإِدراك معارف ذلك العالم، ولهذا السبب نرى القرآن يتحدث عن آثار الوحي لاعن حقيقته.

و ينبغي أن لا نعجب من هذا الأمر، وأن لا نتخذ عدم إدراك حقيقة الوحي دليلًا على عدم الوجود، أو نفسره بتفاسير مادية جسمية، فإنّ في عالم الحيوانات التي نعدها في مستوى

______________________________

(1). اصول الكافي ج 1، باب طبقات الأنبياء.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 175

أدنى من مستوانا فضلًا عن عالم النبوّة، تُشاهد آثار أحاسيس وإدراكات يعجز البشر عن إدراكها، فبعض الحيوانات تضطرب قبل حدوث الزلزلة وتصرخ بصورة جماعية أحياناً، وتارة تحدث أصواتاً مروعة حاكية عن قرب وقوع حدث مفجع، هذا كله بسبب تحلّيها بحاسة تستطيع بواسطتها أن تكشف قرب وقوع الزلزلة، الأمر الذي تعجز عن كشفه أحدث تكنولوجيا في العصر الحاضر.

أو أنّ بعض الحيوانات تتنبأ بتغييرات الأحوال الجوية للأشهر القادمة، فتبني بيوتها وفقاً لتلك الأحوال في الأشهر المقبلة عليها، وتعد الطعام الذي يتناسب مع طول فصل المطر والشتاء، فإذا كان طويلًا- مثلًا- يختلف مقداره عمّا لو كان قصيراً!

كما أنّ بعض الطيور قادرة على الهجرة الجماعية من المناطق القطبية إلى الاستوائية أو بالعكس، وقد يتمّ ذلك في الليل وفي سماءٍ ملبدة بالغيوم، مع أنّ الإنسان لا يمكنه السير في هذا الطريق وينجح باجتياز واحد بالمائة منه، إلّابالاستعانة بالوسائل الدقيقة، وكذا الأمر بالنسبة

لبعض الحيوانات حيث تطلب صيدها في ظلام الليل الدامس، وأحياناً تحت أمواج المياه وغير ذلك من الأمثلة التي يصعب على الإنسان تصديقها، إلّاأنّ العلم أثبت صحتها.

إنّ هذه الواقعيات التي تثبت بالعلم والتجربة تكشف عن وجود إدراك وشعور خاص لتلك الحيوانات لا يوجد مثله عند الإنسان، بالطبع إنّ الاطلاع الكامل على عالم حواس الحيوانات الغامض أمر محال، إلّاأنّه لا يمكن إِنكار هذه الحقائق «1».

فبالرغم من أنّ حواس الحيوانات لها ابعاد مادية وطبيعية وهذا أمر طبيعي ولا يمثل جانباً غيبياً، إلّاأننا لا نعرف حقيقة هذه الحواس، فكيف يمكن لنا أن ننكر عالم الوحي الغامض أو نشكك فيه بسبب عدم إدراكنا له؟

لم نقصد من حديثنا هذا الاستدلال على ثبوت مسألة الوحي، بل أردنا أن نرد على الذين ينكرون وجوده بسبب عدم إمكان إدراك حقيقته.

ولنا طرق واضحة لإثبات قضية الوحي منها:

______________________________

(1). يراجع كتاب عالم حواس الحيوانات الغريب (بالفارسية).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 176

1- نشاهد من جهة رجالًا يدعون النبوة جاءوا بكتب وتعاليم تفوق قدرة البشر الفكرية، فالرسول الامي- مثلًا- كيف أمكنه الاتيان بكتاب ذي محتوى مجيد بالرغم من كونه قد نشأ وترعرع في مجتمع الحجاز المتأخر للغاية في عصر الجاهلية؟!

2- ومن جهة اخرى فإنّ دعوة الرسل مقترنة دائماً مع معاجز تفوق قدرة البشر، وهذا يكشف عن ارتباطهم بعالم ما وراء الطبيعة.

3- ومن جهة ثالثة، فإنّ الرواية الكونية التوحيدية تقول لنا: إنّ اللَّه خلقنا للتكامل والسير نحو ذاته المقدّسة الأبدية، وبديهي أن سلوك هذا الطريق أمر غير ممكن لكثرة مصاعبه وانعطافاته وتعرجاته ومشاكله وأخطاره لأننا نشاهد عجز العقل وضعفه عن إدراك كثير من الحقائق، والدليل على ذلك، الاختلافات الكثيرة بين العلماء والمفكرين، وكذلك مصير الأمم التي وضعت قوانينها بالاعتماد على العقل

والقوانين الوضعية وذلك لإدارة شؤون حياتهم الفردية والاجتماعية.

وعلى هذا، فإنا نقطع بأن اللَّه لم يترك الإنسان لوحده، فبالإضافة إلى عقله أمده بقادة يرتبطون بعالم الغيب، ويستفيضون من بحر العلم الإلهي، وهذا هو الذي يعينه لاجتياز الطريق والوصول إلى الأهداف المقصودة.

وبهذه القرائن الثلاث يمكننا إدراك العلاقة بين عالم الإنسانية وعالم ما وراء الطبيعة، وكذلك الإيمان بالوحي رغم أننا لم نتعرف على حقيقته وماهيته، وبتعبير آخر: إن علمنا بالوحي علم إجمالي وليس علماً تفصيلياً.

3- الوحي عند فلاسفة الشرق والغرب

سعى كثير من فلاسفة الشرق والغرب في العهد القديم والجديد إلى فتح الطريق أمامهم نحو أسرار عالم الوحي وسعوا إلى تفسيره بما يتناسب مع مبانيهم الفلسفية، إلّاأنّ دراسة بحوثهم في هذا المجال تكشف عن ضياعهم في متاهات الطريق، إلّاالبعض منهم، ولم

نفحات القرآن، ج 1، ص: 177

ينجلِ لذلك البعض إلّاشبح عن ذلك العالم.

يقول أحد العلماء:

كان الفلاسفة الغربيون- إلى القرن السادس عشر كجميع الأمم الأخرى- يؤمنون بالوحي، وذلك لأنّ كتبهم كانت حافلة بالاخبار عن الأنبياء، وعندما ازدهرت العلوم الجديدة «الطبيعية والتجريبية» واخذت تفسر كل القضايا على اسس مادية، تراجع فلاسفة الغرب عن آرائهم وأخذوا ينكرون الوحي، وتجاوزوا إلى أبعد من ذلك بأن اعتبروا الوحي مجموعة من الأساطير والخرافات التي عفا عليها الدهر، وتبعاً لذلك فقد أنكروا وجود اللَّه وعالم ماوراء الطبيعة والروح، وامتد بهم الأمر إلى أن يفسروا الوحي بمجموعة من التخيلات أو الأمراض العصبية.

واستمر هذا التوجه حتى أواسط القرن التاسع عشر إلى أن تمّ اكتشاف عالم الأرواح بالطرق العلمية والتجريبية، وأصبح عالم ماوراء الطبيعة في قائمة القضايا التجريبية، وقد كتبت حول ذلك المئات بل الآلاف من المقالات.

ومن هنا أخذت مسألة الوحي طابعاً جديداً لدى هؤلاء وخطوا خطوات جديدة في هذا المضمار، على الرغم من

أنّهم لم يفسروا هذه الظاهرة كما فسرتها الأديان الاخرى وبالأخص المسلمون من السائرين على خطى القرآن المجيد، وبشكل عام فإنّ هناك نظريتين مختلفتين لدى مجموعة من الفلاسفة القدماء والمتأخرين لتفسير ظاهرة الوحي، ولكن الفريقين لم يصلا إلى حقيقة الوحي حسب ما ورد في القرآن الكريم، والنظريتان هما:

1- يعتقد عدد من الفلاسفة المتقدمين أن منشأ الوحي هو «العقل الفعّال»، والعقل الفعّال وجود روحي مستقل عن وجودنا، وهو قرينة، ومصدر لجميع علوم البشر ومعارفه، كما يعتقدون بأنّ الأنبياء كانت لهم علاقة وثيقة مع هذا العقل الفعّال، وكانوا يستلهمون منه، وما حقيقة الوحي إلّاهذه العلاقة.

وفي الحقيقة، لا دليل لهؤلاء لاثبات مدعاهم القائل بأنّ الوحي هو عبارة عن الإرتباط والعلاقة مع العقل الفعّال، إضافة إلى هذا، فإنّه لا دليل على وجود ما يزعمون وجوده أي

نفحات القرآن، ج 1، ص: 178

«العقل الفعّال» كمصدر مستقل للعلوم، كما ذكر ذلك في المباحث الفلسفية.

وعلى هذا، فالنظرية المذكورة عبارة عن احتمال مبني على احتمال، وفرضية مستندة إلى فرضية، ولم تثبت أي من الفرضيتين، كما أنّه لا حاجة لفرض «العقل الفعّال» بل يكفينا القول بأنّ الوحي عبارة عن اتصال بعالم ما وراء الطبيعة والذات المنورة، أمّا كيف وبأي شكل يتم ذلك؟ فهذا لم يتضح لنا.

نحن شاهدنا آثاره فآمنا بوجوده، دون أن نعرف حقيقته، وكثير من حقائق هذا العالم حالها كحال الوحي.

2- يعتقد عدد من الفلاسفة المعاصرين أنّ «الوحي» هو تجلِ «علم اللاشعور» أو العلاقة الغامضة مع حقائق هذا العالم التي قد تنشأ من «النبوغ الباطني» تارة، وتارة اخرى من «الرياضة الروحية» وعن مساعٍ من هذا النوع، وقد عَدَّ علماء النفس شخصيتين للإنسان:

«الشخصية الظاهرة والإرادية» وهي جهاز الإدراك والتفكير والمعلومات الحاصلة بالحواس العادية، والشخصية الاخرى هي

«الشخصية غير المرئية واللا إرادية» التي قد يعبر عنها ب «الوجدان الخفي» أو «الضمير الباطني» أو «علم اللاشعور» ويعتبر علماء النفس أنّ حلَّ كثيرٍ من المشاكل الروحية كامن في هذه الشخصية.

إنّهم يعتقدون أن مجالات فاعلية ونشاط الشخصية الثانية اوسع بكثير من مجالات نَشاط وفاعلية الاولى

وقد كتب أحد علماء النفس في هذا المجال:

يمكننا تشبيه الشخصية بقطعة ثلج عائمة في الماء، وعادة ما يكون تُسْعُها خارج الماء، وهذا المقدار الخارج هو الشخصية الظاهرة أو عالم الشعور، ويقابلها الشخصية اللاإرادية إلى عالم اللاشعور، حيث إنّ القسم الأعظم من النشاط الذهني لم نُحط به علماً ويحصل بشكل غير إرادي، وهو بمثابة الأجزاء الثمانية من قطعة الثلج تحت الماء «1».

لا شأن لنا فيمن كشف الشخصية الثانية للإنسان، «فرويد» أم غيره، كما لا شأن لنا في أنّ

______________________________

(1). معرفة النفس ترجمة (الدكتور ساعدي)، ص 6 و 7 مع إيضاح بسيط (بالفارسية).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 179

كلام المتقدمين فيه إِشارة إلى ما ذهب إليه المعاصرون أم لا، المهم بالنسبة لنا هو أنّ كثيراً من علماء النفس، بعد اكتشاف عالم اللاشعور وحل بعض المعضلات الروحية عن طريق هذا الاكتشاف، سعى لتبرير ظاهرة الوحي بما يتناسب ويتفق مع هذا الاكتشاف، حيث ادعوا أنّ الوحي هو ترشحات عالم اللاشعور التي تظهر عند الأنبياء على شكل طفرات فكرية بالصدفة.

وقد ساعد الأنبياء في ذلك أحياناً- أمران: الأول النبوغ الفكري، والثاني هو الترويض والتفكير المستمر.

وطبقاً لهذه الفرضية، فإنّ علاقة «الوحي» بعالم ما وراء الطبيعة ليست علاقة من نوع خاص ومغايرة للعلاقات الفكرية والعقلية لبقية أفراد البشر، وأنّ هذا لا يتم عن طريق وجودٍ روحي مستقل باسم «الوحي»، بل هو انعكاس لضمير الأنبياء الخفي، وهذه الفرضية كالسابقة القائلة بأنّ

الوحي هو الاتصال بالعقل الفعال، تفتقد الدليل، وقد يكون المراد بهذا من هذا الكلام ليس إثبات حقيقة الوحي، بل مرادهم إنّ ظاهرة الوحي لا تتنافى مع العلوم الحديثة، ويمكن تجلّي عالم اللاشعور لدى الأنبياء.

وبتعبير أوضح، فإنّ العلماء يصرون على تفسير جميع ظواهر العالم طبقاً للقوانين الطبيعية والاصول العلمية التي اكتشفوها، ولهذا فإنّهم بمجرّد مشاهدتهم لظاهرة جديدة، يسعون إلى تحليلها في إطار العلم الحديث، وإذا افتقدوا الدليل في هذا المجال اكتفوا بالفرضيات.

لكن تلقي ظواهر العالم بهذا الشكل ليس صحيحاً، وهذا هو خطأ العلماء الطبيعيين، مفهوم كلامهم هذا هو: إننا فهمنا الاصول والقوانين الاساسية للعالم، ولا توجد ظاهرة خارجة عن اطُر هذه القوانين والاصول.

وهذا ادّعاء محض ولا دليل له، بل لنا دليل على العكس، حيث نشاهد بمرور الزمن اكتشاف اصول وقوانين جديدة لنظام هذا العالم، ولدينا قرائن تثبت أنّ نسبة ما نعلمه عن هذا العالم إلى ما لا نعلمه كنسبة القطرة إلى البحر.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 180

لقد عجزنا عن المعرفة الدقيقة لحواس الحيوانات الغامضة، بل وحتى عن معرفة أسرار وجودنا، لذا لا يمكننا سوى ادعاء معرفة قسم من هذه الأسرار فقط.

فلماذا- إذن- هذا الاصرار كله على تبرير ظاهرة الوحي في اطُر القوانين العلمية المكتشفة، بل ينبغي القول: إنّ الوحي حقيقةٌ شاهدنا آثارها ولم نطلع على ذاتها وحقيقتها.

4- فرضية كون الوحي غريزة

طرح بعض المفكرين الإسلاميين المتأثرين بأفكار العلماء الغربيين فرضية اخرى في مجال الوحي تختلف في الظاهر عن الفرضيتين السابقتين إلّاأنّها تتفق معهما جوهرياً.

وقد بُنيت هذه الفرضية على الاصول الآتية:

1- إنّ «الوحي» لغة يعني النجوى بهدوء، واستعملت في القرآن بمفاهيم عدة تشمل أنواع الهدايات الغامضة، بدءً بهداية الجمادات والنباتات وانتهاءً بهداية الإنسان عن طريق الوحي.

2- إنّ الوحي نوع من أنواع الغريزة،

وهداية الوحي ليس إلّاهداية غريزية.

3- إنّ الوحي هداية الإنسان من وجهة نظر جماعية، أي أنّ المجتمع الإنساني بما هو كتلة واحدة، له مسير وقوانين وحركة، فيحتاج للهداية، ودور «النبي» في هذا المجال كدور الجهاز المتسلِم الذي يتسلم ما يحتاجه نوع البشر بشكل غريزي.

4- إنّ الأحياء تهتدي في مراحلها الاولى بواسطة الغريزة، وكلما تكاملت ونما حس التصور والفكر عندها، كلما نقصت قدرة الغريزة فيها، وفي الحقيقة فإنّ الحس والتفكير يستخلفان الغريزة، وعلى هذا الأساس فالحشرات لها غرائز أكثر وأقوى والإنسان أقل غرائزاً بالقياس إلى الحيوانات الاخرى.

5- إنّ المجتمعات البشرية (من وجهة نظر اجتماعية) تسير دائماً في طريق التكامل وتتّجه نحوه، فكما أنّ الحيوانات في مراحل حياتها الابتدائية كانت تستند إلى الهداية

نفحات القرآن، ج 1، ص: 181

الغريزية بالكامل، ثم اعتمدت تدريجياً على حواسها وتخيلها وأحياناً تفكيرها، وعندما نما عندها التفكير والحواس تدريجياً، استخلفت الغريزة، كذلك المجتمع البشري، فبنموه وتكامل عقله ضعفت غريزة الوحي عنده.

6- إنّ للعالم البشري عهدين، عهد هداية الوحي، وعهد هداية التعقل والتفكير في طبيعة التاريخ.

7- إنّ الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله الذي ختمت به النبوة رسول للعهد القديم والحديث، فانّه من حيث مصدر الالهام الذي كان يستفيض منه (لا مصدر التجربة الطبيعية والتاريخ) فهو يتعلق بالعهد القديم، ومن حيث روح تعاليمه التي تدعو إلى التفكر والتعقل ودراسة الطبيعة والتاريخ (التي ينتهي عمل الوحي بمجيئها) فهو يتعلق بالعصر الحديث «1».

إنّ المستخلص من هذه الفرضية أنّ الوحي نوع معرفة لا إِرادية تشبه الغرائز وهي دون المعرفة الإرادية التي تحصل عن طريق الحواس والتجربة والعقل، وتضعف هذه القدرة «الوحي» كلما تكامل جهاز العقل والفكر، فيستخلف العقل حينئذٍ الوحي، ومن هذا الباب ختمت النبوة.

بالرغم من أَنّ

هذه الفرضية- صدرت عن مفكر إسلامي- إلّاأنّها أضعف في بعض جوانبها من الفرضيات التي قدمها علماء وكُتّاب غربيون في هذا المجال، على الرغم من التشابه من حيث فقدان الدليل، ويمكن القول: إنّ هذه النظرية أسوأ نظرية طُرحت في هذا المجال لحد الآن، وذلك للامور الآتية:

أولًا: إنّ العلماء الغربيين عدوا الوحي شيئاً فوق الإدراك الحسي والعقلي للإنسان، بينما عُدَّ في هذه النظرية شيئاً دون ذلك، وهذا تفكير عجاب!

ثانياً: لم يَعِدَّ المفكرون الغربيون الوحي نوعاً من أنواع الغرائز الحيوانية، في حين عُدَّ في هذه النظرية من هذا القبيل.

______________________________

(1). مقدمة في الرؤية العالمية الإسلامية، للشهيد المطهري رحمه الله (وقد ذكر الشهيد المرحوم النقاط السبع السابقة التي تعكس رأي اقبال اللاهوري في كتابه «احياء الفكر الديني في الإسلام» بشكل ملخص ونقدها).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 182

ثالثاً: إنّ أمر الوحي واضح بالكامل للمسلم الملم بمفاهيم القرآن حيث يُعتبر نوعاً من الاتصال بالعالم الإلهي، وتلقي معارف عظيمة وجليلة للغاية من هذا العلم لم يستطع الإنسان أن يصل إليها بالعقل.

إنّ الوحي من وجهة نظر القرآن الكريم هداية إِرادية بالكامل وهو أسمى بكثير من «الهداية العقلية»،- وكما قلنا سابقاً- فإنا إذا شبهنا العقل بنور مصباح نيّر فإنّ الوحي بمثابة الشمس الساطعة.

يخاطب القرآن الناس- من جهة- قائلًا: «وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ الَّا قَلِيلًا». (الاسراء/ 85)

ومن جهة اخرى يصف اللَّه علمه ويقول: «وَلَوْ انَّمَا فِى الْارْضِ مِنَ شَجَرَةٍ اقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ ابْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ انَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . (لقمان/ 27)

فوحي النبوة ارتباط بهذا العلم اللامتناهي، ولهذا يصرح القرآن الكريم أنّ اللَّه هو معلم الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله.

«وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ .

(النساء/ 113)

إنّ العقل والعلم البشري مهما تقدما وتكاملًا أضعف من أن يقودا الإنسان إلى طريق السعادة من دون توجيه وارشاد الوحي، والدليل الحي لهذا الكلام هو مذاهب الفلاسفة وانحرافاتهم العجيبة، والحقيقة أنّ الذين عُرفوا كمفكرين اسلاميين هم مفكرون غربيون في واقع أمرهم، وأفكارهم اتخذت صبغة الأفكار الغربية، ولهذا سعوا دائماً لذكر تبريرات طبيعية للُامور غير الطبيعية.

إنّ الغربيين إذا اصروا على ذكر تبريرات طبيعية للُامور الغيبية، فذلك لانكارهم عالم الغيب، فلا ينبغي لأي مسلم اقتفاء أثرهم في ذكر تبرير طبيعي لمسألة كهذه.

من المؤسف أنّ الآثار السيئة لهذا التقليد نجدها في كثير من كتب أولئك المفكرين الذين غالباً ما درسوا في الغرب، ومعلوماتهم عن الإسلام قليلة جدّاً.

ج ج

نفحات القرآن، ج 1، ص: 183

5- كيف تيقن الرسول بأنّ الوحي من اللَّه؟

إنّ هذا السؤال من جملة الأسئلة التي طرحت حول مسألة الوحي، كيف علم الرسول بأنّ الوحي من اللَّه وليس إِلقاءً شيطانياً؟ وبتعبير آخر: ما هو مصدر هذا العلم واليقين؟

إنّ الجواب عن هذا السؤال واضح، فاضافة إلى أنّ الفرق بين الالقاءات الرحمانية والالقاءات الشيطانية كالفرق بين السماء والأرض، فإنّ محتوى كلٍّ منهما يعرف نفسه، وينبغي القول: إنّ الرسول عندما يتصل بالوحي يذعن بحقيقته بالنظر الباطني، وأمره كالشمس الساطعة نهاراً، فلا نعتني بالذي يشكك بوجودها ويقول: يُحتمل أن تكون وهماً لا أكثر، وذلك لأنّ احساسنا بها قطعي ولا يقبل الشك.

يقول العلّامة الطباطبائي قدس سره في تفسيره للآية: «فَلَمَّا أتَاهَا نُودِىَ يَا مُوسَى إِنَّى أَنَا رَبُّكَ ...». (طه/ 11- 12)

وهذا حال النّبي والرسول في أوّل ما يوحى إليه بالنبوّة والرسالة، لم يختلجه شك ولم يعتره ريب في أنّ الذي يوحي إليه هو اللَّه سبحانه، من غير أن يحتاج إلى إمعان نظر أو التماس دليل، أو إقامة حجة، ولو افتقر

إلى شي ء من ذلك كان اكتساباً بالقوة النظرية، لا تلقياً من الغيب، من غير واسطة «1».

ومن هنا يتّضح عدم صحة ما جاء في بعض الروايات من أنّ الوحي عندما نزل لأول مرّة على الرسول في غار «حراء» ذهب إلى بيت خديجة وقصّ عليها ما جرى واضاف: إِني أخاف على نفسى (أي أخاف أن تكون الايحاءات شيطانية لا إِلهية) فطمأنته خديجة، ثم ذهبت به إلى ورقة بن نوفل (ابن عم خديجة) الذي كان يدين بالمسيحية في عهد الجاهلية، وكان يجيد القراءة والكتابة العربية والعبرية، فطلب من النبي أن يشرح ما جرى له .. وبعد ما قصَّ الرسول صلى الله عليه و آله ما جرى له، قال ورقة: إنّه هو الوحي الذي كان يهبط على موسى عليه السلام وأضاف: ليتني أكون حياً كي أرى كيف يخرجك قومك من هذه المدينة «2».

______________________________

(1). تفسير الميزان، ج 14، ص 138.

(2). نقل هذا المضمون كثير من المحدثين والمفسرين من أهل السنة منهم «البخاري في صحيحه» و «مسلم» و «سيد قطب في تفسيره في ظلال القرآن في بداية سورة العلق» كما ورد في «دائرة معارف القرن العشرين، مادة (وحي)».

نفحات القرآن، ج 1، ص: 184

وكون هذا الحديث مختلق أمر لا ريب ولا شك فيه، إذ كيف يحتاج الرسول الذي ارتبط بعالم الغيب وكل وجوده يشعر بهذه الرابطة، إلى ورقة بن نوفل الكاهن النصراني؟ وكيف يمكن الاعتماد على مثل هذا الوحي؟

لماذا لم يشك به موسى بن عمران عندما نزل عليه أوّل مرّة في طور سيناء؟ بالرغم من أنّ موسى سمع صوته فقط ولم يشاهده، أليس هذا دليلًا على وجود أيادٍ خفية تهدف من وراء تلفيق هذه الخرافات إلى النيل من الوحي والنبوة وتضعيف أسس الدين

الإسلامي؟

6- القرآن أغنى مصدر للمعرفة في الأحاديث الإسلامية

نستمر في بحثنا هذا مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ القرآن الكريم يمثل المصداق البارز للوحي طبق ماورد عن الأئمّة الأطهار عليهم السلام، كي يكون تأكيداً لأصل وموقعية القرآن كمصدرٍ عظيم للمعرفة، كما يكون جواباً لأولئك الذين يذهبون شططاً ويعدون الوحي من «الغرائز الحيوانية» وأدنى من الإدراكات العقلية، ويعتقدون أنّ الإنسان استغنى عن الوحي والمعارف التي تنشأ منه بعد تكامله العقلي!

- قال الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله مخاطباً المسلمين: «إِذا التبست عليكم الامور كقِطّع الليل المُظلم فعليكم بالقرآن ... مَن جعله أمامه قاده إلى الجنّة، ومن جعله خَلفَهُ ساقه إلى النار، وهو أوضح دليل إلى خير سبيل، مَنْ قال به صدق، ومَن عمل به اجرَ، ومَن حَكَمَ به عَدَلَ» «1».

2- ويقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في احدى خُطب نهج البلاغة: «ثم أنزل عليه الكتاب نوراً لاتطفأ مصابيحه، وسراجاً لا يخبو توقده، وبحراً لا يدرك مقره، ومنهاجاً لا يضل نهجُه، وشعاعاً لا يظلم ضوؤه، وفرقاناً لا يخمد برهانه، وتبيانياً لا تُهدم أركانه، وشفاءً لا تخشى أسقامه، وعزاً لا تُهزم أنصاره، وحقاً لا تُخذل أعوانه».

______________________________

(1). نقل المرحوم العلّامة المجلسي هذه الخطبة في بحار الأنوار ج 74، ص 177 عن أبي سعيد الخدري من جملة خُطَب الرسول التي نقلها.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 185

«فهو معدنُ الإيمان وبحبوحته وينابيع العلم وبحوره، ورياض العدل وغدرانه، وأثافي الإسلام وبنيانه» «1».

3- ويقول الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام: سأل رجل الإمام الصادق عليه السلام: «ما بالُ القرآن لا يزداد على النَّشر والدرس إلّاغضاضة»؟ فقال الإمام: «لأن اللَّه تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان، ولا لناسٍ دون ناس، فهو في كل زمان جديد، وعند كلَّ قوم غضٌّ إلى يوم

القيامة» «2».

والأحاديث الواردة في هذا المجال كثيرة في مصادر السنة والشيعة، وقد ذكرنا ثلاثة فقط، أحدها للرسول الأكرم صلى الله عليه و آله والآخر لأمير المؤمنين عليه السلام وحديثاً للإمام الصادق عليه السلام.

7- الوحي الخاص إلى غير الأنبياء (وحي الالهام)

كما ذكرنا في بداية البحث أنّ للوحي معانِي كثيرة، منها «وحي النبوة والرسالة»، وهناك قسم آخر من الوحي وهو «الالهام» الذي يُلقى في قلوب غير الأنبياء، أو خطاب يُبلَّغ به غير الأنبياء.

ومثاله ما جاء عن ام موسى حيث يقول القرآن في هذا المجال: «وَأَوْحَيْنَا الَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَالْقِيهِ فِى الْيَمِّ وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنى ...». (القصص/ 7)

وقريب من هذا ما جاء عن الحواريين، حيث يقول اللَّه تعالى «وَاذْ أَوْحَيْتُ الَى الْحَوَارِيِّينَ انْ آمِنُوا بِى وَبِرَسُولِى قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِانَّنَا مُسْلِمُونَ . (المائدة/ 111)

كما قال اللَّه في يوسف قبل أن يبعثه نبيّاً، عندما أراد اخوته أن يلقوه في اليم:

«... وَأَوْحَيْنَا الَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِامْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَايَشْعُرُون . (يوسف/ 15)

وهذا الوحي ليس هو نفس وحي النبوة، بل وحي إلهامي، بقرينة الآية 22 من نفس

______________________________

(1). نهج البلاغة، الخطبة 198.

(2). بحار الأنوار، ج 89، ص 15.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 186

السورة، حيث جاء فيها أنّ اللَّه ألهم نبيّهُ (يوسف) كي يدرك بأنّه ليس وحيداً بل اللَّه يحفظه ويرزقه نصيباً من القدرة ويصل الأمر إلى أن يندم اخوته على فعلهم، وهذا الوحي هو الذي جعل الأمل ينبعث في قلب يوسف.

يذكر «الفخر الرازي» ستة احتمالات في ذيل الآية (38) من سورة طه، وأغلبها خلاف الظاهر، لأنّ ظاهر الآية هو الالقاء في القلب، أو سماع صوت ملك الوحي الذي يتناسب والمعنى اللغوي للوحي «1».

ومثال القسم الثاني هو الخطاب الذي أبلغه أحد الملائكة لمريم

والذي كان يتعلق بولادة عيسى عليه السلام، وقد حكى القرآن حوار مريم مع الملك الذي تمثل في صورة إنسان وسيم.

وأوضح مثال للوحي الالهامي هو الذي كان يُقذف في قلوب الأئمّة المعصومين عليهم السلام والذي اشير إِليه كثيراً في الروايات.

وعندما سُئل الإمام الصادق عليه السلام عن مصدر علم الأئمّة قال: «مَبْلَغُ علمنا ثلاثة وجوه:

ماض، وغابر، وحادث، فأمّا الماضي فمُفَسَّرٌ وَأمّا الغابر فمزبور، وأمّا الحادث فقذف في القلوب، ونقر في الأسماع وهو أفضل علمنا ولا نبيَّ بعد نبيّنا» «2».

وقد جاء في حديث آخر للإمام الرضا عليه السلام يقول فيه: «وأمّا النكت في القلوب فهو الالهام وأمّا النقر في الأسماع فحديث الملائكة، نسمع كلامهم ولا نرى أشخاصهم» «3».

وبصورة عامة، فإنّ علوم الأئمّة عليهم السلام تحصل من عدة طرق: العلوم التي ورثوها عن الرسول والأئمّة الذين سبقوا، على شكل وصايا وقواعد مدوّنة توضع في متناول أيديهم والتي قد يطلق عليها في بعض الأخبار «الجامعة»، وعندما يحصل لهم أمر مستحدث لا وجود له في المصادر التي في أيديهم، يوحي اللَّه اليهم إلهاماً قلبياً أو نقراً في أسماعهم يسمعون به صوت الملائكة «كما هو الحال بالنسبة لمريم عليها السلام».

______________________________

(1). راجع التفسير الكبير، ج 22، ص 51.

(2). بحار الأنوار، ج 26، ص 50.

(3). إرشاد المفيد، ج 2، ص 80؛ بحار الأنوار، ج 26، ص 18.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 187

لكن المسلَّم به أنّ هذا الوحي لا علاقة له بوحي النبوة، وهو من قبيل وحي الحواريين وأمثال ذلك، وفي الواقع، أنّ الاصطلاح العصري للوحي يطلق على وحي النبوة الذي يسمى «إِلهاماً»، وقد قال العلامة الطباطبائي في هذا المجال: حبذا لو أطلقنا عليه إِلهاماً لأنّه يتفق والأدب الديني «1».

يراجع- للتفصيل- المجلد 26 من بحار الأنوار،

باب علوم الأئمّة عليهم السلام، كما يراجع المجلد الأول من اصول الكافي باب أنّ الأئمّة عليهم السلام محدَّثون.

8- كيفية نزول الوحي على الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله

كما قلنا سابقاً، إنا لا ندرك حقيقة الوحي، وهي من المجهولات عندنا، لأنّ إدراكها شي ءٌ خارج عن اطار الحس والعقل، بل ندرك آثار الوحي فقط، والأثر يدلّ على المؤثِّر، وعلى هذا فمن العبث الدخول في عالم الوحي الغامض إلّاأنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام عندما كانوا يُسألون عن كيفية الايحاء، يجيبون جواباً وافياً بحيث يرسم في الذهن عن الوحي تصوراً لا غير!

ذكر الشيخ الصدوق قدس سره في كتابه «الاعتقادات» حول نزول الوحي حديثاً لابدّ أن استخلصه من الروايات حيث قال فيه:

«اعتقادنا في ذلك أنّ بين عيني اسرافيل لوحاً، فإذا أراد اللَّه عزوجل أن يتكلم بالوحي ضرب اللوح جبين اسرافيل، فنظر فيه فقرأ ما فيه، فيلقيه إلى ميكائيل عليه السلام، ويلقيه ميكائيل عليه السلام إلى جبرائيل عليه السلام ويلقيه جبرائيل عليه السلام إلى الأنبياء عليهم السلام، وأمّا الغشية التي كانت تأخذ النبي صلى الله عليه و آله حتى يثقل ويعرق فإنّ ذلك كان يكون منه عند مخاطبة اللَّه عزوجل إيّاه فأمّا جبرائيل فانّه كان لا يدخل على النبي صلى الله عليه و آله حتى يستأذنه إكراماً له، وكان يقعد بين يديه قعدة العبد» «2».

______________________________

(1). تفسير الميزان، ج 12، ص 312.

(2). اعتقادات الصدوق، ص 100.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 188

وقد جاء في الروايات مضمون هذا الحديث إجمالًا «1».

ونقرأ في حديث آخر أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله عندما كان يوحى إليه يسمع صوتاً هادئاً قرب وجهه.

وقد جاء في حديث آخر: إنّ الوحي عندما كان ينزل على الرسول صلى الله عليه و آله يبدأ

جبينه يتصبب عرقاً وإن كان الجو بارداً «2».

وبصورة عامة فإنّ الوحي كان يهبط على رسول اللَّه باشكال مختلفة، ولكل شكل آثاره الخاصة به.

كما يستفاد من الروايات أن جبرئيل كان يهبط على الرسول أحياناً- بشكله الحقيقى الذي خلقه اللَّه عليه، ويحتمل أنّه هبط بهذا الشكل مرتين فقط طوال عمر الرسول (كما أشير إلى ذلك في بعض تفاسير سورة النجم) «3»، كما أنّه قد يهبط متمثلًا في صورة «دحية الكلبي» «4»، «5».

9- الالهامات الغريزية

قلنا سابقاً أنّ للوحي مفهوماً واسعاً سواء في آيات القرآن أو في كتب اللغة، كما قلنا إنّ أحد مصاديقه هو الإدراك الغريزي عند الحيوانات، ولا يمكن تحليله بأي تحليل مادي، بل وجوده في الحيوانات دليل على وجود ذلك المصدر الغني والعظيم للعلم والمعرفة فيما وراء الطبيعة.

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 18، ص 254، ح 9.

(2). بحار الأنوار، ج 18، ص 261.

(3). في ظلال القرآن، ج 7، ص 306.

(4). بحار الأنوار، ج 18، ص 267، ح 29.

(5). إنّ دحية بن خليفة الكلبي هو أخو الرسول الرضاعي، وكان من أجمل الناس آنذاك، فكان يتمثل في صورته جبرئيل عندما يريد الهبوط على الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله (مجمع البحرين مادة وحي). وكان من مشاهير صحابة الرسول صلى الله عليه و آله ويُعرف بحسن الوجه، أرسله الرسول صلى الله عليه و آله بالرسالة إلى قيصر الروم «هرقل» في السنة السادسة أو السابعة من الهجرة، وكان حياً حتى خلافة عمر (قاموس دهخدا بالفارسية).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 189

وقد أشار القرآن المجيد إلى هذا الأمر العجيب بالنسبة للنحل في الآيات 68 و 69 من سورة النحل.

لقد اتّضح لنا- بعد التحقيقات التي اجريت على هذه الحشرة في العصر الحاضر- أنّ النحل يعيش

حياة اجتماعية وتمدناً عجيباً يفوق تمدن الإنسان في بعض نواحيه، فالعمران والبناء يتمّ عنده بدقّة كاملة وطبقاً للمواصفات الهندسية، وكيفية تجميع العسل وتهيئته وادخاره وحفظه من التلوث، وكيفية تربية الصغار، والتعذية الخاصة للملكة، والتحقق من عدم تلوث بعض النحل بالزهور الملوثة، وكيفية الدفاع ضد العدو، وكيفية إخبار أعضاء الخلية عن الزهور بواسطة النحل المكلّف بالبحث، وإعطاء المواصفات الدقيقة من حيث المسافة والانحراف وذلك للحركة الجماعية نحو ذلك المصدر، وغير ذلك من الامور العجيبة التي لا يمكن تفسيرها إلّابالقول بأنّ لها إلهاماً غريزياً.

ويقال: إنّه تم التعرف على 4500 نوع من أنواع هذه الحشرة، والعجيب في الأمر أنّ جميعها تتبع طريقة واحدة في كيفية البناء والمَصّ والتغذية من الزهور «1».

إنّ البحث يستدعي عدم الخروج عن صلب الموضوع كثيراً، وإلّا فالحديث عن الحياة الغامضة للنحل طويل، ويكفينا منه الحديث عن بنائه لبيت سداسي الاضلاع مع زوايا هندسية دقيقة.

يقول العلماء في هذا المجال: إنّ البيوت المبنية من قبل النحل بنيت بدقّة وظرافة بحيث لا تحتاج إلى مواد أوليه كثيرة للبناء، رغم سعة محتواها، لوجود ثلاثة أشكال فقط من بين الأشكال الهندسية المتعددة- يمكن بناء البيوت على أساسها من دون حصول فراغ بينها والأشكال هي، المثلث متساوي الأضلاع والرباعي، والسداسي، وقد كشفت الدراسات الهندسية أن سداسي الأضلاع يتطلب مواد بناء أقلّ مع شدّة مقاومته، ولهذا السبب رجحه النحل على الشكلين الآخرين.

من أين حصلت له هذه الالهامات الغريزية؟ وفي أي مدرسة تعلم هذه التعاليم؟

______________________________

(1). اول جامعة،، ج 5، ص 55 «بالفارسية».

نفحات القرآن، ج 1، ص: 190

لا يقتصر هذا الالهام الغريزي على النحل فحسب، بل نجده في كثير من الحيوانات تفوق عجائب كلٍّ منها الاخرى، نذكر لذلك الأمثلة الآتية:

يقول أحد العلماء في كتاب

له باسم «البحر بيت العجائب»:

«إنّ الحركات التي تقوم بها بعض الأسماك تعتبر من غرائب الطبيعة ولا أحد يستطيع أن يكشف أسرار هذا السلوك، فهناك نوع من الأسماك يسمى «النُقْط» يغادر البحر المالح الأنهر العذبة وهي الأماكن التي ولدت فيها نفسها، وقد يقتضي ذلك أن تسير عكس اتّجاه حركة المياه، أو تصعد الشلالات من أسفلها إلى أعلاها، وقد يبلغ عددها حداً بحيث تملأ النهر، وعندما تصل إلى المحل المقصود تضع بيوضها ثم تموت!

يا تُرى كيف تستطيع هذه الأسماك أن تختار المياه المناسبة لها؟ إنّه أمر عجيب، والأعجب، لأنّها تفتقد الخارطة، كما أنّ بصرها تحت الماء محدود، ولم يدلها أحد على الطريق، وبالرغم من ذلك فهي تصل إلى المكان المقصود والمناسب».

ويضيف في نفس الكتاب: «إنّ الأعجب من ذلك هو سلوك الأسماك الانجليزية «سمك يشبه الحيّة» فحين تبلغ ثمان سنوات تغادر النهر أو المستنقع الذي كانت تعيش فيه، وتزحف ليلًا على الأعشاب المتشابكة حتى تصل إلى شاطى ء البحر، ثم تجتاز المحيط الأطلسي عرضاً حتى تصل إلى المياه القريبة من «برمودا»! وتغوص في المحيط آنذاك وتضع البيوض ثم تموت ... إنّ صغار هذه الأسماك تطفو على سطح البحر وتبدأ سفرها عائدة إلى وطنها، وتستغرق هذه السفرة سنتين أو ثلاثاً حتى تصل إلى المحل الذي كان فيه أسلافها.

كيف وجدت هذه الأسماك طريقها رغم أنّها لم تسلكه سابقاً؟ إنّه سؤال لا يمكنك الإجابة عنه، كما لا يستطيع أعلم العلماء الإجابة عنه، إنّه سرّ، ولا أحد يعرفه» «1»!

وكثير من الطيور المهاجرة تجتاز طرقاً ومسافات طويلة، وبعضها يجتاز طريق «اوربا» إلى «أفريقيا الجنوبية» دون خطأ في الاتّجاه، ولم نكتشف كيفية اهتداء هذه الطيور إلى

______________________________

(1). البحر بيت العجائب، ص 116 و 117

(بالفارسية).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 191

الطريق حتى فترة ليست ببعيدة.

وقد أثبت بعض العلماء- بعد التحقيق والتجارب على هذه الطيور- أنّها تهتدي الطريق بواسطة مواقع النجوم، وأثبتت التجارب أنّها تعرف مواقع النجوم غريزياً، وتعلم تغير مواقعها حسب فصول السنة، وحتى عندما تتلبد السماء بالغيوم، فإنّ وميض بعضٍ من النجوم يكفيها للاهتداء إلى الطريق، كما أثبتت تجارب اخرى أنّها ورثت معرفتها عن الفلك ومواقع النجوم، أي أنّها تعلم كل شي ء عن السماء ومواقع النجوم وإن لم تشاهد السماء سابقاً، بالطبع لم تُكتشف كيفية انتقال هذه المعلومات التفصيلية لهذه الطيور بالوراثة، خاصة وأنّ السماء تتغير أشكالها بمرور الزمان، ثم: من أين حصل الجيل القديم على هذه المعلومات؟! «1».

و النموذج الآخر لهذه الغريزة هو سلوك طير باسم «آكسك لوب» عندما تضع البيوض، فيقول العالم الفرنسي «وارد» حول هذا الحيوان:

«إني درست حالات هذه الطيور، فوجدت من خصائصها أنّها تموت بعد أن تبيض، ولا ترى أفراخها أبداً، كما أنّ الأفراخ لا ترى امهاتها، وعندما تفقس البيوض تخرج كالديدان بلا أجنحة ولا ريش، ولا قدرة لها على تحصيل الطعام، ولا قدرة لها للدفاع عن نفسها من الحوادث والمخاطر التي تهدد حياتها، ولهذا ينبغي أن تبقى في مكان محفوظ فيه طعام يكفيها لمدّة سنة، ومن بعدها تقوم الام- عندما تشعر أنّها على وشك أن تبيض- بالبحث عن قطعة من خشب ثم تثقبها ثقباً عميقاً، وتجمع فيها المؤونة الكافية، فتجمع أولًا أوراق الأشجار ما يكفي لفرخ واحد لمدّة سنة وتلقيها في نهاية الثقب العميق، ثم تضع عليها بيضة وتبني عليها سقفاً محكماً من عجينه خشبية، ثم تبدأ ثانياً في جمع مؤونة فرخ آخر لمدّة سنة وبعد جمعها المؤونة ووضعها على سطح الغرفة الاولى تضع

بيضة ثانية عليها وسقفاً

______________________________

(1). حواس الحيوانات الغامضة، تأليف (ويتوس دروشر)، ترجمة لاله زاري، ص 167- 71 (ملخص) «بالفارسية».

نفحات القرآن، ج 1، ص: 192

آخر، وهكذا تبني الغرفة بعد الغرفة حتى تموت «1».

من الذي علم هذا الطير هذا الحجم من المعلومات رغم أنّه لم ير امه ولا أفراخه؟ لا جواب لأحدٍ على هذا السؤال إلّاالقول، بأنّها الهامات غريزية من قبل الخالق العظيم.

______________________________

(1) المتلبسون بالفلسفة، ص 229، «بالفارسية».

نفحات القرآن، ج 1، ص: 193

6- الكشف والشهود

تمهيد:

نفحات القرآن ج 1 222

القسم السادس والأخير من مصادر المعرفة هو «الشهود القلبي والمكاشفة».

وقبل كل شي ء ينبغي تعريف هذا المصدر المجهول لدى أكثر الناس، كي يتضح فرقه عن «الوحي» و «الالهام» و «الفطرة» و «الإدراكات العقلية»، ولكي لا يحملُهُ غير المطلعين على «اتباع الظن».

ومن جهة اخرى، لكي نحول دون استغلال هذا العنوان من قبل البعض، والنظر إليه نظرة تشاؤمية من قبل البعض الآخر.

إنّ الكائنات في هذا الوجود تنقسم إلى قسمين:

1- الكائنات التي يمكن إدراكها بالحواس وهي «العالم المحسوس».

2- الكائنات غير المحسوسة وهي «عالم الغيب».

لكن الإنسان- أحياناً- ينفتح أمامه طريق باتجاه عالم الغيب يمكّنه من معرفة بعض الحقائق الغيبية (حسب قابليته)، وبتعبير آخر، تتكشف له بعض حقائق عالم الغيب فيشاهد تلك الحقائق كما يشاهد حقائق العالم المحسوس، بل أوضح وأوثق.

ويقال لهذه الحالة «المكاشفة» أو «الشهود الباطني».

وقد اشير إلى هذا العلم في الآيتين: «كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ! (التكاثر/ 5- 6)

وقد ورد في المصادر الإسلامية المختلفة: إنّ «المجرمين» و «المؤمنين» تحصل لديهم

نفحات القرآن، ج 1، ص: 194

هذه الحالة عند الاحتضار، فيشاهد المؤمنون عندها ملائكة اللَّه أو الأرواح القدّسية لأولياء اللَّه بينما يعجز الجالسون حولهم عن مشاهدة ذلك.

كما حصل هذا الأمر لرسول اللَّه صلى الله عليه و

آله في غزوة الخندق عندما ضرب الرسول صلى الله عليه و آله الصخرة ثلاثاً وكان يظهر بريق في كل ضربة وعند سؤال المسلمين عن هذا البريق قال:

أضاءت الحيرة وقصور كسرى في الاولى وفي الثانية أرض الشام والروم وفي الثالثة قصور صنعاء ... وسيأتي تفصيل الحديث «1».

كما أنّه قد حصل هذا لآمنة ام النبي الأكرم صلى الله عليه و آله عندما كانت حاملة بالرسول صلى الله عليه و آله حيث قالت: رأيت نوراً خرج مني شاهدت به قصور بلاد «بصرى في «الشام»، وهناك كثير من النماذج جاءت في الآيات والروايات نشير إليها فيما بعد، إن شاء اللَّه، فهذه كلها لا وحي ولا إلهام قلبي، بل نوع من المشاهدة والإدراك تختلف عن المشاهدة والإدراك الحسي.

وعلى هذا، فالكشف والشهود- اختصاراً- عبارة عن: الدخول في عالم ما وراء الحس ومشاهدة حقائق ذلك العالم بالعين الباطنية، كالمشاهدة الحسية بل أقوى أو سماع تلك الحقائق باذن روحانية.

بالطبع لا يمكن تصديق كل من يدعي أنّه وصل إلى هذه الملكة، إلّاأنّه ينبغي الاذعان بأصل وجود مصدر المعرفة ونتحدث أولًا عن هذا الأمر، ثم عن كيفية الوصول إليه، ثم طريق تمييز المدعين الصادقين من الكاذبين، وبعد هذا التمهيد، نمعن خاشعين في الآيات التالية:

1- «وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ .

(الأنعام/ 75)

2- «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ الَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ . (التوبة/ 105)

3- «مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى أَفَتُمَارُونَهُ عَلى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى

______________________________

(1). الكامل في التاريخ،، ج 2، ص 179.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 195

عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى . (النجم/ 11- 14)

4- «كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ

الجَحِيمَ . (التكاثر/ 5- 6)

5- «يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَابُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً».

(الفرقان/ 22)

6- «وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَاغَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النّاسِ وَانِّى جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَائَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّى بَرِى ءٌ مِّنْكُمْ انِّى أَرَى مَا لَاتَرَوْنَ انِّى أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ . (الأنفال/ 48)

7- «وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّى لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ .

(يوسف/ 94)

8- «فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا الَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً».

(مريم/ 17)

شرح المفردات:

إنَ «ملكوت» اشتقت في الأصل من مادة «المُلْك» والتي تعني الملكية والحكومة، واضيفت لها «الواو» و «التاء» للتأكيد والمبالغة، أمّا مَلْكُوَة فتعني الحكومة والعزة.

يقول الطريحي في «مجمع البحرين»، إنّ ملكوت جاءت بمعنى العزة والسلطنة والمملكة، وادعى بعض أئمّة اللغة أنّها تعني «الحكومة العظيمة» وهو يتفق مع ما قاله الراغب في مفرداته، ويقول صاحب الميزان: «كان النظر في ملكوت الأشياء يهدي الإنسان إلى التوحيد هداية قطعية» «1».

إنَ «فؤاد»- كما بينا معناه بالتفصيل سابقاً- تعني القلب والروح عندما ينضجان ويتكاملان، وهو مشتق من مادة «فأْد» التي تعني النضج.

وإنّ «أجد» من مادة «وجود» ويعني الحصول، فقد يكون الحصول عن طريق احدى

______________________________

(1). تفسير الميزان، ج 7، ص 171.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 196

الحواس الظاهرية، مثل الرؤية بالعين، والسماع بالاذن، أو بواسطة الحاسة الشامة، وقد يحصل عن طريق الحواس الباطنية مثل الاحساس بالجوع أو الشبع والهم والغم، وقد يحصل عن طريق العقل مثل وجدان اللَّه بالاستدلال العقلي والبراهين المختلفة.

كلمة «تمثّل» من مادة «مُثُول» ويعني الوقوف أمام شخصٍ أو شي ءٍ، ويقال مُمَثَّل بشخصٍ أو شي ءٍ أي ظهر في صورة شخص أو شي ءٍ آخر، وقد تكرر موضوع التمثل في الروايات الإسلامية والتواريخ، منها ظهور

ابليس في «دار الندوة» أمام المشركين وهم يخططون لقتل الرسول متمثلًا في شكل رجلٍ صالح وخير.

ومنها تمثل الدنيا في صورة امرأة جميلة وفاتنة أمام الإمام علي عليه السلام وعدم استطاعتها من النفوذ في قلبه الطاهر وقصتها معروفة، ومنها تمثل أعمال الإنسان أمامه في القبر ويوم القيامة، كلٌّ بشكله المناسب له حيث عبرت الروايات الإسلامية عن هذا الأمر بالتمثل، ومفهوم التمثل في جميع هذه الموارد هو ظهور شخصٍ أو شي ءٍ في صورة شخص أو شكل آخر من دون تغير في باطنه وماهيته «1».

جمع الآيات وتفسيرها

إنّ الآية الاولى بعد إشارتها إلى جهاد إبراهيم عليه السلام بطل التوحيد ضد الشرك وعبادة الأصنام، تحدثت عن المنزلة الرفيعة لإيمانه ويقينه، وكمكافئة لهذه المكانه فإنّ اللَّه أراه ملكوت السموات والأرض، فأصبح من أهل اليقين أي وصل إلى درجة عين اليقين وحق اليقين، جزاءً لما عاناه من جراء جهاده ضد الشرك وعبدة الأصنام، ومع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ «السموات» تفيد العموم هنا (لأنّها جاءت جمعاً لا مفرداً ومعرفة لا نكرة)، نستنتج أنّ اللَّه أطلع إبراهيم على سلطانه في السموات المتمثل بالكواكب والنجوم والمجرات وغيرها، كذلك سلطانه على الأرض ما ظهر منها وما بطن، وقد عبّر القرآن عن هذا الأمر بهذا التعبير «نُريَ ابراهيم ...».

______________________________

(1). تفسير الميزان، ج 14، ص 37.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 197

ومع الأخذ بنظر الاعتبار إلى أنّ الإنسان لا يمكنه رؤية هذه الحقائق بعينه الظاهرية واستدلالاته العقلية، ندرك أنّ اللَّه أراه هذه الحقائق عن طريق الشهود الباطني وإزالة الحجب التي تحول دون مشاهدة الإنسان الحقائق الغيبية.

وقد ذكر الفخر الرازي احتمالين في تفسيره ل «الإرائة»، أحدهما: «أنّها حسية، والثاني:

أنّها إرائة عن طريق الاستدلال العقلي، ثم اختار الاحتمال الثاني، وذكر تسعة أدلة عليه»

«1».

لكن- كما قلنا سابقاً- فالإنسان عاجز عن الاحاطة الكاملة بأسرار سلطان اللَّه على العالم سواء كان عن طريق الحس أو عن طريق العقل، وتحتاج الاحاطة هذه إلى طريق إدراك آخر، وهو الشهود الباطني، ولهذا السبب يذكر صاحب تفسير «في ظلال القرآن»:

«أنّ المراد من الآية إخبار ابراهيم عن أسرار الخلق الخفية ورفع الحجاب عن آيات كتاب الخلق التي نشرت كي يصل ابراهيم إلى درجة اليقين الكامل» «2».

و بتعبير آخر: إنّ ابراهيم اجتاز مراحل التوحيد الفطري والاستدلالي- في البداية- من خلال مشاهدته لطلوع الشمسُ وغروبها وطلوع النجوم وافولها، وجاهد المشركين واجتاز درجات التوحيد في ظل هذا الجهاد العظيم، الواحدة تلو الاخرى، إلى أن بلغ مرحلة كشف اللَّه له فيها الحقائق، وهي مرحلة الشهود الباطني.

وهناك حديث للإمام الصادق عليه السلام في هذا المجال يشير فيه إلى هذا المعنى حيث يقول:

«كُشِط لإبراهيم السموات السبع حتى نظر ما فوق العرش، وكشط له الأرضون السبع، وفُعِل لمحمد صلى الله عليه و آله مثل ذلك ...» «والأئمّة من بعده قد فُعل بهم مثل ذلك» «3».

وقد ذكر صاحب البرهان الكثير من الأحاديث في تفسيره، كلها تكشف أنّ الإدراك هذا ليس هو نفس الإدراك العقلي أو الحسي، بل- وكما صرح صاحب الميزان وأشرنا إليه سابقاً- إنّ الملكوت هي مجموعة الامور التي لها ارتباط بالذات المقدّسة الإلهيّة من حيث

______________________________

(1). التفسير الكبير، ج 13، ص 43.

(2). في ظلال القرآن، ج 39، ص 291.

(3). تفسير البرهان، ج 1، ص 531، ح 2 (ومضمون الحديث الثالث والرابع قريب من مضمون هذا الحديث).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 198

انتمائها إلى تلك الذات، وهذا ما شاهده إبراهيم وعن هذا الطريق استطاع أن يصل إلى التوحيد الخالص «1».

وهناك روايتان ذكرت في تفسير

«الدر المنثور» إحداهما عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله والاخرى عن ابن عباس تبينان أنّ اللَّه رفع الحجب عن إبراهيم وأراه ملكوت السموات والأرض أي أسرار قدرته، وحاكميته على الكون والوجود «2».

ج ج

والآية الثانية بعد ذكرها لأحكام «الزكاة والصدقة والتوبة» خاطبت الرسول قائلة:

«وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ الَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ . (توبه/ 105)

وممّا لا شك فيه أنّ المراد من رؤية الأعمال من قبل اللَّه سبحانه وتعالى هو رؤية اللَّه لجميع أعمال الناس سواء الصالحة منها أو غير الصالحة وما ظهر منها وما بطن «بقرينة وحدة السياق» وينبغي القول بأنّ مشاهدة الرسول مثل مشاهدة اللَّه، لأنّ الآية مطلقة ولم يقيدها شي ء، وأمّا المؤمنون، فالمراد منهم خلفاء الرسول صلى الله عليه و آله المعصومون بحسب القرائن المختلفة «لا جميع المؤمنين».

ومع الالتفات إلى أنّه لا يمكن مشاهدة اعمال كافة الناس مشاهدة حسية أو استدلالية عقلية، ينبغي القول: إنّ الآية بينت حقيقة وهي أنّ الرسول صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام بإمكانهم المشاهدة بشكل يختلف عن المشاهدة الحسية المتعارفة، يشاهدون بها جميع أعمال المؤمنين.

وقد ذهب الفخر الرازي إلى أنّ المراد من الآية جميع المؤمنين لا الأئمّة، وعندما وقع في إشكال أنّ المؤمنين لا يطلع أحدهم على أعمال الآخر، أجاب: إنّ المراد أنّهم يُخبرون بها.

______________________________

(1). تفسير الميزان، ج 7، ص 178.

(2). در المنثور، ج 3، ص 24.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 199

وهذا تكلّف بلا نتيجة، وتبرير خلاف الظاهر.

كما أنّه نقلت روايات عديدة في ذيل هذه الآية بينت أنّ أعمال العباد تُعرض كل صباح (بعض الروايات ليس فيها قيد الصباح) على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام

فيرونها ويفرحون بها إن كانت طاعاتٍ، ويتألمون إن كانت معاصياً «1».

و يمثل هذا الحجم الكبير من الروايات في تفسير هذه الآية درس كبير لجميع سالكي طريق الحق والهداية، حيث إنّ هناك مراقبين أجلّاء يراقبون أعمالهم، والإيمان بهذه الحقيقة لها مردودات تربوية جمة، وقد نقل هذا المضمون في ضمن روايات كثيرة عن الإمام الصادق عليه السلام حيث يقول في أحدها: «إذا صار الأمر إليه جعل اللَّه له عموداً من نورٍ يُبصِرُ به ما يعمل به أهل كل بلدة» «2».

ج ج

والآية الثالثة إشارة إلى ما يعتقده البعض من مشاهدة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لجبرئيل عليه السلام في شكله الحقيقي، وقد شاهده بهذا النحو مرتين، المرة الاولى في بداية بعثته حيث ظهر (عليه السلام) في الافق وغطى الشرق والغرب، وكان بدرجة من الجلالة والعظمة حيث اضطرب الرسول حينها اضطراباً شديداً، والمرة الثانية هي عند معراجه صلى الله عليه و آله، وقد اشير في سورة النجم لكلا اللقائين.

وهناك تفسير آخر وهو أنّ المراد من الرؤية في الآية هو حصول الشهود الباطني له، الشهود للذات الإلهيّة المقدّسة، وهو شهود بالعين الباطنية لا الظاهرية، وهو مصداق واضح ل «لقاء اللَّه» في هذا العالم، وقد جاء شرح ذلك مفصلًا في تفسير الأمثل في ذيل الآيه 18 سورة النجم.

______________________________

(1). جاء في تفسير البرهان في ذيل الآية المذكورة، وفي بحار الأنوار، ج 33، ص 326 فما بعد، عشرات الروايات المنقولة في هذا المجال، ويمكن القول: إنّها وصلت إلى مستوى التواتر، و من اصول الكافي ج 1 باب «عرض الأعمال» جاء ذلك مفصلًا.

(2). منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، ج 5، ص 200 (لقد جمع في هذا الكتاب روايات عديدة بهذا المضمون) وقد

ذكر بعضاً منها البحراني في تفسيره «البرهان».

نفحات القرآن، ج 1، ص: 200

وعلى أيّة حال فإنّ الآية تصرح: إنّ ما رآه الرسول صلى الله عليه و آله بقلبه قد حدث بالفعل، وقلبه صادق بما شاهده وغير كاذب.

والتعبير هذا شاهد على مسألة الكشف والشهود الباطني الذي يعتبر أحد مصادر المعرفة للإنسان، إنسان مثل الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله، وقد جاء في تفسير الميزان:

ولا بدع في نسبة الرؤية وهي مشاهدة العيان إلى الفؤاد فإنّ للإنسان نوعاً من الإدراك الشهودي وراء الإدراك باحدى الحواس الظاهره والتخيل والتفكر بالقوى الباطنة كما أننا نشاهد من أنفسنا أننا نرى وليست هذه المشاهدة العيانية ابصاراً بالبصر ولا معلوماً بفكر، وكذا نرى من أنفسنا أننا نسمع ونشم ونذوق ونلمس ونشاهد أننا نتخيل ونتفكر وليست هذه الرؤية ببصر أو بشي ء من الحواس الظاهرة أو الباطنة فإنا كما نشاهد مدركات كل واحدة من هذه القوى بنفس تلك القوة كذلك نشاهد إدراك كل منها لمدركها وليس هذه المشاهدة بنفس تلك القوة بل بأنفسنا المعبر عنها بالفؤاد «1».

وقد صرّح المفسرون: إنّ المراد من الرؤية في الآية هو المشاهدة بالقلب.

وقد جاء في حديث أن سأل أحد صحابة الإمام أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام:

هل رأى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ربّه عزّ وجلّ؟ فاجابه عليه السلام «نعم بقلبه، أما سمعت اللَّه عزّ وجلَّ يقول:

ما كذب الفؤاد ما رأى لم يَرَه بالبصر ولكن رآه بالفؤاد» «2».

بديهي، أنّ المراد من «الرؤية القلبية» ليس هو الفكر والاستدلال العقلي، لأنّ هذا أمر لا يختص بالرسول صلى الله عليه و آله بل يحصل لجميع المؤمنين والموحدين.

ج ج

وقد خاطبت الآية الرابعة المؤمنين كافة قائلةً: «كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ

الجَحيم ثم تضيف: «ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ .

______________________________

(1). تفسير الميزان، ج 19، ص 29.

(2). تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 153، ح 34.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 201

وهناك بحث بين المفسرين في أنّ الرؤية هذه تقع في الدنيا أم في الآخرة؟ أو أنّ الاولى في الدنيا والثانية في الآخرة؟ لكن ظاهر الآية يدل على أنّ الثانية تقع في الآخرة، بقرينة «ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ وذلك لأنّه لا سؤال في الدنيا، وعلى هذا فالرؤية الاولى «رؤية الجحيم» تقع في الدنيا.

وقد جاء في تفسير الميزان: إنّ ظاهر الآية يدل على وقوع رؤية الجحيم قبل يوم القيامة، بالطبع رؤية قلبية والتي تعد من ثمار الإيمان واليقين، كما هو الأمر في قصة إبراهيم ورؤيته لملكوت السموات والأرض.

وقد تقدّم أنّ البعض يرى أنّ الرؤية في كلا الموردين تتعلق بيوم القيامة، ولهذا تكلفوا كثيراً عند بيانهم للفرق بين الرؤيتين، كما يُشاهد ذلك في كلام المفسر الفخر الرازي «1».

وعلى أيّة حال، فإنّ الآية تأكيد في ظاهرها على أنّ الإنسان- في بعض الحالات- تُرفع عن قلبه الحجب فيتمكن من رؤية بعض حقائق عالم الغيب.

ج ج

والآية الخامسة أشارت إلى طلب الكافرين المُلِح، حيث كانوا يسألون: لِمَ لَمْ يُنزَّل علينا ملائكة؟ أو لِمَ لَمْ نَرَ اللَّه جهرةً؟ «2».

ويجيبهم القرآن: «يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَابُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً». (22/ فرقان)

وهناك خلاف بين المفسرين في المراد من «يوم» في الآية، فأي يوم هو؟ يعتقد البعض أنّ المراد منه هو يوم القيامة لكن البعض يعتقد- مع الالتفات إلى الآيات التي تحدثت عن (ملائكة الموت» ومن ضمنها الآية التالية: «وَلَوْ تَرَى اذِ الظَّالِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ ...». (93/ الأنعام)

______________________________

(1). تفسير الكبير، ج 32،

ص 80.

(2). الفرقان، 21.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 202

إنّ المراد منه هو لحظات الموت، أو بعد الموت وقبل يوم القيامة.

وقد نقل هذا الرأي عن ابن عباس «1»، في حديث عن الإمام الباقر عليه السلام: «فإذا بلغت الحلقوم ضربت الملائكة وجهه ودبره (قيل اخرجوا أنفسكم اليوم تُجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على اللَّه غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون) وذلك قوله «يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ » «2».

وطبقاً لهذا التفسير، فإنّ الإنسان عندما يكون على وشك الموت تُرفع عن قلبه الحُجُب، فتحصل له حالة الكشف والشهود، فيرى الملائكة.

ج ج

والآية السادسة تحدثت عن معركة بدر وأنّ الشيطان زيّن للمشركين أعمالهم وصوَّرها لهم وكأنّهم يحسنون صنعاً، وذلك كي يكونو أكثر تفاؤلا واملًا بما يقومون به.

ومن جهة اخرى فإنّ عدد وعدة جيش المشركين الذي يقدر بعدة أضعاف المسلمين آنذاك اصطفوا أمام المسلمين، والشيطان يوسوس لهم وبشكل مستمر بانهم بهذا الجيش المجهز سوف ينتصرون ولا تستطيع أية قوّة أنّ تغلبهم: «لَاغَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَانِّى جَارٌ لَّكُمْ .

وعندما اشتعلت الحرب ونزلت الملائكة لنصرة المسلمين بأمر اللَّه، تراجع الشيطان، وقال لهم: «انِّى بَرِى ءٌ مِّنْكُمْ انِّى أَرَى مَا لَاتَرَوْنَ انِّى أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَديدُ الْعِقَابِ لأنّه رأى الامدادات الغيبية وآثار رحمة اللَّه!

و حول هذه الآية انقسم المفسرون إلى قسمين:

القسم الأول يرى أنّ الشيطان متجسم وظهر أمام هؤلاء بصورة إنسان وأخذ يوسوس لهم.

______________________________

(1). تفسير الكبير، ج 24، ص 70.

(2). تفسير البرهان، ج 3، ص 158،، ح 1.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 203

وأمّا القسم الثاني فانّهم يرون أنّ الشيطان نفذ في باطن المشركين كما هو المتعارف واحدث أثراً في قلوبهم.

و قد اختار كثير من المفسرين الرأي الأول، وهناك روايات معروفة تؤيد هذا

الرأي، حيث قالت: إنّ الشيطان تمثَّل لهم في صورة «سراقة بن مالك» الذي يعتبر من أشراف «بنى كنانة» وقد حصل هذا الأمر «التمثل» عندما هاجر الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله، حيث اشترك الشيطان آنذاك في شورى المشركين في «دار الندوة» متمثلًا في صورة رجل كبير السن من أهالي «نجد» وليس محالًا أن يتمثل في صورة إنسان، لأنّ هذا ممكن بالنسبة للملائكة (كما هو منقول في قصة ابراهيم ومريم).

والبحث الآخر هو: هل أنّ الشيطان رأى الملائكة حقاً يساندون جند الإسلام؟ أم عندما رأى آثار الانتصار غير المرتقب تيقن بنزول الملائكة والامدادات الغيبية؟ هناك نظريتان في هذا المجال:

يعتقد كثير من المفسرين أنّ المراد رؤيتهم حقيقةً، ويؤيد ذلك ظاهر الآيات اللاحقة التي تحدثت عن دخول الملائكة ساحة بدر.

وعلى هذا، فما كان المؤمنون ولا المشركون يرون تواجد الملائكة في بدر، بينما كانت الحجب مرفوعة عن الشيطان، فكان يرى الملائكة.

وهذا نوع من الكشف والشهود منحه اللَّه للشيطان لأهداف معينة.

ج ج

والآية السابعة أشارت إلى قصة يوسف عليه السلام، فعندما خرج أولاد يعقوب عليه السلام مع القافلة فرحين من مصر، وكانوا قد شاهدوا يوسف على عرش السلطة رجعوا حاملين قميص يوسف لتقرَّ عين أبيهم وليرجع نظره إليه ثانية، وعندما تحركت القافلة من مصر، قال يعقوب لمن حوله في بلاد كنعان: إنّي أشم رائحة يوسف إذا لم ترموني بالكذب والجهل، إنّ ما قاله يعقوب كان صدقاً لأنّه لم يشم الرائحة بالشامة الطبيعية التي يمتلكها جميع الناس ولهذا لم

نفحات القرآن، ج 1، ص: 204

يصدقه أحد ممن كان حوله فنسبوا الضلالة إلى الشيخ الكنعاني ذلك النبي العظيم حيث قالوا له: «تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِى ضَلَالِكَ الْقَدِيم . (يوسف/ 95)

وقد تبين صدق شيخ كنعان عند رجوع

الاخوة إلى كنعان.

وقد عُدَّت المسافة بين مصر وكنعان بعشرة أيّام في بعض الروايات، وبثمانية أيّام في بعضها الآخر وفي روايات اخرى بثمانين فرسخاً «1».

ولا دليل على حمل الآية على المعنى المجازي والقول بأن شم رائحة القميص كناية عن قرب لقائه بيوسف حيث ألهم الأب بذلك اللقاء (مثل قولنا نشم رائحة انتصار المسلمين على الأعداء)، وذلك لأنّه مع امكان حمل الألفاظ على الحقيقة لا يمكن الحمل على المجاز.

وفي النهاية نستنتج أنّ مكاشفة حصلت ليعقوب ورفعت عنه الحجب، وباحساس يفوق الاحساس الظاهري استطاع أن يشم رائحة قميص ابنه من بعيد.

ج ج

وقد تحدثت الآية الثامنة والأخيرة عن قصة تمثّل الملك الإلهي لمريم حيث يقول القرآن في هذا المجال بصراحة:

لقد انفصلت مريم عن أهلها في الضفة الشرقية من «بيت المقدس»، واتخذت حجاباً بينها وبين الناس (وهذا الحجاب إمّا أن يكون لأجل التفرغ للعبادة والنجوى أكثر، أو أن يكون لأجل التطهر والغسل)، وأيّما كان فإنّ اللَّه أرسل إليها روحه، فتمثل لها بشراً وإنساناً سويّاً أي كاملًا من دون عيب وذا قامة ووجه جميل، ففزعت مريم في الوهلة الاولى لكنها اطمأنت عندما قال لها: «إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبّكِ لِاهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً» أي عيسى عليه السلام. (مريم/ 19)

______________________________

(1). تفسير مجمع البيان، ج 5، ص 262؛ تفسير الكبير، ج 18، ص 207.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 205

واستمر الحديث بينهما طويلًا، وقد ذكر في سورة مريم «1».

و قد ادعى البعض أنّ الملك تمثل لمريم في حس الباصرة فقط، (وليس في الخارج)، لكن هذا خلاف الظاهر ولا دليل عليه، والقرائن على أنّ هذا الشهود قد حصل لمريم فقط، ويحتمل أنّه إذا كان أحد معها ما كان قادراً على الرؤية، وعليه فالآية قرينة اخرى على مسألة

إمكانية الشهود حتى لغير الأنبياء.

النتيجة:

نستنتج ممّا تقدم أنّ هناك مصدراً للمعرفة غير المصادر التي قرأنا عنها إلى الآن، وهو مصدر مبهم وغامض بالنسبة لنا، لن يستفاد وجوده من آيات القرآن بوضوح، وهو لا يختص بالأنبياء والأئمّة، بل قد يحصل لغيرهم أيضاً، وإذا شككنا في بعض الآيات في مجال استفادة هذا المصدر منها، فإنّ هذا المصدر يُستشف من مجموع الآيات.

بالطبع، إنّ هذا الحديث لا يعني فسح المجال أمام كل من يدعي الكشف والشهود، بل إنّ لهما علائم سنشير إليها فيما بعد إن شاء اللَّه.

توضيحات

1- نماذج جميلة من الكشف والشهود في الأحاديث الإسلامية

إنَّ الروايات التي كشفت عن مصدر المعرفة ليست بالقليلة وقد وصلت إلى حد «الاستفاضة» حسب تعبير علماء الحديث، وقد أوردنا هنا نماذجاً من هذه الروايات:

1- ذكر في تاريخ معركة الأحزاب أنّ المسلمين عند حفرهم للخندق حول المدينة

______________________________

(1). راجع تفسير الأمثل، ذيل الآيه 19 من سورة مريم.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 206

(كوسيلة دفاعية أمام العدو) خرجت عليهم صخرة كسرت المعول، فأعلموا النبي صلى الله عليه و آله، فهبط إليها ومعه سلمان فأخذ المعول وضرب الصخرة ضربة صدعها، وبرقت منها برقة أضاءت ما بين لابتي المدينة، فكبر رسول صلى الله عليه و آله والمسلمون، ثم الثانية كذلك، ثم الثالثة، ثم خرج وقد صدعها، فسأله سلمان عمّا رأى من البرق، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «أضاءت الحيرة وقصور كسرى في البرقة الاولى وأخبرني جبرئيل أنّ امتي ظاهرة عليها، وأضاء لي في الثانية القصور الحمر من أرض الشام والروم، وأخبرني أن أمتي ظاهرة عليها، وأضاء لي في الثالثة قصور صنعاء، وأخبرني أن امتي ظاهرة عليها، فأبشروا، فاستبشر المسلمون» «1».

لم يصدق المنافقون هذه البشارة التي ساقها الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وأخذوا يستهزئون بقولهم: يا للعجب

كيف رأى قصور الحيرة وقصور ملوك ايران والروم واليمن من المدينة وكيف بشر بالانتصار على هؤلاء ونحن الآن محاصرين من قبل مجموعة من جيش اعراب مكة؟ إنّ هذا الكلام لا أساس له ولا حقيقة.

إلّا أنّ الحوادث المستقبلية أثبتت صحة ما قاله الرسول صلى الله عليه و آله.

وقد يحمل البعض الشهود هنا على معنىً مجازي، لكن لا مبرر لهذا الحمل مع إمكان الحمل على المعنى الحقيقي.

2- لقد ورد في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام حول معركة مؤتة (التي وقعت بين المسلمين والروم الشرقية في شمال الجزيرة): «أنّ المسلمين عندما ذهبوا للقتال بقيادة جعفر بن أبي طالب، فإنّ الرسول صلى الله عليه و آله كان يوماً في المسجد وقد تسطحت له الجبال والارتفاعات فشاهد جعفراً يقاتل الكافرين ثم قال: قتل جعفر» «2».

وقد جاءت تفاصيل اخرى عن هذا الموضوع في روايات اخرى حدث أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله ارتقى يوماً المنبر بعد صلاة الصبح، فصوَّر للمسلمين ساحة المعركة في مؤتة بدقة، وتحدّث بالتفصيل عن شهادة «جعفر» و «زيد بن حارثة» و «عبداللَّه بن رواحة» وكأنّه يرى المعركة بأم عينيه، والجدير بالذكر أنّ التواريخ المعروفة- عند ايرادها لهذه القصة-

______________________________

(1). الكامل في التاريخ، ج 2، ص 179.

(2). بحار الأنوار، ج 21، ص 58، ح 9.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 207

نقلت هذا الحديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إنّ الشهداء الثلاثة حُملوا إلى السماء على سررٍ من ذهب ورأيت نقصاً في سرير «عبداللَّه بن رواحة» قياساً لسريري الشهيدين الآخرين، فسِئل عن سبب هذا؟ قال: مضيا، وتردد بعض التردد ثم مضى ، فالتعبير بالرؤية في الرواية له معنىً عميق وهو نموذج من نماذج

الشهود.

3- وهناك حديث في تفسير الآية: «وَانَّ مِنْ اهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا انْزِلَ الَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ الَيْهِمْ . (آل عمران/ 199)

يقول: إنّ سبب نزول الآية هو النجاشي ملك الحبشة، فانه عندما توفي أخبر جبرئيل الرسول بالأمر، فدعا الرسول المؤمنين لأنّ يصلُّوا على أحد اخوتهم، فسألوا: من هو؟

أجاب: النجاشي.

ثم جاء الرسول إلى مقبرة البقيع، فتجلت له بلاد الحبشة وتابوت النجاشي من المدينة، فصلّى عليه «1».

4- وقد جاء في تاريخ ام الرسول آمنة عليها السلام، أنّها نزل عليها ملك عندما كان الرسول في رحمها وقال لها: إنّ في رحمك سيد هذه الامّة فقولي عند ولادته: إني أعوذ باللَّه الأحد من شرِّ الحاسدين، وسمّيه «محمداً»، وقد شاهدت عند حملها أنّه خرج منها نور أضاء لها قصور بُصْرى من أرض الشام! «2».

وهذا الحديث يكشف عن إمكان حصول حالة الشهود لغير الأنبياء والأئمّة.

5- وفي الحديث المعروف: أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان في بعض حيطان فدك وفي يده مسحاة فهجمت عليه امرأة من أجمل النساء فقالت: يا ابن أبي طالب إن تزوجتني أغنك عن هذه المسحاة وأدلك على خزائن الأرض ويكون لك الملك ما بقيت، قال لها: «فمن أنتِ حتى أخطبك من أهلكِ؟».

قالت: أنا الدنيا: فقال عليه السلام: «ارجعي فاطلبي زوجاً غيري فلست من شأني فأقبل على مسحاته وأنشأ».

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 8، ص 411.

(2). سيرة ابن هشام، ج 1، ص 166.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 208 لقد خاب من غرّته دنيا دنيةٌوما هي إن غرت قروناً بطائلِ

اتتنا على زي العروس بثينةٌوزينتها في مثل تلك الشمائلِ

... الخ «1».

وقد حمل البعض الرواية على «التشبيه» و «التمثيل» و «المجاز» لكنا إذا أردنا حفظ الظاهر، فمفهومها هو أنّ الدنيا تمثلت

للإمام علي عليه السلام في عالم المكاشفة في صورة امرأه جميلة وأجابها عليه السلام بالسلب.

وقد نقل تمثل الدنيا للمسيح عليه السلام كذلك في صورة امرأة مخادعة مع اختلاف بسيط عمّا نقل عن الإمام علي عليه السلام «2».

6- وقد جاء في أحوال الإمام السجاد عليه السلام (وعندما كانت فتنة عبداللَّه بن الزبير في الحجاز مستعرة والكل كان يترقب نهاية الأمر) أنّ الإمام عليه السلام قال: «خرجت حتى انتهيت إلى هذا الحائط فاتكأت عليه فإذا رجل عليه ثوبان أبيضان ينظر في تجاه وجهي ثم قال: يا علي بن الحسين ما لي أراك كئيباً حزيناً؟ أعلى الدنيا؟ فرزق اللَّه حاضر للبر والفاجر، قلت:

ما على هذا أحزن وأنّه لكما تقول، قال: فعلى الآخرة؟ فوعد صادق يحكم فيه ملك قاهر- أو قال قادر- قلت: ما على هذا أحزن وأنّه لكما تقول: فقال: مم حزنك؟ قلت: ممّا نتخوف عليه من فتنة ابن الزبير وما فيه الناس قال: فضحك ثم قال: يا علي بن الحسين هل رأيت أحداً دعا اللَّه فلم يجبه؟ قلت: لا، قال: فهل رأيت أحداً توكل على اللَّه فلم يكفه؟ قلت: لا، قال: فهل رأيت أحداً سأل اللَّه فلم يعطه؟ قلت: لا، ثم غاب عني» «3».

7- وفي حديث آخر للإمام نفسه عليه السلام يقول فيه: «كأنّي بالقصور وقد شيدت حول قبر الحسين عليه السلام وكأنّي بالأسواق قد حفت حول قبره فلا تذهب الأيّام والليالي حتى سار إليه

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 40، ص 328، ح 10.

(2). بحار الأنوار، ج 70، ص 126 باب حب الدنيا و ذمها، ح 120.

(3). اصول كافي، ج 2 باب التفويض إلى اللَّه، ح 2.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 209

من الآفاق وذلك عند انقطاع ملك بني

مروان» «1».

8- جاء في أمالي الصدوق عن أحوال الحر بن يزيد الرياحي:

لما خرجت من الكوفة نوديت أبشر يا حُر بالجنة.

فقلت: ويلٌ للحر يبشر بالجنة وهو يسير إلى حرب ابن بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟! «2»

9- وقد جاء في حديث معروف دار بين ام سلمة زوجة الرسول صلى الله عليه و آله والإمام الحسين عليه السلام أنّ الإمام عليه السلام أراها كربلاء ومحل شهادته «3».

10- وقد نقلت حكايات متعددة عن العلماء العظام والمتقين والمؤمنين الصادقين في مجال المكاشفات وذكرها هنا يطيل بحثنا- إلّاأنّه ينبغي القول بانها خرجت عن فحوى الخبر الواحد ووصلت إلى درجة الاستفاضة ويمكنها أن تكون مؤيداً جيداً لموضوعنا.

2- كيف تُرفع الحجب؟

إضافة إلى الأحاديث السابقة التي تمثل نماذج عملية لمسألة الكشف والشهود، هناك تعابير في الروايات تدل على أنّ الإنسان كلما ازداد إيمانه ويقينه زالت عنه الحُجُب والصفات الذميمة (التي اصطنعها الإنسان نفسه بذنوبه) عن قلبه وتكشفت له حقائق أكثر عن الكون إلى درجة تمكنه من النظر إلى ملكوت السموات والأرض كما نظر إبراهيم الخليل.

إنّ قلب الإنسان وروحه كالمرآة التي حال غبار المعصية والصدأ الذي تراكم عليها من انعكاس الحقائق، لكنها عندما تُجلى بماء التوبة، ويزول غبار المعاصي عنها، ويطهرُ القلب جيداً، فإنّ الحقائق ستسطع فيها ويكون صاحبها أمين أسرار اللَّه، فيسمع نداءاته التي لا

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 98، ص 114، كتاب المزار، ح 36.

(2). أمالي الصدوق، ص 93، مجلس 30.

(3). مدينة المعاجز، ص 224.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 210

يسمعها إلّامن اؤتمن.

ويمكن أن نجعل الأحاديث التالية شواهداً على ما قلناه!

1- يقول الرسول صلى الله عليه و آله في ضمن حديث له: «لولا أنّ الشياطين يحومون إلى قلوب بني آدم لنظروا إلى الملكوت» «1».

2- وقد

جاء في خبر آخر عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أيضاً: «ليس العلم بكثرة التعلّم، وإنّما العلم نور يقدفه اللَّه في قلب من يحب، فينفتح له، ويشاهد الغَيب، وينشرح صدره فيتحمّل البلاء، قيل: يا رسول اللَّه هل لذلك من علامة؟ قال: التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله» «2».

3- وقد وصف نهج البلاغة حُجَجَ اللَّه على الناس في الأرض هكذا: «هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة وباشروا روح اليقين، واستدانوا ما استعوره المُترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها مُعلَّقة بالمحلِّ الأعلى أولئك خلفاء اللَّه في أرضه والدعاة إلى دينه» «3».

4- وقد جاء في حديث «ذعلب اليماني» الخطيب النبه الذي كان من صحابة الإمام علي عليه السلام: سأل الإمام يوماً هذا السؤال: «هل رأيت ربَّك يا أمير المؤمنين»؟

أجاب الإمام: «أفأعبد ما لا أرى ؟!

فقال: «وكيف تراه»؟

فقال الإمام: «لا تدركه العيون بمشاهدة العيان، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان» ثم أضاف: «قريبٌ من الأشياء غير ملابس، بعيد منها غير مباين» «4».

ليس مراد الإمام من إدراك اللَّه إدراك بالاستدلال العقلي، وهذا واضح، لأنّ هذا الأمر حاصل لجميع الموحدين وحتى لتلك العجوز صاحبة الغزل المعروفة، فانّها تستدل على

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 70، ص 59، ح 39، باب القلب وصلاحه.

(2). تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص 267.

(3). نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 147.

(4). نهج البلاغة، الخطبة 179.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 211

وجود اللَّه بحركة آلة الغزل التي تحتاج إلى محرك، فكيف بالفلك العظيم والسموات والأرضين.

فالمراد- إذن- إدراك للَّه يفوق الإدراك الطبيعي، أي الشهود الباطني، فانّه يرى اللَّه به واضحاً بدرجة وكأنه يراه بعينيه. (فدقق).

5- وقد جاء في حديث معروف للإمام

أمير المؤمنين عليه السلام: «لو كشف لي الغطاء ما ازددتُ يقيناً» «1».

أي أنّي أرى جميع الحقائق من وراء ستار الغيب، أراها بالشهود الباطني، وبصيرتي تشق حاجز الغيب وتنفذ فيه.

6- قال الإمام علي بن الحسين عليه السلام: «ألا إنّ للعبد أربع أعيُن: عينان يُبصر بهما دينه ودنياه، وعينان يُبْصر بهما أمر آخرته، فإذا أراد اللَّه بعبد خيراً فتح له العينين اللتين في قلبه، فأبصر بهما الغيب وأمر آخرته» «2».

وقد جاءت روايات عن الشيعة الصادقين يشبه مضمونها مضمون هذا الحديث «3».

7- ونقرأ في حديث الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ الرسول صلى الله عليه و آله رأى يوماً الصحابي «حارثة» فسأله عن حاله».

فاجابه حارثة: «يا رسول اللَّه مؤمن حقّاً»!

فقال رسول صلى الله عليه و آله: «لكلِّ شي ءٍ حقيقةٌ فما حقيقة قولك؟».

فأجابه حارثة: «يا رسول اللَّه عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت هواجري وكأنّي انظر إلى عرش ربي وقد وضع للحساب وكأني انظر إلى أهل الجنه يتزاورون في الجنة وكأنّي اسمع عواء اهل النار في النار».

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «عبدٌ نوّر اللَّه قلبه أبْصَرْتَ فاثبت».

______________________________

(1). غرر الحكم.

(2). خصال الصدوق، ص 265، ح 90.

(3). بحار الأنوار، ج 67، ص 58، ح 35.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 212

فقال حارثة: «يا رسول اللَّه ادعُ اللَّه لي أن يرزُقني الشهادة معك».

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «اللهُمَّ ارزق حارثة الشهادة».

ولم تمضِ أيّام كثيرة حتى أرسل الرسول فريقاً لاحدى المعارك وكان معهم حارثة فقاتل وقَتل ثمانية أو تسعة من الأعداء ثم قُتِلَ شهيداً «1».

8- وقد جاء في حديث للرسول صلى الله عليه و آله نقل في كتب أهل السنة: «لولا تكثير في كلامكم وتمريج في قلوبكم لرأيتم ما

أرى ولسمعتم ما أسمع» «2».

إنّ هذه الأحاديث وأحاديث اخرى من هذا النوع، وضحت العلاقة بين الكشف الروحاني والإيمان واليقين، وبينت امكانية حصول الإنسان- بالتكامل المعنوي- على هذا الإدراك الذي لا نعلم عنه غير أنّه موجود فحسب.

3- سبعة منامات صادقة في القرآن المجيد
اشارة

تعتبر «الرؤيا الصادقة» احدى فروع الشهود والكشف، والمنامات الصادقة هي التي تتحقق وتطابق الواقع، فتُعد منامات كهذه نوعاً من الكشف.

إنّ الفلاسفة الروحيين- خلافاً للفلاسفة الماديين الذين يعتقدون بأنّ الرؤيا هي وليدة النشاطات اليومية أو الآمال غير المتحققة أو الخوف من الامور المختلفة- وهولاء يعتقدون أنّ الرؤيا تنقسم إلى الأقسام التالية:

1- الرؤيا التي تتعلق بالذكريات والميول والآمال.

2- الرؤيا غير المفهومة والمضطربة ويعبر عنها ب «أضغاث أحلام» وهي نتيجة قوة الوهم والخيال.

3- الرؤيا التي تتعلق بالمستقبل وترفع الستار عن بعض أسرار الإنسان، وبتعبير آخر أنّها شهود يحصل للإنسان وهو نائم.

______________________________

(1). اصول الكافي، ج 2، ص 54 باب حقيقة الإيمان واليقين، ح 3.

(2). تفسير الميزان، ج 2، ص 292.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 213

لا دليل للفلاسفة الماديين على نفي القسم الثالث، بل لدينا قرائن كثيرة تثبت واقعية هذا القسم من الرؤيا، وقذ ذكرنا عدّة نماذج حية لا تقبل الخطأ والمناقشة في التفسير الأمثل «1».

والجدير ذكره أنّ القرآن ذكر سبعة موارد على الأقل من موارد الرؤيا الصادقة، وذكرها هنا يناسب تفسيرنا الموضوعي:

1- تحدث القرآن في سورة الفتح عن الرؤيا الصادقة للرسول، حيث رأى نفسه مع أصحابه يدخلون مكة لأداء مناسك العمرة وزيارة بيت اللَّه الحرام، فأفصح الرسول عن منامه هذا للمسلمين ففرحوا، إلّاأنهم تصوروا أن الرؤيا هذه تحققت في السنة السادسة عندما حصل صلح الحديبية، ولم يحصل الفتح يومذاك، إلّاأنّ الرسول طمأنهم بأنّ الرؤيا صادقة وستتحقق يوماً ما.

وقد أجاب القرآن أولئك الذين شككوا في

صدق الرؤيا بقوله:

«لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَاتَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتَحاً قَرِيباً».

(الفتح/ 27)

تحقق المنام بجزئياته في ذي القعدة من السنة السابعة للهجرة، وقد عرفت العمرة في تلك السنة ب «عمرة القضاء» لأنّ المسلمين كانوا قاصدين أداءها في السنة السادسة، لكن قريش منعتهم منها.

رغم أنّ المسلمين دخلوا مكة (التي تعتبر مركزاً لقدرة المشركين وسلطانهم) من دون سلاح، إلّاأنّ ابهتهم كانت مشهودة للأعداء، وقد صدق عليهم تعبير «آمنين» و «لا تخافون» بالكامل فأدوا مراسم زيارة بيت اللَّه وبه تحقق منام الرسول صلى الله عليه و آله بجميع خصوصياته رغم أن تخمين وقوع أمرٍ كهذا كان شبه مستحيل، وهذا من عجائب تاريخ الإسلام.

2- وقد أشير في سورة الاسراء إلى رؤيا اخرى للرسول صلى الله عليه و آله إشارة عابرة وقصيرة حيث قال تعالى:

______________________________

(1). التفسير الأمثل، ذيل الآيه 60 من سورة الإِسراء.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 214

«وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِى الْقُرآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً». (الاسراء/ 60)

وقد نقل مفسرو الشيعة والسنة حديثاً معروفاً جاء فيه: أنّ الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله رأى في المنام قروداً ترتقي منبره وتنزل منه، فحزن الرسول من جراء هذا الأمر، لأنّه يحكي عن الحوادث المفاجئة في قيادة المسلمين بعد الرسول صلى الله عليه و آله (إنّ الكثير فسّرَ المنام بحكومة بني امية، حيث خلفوا الرسول- ظلماً- واحداً بعد الآخر وأفسدوا في الخلافة، وكانوا فاقدي الشخصية واتبعوا ما كان عليه آباؤهم في الجاهلية) «1».

وادعى البعض أنّ هذه الرؤيا هي نفس رؤيا دخول مكة، بينما سورة الاسراء نزلت بمكة،

والرؤيا كانت في المدينة وقبل واقعة صلح الحديبية في السنة السادسة الهجرية.

وقد رجح البعض مثل الفخر الرازي أن تكون الرؤيا بمعنى المشاهدة في حالة اليقظة، والآية تشير إلى مسألة المعراج «2».

لكن هذا التفسير ضعيف لأنّ المعنى الأصلي واللغوي للرؤيا هو المشاهدة عند النوم لا في اليقظة، وعليه فالصحيح هو التفسير الأول.

أمّا المراد من «الشجرة الملعونة»، فقد ادعى البعض: إنّها هي «شجرة الزقوم» التي تنبت في قعر جهنم طبقاً للآيه 64 من سورة الصافات، وهي طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون طبقاً للآيات 46 و 47 من سورة الدخان.

وادعى بعض آخر: إنّها كناية عن اليهود العصاة، فانّهم كالشجرة مع ما فيها من غصون وأوراق إلّاأنّهم ملعونون عند اللَّه.

إلّا أنّها فُسِّرت في كثير من كتب الشيعة والسنة ببني امية، وقد نقل الفخر الرازي هذا

______________________________

(1). تفسير الكبير، ج 20، ص 236.

(2). جاءت هذه الرواية في تفسير القرطبي ومجمع البيان والصافي والكبير، وقد قال الفيض الكاشاني: إنّها من الروايات المشهورة عند العامة والخاصة.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 215

التفسير عن ابن عباس المفسّر الإسلامي الكبير «1»، وهذا التفسير يتفق مع رؤيا الرسول صلى الله عليه و آله بالكامل.

قد يقال: لِمَ لم يُشِر القرآن إلى الشجرة الملعونة في القرآن المجيد؟ إلّاأنّ هذا الإشكال يُحلُ بالالتفات إلى لعن المنافقين بشدّة في سورة محمد صلى الله عليه و آله الآية 23، وبني امية من طلائع النفاق في الإسلام.

إضافة إلى هذا، فإنّ تعبير القرآن «نُخَوِّفُهُم فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيرَا» يصدق عليهم بالكامل.

وقد جاء في رواية أن عدداً من صحابة الإمام الصادق عليه السلام سألوه نفسه أو أباه عليه السلام عن المراد من الشجرة الملعونة في الآية، فأجابهم: «بني امية» «2».

وقد نقل نفس المضمون عن

أمير المؤمنين عليه السلام وكذلك عن الإمام الباقر عليه السلام، وقد ذكر علي بن ابراهيم الروايات الثلاث في تفسيره «3».

وقد نقل السيوطي في تفسيره «الدر المنثور» روايات كثيرة عن الشجرة الملعونة، ورؤيا الرسول صلى الله عليه و آله، حيث فُسِّرت الشجرة الملعونة في بعضها ببني امية وفي بعضها ببني الحكم وبني العاص، وكلهم من شجرة خبيثة واحدة «4».

وعلى أيّة حال، فإنّ رؤيا الرسول صلى الله عليه و آله تحققت بعد رحيله، وخلفته الشجرة الملعونة نسلًا بعد نسل، وكانوا بلاءً عظيماً على المسلمين، وامتحاناً كبيراً لهم.

3- والرؤيا الصادقة الاخرى هي رؤيا إبراهيم الخليل عليه السلام فيما يخص ذبح اسماعيل عليه السلام، فانّه كان محلًا لامتحان عظيم للوصول إلى مقام الإمامة وقيادة الامة الرفيع،

______________________________

(1). نقلها القرطبي عن ابن عباس في تفسيره، ج 6، ص 3902؛ ونقلها الفخر الرازي عنه أيضاً في التفسير الكبير، ج 20، ص 237.

(2). تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 180، ح 278.

(3). تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 180 و 181، ح 282 و 283 و 286.

(4). تفسير الميزان، ج 13، ص 175.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 216

فقد أُمر بذبح ابنه العزيز «اسماعيل»، رغم أنّ الأمر أوحي إليه وهو نائم، أي أنّ الايعاز كان مناماً لا شيئاً آخر، ولنقرأ ما يقوله القرآن في هذا المجال:

«فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ قَالَ يا بُنَىَّ إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنّى أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِى إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ . (الصافات/ 102)

إنّ التعبير ب «أرى الذي هو فعل مضارع يفيد الاستمرار يدل على أنّ ابراهيم عليه السلام كان يرى الرؤيا كراراً، بحيث حصل له اطمئنان بأنّ الأمر من اللَّه، ولهذا

أجابه اسماعيل بهذا الجواب: «يَا أَبتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِى إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ .

ولهذا السبب نفسه جاء في الآيتين: «وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ* قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا».

(الصافات/ 104- 105)

والحادث هذا، دليل واضح لأولئك الذين يقولون بامكانية عد الرؤيا الصادقة نوعاً من أنواع الوحي للانبياء والرسل، كما أنّه قد جاء في بعض الروايات: «إنّ الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزءً من النبوة» «1».

وقد شكك بعض الاصوليين في مسألة نسخ الحكم قبل العمل به إلّاأنّ كلامهم- وكما ذُكِرَ في محله- يختص بالأوامر غير الامتحانية، أمّا في الامتحانية فهو غير صادق، والتعبير ب «قد صدَّقَتْ الرؤيا» دليل على أنّ إبراهيم عليه السلام قد أدى ما عليه بما جاء به من تهيئة المقدمات لهذا الإيثار الكبير.

4- ومن الرؤى الصادقة في القرآن، هي رؤيا يوسف في بيت أبيه، حيث أشارت إليها الآيات الاولى من سورة يوسف:

«إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ . (يوسف/ 4)

تنبأ يعقوب مستقبل يوسف والحوادث المقبلة عليه فبشره: «يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ... وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ . (يوسف/ 6)

يعتقد بعض المفسرين أنّ يوسف رأى هذا في المنام وهو في الثانية عشرة من عمره، وقد

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 58، ص 167 و 177 و 178.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 217

تحقق منامه بعد أربعين سنة حيث جلس على عرش الحكومة في مصر، وجاءه اخوته مع أبويه خاضعين له، أو ساجدين للَّه شكراً، كما أُشير إلى ذلك في نهاية السورة:

«وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاىَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّى حَقّاً». (يوسف/ 100)

إنّ هذا الحديث يحكي بوضوح عن إمكانية تحقق أحلامٍ صادقة انعكست

من قلب طاهر قبل أربعين سنة رغم أنّه لم يُذكر العدد 40 سنة في آيات القرآن، إلّاأنّ المستفاد من قرائن الآيات أنّ الفاصل بين المنام وتحققه كان طويلًا جداً.

وجدير بالذكر هنا أنّ من ضمن البشائر التي بشر يعقوب بها يوسف هذه البشرى

«وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَاديثِ . (يوسف/ 6)

وهذه الجملة (سواء عنت علم تعبير المنام كما يعتقده كثير من المفسرين أو عنت مفهوماً أوسع من ذلك ليشمل الخبرة والإحاطة باصول وأسباب الحوادث ونتائجها) «1»، فانّها على كل حالٍ دليل واضح على امكانية صدق بعض الرؤى وتحققها عيناً وواقعاً في الخارج.

5 و 6- المنامان اللذان رآهما صاحبا يوسف في السجن عندما كان مسجوناً بذنب طهارته، فيحكي اللَّه قصتهما في نفس السورة ويقول:

«وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ انِّى أَرَانِى أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الُمحْسِنِينَ .

(يوسف/ 36)

فدعاهما يوسف للتوحيد وعبادة اللَّه قبل أن يُأوّل ما رأيا، ثم قال للذي رأى أنّه يعصر خمراً أي عنباً: إنّك تخرج من السجن، وقال للذي رأى فوق رأسه خبزاً يأكل منه الطير:

إنّك ستحكم بالإعدام وقد تحقق المنامان (من المتعارف في بيئة فاسدة وحكومة جبارة مثل بيئة وحكومة مصر آنذاك حيث يحكم على يوسف بالسجن بذنب العفة والطهارة، أن يطلق سراح الذي يسالم الحكومة ويحضر الخمر لطغاتها، أمّا الذين يتحلون بروح الدفاع

______________________________

(1). تفسير الميزان، ج 11، ص 86.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 218

عن المستضعفين ويعطون خبزاً للطيور فيحكم عليهم بالاعدام).

وعلى أيّة حال، فإنّ هاتين الرؤيتين اللتين حكاهما القرآن بصراحة يكشفان عن امكان اعتبار الرؤيا كمصدر للمعرفة، بالطبع لا كل رؤيا ولا كل معبّر ومفسر لها.

7- رؤيا سلطان مصر

التي جاءت في نفس السورة، وهي نموذج واضح آخر للرؤيا الصادقة، يحكي القرآن هذه الرؤيا قائلًا:

«وَقَالَ الْمَلِكُ انِّى أَرَى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ واخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِى فِى رُؤْيَاىَ انْ كُنْتُم لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ . (يوسف/ 43)

وبما أنّ حاشية الملك لم يكونوا خبراء بتعبير الرؤيا، قالوا له: «أضغاث أحلامٍ وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين».

يحتمل أنّهم أرادوا طمأنة سلطان مصر بحديثهم هذا (ينبغي الالتفات إلى أنّ ملك مصر وفرعونها هو الحاكم العام لمصر، بينما عزيز مصر هو- كما يقول بعض المفسرين- وزير الخزينة، واسم فرعون المعاصر ليوسف هو «ريان بن وليد» واسم عزيز مصر «قطفيرعطفير» «1».

فتذكَّر عندها ساقي الملك الذي اطلق سراحه من السجن بعد أن رأى الرؤيا وأولها يوسف، فحكى القصة للملك فبعث الملك شخصاً إلى يوسف كي يأوّل المنام، فأوله هكذا:

«قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَآ حَصَدْتُّمْ فَذَرُوهُ فِى سُنْبُلِهِ الَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ* ثُمَّ يَأْتِى مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ الّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ .

(يوسف/ 47- 48)

وقد تحقق المنام بعد ذلك، وعندما شاهدوا الصدق والمعرفة في يوسف عليه السلام، أطلقوا سراحه، وقد أدى به الأمر أن أصبح عزيز مصر ووزير الخزينة، ثم من بعده أصبح ملك مصر كلها مع سعتها وعمرانها.

______________________________

(1). نقل هذا المضمون في التفسير الكبير للفخر الرازي، ج 18، ص 108 (وللتفصيل يراجع «اعلام القرآن»، ص 673، كما قد صرّح «ابو الفتوح الرازي» أن نهاية يوسف وصوله إلى سلطة مصر» تفسير روح الجنان، ج 6، ص 401.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 219

النتيجة:

يستفاد من الآيات السابقة إمكانية كون بعض الرؤى مصدراً لإدراك بعض الحقائق، وبتعبير آخر، فإنّ مسألة الكشف والشهود يمكنها أن

تحصل في المنام كما تحصل في اليقظة، وهذه الرؤى على ثلاثة أقسام (طبقاً للآيات السابقة):

1- بعض الرؤى تتحقق في الخارج عيناً من دون أي تغيير، مثل رؤيا الرسول، زيارته مع الصحابة لبيت اللَّه الحرام التي جاءت في سورة الفتح.

2- منامات تتحقق وهي بحاحة إلى تفسير وتعبير، وتتحقق بتفسيرها لا بعينها، ولا يفسرها إلّاالخبير بها، مثل المنامات الأربعة التي حصلت ليوسف ولصاحبيه في السجن ولملك مصر، وقد ذكرت كلها في سورة يوسف.

3- الرؤيا التي فيها جانب حكم وإيعاز، وتُعدُّ نوعاً من الوحي يحصل عند النوم مثل رؤيا إبراهيم عليه السلام.

بالطبع ليس مفهوم الكلام هذا أنّ كل منام يُعدُّ كشفاً أو شهوداً، بل إنّ كثيراً من المنامات تُعدُّ أضغاث أحلامٍ، وتفتقد لأي معنىً، وهي رؤى ناتجة عن نشاط قوّة الوهم، أو عن الحرمان والكبت والمآسي وعدم الراحة والأذى

ج ج

سؤال:

قد يسأل البعض عن المنامات التي تتعلق بحوادث المستقبل، فهل هي نوع من العلم؟

أم هي (كما يعتقد فرويد العالم النفساني المعروف) لا شي ء سوى إرضاء للشهوات والميول المكبوتة والحرمان الحاصل للإنسان، فتتجلى له في المنام مع تغيّر وتبدّل لخداع «الأنا» ولإرضاء الشهوة المكبوتة فإنّ الحلم إشباع خيالي لها، وقد ينعكس هذا الميل بنفسه عيناً في الحلم (مثل رؤية عاشق لمعشوقته الفقيدة عيناً) وقد ينعكس في منامه مع تغيير وتبديل، فيحتاج حينها إلى تعبير وتفسير.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 220

الجواب:

إنّ ما يقوله فرويد هو فرضية لا أكثر، وفي الحقيقة لا دليل على ما يدعيه أبداً، فقد تكون بعض المنامات مصداقاً لما يدعيه، أمّا كون الأحلام كلها من هذا القبيل فهذا ما لا دليل له عليه «1».

نحن نعتقد أن للمنامات أقساماً، وقسم منها هو الرؤيا الصادقة، ونعدها وسيلة للكشف أي كشف بعض الحقائق،

وهذه حقيقة استفدناها من القرآن (الذي هو وحي الهي) بالدرجة الاولى وبالدرجة الثانية من التجارب التي حصلت في هذ المجال، ليس المراد تلك الحكايات التي لا سند لها، بل المراد الحوادث التي وقعت لشخصيات كبيرة ومعروفة في عصرنا أو في العصور الماضية، وقد نقلوا هذه المنامات في كتبهم (وقد أشرنا إلى بعض من نماذجها الواضحة في الجزء التاسع من التفسير الأمثل).

ومن هنا يعرف أنّه لا يمكن عدّ الرؤيا لوحدها مصدراً للمعرفة، ولهذا يقال بعدم حجية الرؤيا، بل ينبغي ضم قرائن من الخارج موضحة ولا تقبل النفي، لتصبح الرؤيا مصدراً مقبولًا للمعرفة.

4- المكاشفات الرحمانية والمكاشفات الشيطانية

قد نستغني عن التذكير بأنّه كما يوجد كشف وشهود واقعي يحصل تارة بالإيمان واليقين الكامل، وتارة اخرى بالرياضات النفسية، فانّه يوجد كشف وشهود وهمي كثير، فقد يحصل هذا الكشف بسبب التلقينات المكررة وانحراف الذهن والفكر عن جادة الصواب، وتارة بسبب الالقاءات الشيطانية، فتتمثل في ذهن الإنسان صور وحوادث لا واقع لها، إنّها

______________________________

(1). لم يكتشف العلماء منشأ النوم (لا المنام) بعد، فلا يعلمون هل أنّ منشأه نشاط فيزيائي أم كيميائي أم كلاهما، أَم ناشي ء عن نشاط الجهاز العصبي، فإذا كان النوم نفسه لغزاً لم يُحل بعدُ، فكيف يمكن القول بحل مسألة المنام التي هي أعقد من مسألة النوم أضعافاً مضاعفة!

نفحات القرآن، ج 1، ص: 221

مجموعة أوهام لا أكثر، ومن هذا القبيل الكشف والشهود الذي يدعيه كثير من «الصوفية»، فإنّ المريد البسيط يعتقد في بداية عمله (من جراء الإعلام والدعاية التي يتلقاها من البعض) أنّه ينبغي له أن يرى مرشده الحقيقي في المنام، وتقوى هذه الفكرة عنده كل يوم، فيتوقع في كل يوم رؤية جمال مرشده ومراده في عالم الرؤيا يزوره ويرشده (غالباً ما يضع أشخاصاً

معينين نصب عينيه لهذا المنصب، وإذا لم يعينهم بالدقة فانّه يعين صفات ومميزات خاصة لهم).

قد يفقد هذا الصوفي توازن فكره الطبيعي من جراء الرياضات الروحية الشاقة وانحراف المزاج، فتزداد قدرة الوهم عنده، فيرى في المنام يوماً أشخاصاً قريبين- من حيث الصفات والميزات- من الأشخاص الذين رسمهم في ذهنه، وقد يتطابقون في الصفات بالكامل، وقد يحصل هذا في عالم اليقظة، لأنّ عيني هذا السالك البسيط انّشدت إلى الطريق، واذنيه صاغيتان إليه دائماً فهو يتنظر دائماً أن ينفتح له باب من ذلك العالم: فتنمو هذه الفكرة عنده ليلًا ونهاراً، وقد تصنع قوة الوهم عنده- لا إرادياً- صوتاً ينقر اذنه، أو تتمثل أمامه صورة، فيتخذها أساس اعتقاده.

كما أنّ الاستماع إلى المواضيع المؤنسة والمنشطة (التي قد تبين في اطار إشارات جميلة وتتزامن مع ألحان مخدِّرة، يزيد من تأثير التلقينات عليه أضعافاً مضاعفة.

إنّ تلك الفرقة من الصوفيين الذين يؤيدون «الوجد والسماع» «1»، يذوبون فيهما بشكل حيث يفقدون توازنهم، ويُعطَّل العقل عندهم، فيتركون الساحة فارغة لقوة الوهم، وأولئك الغارقون في وهم الكشف والشهود ومشاهدة عالم الغيب يسيرون في عوالم خيالية تتوقف سعتها على شدّة الوهم والخيال عندهم، فتتمثل أمامهم صور مثل بحار النور، وجبل الطور، والسموات السبع والأرضين السبع، وكلما مالت قوة الوهم عندهم إلى شكل أو صورة، تمثل ذلك الشكل أو تلك الصورة أمام أعينهم.

______________________________

(1). المراد من السماع، الألحان الموسيقية أو نغمات المطربين الدارجة في بعض مجالس الصوفيين، والمراد من الوجد، الذوق والشوق واللهفة التي تحصل للصوفيين الذين يحسنون السماع ويقترن مع حركات تشبه الرقص.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 222

إنّهم يفرحون لهذه اللحظات كثيراً، وكأنّهم التقوا بالمراد وعانقوه، فيصرحون وتعلو أصواتهم، مما يزيد ويفاقم هذه الحالة عندهم، ثم يرمون بحالة شبيهة بالاغماء،

وبعدما يصحون ويهدءون من هذه الحالة، يحكون للناس ما رأوا ظناً منهم أنّه كشف.

إنّهم في الحقيقة يسعون نحو السراب ظناً منهم أنّه ماء، ورغم عدم وصولهم إلى شي ء، يبتلون بأمور بعيدة عن الحق والحقيقة.

وبعبارة مختصرة: لا يمكننا تصديق كل من ادعى الكشف والشهود، وكذا لا يمكننا اعتبار كل تمثل وكل نداء إلهياً واقعياً، وذلك لأنّ هناك كشفاً شيطانياً.

وقد جاء في حديث للإمام علي عليه السلام مع الحسن البصري: أنّ الإمام عليه السلام مر بالحسن البصري وهو يتوضأ فقال: يا حسن اسبغ الوضوء، فقال: يا أمير المؤمنين لقد قتلت بالأمس اناساً يشهدون أن لا إله إلّااللَّه وحده لا شريك له وأنّ محمداً عبده ورسوله، يصلون الخمس، ويسبغون الوضوء، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: قد كان ما رأيت فما منعك أن تعين علينا عدونا، فقال: واللَّه لأصدقنّك يا أميرالمؤمنين لقد خرجت في أول يوم فاغتسلت وتحنطت وصببت عليّ سلاحي وأنا لا أشك في أنّ التخلف عن أم المؤمنين عائشه هو الكفر، فلما انتهيت إلى موضع من الخريبة ناداني مناد «يا حسن إلى اين ارجع فإنّ القاتل والمقتول في النار» فرجعت ذعراً وجلست في بيتي، فلما كان في اليوم الثاني لم أشك أنّ التخلف عن ام المؤمنين عائشه هو الكفر، فتحنطت، وصببت عليّ سلاحي وخرجت اريد القتال، حتى انتهيت إلى موضع من الخريبة فناداني مناد من خلفي: «يا حسن إلى اين مرةً بعد اخرى القاتل والمقتول في النار» قال علي عليه السلام: صدقك افتدري من ذلك المنادي؟ قال: لا، قال عليه السلام:

ذاك أخوك ابليس، وصدقك أنّ القاتل والمقتول منهم في النار، فقال الحسن البصري: الآن عرفت يا أميرالمؤمنين أنّ القوم هلكى «1».

إنّ نداءات كهذه أشير إليها في

القرآن بصفة وحي الشياطين، حيث يقول تعالى في الآية:

«وكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ الَى بَعْضٍ زُخْرُفَ

______________________________

(1). احتجاج الطبرسي، ج 1، ص 250.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 223

نفحات القرآن ج 1 269

الْقَوْلِ غُرُوراً». (الانعام/ 112)

إنّها نوع من الامتحان للتمييز بين صفوف المؤمنين وغيرهم، فقد جاء في الآية: «وَانَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ الَى أَوْلِيَائِهم . (الانعام/ 121)

وبناءً على ما تقدم، نرى كتب الصوفية مليئة بهذا النوع من المكاشفات، مكاشفات غريبة وموحشة، ومردوداتها السلبية كثيرة، نشير إلى بعضٍ منها هنا بشكل مختصر:

1- ورد في كتاب «صفوة الصفاء» في شرح أحوال الشيخ صفي الدين الأردبيلي، بقلم أحد مريديه ما مضمونه: أنّ رجلًا من ذوى المكاشفات أخبر الشيخ بأنّه رأى في عالم الرؤيا أنّ أكمام الشيخ امتدت من العرش إلى الثرى فقال له الشيخ: إنّ رؤياك هذه تتناسب مع طول أناتك وصبرك!

2- كتب محي الدين بن عربى في كتابه «مسامرة الأبرار» إنّ الرجبيين لأشخاص مرتاضون برياضات خاصة، ومن صفاتهم أنّهم يرون الرافضين (الشيعة) في حالة الكشف في صورة خنازير.

3- وكتب الشيخ عطار في كتابه «تذكرة الأولياء» عن «با يزيد البسطامي»: طِفْتُ البيت فترة، وعندما وصلت إلى الحق، رأيت أنّ الكعبة تطوف حولي! ... إنّ اللَّه بلغ بي إلى درجة حيث أستطيع أن أرى الخلق جملة بين اصبعي!! «1».

4- وقد جاء في نفس الكتاب، أنّ با يزيد قال: عرض عليَّ الحقُ الفي مقامٍ عنده وفي كل مقام سلطان، وما قبلتُ «2».

إنّ هذه ادّعاءات لم تُسمع من نبيٍ مرسل ولا من إمام معصوم، بل إنّ أدعيتهم ومناجاتهم في جنب بيت اللَّه التي تكون في غاية التذلل والتواضع تكشف عن أن كشفاً كهذا إن لم يكن فهو- قطعاً-

أوهام وتخيلات شيطانية ترتسم في أذهان البعض، لأسباب وعوامل مختلفة،

______________________________

(1). تذكرة الأولياء، ص 102.

(2). المصدر السابق، ص 101.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 224

أشرنا إلى بعضها سابقاً، وإنّ سعة هذه الأوهام تتوقف على مدى وطول آمال الشخص وتخيلاته.

سؤال:

ثمة سؤال يطرح نفسه هنا، وهو: هل من طريق لتمييز المكاشفات «الرحمانية» من «الشيطانية» و «الحقيقية» من «الوهمية» أم لا؟

الجواب:

نعم توجد ثلاث علامات يمكن من خلالها التمييز- الإجمالي- للمكاشفات الشيطانية من الرحمانية، وهي: إنّ الرحمانية اضافة إلى كونها يقينية وقطعية تقترن بمستوى عالٍ من الإيمان واليقين والمعرفة والاخلاص والتوحيد والعمل الصالح، بينما تفتقد المكاشفات الشيطانية هذه المواصفات، وعلى هذا الأساس فلا اعتبار لقول من يدعي المكاشفات الرحمانية وهو يفتقد هذه المواصفات.

ولقد قرأنا في رواية مضت أنّ الرسول صلى الله عليه و آله قال: «العلم نورٌ يقذفه اللَّه في قلب من يحب، فينفتح له، ويشاهد الغيب، وينشرح صدره فيتحمل البلاء، قيل: يا رسول اللَّه وهل لذلك من علامة؟ قال: التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله» «1».

ثم إنّ المكاشفات الحقيقية تتفق دائماً مع الكتاب والسنة، وفي نفس الاتّجاه الذي يتجه إليه كلام اللَّه والمعصومين عليهم السلام، ولا تميل قيد أنمله عن جادة الاطاعة الربانية، وغير ملوّثة بأدنى إثم أو ذنب.

______________________________

(1). تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص 267.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 225

وثالثاً، إنّ محتوى المكاشفات الحقيقية يتفق دائماً مع العقل اتفاقاً كاملًا، وتكون بعيدة عن الامنيات والأوهام غير المعقولة، فالذي يقول: «إني رأيت الرافضية- مكاشفة- كالخنازير»، في الحقيقة رأى نفسه في مرآة ذاته، والذي يقول: «عندما وصلت إلى الحق، فرأيت بيت اللَّه يطوف حولي» فانّه مُصاب بوكع في رأسه، وشخصاً كهذا يرى نفسه مستغنياً عن الطواف، ويرى

الطواف أدنى من شأنه، بينما الرسول صلى الله عليه و آله بعظمته لم ير نفسه مستغنياً عن ذلك، وقد حج حتى في آخر سنة من عمره الشريف وأدى المناسك.

وآخر الحديث في الكشف والشهود هو هذا:

لا يمكن عدّ الكشف والشهود كمصدرٍ عامٍ للمعرفة مثل «العقل» و «الحس» و «التاريخ» بل إنّه مصدر خاص، وله شروط ومواصفات صعبة.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 227

حُجُب المعرفة وآفاتها

نفحات القرآن، ج 1، ص: 229

حُجُب المعرفة وآفاتها

تمهيد:

في بحثنا حول طرق العلم والمعرفة تمكّنا من اجتياز قسم من محطات هذه الطرق وقد سلمنا بوجود واقعيات خارج إطار الذهن، وقلنابان امكانية إدراك تلك الواقعيات لدى الإنسان هو شى ء معقول إلى حدٍ ما، وقد عرفنا بدقة مصادر المعرفة الستة.

كما علمنا أن خمسةً من مصادر المعرفة أي «الحس» و «العقل» و «الفطرة» و «التاريخ» و «الوحي» عامة ويستطيع الجميع الاستعانة بها للوصول إلى المعرفة المرادة، إلّاأنّ المصدر السادس وهو الشهود الباطني مصدر خاص بفريق من المؤمنين وأولياء اللَّه، ولا يتمتع بها الجميع.

بقي محطتان ينبغي العبور منهما للوصول إلى المراد، الاولى «موانع طرق المعرفة»، والاخرى «ممهدات المعرفة»، والبحث هنا ينصب على الموانع.

فمما لا شك فيه: أنّ العين لوحدها لا تكفي لرؤية الموجودات والأشخاص، بل ينبغي أن لا يكون هناك حجاب أو مانع يحول دون الرؤية، فلو كان هناك دخان أسود أو غبار أو ضباب غليظ يحول بيننا وبين الشي ء المراد رؤيته فانّا لا نرى الشى ء الذي أمامنا وحوالينا مهما كان قربه منّا، فضلًا عن البعيد، فالشمس التي تنير كل ارجاء العالم بنورها الساطع تُحجب رؤيتها عنا إذا حالت الغيوم بينها وبيننا.

فإذا استفاد شخص من نظارة سوداء قاتمة السواد، فطبيعي أنّه لا يرى شيئاً، وإذا استفاد من نظارة ملونة فانّه سيرى

الأشياء ملونة (حسب لون نظارته)، وإذا كانت عدستا نظارته

نفحات القرآن، ج 1، ص: 230

غير مصقولتين جيداً فانّه سيرى الأشياء معوجة، وإذا كان مبتلياً بمرض اليرقان فانّه سيرى الأشياء صفراء، وإذا كان أحولًا فانه سيرى صوراً لا تتطابق مع الواقع.

وأمثال هذه الموانع بالضبط قد تحصل للعقل والفطرة، وقد تحصل موانع في فهم التاريخ وحتى الوحي وكلمات المعصومين عليهم السلام، فقد يُساء فهمه لنفس الموانع والحجب التي تحصل للإنسان في مصادر المعرفة الاخرى، ومن هنا نفهم أهميّة بحث موانع المعرفة وندرك أهميّة العلم بها للوصول إلى المعرفة.

وبما أنّ القرآن منطلق بحثنا في التفسير الموضوعي، فنسعى لمعرفة الموانع والحجب التي ذكرت فيه بالدرجة الاولى

لقد ورد البحث في القرآن حول موانع المعرفة بنحوين: الأول بحوث كلية و «منذرة» والثاني: بحوث جزئية و «تعليمية»، ولنتناول الآن البحوث الكلية.

حُجُب المعرفة:

نُمعن خاشعين أولًا إلى الآيات التالية:

1- «افَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً». (فاطر/ 8)

2- «وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . (الأنعام/ 43)

3- «فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ». (آل عمران/ 7)

4- «كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ . (المطففين/ 14)

5- «لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِيْنَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ . (الحج/ 53)

6- «وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِم أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِمْ وَقْرَاً». (الاسراء/ 46)

7- «وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَّعَنَهَمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُون . (البقرة/ 88)

8- «وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِم فَهُمْ لَايَسْمَعُونَ . (الأعراف/ 100)

9- «وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَايَفْقَهُونَ . (التوبة/ 87)

نفحات القرآن، ج 1، ص: 231

10- «خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ». (البقرة/ 7)

11- «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ

وجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً». (الجاثية/ 23)

12- «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا». (محمد/ 24)

13- «فَإِنَّهَا لَاتَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ». (الحج/ 46)

14- «لَهُمْ قُلُوبٌ لَّايَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لّايُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّايَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْانْعَامِ بَلْ هُمْ اضَلُّ اولئِكَ هُمُ الْغَافِلونَ . (الأعراف/ 179)

شرح المفردات:

قبل كل شي ء ينبغي الخوض في البحث عن المفردات المختلفة والظريفة التي استعملت في الآيات السابقة التي أشارت إلى حجب المعرفة وحرمان الإنسان منها، كلُّ منها تشير إلى مرحلة من مراحل انحراف ذهن الإنسان وحرمانه من المعرفة، فتبدأ بالمراحل الأضعف، وتنتهي بمراحل أشد وأقوى من الحرمان بحيث تسلب الإنسان قدرته على التمييز، بل تصوّر له الحقائق بالعكس فيرى الشيطان- من جرائها- مَلَكاً بريئاً، والقُبح حُسناً، والباطل حقاً!

ج ج

إنّ «زيغ» تعني- كما يقول كثير من أئمة اللغة- الانحراف، أو الانحراف عن الحق والصواب، ولهذا جاء في القرآن: «رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا». (آل عمران/ 8)

و «رَانَ» من مادة «رَيْن» (على وزن عَين) وهو الصدأ الذي يصيب بعض الفلزات. هذا ما قاله الراغب في مفرداته، وقد قال بعض أهل اللغة: «إنّه قشر أحمر يترسب من الهواء ويظهر على سطح بعض الفلزات مثل الجديد»، وهذا الصدأ علامة للإستهلاك والتلف وزوال

نفحات القرآن، ج 1، ص: 232

شفافية ولمعان الفلز.

وقد فسّر البعض هذه المفردة ب «غلبة أمر على أمرٍ آخر» أو «الوقوع فيما لا مخرج منه».

وقد قيل للشراب المسكر «رَيْنه» لأنّه يتغلب على العقل «1».

«الوَقْر»: على وزن (عَقل) هو الثقل في السمع بدرجة يصعب السمع بها.

أمّا «الوِقْر» على وزن (فِكر) فهو الثقل الذي يوضع على ظهر الإنسان أو رأسه، كما يقال «وِقْر» للحمل الثقيل، ولهذا قيل لصاحب العقل «ذي وقار».

«الغشاوة»: تطلق على كل شي ءٍ

غطّى شيئاً آخر، ومن هذا الباب قيل للستارة غشاوة، وقد اطلق، لفظ «غاشية» على يوم القيامة من حيث إنّ الخوف الناشي ء منها يغطي جميع الناس ويخيّم عليهم، وقد اطلقت هذه المفردة على الليل الأظلم كذلك لأنّه كالستار يغطي الأرض، كما اطلقت على «الخيمة» كذلك.

«أكِنة»: جمع كِنان، وفي الأصل تعني غطاء يُستر به شي ء، و «الكِنّ» على وزن (جِن) يعني الوعاء الذي تحفظ به الأشياء، وقد أطلقت هذه المفردة على البيت أو على أي شي ءٍ يحفظ الإنسان من الحرارة والبرودة، وجعل الأكِنة على القلوب يعني: سلب قدرتها في التمييز.

«الغُلْف»: على وزن (قفل) جمع «أغلُف» ومن مادة «غِلاف» وتعني غلاف السيف أو غلاف أي شي ء آخر، و «قلوب غلف» تعني قلوباً لا تفهم ولا تعي الحقيقة، وكأنها مُغلَّفة.

«قَسَتْ» من مادة «قَسْوَة» على وزن (مرْوة)، وَالقساوة تعنى الصلابة والغلظة وفقدان المرونة، ويقال للفضة غير الخالصة «قسّي»، والقلوب القاسية هي غير اللينة والغليظة تجاه الحق والعدالة.

و «نَطْبع»: من مادة «طَبْع» ويعني الختم أو النقش، ومن هذا الباب تستعمل المفردة هذه في مجال المسكوكات الذهبية والفضية، ويقال للخاتم الذي تُختم به الكتب والرسائل

______________________________

(1). تفسير الفخر الكبير ذيل الآية 14 من سورة المطففين والمنجد مادة (رين).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 233

طابع، وعندما تستعمل هذه المفردة في مجال العقل فتعني أنّه مُغطَّى ومختوم عليه فلا يفهم ولا يعي شيئاً، وكأنّ أبوابه مغلقة ومختوم عليها، أمّا مفردة «طَبَع» فتعني الصدأ الذي يعلو السيف كما تطلق على المعاصي والذنوب التي تعلو القلب وتغطيه.

و «الخَتْم»: يعني الانتهاء والفراغ من الشي ء، وبما أنّ الرسائل تختم عند الفراغ منها، قيل لوسيلة الختم خاتم، وفي الماضي كان كثير من الناس ينقشون أسماءَهم على فصوص ما يتختمون به، فيختمون

بها الرسائل، ولهذا اطلق على خاتم اليد خاتماً.

وكان وما زال العرف (إذا أرادوا أن يغلقوا بيتاً أو صندوقاً بحيث لا يفتحه أحد) يغلقون الباب أولًا بحبل أو قفل، ثم يصبون مادة لصقة أو طين لزج على القفل أو الحبل ثم يختمون على تلك المادة، بحيث إذا أراد شخصٌ فتح الباب أو الصندوق اضطرَّ لأنّ يكسر الختم.

إنّ استعمال القرآن لهذه المفردة في مجال العقول، إشارة إلى أنّها عقول مقفلة ومختوم عليها ولا تعي شيئاً بدرجة لا يمكن أن تحصل على بصيص للوصول إلى طريق العلم والمعرفة.

جمع الآيات وتفسيرها

النفوذ التدريجي لآفات المعرفة:

(الانحرافات والرين والأمراض والأكنة والأقفال):

كما قلنا سابقاً: إنّ أهميّة بحث «موانع المعرفة» تستدعي عرض الموضوع في مرحلتين:

المرحلة الاولى ونبحث فيها- إجمالًا- عن وجود الموانع والحجب وكيفية تأثيرها على العقل، وكيفية تلوث مصادر المعرفة بها تدريجياً، إلى درجة تنتهي إلى تعطيلها.

المرحلة الثانية: ونبحث فيها عن جزئيات وخصائص كلٍ من هذه الموانع والآفات، وللقرآن بحث واسع تربوي وجذّاب في هذا المجال.

ولنبدأ أولًا من المرحلة الاولى فممّا تجدر الإشارة إليه، هو أنّ القرآن تحدث عن موانع

نفحات القرآن، ج 1، ص: 234

المعرفة والآفات ونفوذها التدريجي والغامض، بشكلٍ عرّف سالكي طريق العلم، والمعرفة بها تعريفاً كاملًا، وأنذرهم كراراً بأن لا يفنوا عمرهم في السعي نحو السراب ظناً منهم أنّه ماء، وبعد سنوات من السعي الحثيث من أجل الوصول إلى الحقيقة ينتهون إلى الباطل.

ج ج

والآن نبحث معاً الآيات المذكورة:

الحديث في الآية الاولى والثانية يدور حول تزيين الأعمال، فتارة يزينها الشيطان للإنسان (كما جاء ذلك في الآية الثانية) وتارة تكون ذهنيات الإنسان ونفسه أو عوامل اخرى هي التي تزين للإنسان سوء أعماله (كما جاء ذلك في الآية الاولى، حيث إنّ الفعل فيها مبني للمجهول) فقالت: «افَمَنْ

زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فإِنَّ اللَّهَ يُضلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِى مَنْ يَشَاءُ» فإنّ الأول يتجه نحو الهاوية والثاني نحو الصراط المستقيم، وإذا ما صدر منه عملٌ سي ءٌ أسرع إلى التوبة وجبران ما عمل.

وتضيف الآية الثانية: إنّ قلب الإنسان يقسو في المرحلة الاولى ثم يتأهل لتقبل وسوسة الشيطان فتتمثل الأعمال السيئة حسنةً أمامه، ومن هنا نرى بعض الناس غير نادمين على أعمالهم السيئة، بل قد يفرحون ويتباهون بها، ويصرون على منطقيتها وصحتها.

وقد حصل هذا الأمر لأخوة يوسف، فعندما ألقوه في البئر وجاءوا أباهم بقميصه ملطخاً بدم كاذب ادعوا أكل الذئب له، وأنّهم صادقون في كلامهم.

فأجابهم أبوهم: «بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً». (يوسف/ 18)

أي ظننتم أنّكم أحسنتم عملًا بهذه الجريمة، وانكم ستحلون محل يوسف في قلبي، وأنّ يوسف انتهى أمره إلى الأبد، غافلين عن أنكم توطئون بعملكم هذا مقدمات عزه وسلطانه، وأنّ مكانه سيبقى فارغاً في قلبي حتى أرى الفقيد مرة اخرى

وممّا يستحق الإشارة إليه هو أنّ القرآن ينسب تزيين الأعمال تارة للشيطان وتارة

نفحات القرآن، ج 1، ص: 235

لنفس الإنسان، وتارة يأتي التزيين في صيغة فعل مبني للمجهول وتارة ينسبه إلى اللَّه تعالى كما جاء ذلك في الآية: «انَّ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ اعمَالَهُمْ . (النمل/ 4)

هذه ترجع إلى أنّ مقدمات هذا الأمر تبدأ من نفس الإنسان، فيتمسك بها الشيطان ويفعل فعلته، وبما أنّ اللَّه مسبب الأسباب وخالق العلل والمعلولات فتنسب إليه نتيجة الأعمال، وتقتضي حكمته بأن يبتلي البعض بمصير كهذا وما أسوء حال الذي تتمثل السيئات أمامه حسنات!

ج ج

وقد تحدثت الآية الثالثة عن المراحل الاولى لانحراف القلب، وبعد تقسيمها للآيات إلى محكمات (وهي ذات المفاهيم الواضحة) ومتشابهات (وهي ذات المعاني المعقدة) قالت: «فَأَمَّا الَّذِينَ

فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنةِ وَابْتِغَاءَ تَأْويلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ رَبِّنَا»، فالراسخون في العلم يفسرون المتشابهات بالمحكمات، واما الذين في قلوبهم زيغ فيأخذون بالمتشابهات ويفسرونها برأيهم ابتغاء الفتنة.

إنّهم يتمسكون بما تشابه من القرآن لتبرير نواياهم غير الخالصة، ولهذا نرى كثيراً من المنافقين وأصحاب البدع وأتباع المذاهب المنحرفة يستغلون صفاء قلوب المخلصين والمؤمنين بآيات اللَّه بالكامل، ويبررون بدعهم بالاستعانة ب «التفسير بالرأي» والاستعانة بالآيات المتشابهة، وبتعبير آخر: بما أنّ قلوبهم وأفكارهم منحرفة فيرون آيات اللَّه منحرفة أيضاً، كالمرآة المعوجة تنعكس فيها الصور معوجة.

ج ج

والآية الرابعة تشير إلى الصدأ والرين الذي يعلوا القلوب، إنّه الغبار الذي يعلو القلوب بسبب الذنوب والمعاصي، فيتراكم الغبار عليها حتى تتحجر، ويغطي الصدأ القلب كله،

نفحات القرآن، ج 1، ص: 236

حيث قالت الآية: «كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُون فلا عجب في عدم تمكّنهم من رؤية الحقيقة.

ج ج

وتحدثت الآية الخامسة عن تفاقم الحالة السابقة بحيث تتبدل إلى مرض روحي، فبعد إشارتها إلى الالقاءات والوساوس الشيطانية حتى للأنبياء والمرسلين قالت: «لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ .

نعم، إنّ هذه القلوب التي لا تستلذ بطعم الحقيقة، بسبب مرضها، وحلاوة الحقيقة عندها كالمرارة، على استعداد لقبول وسوسة الشياطين.

وممّا يلفت النظر هنا أن جملة «فِى قُلُوبِهِم مَرَضٌ ، تكررت اثنا عشر مرّة في القرآن، ممّا يكشف الأهميّة التي أولاها اللَّه لهذه المسألة، مع الالتفات إلى أنّ أغلب هذه الآيات عنت المنافقين وصُرّح بذلك في عدد منها «1».

إلّا أنّ المرض جاء في بعض من هذه الآيات بمعنى «الشهوات والميول والهوى ، كما هو الحال في الآية: «فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَولِ فَيَطْمَعَ

الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ . (الاحزاب 32)

وعلى أيّة حال، فإنّ المستفاد من الآيات هو أنّ الإنسان كما يصاب جسمه بامراض، كذلك روحه فانّها قد تصاب بامراض سببها «النفاق» تارة و «الأهواء والميول» تارة اخرى، وتغيّر عند عروضها- ذائقة روح الإنسان بالكامل، كما نرى ذلك في أمراض الجسم فقد تُغير مزاجه بشكل تجعله يستلذ بالأغذية الشاذة والكريهة ولا يستلذ بالأكلات اللذيذة والمفيدة، فإنّ إنساناً كهذا غير قادر على إدراك الحقائق ووعي الامور وفهمها.

ومن المؤسف أنّهم كلما استمروا في طريقهم كلما تفاقم عندهم المرض، فإذا كانوا في مرحلة الشك، فسيتفاقم عندهم ويشتد ويصل تدريجياً إلى مرحلة الانكار ومن الانكار

______________________________

(1). الأنفال، 49، والأحزاب، 12 و 32.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 237

إلى مرحلة أخطر وهي الاستهزاء ومخالفة الحق، يقول القرآن في هذا المجال: «فِى قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ . (البقرة/ 10)

ج ج

تحدثت الآية السادسة عن جعل الأكنة والحجب على القلوب، وليس حجاباً واحداً بل حُجب وأكنة وذلك للحيلولة دون فهمهم القرآن، حيث جاء فيها: «وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِم أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِم وَقْرَاً».

ذكر بعض المفسرين أنّ التعبير بالأكنة يدلّ على تعدد الكِنان «1»، وممّا لا شك فيه أنّه لم يجعل وقر في آذانهم الظاهرية بل الروحية كي لا يسمعون من الحق شيئاً، كما لم تجعل الأكنة على القلوب التي هي وسيلة لضخّ الدم في الأوعية، بل جعلت الأكنة على أرواحهم وعقولهم.

وقد وقع كثير من المفسرين- عند الإجابة عن هذه المسألة- في إشكال، فتارة قالوا: إنّها معجزة حيث كان الرسول صلى الله عليه و آله يختفي عن انظار اعدائه المعاندين، فلا يكادون يسمعون شيئاً من كلامه، وذلك كي لا يؤذوه صلى الله عليه و آله،

وتارة قالوا، إنّ اللَّه يمنع لطفه عن أشخاصٍ كهؤلاء فيتركهم لحالهم، وهذا هو معنى جعل الأكنة على القلوب والوقر في الآذان.

إلّا أنّ ظاهر هذه الآية (التي تماثل آيات اخرى من القرآن) شي ء آخر، وفي الحقيقة أنّ هذه استعمالات مجازية في حق المعاندين والمتعصبين والمغرورين والغارقين في الإثم، وبتعبير آخر: أنّ حرمانهم من إدراك الحقيقة بسبب صفاتهم الرذيلة وأفعالهم القبيحة، فقد جعل اللَّه هذه الميزة في هذه الأعمال، فهي كخاصية القتل بالنسبة للسم، فلا يُلام صانع السم وشاعل النار إذا تناول شخص ما سماً أو ألقى نفسه في النار فمات، فانّه في مورد كهذا ينبغي لوم الذي القى نفسه في النار والذي تجرع السم فقط.

وقد نقلت الآية السابعة ما كان يقوله اليهود للرسول صلى الله عليه و آله أو الأنبياء الآخرين، حيث كانوا

______________________________

(1). تفسير روح المعاني، ج 15، ص 82.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 238

يقولون: «وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُون ، نعم لعنهم اللَّه بكفرهم، وأبعدهم عن رحمته، وأنّ أشخاصاً كاليهود كيف يمكنهم أن يذوقوا حلاوة الحقيقة.

قد يكون التعبير ب «الغلاف» يختلف عن التعبير ب «الأكنة»، وذلك لأنّ الغلاف يستر المغلَّف ويغطيه من جميع الجهات، بينما يغطي الستار جهة واحدة من المستور، وبتعبير آخر: تارة تصيب الموانع مصدراً واحداً من مصادر المعرفة كالفطرة لوحدها أو العقل لوحده، وتارة اخرى تعطل جميع المصادر وتجعلها في غلاف يحول دون المعرفة.

نعم، كلما تلوّث الإنسان بالذنوب والفساد أكثر ابتعد قلبه وروحه من المعرفة وحُرِم منها اكثر.

ج ج

وتحدثت الآية الثامنة والتاسعة عن الطبع على القلوب الذي يحول دون المعرفة، وقد اعتبرت الآية الثامنة الطبع سبباً لعدم السمع «فَهُمْ لَايَسْمَعُونَ ، واعتبرت الآية التاسعة الطبع سبباً لعدم الفقه والفهم

«فَهُمْ لَايَفْقَهُونَ ، والمراد في الموردين واحد، فكما قلنا: إنّ المراد من عدم السمع هو عدم الإدراك والوعي والفهم.

وهذه المرحلة أشدّ من المراحل السابقة، فالمرحلة الاولى هي جعل الأكنة على القلوب، ثم الغلاف عليها، وفي النهاية يطبع عليها للحيلولة دون نفوذ أي شي ء فيها، كما ذكرنا ذلك في بحث شرح المفردات.

طبعاً: إنّ ابتلاءهم بهذا المصير ليس اعتباطياً، بل لأسباب أشارت إليها الآية السابقة حيث قالت: «وَ اذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنوُا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ الْقَاعِدِينَ* رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِم فَهُمْ لَايَفْقَهُونَ . (التّوبه/ 86- 87)

إذن إعراضهم عن الجهاد وتخلفهم عنه هو السبب في الطبع على القلوب.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 239

وآية اخرى أشارت إلى سبب آخر من أسباب الطبع، حيث قالت: «أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَّو نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِم . (الاعراف/ 100)

أي أنّهم يذنبون رغم رؤيتهم وعلمهم بأحوال السابقين وابتلائهم بالعذاب الإلهي من جراء ذنوبهم، فطبع على قلوبهم.

وممّا يذكر هنا أنّ الطبع جاء في الآية الثامنة بصيغة المضارع «نطبع» وفي التاسعة بصيغة الماضي «طبع» وهذا تلميح إلى أنَّ الطبع نتيجة سوء أعمالهم وتصرفاتهم.

يقول بعض المفسرين: إنّ المراد من «الطبع» في مثل هذه الآيات هو نفس السبك والنقش الذي يستخدم للدراهم والمسكوكات، وهو نقش ثابت وباقٍ، لا يتغير بسهولة «1»، فانَّ نَقْشَ الكفر والنفاق والإثم نُقِشَ على قلوبهم فلا يمحى بسهولة.

ج ج

وتحدثت الآية العاشرة والحادية عشرة عن «الختم» وكما قلنا سابقاً في شرح المفردات: إنّ الختم يعني الانتهاء والفراغ من شي ء، وبما أنّ الرسائل تختم عند الفراغ منها استعملت هذه المفردة هناك أيضاً، وختم الشي ء قفله وشده بحيث لا يمكن

لأحد فتحه، والمراد من الختم على القلوب والأسماع والابصار في الآيات، هو سلب قدرتها عن التمييز بين الحق والباطل، والخير والشر وذلك بسبب أعمال أصحابها وتصرفاتهم، ولهذا يذكر القرآن في الآية السابقة: «انَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ . (البقرة/ 6)

المسلم به هو أنّ هذا الخطاب لا يعم الكافرين كلهم بل يخص المتعصبين والمعاندين منهم، أي أولئك الذين غرقوا بذنوبهم إلى درجة حيث أصبحت قلوبهم ظلماء، وإلّا فالنبي أُرسل مبشراً ومنذراً للكافرين والمنحرفين.

والجدير ذكره هنا هو أنّ الآيات تحدثت عن الختم على الأبصار والسمع كما تحدثت

______________________________

(1). تفسير المنار، ج 9، ص 33.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 240

عن الختم على القلوب، وهذا تلميح منها إلى أن السمع والبصر قد يتعطلان، أي قد يتعطل الإدراك الحسي كما يتعطل العقلي، وكما تعلم أنّ أغلب العلوم البشرية تحصل بواسطة هذين الإدراكين، وحتى حقانية الوحي ودعوة الأنبياء تكتشف بهما، ومع تعطلهما فإنّ طرق الهداية والنجاة ستغلق أمامهم، وهذا من سوء أعمالهم وهذا ما أرادوه لأنفسهم، ولا يستلزم جبراً كما يدعيه بعض الظانين.

وقد جاء هذا التعبير في مجال الطبع كذلك، حيث يقول تعالى في الآية: «اولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ . (النحل/ 108)

والآية التي سبقت الأخيرة أشارت إلى أن هذا الأمر ليس عاماً وشاملًا لجميع الكفار، بل يختص بمن شرِح صدره للكفر، حيث يقول تعالى «وَلَكِن مَّنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً».

(النحل/ 106)

ج ج

وقد تحدثت الآية الثانية عشرة عن أقفال القلوب التي قد تكون أشد من الختم «1»، حيث قالت: «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا» أي أن آيات القرآن تنفذ في القلوب ولو من نوافذ صغيرة، وذلك لأنّ منطق القرآن هو البيان البديع،

والبلاغة في التعبير، والعمق والدقة في التحليل، وهو نور وضياء خاص ينفذ في قلب كل مؤهل ولو بأقلٍّ تأهيل، ويستحوذ على القلوب ويهز الضمائر، رغم هذا فانه لا ينفذ في قلوب هؤلاء ولا يهز ضمائرهم أبداً، وذلك لانغلاق قلوبهم.

إنّ «أقفال» جمع «قفل» ومن مادة «قُفول» ويعني الرجوع، وبما أن كلَّ من أتى باباً مقفولة رجع، استعملت هذه المفردة في هذا المجال.

إنَّ التعبير ب «الأقفال» قد يكون إشارة إلى تعدد أقفال القلب بحيث إذا ما فتح قفل بقيت اقفال اخرى، وهذه في الحقيقة أسوأ مرحلة وأشدها من مراحل حرمان إدراك الحقائق.

______________________________

(1). وقد أشار الفخر الرازي في تفسيره الكبير إلى هذا الأمر.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 241

ويلاحظ هنا عدم اضافة «قلوب» إلى الأقفال بل جاءت بصيغة النكرة، وكأن هذا إشارة إلى أن هذه القلوب ليست لهم، والأعجب من هذا هو إضافة «الأقفال» إلى «القلوب» وكأنّ قلوبهم أهل للأقفال فقط لا لشي ء آخر.

ج ج

وفي الآية الثالثة عشرة تعبير يهز الضمائر حيث يقول تعالى «انَّهَا لَاتَعَمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعَمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ». (الحج/ 46)

أي أنّ الحاسة الباصرة إذا فقدت فهذا ليس بعمى لإمكان أن يسد العقل اليقظ فراغها، وإنّما الشقاء والبؤس والتعاسة في القلوب إذا عميت، فعمى القلوب أكبر حاجب عن إدراك الحقيقة، والإنسان بنفسه يُعمي قلبه، ولقد أثبتت التجربة أنّ الإنسان إذا ما جعل عصابة على عينيه أو مكث في ظلام لمدّة طويلة، فإنّه سيفقد باصرته تدريجياً، كذلك الأمر بالنسبة للذين يغمضون عيون قلوبهم عن الحقائق، أو يمكثون مدّة طويلة في ظلمات الجهل والغرور والإثم فإنّ قلوبهم ستعمى، وتكون غير قادرة على إدراك أي حقيقة.

يُشكِكُ البعض أنّه لا يمكن أن يراد من القلب (الذي في الصدر ويضخ

الدم إلى جميع أعضاء البدن) بل المراد العقل والروح.

إلّا أنّه بملاحظة استعمال «الصدر» بمعنى الذات والفطرة يتضح لنا أنّ المراد من «القلُوبُ الِّتِى فِى الصُّدُورِ» هو الإدراك العقلي المودع في طبيعة الإنسان.

إضافة إلى هذا، فإنّ القلب أول عضو في بدن الإنسان يتأثر بعواطف وأحاسيس وإدراكات الإنسان، نلاحظ أنّ اتخاذ قرار مهم، أو حصول حالة غضب شديدة، أو الاحساس بالحب القوي تجاه شخص ما يُزيد من دقات القلب، فإذا استعمل القلب الظاهري كناية عن العقل، فلأجل العلاقة الوثيقة التي بينه وبين الروح «1».

ج ج

وقد تحدثت الآية الرابعة عشرة والأخيرة عن آخر مرحلة لحرمان الإنسان من المعرفة،

______________________________

(1). للمزيد من العلم راجع التفسير الأمثل ذيل الآية 7 من سورة البقرة.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 242

والتي يتعطّل فيها العقل والفطرة والعين والاذن عن العمل بالكامل، فيهوي الإنسان إلى مستوى الأنعام بل أضلّ.

والآية تلميح إلى فريق من أهل النار وكأنهم خلقوا لأجلها لا لشي ء آخر: «لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّايُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّايَسْمَعُونَ بِهَا أُولئِكَ كَالْانْعَامِ بَلْ هُمْ اضَلُّ اولئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ .

وعليه، فانهم فقدوا «هويتهم الإنسانية»، وأغلقوا أبواب الرجوع على أنفسهم، فهووا من قمم السعادة السماوية المعدة لهم إلى شقاء جهنم التي أُعدت لأولئك الذين غلقوا جميع أبواب المعرفة على أنفسهم، وهو مصير صنعتهُ نفوسهم وذنوبهم وعصيانهم.

النتيجة الأخيرة:

إنّ في القرآن الكريم نماذجاً كثيرة تشبه الآيات الأربع عشرة التي ذكرناها في أول هذا الفصل، وانتخبنا هذه الأربع عشرة للمواصفات التي تتحلى بها، وقد انتهينا إلى حقيقة واضحة وهي أنّه قد تعرض آفات لمصادر المعرفة بالخصوص العقل والفطرة والحس، وبعض تلك الآفات خفيفة طفيفة، وبعضها شديدة، وبعضها بدرجة من الشدة حيث تترك الإنسان في ظلمات مطلقة تمنعه من استيعاب

أوضح الحقائق الحسية.

وقد سعينا لمتابعة هذا الانحراف التدريجي لجميع مراحله مع الاستشهاد بآيات القرآن، ولا ندعي أنّ الترتيب الطبيعي لهذا الانحراف هو نفس الترتيب الذي جاء في الآيات عيناً، بل نقول: إنّ الآيات المذكورة قد بيّنت نفوذ الآفات في جميع المراحل.

وما أجمل تعبير القرآن في هذا المجال، وما أدقه؟ فتارة يتحدث عن العوامل الخارجية مثل «تزيين الشيطان» و تارة يتحدث عن انحراف القلب والفكر، وأُخرى عن صدأ القلوب، وحيناً عن تحول هذا الانحراف إلى مرضٍ مزمن.

وحيناً عن الأكنة المجعولة على القلوب.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 243

وتارة عن تغلُّف القلوب بالكامل.

وتارة عن الطبع على القلوب والنقش عليها.

و اخرى عن وضع القلوب في أوعية وختم تلك الأوعية.

و احياناً عن تجاوز الأكنة القلوب لتشمل السمع والبصر.

و احياناً اخرى عن تقفل القلوب.

وتارة عن العمى الكامل.

وأخيراً عن سلب الإنسان هويته الإنسانية وإسقاطه نفسه إلى درجة الأنعام بل إلى درجة أدنى من ذلك.

أما دواعي هذه المآسي والمصائب؟ فهو ما نتناوله في بحثنا اللاحق، لأنّ الهدف من بحثنا الماضي كان التعريف بالآفات والحجب وتوضيح أمرها بصورة إجمالية.

ثم نصل إلى مرحلة علاج هذه الأمراض وكيفية رفع الأكنة ومسح الصدأ والرين والوقاية من الوصول إلى مرحلة لا مخرج ولا نجاة منها.

وننهي بحثنا هذا بحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ لك قلباً ومسامع وإنّ اللَّه إذا أراد أن يهدي عبداً فتح مسامع قلبه، وإذ أراد به غير ذلك ختم مسامع قلبه فلا يصلح أبداً وهو قول اللَّه عزَّوجلَ «عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»» «1».

ج ج

______________________________

(1). تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 41.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 245

حُجُب المعرفة وآفاتها

«بالتفصيل»

1- الصفات التي تحول دون المعرفة

2- الأعمال التي تحجب عن المعرفة

3- الحُجُب الخارجية

نفحات القرآن، ج 1، ص: 247

حُجُب المعرفة وآفاتها (بالتفصيل)

تمهيد:

كان الحديث في البحث

السابق عن انسداد أبواب المعرفة وطرقها بالاجمال.

وحديثنا الآن عن «العلل والعوامل» المسببة لهذه الظاهرة المؤلمة التي يمكنها أن تؤدّي بالإنسان إلى السقوط إلى درجة الأنعام والبهائم.

حديثنا عن الامور التي تسبب ظهور الصدأ على قلب الإنسان، وجعل الوقر في الاذان، والعمى في القلب، واختلال توازن العقل، واخيراً تسبب عدم رؤية الحق أو رؤيته معكوساً!

تابع القرآن هذه المسألة المهمّة في آيات عديدة وبيّن العلل الأساسية لهذه الظاهرة، ويمكن تلخيص العلل في ثلاثة أقسام:

1- الصفات التي تحول دون المعرفة أى الصفات والأخلاقيات التي يمكنها أن تكون حاجباً عن الرؤية الروحية.

2- الاعمال التي تحجب عن المعرفة أى السلوك والأعمال التي تسوّد مرآة العقل.

3- الحجب الخارجية أى العوامل الخارجية التي تؤثر على فكر الإنسان وعقله وعواطفه وفطرته.

وسنبحث هذه العناوين الثلاثة كلًا على حده (وأؤكد هنا على أننا نطرح العلل التي وردت في القرآن الكريم بوضوح فقط).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 249

1- الصفات التي تحول دون المعرفة

اشارة

إنّ هذه الصفات التي ذكرت في القرآن بصراحة تارة وبالكناية تارة اخرى عبارة عن:

1- حجاب عبادة هوى النفس

اشارة

قبل كل شي ء نُمعن خاشعين للآيات التالية:

1- «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ الهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُون . (الجاثيه/ 23)

2- «... كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَاتَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرْيقاً يَقْتُلُون* وَحَسِبُوا أَلَّا تكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِم ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيْرٌ مِّنْهُمْ وَاللَّهُ بَصيْرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ . (المائدة/ 70- 71)

3- «وَمِنْهُمْ مَّنْ يَسْتَمِعُ الَيْكَ حَتَّى اذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ اوتُوا الْعِلْمَ مَاذا قَالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِيْنَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ . (محمد/ 16)

شرح المفردات:

«الهوى بمعنى رغبة النفس وميلها إلى الشهوات ويقال إنّها مشتقة من «الهوي» الذي يعني السقوط من الارتفاع، وذلك لأنّ الهوى يسبب سقوط الإنسان في المصائب في الدنيا، وابتلاءه بالعذاب في الآخرة، ومن هنا قيل لجهنم «هاوية» لأنّ قعرها منحفض للغاية.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 250

وقد ذكر البعض معنيين لهذه المفردة: (الصعود والارتفاع) و (السقوط)، وذكر بعض آخر معنى واحداً لها وهو (الارتفاع والسقوط إلى الأسفل) وهذا في الحقيقة تركيب من المعنيين السابقين.

وقال البعض: إنّ الهُوىّ يعني «السقوط» والهَويّ يعني «الصعود» «1».

ج ج

جمع الآيات وتفسيرها
إتباع الهوى يُعمي القلب:

تحدثت الآية الاولى عن اتخاذ الهوى إلهاً واتباعه، والتضحية لأجله بكل ما يملك، وكل من كان كذلك فسوف يختم على قلبه وعلى سمعه ويجعل على بصره غشاوة، فلا يهتدي بعد ذلك، فلنقرأ الآية: «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ الهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ ...».

ج ج

والآية الثانية تحدثت عن فريق من اليهود المعاندين حيث كلما جاءتهم رُسُل اللَّه وأتوا بما يخالف أهواءهم، قاموا بتكذيب بعضهم وقتل البعض الآخر، إنّ عنادهم هذا جعل حجاباً بينهم وبين الحقائق، فيرون أنفسهم آمنين من عذاب اللَّه، حيث تاب اللَّه عليهم، وشملتهم رحمته الواسعة في المرة الاولى لكن في المرة الثانية شملتهم نقمته، وذلك لنقضهم عهدهم وطغيانهم، فعموا وصمّوا.

وهذه من المردودات السلبية لاتباع الهوى حيث يهرقون دماء الأنبياء ولا يدركون قبح عملهم.

إنّ التعبير ب «يقتلون» بصيغة المضارع يدل على أن ديدن هذا الفريق من اليهود هو قتل الأنبياء لما يأتون به من الشرائع المخالفة لأهوائهم.

______________________________

(1). راجع مفردات الراغب، ومجمع البحرين، وكتاب العين، واقرب الموارد، والمنجد.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 251

والآية الثالثة تشير إلى فريق من المنافقين الذين يستمعون للنبي صلى الله عليه و آله، وبمجرّد ابتعادهم عنه استهزئوا به أمام المؤمنين.

يقول

القرآن عن هذا الفريق من المنافقين: «أُولئِكَ الَّذِيْنَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُم .

إنّ هذه الآيات الثلاث تبيّن بوضوح العلاقة بين اتباع الهوى وفقدان قدرة التمييز.

لِمَ لا يكون اتباع الهوى مانعاً عن إدراك الحقيقة وقد استحوذ حبه على جميع جوانب الإنسان، فلا يرى شيئاً غيره ولا يفكر إلّابه؟ وقد سمعنا قول الرسول كثيراً حيث يقول فيه:

«حُبُّكَ لُلشَّي ء يُعْمِي وَيُصِمُّ» «1».

كما سمعت في هذا المجال حديثاً آخر نقل عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وعن أميرالمؤمنين:

«أمّا اتباع الهوى فيصدُّ عن الحق» «2».

إنّ هذه المسألة واضحة إلى درجة أنّها أصبحت مثلًا في كلام العرب: «صاحب الحاجة أعمى لا يرى إلّاحاجته» «3».

إنّ الإنسان الذي خسر قلبه وروحه في حب الجاه والمال والشهوة، وعبّأ كل رأس مال وجوده في هذا المجال، لا يرى شيئاً في الدنيا غير هذا الحب، وقد جعل هذا الحب ستاراً سميكاً حجب عقله وفكره.

وما أجمل ما قاله علي عليه السلام في إحدى خطبه: «مَنْ عشقَ شيئاً أعشى بصره» «4».

وقد نقلت الرواية التالية في شأن نزول الآية 23 من سورة الجاثية التي أشرنا إليها سابقاً:

إنّ أبا جهل طاف بالبيت ذات ليلة ومعه الوليد بن المغيرة (فقد كانت الكعبة محترمة في

______________________________

(1). روضة المتقين، ج 13، ص 21.

(2). بحار الأنوار، ج 7، ص 75؛ ونهج البلاغة الخطبة 42.

(3). تفسير المراغي، ج 5، ص 157.

(4). نهج البلاغة، الخطبة 109.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 252

الجاهلية أيضاً ومحلّا للطواف) فتحدثا في شأن النبي صلى الله عليه و آله، فقال أبوجهل: واللَّه إنّي لأعلم أنّه صادق. فقال له: مَهْ، ومالك على ذلك؟ قال: يا أبا عبد شمس كنّا نسميه في صباه الصادق الأمين، فلما تمّ عقله وكمل رشده نسميه الكذاب

الخائن؟ واللَّه إنّي لأعلم أنّه صادق. قال:

فما يمنعك أن تصدقه وتؤمن به؟ قال: تتحَدث عني بنات قريش أنّي اتبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة، واللات والعزّى إن اتبعته أبدا، فنزلت «وختم على سمعه وقلبه» «1».

وما أجمل ما قاله علي عليه السلام عن الهوى «آفة العقل الهوى ، كما قال في محلٍ آخر:

«الهوى آفة الألباب» «2».

2- حبّ الدنيا أحد الحجُب

اشارة

يقول القرآن في هذا المجال:

«ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَايَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِيْنَ* أُولئِكَ الَّذِيْنَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ .

(النحل/ 107- 108)

جمع الآيات وتفسيرها

إنّ الآية تشير إلى قوم أسلموا رغبة في الإسلام، ثم ارتدوا عنه، فلمحت الآية إلى أن ارتدادهم لم يكن لرؤيتهم ما يخالف الحق في الإسلام، بل لأنّهم فضلوا الحياة الدنيا على الآخرة، ورجحوها عليها، فانسلخوا عن الإسلام واتجهوا نحو وادي الكفر تارة اخرى، فلم يهدهم اللَّه بعد كفرهم لانهم لم يكونوا أهلًا لذلك، وذلك لحبهم الحياة الدنيا، فطبع اللَّه على

______________________________

(1). تفسير المراغي، ج 25، ص 157.

(2). غرر الحكم.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 253

قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأغلق عليهم أبواب المعرفة فأصبحوا من الغافلين.

إنّ حبّ الدنيا سواء كان في مجال حب المال والثروة أو في حقل حب الجاه والمقام، أو في مجال حبّ الشهوات المختلفة، فإنّ هذا الحبّ كالريح العاصف يهب في باطن الإنسان فيفقده توازن عقله بالكامل.

نعلم أنّ الميزان الدقيق يُجعل في محفظة تحول دون تأثير النسيم عليه، وحتى الوزّان ينبغي له حبس أنفاسه حتى الانتهاء من الوزن، وذلك للحيلولة دون تأثير امواج الهواء الخارجة من رئتيه على تعادل الميزان، فما فائدة ميزان كهذا عند هبوب ريح عاصف؟

إنّ حبّ الدنيا سواء كان بشكلها القاروني أو الفرعوني أو السامري أو غير ذلك، لا يعطي الإنسان الحرية في أن يحكم على الامور بشكل صحيح أو يفكر تفكيراً سليماً، وإذا صرح اللَّه تعالى في الآية السابقة بأنّه طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، فالطبع هذا يمثل حب الدنيا، وبما أنّهم يتجهون نحو السبب فيبتلون بالمسبَّب.

ويشاهد في الأحاديث الإسلامية تعابير جميلة في هذا المجال، يقول الإمام الباقر عليه السلام:

«مثلُ الحريص على

الدنيا كمثل دودة القز كلما ازدادت من القز على نفسها كان أبعد لها من الخروج حتى تموت غماً» «1».

كما نُقل حديث آخر عن أمير المؤمنين عليه السلام يقول فيه: «الدنيا تغرّ وتضرّ وتمرّ» «2».

ويقول الإمام نفسه في رسالة كتبها لأحد أصحابه ينصحه فيها ويقول: «فارفض الدنيا فإنّ حب الدنيا يُمر، ويُصم ويبكم ويُذلُّ الرِّقاب فتدارك ما بقي من عمرك ولا تقل غداً أوْ بعد غدٍ فانّما هلك من كان قبلك باقامتهم على الأماني والتسويف» «3».

ج ج

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 70، ص 23، ح 13.

(2). نهج البلاغة.

(3). بحار الأنوار، ج 70، ص 75؛ اصول الكافي، ج 2، باب ذم الدنيا والزهد فيها، ح 23.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 254

3- حجاب الكبر والغرور وحبّ السلطة!

اشارة

1- «الَّذِيْنَ يُجَادِلُونَ فِى آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقَتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِيْنَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ». (غافر/ 35)

2- «وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِيْنَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِيْنَ لَايُؤْمِنُونَ فِى آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَّكَانٍ بَعِيْدٍ». (فصلت/ 44)

جمع الآيات وتفسيرها
اشارة

الجبارون والمغرورون لا يدركون الحق!

تحدثت الآية الاولى عن كلام «مؤمن آل فرعون» صاحب الضمير الحي الذي كان في بلاط فرعون يؤيد موسى بن عمران ويؤمن به سراً، فقالت: «الَّذِيْنَ يُجَادِلُونَ فِى آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقَتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِيْنَ آمَنوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبّارٍ».

نعم، إنّ عناد الحق والاصرار في ذلك العناد يجعل حجاباً قاتماً على فكر الإنسان ويسلبه قابلية التمييز و حسن المعرفة، فيبلغ به الأمر إلى أن يصبح قلبه كالوعاء المغلق لا يخرج محتواه الفاسد ولا ينفذ فيه المحتوى السليم والمفيد.

يقول البعض في الفرق بين «الجبّار» و «المتكبر» أنّ «التكبر» يقابل «الخضوع للحق» و «الجبروت» يقابل «الشفقه والمحبة للخلق»، فالظَّلَمَة المغرورون لا يخضعون للحق ولا يرحمون ولا يشفقون على الخلق.

ج ج

والآية الثانية نقلت أقوال فريق من المتكبرين المعاندين حول القرآن حيث كانوا

نفحات القرآن، ج 1، ص: 255

يقولون: لِمَ لَمْ ينزّل القرآن أعجمياً كي نهتم به أكثر وكي يفهمه غير العرب؟ (قد يكون مرادهم هو الحؤول دون فهم الناس له).

فأجابهم القرآن: لو نزّل القرآن أعجمياً لأشكلتم إشكالا آخر وهو «لولا فصلت آياته» أي أنّ محتواه معقد ومبهم ولا نعي شيئاً منه، ثم قلتم، عجيب أن يكون القرآن أعجمياً ونازلًا على عربي؟!

ثم أمر اللَّه رسوله بأن يقول لأولئك المغرورين:

«هُوَ لِلَّذِيْنَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِيْنَ

لَا يُؤْمِنُونَ فِى آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَّكَانٍ بَعِيْدٍ».

وواضح أنّ الذي ينادى من مكان بعيد لا يسمع ولا يرى

إذا أنكرت أعينهم نور شمس القرآن الساطعة فذلك لرمدها، وإذا أنكرت آذانهم نداء الحق المدوّي فذلك للوقر الذي فيها.

حجاب الغرور في الأحاديث الإسلامية:

1- جاء في حديث للإمام الباقر عليه السلام: «ما دخل قلب امرى ءٍ شي ء من الكبر إلّانقص من عقله ما دخله من ذلك قلَّ ذلك أو كثر» «1».

2- وقد خاطب أمير المؤمنين عليه السلام فريقاً من المنحرفين في كلماته القصار قائلًا: «بينكم وبين الموعظة حجاب من العزّة» «2».

عندما يتمحور حبّ الذات في نفس الإنسان، يسعى الإنسان لأنّ يجمع كل شي ءٍ في نفسه، وعندما يصل إلى مستوى «العجب» يرى نفسه أعلى وأرفع من أي إنسان آخر، وعندما يصل إلى مستوى «الأنانية» يرى نفسه المقياس الوحيد للقيم والجمال.

وهذه الحالات تجعل ستاراً عجيباً على عقله تحجب الحقيقة عنه، فيرى جميع القيم

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 75، ص 186 باب وصايا الإمام الباقر عليه السلام، ح 26.

(2). نهج البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 282.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 256

منحسرة في نفسه، وينسى غيره.

ولهذا، فإنّ أول خطوة في مجال تهذيب النفس هو الترفع عن «الكبر والغرور»، ولا يتأهل الإنسان للقرب من اللَّه من دون ذلك.

3- وقد جاء في كلام لأمير المؤمنين عليه السلام: «شرّ آفات العقل الكبر» «1»، كما جاء في كلام آخر له: «العجب آفة» «2».

ج ج

4- حجاب الجهل والغفلة

اشارة

1- «كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِيْنَ لَايَعْلَمُونَ . (الروم/ 59)

2- «لِتُنْذِرَ قَوْماً مَّا أُنْذِرَ آبَاءُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ» «وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيْهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَايُبْصِرُونَ* وَسوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ . (يس/ 6 و 9 و 10)

جمع الآيات وتفسيرها
اشارة

أكدت الآية الأولى على أنّ اللَّه ضرب للناس في هذا القرآن من كلِّ مثل، فتارة بآيات الآفاق والأنفس وتارة بالوعد والوعيد، وتارة بالأمر والنهي، وتارة بالبشرى والانذار، وتارة بالسبل العاطفية والفطرية، وتارة بالاستدلال، ورغم هذا البيان فإنّ فريقاً من الجاهلين والغافلين يجحدون بآيات اللَّه ويقولون: أنتم مبطلون أي على باطل، ويضيف اللَّه في الآية: هذا كله لأجل أنّ اللَّه طبع على قلوبهم وذلك بجهلهم.

إنّ الآية- في الحقيقة- تشير إلى أسوأ أنواع الجهل وهو «الجهل المركب» الجهل الذي

______________________________

(1). غرر الحكم.

(2). المصدر السابق.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 257

يحسبه صاحبه علماً، ولا يصغي لمن أراد ايقاظه من غفلة الجهل هذه، ولهذا فإنّ شخصاً كهذا يظلُّ جاهلًا جهلًا مركباً إلى أبد الدهر.

إذا كان الخطاب موجهاً لجاهلٍ «جهلًا بسيطاً» أي لا يعلم ويعلم أنّه لا يعلم، ومستعد في نفس الوقت لقبول نداء الحق والهداية، فإنّ الأمر اتجاهه بسيط، والحجاب المانع يطبع على القلب عندما يكون الجهل مركباً وممتزجاً بروح العناد وعدم التسليم لنداء الحق.

وقد نقل في بعض التفاسير شعر جميل لشاعر عربي يقول فيه:

قال حمار الحكيم يوماًلو تنصفوني لكنتُ أركب

لأنّني جاهل بسيطوصاحبي جاهل مركب «1»

ج ج

وتشير الآية الثانية إلى فريق من الغافلين الذين صدر حكم العذاب بحقهم وذلك لجهلهم وعنادهم وأنّهم ليسوا أهلًا للهداية.

ثم صوّر القرآن الحُجُب التي قد تحيط العقل تصويراً عجيباً حيث قال: «إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْنَاقِهِم أَغْلَالًا فَهِىَ الى الْاذْقَانِ فَهُمْ مُّقْمَحُونَ*

وَجَعَلْنَا مِنْ بَينِ أَيدِيهِم سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُم فَهُمْ لَايُبْصِرُونَ . (يس/ 8- 9)

إنَ عبارة «وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِم سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً» إشارة إلى الحجب التي تحول دون رؤية آيات الأفاق والكون.

إنّ الأغلال التي جاءت في الآية قد تكون إشارة إلى الحجب التي تحول دون رؤية آيات الأنفس، والأسوأ من هذا كله هو جعل الغشاوة على الأبصار بحيث لا إمكان للرؤية، وهي ستار الغفلة والجهل والغرور.

وبديهي أنّ أشخاصاً كهؤلاء مع كل هذه الحجب، سواء أنذرهم الرسول أم لم ينذرهم وسواء سمعوا آيات القرآن من شفاه محمد صلى الله عليه و آله الطاهرة أم لم يسمعوا، فهُم لا يؤمنون ولا

______________________________

(1). تفسير روح المعاني، ج 21، ص 55 ذيل الآية 59 من سورة الروم. نفحات القرآن، ج 1، ص: 258

يهتدون، إنّهم رهائن لا لغلٍ واحدٍ، بل لأغلالٍ عديدة (فالأغلال جاءت بصيغة الجمع لا المفرد)، وقد فسر البعض السد (الذي يجعل امام الشخص) بالحجب التي تحرم الإنسان من الهداية النظرية والاستدلال، والسد (الذي يجعل من الخلف) بالحجب التي تمنع من الهداية الفطرية والرجوع إليها «1».

حجاب الجهل في الأحاديث الإسلامية:

1- قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام عن الجهل: «الجاهل ميت بين الأحياء» «2».

2- كما قال في محل آخر: «الحمق من ثمار الجهل» «3».

واضح، كما أنّ الميت فاقد الإدراك والاحساس كذا الجاهل العنود، لا نتوقع منه الفهم الحقيقي للُامور.

3- من خصائص الجاهلين بالجهل المركب أنّهم يعدون العلماء الحقيقيين ضالين، ولهذا جاء في حديث الإمام موسى بن جعفر عليه السلام: «تعجب الجاهل من العاقل أكثر من تعجب العاقل من الجاهل» «4».

4- ننهي البحث بحديث للإمام أمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول فيه: «إنّ قلوب الجُهّال تستفزها الأطماع وترتهنها الُمنى وتستعلقها الخدايع» «5».

و لا

عجب أن تحجب الحقائق عن قلب كهذا،

______________________________

(1). تفسير الكبير، ج 26، ص 45 ذيل الآيات المذكورة في بحثنا.

(2). غرر الحكم، ص 99.

(3). المصدر السابق، ص 41.

(4). سفينة البحار، ج 1، ص 199.

(5). أصول الكافي، ج 1، ص 23، كتاب العقل والجهل، ح 18.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 259

5- حجاب النفاق

اشارة

1- «يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ الَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ* فِى قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَليِمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ .

(البقرة/ 9- 10)

2- «مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِى ظُلُماتٍ لَّايُبْصِرُونَ* صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لَايَرْجِعُونَ .

(البقرة/ 17- 18)

3- «اذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِيْنَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلآءِ دِيْنُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَانَّ اللَّهَ عَزِيْزٌ حَكِيمٌ . (الأنفال/ 49)

4- «وَاذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِيْنَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ الَّا غُرُورًا». (الأحزاب/ 12)

جمع الآيات وتفسيرها
المنافقون عمي القلوب:

إنّ في أوائل سورة البقرة ثلاث عشرة آية تحدثت عن النفاق والمنافقين، وقد صورتهما بدقة متناهية وبتعابير وافية، والآية الاولى هي من ضمن الآيات التي جاءت هناك.

يقول القرآن في هذه الآية: إنّ أحد أخطاء المنافقين أنّهم يخادعون اللَّه وكذا المؤمنين، وفي الحقيقة لا يخادعون إلّاأنفسهم وهم لا يشعرون ولا يعلمون، وذلك لأنّ النفاق قد غطّى قلوبهم بستاره السميك، ثم يضيف القرآن: «فِى قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً».

من الواضح، أنّ المراد من المرض في الآية هو «مرض النفاق» الذي يتغلب على قلوبهم، فالإنسان المريض لا يستطيع أن يفكر تفكيراً سليماً (لأنّ العقل السليم في الجسم السليم)، وكذلك حواسه الظاهرية، ولهذا نرى بعض المرضى تبدو ألذ الأغذية عندهم كريهة الطعم، وبعض الأغذية كريهة الطعم لذيذة.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 260

وقد شبهت الآية الثانية المنافقين بالذي ضلَّ متورطاً في ظلمات الليل، ثم استوقد ناراً ليرى مما حوله، فجاء ريح عاصف وأطفأ ما استوقده فبقي في الظلمات تارة اخرى، فلا يبصر ولا يسمع ولا ينطق شيئاً، ولا طريق له للرجوع.

قد يكون المراد من النور الذي جاء في الآية هو نور الإيمان الظاهري الذي يراه

المنافق ويستضي ء به ما حوله ويحفظ نفسه وماله تحت ضيائه.

أو أنّ المراد منه هو نور الفطرة الذي جُبل عليه الإنسان، والمنافقون يستثمرون هذا النور في البداية، ولا يمضي زمن طويل حتى تأتي زوبعة النفاق فتطفئه.

و تحدثت الآية الثالثة والرابعة عن المنافقين مرضى القلوب، وبقرينة الآيات السابقة ندرك أنّ المراد من «الذين في قلوبهم مرض» هو نفس المنافقين وأنّ العطف عطف تفسيري «1»، إلّاأنّ الآية الثالثة تحدثت عن موقفهم في معركة بدر، والرابعة عن موقفهم في معركة الأحزاب، والفرق هو أنّهم كانوا في «بدر» في صفوف المشركين لأنّ المشركين يوم ذاك كانوا القوة الراجحة، وفي معركة الأحزاب كانوا مع المسلمين.

كانوا يقولون: «اغترَّ هؤلاء المسلمون بدينهم، وقد خطوا هذه الخطوة الخطيرة (الجهاد) رغم قلة العدّة والعدد ظناً منهم بالنصر، أو بالشهادة التي مصيرها الموت»!

بالطبع، إنّهم غير قادرين- بسبب المرض الذي في قلوبهم- على الإدراك الصحيح لعوامل النصر الحقيقية أي الإيمان والثبات والفتوة التي هي وليدة الإيمان فما كانوا يدركون أن من يتوكّل على اللَّه القادر فهو حسبه وهو ناصره، والشاهد على هذا الحديث هو ما حصل

______________________________

(1). لقد جاء في تفسير الميزان، ص 164 و 302؛ وكذلك تفسير الكبير، ج 15، ص 176، أنّ المراد من الذين في قلوبهم مرض هم ضعيفو الإيمان وهم غير المنافقين. لكن لا يتناسب ضعف الإيمان مع المرض في القلب، إضافة إلى أن الآيات الثلاثة عشرة التي جاءت في أوائل سورة البقرة استعملت هذا التعبير في حقهم. كما يبدو بُعد الرأي الذي يفسر المرض بالترديد والشك، لأنّ المرض نوع من الانحراف، بينما الشك نوع من الفقدان.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 261

في صدر الإسلام، حيث إنّ بعض المسلمين رفض الهجرة إلى المدينة، والعجيب في الأمر

أنّ قريشاً عندما تحركوا نحو بدر لقتال المسلمين، اصطف هؤلاء المسلمون (المنافقون) في صفوفهم، وكانوا يحدثون أنفسهم أنّهم سيلتحقون بجيش محمد إذا كان جيشه ذا عدد كبير، وسيبقون مع جيش قريش إذا ما كان عدد المسلمين قليلًا «1».

وهل للنفاق مفهوم غير هذا الذي تجسد في هذه المجموعة؟ وإذا لم يكونوا منافقين، فمن هم المنافقون؟

وقد حصل هذا الأمر بالذات في معركة الأحزاب فإنّ شخصيات كثيرة من المنافقين كانت قد حشرت نفسها مع المسلمين، وعندما شاهدوا كثرة الأحزاب قالوا بصراحة: ما وعدنا الرسول إلّاكذباً وباطلًا.

وهذا هو حجاب النفاق الذي لا يسمح لهم من إدراك الحقائق، رغم أنهم شاهدوا بأم أعينهم أن النصر ليس بكثرة العدد، بل بالإيمان والثبات الناشي ء عنه.

سؤال:

يطرح سؤال هنا وهو: كيف يكون النفاق حجاباً يحجب عن الحقائق؟

الجواب:

يمكننا الإجابة عن هذا السؤال بالالتفات إلى ملاحظة في هذا المجال وهي: إنّ روح النفاق تستلزم أن يتحرك الإنسان مع كل التيارات وأن يكون مع جميع الفرق، وأن يتخذ صبغة المحيط الذي يعيش فيه، فيفقد في النهاية أصالته واستقلاله الفكري، إنّ طريقة تفكير إنسان كهذا تكون متطابقة دائماً مع طريقة تفكير الفريق الذي يكون معهم، فلا عجب أن يكون حكمه غير صحيح.

______________________________

(1). تفسير الكبير، ج 15، ص 176 ذيل الآية 49 من سورة الأنفال.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 262

وقد جاء في بعض التفاسير: إنّ التعبير ب «في قلوبهم مرض» يصدق في موارد كهذه الموارد، من حيث إنّ غاية القلب (العقل) الخالص هو معرفة اللَّه وعبوديته، وكل صفة منعت وحجبت عن غاية القلب هذه، قيل لها مرض (لأنّها تحجب الهدف وتمنعه من الظهور) «1».

ولهذا جاء في الآية 7 سورة المنافقين: «وَلكِنَّ الْمُنَافِقِيْنَ لَايَفْقَهُونَ .

كما قد جاء في حديث الإمام الباقر

عليه السلام: «إنّ القلوب أربعة: قلب فيه نفاق وإيمان وقلب منكوس وقلب مطبوع وقلب أزهر أجرد» فقلت ما الأزهر؟ قال: «فيه كهيئة السراج، فأمّا المطبوع فقلب المنافق، وأمّا الأزهر فقلب المؤمن إن أعطاه شكر وإن ابتلاه صَبَر، وأمّا المنكوس فقلب المشرك» «2».

وننهي حديثنا هذا بكلام للإمام أمير المؤمنين عليه السلام: «النفاق على أربع دعائم على الهوى والهوينا والحفيظة والطمع» «3».

ونعلم أنّ كلًا من هذه الامور الأربعة تشكل حجاباً سميكاً أمام نظر العقل.

6- حجاب التعصب والعناد

اشارة

1- «وَمِنْهُمْ مَّنْ يَسْتَمِعُ الَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِمْ وَقْراً وَانْ يَرَوا كُلَّ آيَةٍ لَّايُؤْمِنُوا بِهَا حَتّى اذَا جاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِيْنَ كَفَرُوا انْ هَذَا الَّا أَسَاطِيْرُ الْأَوَّلِيْنَ . (الأنعام/ 25)

2- «وَاذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالأَخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً* وَجَعَلنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَاذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا». (الاسراء/ 45- 46)

3- «فَانَّكَ لَاتُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ اذَا وَلَّوْا مُدْبِرِيْنَ* وَمَا

______________________________

(1). تفسير الكبير، ج 2، ص 64 ذيل الآية 10 من سورة البقرة.

(2). اصول الكافي، ج 2، ص 442 باب في ظلمة قلب المنافق، ح 1.

(3). اصول الكافي، ج 2، ص 393 باب صفة المنافق والنفاق،.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 263

أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْىِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ ان تُسْمِعُ الَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُّسْلِمُونَ».

(الروم/ 52- 53)

4- «وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَذَا القُرآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُم بِآيَةٍ لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَروا انْ أَنْتُمْ الَّا مُبْطِلُونَ* كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَايَعْلَمُونَ .

(الروم/ 58- 59)

5- «وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا الَيْهِ وَفِى آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بِيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ انَّنَا عَامِلونَ . (فصلت/ 5)

جمع الآيات وتفسيرها
الموتى المتحركون:

حضر عند رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ابو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وأبو جهل وأفراد آخرون واستمعوا إلى حديث الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله فقالوا للنضر: ما يقول محمد؟

(وكان النضر تاجراً يسافر إلى ايران وله اطّلاع واسع بالأساطير والقصص التاريخية الايرانية) فقال: لا أدري ما يقول لكنّي أراه يحرك شفتيه ويتكلّم بأساطير الأولين كالذي كنت احدثكم به عن أخبار القرون الاولى وقال أبوسفيان: إنّي لا ارى بعض ما

يقول حقاً.

فقال أبوجهل: كلا، فانزل اللَّه تعالى «وَمِنْهُمْ مَّنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ اكِنَّهً انْ يَفْقَهُوهُ» «1».

وقال بعض المفسرين في تفسير هذه الآية أنّهم لما أصروا على الكفر وعاندوا وصمموا عليه فصار عدو لهم عن الإيمان والحالة هذه كالكنان المانع عن الإيمان «2».

ولهذا نزلت هذه الآية وقالت بصراحة: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ الَيْكَ ...».

______________________________

(1). تفسير الكبير، ج 12، ص 186.

(2). المصدر السابق، ص 187.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 264

وقد قال بعض المفسرين في تفسير هذه الآية:

«وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً»: إنّ عناد هؤلاء الكفرة واصرارهم في معاداة الحق، يجعل ستاراً على قلوبهم يحول دون إيمانها «1».

وقد تحدثت الآية الثانية عن الحجاب الذي كان يُجعل بين الرسول صلى الله عليه و آله وبين فريق من المنافقين عندما كان يتلو القرآن الكريم.

وقد فسر البعض هذا الحجاب بستار حقيقي كان يجعله اللَّه بين الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله وبينهم بحيث لا يرونه، إلّاأنّه مع الالتفات إلى الآيات التي لحقت هذه الآية من نفس السورة، يتضح لنا أنّ الحجاب لم يكن سوى «حجاب التعصب والعناد والغرور والجهل» الذي كتم حقائق القرآن عن عقولهم وإدراكهم.

والشاهد على ذلك هو قوله تعالى «وَاذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِى الْقُرآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا» فالمستفاد من هذا التعبير هو أنّهم كانوا يصغون في البداية إلى حديث الرسول صلى الله عليه و آله ثم يولون مدبرين لعدم سماح العناد لهم لإدراك القرآن، وإدراك حديث التوحيد.

ونشاهد في نفس السورة تعابير اخرى تحكي روح العناد المتجسمة فيهم، ومع هذا، فهل يمكنهم إدراك حقيقة ما؟

وخاطبت الآية الثالثة الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله قائلة له: إنّك لا تُسمع الموتى ولا الصم عندما يولون مدبرين، كما

أنّك لا تستطيع هداية العمى وانقاذهم من الهلاك، فما يسمع كلامك إلّاالذين آمنوا بآيات اللَّه وسلموا للحق (أي الذين تتلهف قلوبهم للحق، فإنّ قلوباً

______________________________

(1). تفسير الكبير، ج 12، ص 187.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 265

كهذه كالأرض المعدَّه للزرع، تسطع عليها الشمس، وتقطر السماء عليها قطرات الحياة، فتنمو فيها البذور بسرعة، وأمّا القلوب التي عطّلتها حُجب التعصب والجهل فانّها محرومة من هذه الحقائق) «1».

والآية الرابعة تحدثت عن أولئك الكفار الذين وقفوا أمام الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله عناداً، وخالفوا كل ما جاء به، فكانوا يرمون الرسول والقرآن بالباطل تارة، وتارة اخرى يقولون:

إنّ ما جاء به الرسول سحر وأساطير الأولين ولا مجال للحق فيه: فتحدث في هذه عن هؤلاء وقال: «كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِيْنَ لَايَعْلَمُونَ . لأنّهم لا يعلمون شيئاً عن هذا الكتاب السماوي الذي هو مصدر للحقائق.

كما أنّ الآية توضح العلاقة بين «الجهل» و «العناد».

وعكست الآية الخامسة النموذج الكامل من العناد، فما قيل إلى الآن كان خطاباً بين اللَّه ورسوله، أمّا هنا فهم يعترفون بأنفسهم بأنّ على قلوبهم أكنة، وفي آذانهم وقراً، وبينهم وبين رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حجاب لا يسمح لهم إدراك ما يقول والتسليم له، فاعمل على شاكلتك ونحن عاملون على شاكلتنا.

إنّ هذه التعابير تبين بوضوح ما هو العامل الأساسي لهذه الحجب وما هو السبب الرئيسي للوقر الذي يجعل في الاذن؟ إنّها عبارات يقطر منها التعصب والعناد وتبين سبب شقائهم وتعاستهم.

كما أنّ «التعصب» مشتق من مادة «عصب» وهو في البدن خلايا تسبب اتصال العضلات إحداها بالاخرى أو بالعظام، والعصب بمثابة الوسيلة لنقل الايعاز إلى المخ، وبما

______________________________

(1). وقد جاء في سورة النمل الآية 11 مضمون يشبه مضمون هذه الآية.

نفحات

القرآن، ج 1، ص: 266

أنّ له بنياناً قوياً ومحكماً استعملت هذه المفردة بمعنى الشدة والاستحكام، ويوم عصيب يعني يوم شديد وصعب، ولهذا يطلق «التعصب» على حالة الإرتباط الشديد بشي ء، كما أن «العُصْبة» على وزن أسوة تعني جماعة من الرجال (المقتدرين) الذين لا يقلون عن عشرة، وأمّا «عَصَبة» فتعني أقارب الرجل من جهة الأب «1».

إنّ «اللجاجة» وهي من مادة «لجّ» هي التمادي في العناد، وملازمة أمر ما وعدم الانصراف عنه، و «اللجّة» تعني حركة أمواج البحر، أو التباس ظلمات الليل، و «البحر اللّجي» هو البحر الواسع والمتلاطم، والتلجلج في الكلام هو التردد فيه، أو اختلاط الأصوات «2».

النتيجة:

إنّ التعصب واللجاجة والعناد يتلازم أحدها الآخر، لأنّ الارتباط الشديد بشي ء يدعو الإنسان إلى الالحاح والعناد والدفاع عنه بدون قيد أو شرط.

بالطبع قد يستعمل التعصب بمعنى الانحياز والإرتباط بالحق، إلّاأنّ الاستعمال الغالب له هو الإرتباط بالباطل.

إنّ منشأ التعصب واللجاجة والعناد- بجميع أشكالها- هو الجهل والقصور الفكري، لأنّ صاحب التعصب واللجاجة يظن أنّه إذا تخلى عن عقيدته ورأيه فهذا يعني تخليه عن كلِّ شي ءٍ، أو أنّ هذا إهانة لشخصيته.

وقد يكون منشأه هو التكبر والغرور اللذين يمنعانه من الخضوع أمام الحق والتسليم له، وقد يكون منشأه عوامل أخرى

إنّ التعصب واللجاجة يجعلان ستاراً قاتماً على العقل لا يسمح للإنسان أن يرى

______________________________

(1). كتاب العين، والمفردات، ومجمع البيان، ولسان العرب.

(2). المصدر السابق.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 267

الحقائق، حيث نرى البعض غير مستعدين للتخلي عن عقائدهم بأي شكل كان رغم وجود الأدلة القطعية على بطلانها، وإنّ أشخاصاً كهؤلاء لو أقمنا لهم ألف دليل ودليل على أنّ للدجاج رجلين، قالوا: كلا، بل رجل واحدة! ولو أخذناهم بأيدينا تحت نور الشمس الساطعة وقلنا لهم: إنّه نهار، قالوا:

لا بل ليل!

لقد عكست الآيات التي ذكرناها في بداية البحث هذه الحقيقة بوضوح، واعتبرت هؤلاء صُمّاً وعمياً وأمواتاً، وطبع على قلوبهم، أو أنّ قلوبهم مغلقة فلا يفقهون شيئاً.

وقد جاء في الروايات الإسلامية مضامين تستند إلى نفس المضمون الذي جاء في الآيات المذكورة، وفيها توبيخ لأهل اللجاجة والعناد.

منها قول أمير المؤمنين عليه السلام: «اللجوج لا رأيَ له» «1».

ومنها قوله عليه السلام كذلك: «اللَّاجُ يُفسد الرأي» «2».

وكذا قوله عليه السلام: «ليس للجوجٍ تدبير» «3».

وقال الإمام عليه السلام نفسه في الخطبة القاصعة: «فاللَّه اللَّه في كِبْر الحَمية وفخر الجاهلية فإنّه ملاقح الشنآن، ومنافخ الشيطان، التي خدع بها الأمم الماضية والقرون الخالية حتى أعنقوا في حنادس جهالته ومهاوي ضلالته» «4».

ننهي حديثنا بكلام آخر لنفس الإمام العظيم، في جواب له على رسائل أهالي مدن مختلفة حول حوادث صغيرة: «مَنْ لَجّ وتمادى فهو الراكسُ الذي رانَ اللَّهُ عَلى قلبه وصارت دائرة السوء على رأسه» «5».

بالطبع- وكما قلنا سابقاً- إنّ الاصرار والالحاح في الحق ليس تعصباً، وإذا أطلقنا عليه تعصباً فهو «تعصب ممدوح»، ولهذا جاء في حديث للإمام علي بن الحسين عليه السلام عندما سُئِل

______________________________

(1). غرر الحكم.

(2). المصدر السابق.

(3). المصدر السابق.

(4). نهج البلاغة الخطبة 192.

(5). المصدر السابق الرسالة 85.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 268

عن مفهوم التعصب: «العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجلُ شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يُحب الرجلُ قومه ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم» «1».

7- حجاب التقليد الأعمى

اشارة

نُمعن خاشعين أولًا في الآيات التالية:

1- «قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الْوَاعِظِيْنَ* انْ هَذَا الَّا خُلُقُ الْأَوَّلِيْنَ* وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِيْنَ . (الشعراء/ 136- 138)

2- «وَاذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوا الى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ

وَالَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَاوَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَايَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ .

(المائدة/ 104)

3- «وَاذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ انَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَاتَعْلَمُونَ . (الأعراف/ 28)

4- «وَاذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آباءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ الى عَذَابِ السَّعِيْرِ». (لقمان/ 21)

5- «وَكَذَلِكَ مَا ارْسَلْنَا مِنْ قَبلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِّنْ نَّذِيْرٍ الَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا انَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَانَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُّقْتَدُونَ . (الزخرف/ 23)

ج ج

شرح المفردات:

رغم أنّه لم ترد مفردة «التقليد» عيناً في الآيات السابقة بل جاءت مفردة الاقتداء أو

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 73، ص 288.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 269

الاهتداء أو اتباع ما كان عليه الآباء والاسلاف وامثال هذه المفردات، إلّاأنّه من المستحسن ايضاح مفهوم هذه المفردة جيداً.

إنّ هذه المفردة مشتقة من مادة «قَلْد»، وتعني في الأصل- كما ورد عن الراغب في المفردات- فتل الحبل، وقيل للقلادة «قلادة» من حيث إنّ حبالًا كانت تُفتل وتعلق في العنق، «والقلائد» جمع قلادة، استعملها القرآن وأراد بها الأنعام التي تُعدّ للأضحية في مناسك الحج، فانّها تُقلَّد لتتميز عن غيرها من الأنعام (الآية الثانية من سورة المائدة)، كما أنّ اطلاق التقليد على اتباع الآخرين، من حيث إنّ المقلِّد يجعل كلام المقلَّد كالقلادة في عنقه، أو من حيث إنّه يلقي المسؤولية على عاتق المقلَّد.

أمّا «مقاليد»- وكما يقول كثير من اللغويين- فجمع «مقليد» أو «مِقْلد»، إلّاأنّ الزمخشري ادّعى في كشافه: عدم وجود مفرد لهذه الكلمة.

وأمّا «مقليد» و «اقليد»، فبمعنى المفتاح، وقد نقل ابن منظور في لسان العرب: إنّ أصل هذه المفردة هو كلمة «كليد» الفارسية والتي تعني مفتاح كذلك،

واستعملت في العربية بنفس المعنى وتستعمل «مقاليد» بمعنى الخزائن أيضاً، وذلك من حيث إنّها تقفل ولا طريق لها إلّابالمفتاح.

إذن، لا علاقة بين مفردة «مقاليد» مع مادة «التقليد» و «القلادة» «1».

إلّا أنّه يحتمل رجوع كلا المفردتين إلى مادة واحدة من حيث إنّ كثيراً من الناس يجعلون المفاتيح في فتائل ويقلدون بها أعناقهم «2».

ج ج

جمع الآيات وتفسيرها
قومٌ أهلكهم تقليدهم:

إنّ الآية الاولى أشارت إلى حديث قوم «عاد» مع رسولهم ذي القلب العطوف

______________________________

(1). مفردات الراغب؛ مجمع البحرين؛ لسان العرب؛ البرهان القاطع وكتب اخرى.

(2). وقد اعتبر البعض «اقليد» مفردة يمنية أو رومية (مجمع البحرين ولسان العرب- مادة قلد-).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 270

نفحات القرآن ج 1 299

الرحوم «هود»، فعندما دعاهم إلى التوحيد وترك الظلم والاجحاف والترف أجابوه: «سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الوَاعِظِينَ وبهذا كشفوا عن تحجرهم وصلابتهم تجاه كلام النبي المنطقي، وذلك لعدم سماح حجاب التقليد لهم بقبول الحقيقة.

ج ج

وقد كشفت الآية الثانية عن مواقف مشركي العرب عندما كانوا يُدعون إلى ما أنزل اللَّه، وإلى ترك عبادة الأصنام، وترك البِدَع في تحريم كثير من الامور الحلال، وكان جوابهم آنذاك: «حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا» فيظنون أنّ هذا يغنيهم عن القرآن هادياً!!

إلّا أنّ القرآن أراد ايقاظهم من غفلتهم هذه وأراد تمزيق حجاب التقليد عندهم فأجابهم:

«أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُم لَايَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ وهل يجوز تقليد الجاهل الضالّ:؟!

ج ج

والآية الثالثة أشارت إلى مشركي العرب أيضاً (أو فريق من ذوي الصفات الشيطانية) فانهم إذا ما سُئِلوا عن سبب إتيانهم الفاحشة والعمل القبيح؟ أجابوا: «وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا» ولا يكتفون بهذا بل قد يضيفون: «وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا».

فينفي القرآن هذه التهمة الكبيرة ويقول: «انَّ اللَّهَ لَايَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ .

يعتقد كثير من

المفسرين أنّ المراد من «الفحشاء» في الآية الكريمة هو طوافهم رجالًا ونساءً عراة في عصر الجاهلية، حيث كانوا يعتقدون: أنّ الملابس التي ارتكب بها ذنب ليست أهلًا لأنّ يُطاف بها حول بيت اللَّه الحرام.

وعلى هذا المنوال، كان ينتقل عملهم القبيح هذا من نسل إلى نسل بالتقليد الأعمى وما كان التقليد يسمح لهم لأنّ يدركوا قبح هذا الفعل.

ج ج

نفحات القرآن، ج 1، ص: 271

إنّ رابع وخامس آية أشارتا إلى موقف وكلام فريق من المشركين في عهد الرسول صلى الله عليه و آله أو العهود التي سبقت عهده تجاه دعوة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله أو الأنبياء السالفين، حيث كانوا يقولون: «انَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَانَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُّقْتَدُونَ .

وهكذا توارثت الأجيال بعد الأجيال الكفر وعبادة الأصنام والآثام والعادات والسنن القبيحة، وقد نسجت روح التقليد حجاباً سميكاً على عقولهم لا يسمح لهم لقبول أي حقيقة، فيقول القرآن عن هؤلاء تارة: «أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَايَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ .

(المائدة/ 104)

ويقول تارة اخرى: «أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ الَى عَذَابِ السَّعِيْرِ».

(لقمان/ 21)

واخرى: «قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَا وَجَدْتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ .

(الزخرف/ 24).

ج ج

توضيحات
1- أنواع التقليد المختلفة

إنّ تقليد الآخرين، سواء كان تقليداً لحيٍ أو ميت، أو تقليداً لشخص أو فريق لا يخرج عن صورٍ أربع:

1- تقليد الجاهل للعالم: أي تقليد الجاهل بشي ء لمن له تخصص أو خبرة بفنٍ أو علم، مثل مراجعة المريض للطبيب الخبير بعلم الطب.

2- تقليد العالم للعالم: أي مراجعة أهل العلم أحدهم للآخر واتباع كلٌّ منهم للآخر.

3- تقليد العالم للجاهل: أي يترك الإنسان علمه وخبرته، ويتبع الجاهل ويقلده عشوائياً.

4- تقليد الجاهل للجاهل: بأن يتخذ قوم جُهّال عادات وتقاليد ومعتقدات ليست

نفحات القرآن، ج 1، ص: 272

قائمة على دليل أو مستندة

إلى شي ء، ويقوم قوم آخرون باتباع أولئك القوم وتقليدهم فيها، وهذا هو أكبر عامل لانتقال المعتقدات الفاسدة والتقاليد الخاطئة من قوم إلى آخر، وهذا النوع من التقليد استهدفته أكثر الآيات التي ذمّت التقليد.

واضح أن القسم الأول من التقليد هو القسم المنطقي الوحيد، وقد اعتمدت حياة الناس على ذوي الاختصاصات وعلى هذا النوع من التقليد المنطقي، لأنّ الإنسان حتى لو كان نابغة زمانه لا يمكنه التخصص في جميع الاختصاصات والفروع العلمية، خصوصاً، وأنّ العلم- في هذا العصر- أصبحت له فروع وتشعبات لا تُعد ولا تُحصى، ومن المحال أن يتخصص إنسان في فروع علمٍ أو فنٍ واحدٍ، فضلًا عن جميع العلوم والفنون.

وعلى هذا، فكل إنسان يمكنه أن يكون مجتهداً في فرع من فروع العلوم، أمّا في الفروع الاخرى التي لم يجتهد فيها، فلا طريق له إلّاالرجوع إلى المتخصصين فيها.

إنّ المعمار يراجع الطبيب إذا مرض، والطبيب يراجع المعمار إذا أراد بناء عمارة، أي أنّ كلًا منهما «مجتهد» في تخصصه و «مقلِّد» في التخصص الآخر، وهذا (رجوع الجاهل إلى العالم وغير المجتهد إلى المجتهد وغير المتخصص إلى المتخصص) أصل عقلائي كان ولا يزال متعارفاً ودارجاً بين الناس، بل إنّ عجلة الحياة تسير على هذا النوع من التقليد، بالطبع أنّ هناك شروطاً ينبغي توفرها في المجتهد الذي يُرجع إليه، سنتعرض لها بعد ذلك.

وهذا التقليد هو الذي أشار إليه البارى تعالى في القرآن الكريم وعنونه ب «أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ». (الأحزاب/ 21)

كما جاء في الآية: «أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِةْ». (الانعام/ 90)

ورغم أنّ الخطاب موجه للرسول الأعظم صلى الله عليه و آله، لكن لا يبعد أن يكون المخاطب به الامة بأجمعها.

أمّا الأقسام الثلاثة الباقية من التقليد فكلّها باطلة ولا أساس منطقي لها،

فتقليد (العالم للجاهل) و (الجاهل للجاهل) حالهما واضح، وأمّا تقليد (العالم للعالم) فان كان من باب مراجعة أحدهما الآخر للتشاور وتكميل المعلومات، فلا يُعدُّ هذا تقليداً بل هو نوع من «التحقيق».

نفحات القرآن، ج 1، ص: 273

إنّ التقليد هو غض الطرف عن التخصص الذي يمتلكه الإنسان واتباع شخص آخر اتباعاً بدون قيد أو شرط، فالمسلّم أنّ التقليد من قبل شخصٍ قادرٍ على التحقيق والاجتهاد أمر مذموم وغير صحيح، ولهذا لم يُجِزْ الفقه الإسلامي للمجتهدأن يكون مُقلِّداً.

ويتضح مما قلنا فلسفة تقليد المجتهدين في المسائل الفقهية من قبل غير المجتهدين، ومثل هذا دارج في جميع الفروع العلمية، وبما أنّ الفقه الإسلامي واسع إلى درجة حيث لا يمكن للناس جميعاً أن يجتهدوا، فجميع أبوابه والتحقيق فيها تعيّن على فريق منهم الاجتهاد بالفقه، وعلى الناس اتباعهم، إلّاأنّ الأمر يختلف عنه في اصول الدين، فيتعين التحقيق والاجتهاد فيها على كل مسلم، وذلك لإمكانية ذلك، فلا يجوز التقليد فيها.

ج ج

2- شروط التقليد الممدوح

عادة ما يقال في تعريف «التقليد» أنّه عبارة عن قبول كلام الآخرين بلا دليل، وتارة يوسعون المفهوم ويعتبرون الاتباع العملي تقليداً من دون الالتزام بحديث أو كلام للآخرين، وتارة يعدون التأثيرات اللا إرادية (التي تتركها أعمال وسلوك وصفات الآخرين عند الإنسان) قسماً من التقليد.

بالطبع أنّ القسم الأخير من التقليد (الذي يتحقق بشكل غير ارادي) خارج عن موضع بحثنا، أمّا القسم الثاني والثالث، فيمكن أن يكونا ممدوحين إذا ما توفر شرطان في «المقلَّد»- أو مرجع التقليد- وهما: الخبرة والصدق، أي كونه من أهل العلم أولًا، وينقل ما يوحي إليه علمه بصدقٍ ثانياً، وإذا ما انتفى هذان الشرطان دخل التقليد القسم المذموم.

ومن جهة اخرى، ينبغي أن يكون موضوع التقليد من مواضيع الاختصاصات كي يباح التقليد فيه،

أمّا إذا كان من المسائل العامة التي يمكن للناس كافة الخوض والتحقيق فيها (مثل اصول الاعتقادات وبعض المسائل الأخلاقية والاجتماعية غير ذات الجانب

نفحات القرآن، ج 1، ص: 274

الاختصاصي) فانه يتعين على كل إنسان التحقيق فيها والوصول إليها بنفسه.

ومن جهة ثالثة، فإنّ المقلِّد ينبغي أن لا يكون قادراً على الاستنباط، فإذا ما قدر على ذلك في مسألةٍ ما، مُنع من التقليد فيها.

ومن هنا تتّضح حدود التقليد الممدوح والتقليد المذموم من الجهات الثلاث (أي شروط المرجع وشروط المقلِّد) وشروط الموضوع المقلِّد فيه).

ننهي كلامنا هذا بحديث عن الإمام الصادق عليه السلام:

قال رجل للصادق عليه السلام: إذا كان هؤلاء العوام من اليهود لا يعرفون الكتاب إلّابما يسمعونه من علمائهم فكيف ذمّهم بتقليدهم والقبول من علمائهم؟ وهل عوام اليهود إلّا كعوامنا يقلّدون علماءهم، فقال عليه السلام: «بين عوامنا وعوام اليهود فرق من جهه وتسوية من جهة أمّا من حيث الاستواء فإنّ اللَّه ذم عوامنا بتقليدهم علماءهم كما ذمّ عوامهم، وأمّا من حيث افترقوا فإنّ عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح وأكل الحرام والرشا وتغيير الأحكام واضطرّوا بقلوبهم إلى أن من فعل ذلك فهو فاسق لا يجوز أن يصدّق على اللَّه ولا على الوسائط بين الخلق وبين اللَّه فلذلك ذمهم، وكذلك عوامنا إذا عرفوا من علمائهم الفسق الظاهر والعصبية الشديدة والتكالب على الدنيا وحرامها فمن قلّد مثل هؤلاء فهو مثل اليهود الذي ذمّهم اللَّه بالتقليد لفسقة علمائهم فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه» «1».

ج ج

3- عوامل التقليد الأعمى

التقليد الأعمى أو بتعبير آخر: (تقليد الجاهل للجاهل) والأسوء منه (تقليد العالم للجاهل)، دليل على الإرتباط الفكري، وله عوامل عديدة، نتعرض لبعضها بالإجمال هنا:

______________________________

(1).

الوسائل الشيعة، ج 18، ص 94.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 275

1- عدم النضج الفكري: إنّ أشخاصاً قد ينضجون ويبلغون جسمياً، إلّاأنّ فكرهم لا يستقل ولا يبلغ إلى آخر العمر، ولهذا يظلون من أتباع هذا وذاك، ولا يفكرون يوماً في مسألة ما ولا يحللونها باستقلال.

إنّ أنظار هؤلاء تترصد الآخرين دائماً، فيرددون ما يتفوه به الآخرون، وكأنهم خُلِقوا بلا إرادة، ولهذا قد يغيرون اتّجاههم بالكامل إذا ما تغيرت بيئتهم أو تغير محيطهم.

إنّ طريق مكافحة هذا النوع من التقليد الأعمى هو رفع المستوى الثقافي للمجتمع والسعي لإزدهار الأفكار والقابليات.

2- التأثر بشخصية: وهي أَنْ يتأثَّرَ الإنسان بشخصية ما ويجعلها أسوة له بحيث لا يرى نفسه أهلًا لإبداء الرأي أمام صاحبها، فيتبعه بكل معنى الكلمة ويسير خلفه وإن لم تكن تلك الشخصية أهلًا للاتباع والتقليد.

3- التعلق الشديد بالأسلاف: والتعلق هذا قد يصنع منهم أناساً مقدسين وإن لم يكونوا أهلًا لذلك، فتتبعهم الأجيال اللاحقة عشوائياً، ومع أنّ الأجيال اللاحقة التي ترث علوم السالفين وتضيف اليها علوماً اخرى تكون أكثر وعياً بطبيعة الحال، لكنها مع ذلك تبتلى بالتقليد العشوائي.

4- التحزّب أو التعصّب الطائفي: إنّ تعصباً كهذا يدفع بفريق من الناس لاتباع حزب أو طائفة والسير خلفهما والتمسّك بترديد ما يتبناه ذلك الحزب أو تلك الطائفة، بحيث لا يسمح الإنسان لنفسه بالتفكير باستقلال والعمل خارج اطار الحزب أو الطائفة.

إنّ هذه العوامل الأربعة وعوامل اخرى سببٌ لانتقال كثير من الخرافات والأوهام والعقائد الباطلة والتقليد والعادات الخاطئة والسنن الجاهلية والأعمال القبيحة من قوم إلى قوم آخرين ومن نسل إلى نسل آخر.

وبتعبير آخر، فإنّ الميول الخاطئة تجعل حجاباً على فكر الإنسان تحول دون معرفته للحق.

ج ج

نفحات القرآن، ج 1، ص: 276

8- حجاب حب الرفاه

اشارة

في البدء نتأمل خاشعين في الآيات التالية:

1- «وَاذَا

أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ الْقَاعِدِينَ* رَضُوا بِأَنْ يُكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَايَفْقَهُونَ . (التوبة/ 86- 87)

2- «إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِيْنَ يَسْتَأذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَايَعْلَمُونَ . (التوبة/ 93)

ج ج

جمع الآيات وتفسيرها
اعفنا من الجهاد:

أشارت الآية الاولى إلى أولئك الذين لم يستعدوا لتنفيذ الأوامر الإلهيّة في مجال الجهاد، فبالرغم من اقتدارهم الجسمي والمالي للحضور في سوح القتال لكنهم انضموا إلى صفوف القاعدين وغير القادرين على الجهاد، وقد ألحوا على الرسول صلى الله عليه و آله بأن يذرهم ويجعلهم مع القاعدين والخوالف.

و «القاعدين» جمع «قاعد» وهم المعذورون عن الجهاد.

و «الخوالف» جمع «خالفة» ومن مادة (خَلْف) ومعناها يقابل الأمام، ولهذا يقال «خالفة» للنساء اللاتي يبقين ماكثاتٍ في بيوتهنَّ عند خروج رجالهن، ولا يبعد أن يكون مفهوم هذه المفردة أعم من النساء، بحيث يشمل جميع العاجزين عن الجهاد والمعذورين عن الالتحاق بساحات القتال من النساء والأطفال والشيوخ والمرضى

يقول الراغب في مفرداته: إنّ «خالفة» عمود يجعل في نهاية الخيمة وتطلق- كناية- على النساء الماكثات في البيوت، ويقول البعض: إنّ «خالف» من تخلّف كثيراً «1».

______________________________

(1). تفسير المنار، ج 10، ص 572.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 277

وتستعمل هذه المفردة- أحياناً- بمعنى «كريه الرائحة» من باب أنّ الرائحة الكريهة تستخلف الرائحة الجيدة إذا ما ذهبت.

وقال البعض: إنّها بمعنى الانحطاط والميل إلى الامور الدنيئة لانَّ هذا المَيْل يدلّ على التخلف «1»، إلّاأنّ المعنى الأول أنسب من بقيّة المعاني.

وعلى أيّة حال، فإنّ محبي الرفاه وطلاب العافية غير مستعدين للايثار والتضحية عند الأزمات والكوارث الاجتماعية، وهم مستعدون لأنّ يُجعلوا في صفوف الأطفال والمرضى دون أن يلتحقوا بصفوف

المجاهدين، ويقول القرآن فيهم، في نهاية الآية نفسها:

«وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ .

نعم، إنّ حبّ الراحة والرفاه كالحجاب الذي يمنع من الرؤية الفكرية الصحيحة، فهؤلاء لا يدركون أنّ السعادة ليست بالأكل والشرب، بل قد تكون في الحضور في ميادين الجهاد، وفي التخضب بالدماء، وبلقاء اللَّه، إلّاأنّ الذي لا يفهم هذه الامور يستهزئ بها.

ج ج

وتشير الآية الثانية إلى المعذورين عن الجهاد مثل الضعفاء والمرضى والذين لا يملكون الوسيلة للقيام بهذا الأمر، بينما تشتاق إليه قلوبهم، وتصب دموعهم لعدم اقتدارهم على الانفاق، يقول اللَّه فيهم: «إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِيْنَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ .

ثم يضيف: «وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَايَعْلَمُونَ وذلك لأنّ الميل إلى الراحة جَعَلَ حجاباً سميكاً على قلوبهم فلا يكادون يفقهون شيئاً، إنّ كلتا الآيتين توضح حقيقة واحدة وهي العلاقة بين «التخلف عن الجهاد لأجل الراحة والصحة» و «عدم إدراك الحقائق».

______________________________

(1). تفسير الكبير، ج 16، ص 163.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 278

9- حجاب الأمانيّ

اشارة

1- «يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ قَالُوا بَلى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِىُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ».

(الحديد/ 14)

جمع الآيات وتفسيرها
الآمال البعيدة:

إنّ «الأماني» جمع «أمنية» وتطلق على الحالة النفسية التي تعرض للإنسان من جراء تمنيه لشي ءٍ ما «1»، والجدير بالذكر أنّ الأماني المعقولة والمنطقية ليست نقصاً، بل هي عامل لتقدم البشر وبناء مستقبل أفضل لهُ من الحاضر، إنّما النقص في الآمال البعيدة وغير المنطقية، ولهذا يفسرون الأماني في موارد كهذه بالمعنى الثاني، حيث تجعلُ الإنسان في غفلة وتسدل حجاباً من الظلمة على قلبه.

ويقول ابن الأثير: إنّ التمني يعني تشهّي حصول الأمر وكذلك يطلق على ما يخطر على النفس بالنسبة للمستقبل، كما أنّ «مُنْية» و «الامْنيّة» وردتا بمعنى واحد «2»، إلّاأنّ بعضاً فسّر «الأمنية» بالكذب، ذلك لأنّ الكاذب يُقدّر أمراً في قلبه ثم يحدّث به «3».

يقول الراغب: لما كان الكذب تصوّر ما لا حقيقة له صار التمني كالمبدأ للكذب فصحّ أن يُعبّر عن الكذب بالتمنّى.

وادّعى البعض: أنّ معنى هذه المفردة في الأصل هو التقدير والفرض والتصوير «4»،

______________________________

(1). مفردات الراغب، وينبغي الالتفات إلى أن الأماني جمع أمنية، أمّا مُنى فجمع منية.

(2). لسان العرب.

(3). المنجد مادة (مني).

(4). مجمع البحرين للطريحي.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 279

وقد قيل للأماني أماني لأنّ الإنسان يقدرها ويصورها في ذهنه.

وعلى أيّة حال، فإنّ المؤمنين عندما يجتازون المحشر نحو الجنّة بسرعة في ظل الإيمان يصرخ المنافقون والمنافقات: «أُنْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُم»، فيجيبهم المؤمنون:

«ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ» الدنيا «فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَينَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الْرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ . (الحديد/ 13)

وعندها يصرخ المنافقون: «أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ في الدنيا في مجتمع واحد وقد كنا في بعض الطريق معكم؟ فما الذي حصل حيث انفصلتم عنا

واتجهتم نحو رحمة اللَّه وتركتمونا في العذاب؟

فيجيبهم المؤمنون «بلى كنا معكم في مجتمع واحد، في الزقاق وفي السوق، وفي السفر والحضر، وكنا جاراً لكم، بل عشنا في بيت واحد، ولكنكم أخطأتم خمسة أخطاء فاحشة، الأوّل: أنّكم سلكتم طريق الكفر والنفاق ففتنتم أنفسكم: «وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ .

وثانياً: أنّكم «تَرَبَّصْتُمْ وترصدتم فشل المسلمين، وموت الرسول صلى الله عليه و آله، وتحججتم في كل عمل خير.

وثالثاً: «وَارْتَبْتُم وترددتم خاصة في مسألة المعاد، وحقانية الإسلام.

ورابعاً: «وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِىُ التي نسجت حجاباً ضخماً على عقولكم وأفكاركم «حَتّى جاءَ أَمرُ اللَّهِ .

وخامساً: «وَغَرّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ» أي غركم الشيطان بعفو اللَّه ووعدكم بألّا يَنالَكُمْ عذابه.

نعم، إنّ هذه العوامل معاً أوجدت المنظر الذي صوره القرآن لنا، وهي التي سببت خلق سورٍ عازل بين المؤمنين والمنافقين.

إنّ شاهد حديثنا هو الجملة الرابعة، حيث جاء فيها «وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِىُ ، الأماني قد تصل إلى درجة بحيث تشغل فكر الإنسان بالكامل، فيغفل عن كلّ شي ء، ويظل في

نفحات القرآن، ج 1، ص: 280

عالم الوهم والظن، فتعمى عيناه، ويثقل سمعه، ويفقد وعيه (إذا كان واعياً)، ويظلّ في الظلمات التي وضعها بنفسه تائهاً.

إنّ سعة الأماني قد تصل إلى درجة يرسم صاحبها خططاً لنفسه لا يمكن تطبيقها حتى لو كان كنوحٍ عليه السلام في العمر، وقد يقوم بمقدّمات امنية، الكلُّ يعلم بعدم امكانها حتى لو كان قد بدأ بها منذ قرون، وهذا هو حجاب الأماني الذي يحول دون المعرفة.

وقد نقل بعض المفسرين خمسة أقوال في تفسير الأماني إضافة إلى الآمال البعيدة، والأقوال هي:

(تمني فشل المؤمنين وضعتهم، وإغواء الشيطان، والدنيا، وتوقع استغفار الرسول للمنافقين، وتذكّر الحسنات ونسيان السيئات) «1»، وقد فسرها البعض ب «الأباطيل».

توضيح:
حجاب الأماني في الروايات الإسلامية:

إنّ مسألة (الآمال الطويلة والأوهام البعيدة

عن الواقع، وأنّها تجعل حجاباً على عقل الإنسان وشعوره) لم يشر اليها في القرآن الكريم فحسب، بل لها شواهد كثيرة في الروايات الإسلامية والتواريخ أيضاً، ففي حديث مشهور للإمام علي عليه السلام يقول فيه: «إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنان، إتّباع الهوى وطول الأمل، فأمّا اتباع الهوى فيصدُّ عن الحق وأما طول الأمل فيُنسي الآخرة» «2».

ويقول في كلماته القصار: «الأماني تُعمي أعين البصائر» «3».

ونقرأ في حديث آخر لنفس الإمام عليه السلام: «جماع الشرّ في الاغترار بالمُهل والاتكال على الأمل» «4».

______________________________

(1). تفسير القرطبي، ج 6، ص 6417.

(2). نهج البلاغة، الخطبة 42.

(3). نهج البلاغه الكلمات القصار، الكلمة 275.

(4). غرر الحكم (حرف ج رقم 55).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 281

كما نقل عن نفس الإمام في هذا المجال أنّه قال: «غرورُ الأملِ يفسدُ العلم» «1».

والخلاصة أنّ من يريد الاطلاع على جمال الحقيقة كما هي ويصل إلى ينبوع المعرفة الصافي، ينبغي له أن لا يغطي عقله بحجاب الأماني السميك، وأن لا يضل في متاهات طريقها.

ونختم هذا البحث بحديث آخر للإمام أميرالمؤمنين عليه السلام حيث يقول فيه: «واعلموا أن الأمل يُسهي العقل ويُنسي الذكرَ فاكذبوا الأمل فإنّه غرورٌ وصاحبه مغرور» «2».

ج ج

______________________________

(1). غرر الحكم (حرف ج، رقم 55).

(2). نهج البلاغة، الخطبة 86.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 283

2- الأعمال التي تحجب عن المعرفة

1- حجب الذنوب

اشارة

نتأمل خاشعين معاً في الآيات التالية:

1- «الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَومِ الدِّينِ* وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ الَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيْمٍ* اذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ* كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ . (المطففين/ 11- 14)

2- «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِى الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ* أُوْلئِكَ الَّذِيْنَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ . (محمد/ 22- 23)

3- «أَوَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِيْنَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ

لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِم وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُم لَا يَسْمَعُونَ . (الأعراف/ 100)

4- «ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِيْنَ أَسَاؤُا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ . (الروم/ 10)

جمع الآيات وتفسيرها
الذنب يُعمي الإنسان ويصمه:

أشارت الآية الاولى إلى أولئك الذين أنكروا القيامة بالكامل، وأضافت: أنّ القيامة لا ينكرها إلّاالمعتدون والآثمون، فانّهم لا يخضعون أمام الحق ولا يسلمون إليه أنفسهم أبداً، ولهذا إذا تُليت عليهم آيات اللَّه قالوا: أساطير الأولين.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 284

وَيصرح القرآن: أنّ الأمر ليس كما يتوهم هؤلاء، وقولهم هذا سببه الصدأ الذي أحاط قلوبهم وحال دون أن يعقلوا شيئاً.

لقد استخدمت مفردة «رَيْن» في هذه الآية الكريمة، وقد قلنا سابقاً: أنّ لها معاني ثلاثة (على ما يدعيه أئمّة اللغة) الأول: الصدأ الذي يعلو الأشياء القيّمة، الثاني: الصدأ الذي يعلو الفلزات وهو علامة تآكل وفساد ذلك الفلز، الثالث: كل شي ءٍ غلب على شي ءٍ آخر، ولهذا تستعمل هذه المفردة في مجال غلبة الشراب المسكر على العقل وغلبة الموت على الأحياء، وغلبة النوم على العيون «1».

وبالطبع يمكن جمع هذه المعاني الثلاثة في مفهوم واحد وهو الصدأ الذي يستحوذ على الأشياء ويعلوها، ثم اطلقت هذه المفردة على غلبة كل شي ءٍ على شي ءٍ آخر.

ونستشف من هذه الآية أنّ الإثم يعكر صفاء القلب بحيث يمنع انعكاس الحقائق في هذه المرآة الإلهيّة، وإلّا فإنّ آيات اللَّه خصوصاً في مسألة المبدأ والمعاد واضحة ولا تقبل الانكار.

ولهذا فقد قال بعض المفسرين: يظهر من هذه الآية أولًا: أنّ الأعمال القبيحة تُوجِد نقوشاً وصوراً في نفس الإنسان، وثانياً: أنّ هذه الصور والنقوش تحول دون إدراك الحق.

وثالثاً: إنّ روح الإنسان- وحسب طبيعتها الأولية- صافية وشفافة، وتدرك الحقائق كما هي، وتميز بين الحق والباطل وبين التقوى والفجور، كما جاء ذلك في الآيات «وَنَفْسٍ وَمَا

سَوّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا» «2». (الشمس/ 7- 8)

وقد حلل مفسرون آخرون المسألة بشكل ملخص آخر.

عندما يكرر الإنسان عملًا ما فإنّ ملكة نفسانية لذلك العمل ستحصل عنده تدريجياً، كالقراءة والكتابة، ففي البداية يشق عليه الأمر، وبعد الممارسة يتمكن منهما بدرجة لا يحتاج فيهما إلى فكر ودراسة.

______________________________

(1). تفسير الكبير، ج 31، ص 94؛ تفسير روح المعاني، ج 3، ص 72.

(2). تفسير الميزان، ج 20، ص 349.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 285

وكذلك الأمر بالنسبة للذنوب، فبالاصرار عليها وارتكابها مرات عديدة تحصل هذه الملكةُ عند الإنسان، ونعلم أنّه لا حقيقة للذنب غير إشغال القلب بغير اللَّه، والتوجه لغير اللَّه ظلمة، وعندما تتراكم الظلمات على القلب تسلبه صفاءَه وشفافيته، وإنّ لهذه الظلمات درجات ومراحل، المرحلة الاولى هي مرحلة «الرَيْن» أو الصدأ، والمرحلة الثانية هي مرحلة «الطبع» والمرحلة الثالثة هي مرحلة «الأقفال» وهي أشد المراحل.

ج ج

والآية الثانية ناظرة إلى المنافقين الذين يَدّعون الإيمان، فإذا ما نزلت آية في الجهاد تمارضوا وتذرّعوا بذريعة من هو على وشك الموت، فيخاطبهم القرآن قائلًا، إنّ استمراركم في مخالفتكم هذه وإعراضكم عن العمل بكتاب اللَّه، سيؤدي بكم إلى أن تفسدوا في الأرض، وأن تقطعوا أرحامكم، ولا يأمن شركم حتى أرحامكم، ثم يضيف:

«أولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ (بذنوبهم فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ فما كادوا يسمعون الحق ولا يرونه.

وقد كشفت هذه الآيات عن أنّ النفاق حجاب للقلب والروح من جهة، ومن جهة اخرى عن التأثير السلبي للذنوب خصوصاً (الفساد في الأرض) و (قطع صلة الرحم) و (الظلم والجور) على إدراك الإنسان وتمييزه بين الحق والباطل.

ولقد فسّر البعض عبارة «إن توليتم» بالاعراض، وفسرها بعض آخر بالولاية والحكومة، أي أنَّ مقاليد الامور إذا أصبحت بأيديكم فستفسدون وتريقون الدماء وتقطعون الأرحام «1»، ولهذا

جاء عن أميرالمؤمنين عليه السلام: أنّ الآية نزلت في بني امية «2»، وهذا تلميح إلى أنّهم عند استلام زمام الامور والحكومة الإسلامية سوف لا يرحمون صغيراً ولا كبيراً، ولم يسلم من ظلمهم أحد حتى أقاربهم وذووهم.

______________________________

(1). ورد كلا التفسيرين في تفاسير روح المعاني ومجمع البيان والميزان في ذيل الآيات المذكورة في البحث.

(2). تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 40، ح 59.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 286

وسواء كان معنى «التولي» هنا هو الإعراض عن الجهاد أو استلام مقاليد الامور في الحكومة والفساد في الأرض، فإنّ ذلك لا يضر ببحثنا، لأنّ الآية على أيّة حال تبين أنّ الذنوب حجاب للقلوب.

ج ج

وقد أشارت الآية الثالثة إلى أولئك الذين ورثوا الاسلاف من دون أن يعتبروا بمصيرهم الذي ابتلوا به، فخاطبتهم: «لو نَشآءُ أَصَبْناهُم بِذُنوبِهِمْ ونَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ فَهُم لَا يَسْمَعُونْ .

عطف العقاب على الذنوب مع الطبع على القلوب والآذان، تلميح إلى العلاقة بين هذين الاثنين.

ويقول البعض: إنّ اللَّه إذا شاء عذّبهم بأحد العذابين: إِمّا بإهلاكهم بسبب ذنوبهم، وإمّا بإبقاءهم أحياء مع سلب قدرة تمييز الحق عن الباطل منهم، وهذا عذاب أتعس من عذاب الهلاك الإلهي.

إلّا أنّه بالالتفات إلى مجي ء «أصبناهم» بصيغة الماضي و «نطبع على قلوبهم» بصيغة المضارع، نفهم أنّ الجملة الثانية مستقلة وليست عطفاً على ما قبلها، فيكون معنى الآية هكذا: (سواء عجلنا بعذابهم أم لم نعجل فَنحن نطبع على قلوب هؤلاء ونلقي حُجباً عليها) «1».

ج ج

أشارت رابع وآخر آية إلى عاقبة الذين يرتكبون الأعمال السيئة فقالت: «ثُمَّ كَانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ أَساؤا السُّوأَى أنَ كَذَّبُوا بآياتِ اللَّهِ لِمَ لا يكون مصيرهم هذا والذنب كالمرض الذي ينقض على روح الإنسان فيتآكل الإيمان من جرائه؟ ولِمَ لا يكون هكذا

______________________________

(1). جاء هذا كاحتمال

في تفسير الكبير، في ذيل نفس الآية، إلّاأنّ صاحب تفسير الميزان عَدَّ الجملة الثانية معطوفة على «أصبناهم» التي تفيد الاستقبال، لكن الظاهر أنّ التفسير الأول أنسب.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 287

وهو كالحجاب الذي يغطي القلب ويعميه؟ والأسوأ أنّه لا يكفر فحسب، بل يفتخر بكفره، وقد شهد التاريخ الكثير من هؤلاء.

وخلاصة الحديث، إنّ القرآن يعدُّ الذنوب والمعاصي من موانع المعرفة، وهذه حقيقة ملموسة ومجربة عند كثير من الناس، فبمجرّد صدور ذنب أو معصية منهم يشعرون بظلمات خاصة في قلوبهم، وإذا ما مالوا إلى الطهارة والتقوى يشعرون بأنوار ترتاح لها قلوبهم.

ج ج

توضيح:
إنّ الذنب حجاب في الروايات الإسلامية

لقد انعكست هذه الحقيقة في الروايات الإسلامية بشكل واسع نذكر هنا نماذج منها:

1- جاء في حديث للرسول الأعظم صلى الله عليه و آله يقول فيه:

«إنّ العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء فإذا هو نزع واستغفر اللَّه وتاب صَقُل قلبه فإن عاد زيد فيها حتى تعلو على قلبه، وهو الرّان (الرين) الذي ذكر اللَّه في كتابه: «كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ » «1».

2- ونقرأ في حديث الإمام الصادق عليه السلام: أنّه قال فيه:

«كان أبي يقول: ما من شي ء أفسدُ للقلب من خطيئة، إنّ القلب لَيُواقع الخطيئة فما تزال به حتى تغلب عليه فيصير أعلاه أسفله» «2».

بديهي أنّ المراد من (أعلاه أسفله) تغير قدرة الإنسان على التمييز- بسبب الانس بالذنوب- حيث يرى الحسن قبحاً والقبح حسناً، وهي أخطر مرحلة.

3- وقد جاء في حديث آخر للإمام الصادق عليه السلام أيضاً يقول فيه:

______________________________

(1). تفسير القرطبي، ج 10، ص 7050، روح المعاني، تفسير ج 3، ص 73، وتفسير الكبير، ج 31، ص 94.

(2). اصول الكافي، ج 2 باب الذنوب، ح 1.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 288

«إذا أذنب

الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء فان تاب انمحت، وإن زاد زادت حتى تغلب على قلبه فلا يُفلحُ بعدها أبداً» «1».

واضح، أنّ الشرط الأول للفلاح هو إدراك الحقائق، فالذي تعطّل قلبه (عقله) عن العمل كيف يمكنه الوصول إلى السعادة والفلاح؟!

وقد جاء نفس المضمون في رواية اخرى عن الإمام الباقر عليه السلام في تفسير الآية «كَلّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ، وتم التعبير فيه بالنكتة السوداء والنكتة البيضاء حيث تتغلب السوداء- نتيجة تراكم الذنوب- على البيضاء النورانية وتغطيها «2».

4- وفي حديث آخر للرسول الأكرم صلى الله عليه و آله يقول فيه:

«كَثْرَةُ الذُنُوبِ مُفْسِدةٌ لِلْقَلْبِ» «3».

5- وقد نقل في كتاب الخصال حديث عن الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله جاء فيه:

«أربع خصال يُمتن القلب: الذنب على الذنب ...» «4».

ولهذا، فإنّا أُمرنا- لمحو آثار الذنوب- قراءة ودراسة أحاديث الأئمّة إضافة إلى التوبة، كما نقل ذلك في نور الثقلين عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله:

«تذاكروا وتلاقوا وتحدثوا فإنّ الحديث جلاء للقلوب وَإنّ القلوب لترين كما يرين السيف، وجلاءه الحديث» «5».

6- وقد أشار أمير المؤمنين عليه السلام لهذه الحقيقة في خطبة له مخاطباً بها بعض عمي القلوب:

«قد خرقتِ الشهوات عقله وأماتت الدنيا قلبه وولهت عليها نفسه فهو عبد لها» «6».

______________________________

(1). اصول الكافي، ج 2 باب الذنوب، ح 13.

(2). المصدر السابق، ح 20، وقد نقل نفس المضمون في مجمع البحرين في مادة (ارين) أيضاً.

(3). تفسير در المنثور، ج 6، ص 326.

(4). الخصال، ج 1، ص 252، ح 65، وقد جاء مضمون يشبه هذا في تفسير در المنثور، ج 6، ص 326.

(5). تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 531، ح 23.

(6). نهج البلاغة، الخطبة 103.

نفحات القرآن،

ج 1، ص: 289

7- وقد نقل الإمام الصادق عليه السلام عن الرسول صلى الله عليه و آله أنّه قال:

«إذا ظهر العلم واحترز العمل وائتلفت الألسن واختلفت القلوب وتقاطعت الأرحام هنالك لعنهم اللَّه فأصمهم وأعمى أبصارهم» «1».

8- وقد صُرّح بهذا الأمر بالنسبة لبعض الذنوب كما جاء ذلك في حديث لأميرالمؤمنين عليه السلام مخاطباً به أولئك الذين تركوا الجهاد:

«ألبسه اللَّه ثوبَ الذل ... وضُرب على قلبه بالأسهاب وأُديل الحق منه بتضييع الجهاد» «2».

2- حجاب الكفر والأعراض

اشارة

في البداية نمعن خاشعين في الآيات الكريمة التالية:

1- «تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ .

(الأعراف/ 101)

2- «فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِّيْثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ الَّا قَلِيلًا».

(النساء/ 155)

3- «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ انَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ اكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِمْ وَقْراً وَانْ تَدْعُهُمْ الى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً». (الكهف/ 57)

4- «وَالَّذِيْنَ لَايُؤْمِنُونَ فِى آذَانِهِم وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُوْلئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَّكَانٍ بَعِيدٍ». (فصلت/ 44)

______________________________

(1). تفسير نور الثقلين، ج 5، ص 41، ح 63.

(2). نهج البلاغة، الخطبة 27.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 290

جمع الآيات وتفسيرها
لِمَ يحجب الذنبُ القلوبَ عن الفقه؟

إنَّ الآية الاولى بعد إشارتها إلى تاريخ وقصص خمسة أقوام من الأقوام السالفة وهم (قوم نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب) حيث نزل عليهم العذاب الإلهي لتكذيبهم آيات اللَّه، قالت: «تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ ...».

إنّ جملة «كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرينَ لا تشير إلى أي كافر كان، وذلك كثيراً من المؤمنين كانوا في صفوف الكفار والتحقوا بصفوف المؤمنين بعد سماعهم لدعوة الأنبياء، فالمراد- إذن- ذلك الفريق من الكافرين الذين ألحوا وأصروا على كفرهم، فان كفرهم هذا يحول دون معرفتهم ورؤيتهم للحق.

والشاهد على هذا الكلام هو قوله: «فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ أي أنّ تعصبهم بلغ درجةً لا تسمح لهم بتغيير طريقتهم والرجوع عن الباطل إلى الحق، وقد ذكرت خمسة وجوه في تفسير هذه الجملة في تفسير الميزان والفخر الرازي «1»، إلّاأنّ أظهرها هو ما تقدم اعلاه.

والآية الثانية بعد ما أشارت إلى سلوك

فريق من اليهود وعدائهم للأنبياء قالت: «فَبَما نَقْضِهِمْ مِّيْثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ ...».

يقول القرآن: إنّهم لا يفقهون شيئاً وذلك لكفرهم فطبع اللَّه على قلوبهم من جراء ذلك.

بديهي أنّ المراد من الكفر هنا هو الكفر المتزامن مع العناد، والكفر المتزامن مع العداء للأنبياء، والكفر المتزامن مع نقض المواثيق باستمرار والاستهزاء بآيات اللَّه، ومسلم أن كفراً كهذا يجعل حجاباً على عقل الإنسان لا يسمح لصاحبه أن يدرك الحقائق، وهذا شي ء صنعته أيديهم ولا جبر في البين.

ويظهر أنّ مرادهم من «قلوبنا غلف» هو الاستهزاء بآيات اللَّه وبشخصية موسى بن عمران، لا أنّهم يعتقدون أنّ قلوبهم خُلِقت مغلَّفةً لا تفهم الحقائق (كما جاء ذلك في بعض

______________________________

(1). تفسير الميزان، ج 8، ص 215؛ تفسير الكبير، ج 14، ص 186.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 291

التفاسير) «1»، إلّاأنَّ اللَّه أخذ كلامهم بالجد وأجابهم: «بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ ...».

وهناك احتمال آخر وهو أنّ مرادهم من الجملة هو أن قلوب كلٍّ منهم كالوعاء الملي ء بالعلم والغمد الذي فيه السيف فلا تحتاج لعلوم الآخرين «2»، إلّاأنّ هذا الاحتمال بعيد جداً.

وعلى هذا، فهناك ثلاثة احتمالات في تفسير الآية والأول أنسب من الآخرين، وقد نقل في بعض التفاسير حديث ذا مغزىً عميق عن الرسول صلى الله عليه و آله يقول فيه: «الطابَعُ مُعَلّق بقائمة العرش فإذا انتهكت الحرمة وعُمِل بالمعاصي واجتُري ء على اللَّه تعالى بَعَثَ اللَّه تعالى الطابع فطبع على قلبه فلا يعقل بعد ذلك شيئاً» «3».

والجدير بالذكر هو أنّ «طابع» اسم فاعل للطبع و «طابَع» اسم آلة الطبع، ويظهر في الحديث أنّ الكلمة الاولى بالفتح والثانية بالكسر.

وهذا الحديث يؤكد بوضوح الحقيقة التالية: أنْ لا جبر هنا، وأنّ حجب القلوب نتيجة لأعمال الإنسان نفسه.

ج ج

وَطرحت

الآية الثالثة سؤالًا تقريرياً حيث قالت: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ ...».

إنّ دليل اعتبار القرآن هؤلاء أظلم الناس واضح لأنّهم ظلموا أنفسهم كما ظلموا الآخرين كذلك فإنّ ظلمهم هذا وقع في محضر الساحة القدسية الإلهيّة مع وجود تعاليمه الحقة، وعليه فالآية لا تدل على عدم الجبر فحسب، بل تدل على اصالة الاختيار.

وما يلفت النظر هنا هو أنّ الفخر الرازي بالرغم من كونه من القائلين بالجبر، لكنهُ

______________________________

(1). تفسير الميزان، ج 5، ص 38؛ تفسير القرطبي، ج 3، ص 2004.

(2). لقد جاء هذا الاحتمال في التفاسير التالية: في تفاسير الكبير، ج 11، ص 87؛ والقرطبي، ج 3، ص 2004؛ و روح المعاني، ج 6، ص 8.

(3). تفسير روح المعاني، ج 6، ص 8.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 292

عندما يصل إلى هذه الآية يقول: إنّ آخر الآية دليل لمؤيدي الجبر، بينما صدرها دليل لمؤيدي الاختيار! ثم يضيف: قلّما نجد آية في القرآن تؤيد أحد الفريقين، وإذا ما وجدنا آية مؤيدة لفريق وجدنا قبالها آية تؤيد الفريق المقابل، والتجربة شاهد على ما نقول، وهذا امتحان صعب من اللَّه للعباد، وذلك لكي يتميز الراسخون في العلم عن المقلِّدين «1»! ياله من اعتراف عجيب؟!

ونضيف إلى ما قاله الفخر الرازي: أنّ كلًا من آيات القرآن لا يمكن دراستها وملاحظتها لوحدها من دون ملاحظة ودراسة الآيات الاخرى فضلًا عن صدر وذيل الآية الواحدة، كما نقول: إنّ الآية بصدرها وذيلها دليل على مسألة الاختيار لا شي ء آخر، وذلك لأنّ صدرها يقول: إنّ الإعراض عن آيات اللَّه واقتراف الذنوب من أفعال الإنسان وهو فاعلها باختياره، بينما ذيل الآية يقول: إنّ اللَّه يعاقب المُصرّين على السير في هذا الطريق، وعقابهم هو جعل الأكنة على قلوبهم.

وبتعبير آخر: إنّ

اللَّه جعل لهذه الذنوب آثاراً ومردودات، وهذه الآثار تعكّر صفاء القلب، وتسلب قدرة التمييز عند الإنسان، فأيّ جبر في هذا الحديث؟!

مثله كمثل الخبير الذي يعلم بأن السم قاتل، وبالرغم من ذلك يتناوله، فهل هذا التأثير القهري للسم جبر؟!

ج ج

وقد أشارت الآية الأخيرة إلى المعاندين الذين يختلقون الحُجج ويسألون- أحياناً- هذا السؤال: لِمَ لَمْ ينزل القرآن أعجمياً كي نعيره أهميّة أكبر ولكي لا ينحصر في العرب؟

(قد يكون غرضهم الأساسي من هذا هو عدم فهم عامة الناس له والاقبال عليه إذا ما كان أعجمياً).

______________________________

(1). تفسير الكبير، ج 21، ص 142، والعجيب أنّ الآلوسي في روح المعاني عندما نقل عبارة الفخر الرازي ادعى أنّ الفخر الرازي قال: إنّ هذه الآية من أدلة القائلين بالجبر والآية التي قبلها من أدلة القائلين بالاختيار. وقد نقل صاحب الميزان العبارة من روح المعاني، بينما مراد الفخر الرازي صدر وذيل الآية نفسها (تأمل جيداً).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 293

فأجابهم القرآن في صدر الآية: «وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْ لَافُصِّلَتْ آيَاتُهُ . (فُصّلت/ 44)

أي لأشكلتم اشكالًا آخر وهو: أنّ القرآن مبهم وغامض، ثم يضيف القرآن: «ءَاعْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌ أي هل يصحّ لنبي عربي أن يأتي بقرآن أعجمي؟

ثم أمر اللَّه الرسول صلى الله عليه و آله بأن يجيبهم هكذا: «قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشَفَاءٌ وَالَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ فِى آذَانِهِم وَقرٌ وَهوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولئِكَ يُنادَونَ مِنْ مَّكَانٍ بَعِيدٍ».

وقد بيّنت الآية بوضوح أنّ اختلاق الحجج والعناد والإصرار على الكفر يجعل حجاباً على القلوب يمنعها عن الإدراك والفهم «1».

3- حجاب الاعتداء والعدوان

اشارة

«ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا الَى قَومِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِيْنَ . (يونس/ 74)

جمع الآيات وتفسيرها

بيّنت الآيات السابقة لهذه الآية من سورة يونس قصة نوح، حيث كان يدعو قومه للَّه ويسعى لهدايتهم وانذارهم من عذاب اللَّه، إلّاأنّهم كذبوه، فاغرقهم اللَّه بطوفانه وأهلكهم، وأنقذ المؤمنين منهم بالسفينة فورثوا الأرض.

ثم يضيف اللَّه في الآية: إنا أرسلنا- بعد نوح- رسلًا كلًا إلى قومه مع معاجز وأدلة واضحة ومنطقية ورسائل يشهد محتواها على أحقيتهم، إلّاأنّهم لم يخضعوا للحق واستمروا في تكذيبهم.

______________________________

(1). فسّر البعض عبارة: «وهو عليهم عمىً» بأنّ القرآن سبب لعمى هذا الفريق، بينما قال ابن منظور في لسان العرب والراغب في المفردات: إنّ جملة (عمى عليه) تعني اشتبه عليه حتى صار كالأعمى (تأمل جيداً).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 294

ويقول اللَّه في ذيل الآية: «كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ، وهذه إشارة إلى أنّ الاعتداء والعدوان يترك حجاباً في القلب يحول دون معرفة القلب لآيات اللَّه وتمييزه بين الحق والباطل.

إنّ الطبع الإلهي على القلوب بالاضافة إلى كونه عقاباً إلهيّاً للمعتدين، كذلك يكون أثراً من آثار الاستمرار في الاعتداء، والمراد من الاعتداء هنا هو الاعتداء في الساحة الإلهيّة واستمرار المعصية واقتراف الذنوب ومعاداة الرسل.

إنّ جملة: «فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ إشارة إلى أن بعض الرسل جاءوا أقوامهم فكذبوهم، ثم أرسل اللَّه إليهم رسلًا آخرين مع أدلة واضحة فما آمنوا بهم أيضاً، وذلك لأنّ عنادهم نسج حاجباً سميكاً على عقولهم فأصبحوا لا يفقهون شيئاً ولا يعقلون.

ويقول البعض: إنّ المراد من المكذبين في الآية قوم نوح الذين أُغرقوا بالطوفان، والمراد من القوم الذين لم يؤمنوا الأقوام التي جاءت بعد

قوم نوح وقد سلكوا مسلك قوم نوح في الاعتداء على الرسل وتكذيبهم «1».

ويبدو هذا التفسير بعيداً عن الواقع لأنّه لازمه اختلاف مرجع الضميرين في (كذّبوا) و (ليؤمنوا)، ولهذا فالافضل هو التفسير الأول.

ويحتمل أن يكون المراد هو: الأقوام التي جاءت بعد نوح والتي قد نُقِلت لها حقائق عن دعوة الأنبياء السالفين فكذبوا تلك الحقائق، ثم جاءتهم رسل فكذبوهم كذلك، وعلى هذا فالتكذيب الأول يتعلق بما نُقِلَ وحُكِي لهم، والتكذيب الثاني يتعلق بالامور التي شاهدوها من الأنبياء بأُم أعينهم «2» ويبدو أنّ هذا التفسير مناسب، ولا يبعد الجمع بين التفسيرين.

ج ج

______________________________

(1). تفسير مجمع البيان، ج 5، ص 125.

(2). تفسير روح المعاني، ج 11، ص 143.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 295

4- حجاب الرؤية السطحية وترك التدبر

اشارة

1- «وَيَدْعُ الْانْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا». (الإسراء/ 11)

2- «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا». (محمد/ 24)

جمع الآيات وتفسيرها
أقفال القلوب الثقيلة:

في الآية الاولى يذكر اللَّه سبحانه وتعالى أحد أسباب الكفر وعدم الإيمان باللَّه وهو عدم دراسة الامور بدقّة وتبحر، ويقول: إنّهم وبسبب إضطرابهم وتسرعهم يتجهون أحياناً نحو الشر بشكل وكأنهم يتجهون نحو الخير والسعادة، ويتجهون نحو الهاوية بشكل وكأنّهم يتجهون نحو مكان آمن ويتجهون نحو الذل والعار كما لو كانوا يتجهون نحو طريق الفخر والعز.

أي أنّ تفكيرهم السطحي وتركهم التدبر يجعل حجاباً على عقولهم يحول دون إدراكهم الصحيح، فيرون- لأجل ذلك- الشرّ خيراً والشقاء سعادة، والضلال صراطاً مستقيماً.

وقد جاء في تفسير الميزان: أنّ المراد بكون الإنسان عجولًا هو: أنّه لا يأخذ بالاناة إذا أراد شيئاً حتى يتروى ويتفكر في جهات صلاحه وفساده حتى يتبين له وجه الخير فيما يريده من الأمر فيطلبه ويسعى إليه، بل يستعمل هواه في طلبه بمجرد تعلقه به فربّما كان شراً فتضرر به، لكن جنس الإنسان عجول لا يفرق بين الخير والشر بسبب عجلته، بل يطلب كل ما لاح له ويسأل كل ما بدا له فتعلق به هواه من غير تمييز بين الخير والشر «1».

أمّا المراد من «يَدْعُ» هنا؟ فيقول البعض: أنّه الطلب سواء كان في صورة دعاء أو طلب

______________________________

(1). تفسير الميزان، ج 13، ص 49 (ملخص).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 296

من اللَّه أو كان بصورة طلب عملي أي، السعي لتحصيل الشي ء وبذل الجهود لِنَيْلِهِ «1».

إلّا أنّ المستفاد من بعض التفاسير أنّ المراد هو الدعاء اللفظي والطلب من اللَّه، ولهذا قيل في شأن نزول الآية: إنّها نزلت في حق النضر بن الحارث وهو من مشركي العرب المعروفين حين قال: «اللَّهُمَّ انْ

كَانَ هَذَآ هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ»، فاستجاب اللَّه هذا الدعاء وأهلكه «2».

وقد ذكر المرحوم الطبرسي كلا التفسيرين في مجمع البيان ويظهر أنّ معنى الآية يسع كلا التفسيرين.

وقد جاء في حديث للإمام الصادق عليه السلام في تفسيره لهذه الآية قال فيه: «وَاعْرِفْ طَرِيْقَ نَجاتِك وَهَلَاكِكَ، كَيْلا تَدْعُو اللَّهَ بِشَي ء عَسى فِيْهِ هَلاكُكَ وَأَنْتَ تَظنُّ أَنَّ فِيْهِ نَجاتكَ، قالَ اللَّهُ تَعالى «وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا»» «3».

وقد جاء في حديث آخر أنّ آدم نصح أولاده وقال لهم: «كُلُّ عَمَلٍ تُريدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا فَقِفُوا لَهُ ساعةً فَانِّي لَوْ وَقَفْتُ ساعةً لَمْ يَكُنْ أصابَنِي ما أَصابَنِي» «4».

ومن هذا الباب اطلق العرب عبارة «ام الندامات» اسماً للعجلة، كما قيل: أنّ العجلة من الشيطان إلّافي ستة موارد: أداء الصلاة في وقتها، دفن الميت، تزويج البنت الباكر عند بلوغها، أداء الدين عند حلول وقته، إطعام الضيف عندما يحلّ، والتوبة عند اقتراف الذنب.

أمّا ما المراد من الآية «و كان الإنسان عجولًا» وأمثالها الذي ورد في القرآن الكريم والتي تعبر عن نقاط الضعف المهمّة في طبيعة الإنسان؟ وكما ذكرنا في التفسير الأمثل أنّ المراد بالآية الإنسان الذي لم يتخلق باخلاق اللَّه ولم يتربَّ على أساس التربية الرسالية والدينية، لا الإنسان المهذب.

______________________________

(1). تفسير الميزان، ج 13، ص 50، وبما أنّ الباء في «بالخير وبالشر» باء صلة فيكون معنى الجملة هكذا: «يدعو الشر كدعائه الخير».

(2). تفسير القرطبي، ج 6، ص 3841؛ و تفسير الكبير، ج 20، ص 162.

(3). تفسير نور الثقلين، ج 3، ص 141.

(4). تفسير روح البيان، ج 5، ص 137.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 297

ج ج

وتحدثت الآية الثانية عن فريق من المنافقين المعاندين حيث أُشير إليهم في

الآيات السابقة بصفة عمي القلوب، وإذا تسلموا زمام الحكم ما رحموا صغيراً ولا كبيراً، واعتبرهم اللَّه الملعونين والمطرودين من رحمته، وقال فيهم هنا: «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا» لا قفل واحد بل أقفال، فكيف يمكنهم إدراك الحقائق؟ (محمّد/ 24)

هناك بحث بين المفسرين في أنّ «أم» متصلة أو منفصلة «1»، فاذا كانت متصلة يكون المعنى هكذا: أفلا يتدبرون القرآن أو أن هناك اقفالًا على قلوبهم؟ وأما إذا كانت منفصلة فالمعنى هكذا: أفلا يتدبرون القرآن؟ كلا، بل إنّ اقفالًا على قلوبهم.

وعلى كلا المعنيين فالآية دليل على وجود تضاد بين «التدبر» و «الحجاب على القلوب»، ويمكن القول: إنّ الآية تشير إلى حجاب ترك التدبر.

وقد جاء في تفسير (في ظلال القرآن): «تدبر القرآن طبقاً لهذه الآية يزيل الغشاوة، ويفتح النوافذ، ويسكب نور المعرفة على القلوب، ويحرك المشاعر، ويستجيش القلوب، ويخلص الضمير ويجدد الروح ويجعلها اكثر صفاءً واشراقاً» «2».

وقد جاء بعض المفسرين بدليلين لذكر القلوب نكرة في الآية، الأول: أنّها ذكرت نكرة لبيان حال قلوبِهم المروّع، وأنّها قلوب مجهولة مليئة بالقساوة والظلمات.

الثاني: إنّ المراد هو بعض القلوب لا كلها، لأنّ بعضهم لم يصلوا إلى تلك الدرجة من الظلمات بحيث تقفل قلوبهم وتتوقف عن إدراك الحقائق.

وذكر الأقفال بصيغة الجمع إشارة إلى الحجب المختلفة التي تجعل على قلوبهم مثل حجاب النفاق والعناد والغرور وحب النفس وغيرها.

كما ينبغي الإشارة إلى هذه النقطة وهي: إنّ بين «ترك التدبر» و «حجاب القلب» تأثيراً متبادلًا، فكلٌّ منهما يمكنه أن يكون علة للآخر في مرحلة ومعلولًا له في مرحلة اخرى،

______________________________

(1). ينقل الآلوسي في روح المعاني عن سيبويه أنّها متصلة، بينما ينقل عن ابي حيان وفريق آخر أنّها منفصلة (ج 26، ص 67).

(2). تفسير في ظلال

القرآن، ج 7، ص 462.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 298

فتارة ترك التدبر ينشأ عن ظلمات القلب، وتارة اخرى ظلمات القلب تنشأ عن ترك التدبر.

وننهي حديثنا هذا برواية عن الإمام الباقر عليه السلام جاء فيها: «قرّاء القرآن ثلاثة: رجل قرأ القرآن فاتخذه بضاعة واستدرّ به الملوك واستطال به على الناس، ورجل قرأ القرآن فحفظ حروفه وضيّع حدوده واقامه إقامة القدح فلا كثّر اللَّه هؤلاء من حملة القرآن، ورجل قرأ القرآن فوضع دواء القرآن على داء قلبه فأسهر به ليله واظمأ به نهاره وقام به في مساجده وتجافى به عن فراشه فبأولئك يدفع اللَّه العزيز الجبار البلاء وبأولئك يديل اللَّه عزّ وجلّ من الأعداء وبأولئك ينزل اللَّه عزوجل الغيث من السماء فواللَّه لهؤلاء في قرّاء القرآن أعزّ من الكبريت الأحمر» «1».

5- حجاب الارتداد

اشارة

في البداية نتأمل خاشعين في الآية الكريمة التالية:

«اتَّخَذُوا ايْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ انَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ* ذلِكَ بِانَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَايَفْقَهُونَ .

(المنافقون/ 2- 3)

جمع الآيات وتفسيرها

إنّ هذه الآية ناظرة إلى المنافقين، وبالرغم من أنّ النفاق حجاب مستقل بحد ذاته إلَّا أنّ القرآن هنا يذكر موضوعاً آخر في هذا المجال حيث يقول: «بِانَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَايَفْقَهُونَ .

يعتقد بعض المفسرين: أنّ الأشخاص المعنيين في هذه الآية هم فريق آمنوا ظاهراً وظلّوا كفّاراً باطناً.

______________________________

(1). اصول الكافي، ج 2، باب 13 النوادر، ص 627، ح 1.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 299

إلّا أنّ ظاهر الآية يكشف عن أنّهم في البداية آمنوا حقاً، ثم كفروا بعد ايمانهم، وكان كفرهم هذا متزامناً مع النفاق، لأنّ التعبير ب «ثم» يدل على أن كفرهم حصل بعد الإيمان لا أنّه كان متزامناً مع الإيمان ليكون أحدهما ظاهراً والاخر خفياً، وعلى هذا فالآية تتحدث عن حجاب الارتداد.

ولا عجب في أن يطبع اللَّه على قلب من آمن وذاق طعم الإيمان وحلاوته، وشاهد أنوار الرسالة، ثم كفر كفراً تزامن مع النفاق.

إذا التبس الحق على شخص منذ البداية فعذره يمكن أن يكون وجيهاً، أمّا إذا ارتد عن الإيمان بعد ما عرف الحق وآمن به، فهذا غالباً ما يكشف عن حالة العناد عند هذا الشخص، واللَّه يسلب نعمة المعرفة عن أشخاص كهؤلاء ويطبع على قلوبهم.

بالطبع لا دليل لنا على أنّ كل المنافقين كانوا غير مؤمنين منذ البداية، بل إنَّ فريقاً منهم آمنوا في البداية حقاً ثم ارتدوا كما جاء ذلك في الآية: «وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسلامِهِمْ .

(التوبة/ 7)

و هذا النفاق المتزامن مع العناد هو الذي يجعل حجاباً على القلوب.

ونؤكد تارة

اخرى أنّ هذا الحديث لا يدل على الجبر اطلاقاً، لأنّ مقدّمات هذا الحرمان أوجدها المنافقون بأنفسهم.

6- حجاب الكذب والافتراء

اشارة

في البداية نلاحظ خاشعين الآيات الكريمة التالية:

1- «الَمْ تَرَ الَى الَّذِينَ اوتُوا نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ الَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ* ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ الَّا أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِمْ مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ .

(آل عمران/ 23- 24)

2- «وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا انْ مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَافْئِدةً

نفحات القرآن، ج 1، ص: 300

نفحات القرآن ج 1 349

فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَآ ابْصَارُهُمْ وَلَا افْئِدَتُهُمْ مِّنْ شَىْ ءٍ اذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ . (الأحقاف/ 26)

ج ج

جمع الآيات وتفسيرها
خُداع الكذب:

يقول بعض المفسرين في شأن نزول الآية الاولى

إنّ رجلًا وامرأة من اليهود زنَيا، وكانا ذوي شرف، وكان في كتابهم الرجم، فكرهوا رجمهما لشرفهما، فرجعوا في أمرهما إلى النبي الأكرم صلى الله عليه و آله رجاء أن يكون عنده رخصة في ترك الرجم فحكم الرسول صلى الله عليه و آله بالرجم فأنكروا ذلك فقال عليه الصلاة والسلام: بيني وبينكم التوراة فإنّ فيها الرجم فمن أعلمكم؟

قالوا: عبداللَّه بن صوريا الفدكي، فأتوا به واحضروا التوراة، فلما أتى على آية الرجم وضع يده عليها، فقال ابن سلام الذي كان على ملة اليهود وأسلم.

قد جاوز موضعها يا رسول اللَّه، فرفع كفّه عنها فوجدوا آية الرجم، فأمر النبي صلى الله عليه و آله برجمهما فرجما، فغضبت اليهود لعنهم اللَّه لذلك غضباً شديداً فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية «1».

يقول القرآن في هذا المجال: «الَمْ تَرَ الَى الَّذِينَ اوتُوا نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ الى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيْقٌ مِنهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ .

ثم يضيف: «ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ الَّا ايَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وغَرَّهُمْ فِى دِينِهِمْ مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ .

«يفترون» من

مادة «الافتراء» ومن أصل «فري» الذي يعني القطع وشق الجلد بهدف الإصلاح، إلّاأنّه قد تستعمل في صيغة «الافراء» فتعني القطع بهدف الافساد، و «الافتراء» معناه واسع، أي القطع سواء كان بهدف الإصلاح أو الافساد، بالرغم من استعماله في أغلب

______________________________

(1). تفسير الكبير، ج 7، ص 232.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 301

الأحيان في مجال الافساد والتخريب، كما استعملت هذه المفردة في مجال الكذب والشرك والظلم «1».

أمّا «غرّهم» فمن مادة «غرور» ومشتقة من «غُر» بمعنى ظاهر الشي ء، ولهذا قيل للأثر الظاهر في جبين الحصان «غُرة»، كما تستخدم في القماش إذا طُوي بشكل حيث تظهر عليه آثار الطوي، كما تستعمل هذه المفردة بمعنى الخداع، وكأنّ الطرف المخدوع يُطوى كالقماش «2».

أما «غَرُور» فيعني الشخص والشي الذي يخدع الإنسان، كما تطلق على الشيطان الخادع «3».

وقد قيل في كيفية أن الكذب والافتراء يخدعان الإنسان ويحجبان عنه المعرفة وما ذكر صاحب الميزان:

«إنّ الإنسان يجري في أعماله وأفعاله على ما تحصل عنده من الأحوال أو الملكات النفسانية والصور التي زينتها ونمقتها له نفسه دون الذي حصل له العلم به، كما أنّ المدمن على استعمال المواد المخدرة ونحوها يستعملها وهو يعلم أنّها مضرّة غير لائقة بشأنه وذلك لأنّ حالته وملكته النفسانية زيّنت له هذه الامور واضفت عليها نوعاً من الجاذبية بحيث لم تدع له مجالًا للتفكر والاجتناب.

وبعبارة اخرى أنّهم كرروا الكذب ولم يزالوا يكررونه ويلقنونه أنفسهم حتى اذعنوا به أي اطمأنوا وركنوا إليه بالتلقين الذي يؤثر أثر العلم كما بينه علماء النفس فصارت الفرية الباطلة بالتكرار والتلقين تغرهم في دينهم وتمنعهم عن التسليم للَّه والخضوع للحق الذي أنزله في كتابه «4».

______________________________

(1). مفردات الراغب مادة (فري).

(2). مفردات الراغب مادة (غرور).

(3). لسان العرب مادة (غرور).

(4). تفسير الميزان، ج

3، ص 125.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 302

إنّ هذا مجربٌ، فتارة يتفوه الإنسان بحديث كذب ويعلم أنّه كذب وافتراء، وعلى ضوءِ اعادة الحديث يقع في شك منه، ثم يعيده مرات اخرى فيصدق به، حتى يبلغ درجة الاعتقاد بالرغم من عدم واقعيته، فيصير حجاباً أمام رؤيته العقلية السليمة.

وعلى هذه فلا مجال للقول بأنّ الكذابين هم فريق من اليهود وأنّ المخدوعين يمثلون فريقاً آخر.

ج ج

وقد أشارت الآية الثانية إلى قوم عاد، وهم قوم ذو قدرة، كانوا يعيشون في الاحقاف (جنوب أو شمال الجزيرة العربية)، وابتلوا بالريح العاصف إثر تكذيبهم لرسولهم «هود» وإثر ظلمهم وفسادهم في الأرض.

فالآية تقول: «وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيْمَا انْ مَّكَّنَّاكُمْ فِيْهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً ... وَحَاقَ بِهِمْ مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ .

إنّ الآية تؤكد أن تكذيبهم المتوالي لآيات اللَّه سبَّب سلب إدراكهم ومعرفتهم، فابصارهم ترى وآذانهم تسمع وأفكارهم تعقل ظاهراً، إلّاأنّ الستار الحاجب حال دون استعانتهم بوسائل المعرفة هذه فابتلوا بعذاب اللَّه.

«يجحدون» من مادة «جحود» ويعني في الأصل نفي شي ء تيقن الإنسان من وجوده أو إثبات شي ءٍ يؤمن الإنسان بعدمه، وبتعبير آخر: الجحود يعني انكار الواقعيات عمداً وعن معرفة «1».

إنّ التجربة أثبتت أنّ الإنسان إذا ما استمر في انكار الحقيقة، فستصبح القضايا التي يؤمن بها بشكل قطعي مورد شك وبشكل دائم، وإذا استمر الانكار أكثر فإنّ قدرته على التمييز تتبدل بحيث يرى الحق باطلًا والباطل حقاً.

______________________________

(1). مفردات الراغب مادة (جحد)، كما يقول الجوهري: إنّ الجحود هو الانكار مع العلم. كما ذكر ذلك صاحب مجمع البحرين في مادة (جحد).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 303

وهناك أسباب وعلل لهذا العمل (أي انكار الواقعيات مع العلم والمعرفة)، فتارة ينشأ عن العناد، وتارة اخرى عن التعصب، وتارة عن الكبر والغرور، وتارة يقدم

الإنسان عليه حفاظاً على مصالحه المادية التي تتعرض للخطر إذا ما كشف عن الحقائق، وتارة لأجل شهوات اخرى، وعلى أيّة حال فإنّ لهذا العمل مردودات سلبية، وهو حدوث حجاب على العقل والفطرة فتنقلبُ قدرة التمييز عند الإنسان رأساً على عقب.

ج ج

7- حجاب الظن القاتم

اشارة

إنّ اتباع الظنون والخيالات الباطلة يغير العقل تدريجياً ويحرفه عن جادة المعارف الأصيلة، ويجعل حجاباً أمام عينيّ الإنسان واذنيه.

في البداية نقرأ معاً خاشعين الآية الكريمة التالية:

«وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيْرٌ مِّنْهُم وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ . (المائدة/ 71)

جمع الآيات وتفسيرها

إنّ هذه الآية ناظرة إلى فريق من اليهود الذين عاهدوا اللَّه على أن يتبعوا دعوات الأنبياء ويخضعوا لها، إلّاأنّهم كلما جاءهم رسول يأمرهم بما يخالف أهواءهم النفسية نهضوا ضده أو قتلوه.

ثم تضيف الآية: إنّهم حسبوا أن لا تكون فتنة ولا عذاب، وهذا ظن باطل نشأ عن حب الدنيا والكبر والغرور، ظن باطل تدعو إليه الشياطين والأهواء النفسية، وهذا الظن هو الذي ألقى بحجابه على أفئدتهم وأبصارهم وسمعهم فحال دون أن يعقلوا شيئاً، فلم تعد أبصارهم تدرك الآثار المتبقية من المصير المؤلم للاقوام السالفة ولم تعد آذانهم تمتلك

نفحات القرآن، ج 1، ص: 304

قدرة سماع ما يُنقل عنهم، وبهذا فقدوا هاتين الوسيلتين المهمتين للمعرفة- السمع والبصر- من الناحية العملية وظنوا أنّهم في أمان من عذاب اللَّه، وقد حصل لهم هذا الظن من خِلال السير في الأرض ودراسة التاريخ والأقوام السالفة، فما سمعوا عن تلك الأقوام بآذانهم، ولا شاهدوا بأعينهم، بل إنّ ابصارهم وآذانهم وأفئدتهم عاطلة عن العمل فحسبوا أن لا عذاب لهم.

إلّا أنّه بعد انقضاء وطر من الزمن أدركوا خطأهم والتزموا طريق التوبة، وقد وسعتهم رحمة اللَّه فقبل توبتهم.

ومرة اخرى خدعتهم ظنونهم الباطلة فظنوا أنّهم شعب اللَّه المختار في أرضه (بل أبناء اللَّه)، فأسدلت ستائر العمى والصم والجهل على ابصارهم وسمعهم وطُردوا من رحمة اللَّه تارة اخرى.

إنّ هذه الآية تبين بوضوح أنّ الظنون الباطلة وخاصة ظن الأمان من عذاب اللَّه

يجعل غشاوة على الباصر والمسع ويعطلهما عن العمل.

وعلى هذا، فالمراد من «فعموا وصموا» هو أن أعينهم ما بصرت آيات اللَّه والآثار الباقية من الأقوام السالفة، وأنّ آذانهم ما صغت لمواعظ الرسل.

وبديهي أنّ اتباع الظن الباطل لمرة أو مرات لا يترك هذا المردود السلبي لدى الإنسان، بل الاستمرار عليه هو السبب في ذلك.

وهناك أقوال في سبب عطف الجملة الثانية على الاولى ب «ثم» التي تدل على الفاصل الزمني.

فقال البعص: إنّ استعمالها للاشارة إلى مصيرين مختلفين لليهود، أحدهما عندما هاجمهم أهل بابل، والثاني عندما هاجمهم الإيرانيون والروميون وأسقطوا حكومتهم «1»، وقد جاء شرح ذلك في التفسير الأمثل في بداية سورة بني اسرائيل.

وقال البعض: إنّ الجملة الاولى إشارة إلى عهد زكريا ويحيى وعيسى حيث خالفهم

______________________________

(1). تفسير المنار، ج 6، ص 481.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 305

اليهود آنذاك، والعبارة الثانية إشارة إلى عهد الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله حيث أنكروا نبوته ورسالته «1».

وقال البعض: إنّ العبارة الاولى تبين أنّ اللَّه لعنهم وطردهم من رحمته وأعماهم وأصمهم لأجل ظنهم الباطل من أنهم شعب اللَّه المختار، وقد شملتهم رحمة اللَّه بعد ذلك فتاب عليهم ورفع عن قلوبهم ذلك الظن الباطل، فأبصرهم وأسمعهم تارة اخرى كي يلتفتوا إلى حقيقةٍ هي: عدم وجود فرق بينهم وبين غيرهم إلَّابالتقوى

إلّا أنّ حالة الوعي واليقظة هذه لم تستمر عندهم، وتورط بعضهم بنفس الحسبان الخاطي ء القائم على أساس التفرقة العرقية تارة اخرى، فأعماهم وأصمهم اللَّه ثانية «2».

والجمع بين هذه التفاسير ليس متعذراً، ونتيجتها جميعاً واحدة وهي: إنّ الظن الباطل (كظن اليهود أنّهم شعب اللَّه المختار) يمنع الإنسان تدريجياً عن الإدراك والفهم ويحرفه عن جادة الصواب، وإذا كان هذا الظن في بدايته فيقظة العقل محتملة،

ورجوعه عن هذا الحسبان ممكن، أمّا إذا تفاقمت الظنون وتأصلت في ذاته فيصبح الرجوع عنها أمراً غير ممكن.

ج ج

______________________________

(1). وقد ذكر هذا التفسير كاحتمال في تفسير الكبير، ج 12، ص 516 وكذا في تفسير روح المعاني، ج 6، ص 184.

(2). تفسير الميزان، ج 6، ص 71.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 307

3- الحُجُب الخارجية

1- حجاب القادة الضالين والمفسدين

اشارة

إنّ الحجب الخارجية هي الحجب التي تكمن وراء أعمال الإنسان وصفاته وتؤثر على العقل والإدراك والشعور وملكة التمييز وتحول دون معرفة الحقائق، وهي عديدة تشكل مساحة واسعة، وقد أشار اليها القرآن بأساليب متعددة وجميلة.

1- «وَقَالُوا رَبَّنَا انَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَظَلُّونَا السَّبِيلَا* رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً». (الأحزاب/ 67- 68)

2- «... وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا انْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ* قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ اذْ جَاءَكُم بَلْ كُنْتُمْ مُّجْرِمِينَ . (سبأ/ 31- 32)

3- «قَالَ ادْخُلُوا فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِى النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى اذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ اخْراهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هؤُلَآءِ اضَلُّونَا فَآتِهِم عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لَّا تَعْلَمُونَ . (الأعراف/ 38)

نفحات القرآن، ج 1، ص: 308

جمع الآيات وتفسيرها
شجار أصحاب النار:

إنّ الآية الاولى تبيّن حال فريق من الكفار عندما يرون نتيجة أعمالهم عند اللَّه، فيقولون: «رَبَّنَا انَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَظَلُّونَا السَّبِيلَا»، فما كنا نُبتَلى بهذا المصير لولاهم، ثم يقولون: «رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ (عذاباً لكفرهم وعذاباً لأنّهم أضلونا) «وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً».

فهم لا يريدون سوى تبرير أعمالهم بكلامهم هذا، صحيح أنّ لرؤسائهم دوراً في انحرافهم، لكن هذا الأمر لا يسلب عنهم المسؤولية تجاه أعمالهم.

وصحيح أنّ وسوسة القادة المفسدين والزعماء الضالين والمضلين جعلت حجاباً على عقولهم وأفكارهم فحال دون تفكيرهم الصحيح، إلَّاأنّ مقدّمات هذا الأمر هم هيأوها بأنفسهم لأنّهم سلموا أنفسهم عشوائياً إلى هؤلاء من دون احراز أهليتهم للقيادة.

وهناك خلاف بين المفسرين في الفرق بين سادتنا وكبراءنا، أو بالأحرى هل هناك فرق بينهما

أم لا؟

يعتقد البعض أنّ «سادتنا» إشارة إلى ملوك وسلاطين المدن والدول، و «كبراءنا» إشارة إلى الرؤساء المحليين، حيث عُدت طاعة السادة مكان طاعة اللَّه، وطاعة الكبراء مكان طاعة الرسول، فقدرة وصلاحية الفريق الأول أكثر من الفريق الثاني ولهذا قُدِّم.

ويعتقد البعض أنّ السادة إشارة إلى الملوك وأصحاب القدرة، والكبراء إشارة إلى كبار السن، ولهذا يتبعهم بعض الناس.

ويعتقد آخرون أنّ كليهما بمعنى واحد وأنّهما قد وردا للتأكيد «1».

ويبدو أنّ المعنى الأخير أنسب من جميع المعاني السابقة.

وتجدر الإشارة إلى أنّ «سادة» جمع «سيد» والسيد يعني رئيس السواد (أي الجمع الغفير من الناس، وقد اطلق عليه سواداً من باب أنّه يبدو أسود اللون من بعيد) ثم اطلقت

______________________________

(1). راجع تفسير روح المعاني، ج 22، ص 87؛ تفسير الميزان، ج 16، ص 369؛ الكبير، ج 25، ص 232.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 309

هذه المفردة على كل رجلٍ كبير.

وقد تحدثت الآية الثانية عن الكفار الظالمين الذين إذا ما رأوا نتيجة أعمالهم في الآخرة سعى كلٌّ منهم لإلقاء ذنبه على الآخر، فيقول حينها المستضعفون (أي المغفّلون) للمستكبرين (أي الظلمة وأصحاب السلطة الذين أضلوا الآخرين بأفكارهم الشيطانية):

لولا وساوسكم المغرية والشيطانية لَكُنّا في صفوف المؤمنين، لقد غسلتم أدمغتنا، واتّبعناكم جهلًا، وجعلتمونا آلة بأيديكم لتحقيق مآربكم الشيطانية، وقد فهمنا الآن أنا كنّا على خطأ.

بالطبع لم يخرس المستكبرون عندها، بل يجيبون: «أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ اذْ جَاءَكُم الرسل بالبينات والحجج الكافية؟ إنّكم مخطئون ونحن غير مسؤولين عن ضلالتكم، «بَلْ كُنْتُمْ مُّجْرِمِينَ ومذنبين لأنّكم تركتم ما دعتكم إليه الرسل واتبعتم الأقاويل الباطلة بالرغم من إرادتكم واختياركم.

ج ج

وقد أشارت الآية الثالثة إلى شجار «القادة» و «الأتباع» الضالين في جهنم، فكلما دخلت امّة لعنت الاخرى واعتبرتها هي المسؤولة

عن شقائها وعذابها في الآخرة، ويقول الأتباع يومذاك: «رَبَّنَا هؤُلَاءِ اضَلُّونَا فَآتِهِم عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ» عذاباً لأنّهم ضالّون وعذاباً لأنّهم أضلونا وأغوونا.

فيجيبهم اللَّه: «لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِن لَّاتَعْلَمُونَ .

إنّ مضاعفة العذاب لقادة الباطل أمر متوقع وليس عجيباً، إلّاأنّ مضاعفة العذاب لأتباعهم أمر قد يبدو غريباً للوهلة الاولى لكنا إذا دققنا في الأمر نجد ضرورة مضاعفة العذاب لهم، عذاب: لأجل أنّهم ضالون، وعذاب: لأجل اعانتهم أئمّة الكفر والذود عنهم والقتال دونهم، كما جاء ذلك في حديث للإمام الصادق عليه السلام عندما جاءه أحد أصحابه مُعلناً توبَتُه عمّا قدمة لبني أمية من خدمات، يقول فيه:

نفحات القرآن، ج 1، ص: 310

«لَوْلا أَنَّ بَنِي اميَّةَ وَجَدُوا مَنْ يَكْتُبُ لَهُم ويُجْبِي لَهُمْ الفَي ءَ وَيُقاتِلُ عَنْهُمْ وَيَشْهَدُ جَماعَتَهُمْ لَما سَلَبُونا حَقَّنا» «1».

توضيحان:
1- «المستضعفون» و «المستكبرون» في القرآن المجيد

تحدث القرآن المجيد مراراً عن المستكبرين «والمستضعفين» وهو موضوع مهم وجدير بالانتباه ويمكن أن يشكل أحد المباحث المستقلة في التفسير الموضوعي، إلّاأنّه ينبغي هنا الإشارة إليه بصورة عابرة مع بيان الآيات التي وردت في هذا البحث.

يقول الراغب في مفرداته: إنّ الكبر والتكبر والاستكبار لها معانٍ متقاربة، ثم يضيف: إنّ للاستكبار معنيين أحدهما: أن يتحرّى الإنسان ويطلب أن يصير كبيراً وذلك متى كان على ما يجب وفي المكان الذي يجب وفي الوقت الذي يجب والثاني أن يتشبّه فيظهر من نفسه ما ليس له وهذا هو المذموم وعلى هذا ما ورد في القُرآن، وهو قوله تعالى «أبَى وَاسْتَكْبَرَ». (البقرة/ 34)

ثم يضيف الراغب: قابلَ المستكبرين بالضعفاء تنبيهاً إلى أنّ استكبارهم كان بما لهم من القوة من البدن والمال «2».

إنّ الاستضعاف يقابل الاسكتبار وهو يعني طلب الضعف وقلة الحيلة، لكن بما أنّ هذه المادة غالباً ما تستعمل في القرآن بصفة (فعل مبني

للمجهول) أو (اسم مفعول)، فتعني الضعف الذي فرض عليهم من قبل المستكبرين.

وقد استعملت في القرآن بصيغة الفعل المبني للمعلوم كما جاء ذلك في فرعون الذي استضعف بني اسرائيل:

«انَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِى الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُم .

(القصص/ 4)

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 72 (75)، ص 375؛ سفينة البحار، ج 2، ص 107 مادة (ظلمة).

(2). مفردات الراغب، مادة (كبر).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 311

كما ينبغي ذكر هذه النقطة وهي: أنّ القرآن استعمل مفردة (مُستضعَف) بمعنيين: الأول المظلومون في الأرض، وهم المشمولون بألطاف اللَّه، كما جاء ذلك بالنسبة إلى مستضعفي بني اسرائيل حيث قال اللَّه فيهم:

«وَنُرِيدُ أَنْ نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِى الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ . (القصص/ 5)

والمعنى الثاني وهو المستعمل غالباً في القرآن المجيد: الضعفاء فكرياً بسبب جهلهم وتقليدهم الأعمى وتعصبهم، فيتبعون الظلمة والقادة الضالين عشوائياً، وهؤلاء هم الذين أشارت الآيات المذكورة في أول البحث إلى شجارهم مع المستكبرين في يوم القيامة وصرحت أنّهم يستحقون العذاب المضاعف كالمستكبرين: عذاباً لأجل أنّهم ضالون وعذاباً لاجل أنّهم ساهموا في تثبيت اسس حكومة الجبارين.

2- دور القادة و الامراء في التأثير على الناس

لقد جاء في حديث للإمام أمير المؤمنين عليه السلام: «الناس بامرائهم أشبه منهم بآبائهم» «1».

إنّ هذا الشبه يمكن أن يكون من حيث إنّ فريقاً من الناس يتبعون الامراء ويقتدون بهم جهلًا وغفلة ويجعلون قلوبهم ودينهم رهناً لإشارات هؤلاء الامراء وايعازاتهم، ولهذا اشتهر الحديث «الناس على دين ملوكهم».

إنّ هؤلاء الامراء في رأي بعض الناس أبطال وقدوات نموذجية واسوات حسنة وأرفع شأناً من أن يُنتقدوا، وقد يقلّد البعض أنفسهم مناصب مقدسة فيغرروا ببعض الجهلة والعوام، ويجعلوا حجاباً أمام أفكارهم وعقولهم.

ومن المتعارف أنّ هناك فريقاً يعتبر «القدرة» دليلًا على «الحقانية»، ويعتبر المنتصر هو المحق فرداً كان

أو جماعة، وهذا الاسلوب من التفكير جعلهم فريسة للكثير من الأخطاء

______________________________

(1). بحار الأنوار، ج 75، ص 46 كتاب الروضة كلمات علي عليه السلام، ح 57.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 312

والانحرافات في حساباتهم الاجتماعية.

إنّ الملوك والقادة الجبارين أينما دخلوا أفسدوا، وذلك لاستغلال الضعف والعجر الفكري لدى بعض الناس، كما جاء ذلك في القرآن على لسان ملكة سبأ: «قَالَتْ انَّ الْمُلُوْكَ اذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ اهْلِهَا اذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ . (النمل/ 34)

وبالرغم من أنّ هذا الحديث تفوهت به ملكة ظالمة، إلّاأنّ ذكره في القرآن من دون أي نقدٍ من جهة، وصدوره من شخصية ظالمة وخبيرة بما عليه الظّلَمَة من أمثالها من جهة اخرى دليل على واقعية هذا الحديث الشبيه بالاعتراف.

ولهذا أرادت ملكةُ سبأ أن تختبر سليمان هل هو ملك أو نبي حقاً؟ فأرسلت إليه هدايا كي تعرف ردّ فعله تجاهها، وذلك لأنّها تعرف أنّ أفكار الملوك وقلوبهم رهن الهدايا والذهب والفضة والشأن والمقام، بينما الأنبياء لا يهمهم شي ءٌ سوى صلاح الامم.

2- حجاب الأصدقاء الضالين

اشارة

«وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا* يَا وَيْلَتى لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلًا* لَقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ اذْ جَاءَنِى وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولا». (الفرقان/ 27- 29)

جمع الآيات وتفسيرها

إنّ هذه الآيات تشرح مشهداً من مشاهد يوم القيامة، وهي لحظات تأسف الظالمين وتأثرهم من أعمالهم إلى درجة حيث يعضون على أيديه.

إنّ تعبير «يعضّ» من مادة «عضّ» ومعناها واضح، والتعبير ب (يعضّ) في العربية

نفحات القرآن، ج 1، ص: 313

وكذا في الفارسية كناية عن شدة التأسف والانزجار، وقد شوهد أنّ كثيراً من الناس إذا ما واجهوا مصيبة عظيمة ناشئة عن سوء عملهم وجهلهم عضّوا على أيديهم أو أصابعهم أو ظاهر أكفّهم، وكأنّهم يريدون عقاب أيديهم لأجل قيامها بهذا العمل.

إلّا أنّ المصيبة إذا لم تكن شديدة جدّاً اكتفوا بعضّ أناملهم كما قال القرآن حاكياً حال الكفار في الآية 119 سورة آل عمران: «وَاذَا خَلَوا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ»، أو اكتفوا بعضّ ظهر احدى اليدين، أمّا اذا كانت المصيبة شديدة جدّاً فتارة يعضّون أيديهم اليسرى واخرى أيديهم اليمنى والذي جاء في الآية الكريمة هو «يَدَيْه» وهذا يكشف عن أنّ المصيبة عظيمة للغاية يوم القيامة، وغالباً ما يقترن العضّ بالتفوه بجمل وأقاويل مفهومها التوبيخ للنفس، ويتحد حينها الكلام مع السلوك في ابراز الغضب.

ويقولون عندها: «لَيْتَنِى اتَّخَذْتُ معَ الرَّسُولِ سَبِيلًا* يَا وَيْلَتى لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلًا* لَقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ اذْ جاءَنِى إلّاأنّ هذا الخليل ما سمح لهم باليقظة.

وعلى هذا، فهم يعدّون الخليل الضال هو السبب الأساسي لشقائهم، حيث جعل حجاباً أمام أفكارهم وعقولهم حال دون رؤيتهم لجمال الحق.

وهنا أقوال في المراد من «فلان»:

احتمل البعض أنّه الشيطان، حيث ينتخبه الإنسان- أحياناً خليلًا، وذلك

بقرينة قوله في ذيل الآية: «وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا».

ويقول البعض: إنّ المراد منه هو نفس الشخص الذي نزلت في شأنه الآية، أي «عقبة» وهو أحد الكفار المعروفين، أَسْلَمَ وارتد عن الإسلام وتخلى عن الرسول لأجل خليله «أبي»، وقتل في معركة بدر، بينما قُتِل أبي في معركة أُحد «1».

لكن الظاهر أنّ مفهوم الآية- كما يقول البعض- كلّي شامل لجميع الأصدقاء الضالين والموسوسين، وأنّ شأن النزول لا يُخصّصُ الآية أبداً، خصوصاً وأنّ لمفردة

______________________________

(1). تفسير مجمع البيان، ذيل نفس الآية مورد البحث ويقول البعض: إنّ «أُبي» الإنسان الوحيد الذي قتله الرسول بيده طيلة عمره الشريف (تفسير روح البيان، ج 6، ص 205).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 314

«الشيطان» معنى واسعاً يشمل شياطين الجن والانس، كما أنّ ذكر كلمة «فلان» وبصيغة النكرة قرينة واضحة على اطلاق المفهوم «1».

وقد قيل في تفسير «شركاء المشركين» الذين ذُكروا في الآية 137 من سورة الأنعام:

«وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِيْنَهُمْ ، أنّهم المتولون لمعابد الأصنام، حيث كانوا يغوون الناس ويغرونهم لتضحية أولادهم للاصنام، وبهذا التبس عليهم الحق، والقي حجاب على عقولهم وأفكارهم.

وعلى هذا التفسير، فإنّ الآية تُعدُّ شاهداً واضحاً على بحثنا أي أنّ الأصدقاء المضلين يشكلون حجاباً للعقل يمنعه عن المعرفة.

ج ج

توضيح:
دور الأصدقاء في التأثير على طريقة التفكير عند الآخرين:

يشاهد في الروايات الإسلامية تعابير كثيرة في هذا المجال، تكشف عن أنّ الأصدقاء المنحرفين والمستشارين الضالين يمكنهم السيطرة على فكر الإنسان وتغيير موازين عقله وإغلاق طريق الحق عليه، ونذكر هنا نماذج من الروايات التي تشير إلى ذلك:

1- نصح الإمام علي عليه السلام ابنه الحسن يوماً قائلًا له:

«يا بُني إياك ومصادقة الأحمق فانّه يريد أن ينفعك فيضرك ... وإياك ومصادقة الكذاب فانه كالسراب يُقرّبُ عليك البعيد ويُبعِد عليك القريب»

«2».

2- وقد جاء في عهد الإمام علي عليه السلام لمالك الأشتر حول المستشارين:

«ولا تُدْخلن في مشورتك بخيلًا يعدل بك عن الفضل وَيعِدك الفقر ولا جباناً

______________________________

(1). تفسير في ظلال القرآن، ج 6، ص 156.

(2). نهج البلاغة الكلمات القصار الكلمة 38.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 315

يُضعفك عن الامور ولا حريصاً يزين لك الشرَه بالجور» «1».

ويستفاد من التعبير الأخير أنّ المستشارين المنحرفين يمكنهم التأثير في فكر الإنسان ويحولون دون الإدراك والمعرفة.

3- وقد جاء في حديث آخر للإمام على عليه السلام:

«مجالسة الأشرار تُورَثُ سوء الظن بالأخيار» «2».

4- وقد جاء في حديث للرسول الأكرم صلى الله عليه و آله:

«المرءُ على دين خليله وقرينه» «3».

وبهذا يتضح تأثير الصديق الصالح أو غير الصالح على كيفية المعرفة واسلوب التفكير.

ج ج

3- حجاب الاعلام و الوسط الاجتماعي

اشارة

في البداية نتأمل خاشعين في الآيات الكريمة التالية:

1- «قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَومَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرىُّ* ... فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَآ الهُكُمْ وَالهُ مُوسَى فَنَسِىَ . (طه/ 85- 88)

2- «فَخَرَجَ عَلَى قَومِهِ فِى زِيْنَتِهِ قَالَ الَّذِيْنَ يُريدُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِىَ قَارُونُ انَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ . (القصص/ 79)

3- «قَالَ أَلْقُوْا فَلَمَّا الْقَوا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ . (الأعراف/ 116)

4- «وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِى انْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ

______________________________

(1). نهج البلاغة، الرسالة 53.

(2). سفينة البحار، ج 1، ص 168.

(3). اصول الكافي، ج 2، ص 375، باب مجالسة أهل المعاصي، ح 3.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 316

النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ . (آل عمران/ 72)

5- «أَمْ انَا خَيْرٌ مِّنْ هذَا الَّذِىْ هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ* فَلَوْلَا أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ* فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُم

كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ . (الزخرف/ 52- 54)

جمع الآيات وتفسيرها
الإعلام المسموم:

إنّ الآية الاولى أشارت إلى قصة السامري طالب الشأن والمقام، الذي استغل غيبة موسى عليه السلام اثناء ذهابه إلى طور سيناء (للقاء ربه) لمدّة أربعين يوماً، فجمع ذهب وحُلي بني اسرائيل وصنع منها صنماً في صورة عجل! ويظهر أنّه وضعه باتجاه الريح بحيث يُخرج صوتاً كرُغاءَ البقرة عند هبوب الرياح، وقد عبر القرآن عن هذا الصوت ب «خوار» أي صوت البقرة البطي ء.

إنّه انتهز الفرصة بأُسلوب خاص، حيث قام بعمله هذا بعد مضي خمسة وثلاثين يوماً من غيبة موسى أي عندما أخذت أنوار التبليغ التوحيدي تتضاءل في قلوب بني اسرائيل، حيث كان المفروض أن يَرجِعَ موسى من طور سيناء بعد ثلاثين يوماً، إلّاأنّ اللَّه اخّر ميعاده لامتحان بني اسرائيل فاتمهن أربعين يوماً.

يقول القرآن في هذا المجال: «قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَا قَومَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرىُ .

وعلى أيّ حال فإنّ انحراف بني اسرائيل (الذين ينقل أنّ عددهم بلغ الستمائة ألف) عن طريق التوحيد الخالص إلى الشرك والكفر وعبادة الأصنام ليس بالأمر الهين، إنّ الآيات التي جاءت في هذا المجال في سورة «طه» وغيرها من السور وكذا التواريخ والتفاسير تكشف عن أنّ السامري كان يستعين بأسلوب خاص من الاعلام والتبليغ للإستحواذ على أفكار الناس وغسل أدمغتهم، بحيث جعل حجاباً على عقولهم، فظنوا (بسبب ذلك

نفحات القرآن، ج 1، ص: 317

الحجاب) أنّ هذا العجل هو إله موسى !

والعجيب هنا أنّ الأمر بلغ ببني اسرائيل إلى حَدٍّ حيث رددوا ما قاله السامري: «هذا إله موسى ، والتعبير ب «قالوا» شاهدٌ على هذا.

والتعبير الأخير دليل واضح على تأثير إعلام السامري الشديد، إنّه كان يستثمر إعلامه في الجهات التالية:

1- انتهاز فرصة غيبة موسى

2-

تمديد غيبته إلى أربعين يوماً.

3- الاستعانة بالذهب والحلي التي كانت ثمينة بالنسبة لبني اسرائيل.

4- استثمار الأرضية المساعدة والنمحرفة مثل طلبهم من موسى جعل صنمٍ إلهاً عندما نجوا من الغرق في النيل، ومرّو بقوم يعبدون الأصنام: «قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَّنَا إِلهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ». (الأعراف/ 138)

5- مكانته الاجتماعية عند بني اسرائيل واعتمادهم عليه إلى حدٍ حيث كانوا يولون له قدسية خاصة ويعدونه ربيب جبرئيل «1»!

6- حب ضعفاء الفكر لألهٍ محسوس، وعدم التفاتهم إلى أنّ اللَّه بعيد عن التجسيم والصفات الجسمانيه، حيث بلغ بهم الأمر أن طلبوا من موسى رؤية اللَّه جهرة كما عكس القرآن ذلك في الآية الخامسة والخمسين من سورة البقرة.

إنّ هذه الامور واموراً اخرى سببت انحراف بني اسرائيل عن جادة التوحيد بالكامل، واغواءهم بتبليغ السامري واعلامه وفي النهاية عبادتهم للأصنام.

ولهذا، عندما رجع موسى وعلم بهم، وبيّن القبح الشديد لعملهم هذا، استيقظوا من غفوتهم وصرخوا قائلين: ندمنا! ندمنا! واستعدوا لأجل قبول توبتهم أن يقتل بعضهم بعضاً كفارة لذنبهم العظيم (البقرة/ 54).

______________________________

(1). تفسير روح الجنان، ج 7، ص 482؛ تفسير روح البيان، ج 5، ص 414؛ دائرة المعارف- دهخدا- مادة (ساري)، (بالفارسية).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 318

وعلى أيّ حال، فإنّ الآية دليل واضح على حجاب الاعلام المضلل.

ج ج

وتحدثت الآية الثانية عن «قارون» الغني والمعروف في بني اسرائيل الذي قام يوماً باستعراضٍ لثروته أمام بني اسرائيل.

لقد نُقِل في التواريخ قصص كثيرة في هذا المجال، فكتب بعضهم: ظهر قارون مع فريق يُعدّ بأربعة آلاف رجل وامرأة من الخدم والحشم والجاريات، فالرجال على خيولٍ أَصيلة، بألبسة حمراء، والجاريات على بغال بيض سروجها من ذهب، والجميع مزينون بالحلي والحلى والذهب والمجوهرات «1».

وقد قدر البعض عدد أفراد قارون بسبعين ألفاً، وإذا لم

نعتبر هذه الأرقام واقعية، فتعبير القرآن: «فَخَرَجَ عَلَى قَومِهِ فِى زِيْنَتِهِ يكشف عن عظمة تلك اللقطة، وقد يكون عمله هذا من أجل تحدي واغضاب موسى عليه السلام، أو تثبيتاً لقدرته في بني اسرائيل، أو أنّه جنون عرض القوة والثروة اللتين يُبتَلى بهما كثير من المتمولين والأغنياء، وعلى أيّ حال، فإنّ تلك اللقطات والاعلام المتزامن معها كان بدرجة من العظمة سلبت عقول الكثير من بني اسرائيل وَأَلْقَتْ بستار على أرواحهم حتى جعلتهم يتمنون أن تكون لهم ثروتهُ وقدرته، ويعدونه سعيداً و «ذو حظٍ عظيم».

وبعد ما جاء ذلك اليوم الذي خسف اللَّه الأرض بقارون وثروته بسبب جرائمه وأعماله المشينة، وعلم الجميع بما حَلَّ بِهِ استيقظوا من غفلتهم وأبدوا سرورهم من حيث إنّهم لم يكونوا مثل قارون.

إنّ تأثير الاعلام لا ينحصر على ذلك الزمان فحسب، بل يشمل في كل عصر وهذا أمرٌ لا يُنكر، وان كثيراً من جبابرة الماضي والحاضر يستعينون باستعراض قوتهم وامكانياتهم كاستعراض قارون لأجل تخدير أفكار الناس، وتسخيفها، وسحر أعينهم، وقد

______________________________

(1). راجع تفاسير الكبير والقرطبي وروح المعاني في ذيل الآيات في سورة القصص.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 319

جَنَوا ثمار مثل هذه الاستعراضات ولا يزالون، وإنَّ العلماء والمفكرين الراسخين هم فقط القادرون على رفع هذه الحجب عن أفكارهم وأفكار غيرهم، وتبيان الوجوه الحقيقية لهؤلاء الجبابرة.

ج ج

و قد بينت الآية الثالثة جانباً من جوانب مقارعة موسى للسحرة، الذين دعاهم فرعون من جميع أرجاء مصر واغراهم بالكثير من الوعود، والذين يقدر عددهم بعشرات الآلاف من السحرة طبقاً لبعض الروايات، وبخمسة عشر الف ساحر طبقاً لرواياتٍ اخرى (يحتمل أن يكون هذا العدد متعلقاً بنفس السحرة وأعوانهم وعمالهم، كما ينبغي الالتفات إلى أنّ السحر كان رائجاً في ذلك العصر بكثرة).

وقد اجتمع

لأجل ذلك جمعٌ غفير من الناس عند الضحى في يوم كان عندهم عيداً (كما عبّر عنهُ القرآن «يوم الزينة» و «ضحى في الآية 59 من سورة طه، وقد كشفت القرائن عن أنّ فرعون كان واثقاً من انتصار السحرة على موسى عليه السلام، وذلك لأنّه كان قد سخر جميع وسائل الاعلام لخدمة هذه القضية.

تقول الآية: «فَلَمَّا الْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ .

وينبغي هنا معرفة مفردتي «الاسترهاب» و «السحر» جيداً لفهم الآية.

جاء «السحر»- لغة- بمعنيين، الأول هو الخدعة، والثاني هو الشي ء الذي غمضت عوامله وكانت غير مرئية، وقد أرجع البعض كلا المعنيين، إلى معنى واحد وقالوا:

إنّ حقيقة السحر هي قلب الشي ء من حقيقته إلى شكل آخر «1».

و كما قلنا في المجلد الأول من التفسير الأمثل عند تفسير الآية 102 من سورة البقرة:

أنّ السحر غالباً ما يعتمد على الخواص الكيمائية والفيزيائية للمواد التي لم يعرفها الناس إلّا أنّ السحرة يعرفونها جيداً وقد اعتمدوا عليها كلياً، كما أنّه جاء في التفاسير حول قصة

______________________________

(1). راجع قاموس اللغة، ومفردات الراغب، والتحقيق في كلمات القرآن الكريم، وتاج العروس.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 320

مقارعة موسى عليه السلام للسحرة، إذ يحتمل أنّ ما جاء به السحرة هو مجموعة من العصي والحبال الجلدية الجوفاء والمليئة بمادة الزئبق الفرّار، وبما أنّ الحركة والتمدد الشديد من خواصه عند ارتفاع درجة حرارته، فعندما ألقوا هذه العصي والحبال بدأت بالحركة والقفز والتقلص والانبساط بفعل حرارة الشمس أو الحرارة المنبعثة من المكان الذي يحتمل وجود مصدر حرارتي تحته «1».

وقد يستعين السحرة في عروضهم- أحياناً- بالشعوذة وخفة اليد، فيرى الناسُ أشياءً لا واقع لها، وقد شاهد كثير من الناس نماذج من هذه العروض، وقد ينشرون مواد كيميائية خاصة

عن طريق العطور وتبخير اعشاب معينة بحيث تؤثر على الحاسة الباصرة وحاسة السمع بل وحتى على اعصاب الحضور لتمثيل صورٍ غير واقعية أمامهم.

كما يحتمل أنّهم يستعينون بالتنويم المغناطيسي والتلقين بحيث تتمثل صور غير واقعية أمام الناس.

بالطبع هناك قسم آخر من السحر يحتمل استعانة السحرةُ به وهو تسخير الجن أو بعض الأرواح (وهذه خمسة طرق رئيسية للسحر).

وقد يطلق السحر على معنى أوسع من المعاني السابقة، فيقال لمن حسن بيانه «له بيان ساحر» كما جاء في الحديث: إنّ الفتنة سحر، لأنّها تفرق بين الأحبّة، إلَّا أن الذي جاء في الآية هو «سحروا أعين الناس» وهو التلاعب بباصرة الحضور بحيث يجعلهم يرون اموراً لا واقع لها، فيرون حية تسعى وإن لم يكن هناك حية أبداً، والشاهد على هذا الحديث هو الآية: «فَإِذا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ الَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى .

(طه/ 6)

(مع أنّها لا تسعى ولا تتحرك لكن الزئبق- احتمالًا- هو الذي جعلها تبدو هكذا).

وأمّا «استرهبوا» فمن مادة «رَهْب» وهو الخوف المتزامن مع التحفظ والاضطراب (كما

______________________________

(1). راجع تفسير روح المعاني، ج 9، ص 22؛ التفسير الكبير 14، ص 203؛ تفسير روح البيان، ج 3، ص 213؛ تفسير المنار، ج 9، ص 66 وتفاسير اخرى.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 321

يقول الراغب في مفرداته) وقد فسر كثير من المفسرين الاسترهاب بالارهاب أي ايجاد الخوف والاضطراب، والتعبير هذا يكشف بوضوح عن استعانتهم بوسائل الاعلام والتلقين إضافة إلى سحر (وغالباً ما يستعين السحرة بهذين الأمرين، بل القسم الأعظم من موفقيتهم يرجع اليهما وإلى حسن القيام بهما).

وقد نقل أنّ مساحة المحل الذي عُدَّ لهذا الأمر كان ميلًا في ميل «1»، كما نقل أيضاً أنّهم أعدوا جبلًا من الحبال والعصي التي تبدو وكأنّها أفاعي تسعى

«2».

ثم خاطب السحرة الناس بأقاويل مثل: أيها الناس ابتعدوا عن الساحة لكي لا تمسكم الأفاعي بضرر لأنّها خطرة ومخيفة! وأمثال هذه التعابير التي أُشير إليها في بعض التفاسير «3»، وقد تأثر بهم الناس كثيراً لأنّهم سحروا أعينهم وقلوبهم، وبهذا ألقوا بحجبهم على حواس الناس وعلى عقولهم للحيلولة دون إدراك الحقائق والواقعيات.

ج ج

لقد كشفت الآية الرابعة عن احدى المؤامرات الاعلامية التي حاكها اليهود ضد الإسلام، والتي كان هدفها تضعيف عقيدة المسلمين بالإسلام، وقصتها: أنّ فريقاً منهم أسلموا وآمنوا ظاهراً في النهار وارتدوا عن الإسلام في الليل، وعندما سئلوا عن سبب رجوعهم عن الإسلام قالوا: إنا لاحظنا صفات محمد صلى الله عليه و آله من قريب فوجدناها لا تتطابق مع كتبنا الدينية وأحاديث علمائنا فرجعنا عنه.

إنّ هذه الحملة الاعلامية سببت في ارتداد قوم من المسلمين عن الإسلام، إذ قالوا:

إذا ارتدّ عن الإسلام أهل الكتاب الذين هم أفهم منّا ويعرفون القراءة والكتابة، فلابدَّ وأنّ الدين باطل ولا أسس قوية له، وبهذا استطاعوا أن يشوشوا على أفكار البسطاء من الناس

______________________________

(1). تفسير روح المعاني، ج 9، ص 22.

(2). تفسير المنار، وقد نقل هذا الحديث عن مفسر باسم ابن اسحاق، ج 9، ص 66.

(3). التفسير الكبير، ج 14، ص 203.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 322

ويلقوا بحجاب فتنتهم على عقولهم.

إنّ مفردة «طائفة» في عبارة «وقالت طائفة» من مادة «طواف» وتعني فريقاً من الناس بشكل حلقة، وكأنّهم يطوفون حول موضوع ما، والمراد منها على ما يقول بعض المفسرين: هو الاثنا عشر يهودياً من يهود خيبر أو المدينة أو نجران، حيث تألموا كثيراً عند تغير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، فحاكوا هذه المؤامرة «1».

إنّ التعبير ب «وجه النهار» إشارة إلى بداية النهار لأنّ الوجه

أول شي ء يواجهه الإنسان، وهو أشرف عضو، بالطبع أنّ الآية حكت المسألة كاقتراح اقترحه البعض ولم تتكلم عن تنفيذ هذا الاقتراح، إلّاأنّ القرائن أثبتت أنهم نفذوا مؤامرتهم بعد ما حاكوها، وإلّا فيُستبعد أن يذكره القرآن باهتمام بالغ، والآيات اللاحقة تحكي عن هذه الأهميّة.

لكننا نعلم على أيّة حال، أنّ خطتهم الإعلامية هذه لم تترك أثراً ملحوظاً في قلوب المؤمنين الذين طهُرت قلوبهم.

ج ج

إنّ الآية الخامسة والأخيرة بيّنت كذلك جانباً من جوانب مقارعة موسى عليه السلام لفرعون، فعندما اتّجهت الأنظار إلى موسى وكادت القلوب أن تهتدي والأفكار أن تُصحح، قام فرعون بحملةٍ اعلامية شديدة سعياً منه لحرف الناس عن اتجاههم نحو دين موسى وقد انعكس في هذه الآية جانب من جوانب الاعلام الفرعوني المضلل.

اعتمد اعلامه في البداية على ذكر شرفه العائلي ونسبه، وقال: «أنا خير من هذا الشخص مشيراً إلى موسى» الذي ينحدر من عائلة فقيرة حيث يعمل راعياً وعبداً من عبيد بنى اسرائيل.

و هو لا يملك قدراً من الفصاحة وأنا افصح منه.

وفضلًا عن ذلك «فلو لا القي عليه اسورة من ذهب» أي لِمَ لم يكن له سوار من ذهب

______________________________

(1). التفسير الكبير، ج 8، ص 85؛ تفسير روح المعاني، ج 3، ص 176؛ تفسير القرطبي، ج 2، ص 1354.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 323

الذي كان يُعد علامة وبيان لشخصية صاحبه.

ثم انّه إذا كان صادقاً لِمَ لم يأتِ بملائكة معه كي تكون شاهداً وعلامة على صدق كلامه؟

وبهذه الحجج الأربع ادّعى بطلان نبوة موسى عليه السلام.

يقول القرآن في هذا المجال: «فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فأَطَاعُوهُ .

إنّ «استخف» من مادة «خفيف» والمراد منه هنا هو أنّ فرعون سعى لأنّ يستخف عقول قومه، جاء في تفسير مجمع البيان: إنّ فرعون استخف عقول قومه

فأطاعوه فيما دعاهم إليه لأنّه احتج عليهم بما ليس بدليل وهو قوله: أليس لي ملك مصر ... الخ «1» (واستخفاف الطغاة للجماهير أمر لاغرابة فيه؛ فهم يعزلون الجماهير أولًا عن كل سبل المعرفة، ويحجبون عنهم الحقائق حتى ينسوها ولا يعودون يبحثون عنها؛ ويلقون في روعهم ما يشاؤون من المؤثرات حتى تنطبع نفوسهم بهذه المؤثرات المصطنعة، ومن ثم يسهل استخفافهم بعد ذلك، ويلين قيادتهم، فيذهبون بهم ذات اليمين وذات الشمال مطمئنين) «2».

والجدير بالذكر أنّ القرآن يقول في نهاية الآية: إنّهم أطاعوه واستسلموا لإعلامه، وذلك لأنّهم مذنبون وفاسقون، وهو يشير بذلك إلى أنّ المؤمن الهادف والواعي لا يكون عرضة لظاهرة غسل الأدمغة، بل الفسق والذنوب هي التي تهيى ء الأرضية لتقبل إعلام باطل كهذا.

وبتعبير آخر: فإنّ «النفس الامارة» من الداخل، و «الوساوس الشيطانية» من الخارج يتعاضدان فيكتمان المعرفة عن الإنسان.

ج ج

______________________________

(1). تفسير مجمع البيان، ج 9،، ص 51.

(2). تفسير في ظلال القرآن، ج 7، ص 340.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 324

توضيح:
الجوانب المتعددة للإعلام المضلل:

إنّ هذه القضية في عصرنا الحاضر أوضح من أن تبحث أو تُناقش، كما أنّها لم تخفَ على الناس في العهود الغابرة.

إنّ الجبابرة الذين أرادوا فرض إرادتهم وحاكميتهم على الناس، توسلوا بوسائل إعلامية مختلفة لغسل أدمغة الناس، بدءً بالمكاتيب القديمة وانتهاءً بالمحاريب والمنابر، وأخذاً برواة القصص والأساطير في المقاهي، وانتهاءً بالكتب العلمية.

والخلاصة: إنّهم استعانوا بجميع الوسائل المضلِّلة للوصول إلى مآربهم، من تحريف التاريخ، وأشعار الشعراء، وثناء المداحين، ومراكز التقديس والاحترام عند الناس، واختلاق الأساطير والكرامات والقيم غير الواقعية، وغيرها من الوسائل، فانّهم يستطيعون بوسائل الاعلام هذه أن يصوروا الشيطان ملكاً أو إنساناً محترماً، وذلك كله من أجل الوصول إلى مآربهم.

وقد جاء في بعض التواريخ الإسلامية المعروفة أن طاعة أهل الشام لمعاوية

بلغت درجة عجيبة، وننقل هنا عبارة المسعودي في هذا المجال:

«لقد بلغ من أمرهم في إطاعتهم له أنّه صلى بهم عند مسيرهم إلى صفين الجمعة في يوم الأربعاء» «1».

والقصة التالية قصة معروفة (وَلَوْ لَمْ تكن مرويّةً في كتب التاريخ لكان قبولها صعباً)، حيث إنّ رجلًا من أهل الكوفة قدم دمشق راكباً جملًا في وقت كان أهل الشام يرجعون من صفين، فرآه رجل دمشقي فقال له: إنّ هذه الناقة لي وأنت أخذتها مني في صفين، فتنازعا فاشتكى الشامي عند معاوية (وكأنّها اتخذت صبغة سياسية) وجاء بخمسين شاهداً على أنّ هذه الناقة له، فقضى له معاوية على أساس الشهود.

فصرخ الكوفي قائلًا لمعاوية: إنّ هذا جمل وليس ناقة (انثى الجمل)، وطلب منه أن

______________________________

(1). مروج الذهب، ج 2، ص 72.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 325

يلاحظها بنفسه، فأدرك معاوية صدق الكوفي فيما يقوله، لكن رغم ذلك قال له: إنّ الحكم صدر وانقضى وبعد ما تفرّق الناس أرسل معاوية رجلًا إلى الكوفي، فأتاه وأعطاه ضعف قيمة جمله، وقال له: «أبلغ علياً أنّي اقابله بِمِائةِ ألفٍ ما فيهم من يُفرق بين الناقة والجمل» «1».

وخلاصة القول: إنّ في التاريخ شواهد ونماذج كثيرة تكشف عن كيفية إغواء الطغاة والساسة لأُمم عظيمة وغسل أدمغتهم بحيث ضلوا حَيارى في متاهات الدروب، وابتلوا بمصائب كثيرة، وعند استتباب الأوضاع ورجوعها إلى حالتها الطبيعية، وعند سقوط الجبار المضل، وارتفاع حجب الاعلام، يستيقظ بعض الناس وينتبهون لماضيهم فيتأسفون ويندمون كثيراً.

وفي العصر الحاضر اكتسب الاعلام قدرة عظيمة بدرجة انَّ في بعض الدول المتقدمة- اصطلاحاً- تأخذ وسائل الاعلام بأيدِ الشخصيات العلمية والمفكرين الواعين نسبياًصناديق الاقتراع ليصوتوا للشخصيات التي تدعو إليها وسائل الاعلام تلك، وقد يتصور أنّهم احرار على الاطلاق، بينما لا خيار

لهم من جراء وسائل الاعلام تلك.

إنّ اتساع وسائل الاعلام المسموعة والمرئية واستعانتها بفنون علم النفس يزيد في تأثير الاعلام على النفوس بدرجة يَحارُ فيها الخارجون عن دائرة الاعلام والمتمكّنون من متابعة الامور من دون رأي مسبق فيها.

إنّ هذا الأمر لم ينحصر في الامور السياسية فحسب، بل في الامور الاقتصادية كذلك، فإنّ وسائل الاعلام يمكنها بحملة إعلامية أن تسوق المجتمع نحو استهلاك سلعة قد تكون اعتباطية أو مضرة أحياناً، وبهذا يُفرض على المجتمع اقتصادٌ سقيم.

إنّ الاستعانة بعناوين وقيم كاذبة مثل الاستعانة بعنوان «موديل» أحد أوسع وأعقد الطرق للوصول إلى هذه الأهداف غير المشروعة.

كما أنّه يستعان بالاعلام الثقافي الغامض لفرض المذاهب الفكرية المختلفة على الشعوب، فتارة يُفرض مذهب باطل وعارٍ عن الاسس المنطقية، وكأنه مذهب فلسفي منطقي إنساني.

______________________________

(1). مروج الذهب، ج 2، ص 72؛ الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، ج 4، ص 956.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 326

وعلى أيّة حال، فمما لا شك فيه أنّه ينبغي رفع هذه الحجب عن المجتمع وتصحيح اتّجاه المعرفة فيه، كما ينبغي عدم ترك وسائل الاعلام أن تفكر وتقرر بدلًا عن المجتمع، بل يحدد عملها في توعية الناس، وتهيئة الأرضية لهم لاتخاذ القرارات الصحيحة.

ينبغي أن لا يكون هدف وسائل الأعلام الجماعية هو وضع الحجب على عقول الناس والتعتيم عليهم، بل ينبغي أن يكون الهدف هو رفع حجب التعصب والجهل والغفلة والتقليد العشوائي عن العقول، وهذا هو البرنامج الراقي لوسائل الاعلام في مجتمع رشيد ونموذجي، والمؤسف في عصرنا الحاضر هو قلة مثل هذه المجتمعات.

إنّ النقص في وسائل الاعلام هو أنّها بيد الساسة، والأسوء من ذلك أنّها بيد العمالقة الاقتصاديين الذين يوجهون الناس أين ما شاءوا.

ج ج

4- حجاب وساوس الشياطين

اشارة

في البداية نتمعن خاشعين في الآيات الشريفة التالية:

1- «فَلَوْلَا

اذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . (الأنعام/ 43)

2- «وَجَدْتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَايَهْتَدُونَ . (النمل/ 24)

3- «وَعَاداً وَثَمُودَا وَقَدْ تَّبَيَّنَ لَكُمْ مِّنْ مَّساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ اعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ . (العنكبوت/ 38)

4- «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمانِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ* وَانَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُّهْتَدُونَ . (الزخرف/ 36- 37)

5- «وَكَذلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ الى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً». (الأنعام/ 112)

6- «انَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى ادْبَارِهِمْ مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ

نفحات القرآن، ج 1، ص: 327

وَأَمْلَى لَهُمْ . (محمد/ 25)

7- «يَا ايُّهَا النَّاسُ انَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَاتَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ». (فاطر/ 5)

شرح المفردات:

كلمة «الشيطان» خلافاً لما يظنّ البعض- ليس اسماً خاصاً بابليس وعلماً له، بل له مفهوم عام، وعلى ما يُصطلح عليه فهو «اسم جنس» يشمل كل موجود متمرد وباغ ومخرّب، سواء كان من الجن أو الانس أو شيئاً آخر.

وهنالك قولان في أصل هذه المفردة:

القول الأول هو القائل بأنه من مفردة «شُطُون» أي البُعد، ولهذا قيل للبئر العميق والبعيد قعره عن متناول الأيدي «شَطون»، ويقول «خليل بن أحمد»: إنّ شَطَن تعني الحبل الطويل، وبما أنّ الشيطان بعيد عن الحق وعن رحمة اللَّه استعملت هذه المفردة فيه.

والقول الثاني هو القائل بأنه من مادة «شَيْط» ويعني الالتهاب والاحتراق غضباً، وبما أنّ الشيطان خلق من نار واشتعل غضباً عندما أُمر بالسجود إلى آدم عليه السلام أطلقت هذه المفردة عليه وعلى الموجودات الاخرى من أمثاله «1».

«الغَرور»: من مادة «غُرور»

أي الخدعة والحيلة والغفلة عند اليقظة، وقد اطلقت هذه المفردة على الشيطان لأنّه يغرّ الناس بخدَعِه وحِيَله ويخرجهم عن الطريق الصواب، ويغيّر رؤيتهم للحق والباطل.

«الغَرور»: كل شي ء يغرّ ويخدع، وهو أعمّ من المال والمقام والشهوة والشيطان، وإذا فسّر أحياناً بالشيطان فقط فذلك لأنّه أخبث الخادعين والماكرين.

أمّا «التسويل» فمن مادة «سُؤْلَ» وفي الأصل يعني الحاجة والامنية التي ترغب النفس

______________________________

(1). التحقيق في كلمات القرآن الحكيم؛ مفردات الراغب؛ لسان العرب ومجمع البحرين مادة (شيطان).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 328

فيها، والتسويل يعني تزيين الشي ء بشكل حيث تشتاق إليه النفس، كما جاء بمعنى تزيين الأشياء القبيحة.

هذا التفسير ذكره الراغب في مفرداته، إلَّاأنّه يستفاد من صِحاح اللغة وكتاب العين، أن معناها في الأصل هو الاسترخاء المتزامن مع الغرور والغفلة، ولهذا اطلقت هذه المفردة على تزيين الامور غير السائغة واظهار عكس ما هي عليه وبشكل سائغ، بحيث يُخدع الإنسان من جرائها ويسترخي.

وعلى أيّة حال، فإنّ المراد من تسويلات الشيطان في الآيات هو إظهار القبح حسناً بشكل يخدع الإنسان ويحرفه.

جمع الآيات وتفسيرها
كيف يُزيّن الباطل؟ وكيف تُسحر العيون؟

تحدثت الآية الاولى عن فريق من الأقوام السالفة الذين أُرسل إليهم رسلٌ ليؤمنوا ويسلموا أنفسهم للحق، إلّاأنّهم اعرضوا عن ذلك، فأنزل اللَّه عليهم بأسه، فابتلاهم بمختلف المشاكل والمصائب والحوادث الصعبة، والفقر والمرض والقحط وغير ذلك، كي يوقظهم من غفلتهم، ولكي يخضعوا للحق، إلّاأنّهم اتخذوا السبيل المنحرف بدل سبيل الرشاد والرجوع إلى الحق والتوبة.

يقول القرآن في هذا المجال: لماذا لم يتضرعوا بالرغم من مجي ء بأسنا لهم؟ ثم يعدُّ أسباب هذا الأمر ويقول: الأول هو «قَسَتْ قُلُوبُهُمْ فما كادت تخضع للحق.

والثاني هو: «وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ، بحيث أصبحوا يرون المعاصي صواباً والقبح جمالًا، وقد نفذ الشيطان هنا من طريق عبادة الهوى

وبتعبير آخر: لم تؤثر فيهم لا مواعظ الأنبياء اللفظية، ولا مواعظ اللَّه العملية والتكوينية، وعامل هذا الحجاب هو قسوة القلوب من جهة، ومن جهة اخرى تزيين الشيطان لهم، بحيث سلب منهم روح التضرع والخضوع.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 329

هناك بحث بين المفسرين في المراد من «تزيين الشيطان»، فيقول البعض: إنّه الوساوس الشيطانية التي تبدو المحاسن فيها قبائحاً والقبائح فيها محاسناً، أو العوامل الخارجية التي تزين للإنسان سوءَ أعماله، كما تُجعل المواد السامة في غلاف مُغرٍ وجميل، وكما يُدعى للانحرافات الكبيرة تحت غطاء التمدن والأفكار النيرة والحرة.

وتحدثت الآية الثانية عن هدهد سليمان عندما قدم من رحلته إلى بلاد الملكة سبأ، فبعد حكايته لقصة سبأ وحضارة بلادها العظيمة قال: «وَجَدْتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ .

إنّ هذه الآية تكشف عن أنّ الهدهد بالرغم من محدودية عقله وذهنيته الخاصة به وبعالمه يدرك بالاجمال حجب المعرفة، ويعرف أنّ الشيطان يجعل ستاراً على فكر الإنسان يحول دون تمكنه من إدراك الحقائق ويغلق أبواب المعرفة عنه ويحول دون وصول الإنسان إلى مراده المنشود.

وقد بحثنا امكانية اطلاع الحيوانات على عالم الإنسان، كما بحثنا مدى معرفتها لهذا العالم في تفسير الأمثل ذيل الآية 18 من سورة النمل، وفي ذيل الآية 38 من سورة الأنعام.

كما تحدثنا في ذيل الآية نفسها عن كيفية طي الهدهد المسافة الطويلة بين الشام واليمن ووصوله إلى بلاد سبأ.

ج ج

وقد تحدثت الآية الثالثة عن قوم عاد وثمود وطغيانهم وعصيانهم ثم هلاكهم، كما عرضت على عرب الحجاز مدنهم الخربة التي يمرون بها عند رحلاتهم إلى الشام واليمن كعبرة لهم، ثم أشارت إلى السبب الأساسي في إهلاكهم وهو تزيين الشيطان لأعمالهم بحيث ما كادوا يبصرون شيئاً

ولا يعقلون رغم امتلاكهم للابصار والعقول، وقد قالت الآية: «وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ اعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ .

إنّ عبارة «وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ - كما يقول كثير من المفسرين- تعني غفلتهم وعدم

نفحات القرآن، ج 1، ص: 330

تدبرهم في الحقائق بالرغم من امتلاكهم للعقول والحواس واقتدارهم على الاستدلال والتمييز بين الحق والباطل «1».

وقد جاء في تفسير الميزان: «إنّهم كانوا يعرفون طريق الحق بفطرتهم إلّاأنّ الشيطان زيَّن لهم أعمالهم فمنعهم عنه» «2».

ويقول البعض: إنّ المراد من العبارة هو معرفتهم للحق بواسطة دعوة الأنبياء وتعاليمهم «3».

إنّ الآية بجميع تفاسيرها (سواء قبلنا أحدها أو قبلنا الجميع لعدم المنافاة بينها) شاهد على ما قلناه من أن تزيين الشيطان يجعل حجاباً على عقل الإنسان وفكره.

ج ج

وقد بينت الآية الرابعة بصورة عامة مصير الذي يعشو عن ذكر اللَّه ويغفل عنه وقالت:

«وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمانِ ... وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ .

ذَكر المفسرون وأئمة اللغة معنيين لفعل «يَعْشُ»، فقال بعض: إنّه ظلام خاص يحلُّ في ا لعين يفقد الإنسان من جرائه بصره ويكون أعمى أو أعشى (أي لا يرى في الليل) وهو من مادة «عَشَى ، كما يقال «عشواء» للجمل الذي لا يرى أمامه ويخطأ عند المشي، وعبارة «خبط عشواء» إشارة إلى هذا المعنى

وعلى هذا فيكون معنى الآية الشريفة هو: إنَّ الذي لا يرى آيات اللَّه في الكون بعينه، ولا يسمع من انبيائه، فانه سيقع في فخّ الشيطان وتسويلاته.

وقال بعض آخر: إنّها من مادة «عَشْو»، وعندما تستعمل مع «إلى فتعني الهداية ببصر ضعيف، وعندما تستعمل مع «عن» فتعني الإعراض «4».

______________________________

(1). تفسير مجمع البيان، ج 7، ص 283؛ تفسير روح البيان، ج 6، ص 468، كما نقل هذا عن بعض المفسرين في تفسير القرطبي.

(2). تفسير الميزان،

ج 16، ص 131.

(3). التفسير الكبير، ج 25، ص 66.

(4). يقول بعض المفسرين: إنّ هذه المفردة إن كانت من مادة (عَشَا، يَعْشو)، فتعني التعامي من دون أن تكون علة في بصره، أمّا إذا كانت من مادة (عَشَى يَعْشا)، فتعني حصول علة في بصره، تفسير روح البيان، ج 8، ص 368، وينبغي الالتفات هنا إلى أنّها في الآية من باب (عَشَا، يَعْشو).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 331

وعلى هذا فيكون المراد من الآية هو: إنّ الذين يعرضون عن ذكر اللَّه فَنُقَيِّضُ ونسلط الشيطان عليهم «1».

إنّ «نُقَيّضُ» من مادة «قَيْض» وتعني قشر البيض ثم استعملت بمعنى الاستيلاء، واستعمال هذه المفردة في الآية أمرٌ مثير، حيث يكشف عن أنّ الشيطان عندما يَنْقَضُّ على الإنسان يحيط به من جميع الجهات، ويقطع اتصاله بالخارج بالكامل كما تفعل قشرة البيض بالبيض، وهذا أسوء أنواع حجب المعرفة التي يُبتَلى بها الإنسان، كما أنّ هناك مثلًا عند العرب يقرب معنى الآية للأذهان «استيلاء القيض على البيض».

والأسوء من هذا هو أنّ احاطة الشيطان بالإنسان واستيلاءه عليه ومقارنته له تستمر إلى درجة تجعله يفتخر بضلالته ويحسب أنّ طريقه هو طريق الحق والهداية «وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ .

ج ج

وقد تحدثت الآية الخامسة عن شياطين الانس والجن الذين نصبوا العداء للأنبياء والذين أعدوا أنفسهم لابطال فاعلية تعليم الأنبياء، ويوحي بعضهم إلى بعض أقاويل مزخرفةً باطلةً لا أساس لها من الصحة، كما يعلّم بعضهم البعض طرق المكر والخداع، وذلك لاغفال الناس وكتم الحقائق وجعل الحجب عليها، وإبعاد الناس عن تعاليم الأنبياء.

وينبغي ذكر هذه النقطة هنا وهي: إنّ العدو ذكر بصيغة المفرد، بينما الشياطين بصيغة الجمع، وهذا قد يكون من حيث إنّ الشياطين متحدون ومتفقون في سبيل إغفال الناس وخداعهم وكأنّهم عدو

واحد.

ويقول البعض: إنّ «عدو» هنا بمعنى أعداء أي بمعنى الجمع «2».

______________________________

(1). راجع لسان العرب ومفردات الراغب و تفاسير القرطبي وروح البيان والميزان.

(2). تفسير روح المعاني، ج 8، ص 4.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 332

كما صرح بعض آخر: إنّ «العدو» تطلق على المفرد والمثنى والجمع «1».

والآية السادسة هي من آيات سورة محمد صلى الله عليه و آله التي أُشير فيها إلى حجب متعددة من حجب المعرفة، فتارة تعدّ الفساد في الأرض وقطع صلة الرحم سبباً للعمى الباطني لهم الآية 23، وتارة اخرى تعد ترك التدبر في القرآن بمثابة الأقفال على القلوب.

والآية المذكورة تعدُّ تزيين الشيطان وتسويلاته سبباً لارتداد الضالين، حيث يتبين لهم الحق ويؤمنون به أولًا، ثم ينحرفون عنه من جراء تسويلاته وتزيينِهِ لهم إلى درجة يفتخرون فيها بضلالتهم الأخيرة.

من هم المشار إليهم في الآية؟

هذا ما بحثه المفسرون وانقسموا من جرائه إلى فريقين، فبعض يقول: إنّهم اليهود، حيث كانوا مؤمنين بالرسول صلى الله عليه و آله قبل ظهوره وذلك لوجود العلامات المذكورة في كتبهم عن ذلك الرسول، ثم سلكوا سبيل العناد والمخالفة له بعد ظهوره، ويُعدُّ هذا نوعاً من الارتداد.

وبعض يقول: إنّها تشير إلى المنافقين الذين آمنوا في البداية ثم ارتدوا بعد ذلك، أو أنّهم آمنوا ظاهراً وهم كافرون باطناً، لكن مع الالتفات إلى كون الآيات التي سبقت هذه الآية والتي تليها ناظرة إلى المنافقين، لا يبعد أن تكون هذه الآية تشير إليهم كذلك فالمراد من الآية- إذن- المنافقون الذين آمنوا في البداية ثم ارتدوا بعد ذلك.

إنّ «أملى لهم» من مادة «املأ» أي الإِمهال «2»، والمراد منها هو الآمال البعيدة التي يوحيها الشيطان للإنسان، الآمال التي تشغل فكر الإنسان وتزين له الباطل وتبعده عن الحق.

ج ج

أمّا الآية السابعة والأخيرة

فقد أنذرت الناس- بتعبير وافٍ- بأن وعد اللَّه حق، ثم ذكر

______________________________

(1). تفسير المنار، ج 8، ص 5.

(2). ينبغي الالتفات هنا إلى أنّ أصل هذه المادة هو (مَلْو) لا (مَلأَ)- بالهمزة-.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 333

عاملين للضلالة والانحراف عن الحق، الأول: الدنيا «فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا»، والثاني:

الشيطان «وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ» فتارة يؤملكم بكرمه وينسيكم غضبه، وتارة اخرى يغويكم بشكل بحيث تنسون اللَّه وتعاليمه، أو تبدو لكم تعاليمه بشكل معكوس.

إنّ «غرور»- كما أشرنا سابقاً- هو كل ما خدع الإنسان، سواء كان مالًا أو جاهاً أو شهوات أو غير ذلك، وبما أنّ الشيطان أوضح مصداق للخداع، أطلق عليه ذلك كثيراً، وفُسِّر به «1».

يعتقد كثير من المفسرين أنّ عبارة «لَايَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ» تلميح إلى أنَّ الشيطان غَرَّ الإنسان بَعفو اللَّه وكرمه بدرجة يمكّنه من ارتكاب أي معصية أراد، ويبلغ به الأمر أن يعتقد بأنّ هذا ناشي ء عن كمال معرفته لصفات اللَّه! وهذا أمر عجيب.

وحاله كحال من يتصور أنّ جسمه قوي وذو مناعة تمكنه من مقاومة جميع السموم المهلكة، فيخدعه تصوره ويتناول السم فيموت.

وهذا هو أحد حجب المعرفة.

ج ج

توضيحات
1- من هو الشيطان؟

إنّ «الشيطان»- وكما قلنا سابقاً- ليس اسماً خاصاً أو علماً لإبليس، بل إنّ إبليس الذي امتنع عن السجود لآدم هو أحد الشياطين.

إنّ لإبليس جنوداً كثيرة من جنسه ومن الناس، وتطلق مفردة الشيطان على الجميع، وعلى هذا فقادة الكفر والشرك والظلم والفساد في الأرض، والعاملون في الاجهزة الظالمة كلهم من جنود الشيطان، ولقد جاء في رواية أن هناك شياطينَ من الانس أسوء من شياطين الجن، حيث سأل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أباذر يوماً: «هل تعوّذت باللَّه من شر شياطين الجن

______________________________

(1). إنّ «الغرور» صيغة مبالغة.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 334

والإنس»؟

فقال أبوذر:

وهل من الناس شياطين؟

فأجابه رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «نعم هم شرٌ من شياطين الجن» «1».

كما أنّ المستشفَّ من القرآن هو أن للشيطان جنوداً فرساناً وراجلين كما جاء ذلك في الآية: «وَاجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ . (الاسراء/ 64)

إنّ «اجلب» من مادة «إجلاب» ويعني التجمع السريع أو الضجيج والصياح لحثّ مجموعة ما على الحركة.

أمّا المراد من «خيلك ورَجِلك»، فيقول الكثير من المفسرين: إنّه الراجل أو الفارس الذي يخطو في معصية اللَّه، أو قاتل في هذا السبيل «2».

ويقول البعض: إنّ للشيطان أعواناً وأنصاراً راجلين وفرساناً حقاً.

وحمل البعض العبارة على الكناية، وقال: المراد من الآية هو أنّ الشيطان أعدَّ العِدَّة ووفّر جميع الوسائل لصراع ومجابهة الناس «3».

كما يحتمل أن يكون المراد من الخيل هو قادة الكفر والظلم والفساد، ومن الرجل، الشخصيات المتوسطة الأضعف من الشخصيات السابقة.

كما يحتمل أن يكون المراد من الخيل هو الشهوات والصفات الذميمة التي تتغلب على روح الإنسان وتمتطيها، والمراد من الراجلين هو العوامل الخارجية التي تسعى لانحراف الإنسان عن الصراط المستقيم.

ج ج

2- الإجابة عن سؤال

______________________________

(1) التفسير الكبير، ج 13، ص 154.

(2) نقل القرطبي هذا التفسير عن أكثر المفسرين.

(3) ذكر الفخر الرازي هذا التفسير كاحتمال في تفسير الكبير، ج 21، ص 6، وقد جاء ما يشبه هذا الاحتمال في تفسير في ظلال القرآن، ج 5، ص 343.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 335

هناك سؤال يرتبط ببحثنا وهو: كيف يمكن أن يتركنا اللَّه لوحدنا نواجه جنود الشيطان القوية والقاسية؟ وهل يتفق هذا مع حكمة اللَّه وعدله؟

يمكننا الإجابة عن هذا السؤال بالالتفات إلى نقطة، وهي: إنّ اللَّه- وكما جاء في القرآن الكريم- يجهز المؤمنين بجنود رحمانية، أي الملائكة، ويوظف القوى الغيبية التي في العالم يؤازرونهم وينصرونهم في طريق جهاد النفس

والعدو:

«إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ الَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنْتُمْ تُوْعَدُونَ* نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِى الْآخِرَةِ ...».

(فصلت/ 30- 31)

3- النقطة المهمّة الاخرى

هي: إنّ الشيطان لا يدخل قلوبنا فجأة ولا يعبر حدود دولة الروح من دون جواز، إنّ هجومه ليس مباغتاً بل يدخل برخصتنا، نعم إنّه يدخل من الباب لا من النافذة، ونحنُ نفتح له الباب، كما يقول القرآن في هذا المجال: «إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ* انَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ .

(النحل/ 99- 100)

في الحقيقة إنّ أعمال الإنسان هي التي توفر الأرضية لنفوذ الشيطان، وذلك ما يقوله القرآن: «انَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا اخْوَانَ الشَّيَاطِينِ . (الاسراء/ 27)

إلّا أنّه لا طريق للنجاة من مكائد الشياطين المتنوعة وجنودهم في أشكالها المختلفة من الشهوات ومراكز الفساد والسياسات الاستعمارية والمذاهب المنحرفة والثقافات الفاسدة، إلّااللجوء إلى الإيمان والتقوى والتظلّل بألطاف اللَّه والتوكل على ذاته المقدّسة، وكما يقول اللَّه تعالى: «وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا

نفحات القرآن، ج 1، ص: 336

قَلِيلًا». (النساء/ 83)

وقد انتهت إلى هنا حجب المعرفة العشرون، فننتقل معاً إلى مؤهلات المعرفة.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 337

مؤهلات المعرفة

نفحات القرآن، ج 1، ص: 339

مؤهلات المعرفة

تمهيد:

اشارة

كما أنّ البذور تنمو في الأراضي الخصبة، وكما أنّ الأزهار لا تتفتح في الأراضي المالحة بالرغم من استعمال أفضل البذور، ونزول المطر المتوالي عليها، كذلك بذور المعرفة فانّها لا تنمو إلّافي القلوب الصالحة والمؤهلة، ولا تتفتح أزهارها إلّافي الأرواح الطاهرة.

ولهذا السبب فإنّ الاطلاع على الروحيات والأعمال التي تهيي ء وتُعِدّ أرضية المعرفة يعد من أهم البحوث التي تتعلق ب «المعرفة»، وقد استعمل القرآن في هذا المجال تعابير ذات معانٍ عميقة وإشارات جميلة.

وبالرغم من أنّ المؤهلات للمعرفة كثيرة، إلّاأنّ الاسس المهمّة والتي أشار إليها القرآن عبارة عن الامور التالية:

1- علاقة التقوى بالمعرفة.

2- الإيمان والمعرفة.

3- علاقة الصبر والشكر بالمعرفة.

4- المعرفة تهى ء الأرضية للمعرفة.

5-

علاقة الخوف بالمعرفة

و سنبحث كلًا من هذه الامور في فصل خاص بعد ذكر الآيات التي تتعلق بها، كما سنستعين بالروايات الإسلامية في هذا المجال كمؤكد وموضّح لها إن شاء اللَّه.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 340

1- علاقة التقوى بالمعرفة

اشارة

في البداية نتأمل خاشعين في الآيات المباركة التالية:

1- «الم* ذلِكَ الْكِتَابُ لَارَيْبَ فِيْهِ هُدىً لِّلْمُتَّقِينَ . (البقرة/ 1- 2)

2- «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا انْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَّكُمْ فُرْقَاناً». (الأنفال/ 29)

3- «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ . (البقرة/ 282)

4- «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفِلَينِ مِنْ رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ . (الحديد/ 28)

ج ج

شرح المفردات:

إنّ «التقوى من مادة «وِقاية» وتعني- كما يقول الراغب في مفرداته- حفظ الشي ء من الآفات.

ثم يضيف: إنّ التقوى بمعنى حفظ الروح والنفس ممّا يخشى مضرته، ثم اطلقت على الخوف، كما أنّ التقوى في الشرع تطلق على التحفظ من المعاصي، وكمالها ترك بعض المباحات المشكوكة «1».

ولباقي أئمّة اللغة تعابير تشبه ما جاء في المفردات، فقد فسرها بعض بالصيانة «2»، وبعض اخر ب «الامتناع عن القبائح والأهواء» «3».

وقد نقل عدد من المفسرين حديثاً عن بعض الصحابة أنّهم سألوا عن حقيقة التقوى فاجابوا:

______________________________

(1). مفردات الراغب مادة (وقى .

(2). لسان العرب نفس المادة.

(3). مجمع البحرين، نفس المادة، كما ينبغي الالتفات إلى أن أصل مفردة التقوى هو «وَقى فانقلبت الواو تاءً، كما ذكر ذلك الخليل بن أحمد في كتابه «العين».

نفحات القرآن، ج 1، ص: 341

«هل مررت بطريق ملي ء بالأشواك في يوم ما؟ قال السائل: نعم، قال: الم تجمع ثيابك وترفع اذيالك وتسعى للخلاص من الأشواك؟ فحالتك هذه هي التقوى .

نعم، إنّ الطريق إلى اللَّه ملي ءٌ بالأشواك كأشواك الشهوات والميول والأهواء والآمال البعيدة والكاذبة، ومن هنا ينبغي على الإنسان أن يحافظ على ثباته فيتجنب أن يكون عرضة لهذه الأشواك، وينبغي أن لا تشغله عن مسيره إلى اللَّه سبحانه وتعالى.

و هذا لايكون إلا باليقظة

والمعرفة والخبرة ومراقبة النفس على الدوام.

وبتعبير أبسط: إنّ التقوى هي الوقاية من الآفات التي تعترض الروح في سيرها التكاملي، وتجنّبُ الذنوب والشبهات حتى الوصول إلى الملكة.

وقد ذكر بعض المفسرين معانيَ عديدة للتقوى وجاؤوا بشاهد من القرآن لكلٍ منها، وفي الحقيقة أنّ كلًا منها مصداق من مصاديق التقوى مثل التوبة والطاعة والإخلاص والإيمان (العبادة والتوحيد) «1».

ويقول البعض: إنّ حقيقة التقوى هي أن يجعل الإنسان حائلًا أو مانعاً أمام آفة ما، فكما يدفع الإنسان تأثير ضربات العدو بالدرع، كذلك المتقون فانهم يصونون أنفسهم من عذاب اللَّه بواسطة درع طاعة اللَّه «2».

نقسّم التقوى إلى ثلاث مراحل: التقوى عن الكفر، والتقوى عن الذنب، والتقوى عما ينسي الإنسان ذكر ربّه «3».

ولكن- كما هو واضح- فإنَّ المعاني هذه كلها ترجع إلى المعنى الأساسي الذي ذُكر للتقوى في البداية.

ج ج

______________________________

(1). وجوه القرآن، ص 55؛ التفسير الكبير، ج 2، ص 20.

(2). تفسير روح البيان، ج 1، ص 30 و 31.

(3). المصدر السابق.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 342

جمع الآيات وتفسيرها
اتقوا كي يسطع نور العلم على قلوبكم!

يقول اللَّه عزّ وجلّ في الآية الاولى «ذلِكَ الْكِتَابُ لَارَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ والتعبير هذا يثبت بوضوح تأثير التقوى على المعرفة كمؤهل لها.

وهذه هي الحقيقة، فما لم تحصل في باطن الإنسان مرحلة من مراحل التقوى لا يمكنه الاستفاضة من ينابيع الكتب السماوية، وأقل التقوى هو أن يسلم الإنسان نفسه إلى الحق ويترك العناد، فإنّ الذين يفتقدون هذه المرحلة من التقوى سوف لا يرتفعون إلى أدنى درجة من درجات المعرفة ولا يتقبلون الهداية أبداً.

طبيعي أنّ الإنسان كلما كانت روح التقوى والتسليم إلى الحق وقبول الحقائق والواقعيات قوية عنده كانت استفاضته من ينبايع الهداية أكثر.

إنّ ينابيع الهداية وعلى رأسها القرآن المجيد كالغيث الذي يحيي

الأرض ويفتح أزهار المعرفة فيها، وهذا يحدثُ في الأرض الخصبة فقط لا في كل أرض.

إنّ التعبير ب «هدى أي بصيغة المصدر، تأكيد لحقيقة أنّ روح التقوى إذا استيقظت عند الإنسان وأصبحت فعالة، فإنّ القرآن سيصبح الهداية ذاتا (تأمل جيداً).

وفي هذا المجال يقول بعض المفسرين العظام:

«إنّ الهداية الثانية لما كانت بالقرآن فالهداية الاولى قبل القرآن وبسبب سلامة الفطرة، فإنّ الفطرة إذا سلمت لم تنفك من أن تنتبه شاهدة لفقرها وحاجتها إلى أمرٍ خارج عنها، وكذا احتياج كل ما سواها ممّا يقع عليه حس أو وهم أو عقل إلى أمر خارج تقف دونه سلسلة الحوائج، فهي مؤمنة مذعنة بوجود موجود غائب عن الحس، منه بدأ الجميع وإليه ينتهون ويعودون، وأنّه كما لم يهمل دقيقة من دقائق ما يحتاج إليه الخلق كذلك لا يهمل هداية الناس إلى ما ينجيهم من مهلكات الأعمال والاخلاق وهذا هو الاذعان بالتوحيد والنبوة والمعاد وهي اصول الدين» «1».

______________________________

(1). تفسير الميزان، ج 1، ص 42.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 343

كما يقول الفخر الرازي:

«والبعض الآخر ذكر في حصر الهداية بالمتقين لأنّ اللَّه تعالى ذكر المتقين مدحاً ليبين أنّهم هم الذين اهتدوا وانتفعوا به كما قال: «إِنَّمَا انْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا». (النازعات/ 45)

وقال: «إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ». (يس/ 11)

وقد كان عليه السلام منذراً لكل الناس، فذكر هؤلاء الناس لاجل أنّ هؤلاء هم الذين انتفعوا بانذاره» «1».

وقد استنتج الفخر الرازي في بعض عباراته:

«ولو لم يكن للمتقي فضيلة إلّاما في قوله تعالى (هدى للمتقين) كفاه لانه تعالى بيّن أنّ القرآن هدى للناس في قوله تعالى «شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِى أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لّلنَّاسِ ...».

(البقرة/ 185)

ثم قال: إنّه هدى للمتقين فهذا يدل على أنّ المتقين هم كل

الناس فمن لا يكون متقياً كانه ليس بانسان» «2».

و بالرغم من عدم تعارض التفاسير الماضية، إلّاأنّ التفسير الأول يبدو أوضح، ومن هنا يعرف عدم صحة الرأي القائل (بحمل «المتقين» في الآية على المجاز، والقول بأنّ المراد منهم سالكو طريق التقوى وذلك للحيلولة دون الوقوع في إشكال (تحصيل حاصل)، وذلك لأنّ للتقوى وكما قلنا- مراحل ودرجات، فمرحلة منها تؤهل لهداية القرآن، والمراحل الرفيعة الاخرى تكون وليدة هداية القرآن.

ويُطرح هنا سؤال وهو: إنّ الآيات التي جاءت بعد «هدىً للمتقين» عرفت المتقين بالذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وعلى هذا، أفلا تكون هداية القرآن تحصيلًا للحاصل يا ترى !

إنّ الإجابة على هذا السؤال تتضح بالالتفات إلى نقطة في هذا المجال وهي: إنّ الوصول إلى هذه المراحل المذكورة في السؤال ليست نهاية الطريق، بل هناك مراحل كثيرة اخرى ينبغي طيها لبلوغ المرحلة التكاملية اللائقة بالإنسان، وهذه المرحلة عند

______________________________

(1). التفسير الكبير، ج 2، ص 21.

(2). المصدر السابق.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 344

المتقين ستهديهم إلى مراحل ارفع واسمى بالاستعانة بهداية القرآن.

وتوجد تعبيرات في القرآن تشبه ما جاء في الآية السابقة، مثلما جاء في الآية: «وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ . (الحاقة/ 48)

فعدت الآية الاولى القرآن «هدى للمتقين وسبباً لهدايتهم، والثانية «تذكرة» لهم، ونعلم أنّ «التذكر» من مقدّمات «الهداية»، ولهذا عندما وصل عدد من المفسرين إلى هذه الآية أرجعوا الحديث فيها إلى نفس الحديث في بداية سورة البقرة.

وعلى أيّة حال، فإنّ هذه الآيات شاهد ناطق على دور التقوى كممهّد للمعرفة والهداية.

ج ج

وقد وضحت الآية الثانية علاقة التقوى بالمعرفة توضيحاً أكثر من الآية السابقة وصرحت: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا انْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَّكُمْ فُرْقَاناً».

إنَ «الفرقان»- كما يقول بعض أئمة اللغة-: (اسم مصدر)،

وادعى بعض آخر (مصدر) إلّاأنّ أغلب المفسرين يصرحون بأن له- في موارد كهذا المورد- معنى فاعلياً مقروناً بالتأكيد (أشبه ما يكون بمفهوم صيغة المبالغة)، ومعناه الشي ء الذي يفرق بين الحق والباطل، وله مفهوم واسع يشمل القرآن المجيد ومعجزات الأنبياء والأدلة العقلية الواضحة وشرح الصدر والتوفيق والنورانية الباطنية وغير ذلك «1».

وبهذا، فالقرآن يقول بأنّ «التقوى هي الأرضية التي تعد للمعرفة والتي يمكن الاستدلال بها تماماً في بعض المراحل، وتنطوي في المراحل الاخرى ضمن الامدادات الإلهيّة المعنوية.

سمى القرآن المجيد يوم معركة بدر «يوم الفرقان»، وذلك من حيث إنّه يوم شهد آيات اللَّه البارزة تؤيد جند الإسلام ضد جند الشرك، فبالرغم من عِدَّة وعدد المشركين الذي يقدر بثلاثة أضعاف عدد المسلمين، تحملوا ضربات قاسية من المسلمين لم يتوقعها أحد.

______________________________

(1). راجع المفردات، وكتاب العين، ولسان العرب، ومجمع البحرين، والميزان، والكشاف في ذيل الآية نفسها.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 345

إضافة إلى هذا، فإنّ معركة بدر كانت أول مواجهة مسلحة بين المسلمين والمشركين انفصلت بها صفوف المسلمين عن المشركين، ولذا سميت ب «يوم الفرقان».

وينبغي الالتفات إلى أنّ «فرقاناً» جاءت بصيغة نكرة ومطلقة، فدلّت على عظمة ذلك النور الإلهي وعلى سعته، بحيث يشمل المسائل الاعتقادية والعملية وكل ابداء رأي تجاه امور الحياة المهمّة، وعلى هذا، فثمرة شجرة التقوى هي الولوج في كل خير وبركة والابتعاد عن كل شرٍّ وفساد.

يقول الفخر الرازي في شرحه لهذه الآية: بما أنّ لفظ الفرقان مطلق فينبغي حمله على كل ما يفرق المؤمنين عن الكافرين، فهذا الفرقان إمّا في أحوال الدنيا وإمّا في أحوال الآخرة، والذي يتعلق بأحوال الدنيا إما أنّه يتعلق بالقلب وهي الاحوال الباطنة أو في الأحوال الظاهرة، فبالنسبة للقلب والباطن فاللَّه يهدي قلوب المؤمنين ويلقي

فيها المعرفة ويشرح صدورهم ويمحو عنها الحقد والحسد والبغض والعداوة، بينما يمتلي ء قلب المنافق والكافر من هذه الرذائل والصفات السيئة، لأنّ القلب إذا تنور بنور الإيمان زالت ظلمات هذه الرذائل عنه، أمّا الذي يتعلق بالظاهر، فاللَّه ينصر المسلمين ويفتح لهم ويمنحهم الرفعة «1».

ج ج

والآية الثالثة التي هي جزء صغير من أطول آية، أي بعد أن بيّنت عدداً من الأوامر الإلهيّة قالت: «وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ . (البقرة/ 282)

يقول القرطبي في تفسيره:

«إنّه وعدٌ من اللَّه تعالى بأنّ من اتقاه علّمه، أي يجعل في قلبه نوراً يفهم به ما يُلقى إليه، وقد يجعل اللَّه في قلبه ابتداء فرقاناً، أي فصلًا يفصل به بين الحق والباطل» «2».

______________________________

(1). التفسير الكبير، ج 15، ص 153 (بتلخيص).

(2). تفسير القرطبي، ج 3، ص 406.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 346

إنّ هذا الحديث لا يعني ترك كسب العلم، والاكتفاء بتهذيب النفس- كما يقول بعض الصوفية وأشخاص منحرفون- بل المراد هو أنّ التقوى تهيي ء الأرضية لكسب العلم الحقيقي أشبه ما يكون بالأرض الخصبة والمُعدَّة لبذر البذور.

صحيح أنّ جملة «اتقوا اللَّه» ليست شرطاً وأن جملة «يعلمكم اللَّه» ليست جزاء لها (ولهذا أنكر البعض العلاقة بين التقوى والعلم المستفادة من هذه الآية)، لكن ممّا لا شك فيه هو أن اقتران أحدهما بالآخر لم يكن اعتباطاً، بل هو تلميح إلى العلاقة الموجودة بين هذين الاثنين، وإلّا فيعرض انسجام الآية للسؤال.

ج ج

إنّ رابع وآخر آية بيّنت العلاقة بين التقوى والمعرفة بوضوح، فبينت ثلاثة أجور للذين يتقون اللَّه ويؤمنون برسوله.

الأول يؤتيهم اللَّه كفلَيْنِ أو نصيبين من رحمته، نَصيباً لإيمانهم ونصيباً لتقواهم، أو نَصيباً لأجل إيمانهم بالأنبياء السالفين ونصيباً لأجل إيمانهم بالرسول صلى الله عليه و آله، وبالرغم من أنّ المخاطبين في الآية مؤمنون

إلّاأنّ اللَّه يأمرهم أن يؤمنوا بالرسول صلى الله عليه و آله، كما أنّ شأن نزول الآية يبيّن أنّها بصدد فريق من نَصارى الحبشة الذين سمعوا القرآن وآمنوا بنبي الإسلام صلى الله عليه و آله «1».

والثاني: هو جعل اللَّه لهم نوراً- لأجل ايمانهم وتقواهم- يهتدون به في صراطهم:

«وَيَجْعَلْ لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ .

وبالرغم من أنّ البعض أراد تقييد مفهوم الآية والقول بأنّ النور الذي ذُكِرَ فيها إشارة إلى النور الذي يسعى بين أيدي المؤمنين وبإيمانهم في يوم القيامة (كما تشير إلى ذلك الآية 12 من سورة الحديد: «يَوْمَ تَرَى الْمُؤمِنِينَ وَالْمُؤمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَينَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم ). (الحديد/ 12)

لكن لا دليل لهم على هذا التقييد، بل إنّ مفهومها- وكما يقول صاحب الميزان- واسع

______________________________

(1) «الكِفْل» ما يعيل الإنسان ويرفع حاجته، ويعتقد البعض أنّ هذه المفردة حبشية دخيلة على العربية.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 347

يشمل الأنوار الإلهيّة كلها في الدنيا والآخرة، وعلى هذا فتكون الآية شاهداً على العلاقة بين «التقوى و «المعرفة».

أمّا الأخير فهو: «وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وهذا كله لأجل إيمانهم وتقواهم.

توضيحات
1- علاقة العلم بالتقوى في الروايات الإسلامية

وفي الروايات الإسلامية أيضاً تمّ بيان مدى تأثير التقوى على مسألة العلم، هذه الروايات تبيّن بوضوح أنّ تطهير القلب والروح بالتقوى يعد الأرضية لتلقي المعارف الإلهيّة.

نذكر هنا الأحاديث التالية كنماذج لما جاء في الروايات الإسلامية:

ونقرأ في حديث عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال:

«من غرس أشجار التقى جنى ثمار الهدى «1».

2- وجاء أيضاً في احدى خطب نهج البلاغة أنّه عليه السلام قال:

«أمّا بعد فانّي أُوصيكم بتقوى اللَّه .. فإنّ تقوى اللَّه دواء داء قلوبكم وبصر عمى افئدتكم وشفاء مرض أجسادكم وصلاح فساد صدوركم وطهور دنس أنفسكم وجلاء عشا أبصاركم» «2».

3- وفي

حديث عنه أيضاً أنّه عليه السلام قال:

«للمتقي هدىً في رشاد وتحرّج عن فساد» «3».

4- ونقرأ أيضاً في نهج البلاغة أنّه عليه السلام قال:

______________________________

(1) غرر الحكم.

(2) نهج البلاغة، خطبة 198.

(3) غررر الحكم.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 348

«اين العقول المستصبحة بمصابيح الهدى والأبصار اللامحة إلى منار التقوى «1».

5- ونختم حديثنا بحديث ذي معنى عميق عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله حيث قال: جاء في وصيّة الخضر لموسى عليه السلام: «يا موسى وطِّن نفسك على الصبر تلق الحلم واشعر قلبك التقوى تنل العلم وَرَضّ (روّض) نفسك على الصبر تخلص من الإثم» «2».

2- كيفية الارتباط بين ينابيع العلم والتقوى

ما هو تأثير التقوى واجتناب الذنوب وترك التلوث بها على مسألة المعرفة؟ وبتعبير آخر: ما هي العلاقة المنطقية بين العلم والأخلاق؟

في الحقيقة أنّ لهذين الاثنين علاقة تقارب قوية، وأي علاقة أقرب وأوثق من العلاقة المتبادلة بين هذين الاثنين؟ فالتقوى ينبوع العلم، كما أنّ العلم ينبوع التقوى وليس هذا بأمر طبيعي فحسب بل إنّه أصل أساسي للسير في طريق المعرفة.

فيمكن الاستدلال على تأثير التقوى على العلم بالطرق التالية:

أ) إنّ السنخية والتنسيق تسببان الجاذبية والإرتباط دائماً.

فعندما تتطهر روح الإنسان وتزكى بالتقوى تحصل جاذبية قوية بينها وبين المعارف والعلوم الحقيقية «فالسنخية تبعث على الإرتباط العجيب».

ب) إنّ منجل التقوى يحصد جميع الأشواك من مزرعة روح الإنسان، ويُعدّ القلب وبهيئه لنمو بذور العلم والمعرفة، بل إذا دققنا النظر فإنّ بذور العلوم جميعها قد بذرها اللَّه في هذه المزرعة، والمهم في الأمر هو حصد الأعشاب المزاحمة وإرواء المزرعة.

وقد جاء في حديث للمسيح عليه السلام مخاطباً فيه أنصاره قائلًا:

«ليس العلم في السماء فينزل اليكم، ولا في تخوم الأرض فيصعد عليكم، ولكن العلم

______________________________

(1). نهج البلاغة، خطبة 144.

(2). منية المريد للشهيد

الثاني (ينقل عن بحار الأنوار، ج 1، ص 227).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 349

مجبول في قلوبكم مركوز في طبائِعكم، تخلقوا باخلاق الروحانيين يظهر لكم» «1».

ج) نعلم أنّه لا وجود للبخل والحسد في مبدأ عالم الوجود، وعلى ما جاء في الآية:

«وَانْ مِّنْ شَىْ ءٍ الَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ الَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُوْمٍ . (الحجر/ 21)

فإنّ خزائن النعم غير المتناهية عند اللَّه، ما ينقصه زيادة كرمه وكثرته شيئاً، بل إنّ جوده وكرمه يتجلّى أكثر «وَلا يَزِيدُهُ كَثْرَةُ العَطاءِ إلّاجُوداً وَكَرَما».

وعليه، فإنّ الحرمان سببه عدم أهلية الأشخاص، إنّ التقوى تجعل الإنسان أهلًا للفيض الإلهي، وأي فيضٍ أرفع شأناً من المعارف والعلوم الإلهيّة؟

إنّ القلوب كالأوعية كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «إنَّ هذِهِ الْقُلُوب أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُها أوعاها» «2» والمهم هو أنّ نوسع هذه الأوعية، وأن لا تكون مقلوبة لا تسع ولو لقطرة واحدة، وهذا الأمر ممكن في ظل التقوى

أمّا التأثير المتبادل بين العلم والتقوى فهو أنّ العلم الحقيقي يمحو جذور الرذائل الأخلاقية وينابيع الإثم والذنب، ويمثل أمامه عواقب الامور، وهذه المعرفة تعين الإنسان على تبلور التقوى في قلبه وعلى ابتعاده عن الإثم، ويتضح من هنا أنّ العلم ينبوع للتقوى كما أنّ التقوى ينبوع للعلم، غاية الأمر أنّ مرحلة من التقوى تسبب مرحلة من العلم، وتلك المرحلة من العلم تسبب مرحلة أرفع من التقوى وعلى هذا المنوال فإنّ كلًا منهما يوثر في الآخر تأثيراً متبادلًا، وقد تكون الآية: مشيرةً إلى هذه النقطة:

«انَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُّبْصِرُونَ .

(الاعراف/ 20)

أي أنّ التقوى تكون في البداية، ثم التذكر، ثم البصيرة، والنتيجة هي النجاة من وساوس الشياطين.

ج ج

______________________________

(1). تفسير الصراط المستقيم، ج 1، ص 267.

(2). نهج

البلاغة، الكلمات القصار، الكلمة 147.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 350

نفحات القرآن ج 1 369

3- استغلال العلاقة بين «العلم» و «التقوى

بالرغم من أنّ علاقة المعرفة بالتقوى علاقة لا يمكن انكارها، سواء من وجهة نظر القرآن المجيد، أو من وجهة نظر الدليل والعقل (وقد بينا ذلك بالتفصيل)، إلَّا أن هذا الحديث لا يعني ترك طرق كسب العلم والمعرفة المتعارفة، والاستغناء بتهذيب النفس بحجّة أنّ تهذيب النفس سيقذف العلم والمعرفة في صدورنا كما ظن ذلك عدد من الصوفية الذين اتخذوا هذه المسألة حجة لمقارعة المعرفة وكسب العلم وظلوا في جهل دامس.

إنّ الإسلام أوجب كسب العلم بدرجة حيث اعتبر الحضور في مجلس العلم كالحضور في روضة من رياض الجنّة: «مجلس العلم روضةٌ من رياض الجنة».

كما عدَّ النظر إلى وجه العالم عبادة: «النظر إلى وجه العالم عبادة» «1»، وكل خطوة يخطوها في سبيل العلم فهي خطوة نحو الجنة «2».

وقد عدَّ مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء «3».

وحفظ الحديث وكتابته من الفضائل العظيمة «4».

ويدعو الإسلام- من جهة اخرى- إلى تهذيب النفس وتزكيتها لأجل تهيئتها لقبول المعارف والعلوم الإلهيّة.

وعلى هذا، فأولئك الذين تركوا طلب العلم وأوصوا زملاءهم وأتباعهم بتركه، والتوجه إلى تصفية الباطن وتزكيتها على خطأٍ، لأنّ التزكية هذه غالباً ما تنحرف عن جادة الصواب بسبب عدم اقترانها بالعلم والمعرفة، وكذلك أولئك الذين انهمكوا في كسب العلوم الرسمية وأهملوا تهذيب النفس، فانهم في ضلالة، نعم ينبغي السعي نحو كليهما.

ج ج

______________________________

(1). غرر الحكم.

(2). بحار الأنوار، ج 1، ص 164.

(3). المصدر السابق، ج 2، ص 14.

(4). المحجة البيضاء، ج 1، ص 15.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 351

2- الإيمان والمعرفة

تمهيد:

إنّ روح الإيمان هي التسليم للحق والخضوع أمام الحقائق، وبما أنّ أكبر حقيقة في عالم الوجود هي ذات اللَّه المقدّسة، فإنّ روح الإيمان تتمحور حول التوحيد ومعرفة اللَّه.

إنّ الإيمان يفسح المجال أمام عقل الإنسان لأنّ يدرك الحقائق كما

هي حقاً، سواء كانت مرّة أو حلوة، وسواء كانت ملائمة لمزاجه وطبعه أم لا.

إنّ معلومات أولئك الذين لم يسلموا للحق هي تصوّرٌ وتمثلٌّ لرغباتهم وأهوائهم، لا لنفس الحقائق الموجودة في الخارج، أنّهم يرون الدنيا بالشكل الذي يرغبون فيه، ولا يرونها بشكلها الواقعي.

وبهذا التمهيد تتضح علاقة الإيمان بالمعرفة اجمالًا، ونتأمل الآن خاشعين في آيات القرآن في هذا المجال:

1- «أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِى بِهِ فِى النَّاسِ كَمَنْ مَّثَلُهُ فِى الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجِ مِّنْهَا ...». (الأنعام/ 122)

2- «أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِى بَحْرٍ لُّجِّىٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّنْ فَوقِهِ مَوْجٌ مِّنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ اذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُّورٍ». (النور/ 40)

3- «وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ اجْرُهُمْ وَنُورُهُم ...». (الحديد/ 19)

4- «افَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّنْ رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِى ضَلالٍ مُّبِينٍ . (الزمر/ 22)

ج ج

نفحات القرآن، ج 1، ص: 352

جمع الآيات وتفسيرها
تأثير الإيمان على الرؤية الصحيحة:

تحدثت الآية الاولى عمّن كانوا موتى ثمّ أحياهم اللَّه وجعل لهم نوراً يهتدون به في الطريق.

والمراد من الموت والحياة هنا هو الإيمان بعد الكفر، كما جاء ذلك في الآية: «يَا أَيُّهُا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ اذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ . (الانفال/ 24)

وعلى هذا فالحياة هي حياة الإيمان الحقيقي والصادق، الحياة المقترنة بالنور والضياء والمعرفة.

والجانب المقابل لجانب الأحياء، هو جانب أولئك الذين ضلوا في ظلمات الكفر ولم يخرجوا منها أبداً «كَمَنْ مَّثَلُهُ فِى الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا».

يعتقد كثير من المفسرين أنّ هذا النور هو نور القرآن، وقد فسّره بعضهم بنور الدين، وبعضهم بنور الحكمة «1»، وقد أضاف البعض على

ذلك نور الطاعة «2»، لكن المسلم أنّ لهذا النور مفهوماً واسعاً يشمل جميع أنواع المعرفة، ومن البديهي أنّ مراد القرآن هو اكمل مصاديقه.

إنّ التعبير ب «يمشي به في الناس» يتناسب كثيراً مع الحياة الاجتماعية في الدنيا، كما يكشف عن أن «الإيمان» يَعِدُّ أرضية «المعرفة» في قلب الإنسان ويحول دون ارتكاب الأخطاء في الحياة الدنيا.

ج ج

وقد شبهت الآية الثانية غير المؤمنين (أو أعمالهم) بظلمات أعماق بحرٍ لُجّي تتلاطم الأمواج على سطحه، وسمائه ملبدة بالغيوم بحيث إذا أخرج شخص يده لم يكد يراها أحد.

______________________________

(1). التفسير الكبير، ج 13، ص 172؛ تفسير القرطبي، ج 4، ص 214؛ تفسير المنار، ج 8، ص 30.

(2). تفسير روح الجنان، ج 5، ص 50.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 353

وقد أكدت في النهاية: أنّ الذين لم يجعل اللَّه لهم نوراً فمالهم من نور أبداً.

إنّ عبارات هذه الآية تثبت بوضوح أنّ الكفر وعدم الإيمان ظلمات، وأنّ الإيمان والإسلام نور.

إنّ الأخطاء التي تصدر من غير المؤمنين ومن المنحرفين بدرجة من الكثرة بحيث يحارُ الناظر اليهم كيف أنّهم لا يكادون يرون حتى موضع أقدامهم؟! وكيف أنّهم لا يستطيعون تمييز ما ينفعهم عما يضرهم؟

حقاً أنّه لا ظلام أشدّ من الظلام الذي رسمته الآية، فإنّ طبيعة أعماق البحار هي الظلام، لأنّ نور الشمس لا ينفذ إلّا لمدى أقصاه سبعمائة متر، وبعد ذلك لا شي ء سوى الظلام الدامس، هذا إذا لم يكن البحر لجياً، وإلَّا فلا تنفذ أشعة الشمس إلّالمدى قريب جداً من سطح البحر، وفضلًا عن هذا فإنّ الغيوم تمنع من وصول أشعة الشمس أساساً.

ويقول البعض: إنّ المراد من الظلمات الثلاثة في الآية هي ظلمات الكفار في الاعتقاد، وظلماتهم في الكلام، وظلماتهم في العمل.

ويعتقد بعض أنّ المراد منها هو: ظلمات

القلب وظلمات الباصرة وظلمات السمع، وأضاف بعض آخر: أنّ هذه الظلمات عبارة عن: أنّه لا يعلم ولا يعلم أنّه لا يعلم، ويظن أنّه يعلم «1»، ولكن لا منافاة بين هذه التفاسير، ومفهوم الآية يسع جميع هذه التفاسير.

ج ج

والآية الثالثة، بعدما وصفت المؤمنين ب «الصديقين» و «الشهداء» أضافت: «لهم أجرهم ونورهم».

إنّ «الصدّيق» صيغة مبالغة لصادق، وتعني كثير الصدق، ويقول البعض: إنّها تعني الشخص الذي لم يصدر منه كذب أبداً، ويعتقد بعض آخر: إنّها تعني الذي اعتاد على الصدق بحيث يمتنع عليه الكذب عادةً، وبتعبير آخر: حصلت له طبيعة ثانوية على أساس الصدق وعدم الكذب.

______________________________

(1). التفسير الكبير، ج 24، ص 8.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 354

ويقول البعض: إنّها تعني الشخص الصادق في اعتقاده وكلامه، يكشف سلوكه عن صدق اعتقاده «1».

وتجتمع جميع هذه المعاني في القول بأنّها صيغة مبالغة لصادق، لأنّ المفهوم آنذاك يكون شاملًا لجميع المعاني المتقدمة، وعلى هذا فالمسلم أنّ المراد ليس جميع المؤمنين بل المؤمنون أصحاب الدرجات الرفيعة في ايمانهم.

أمّا «الشهداء» فقد يكون المراد من ذلك هو أنّ المؤمنين الصديقين لهم أجر كأجر الشهداء، كما جاء ذلك في حديث للإمام الصادق عليه السلام عندما جاءه شخص يطلب الدعاء له بالشهادة، فاجابه الإمام عليه السلام: «إنّ المؤمن شهيد» ثم تلا الآية: «وَالَّذِيْنَ آمَنُوا ...» «2».

كما يحتمل أن يكون المراد من الشهداء، هو الشهداء على أعمال الناس، لأنّ المستشفَّ من آيات عديدة هو أن فريقاً من المؤمنين (الأنبياء والأئمّة) يشهدون على الأمم.

ولا يبعد الجمع بين هذين المعنيين «3».

إنّ «الأجر» في عبارة «لهم أجرهم ونورهم» تعني جزاء الأعمال، أمّا «النور» ففسّرَه البعض بأنّه النور الذي يسعى بين أيدي المؤمنين الذي يفتح الطريق نحو الجنة يوم القيامة، إلَّا أنّه لا دليل

على هذا التحديد، وقد جاء هنا مطلقاً، فينبغي القول بعمومية مفهومه وشموله للنور الذي يجعله اللَّه للمؤمنين في الدنيا كما يشمل النور الذي يهتدي به المؤمنون إلى الجنة يوم القيامة «4».

______________________________

(1). المفردات ومجمع البحرين مادة (صدق)، تفسير الميزان، ج 19، ص 186؛ تفسير المراغي، ج 27، ص 174؛ تفسير مجمع البيان، ج 9، ص 236.

(2). تفسير مجمع البيان، ج 9، ص 238.

(3). احتمل البعض أنّ جملة «وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ» ليست عطفاً على الجملة التي سبقتها، وأنّها جملة مستقلة مركبة من مبتدأ وخبر، إلّاأنّ هذا الاحتمال بعيد جدّاً.

(4). الظاهر من تعبير بعض المفسرين أن الضمائر في جميع هذه الجمل ترجع إلى المؤمنين، بينما يصرح صاحب الميزان بأنّ الضمير في «لهم» يرجع إلى «الذين آمنوا» والضميرين الآخرين يرجعان إلى «الصديقين» و «الشهداء»، أي أولئك الذين لهم أجر الصديقين والشهداء ولهم نورهم، إلّاأنّ هذا الاحتمال بعيد.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 355

وقد طرحت الآية الرابعة والأخيرة استفهاماً تقريرياً قائلة: «افَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّنْ رَّبِّهِ ؟ وهذا دليل واضح على أنّ قبول الإيمان متزامن ومقترن مع شرح الصدر، وشرح الصدر أرضية خصبة للنور الإلهي، النور الذي يضي ء العالم أمام أعين المؤمن، ويكشف له حقائقه كما هي.

إنّ المراد من «شرح الصدر» هو اتساع الروح إلى درجة تكون مستعدة لاستيعاب حقائق كثيرة، وما يقابل شرح الصدر هو «ضيق الصدر» أي تضيق الروح بدرجة لا تتمكن من استيعاب شي ءٍ من الحقائق، وبتعبير آخر: إنّ شرح الصدر هو اتساع وعظمة الروح الذي يُعَدُّ الإرتباط بالذات اللامتناهية أحد عوامله، نعم إنّ الروح التي تتخذ صبغة اللَّه وتتسع تكون أهلًا لقبول العلوم والمعارف الإلهيّة.

إنّها لا تتسع فحسب، بل تلين وتختصب وتتهي ء لنثر

بذور المعرفة فيها، ولهذا صرحت الآية في النهاية: «فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّنْ ذِكْرِ اللَّه .

ج ج

توضيح
علاقة الإيمان بالعلم في الروايات الإسلامية:

1- جاء في حديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «إنّ المؤمن ينظر بنور اللَّه» «1» فطلب أحد الصحابه بيان معنى الحديث فقال عليه السلام: «هذا إنّما هو لأجل أنّ اللَّه تعالى قد خلق المؤمن من نوره واحاطه برحمته».

2- ونقرأ في حديث آخر عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله أنّه قال:

«اتقوا فراسة المؤمن فانّهُ ينظر بنور اللَّه ثم تلا: إنّ في ذلك للمتوسمين» «2».

3- وفي رواية اخرى عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام عن آبائه الكرام عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله

______________________________

(1). بحار الأنور، ج 64، ص 74، ح 2.

(2). المصدر السابق، ح 4.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 356

قال: «إيّاكم وفراسة المؤمن فانّه ينظر بنور اللَّه تعالى «1».

4- ونجد أنّ هذه الأمثال اتخذت أهميةً كبرى كما هو المشاهد في بعض الروايات حيث ينقل نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «اتقوا ظنون المؤمنين فإنّ اللَّه سبحانه جعل الحق على السنتهم» «2».

5- وجاء عنه عليه السلام في نهج البلاغة أيضاً أنّه قال: «وبالصالح يستدل على الإيمان وبالإيمان يعمر العلم» «3».

6- ونختم البحث بحديث عن الإمام الباقر عليه السلام يقول فيه: «ما من مؤمن إلّاوله فراسة ينظر بنور اللَّه على قدر إيمانه» «4».

وكما قلنا في بداية البحث، فإنّ الإيمان الصادق يجعل الإنسان عاشقاً للحق والحقيقة ومذعناً أمام الواقعيات والحقائق، وبهذا تتحرر روح الإنسان من جميع القيود وتتهيأ لقبول جميع المعارف.

3- علاقة «الصبر والشكر» ب «المعرفة»

اشارة

في البداية نقرأ خاشعين الآيات الشريفة التالية:

1- «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ الىَ النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِايَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِى ذلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ». (ابراهيم/ 5)

2- «أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ

اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِى ذلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ». (لقمان/ 31)

3- «فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ

______________________________

(1). بحار الانوار، ج 64، ص 75، ح 8.

(2). نهج البلاغة الكلمات القصار، الكلمة رقم 309.

(3). نهج البلاغة، خطبة 156.

(4). عيون الأخبار، ج 2، ص 200 (ينقله عن كتاب الحياة، ص 92).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 357

وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِى ذلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ». (سبأ/ 19)

4- «وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِى الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ* انْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَضْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِى ذلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ». (الشورى 32- 33)

ج ج

جمع الآيات وتفسيرها
السير في الآفاق والأنفس مع الصابرين:

تحدثت الآية الاولى عن «بني اسرائيل»، حيث بُعثَ فيهم موسى عليه السلام بمعاجز وآيات إلهية واضحة، وكان موظَّفاً بأن يخرجهم من ظلمات الشرك والكفر والفساد إلى نور التوحيد الذي هو ينبوع جميع البركات والخيرات، ولأن يذكرهم بأيام اللَّه، ثم قالت الآية في النهاية: «إنَّ فِى ذلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ».

ما المراد من أيام اللَّه؟

هناك بحث بين المفسرين في هذا المجال، فمنهم من فسرها بالنِّعَم والابتلاءات الإلهيّة «1»، ومنهم من فسرها بأيام انتصار الرسل والأمم الصالحة، ومنه مَنْ اعتبرها إشارة إلى أيّام عذاب الأقوام الطاغية والعاصية والظاهر عدم التعارض للأيّام بين هذه التفاسير لأنّها كلها من «أيّام اللَّه».

إنّ معناها الواضح، واضافتها إلى اللَّه «اضافة تشريفية»، والمراد منها هو جميع الأيّام المهمّة من حيث أهميّتها البالغة، أو من حيث إنّ فيها نعمة إلهية شملت أقواماً صالحين كالانتصارات العظيمة على جند الشرك والظلم، وكالنجاة من الظَّلَمَة والطواغيت وكالموفقية لأداء الجهاد أو فريضة عظيمة اخرى.

أو من حيث شمول عذاب اللَّه ونقمته لأقوام عصاة وهلاكهم، أو شمول نبذة من العقاب الإلهي لهم ليستيقظوا من غفلتهم ويعوا،

كل هذه هي «أيّام اللَّه» وداخلة في مفهومها الواسع.

______________________________

(1). لقد جاء هذا التفسير في عدد من الاحاديث النبوية. تفسير الميزان، ج 5، ص 15 و 16؛ تفسير نور الثقلين، ج 2، ص 526.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 358

أما سبب كون هذه الآيات عبرة للصابرين والشاكرين فقط دون غيرهم (ينبغي الالتفات هنا إلى أنّ «صبور» و «شكور» صيغةٌ مبالغةٌ، الاولى تعني كثير الصبر والثانية كثير الشكر)، فذلك لأجل أنّ دراسة دقائق هذه الحوادث وجذورها من جهة، ونتائجها من جهة اخرى يحتاج إلى صبر وتأنٍ.

إضافة إلى هذا، فانّه لا يستفيد من هذه الحوادث إلّاأولئك الذين يقدِّرون نعَم اللَّهِ ويشكرونه عليها، وعلى هذا، فالصبر والشكر أرضيتان ملائمتان للمعرفة والعلم.

كما يحتمل أن يكون تقارن الصبر مع الشكر لأجل أنّ هؤلاء مجهزون بالصبر عند المصائب، وبالشكر عند النِعَم، وعلى هذا فلا يركعون أمام المصائب، ولا يغترون عند نزول النِعَم، فلا يضِلون أنفسهم على أيّة حال، فهم مؤهلون لتقبل المعرفة وأخذ العِبَر والدروس من هذه الحوادث العظيمة.

في الآية الثانية والرابعة جاءت هذه العبارة: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَآياتٍ لِّكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ»، وقد ذُكِرَت بعد التعرض لحركة السفن في البحار والمحيطات التي تتم بايعاز من اللَّه وبالاستعانة بالرياح فتطوي المسافات البعيدة وتصل إلى مقاصدها بسرعة.

بديهي أنّ هذا الموضوع هو إحدى آيات اللَّه التكوينية، وآية من آيات النظام الإلهي وقدرة اللَّه.

لكن هل يا ترى يكون استثمار هذه الآيات الإلهيّة الموجودة في عالم الوجود وحتى الكامنة في هبوب الرياح ممكناً للجميع، أو أنّه خاص بأُولئك الذين يدرسون ويتابعون نظام الخلق العجيب بدقة وصبرٍ وتأنٍ إلى المستوى الذي يتيح لهم العلم البشري فرصةَ الاستثمار، ومن جهة اخرى فإنّ الدافع نحو «شكر المُنعِمِ» نفسه عامل للسعي والحركة في

طريق المعرفة.

يقول «القرطبي» في تفسيره:

«والآية: العلامة، والعلامة لا تتبين في صدر كل مؤمن إنّما تتبين لمن صبر على البلاء وشكر على الرخاء» «1».

______________________________

(1). تفسير القرطبي، ج 14، ص 79.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 359

وقد جاء في تفسير «روح البيان»:

«مبالغ في الصبر على المشاق فيتعب نفسه في التفكر في النفس والآفاق» «1».

والجميل هنا هو أنّ الهواء الذي يحيط بالكرة الأرضية من ألطف الموجودات، وبالرغم من ذلك فهو عندما يتحرك ويتنقل فانه لا يحرك السفن العظيمة في البحار فحسب، بل كذلك الغيوم التي تُعَدُّ ينابيعَ للغيث، فيأخذ بها نحو الصحارى والأراضي الميتة فيحييها، كمابانتقال الهواء الحار إلى المناطق الباردة والهواء البارد إلى المناطق الحارة تتهيأ الأراضي الميتة للحياة، واضافة إلى هذا فإنّ الهواء يلقح النباتات كالزهور والأشجار ويحمل احياناً البذور فتُزرع في الأماكن التي تسقط فيها، ألَمْ تكن هذه من آيات اللَّه؟ ومن يمكنه استثمار هذه الآيات غير الصابرين والشاكرين؟

وقد جاء في حديث للرسول الأعظم صلى الله عليه و آله: «الإيمان نصفان نصفه صبر ونصفه شكر» «2» وهذا الحديث تأكيد لما جاء في الآيات.

ج ج

وأخيراً فإنّ الآية الثالثة أشارت إلى قوم سبأ، حيث شملهم التوفيق الإلهي فاستطاعوا أن يوجدوا سداً عظيماً بين الجبال في «اليمن»: وادخروا فيه الماء الكثير، وتمكنوا من ايجاد بساتين كثيرة، فغُمروا في النِعَم والفرح، إلّاأنّهم سلكوا طريق كفران النعمة، فتسلطت الأقوام المرفهة على الأقوام الضعيفة ظلماً وجوراً فَعَمَّ مساكنَهُم الخرابُ والدمار، بحيث هلك الحرث والنسل لانفجار السد، فتفككوا وتشتتوا بشكل حيث جعلهم اللَّه أحاديث للآخرين «فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وأهلكهم جميعاً «وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ، ثم أضاف القرآن: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَآياتٍ لِّكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ».

وذلك لأنّهم يستخلصون الدروس والعِبر بدقتهم وتأنيهم.

______________________________

(1). تفسير روح البيان، ج 7،

ص 98.

(2). تفسير مجمع البيان، ج 7، ص 323؛ تفسير الكبير، ج 25، ص 162؛ تفسير المراغي، ج 21، ص 97؛ تفسيرالقرطبي، ج 5، ص 3571 وتفاسير اخرى

نفحات القرآن، ج 1، ص: 360

ومن جهة فإنّ هذه الحقيقة تثبت، وهي: أنّ بين الحياة والممات مسافة قصيرة جدّاً، بحيث يمكنك البحث عن الممات في قلب الحياة، فإنّ وفرة الماء التي سببت تقدم قوم سبأ وإزدهار بلادهم وتطور حضارتهم، سبب هلاكهم يوماً ما!

ومن جهة اخرى فإنّ هذا يكشف عن شدة ضعف هذا الإنسان المغرور، وذلك لأنّه يقال إنّ السدّ (الذي اطلق عليه سدّ مأرب)، قد ثُقب بواسطة الجرذان الصحراوية ثقباً صغيراً في البداية ثم توسع الثقب إلى أن أدّى بالسدّ لأنّ ينهدم بالكامل، وبهذا نرى أن جرذاناً صحراوية أبادت حضارة عظيمة.

ومن جهة ثالثة، فإنّ المستكبرين من قوم سبأ الذين لم يَرُق لهم رؤية المستضعفين بقربهم، وحسبوا أنّه ينبغي وجود فاصلة أو سد عظيم كسد مأرب بين أقلية الأشراف والأكثرية المستضعفة، طلبوا من اللَّه أن يبعد مدنهم عن مدن المستضعفين كي لا يتمكنوا من السفر مع المستكبرين، ويبقى امتياز السفر خاصاً بهم «رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا»، (سبأ/ 19) إلّاأنّ اللَّه فرقهم بشكل حيث لا هم بقوا ولا ظنونهم الباطلة.

ومن جهة رابعة، فإنّ حياتهم المرفهة أغفلتهم عن ذكر اللَّه، وما صحوا إلّابعد أن انتهى كل شي ء.

وعلى هذا، فيمكننا بالتأمل والدقّة والاستعانة بالعقل أن نستشف آيات كثيرة من هذه القصة وهذا الحديث «1».

النتيجة:

إنّ المستشف من الآيات الأربع الماضية هو: أنّ كل من كان أدق وأكثر صبراً في دراسته لاسرار الخلق والحياة الاجتماعية، ولكل من كان شاكراً للنعم ومستعيناً بوسائل المعرفة فإنّ له نصيباً أوفر وأكثر من المعرفة، ولهذا كان الصبر

والشكر أرضيتين ممهدتينِ للمعرفة.

ج ج

______________________________

(1). ينبغي الالفتات إلى أنّ مفردة «أحاديث» التي جاءت في الآية، منتهى الجموع وتكشف عن وجود أحاديث وقصص كثيرة في ماضي قوم سبأ لا قصة واحدة.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 361

4- المعرفة تهي ء الأرضية للمعرفة

تمهيد:

المعروف هو أنّ الثروة تجلب الثروة، أي أنّ مقداراً من رأس مال يكون أرضية لربح رأس مال أكبر، وكلما ازداد مقداره ازداد مورد الإنسان من رأس ماله.

أنّ هذا الأمر ينطبق على العلوم والمعارف كذلك، فالذين يملكون رأس مالٍ من العلوم تتوفر عندهم الأرضية الخصبة لتقبل علوم ومعارف اخرى، ولهذا قلنا: إنّ المعرفة تهى ء الأرضية للمعرفة أي لنيل معارف اخرى هي أرفع وأوسع.

وقبل الخوض في البحث نمعن خاشعين للآيتين التاليتين:

1- «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِى ذلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ . (الروم/ 22)

2- «فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِى ذلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ .

(النمل/ 52)

جمع الآيات وتفسيرها
مالم تكن منّا لن تطلع على اسرارنا:

إنّ الآية الاولى من جملة الآيات الكثيرة في سورة الروم التي أشارت لآيات الآفاق والأنفس، وعدت بعضاً من آيات اللَّه في العالم الأكبر (الكون) وبعضاً من آيات العالم الأصغر «الإنسان» فاشارت الآية إلى العالم الأكبر من جهة «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضِ ، ثم أشارت إلى بعض دقائق خلق الإنسان من جهة اخرى «وَاخْتِلَافِ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ .

الاختلاف ليس في الألسنة والألوان الظاهرة فحسب، بل في السنة الفكر وألوان الأذواق والبواطن، فانّها مختلفة إلى درجة بحيث لا يمكن العثور على شخصين متشابهين

نفحات القرآن، ج 1، ص: 362

بالكامل، وهذا الاختلاف جارٍ حتى بالنسبة للتوأم.

إنّ هذا الاختلاف يسبب- من جهة- التعارف والاختلاف بين الناس، لأنّه إذا لم يكن تمايز بين الناس اختل النظام الاجتماعي للحياة، كما هو الحال بالنسبة للتوأم فالذي يعاشرهم كثيراً يقع في اخطاء تجاههم، فقد يقدم أحدهم من السفر ويقوم صديقهم بزيارة الآخر الذي لم يسافر، أو يتمرض احدهم فيزور الآخر وهو صاحٍ، أو يعطي الابوان الدواء للسليم لعدم التمييز بينهما.

تصوروا ما الذي يحصل لو كان الناس

جميعاً متشابهين من جميع الجهات؟!! ومن جهة اخرى، فإنّ هذا التنوع والاختلاف يسبب انخراط كل مجموعة من الناس في جانب من جوانب الحياة وبهذا الاختلاف في الأذواق والقابليات تسدّ جميع احتياجات البشر الاجتماعية فلا يحصل خللٌ في هذا المجال، ألم تكن هذه الدقّة العجيبة في هذا النظام من آيات اللَّه؟!

والجدير بالذكر أنّ المفسرين ذكروا احتمالات عديدة في تفسير (اختلاف الألسنة) فتارة قالوا: إنّ المراد منه هو الاختلاف في اللغة، حيث نعلم أنّ اللغات الموجودة حالياً أكثر من ألف لغة، وهذا التنوع الذي لا نريد الخوض في تفصيلاته فعلًا، جيد لتتعرف الأقوام المختلفة على بعضها البعض.

وتارة قالوا: إنّ المراد هو اللهجات وكيفية حديث الأشخاص التي تختلف من شخص إلى آخر اختلافاً كبيراً، فلكلٍ منطق وأسلوب في البيان يعبّر عن شخصيته.

وتارة قالوا: إنّ المراد هو الأصوات أو ما يصطلح عليه ب «الذبذبات الصوتية» التي تختلف عند الأشخاص اختلافاً فاحشاً، ولهذا فإنّ الأعمى يميز الأشخاص من أصواتهم، كما أنّ البصير يميزهم من وجوههم.

ومن هنا يتضح أنّ اقتران اختلاف الألسنة والألوان بخلق السموات والأرض في الآية هو لأجل الإشارة إلى أنّ جميع موجودات العالم- صغيرها وكبيرها، وأبسطها وأعقدها- بحسب الظاهر- تحكمها قوانين وأنظمة دقيقة، و. هي آيات لعلم اللَّه وقدرته وينبغي الإشارة

نفحات القرآن، ج 1، ص: 363

إلى أنّ الآية صرحت في النهاية: «انَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ نعم إنّ العلماء هم الذين يدرسون أسرار الكون ويتفحصونها واحدة تلو الاخرى، وهم الذين تكون معرفتهم السابقة أرضية خصبة لمعارفهم الأكثر والأدقّ.

ج ج

وقد تحدثت الآية الثانية عن مجاميع صغيرة مفسدة تعيش في «وادي القرى بين قوم صالح (على ما يقوله المفسرون)، وكان عددهم تسعة رهط (أي مجموعات صغيرة)، وكانوا يفسدون في الأرض

دائماً كما يصفهم القرآن الكريم: «وَكَانَ فِى الْمَدِيْنَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِى الْأَرْضِ . (النّمل/ 48)

أمهلهم اللَّه كثيراً كفرصةٍ للتوبة والرجوع إلى أنفسهم، لكن ما زادهم الأمهال إلّاغروراً، وكان نهاية أمرهم أن أنزل اللَّهُ عليهم صاعقة من السماء، وزلزلة من الأرض ختمت حياتهم.

يقول القرآن فيهم: «فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيةً بِمَا ظَلَمُوا» أي خالية منهم بسبب ظلمهم وطغيانهم.

ثم يضيف: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ .

إنّ عبارة: «بِمَا ظَلَمُوا» تدل على أنّ الظلم هو السبب في دمار البيوت وخرابها، وقد نُقِل عن ابن عباس أنّه قال: إنّي وجدت هذه الحقيقة في كتاب اللَّه وهي: إنّ الظلم يهدم البيوت، ثم تلا الآية المذكورة.

وقد جاء في التوراة: «يابن آدم لا تظلم فيُهدم بيتك» «1».

وينبغي الالتفات هنا إلى أنّ مفردة «خاوية» تعني- في الأصل- خالية، إلّاأنّ كثيراً من المفسرين فسرها بالخربة، وهذا قد يكون لأجل أنّ البيت إذا خلى وهُجِر خرِبَ وانهدم «2».

______________________________

(1). تفسير روح المعاني، ج 19، ص 194.

(2). ذكر صاحب تفسير روح البيان معنيين لمادة (خوى أحدهما الخلو والثاني السقوط والانهدام، ومن هنا يعبر عرب الجاهلية عن النجم إذا سقط (خوى النجم) إلّاأنّ الظاهر أنّ المعنى الأولي لهذه المادة هو: الأول فقط، ويستعمل تعبير (خوى النجم) إذا ما غرب نجم أو افل بلا مطر (حيث كان يعتقد عرب الجاهلية أنّ طلوع كثير من النجوم متزامن مع المطر وإذا لم يكن هناك مطر استعملوا التعبير السابق لذلك النجم).

نفحات القرآن، ج 1، ص: 364

النتيجة:

من المعلوم أنّ آيات اللَّه- سواء كانت آفاقية أو انفسية أو تعلقت بدروس وعبر تاريخ الأقوام الغابرة- تخص الجميع، وبما أنّ الجميع لا يستفيد منها ولا يستثمرها، يقول القرآن عنها «إِنَّ فِى ذلِكَ لَآيةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ

.

وتارة يقول: «للمتقين».

وتارة يقول: «لكل صبّار شكور».

وهذه إشارة إلى أنّ هذه الفرق- هي التي تنتفع بهذه الآيات وتستفيد منها دون سواها، لِما عندهم من أرضيّه خصبة لهذا الأمر.

وهناك آيات كثيرة في القرآن المجيد لا تخلو من الإشارة إلى حقيقة أنّ المعرفة تعتبر أرضيّة معدّة وخصبة لمعارف أكثر، كما جاء ذلك في الآيات التالية:

«كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . (الاعراف/ 32)

«يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . (يونس/ 5)

«كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . (فصلت/ 3)

«تِلكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ . (البقرة/ 230)

كما اتضح- ممّا مر- الجواب على السؤال عن حاجة العالمين لشرح وتبيين الآيات الإلهيّة.

4- علاقة الخوف بالمعرفة

تمهيد:

إنّ الإنسان ما لم يشعر بالمسؤولية لا يلتفت إلى مصادر المعرفة وسوف لا يبالي بآيات اللَّه ومواعظه.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 365

ومن هنا ينبغى القول بأنّ الاحساس بالمسؤولية والخوف من اللَّه هو احدى أرضيات المعرفة التي تُعِدُّ روح الإنسان وتهيئها لتقبل علوم ومعارف مختلفة.

وبالالتفات إلى هذا التمهيد نتأمل خاشعين في الآيات التالية:

1- «وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وهِىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيْدٌ* إِنَّ فِى ذلِكَ لَآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ». (هود/ 102- 103)

2- «أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِى ذلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ .

(سبأ/ 9)

3- «وَتَرَكْنَا فِيْهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُوْنَ الْعَذَابَ الأَلِيْمَ . (الذاريات/ 37)

شرح الآيات وتفسيرها
المعرفة والشعور بالمسؤولية:

إنّ الآية الاولى بعدما أشارت إلى ماضي بعضٍ من الأقوام السالفة (مثل قوم لوط وشعيب والفراعنة) ونزول أنواع من العذاب عليها، قالت: «وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِىَ ظَالِمَةٌ» ثم قالت في النهاية: «إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» ثم قالت: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ» أي في قصص الأمم السالفة وعقابهم ونزول العذاب عليهم آية واضحة لمن خاف عذاب الآخرة.

لقد جاءت مفردة «آية» نكرة، وذلك للاشارة إلى عظمة وأهميّة هذه الآية الإلهيّة ودور العبرة فيها، والتعبير ب «لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ» إشارة إلى الأرضية المُعدَّة للمعرفة عند أولئك الذين يخافون من عذاب الآخرة.

أمّا أولئك الذين لا يخافون عذاب الآخرة فلا يدركون علاقة هذه الذنوب بأنواع العذاب الإلهي، إنّهم يعدون العذاب أمراً قهرياً وجبرياً، أو يرجعون أسبابه إلى حركة الأفلاك

نفحات القرآن، ج 1، ص: 366

والنجوم وأوهام وخرافات اخرى، ولا يدركون الأسباب الحقيقية له «1».

إضافة إلى هذا، فإنّ الإنسان

لا يقطع بالعذاب الدنيوي ما لم يقطع بالعذاب الاخروي، لأنّ كليهما وليد شي ء واحد وهو معرفة اللَّه ومعرفة عدالته.

إنّ جملة «وهي ظالمة» تلميح إلى أنّ الأخذ والدمار كان بسبب ظلم تلك القرى وبتعبير آخر: فإنّ جميع الانحرافات العقائدية والسلوكية داخلة في مفردة الظلم.

ج ج

والآية الثانية بعدما أشارت إلى آيات اللَّه في السموات والأرض: وبيان قدرته على كلّ شي ء أكّدت بأنّ اللَّهَ لم يعجز عن عذاب أولئك العصاة الذين سخروا بآيات اللَّه واتهموا الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله بالجنون، واعتبروا المعاد محالًا، إنْ شئنا خسفنا بهم الأرض، أو أسقطنا عليهم من السماء أحجاراً سماوية: «إِنْ نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ».

إنّ «كِسَف» جمع كِسْف ويعني القماش المقطّع قطعاً قطعاً، وقد استعملت هذه المفردة هنا إشارة إلى بعض الكرات السماوية التي تنفجر تحت ظروف خاصة وتتحول إلى قطعٍ متعددة تسبح في السماء، وإذا ما دخلت في مدار الأرض، تحولت (بايعاز من اللَّه) إلى أمطار من حجر، أو سقطت على وجه الأرض بصورة قِطَع حجرية كبيرة، كلٌّ منها يمكنها تدمير منطقة واسعة من سطح الأرض، كما أنّ العلماء اكتشفوا نماذَج من هذه الكُتَل الحجرية في منطقة «سيبيريا».

ثم قالت الآية في النهاية: «إِنَّ فِى ذلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ أي لكل عبد راجعٍ اللَّه وخائف من عذابه ومتخذ سبيل التوبة.

المسلم هو أنّ هذه الآيات عامة لجميع البشر، لكن لا ينتفع بها إلّامن خاف اللَّه وشعر بالمسؤولية «2».

______________________________

(1). لقد اشير إلى هذا الأمر في التفاسير التالية: تفسير روح المعاني، ج 12، ص 123؛ تفسير الكبير، ج 18، ص 58؛ تفسير روح البيان، ج 4، ص 185.

(2). تفسير القرطبي، ج 8، ص 5346.

نفحات القرآن، ج 1،

ص: 367

وبتعبير آخر: فإنّ جملة «لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ بمثابة بيان لسبب جملة «إِنَّ فِى ذلِكَ لَآيَةً»، أي أنّ الالتفات إلى حقيقة العبودية والتوبة والإِنابة سبب للانتفاع بهذه الآيات «1».

وفي الحقيقة، إذا ما درسنا حقيقة مفهوم العبودية، رأينا لا يخلو من التوبة والإِنابة عند اقتراف الذنب.

ج ج

أما ثالث وآخر آية في البحث، فقد أشارت مرّة اخرى إلى المصير الرهيب لقوم لوط ذلك المجتمع الذي بلغ من العار أَقصاه، وسخر من جميع قيم الإيمان والإنسانية وغمر في وحل الفساد والفحشاء ...

إنّ الآية بعدما أشارت إلى تدمير مدنهم وتخريبها قالت: «وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ يعتقد الكثير أنّ مدن قوم لوط كانت في الشامات قرب «البحر الميت» أو بين الشام والحجاز، وكان يطلق عليها «المدائن المؤتفكة»، ويقال: إنّه عندما زلزلت الأرض من مدنَهم هدمتها، ثم نزلت عليهم أمطار من الأحجار، وانشقت عندها الأرض شقاً نفذ فيه ماء «البحر الميت»، وبدل هذه المدن إلى مستنقعات نتنة، ولهذا يدعي البعض العثور على آثار من الأعمدة وغيرها من هذه المدن في أطراف البحر الميت.

وعلى أيّ حال، فإنّ هذه الآثار الباقية- سواء كانت في اليابسة أو تحت المستنقعات الآسنة- درس وعبرة، ولا ينتفع بهذا الدرس إلّاالذين يخافون عذاب اللَّه، ويشعرون بالمسؤولية (وتواجدت فيهم أرضية المعرفة).

وبتعبير بعض المفسرين:

آية العبرة هذه هي لُاولئك الذين من شأنهم أن يخافوه لسلامة فطرتهم ورقة قلوبهم دون من عداهم من ذوي القلوب القاسية فانهم لا يعتدون بها ولا يعدونها آية ودليلًا «2».

______________________________

(1) تفسير روح المعاني، ج 22، ص 104.

(2) تفسير روح المعاني، ج 27، ص 13.

نفحات القرآن، ج 1، ص: 368

النتيجة:

إنّ الخوف سواء كان بمعنى الخوف من اللَّه أو من عذابه أو من الذنب والمعصية

(لأنّ جميعها ترجع إلى معنى واحد)، يُعِدُّ الأرضية لروح الإنسان لتقبل الحقائق والمعارف، الإنسان ما لم يشعر بالمسؤولية لا يتجه نحو مصادر المعرفة ولا يبحث في آيات الآفاق والأنفس والتكوين والتشريع.

وخلاصة الحديث، أنّ الحركة نحو العلم والمعرفة كأي حركة اخرى تحتاج إلى محرك، والمحرك يمكنه أن يكون أحد الامور التالية:

1- جاذبية العلم والعشق للمعرفة التي أُودعتْ في روح الإنسان منذ البداية.

2- الاطلاع على النتائج المثمرة والآثار القيمة للمعرفة، ووصول الإنسان إلى المراحل الرفيعة تحت ظلها.

3- الشعور بالمسؤولية والخوف من العواقب المؤلمة لفقدان المعرفة والجزاء الترتب عليها.

إنّ كلًا من هذه الامور يمكنها أن تهي ء الأرضية المناسبة لطيّ هذا الطريق الملي ء بالتعرجات، وإذا ما تعاضدت هذه الامور مع بعضها البعض، فإنّ الحركة نحو المعرفة ستكون أسرع وأعمق وأكثر ثماراً.

وآخر الحديث: إنّ أكبر فخر للإنسان هو العلم والمعرفة، والجاهلون هم موتى الأحياء.

إنّ بلوغ مرحلة المعرفة الكاملة، لا يتم إلّامع توفر الأسباب ورفع الموانع والحجب وتهيئة الأرضية المناسبة.

وما أجمل ما قاله الشاعر:

نفحات القرآن، ج 1، ص: 369 وفي الجهل قبل الموت موت لأهله فأجسامهم قبل القبور قبور

وإنّ امرءاً لم يحيي بالعلم ميتةفليس له حتى النشور نشورٌ

ربّنا علّمنا المعارف الحقيقية، والأرفع من ذلك أي

معرفة ذاتك المقدّسة الطاهرة وصفاتك الجليلة.

إلهي! نعلم أنّ أعظم فخرنا هو علمنا ومعرفتنا،

والاطلاع على أسمائك وصفاتك وعالم خلقك أي أفعالك،

إلّا أنّه لا يتيسر طيّ هذا الطريق الصعب إلّابتوفيقك، فوفقنا

وثبت أقدامنا.

يا مولانا! إنّ شياطين الدرب كثيرون، وأوديته

خطرة، وموانعه عديدة، ولا يمكن رفع هذه الموانع إلّا

بامداداتك، فزودنا بها وبألطافك الخاصة.

آمين يا رب العالمين

نهاية المجلد الأول من نفحات القرآن

(التفسير الموضوعي)

صباح الجمعة- 8 رجب 1408 ه. ق

الموافق ل 7/ 12/ 1366 ه. ش

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.