سر الوجود

اشارة

نام كتاب:سِرّ الوجود

نام مؤلف:آية الله مكارم شيرازى

مشخصات نشر : قم مدرسه الامام علی بن ابی طالب ( ع) 1374.

موضوع:آثار فلسفى

زبان:عربى

تعداد جلد:1

المقدمة

ما نبحثه في هذا الكتاب

من أين أتينا؟

إلى أين نذهب؟

أين نحن الآن؟

ما دورنا في الاحداث؟

وبالتالي ما وظيفتنا؟ ...

هذه هي الأسئلة التي يفكر فيها الإنسان في بعض الأوقات ومهما قلّ ذكاؤه، غاية ما في الأمر أنّ الأعم الأغلب يمر عليها مرور الكرام، وكأنّه ليس هناك من سؤال، وبالعكس فهناك من يتابعها بنوع من الوساوس، بحيث يوردها أحياناً كأسئلة لأجواب لها، على كل حال، لا أظن هناك من شخص غير متعطش لسماع أجوبة الاستفسارات المذكورة مهما كانت قصيرة.

فهل يسعنا الاكتفاء باستمرار الحياة التي تقتصر معانيها على الأكل والشرب والنوم والملبس والمسكن والقضايا الجنسية، ولا يعنينا ماذا كنّا قبل ذلك وماذا سنكون؟ أو ليس هذا اللون من التفكير يتناسب وحياة بعض الحيوانات والحشرات؟ وما الداعي لأن يحصر الانسان

سر الوجود، ص: 6

نفسه في هذا القفص الوضيع والصغير ولا يطلق العنان لفكره ليسبح ويعوم في هذا الفضاء الواسع الرحب؟ طبعاً لعلنا لا نمتلك أجوبة واضحة على جميع هذه الأسئلة والاستفسارات، فقد تنطوي بعضها على هالة من الغموض والابهام، فنكتفي بالردود التي قد لا تخلو من بعض الالتباسات، حيث لا يوجد سبيل آخر بالنسبة للأشياء التي تمتد جذورها إلى الأزل حيث لايمكنها أن تكون على درجة من الوضوح مقارنة بالمسائل المرتبطة باليوم والأمس القريب، أضف إلى ذلك فإنّ سماع الجواب الغامض كرؤية الشبح من بعيد كيفما كان أحسن من عدم الرؤية أساساً.

لقد بذل الفلاسفة والعلماء جهودهم من أجل التوصل إلى الاجابة على هذه الأسئلة، وقد أسعدنا الحظ على العثور على سبل الاجابة بصورة أسرع وأبسط من خلال الاستعانة بجهودهم وسعيهم.

الكتاب الذي بين يديك- عزيزي القارى ء- غيض

من فيض الجهود التي بذلناها خلال سنوات مديدة من أجل الظفر بهذه الأجوبة، إلّاأنّنا نقر ونعترف أنّها تسلط الضوء فقط على بعضها، مع ذلك فهي جهود إيجابية ذات نتائج طيبة، وقد جهدنا إلى اعتماد الصراحة في الكتاب وإيثارها على ما سواها، إلى جانب الابتعاد عن الألفاظ الطنانة الرنانة، لنكتفي بحديث القلب فنسمعه بأذن الروح فنفرق بين الغث والسمين، وننأى بأنفسنا بعيداً عن الخيال والاسطورة ونتحرك من خلال الحق والبحث عنه أملًا في الوصول إلى الحقيقة.

قم- ناصر مكارم الشيرازي

أسرار عظمى

اشارة

هذه الافكار تؤرق الجميع

و لا سيما الشباب

سر الوجود، ص: 9

أننا نبحث عن الجديد دائماً، وندين إليه بالفضل في نشاطنا وحيويتنا، ولو كانت الحياة رتيبة، لسئمناها وفارقناها مسرعين.

ولعل ذلك هو السبب في تجدد أشكال وصور حوادث الحياة كل يوم، بهدف إلفات نظرنا إليها وجلب انتباهنا نحوها، كما يمكن أن يعزى سر مضاعفة النشاط لدى الشباب، وأعظم منه لدى الأطفال، إلى ذلك الأمر، حيث يرون أكثر من غيرهم أنّ الدنيا تحمل أكثر من جديد.

أنا أيضا حين أفقت لنفسي آنذاك، وشق فكري سبيل الاستقلال، وهي الفترة التي اصطلح الناس على تسميتها بالبلوغ، كان كل شي ء بالنسبة إليَّ جديداً، إلّاأنني كنت أستغرق أكثر في «أسرار الوجود»، وكانت هنالك عدّة أسئلة تشغل ذهني، وكانت تبدو لي تلك الأسئلة بمثابة جبال شماء وخطيرة مرعبة تخترق بقممها الحادة والمرتفعة قلب سماء الفكر البشري وتغوص في أعماقه، كنت أشعر بالضبط أنّ أفكاري تجاه هذه الأسئلة بمثابة زورق صغير إضطرب وسط أمواج بحر متلاطم عميق، فأتمنى أحياناً أن تغادر روحي هذا القفص المسمى بالجسد فتعيش الحرية وتحلق مع الملائكة التي تجوب السموات لعلي أظفر بضالّتي هناك وهي الاجابة على هذه الاستفسارات.

سر الوجود، ص: 10

حقّاً

كانت تلك الاسئلة بمثابة حجر ثقيل تربع على صدري وأخذ ينهش روحي، لكن كان عزائي في الأمل بالتوصل إلى الاجابة في يوم من الأيّام، نعم كنت أعيش بهذا الأمل.

والآن اسمحوا لي باستعراض تلك الأسئلة التي تثقل كاهل الروح، لأني عازم على أن أصور لكم الشعور الذي كان ينتابني آنذاك.

* كنت أتساءل: ما الهدف والغاية من كل هذه الكواكب المضيئة اللامعة وهذه المجرّات والمنظومات والعوالم الضخمة ذات الأسرار العظيمة والتي لا تبدي لنا سوى جانباً من روعة وجودها وتثير لدينا العديد من الأسئلة والاستفسارات وتحيط قلوبنا بهالة من الوسواس والحيرة؟ بل ما هو الهدف الرئيسي من عملية الخلق؟

* ما الهدف من وجودنا في هذا العالم؟

من أين جئنا؟

وأين سنذهب؟

وما النتيجة المترتبة على ذهابنا وإيابنا؟

لم يكن لدينا أي اختيار في خلقنا، بدليل إنّنا لم يستشرنا أحد لا في زمان ولادتنا ولا في مكانه، ولا في أي شأن من شؤون وجودنا، وعليه فما دورنا في هذا الوسط؟!

* هل من خالق لعالم الوجود وقد أرساه على ضوء خطة وهدف ثم سينتهي به إلى غاية محددة طبق تلك الخطة المرسومة؟ أم أصبح بهذا الشكل صدفة اثر عوامل غامضة ليست مبرمجة ودونما أي هدف وغاية، وبالتالي فهو يسير نحو العشوائية، بدون خطة ولا فكر ولا هدف؟

سر الوجود، ص: 11

* مسألة الزمان هي الأخرى من الأمور التي كانت تؤرق فكري، فما هذا الزمان، ومن أين أتى وإلى متى سيكون باقياً؟ وكيف كان العالم قبل إنبثاق الزمان؟

ولو لم تكن هناك كرة أرضية وشمس وقمر، وكنّا نعيش حياة رتيبة في بقعة من هذا الفضاء اللامتناهي، كيف كنا سنشعر بدوران عجلة الزمان؟ هل كانت هذه الدقائق والساعات تثقل فكرنا في تلك الحالة؟

* هل حقّاً لدينا مصير

معين مرسوم لنا مسبقاً وعلينا التسليم له شئنا أم أبينا؟ فإن كان الأمر كذلك، أفليس من العبث أن نجهد أنفسنا من أجل السعادة والموفقية، وهل يمكن تغيير المصير؟!

* اللغز الآخر الذي كان يعكر فكري ويرهق ذهني هو التفكير بهذه الروح التي تكاد تكون أقرب إلينا من كل شي ء!

هذه نماذج من الاسئلة المزعجة التي لا نهاية لها والتي كانت تدور في خلدي، أسئلة بشأن أسرار خلق الإنسان، والسرّ الذي ينبعث منه الوجود، وهكذا قضية المصير وسائر القضايا من هذا القبيل.

نعم، كانت هذه الاسئلة كالسحب المتراكمة التي غطت جوانب فكري وجعلت تمارس ضغوطها عليه، صحيح أنّي نشأت وسط أسرة دينية، وكنت كالآخرين أملك إيماناً تقليدياً بالبارى ء سبحانه، ولكن أنى لي الاكتفاء بهذا القدر المتواضع من الإيمان، والاستسلام لهذه الأجوبة دون قيام أي دليل منطقي عليها؟

وممّا لاشك فيه هو أنّ بروز هذه الأفكار دلالة على تحركة الحياة

سر الوجود، ص: 12

وسلوك طريق طويل شاق وخطير.

فترة البلوغ وثورة التساؤلات

الآن وبعد أن بيّنت لكم نبذة من حياتي الماضية، ووقفتم على الأفكار التي كانت تدور في ذهني آنذاك، أرى من الضرورة بمكان أن أضيف هذه العبارة وهي أنّ المطالعات اللاحقة دلت على أنّ مثل هذه الأفكار إنّما تحدث لأغلب الأفراد تزامنا مع فترة البلوغ أو تتأخر عنها قليلًا، حيث تكون تلك الفترة قصيرة وعابرة لدى البعض، وبالعكس قد تكون طويلة ومريرة على البعض الآخر.

لكن أتعلمون أنّ ظهور مثل هذه الأسئلة في ذهن الإنسان لا يدعو إلى أي قلق واضطراب، بل بالعكس فذلك علامة على الاستقلال الروحي والنضج الفكري ودليل على تفتح استعداداته وقابلياته الباطنية؟!

نعم، هذه علامات تبث الأمل في بلوغ الإنسان مرحلة جديدة من حياته؛ أي أنّ جميع الأفراد الذين يتزامن نضجهم الفكري مع

بداية بلوغهم الجسمي والفسلجي، فإنّهم يعومون في سني البلوغ في بحر من هذه الأفكار، بحيث يتشبثون بكل وسيلة من أجل الخلاص منها- أمّا من يتأخر نضجهم الفكري فإنّ المدّة قد تطول لتخترق زوايا أفكارهم مثل هذه الأسئلة.

وبالطبع فإنّ الأفراد الذين يعيشون حالة طفولية من الناحية الفكرية والنفسية، فإنّهم لا يرون قط حالة النضج العقلي، فليس هنالك مثل هذه الأسئلة التي تؤرقهم، فهم يعيشون على الدوام حالة من الاستقرار الممزوجة بالجهل، فلا يشعرون أبداً بحالة من الاستقلال

سر الوجود، ص: 13

الفكري!

على كل حال، ينبغي عليكم ألا تشعروا بالقلق من ظهور مثل هذه الأفكار، فهي دلالة على نضجكم الفكري وأنّكم قد وردتم مرحلة جديدة في الحياة، ألا وهي مرحلة البلوغ الفكري.

فإن راودتكم مثل هذه الأفكار فاعلموا أنّكم تخطيتم مرحلة التقليد والتبعية ودخلتم مرحلة الاستقلال، فينبغي لكم أن تجدّوا وتجتهدوا وبكل هدوء للظفر بالحلول المنطقية والمقنعة لهذه الأسئلة والاستفسارات.

طبعاً قضية مراودة هذه الأفكار وإن كانت تدعو للأمل والتفاؤل، إلّا أنّها قد تشكل ظاهرة خطيرة إن لم تجد هذه الأسئلة بعض الأجوبة الصحيحة، لأنّ الجهد الممتزج بالأمل في هذه الحالة يتحول إلى نوع من الخمود واليأس والتشاؤم، لذلك يشاهد العديد من الشباب الذين لم يحصلوا على ردود صحيحة لهذ الأسئلة وبغية الهرب من شباك مثل هذه الأفكار، قد لجأوا إلى المسلّيات الخاطئة والإشباع الطائش لغرائزهم المستعرة، في محاولة للحصول على استقرار زائف وكاذب.

على كل حال، فمن الطبيعي عندما يقتحم الإنسان وسطاً جديداً، فإنّ كل شي ء سيكون لديه مبهماً ومدعاة للتساؤل والاستفسار، فيسعى من خلال ما يملك من فكر لاختراق حجب هذا الابهام والوقوف على الحقيقة، إلّاأنّ حداثة هذه الأجواء إنّما تبدأ حين يرد الإنسان مرحلة البلوغ، وهنا يرى كل

فرد العالم بصورة جديدة، وبالطبع ترافق ذلك عملية انبثاق مختلف الأسئلة والاستفسارات، وبناءً على هذا فلا ينبغي لكم أن تشعروا بأي امتعاظ من مخالجة هذه

سر الوجود، ص: 14

الأفكار لأذهانكم، بل عليكم أن تنظروا إليها بكل تفاؤل وسرور.

كيف نحصل على اطمئنان القلوب

البحيرة الصغيرة تتحرك أمواجها لأدنى نسيم سيما إن كانت قليلة العمق

سر الوجود، ص: 17

لقد بلغت حديثاً، فكنت أشعر بشخصية جديدة، كانت الدنيا تبدو لي بشكل آخر، غير أنّها مشوبة بنوع من القلق والاضطراب، كانت مفردة «الاطمئنان» تبدو لي خيالية ذات لذة ومتعة خاصة، كنت ألهث دائماً نحو الاطمئنان الروحي والاستقرار النفسي، وللأسف لم أذق منها إلّاقليلًا!

ولعل هذا هو السر في أنّ هذه المفردة كانت تحمل عندي شيئاً من الذكريات الأليمة المختلطة بالأسى والحزن، كنت أشعر أحياناً من خلال هامش نتاجات وسيرة بعض العلماء والكتّاب أنّهم يعيشون بروح مطمئنة تفيض عشقاً للحقيقة وكأنّ سلسلة أفكارهم قد اتصلت بموضع آخر، وهذا الركن الوثيق الذي استندوا إليه هو الذي منحهم القوّة والصمود مقابل تحديات الواقع.

كانوا يتمالكون أنفسهم إزاء الشدائد ويتحلون بالشجاعة والاقتدار في مجابهتهم للصعاب، حتى أنّهم كانوا يستقبلون الموت- رغم ما ينطوى عليه من أسرار تثير أسئلة مقلقة- بكل رحابة صدر.

كنت أستمتع بهذا الاطمئنان العجيب الذي كان يسود حياتهم، كما كنت أغبطهم عليه، إلّاأنّي لم أعثر على بصيص من هذا الاطمئنان في روحي كلما تأملت زواياها وبحثت في أحشائها.

كأنّي بروحي قد غرقت في ظلمات دامسة، فكانت تتطلع من تلك

سر الوجود، ص: 18

الظلمات إلى أشباح مرعبة ومبهمة مقرونة بمختلف الأسئلة والاستفسارات التي جعلت منها مسرحاً للهجمات، ثم كانت تمحى وتندثر وسط تلك الظلمات، كنت أحدث نفسي، ترى ما الضير لو أصاب روحي قبس من ذلك الاطمئنان وأضاء كل

زواياها وطرد إلى الأبد هذه الأشباح المرعبة، التي تبدو وكأنّها على رباط وثيق بتلك الظلمات ..؟!

كانت تلك أعظم أمنياتي ورغباتي الباطنية، الامنية التي قد لا أظفر بها حتى في عالم الخيال.

أمّا اولئك العلماء فلعلهم ظفروا بذلك في سني النضج الفكري، حتى وفقوا لما بذلوه من جهود متواصلة، ولعلي كنت أغري نفسي بذلك.

مازلت أذكر جيداً كم كنت قلقاً تلك السنين وفي أي أفكار كنت أغرق، كنت أشعر أحياناً بأنّ وجودي إزاء تلك الأسئلة والاستفسارات المتعلقة بأسرار الخلق وشروع واختتام الحياة وقضية المصير والعاقبة وما إلى ذلك، بمثابة الريشة مهب الريح تتقاذفها هنا وهناك.

فمن الطبيعي أنّ «البحيرة الصغيرة» سيما إن كانت قليلة العمق تتلاطم لأدنى نسيم، أمّا البحر الواسع والعميق فيسوده نوعٌ من الاستقرار والهدوء الخاص، وليس للعواصف سوى أن تعرقل

سر الوجود، ص: 19

استقراره الظاهري دون أدنى مساس بعمقه المستقر تماماً.

والمفروغ منه أنّ اولئك العلماء الذين يعيشون الاطمئنان الروحي الذي يدعونا إلى التعجب والذهول لديهم تصور واضح عن الاجابة على هذه التساؤلات حتى بلغوا هذه المرحلة من السكينة والاطمئنان، فروحهم كالبحار العميقة التي لا سبيل إلى العواصف لهز أعماقها والعبث بها (إلّا أنّ ذلك يبدو متعذراً على الأفراد الضحلين في بداية السلوك).

لقد آمنوا بأنّ خلق هذا العالم ليس اعتباطاً؛ حيث تفيد جميع الشواهد والقرائن التي تنطوي عليها حوادث هذا العالم المترامي الأطراف وظواهره على أنّ ذلك الخلق إنّما يستند إلى قدرة مطلقة، وهو وحده الذي بيده أزمّة العالم بأسره، وأمّا القوانين التي تنظم عالم الوجود وتشكل محوره الرئيسي فهي على درجة من الدقة والنظم والأسرار العميقة بحيث يحتاج زعماء الفكر والعلماء إلى سنوات مديدة لسبر أغوارها والوقوف على جانب من جوانبها، وكلما ازداد العلم البشري وتمكن

من كشف بعض أسرار هذا العالم الواسع، تعرّف الإنسان على مصدر هذا العالم أكثر وتحوّل هذه العلم إلى قبس من نور الإيمان يتخلل القلوب.

إنّهم آمنوا بأنّ العقيدة الراسخة والإيمان المحكم الناشى ء من تتبع لطائف هذا العالم الضخم وأسراره المذهلة إنّما يملأ القلوب بالعشق والنشاط والحيوية، العشق المرهف للمُبدى ء العظيم الخالق الأصلي لهذا العالم الواسع.

سر الوجود، ص: 20

إنّهم نظروا إلى جلال الحق سبحانه فذابوا في عبوديته ليتحرروا من أغلال وقيود ما سواه، عظم ذلك الوجود المطلق في نفوسهم فصغر مادونه في أعينهم ومن هنا فإنّ أرواحهم لا تستشعر أي قلق واضطراب اثر فقدانهم لبعض الأشياء، وإنّهم وبإتكالهم على قدرة اللَّه هبوا بكل شجاعة لمواجهة صعاب الحياة الدنيا ومشاكلها، وقد وهبهم هذا الإيمان قوّة الأعصاب وضاعف من قدرتهم وطاقتهم بما جعلهم يتغلبون على كافّة الشدائد، لقد رأوا أنفسهم متصلة بالأبدية، واعتقدوا أنّها نبعت من هناك وستعود إلى هناك ولذلك ليس لديهم مفهوم للفناء والعدم الذي يؤرق فكر الإنسان ويعبث بأعصابه.

نعم إنّ قطرة ماء وسط صحراء محرقة تزول سريعاً، بينما ستستمر في وجودها إن كانت متصلة بالبحر حيث تكتسب صبغة الأبدية.

إنّهم يرون الموت نافذة يطلون منها على عالم جديد، عالم أوسع وألذ وأشد حيوية وأعظم نوراً من هذا العالم الذي نعيش فيه، ويمثّل مرحلة أكمل من هذه الحياة الدنيا، ومن هنا فهم لم يروا الموت قط، بتلك الصورة المرعبة التي تقشعر لها الأبدان، وقد أصبحت هذه الأفكار جزءً من وجودهم فقد آمنوا بها بكل كيانهم وجوارحهم.

إلّا أنّ كل تلك الأمور كانت لا تعني لي أكثر من سراب فقد كنت حديث العهد بهذه المفردات.

سر الوجود، ص: 21

على كل حال فقد أدركت أنّ رمز اطمئنانهم الروحي إنّما يكمن في هذا

الاسلوب من التفكير، غير أنّ المؤسف له أنّ ذلك الاسلوب من التفكير كان متعذراً عليَّ آنذاك ولذلك كنت أشعر بحالة عجيبة من الاضطراب الروحي.

كأنّ ناراً شبت في أحشائي فكانت تحرقني بسعيرها، كنت كثيراً ما أخلو بنفسي وأبكي، طبعاً لا يسعني أن أحدد بالضبط مم كان بكائي، أكانت لي ضالة؟

أكان هناك عشق يؤرقني؟ كانت روحي مضطربة وتبحث عن الهدوء والاستقرار، بَيدَ أنّها لم تظفر به، الأمر الذي كان يزعجني، فكنت أجهش بالبكاء كالطفل الضائع، نعم كانت الدموع تخفف من معاناتي وتطفى ء سعير النيران الملتهبة في أحشائي ولو لمدّة قصيرة، فما تلبث مدّة حتى تشب لظى النيران من جديد فتحيط بكل كياني، كنت أتمنى أن أشعر يوماً بالطمأنينة الروحية، كنت صلباً تجاه الحوادث المريرة التي كانت تواجهني في حياتي، كما كنت أبتسم للحياة رغم أحزانها وآلامها، فكنت أواجه المصاعب بكل شجاعة حتى أني لم أكن أخشى الموت، كان المستقبل يبدو لي واضحاً وخال من الغموض كالماضي، ولكن وكما قلت كنت حديث التفكير ولا تجربة لي.

أضف إلى ذلك فإنّي لم أحاول التماس الاطمئنان الروحي في ظل سلسلة من الوهم والخيال البعيد عن الواقع، فكنت أسعى لأن أفهم الواقع كما هو فأظفر في ظلّه على ظالتي التي لم تكن سوى الاطمئنان.

سر الوجود، ص: 22

نعم، كنت أمتلك الإيمان التقليدي كسائر الأفراد، كما كان ذلك الإيمان مزيناً ببعض الأدلة المتواضعة التقليدية، إلّاأنّ تلك الأدلة لم تكن لتقف بوجه طموحي وتشبع روحي المتعطشة، فالحق أنّ مثل هذه الأدلة ليس من شأنها الصمود أمام الشكوك والوساوس، وهكذا مرّت مدّة على هذا الاضطراب والقلق ...

الخطوة الأولى

لماذا أفكر؟

وهل يسلب هذا التفكير طمأنينتنا؟

سر الوجود، ص: 25

قلنا آنفا أنّ ذهن كل إنسان له حظ من التفكير حين

يطأ مرحلة النضج الفكري يصبح مسرحاً للهجوم المرعب لمختلف الأسئلة والاستفسارات المتعلقة بالحياة والموت والماضي والمستقبل، لاسيّما الأسئلة ذات الصلة بأسرار الخلق والمصير وبداية ونهاية العالم، وكنت من بين الأفراد الذين شعروا بكل كيانهم ولمسوا مثل هذا الهجوم، وقد عانيت الأمرين لأتمكن من الظفر بقبس من الحقيقة.

حقّاً إنّ هذا الموضوع أمر مهم، فلو كان طرح السؤال سهلًا إلى هذه الدرجة بينما يصعب الحصول على الجواب الذي يمكنه إقناع العقل والقلب؟

لم تتراءى للذهن آلاف الأسئلة حين نهم بطرح سؤال ما، وكأنّ الأمر بمثابة الكيس السحري الذي لا ينفد مهما أخذت منه، أو كسيل بيوض أسماك البحر، حيث يتفرع مائة سؤال من سؤال واحد، لكن حين العثور على الردود فكأنّنا نريد تجاوز قمة جبل أشم حيث تطالعنا سيل المشاكل والصعاب.

أو ليست العلل الرئيسية لهذا الأمر هو أنّ أسئلتنا في الواقع فهرسة لمجهولاتنا، وعليه فهي كمجهولاتنا لا حد لها ولا حصر، وبالعكس

سر الوجود، ص: 26

فإنّ أجوبتنا فهرسة لمعلوماتنا وبالطبع فهي محدودة ولا شي ء بالنسبة للمجهولات؟!

على كل حال فقد آن الأوان لأن نسلك مرّة أخرى ذات الطريق مع أولئك الذين سلكوا لأول مرّة ذلك الطريق الشائك والملي ء بالمنعطفات والذي لامفر من اجتيازه، وممّا لا شك فيه أنّ السير على أي طريق- وعلى غرار أي طريق خطير ومخيف- يبدو أفضل وأكثر عقلانية إذا ما استعنا عليه برفيق ودليل، إننا نروم بذل الجهود والمساعي المتواصلة من أجل التوصل إلى الاجابة على هذه الأسئلة والاستفسارات والألغاز، والسير قدماً بهذا الاتّجاه على ضوء ما نملك من استعداد وقوّة.

الخطوة الأولى يثور في أذهاننا في الوهلة الاولى هذا السؤال: ترى ما هي الضرورة لأن نجهد أنفسنا بالتفكير؟ لم نخلق لأنفسنا كل هذا العناء عبثاً؟

أو

ليس هناك من لا يكلّف نفسه عناء التفكير بمثل هذه المسائل، فهم يردون الدنيا بكل بساطة ويودعونها دون أدنى هم (بالضبط كالشاة!)، لم يكن معلوماً لديهم من أين أتوا، وأين ذهبوا، بل لم يكن لهم من هاجس ودافع للعلم بذلك!

إنهم يقولون: ما الفائدة من العلم بالماضي والمستقبل والمبدأ

سر الوجود، ص: 27

والمعاد وبداية الخليقة وغايتها كي نطالب أنفسنا بالعلم بها؟ ليس هنالك من يعلم ما هي الغاية.

كل ما هنالك هو تحذير من احتمال .. ونحن لا نعير آذاناً صاغية لهذا الصوت.

ليس للدنيا من معنى لدى هؤلاء سوى التمتع باللذات العابرة التي إن لم يدركها الفرد اشتعلت نيران التعطش إليها في كل كيانه، فاذا أدرك خواءها وأحسّ بالنفور منها وقد يذهل أحياناً لكونها جوفاء لا واقعية لها.

اللذات التي تشبه إلى حد بعيد الأعمال الفنية لكبار الرسّامين التي تسحر القلوب وتشد إليها العيون من بعيد، فإن اقتربنا منها لم نجدها سوى قطعة من القماش العادي الذي لا قيمة له، وقد غطتها الألوان والأصباغ!! إلّاأنّ مثل هؤلاء الأفراد حسب تعبير الكاتب «هداية» ليسوا أكثر من أفواه متصلة بالأمعاء ومنتهية بالأجهزة التناسلية، وليس لهم أدنى امتياز على الحيوانات والحشرات التي تتلخص حياتها في المفردات المذكورة.

فهل هنالك عاقل يرضى لنفسه بأن تختصر حياته على هذه الأفعال التكرارية الرتيبة؟

لست أشك أبداً بأنّي لو خيّرت قبل الولادة: هل ترغب بالذهاب إلى الدنيا لتتمتع بهذه اللذات عدّة أيّام فى خضم كل هذه المشاكل والصعاب؟ لاخترت العدم قطعاً على هذا الوجود، بل لسخرت من هذا الوجود.

سر الوجود، ص: 28

وعلى فرض قبول تلك الحياة القصيرة مع هذه المشاكل، لطالبت بالطمأنينة قبل كل شي، نعم فالطمأنينة هي تلك النقطة المبهمة التي تنتهي إليها بالتالي كافة جهودنا ومساعينا،

أو على الأقل نبذلها من أجل ذلك الهدف، والحق أنّ هذه الطمأنينة وهذا الهدف الأصلي للجهود والمساعي وهذه الضالة النهائية للصغير والكبير إنّما تتعذر ولا تتسنى لأحد في ظل غياب التفكير، فالقضية وعلى العكس ممّا يتصوره البعض بأنّ عدم العلم والجهل لا يشكل أساس الطمأنينة قط، بل هو أكثر من غيره مدعاة للقلق والاضطراب والخوف والهلع، فالجهل ظلمة، وهل تختزن الظلمة سوى معاني الرهبة والخشية.

فالجهّال أشبه ما يكونون بمن تاه في صحراء واسعة وسط ظلمة الليل الدامسة، وقد غطت السماء السحب السوداء القاتمة، فكانت حوادث الدنيا الغامضة كالعواصف الموحشة والصواعق والسيول والتي تتهدّدهم وتطاردهم في تلك الصحراء المرعبة، وقد استولى القلق والاضطراب على نفوسهم وارتعشت أبدانهم لأصوات الرعد والبرق والصواعق فلم يكن لديهم من ملاذ آمن لحفظ أرواحهم، ولا طريق يلوح لهم فيسلكوه لينجوا من حيرتهم «1».

أمّا العلم فهو نور مهما كان ضئيلًا، ومن خصائص النور الطمأنينة والهدوء والاستقرار، على العكس من الظلمة التي تتصف بالقلق والاضطراب، حقّاً إن كان للناس من خشية للظلمة فإنّما يعزى ذلك

سر الوجود، ص: 29

إلى ما يكتنفها من إبهام، وإن خشوا من الأموات فبسبب وضعهم المبهم، وكذلك إن خافوا المستقبل فإنّما ذلك معلول للجهل به وما يكتنفه من إبهام، ونخلص ممّا سبق إلى أن الطمأنينة لا تتأتى إلّامن خلال العلم والتوصل إلى الاجابات المناسبة بخصوص الأسئلة الواردة عن المجهولات.

وعليه فإن شاهدنا بعض الجهال ممن يعيشون حالة من عدم الاكتراث تشبه الاستقرار ولا يشعرون بأدنى هم وغم، فلا ينبغي أن ننسى أنّ هؤلاء الافراد لا يدرون حتى بجهلهم فهم يعيشون حالة من الجهل المركب، وليس استقرارهم سوى كاستقرار الشاة التي تحمل بقبضة من العلف إلى المسلخ لتنظر سائر القطيع وهي

تذبح الواحدة تلو الاخرى دون أن تكثرث، فالحق هو أن هذا ليس من الاستقرار بشي ء وهو أشبه ما يكون بالتخدير وفقدان الوعي، وإلّا فليس هنالك من طمأنينة وسكينة لمن أحاط خبراً بجهله، وهو يعيش في دنيا مظلمة مليئة بالأشباح المخيفة، فهم مثقلون دائما بالقلق والاضطراب.

وعليه لابدّ لنا من التفكير والتفكير بغية بلوغ الاطمئنان الروحي.

نعم، إذا كان من المقرر أن نتخلى عن التفكير، فما فائدة هذا الدماغ والعقل، أو ليس من الأفضل أن نطرحه عنا ونستريح من هذا الحمل الثقيل!

ولو تركت يدي وحالها دون توظيفها في حمل الأشياء، فإنّ وجودها في بدني وبهذا الثقل مجانب للعقل والمنطق.

لعلك تقول إنّما زودت بهذا العقل والتفكير لأتمتع بصورة أفضل

سر الوجود، ص: 30

بلذات الدنيا ومأكولاتها ومشروباتها وملبسها وبالتالي لأستمتع أكثر باللذة الجنسية.

أقول: هذا الكلام ليس بمقبول فما زود به البشر من إمكانات عقلية لتفوق بكثير هذا الهدف الصغير والوضيع، فذلك مثل أن تعطى قوة ذرية عظيمة لطفل من أجل تحريك بعض ألعابه التي يستعملها للتسلية.

إذن كيفما كان الأمر فأنا مكلّف بالتفكير في بداية الخليقة ونهايتها وفي الماضي والمستقبل والغاية من الحياة إلى جانب التفكير في الحياة والموت والمصير والعافية وفي كل شي ء.

نعم، أنا مطالب قبل كل شي ء بالتفكير!

الضالة الكبرى

إنّ الإنسانية لتهرول في نفق مظلم

ليست له نهاية سوى الاضطراب المطلق

سر الوجود، ص: 33

جميع الناس ينشدون السعادة ويبذلون جهودهم من أجل تحقيقها، إلّاأنّ أغلب الأفراد عادة ما يلتبس عليهم الأمر في تفسير هذه المفردة، فلا يستطيعون أن يحددوا بالضبط ما هي هذه السعادة التي يلهث لتحقيقها الجميع؟

بالمناسبة كيف يبحث الجميع عن واقع مبهم وغامض يعجزون عن تفسيره؟ الحق أنّ هذه الكلمة لا تنطوي على معنى واحد لدى الجميع، ولعل

معانيها تتعدد وتختلف بتعدد الأفراد واختلافهم، فكل يفسّرها كيفما يشاء، إلّاأنّه ورغم كل هذه الاختلافات في التفسير هناك عامل مشترك قد يتفق عليه الجميع وهو أن السعادة هي الشي ء الذي إذا بلغه الإنسان شعر بالطمأنينة والسكينة على مستوى الروح والبدن والضمير، وعليه فلا نرانا نخطي ء إذا فسّرنا هذه المفردة بالطمأنينة التي تمثل آثارها العامة وأبعادها المختلفة.

إلّا أنّ هذا التفسير يجرنا إلى حقيقة مريرة، لا نملك سوى الاذعان لها رغم صعوبة قبولها وهي: إذا كانت السعادة تعني الطمأنينة، فلابدّ من الاعتراف بأنّ هذه السعادة مفقودة ولا سيما في عالمنا المعاصر، لأننا لانجد شخصاً يعيش الطمأنينة على صعيد الروح والبدن والضمير.

سر الوجود، ص: 34

يمتاز عصرنا بوفرة كل شي ء سوى الطمأنينة، ولا نرانا مخطئين لو أسمينا هذا العصر بعصر القلق والاضطراب، ورغم كل الجهود التي تبذل من أجل بلوغ هذه الضالة النفيسة، إلّاأنّ المسافة بيننا وبين هذه الضالة آخذة بالاتساع يوماً بعد آخر!

حيث نطالع علامات انعدام الطمأنينة في كل مكان؛ في الحانات ودور البغي ومراكز توزيع المخدرات والمستشفيات النفسية وعيادات أغلب الأطباء، حيث يبحث الكل عن هذه الضالة القيّمة، وحيث لا يتمكنون من الظفر بوجودها الواقعي فإنّهم يلوذون بوجودات زائفة ظناً منهم أنّها هي الطمأنينة.

ويبدو أنّ هذه الطمأنينة على درجة من الأهميّة والقيمة لدى الإنسان بحيث يرى نفسه أحياناً مستعداً للتضحية بحياته من أجل تحقيقها، بل قد يقدم أحياناً على الإنتحار من أجل الظفر بها مفتشاً عنها في العدم بعد أن عجز عن الظفر بها في نور الوجود (وياله من خيال ساذج!).

أمّا «صادق هداية» الذي كان مثالًا صارخاً لعدم الاستقرار والمتعطش للظفر بهذا الاستقرار والطمأنينة، حيث تلمس ذلك بوضوح في كتاباته وسيرة حياته، (ومن المؤسف له إنّه ورغم

استعداده وطاقته الخلاقة فقد عاش اليأس المطبق في حياته ونشره بين أتباع مدرسته حتى توفي بتلك الطريقة المفجعة) فقد كتب في

سر الوجود، ص: 35

مقدمة كتابه المعروف (بوف كور): هناك بعض الجروح في الحياة كالديدان التي تعمل على تآكل الروح ببطء، ولا يمكن البوح لأحد بهذه الآلام ... ولم يتوصل الإنسان لحد الآن إلى دواء لهذا الداء، أمّا الدواء الوحيد الذي يمكن اعتماده بهذا الشأن فهو النسيان من خلال شرب الخمر والنوم الاصطناعي بواسطة الأفيون والمخدرات، إلّاأنّ المؤسف هو التأثير المؤقت لهذه الأدوية فسرعان ما يتضاعف الألم ويشتد بدلًا من أن يسكن ويهدأ.

طبعاً هذه الآلام والجروح التي أشار لها «هداية» ليست إلّاأنواع القلق والاضطراب الذي يفرزه الواقع الحاضر وما يكمن خلف كواليس المستقبل المظلم والمجهول، ومن النماذج المتكاملة لهذا الاضطراب والرعب، هو القلق الممزوج بالأمراض النفسية، والذي رسمه في أحد فصول (بوف كور) لبطله: «... على هذا الفراش الرطب الذي تبدو منه رائحة العرق، وحين تثقل الأجفان وأهم بالتسليم للعدم وأعيش الليلة الخالدة تتجدد لدي كل ذكرياتي الضائعة وتخوفاتي المنسية، الخوف من تحول ريش الوسادة إلى أسنة خناجر!" وأزرار السترة كبيرة للغاية فتتحول إلى طاحونة ضخمة! الخشية من قطعة الخبز التي تقع على الأرض أن تتكسر كالزجاجة! القلق من أني قد أغفو وأنام فيسكب الزيت على الأرض ولعله يحرق المدينة! القلق من وقع أقدام العلب عند دكان القصاب فيكون صوتها كحافر الخيل! ... الخشية أن يتحول فراشي إلى قبر فيضمني ليدفنني

سر الوجود، ص: 36

فيه! ...

الخوف والرعب من ذهاب صوتي فلا ينجدني أحد مهما صرخت وارتفع صوتي» «1».

فالكاتب وإن افترض البطل شخصاً إزدواجياً منفصم الشخصية، إلّا أنّ ما أورده ولا سيّما بالالتفات إلى الترحاب بما

كتبه حتى من قبل البلدان الاوربية يمكنه أن يكشف عن القلق الذي يسيطر على أفكار أبناء عصرنا الراهن، فهذه ميزة أخرى لأوضاعهم الفكرية والنفسية.

أمّا الرئيس الأمريكي (نيكسون) فقد صرّح في أول خطاب بعد أن أدّى اليمين الدستورية بصفته الرئيس السابع والثلاثين للولايات المتحدة حيث كان المتوقع أن يتطرق للأمور الحساسة التي تهتم بها الأمّة الصناعية الثرية كأمريكا وهو يعترف بهذه الحقيقة المريرة قائلًا:

«إننا نرى من حولنا حياة فارغة ونتمنى إرضاء أنفسنا إلّاأننا لا نرضى»، طبعاً الحياة الفارغة التي أشار إليها نيكسون ليس المراد بها إلّا الحياة التي تفتقر إلى السكينة والطمأنينة، وحيث ليس فيها طمأنينة فهي خالية من كل شي ء وجوفاء، وإن كانت تغص ظاهراً بكل وسائل العيش المرفهة، ولعل أفضل صورة تجسد الوضع المأساوي وحالة الاضطراب التي تسود روح البشرية في عصرنا هي تلك التي رسمها

سر الوجود، ص: 37

(بولانسكي) قائلًا:

إنّه من مشاهير هوليود (المدينة التي تزعم أنّها تريد إضفاء السرور على الدنيا) حيث قال بعد فراقه المؤقت من حياته السينمائية إثر الصفعة الشديدة التي تلقاها من قتل زوجته (شارون تيت):

«أرى الإنسانية تهرول في زقاق مظلم ليس له من نهاية سوى الاضطراب المطلق».

كرروا ثانية هذه العبارة «أرى الإنسانية تهرول في زقاق مظلم ليس له من نهاية سوى الاضطراب المطلق» .. نعم الاضطراب المطلق! ولكن وعلى الرغم من هذا اليأس والقنوط والاستسلام للاضطراب والقلق وبالتالي الاستسلام للموت، فإنّ الظفر بهذه الضالة الكبرى أي الطمأنينة التامة ليس بالأمر الصعب، أو على الأقل إن كان صعباً فليس بمحال.

الإيمان وإطمئنان الروح

إنّ الالحاد كانعدام الوزن لايجلب سوى القلق والاضطراب

سر الوجود، ص: 41

رغم الجهود الذي يبذلها أصحاب النزعة المادية لتصوير بنية الإنسان على أنّها شبيهة بالماكنة، إلّاأنّ التحقيقات والدراسات ولاسيّما على

الأصعدة النفسية للإنسان تدل على البون الشاسع بين هاتين البنيتين حتى أن البعض تناسى مثل هذا التشبيه.

فإحدى خصائص الإنسان ومميزاته هي تعذر مواصلته لحياته مالم يكن له هدف وعقيدة، أو بعبارة أخرى دون أن يستند إلى آيديولوجية، والحال لاتحتاج الماكنة في إدامتها لحركتها لفكر أو آيديولوجية.

هذه أبرز خاصية من خصائص الإنسان، بحيث لو تخلينا عن التعريف المنطقي المعروف للإنسان بأنّه «حيوان ناطق» وقلنا الإنسان حيوان متفكر وصاحب عقيدة، لكان هذا التعريف أتمّ وأشمل، وإن إستندت تفسيرات الفلاسفة بشأن النطق إلى مسألة الفكر والإدراك، على كل حال كما يحتاج جسم الإنسان إلى الماء والغذاء، فإنّ ماء الروح وغذائها هو الفكر والعقيدة، ومن هنا يشعر كل إنسان بحاجته الطبيعية إلى امتلاك أسلوب من التفكير واتباع مدرسة فكرية، وإلّا فهو يشعر بداخله بفقر مخيف دون ذلك.

وعليه فإن تعذر عليه الظفر بالمدرسة الفكرية الصحيحة، إضطر إلى مل ء هذا الفقر بما شاء من الأوهام والخرافات والأساطير، وهذا

سر الوجود، ص: 42

هو السر في تهافت الأقوام المتخلفة على الخرافة والوهم، والخلاصة فهذه الحاجة، هي حاجة طبيعية ومسلمة.

ويمكن تشبيه حالة إنعدام العقيدة بالنسبة للإنسان بحالة الخفة وإنعدام الوزن، حيث تفيد الدراسات الفضائية أنّ الإنسان الفضائي لا يستطيع السيطرة على نفسه حين انعدام الوزن، أي أنّ أدنى حركة تقذفه هنا وهناك، بل عليه أن يطبق فمه حين تناول الطعام ومضغه وإلّا أدنى حركة للسانه وأسنانه تقذف بما في فمه من طعام خارجاً.

يقال إنّ الشعور الذي يصيب الإنسان في حالة انعدام الوزن كسقوطه في بئر عميق لانهاية له، لأننا لا نتصور في حياتنا الاعتيادية حالة انعدام الوزن سوى بالسقوط الحر، فالسقوط الحر من مرتفع يفيد حالة من انعدام الوزن حيث ليس للإنسان أي استقرار حين

انعدام الوزن، ولعل هذا هو السبب الذي يدفع بعلماء الفضاء لأن يجدّوا في تزويد رواد الفضاء بنوع من الوزن الاصطناعي من خلال إيجاد الحركة الدورانية والقوة الطاردة المركزية بهدف مضاعفة استقرارهم.

و الحق أنّ فقدان العقيدة والإيمان والهدف هو الآخر نوع من حالة انعدام الوزن النفسي، فلا يشعر الإنسان بوجود أي سند يرتكز إليه في مثل هذه الحالة، وهو بمثابة من يسقط فى بئر عميق لا متناهي، حيث يعيش الألم الخفي ينهشه من الباطن، وتتقاذفه الأوهام والحوادث مهما كانت تافهة!!

أضف إلى ذلك فإنّ تأثير العوامل والدوافع المختلفة على أفكاره وهو غير مكترث يجعل منه بمثابة مدينة عزلاء تجاه هجمات

سر الوجود، ص: 43

الأعداء، ويضاعف ذلك من عدم استقراره.

إنّ الإيمان والهدفية في الحياة كيفما كان إنّما يختزن الطمأنينة والسكينة ويمنح الإنسان الثقل والوقار ويفسّر له فقدان الثروة وتعرضه للأضرار بما يهدأ روعه ويضي ء له آفاق المستقبل ويملأ حياته بالأمل ويسبغ عليه القوّة والقدرة ويدعوه إلى الثبات والصمود.

والذي ينبغي الالتفات إليه هنا هو أنّ نقطة ارتكاز روح الإنسان وفكره إنما يستبطن هذا الأثر ويفيضه عليه بأعلى مراتبه حين يعيش الإنسان نفسه على درجة من الثبات وعدم التزلزل، بحيث لا يعتريها حالة من التغير.

نعم الأهداف المادية وما يدور حول هذا المحور إنّما تفتقر لهذه الخاصية، فمثل هذه الأمور ذاتها بحاجة إلى سنداً، فأنى لها أن تكون سندا لأرواحنا وأفكارنا؟ ألبرت أنشتاين نابغة عصرنا ورغم انحداره من اصول دينية، إلّاأنّ مذهبه- على حد تعبيره- يختلف عن سائر مذاهب عوام الناس، فهو يعتقد بأنّ ظهور أغلب الأديان معلول لبعض الدوافع الخاصة ومنها حالات الفقر النفسي للإنسان، وقد بحث في هذا الأمر ليخلص إلى بعض النتائج: فقد قال بشأن كيفية ظهور المذهب

الأخلاقي (المذهب الذي انبثق إثر الأزمات الاجتماعية، لا إثر مطالعة أسرار الكائنات والخليقة):

«الخاصية الاجتماعية للبشر هي الأخرى إحدى تبلورات المذهب الأخلاقي والدين فالفرد يرى موت والديه وأقربائه والعظماء والزعماء فيتمنى لنفسه الهداية والمحبة والاعتماد على ركن وثيق،

سر الوجود، ص: 44

ومن هنا يتمهد السبيل أمامه للإيمان باللَّه» «1».

فقد اعترف أنشتاين خلال كلامه دون أن يلتفت إلى ذلك بأنّ الأمور المتغيرة والمتبدلة لا يمكنها أن تكون سنداً لروح الإنسان بحيث يظفر الإنسان بضالته فيها، بل هذا «السند الوثيق للطمأنينة» لابدّ أن يكون مبدأ ثابتاً يأبى الفناء والزوال وما يفوق بالطبع العالم المادي، وهنا يتضح الدور الذي يلعبه الإيمان بالمبدأ الذي يفوق الطبيعة، المبدأ الثابت الأزلي والأبدي في طمأنة روح الإنسان وإلهامه السكينة والاستقرار.

والطريف في الأمر أنّ أصحاب النزعة المادية أيضا لم يروا بدّا من الاذعان لهذه الحقيقة والاعتراف بصحتها ومدى تأثير الإيمان في خلق الطمأنينة، لأننا كما نعلم أنّهم غالباً ما يكررون هذا الكلام:

إنّ الإيمان باللَّه لدى الإنسان وليد الخوف، وهكذا سار «برتراند رسل» على غرار الماديين وقال: «أظن أنّ الخوف أو الرعب هو العنصر المهم قبل غيره في نشأت الأديان، خوف الإنسان من البلاء الطبيعي، والخوف من الأضرار التي يمكن أن يلحقها به الأخرون، إلى جانب حالة الانزعاج التي يعاني منها عقيب ممارسته للأعمال الطائشة التي يفرزها لديه طغيان الشهوات، ثم يضيف قائلًا: بإمكان الدين أن يحد من شدّة هذا الخوف والانزعاج» «2».

سر الوجود، ص: 45

فهذا الكلام يفتقر لقيمته الفلسفية، لأننا نعلم أنّ الاعتقاد بذلك المبدأ قبل أن يكون معلولًا للخوف من الحوادث الطبيعية، إنّما هو معلول لإدراك الحوادث المنظمة الدائمية والنظام الكوني البديع الذي يأبى الإنكار، مع ذلك فالكلام المذكور يكشف عن حقيقة وهي أنّ

الإيمان بمثل هذا المبدأ من شأنه أن يعين الإنسان على التغلب على الخوف والقلق والاضطراب.

النقطة الاخرى الجديرة بالذكر هي أنّ الشيوعيين الذى ينفون بشدّة قضية الإيمان بالدين والإعتقاد بعالم آخر وراء الطبيعة، ولم يعارضوا الدين بصفته آيديولوجية فلسفية فحسب، بل يرونه عقبة كؤوداً تكمن أمام أهدافهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، هم أيضا لم يستطيعوا التنكر لدور الإيمان باللَّه في تسكين روح الإنسان ومنحه الطمأننية، غاية ما في الأمر أنهم أسبغوا عليه صبغة التخدير لينعتوا الدين بأنّه أفيون الشعوب.

علاقة الطمأنينة بالآفاق الفكرية

اشارة

أي هذين النمطين الفكريين ينتج الاستقرار أكثر؟

سر الوجود، ص: 49

لماذا يشعر البعض ممن يودع السجن حين الموت وحتى أمام المشانق بالسكينة والطمأنينة، بينما يسود القلق والاضطراب البعض الآخر ممن يعيش في القصور الفارهة ويتمتع بكافة الوسائل والإمكانات؟!

لم يلجأ البعض إلى الإنتحار حين مواجهته لأدنى المكاره، بينما يقف البعض الآخر بكل صلابة وشموخ تجاه أصعب حوادث الحياة؟

ولماذا نرى البعض ممن يمارس حياته بنشاط ولذّة رغم معاناته من بعض الحرمان وافتقاره لبعض الأعضاء، بينما هنالك البعض الآخر الذي يعيش التعب والعناء دونما أي مبرر لذلك؟

ليس هنالك أكثر من إجابة واحدة على هذه الأسئلة- كسائر الأسئلة الواردة بهذا الشأن- وهي أنّ اطمئناننا الروحي إنّما يرتبط بنمط تفكيرنا وكيفية نظرتنا واعتقادنا بالنسبة للعالم الذي نعيش فيه، قبل أن يكون مرتبطاً بظواهرنا وأوضاعنا الجسدية.

إننا نقرأ في الفلسفة بأنّ حالاتنا الروحية وأنشطتنا الخارجية إنّما تنشأ على الدوام من صورنا الذهنية، فالحب والعشق والعداوة والقلق والاضطراب والخوف والخشية والسكينة والطمأنينة وكل جهد ونشاط من أنشطتنا البدنية إنّما تتمّ إثر تصورات تتجلّى في أفكارنا، وأنّها ستؤدّي إلى هذه الآثار حتى في حالة عدم انسجام تصوراتنا

سر الوجود، ص: 50

الذهنية مع الوقائع والحقائق العينية، والحال لا يكون الوجود

العيني بمفرده (في حالة عدم انعكاسه في ذهننا) مصدراً للآثار البدنية والفعاليات الإرادية قط، ولكي تتضح هذه الحقيقة في أنّ طمأنينتنا واضطرابنا الروحي يتوقف على نمط تفكيرنا وعقيدتنا، نعقد مقارنة بين أسلوبين من التفكير:

النمط الاوّل للتفكير:

يرى الفرد المادي النزعة:

* إن وجودنا متصل من جانبيه بالعدم والفناء المطلق، فلم يكن أكثر من حفنة من المواد الآلية والمعدنية المتناثرة قبل مجيئنا إلى هذه الحياة الدنيا، كما لن يكون مصيرنا في المستقبل أحسن من ذلك، حيث سيتحول كل هذا الوجود الرائع وعقولنا المقتدرة وأفكارنا الجبارة وعواطفنا المرهفة ومشاعرنا الحارة، وهكذا كل مفردات حياتنا إلى هباء منثور بعد الموت، فما الذي سيبقى لدينا بعد ذلك؟ لا شي ء، نعم لا شي ء سوى حفنة من التراب والغازات السابحة في الفضاء!

* إننا على هامش الموت كالتاجر الذي تحرق كافة ثرواته أمام عينيه، ثم يحرق بعدها نفسه في النيران!

فالأمور من قبيل القصر الضخم والسمعة الحسنة وألواح التقدير والبناء التذكاري والشخصية التاريخية- وما إلى ذلك من المسميات الكاذبة والزائفة والشعور الفارغ بنوع من البقاء وديمومة الوجود- من نسج خيالاتنا الفارغة، وإلّا فما أثر هذه الأمور حين نتحول إلى

سر الوجود، ص: 51

الزوال والعدم؟! أصلا ماذا سنكون بعد الموت لنستطيع التمتع بهذه التشريفات الخالية من الروح فنشعر بالفخر والإعتراز؟ لعلنا نتلذذ بمثل هذه العناوين بعد الموت أننا مازلنا على قيد الحياة، وإلّا فمن المسلم به أنّه سوف لن يبقى لنا أي أثر آنذاك.

ولعلهم إخترعوا مثل هذه العناوين لاستغفال الأحياء وسوقهم نحو العمل والتضحية والجد والمثابرة، لا على أنّها واقع وجزاء لمن ذهب، أفيستطيع من ذهب أن يدرك شيئاً من هذا الجزاء؟

لايسعنا إلا أن نقول بأنّ هذه الأمور بالضبط أشبه بأن يؤتى بألف نوع ممّا لذّ

وطاب من الأطعمة لتوضع أمام جثة هامدة، فما عساها أن تنتفع من ذلك؟

* حقيقة الأمر أن مجيئنا للدنيا لا يعدل زحماتها أبداً، فعدّة سنوات من العجز والجهل ولم يكد يشعر باللذة بشبابه حتى يدب إليه العجز والشيخوخة وأنواع الحرمان والأمراض الفتاكة التي تحيلنا إلى أعضاء مطرودين من المجتمع، إلى جانب تجاوزنا لكل ما حصلنا عليه من علم وفضل وثروة وأموال لنتجه نحو العدم المطلق، وإن كانت لنا عيون مفتوحة وأدنى شعور خلال هذه الحياة فإننا سنعيش في عذاب شديد لما نراه من تضييع للعدل واستفحال الظلم والتمييز، فهناك من لا يمتلك الرغيف من الخبز، بينما هنالك من تهب الآلاف لمراقبته والسهر على حفظه ورعايته قبل أن يخرج من بطن أمّه، فلو كان هناك حساب لما مات البعض جوعاً، بينما لا يعرف البعض الآخر كيف يقضي على ثروته الطائلة، فهو يمارس الأعمال الطائشة والأفعال التافهة بهدف التقليل من ثروته، كأن يشتري طابعاً بريدياً

سر الوجود، ص: 52

بقيمة مئة ألف دولار، أو يصرف مبلغاً ضخما على قطته وكلبه!

لم هذا البؤس والشقاء الذي يعيشه الأطفال في المستشفيات، بينما تشهد دور البغاء والحانات سرور اللصوص ودبكهم ورقصهم؟

* قانون الجبر أو قانون العلية إنّما يحكم جميع وجودنا، بل جميع عالم الوجود بكل صلابة وشدة دون أية مرونة، فهو قانون أعمى لا يعرف معنى للرأفة والعدالة، وكأنّ تاريخ البشرية فضلًا عن تواريخ حياتنا قد دونت منذ الأزل ولابدّ أن تنفذ بحذافيرها، والحال ليس لدينا أي اختيار للهرب من مخالب ما ينتظرنا من مصير.

* أفليس هناك من يسأل (و إن سأل فليس هناك من يجيب) ما سبب مجيئنا هنا، ولم لابدّ لنا من مفارقة هذا المكان؟ فلم نُستشَر في مجيئنا ولا في ذهابنا،

نعم معلوم أنّ الطبيعة لا تنطوي على أي هدف، فهي ليست أكثر من لعبة فارغة بدأت وانتهت ثم ...

ليس هنالك فرد مادي يتخلف في تفكيره الفلسفي عمّا مرّ معنا سابقاً، ولا يخفى مدى القلق والاضطراب الذي يسيطر على الإنسان إذا تحلى بهذا النمط من التفكير، طبعاً ممكن أن يسعى أتباع هذه المدرسة إلى عدم الاستغراق في التفكير بشأن هذه الأمور، فيزجون أنفسهم في اتون الحياة والانهماك في تفاصيلها ومفرداتها بحيث لا يبقى لديهم من مجال لظهور مثل هذه الأفكار، لكن بمجرّد أن تساورهم فرصة التفكير تهجم عليهم سيول هذه الأفكار الجارفة.

النمط الثاني للتفكير:

* إنّ هذا البناء الرائع الذي يصطلح عليه بالعالم هو من صنع العقل الكلي الذي خلقه لهدف وغاية، فهو يسير به لتحقيق ذلك الهدف، ولما كان ذلك المُبدى ء العظيم هو مصدر إفاضة جميع الوجودات والقدرات فهو غني وليس له من حاجة إلينا البتة، وهو الذي خلقنا من أجل الهدف السامي المتمثل بالسمو والتكامل، ومن المفروغ منه أنّ مُبدى ء بهذه الصفات سيعاملنا بمنتهى الرأفة والرحمة.

أفلم يزودنا بمختلف الإمكانات من أجل العيش برفاه وقد حبانا بأنواع النعم والبركات؟ بلى هو الذي خلقنا من أجل السمو والتكامل وقد منحنا كل الوسائل والإمكانات اللازمة لتحقيق ذلك، فإن واجهتنا بعض الكدورات والمعضلات علينا أن نعزي ذلك إلى عدم معرفتنا بقوانين الخلقة والإمكانات الواسعة المتاحة، أو عدم استخدامها بالشكل الصحيح على سبيل المثال نستطيع ومن خلال التعرف على قوانين الطبيعة والاستفاده من الإمكانات المتيسرة أن نبني دوراً لا تتأثر من قريب أو بعيد بالزلازل، كما يمكننا الالتزام بالتعليمات الطبيّة والوصايا الصحية والاستفادة من الطرق العلاجية للأدوية لنشهد حياة لا يعاني فيها الأفراد من أي نقص وعيب يصيب الأعضاء والبنية البدنية،

وعليه فنحن المسؤولون عن العيب والنقص الذي يصيب أعضاءَنا وما نعانيه من بعض الكوارث والشدائد.

الاجحاف وتغييب العدل هو الآخر معلول لقوانيننا الاجتماعية الخاطئة في التوزيع، فإذا صححت هذه الأنظمة والقوانين الخاطئة

سر الوجود، ص: 54

زالت كافة أشكال الظلم والاجحاف، آنذاك يتمكن الجميع من العيش برفاه ورغد من العيش بالتالي لسنا آلات ماكنة لنؤدي حركاتنا وأعمالنا على سبيل الاضطرار، فقد زودنا بالإرادة والاختيار لنمارس حياتنا على ضوء تخطيطنا الصحيح أو الخاطى ء، فلنا أن نحسن استغلال نعم الدنيا وفرصها أو نسيى ء استخدامها، المصير هو الآخر يأبى التفسير على أساس الجبر والاكراه دون أن يكون للإنسان أي دور في تعيينه.

أمّا وجودنا فهو متصل من جانبيه بالأبدية وليس من شأن الموت قطع سلسلة تكاملنا الوجودي أبداً، وعلينا أن نستعمل العبارة «الانتقال إلى عالم أوسع» بدلًا من التعبير بالموت، العالم الذي نسبته إلى عالمنا كنسبة عالمنا لعالم رحم الأم، وبناءً على ذلك فإننا لا نفقد شيئاً حين الموت.

قطعاً لسنا عارفين بكافة أسرار الوجود، إلّاإننا نعلم كلما تكاملنا على صعيد العلم والمعرفة تكشفت لأعيننا حقائق أنصع عن نظام الوجود وما ينطوي عليه من جمال وروعة، وعليه فلا مبرر لأن يمارس ذلك المهندس الماهر أدنى عشوائية وظلم بحقنا.

إنّ وجودنا بأسره نحن البشر الذين نعيش على سطح الكرة الأرضية ليس إلّاكقطرة ماء فى فم طائر، فما عسى تأثير هذه القطرة على محيط لو حلق هذا الطائر وقذف بتلك القطرة؟ وعليه فإننا لم نخلق لنؤدّي خدمة لذلك الخالق العظيم، بل هو الذي خلقنا لإسعادنا طبعاً لسنا بصدد الحكم بأنّ أيّاً من هذين النمطين من التفكير هو

سر الوجود، ص: 55

الصائب والصحيح من وجهة نظر الاستدلال الفلسفي، ونوكل هذا إلى الأبحاث القادمة.

والمراد فعلًا هو أي من هذين

النمطين من التفكير (بغض النظر عن الاستدلالات الفلسفية» يمكنه أن يلبي حاجاتنا في تحقيق الطمأنينة الواقعية، وأي منهما يقذف بنا في عالم من التشاؤم وسوء الظن واليأس والملل والضجر والاحساس بالوحدة والغربة؟

الجواب واضح على هذا السؤال.

فهل نستطيع والحال هذه أن نكون غير مكترثين في اختيار واحد من هذين النمطين الفكريين رغم خطورة دورهما في صنع مصيرنا وتعيين عاقبتنا، أم هل يسعنا التغاضي عن أدلة أنصار كل نمط فكري بشأن عالم الوجود؟

ونختتم هذا البحث بالعبارات الرائعة التي أوردها الطبيب والجراح المعروف آرنست آدولف:

«لقد أدركت بعد هذا الخزين من التجارب أنّ عليَّ منذ الآن فصاعداً أن اعالج جسم المريض باستعمال الوسائل الطبية والجراحية كما عليَّ أن أداوي روحه من خلال تقوية إيمانه باللَّه، فاعتمادي على الأدوية والعلاج والإيمان باللَّه إنّما يستند إلى المباني العلمية ...

وقد تزامنت تجاربي واستنتاجاتي هذه مع ظهور نوع من الصحوة في عالم الطب، والتي تتمثل بالتفات الأطباء للعامل النفسي للمرضى.

سر الوجود، ص: 56

مثلا ثبت اليوم لدى 80% من المرضى الذين يقيمون في المدن الأمريكية المهمّة والذين يراجعون الأطباء بعض العوامل النفسية المهمّة، و ليس لنصف هؤلاء أي عارض بدني يدل على مرضهم، لابدّ من الالتفات هنا إلى أنّ الأطباء يرون هؤلاء الأفراد الذين لا يعانون أي مرض عضوي هم مرضى حقّاً، لا أنّهم متمارضون ...

ويرى علماء النفس والأطباء أنّ أهم أمراضهم تكمن في الذنب والضغينة وعدم التحلي بالعفو والصفح والخوف والاضطراب والفشل والحرمان وعدم العزم والإرادة والشك والترديد والكآبة، لكن لسوء الحظ فإنّ بعض أطباء النفس حين يتحرون أسباب هذه الأمراض فإنّهم وبسبب عدم إيمانهم باللَّه لا يتطرقون إلى هذه القضية أبداً» «1».

حياة جوفاء وأليمة

هل سمعتم لحد الآن بمثل هذه القصة

سر الوجود، ص: 59

كل

شي ء من الدنيا سماعه أعظم من عيانه، وكل شي ء من

الآخرة عيانه أعظم من سماعه أمير المؤمنين علي عليه السلام «1»

يقال أنّ هناك فراغاً رهيباً في مركز كل ذرة، أي تعوم أجزائها وقطعاتها، ويؤكّد عالم الذرة المعروف «البروفسور جوليو» لو استطعنا تسليط ضغط معين على بدننا بحيث تزول كل تلك الفراغات من الذرات لأصبحت هياكلنا على هيئة ذرة غبار لا يمكن رؤيتها إلّا بالمجهر! وبالطبع فإنّ وزن هذه الذرة من الغبار 72 كيلو غرام! وعلى هذا فلو كان هناك جهاز للكبس بحجم الكرة الأرضية وحاولنا مثلًا كبس هذه الكرة لأصبحت جميع هذه الأراضي الشاسعة والقصور والكنوز والمزارع العامرة والبساتين المخضرة والمعادن والمصادر الجوفية وبالتالي جميع الكرة الأرضية بمثابة كرة صغيرة يصعب تصورها والتصديق بها.

كأنّ كل شي ء متعلق بعالم المادة له نفس وضع الذرة، فهو ضخم رائع من بعيد وإذا اقتربت منه بدا لك أجوفاً إلى الحد الذي لا يسمع في جوفه اللامتناهي سوى انعكاس وقع أقدامنا تتّجه نحو هدف عبثي ومجهول ومهما نكن متشائمين فإنّنا لا نستطيع حمل أقوال عظماء الدنيا، الذين شكوا عدم شعورهم بالسعادة والموفقية حين نالوا أهدافهم وظفروا بضالتهم، على الرياء والنفاق، فمن يضمن أننا

سر الوجود، ص: 60

سوف لن نكون مثلهم لو سرنا على ذات الخطوات؟ ولاسيّما إنّنا جرّبنا ذلك في بعض الأمور، هلم بنا الآن لنسمع من «وَزير» نماذج لهذين الأفقين الجميلين وفي ذات الوقت الأجوفين «... أتصدقون أنّه في الوسط الذي يضطرب فيه قانون العرض والطلب فإنّ القبول في الجامعات يبدو شبيها بالفوز بجائزة نوبل، أو على الأقل الجوائز النفيسة المتعلقة باختبارات الحظ والوزن والثراء، ففي مثل هذه ليس هناك شي ء أعظم متعة لذلك الفتى الذي اجتاز الإمتحان أن يرى

اسمه في الصحيفة ضمن أسماء أولئك الأفراد المقبولين وأنّه سيرد الجامعة!

كنت أعتقد لو حدث مثل هذا الأمر فسوف لن يكون هناك ما يعكر صفو حياتي، آنذاك سيتألق كوكب سعادتي في سماء الحياة وستبتسم لي جميع الأشياء فلن أعاني حينها من حاجة أو نقص، كنت أعتقد أنّ للجامعة لذّة ونكهة خاصة لا يمكن الاصطلاح عليها سوى بالسعادة والموفقية، ولم أكد أدخل الجامعة حتى شعرت بأنّها هي الاخرى من المفردات الطبيعية للحياة ولا تنطوي على أيّة لذّة خاصة، بل هي مرحلة جديدة من المشاكل والصعاب التي نعاني منها في سائر مجالات الحياة وضغوط الاستاذ ليست بأقل وطأة من ضغوط الأب! فقلة الكادر التدريسي وأزمة وسائل التعليم والمعضلات المالية التي تقصم الظهر وطغيان الغريزة الجنسية وسائر أنواع الحرمان كانت تمثل أمام ناظري كجبل أشم يصعب تسلقه، كنت أظن أنّ نجاحي الباهر وسعادتي الحقيقية إنّما تكمن في الحصول على الشهادة بعد أن بذلت هذه الجهود المضنية من أجلها، على غرار ذلك البطل الذي

سر الوجود، ص: 61

يشعر بالنجاح حين يتسلق قمة أفرست.

نعم، كان ينبغي لي أن أتجاوز كل تلك المشاكل التي تحيط بي وهي بمثابة جدران القبر في الليلة الأولى وهي تمارس ضغوطها على روحي وجسمي فلا أفكر إلّافي الخلاص منها، ويبدو أنّ هذه الخيالات لم تكن أحسن من سابقتها قبل الجامعة، رغم أنّي كنت أشعر هذه المرة بأنّ كل شي ء سيختلف، لأنني كنت لحدّ تلك اللحظة أعيش على هامش الحياة، حيث كان الجميع ينظر إليَّ باجلال وإكبار، حيث كنت أواجه بالترحاب في أي مجلس حللت، كانت تتعالى الأصوات سيادة الدكتور، سيادة المهندس! ... ومن هنا نسيت كل جهودي وأتعابي في الماضي بعد أن نلت هذه المكانة.

كانت الخطوة التالية

بعد تخرجي من الجامعة هي البحث عن العمل، غير أن جميع الأبواب كانت موصدة بوجهي، كنت أستدين بعض الأموال لأشتري الصحيفة فاسارع قبل كل شي ء لمطالعة إعلانات الاستخدام، مع ذلك لم أعثر على عمل مناسب.

كنت أشعر كأنّي تاجر كبير قد أعد مختلف السلع والبضائع الثمينة، إلّا أنّها تكدست في المخازن فليس هناك من يشتريها، فكنت أحدث نفسي: هل عميت عيون الناس بحيث لا يرون كل هذه البضاعة الفاخرة؟

هنا ترحمت على أيّام الجامعة حيث المرح واللعب وعدم

سر الوجود، ص: 62

المسؤولية، أمّا الآن فالجميع من قبيل الأب والأم والأخ والكاسب والبقال وصاحب الحمام كان يتوقع من «الدكتور» والحال لم أكن أملك رغيف الخبز! كانت البطالة بمثابة الإرضة التي تنهش بدني وتنخر عظامي، فقد كنت مضطراً للاستقراض الآخرين حتى من أجل كي ملابسي وصبغ حذائي ليبدو لامعاً كوجهي الذي كنت أحرص على حفظه، كنت لا أنفك عن مراجعة الدوائر والمؤسسات، فكان هذا يجيبني لقد اكتمل الكادر ولا نحتاج إلى أحد، وذلك يقول ليتك أتيت قبل يومين فقد كنّا بحاجة ماسة إليك، وثالث يقول اشيع أنّ الوزارة الفلانية تروم استحداث دائرة فاذهب وسجل إسمك لعل القرعة تقع عليك فتكون من ضمن العاملين فيها.

و هكذا كنت أقضي أصعب الأيّام، لم أذكر فترة عانيت فيها كتلك الفترة العصيبة، فكنت أهمس لنفسي: هل يوجد من هو أشقى منّي في المجتمع؟ أين ينبغي لشخص مرموق مثلي أن يلوذ؟ كأن بيوت المدينة أقبية للقبور، وهذه السيارات الصاخبة توابيت وهؤلاء الأفراد الذين يتسكعون في الطرقات والشوارع أجهزة آلية منحت أرواح الشياطين وقد سئمت هذه القبور، فهي تفتقر لأدنى رحمة وعاطفة كأنّ غباراً غليظاً ملبداً بالحزن والاسى وقد نزل من السماء وغطى كل شي ء، لقد

أصبح عمري ثلاثين سنة ولامن عمل ولا بيت ولازوجة ولا طفل ولاحياة طبيعية، لقد ذهبت تلك الجهود دون النتيجة ومازال المستقبل مرعباً غامضا! بل إنّ الخوف والهلع الذي يسيطر علي من جراء المستقبل ليفوق أضعاف ماكنت أعانيه بالماضي.

سر الوجود، ص: 63

وأخيراً أسعدني الحظ بالعثور على العمل وقد شغلت عدّة مناصب حساسة بسبب استعدادي الذاتي وإمكاناتى الجبارة، حتى أصبحت وزيراً لإحدى الوزارات المهمّة وقد زودت بكافة الإمكانات ومنحت كافة الصلاحيات فكدت أطير فرحاً، وهنا إعتقدت أنّ السماء قد لبست حلة جديدة، ولا مجال للحديث بين فرق هذه المرحلة عن سابقاتها، فقد كان الماضي ضرباً من الخيال والوهم، أمّا الآن فأنا أعيش الحقيقة العينية.

مضت مدّة حصلت على دار فخمة جميلة، كما اقتنيت سيارة رائعة، تزوجت ورزقت بولدين لطيفين، كما جنيت أموالًا طائلة، بالتالي تمكنت من الظفر بكافة الوسائل والإمكانات، ولكن ما الفائدة؟

لقد وقفت اليوم أمام المرآة لأرى الشيب قد دبّ في نصف شعري، لم أكن أشعر آنذاك بالراحة، لم ينقطع هاتف الوزارة ولو لحظة واحدة؛ الأمر الذي كان يزعجني ويسلب راحتي.

كانوا يوقظونني أحياناً منتصف الليل للقيام ببعض الأعمال المهمّة، فكنت أنهض متثاقلًا وأنا أشعر بالغثيان، كان عليَّ أن أسارع إلى الوزارة لأحل أية مشكلة ذات صلة بالحوادث التي تقع في البلاد، والأسوأ كنت أشعر بالتعب والإرهاق أحيانا فآمر البواب بأن يزيح

سر الوجود، ص: 64

من أمامي الملفات المتراكمة والمتداخلة التي كانت تشبه عظام الأجساد المشرحة لمختلف الأفراد وهي تكيل السب والشتم بلسان حالها، كما آمره بغلق باب غرفتي بوجه الأفراد الحيارى الذين تجشموا العناء منذ أسابيع ليحصلوا على وقت لمقابلتي، وقد ملوا الجلوس على بابي.

ماذا أفعل؟ تعبت، دع الآخرين ينظرون إلى باب مكتبي ويلعنون هذا الجالس فيه،

الذي خرج تواً من بؤسه وتعاسته وقد نسي كل شي ء.

ليقولوا ماشاءوا فأنا تعب مرهق، وهل الإنسان إلّاعظم ولحم ودم.

كانت لحظات سكوت وصمت عابرة، كنت أتطلع إلى المنفضة وأنا أتابع التدخين علّه يخفف من تعبي، وأتأمل كل ذكريات الماضي ...

آه، كم كانت أيّاماً جميلة ولم أكن أقدّرها، فترة الجامعة الرائعة، بل الفترة الأروع التي سبقتها، لو لم أكن أملك أي شي ء سوى الطمأنينة، الطمأنينة والاستقرار ...

لست بحاجة إلى كل هؤلاء الأفراد من حولي، ولا إلى هذا العدد من المراجعين الذين لا يعرف صادقهم من كاذبهم، كأنّهم يرون أنّهم اشتروني، وكأنّي كنت يوماً زميلًا لهم في الدرس أو هناك علاقة معرفة يتوقعون عدم ردي لأي من طلباتهم، وعليّ أن البي كل حاجاتهم!

سر الوجود، ص: 65

إنّهم لا يعلمون أن كل توقيع لأي من هذه الملفات التي لا أطيق مطالعتها بمثابة خنجر يغرس في قلبي، حقّاً أنّ مصيري ومصير هؤلاء الأفراد ربّما يتوقف على حركة القلم التي يصطلح عليها بالتوقيع.

يزعم كل من يراجعني أنّ لديه عملًا ضرورياً ولابدّ أن يراني ومن هنا لا يتوقف الهاتف عن الرن لاستلام الأعمال الضرورية كانوا يوقظننوني من النوم منتصف الليل، على أنّ حوادث ضرورية جدّاً قد وقعت، وكأنّي الشخص الوحيد الذي تخلو حياتي من الأعمال غير الضرورية، لم أكن آمل بالرجوع إلى البيت في كل ليلة كنت أغادره فيها، لم يكن لدي برنامج للاستراحة ولا للاستجمام، ولا للتحدث مع الزوجة والأطفال والأصدقاء، كل يوم جلسة وندوة واجتماع و ....

سيقدم اليوم الوفد العسكري الرفيع المستوى الفلاني، وغداً الوفد السياسي الكذائي، وبعد غد الفريق الاقتصادي و ... وعليّ أن أرتدي الزي الرسمي لاستقبال هذه الوفود، أكاد أتقيى ء من هذه الرتابة والتكرار.

لقد تعبت حقّاً وأرهقت و ...

قلبي يؤلمني

وقرحة المعدة والاثنا عشري تقض مضجعي.

لقد قال الطبيب اليوم من المحتمل أن أكون مصاباً بسكر الدم، لقد تلفت أعصابي من كثرة تناول الأقراص والحبوب! إنّ غرفتي مليئة بالأدوية وكأنّها صيدلية، يقال أنني أعاني من كثرة العمل المتعب، بالمناسبة كم هي تافهة مثل هذه الحياة، وكلما تقدمت أكثر بدت لي أكثر تفاهة وعبثية.

سر الوجود، ص: 66

كأنّي أتجه في دهليز مظلم ومرعب نحو ضالة مجهولة فلا أسمع سوى وقع أقدامي في هذا الوسط الخالي!

ليتني أعود إلى الماضي قليلًا، لا، بل ليتني لم أولد ...

يالها من حياة حمقى ... ما الذي أتى بي إلى الدنيا؟ هذا أيضاً سر ...

كانت هذه صورة من الحياة المادية التي تنطوي من بعيد على صورة جذابة، كانت تشتمل على كل شي ء ولا تفتقر إلى شي ء.

و عليه يتضح أنّ البحث عن الحياة الواقعية لابدّ أن يتمّ في عالم يفوق عالم المادة والخبز والماء والمقام ولا ينبغي أن تكون النعم واللذائذ المادية هي الهدف فيها، بل ننشدها لتكون وسيلة من أجل حياة أرفع وأنبل.

موقعنا في عالم الوجود

إنّ غرقنا في الحياة اليومية لايسمح لنا عادة بالتفكير في وجودنا من حيث الكم والكيف والموضع الذي نشغله في هذا الفضاء الواسع

سر الوجود، ص: 69

يسير وجودنا من جانبيه نحو «العدم».

لوتصفحنا نبذة من سيرة حياتنا السابقة لانتهينا سريعاً إلى العدم، 20 سنة، 30 سنة، 50 سنة أو على الأكثر 70 سنة يبدو أننا لم نكن شيئاً مع الفارق الذي لدينا الآن وما سبقه، مستقبلنا هو الآخر لا يتجاوز هذه المدة ولا يبدو بعده (ظاهراً) سوى ظلام العدم، هذا من جانب.

ومن جانب آخر لو تسلقنا مركب الفكر السريع والمجاني وعدنا قليلًا بمسيرة قافلة البشرية إلى الوراء فلا يمر أكثر من بضعة آلاف

سنة ليغطى فضاء هذه المسيرة بالغبار المبهم، فلا نرى سوى أشباح تأتي بسرعة إلى هذا الوادي فتمضى لتترك بعض الآثار المتواضعة، كأنّهم يرون أنفسهم ركّاب مهربين يسعون لاخفاء أنفسهم من نقاط تفتيش التاريخ!

ثم نعود بسرعة ملايين السنين- وهي المدّة التي قد لا تكون أكثر من لحظة بالنسبة لعمر عالم الوجود- فكأنّنا آنذاك قد وطأنا الدهليز الرهيب للعدم (عدم الإنسانية) وهناك تبدو بوضوح بحار ظلمات العدم، فلا نجرأ على المضي قدماً، وإذا مضينا فلا جدوى لأنّ السفر في اللاشي ء ليس له من نتيجة طبيعية سوى اللاشي ء، وإن كنّا سابقاً

سر الوجود، ص: 70

شيئاً فلابدّ أننا كنّا تراباً وحجراً «1».

السفر إلى المستقبل أصعب وأعقد من ذلك، حيث يتعذر التكهن بالأوضاع لما بعد مائة سنة ولو استعنا بأعظم الحاسبات الالكترونية وطاقات وخبرات المتخصصين من العلماء ذوي التجربة، فالمركب السريع لا يستطيع سوى السير ببطء في هذا الاتجاه وسرعان ما يتوقف عن العمل وكأننا والجماعة البشرية قد وقفنا على سفح جبل ارتفعت قمته من جانب إلى عنان السماء لتغوص وسط هالة من السحب السوداء، ومن جانب آخر قد انتهى إلى وادي عميق مظلم ليس للعين من سبيل إليه.

فليس لدينا وضوح عن بداية مسيرتنا ولاعن مستقبلها البعيدالطويل، ثم هل نحن وسائر أبناء البشر أول من دخل وادي الحياة؟

لا نرى الاجابة بالإيجاب إلّاقمة الأنانية والتسرع وعدم الاحتياط و ... وهل سنكون آخر من جاء إلى هذا العالم وبنا ستختتم هذه السلسلة الطويلة اللامتناهية؟

الجواب بالإيجاب هنا هو الآخر قد لا يكون أفضل من سابقه.

من يدري لعل هناك الآلاف أو الملايين بل الملياردات من أنواع الأفراد- كالبشر أو أفضل منه- قد وردت هذا العالم وفارقته.

سر الوجود، ص: 71

و من يدري أنّ المستقبل سيكون كذلك

حيث سيأتي الملايين من البشر فيعيشون ويرحلون ولا نكون سوى حلقة من حلقات هذه السلسلة الطويلة.

من جهة أخرى هنالك ملياردات الكواكب التي يشاهدها الإنسان بالعين المجرّدة، ولعل ما لا يراه أكثر وأعظم، فهل تقتصر الحياة التي تتصف بها الكائنات على كرتنا الأرضية؟ ليس هنالك من عقل يمكنه قبول هذا الاحتمال، وعلى ضوء حساب الاحتمالات الرياضية فإنّ ملايين الكواكب المشاهدة بالعين لابد أن تفيض بالحياة والحركة «1».

بالمناسبة، كيف يعيش سكنة سائر الكرات؟ هل لهم معارك وحروب وسفك دماء كحياتنا، هل لهم على سبيل المثال فيتنام قاتلوا عشرات السنوات عبثاً، أم لا تجد مفردة باسم الحرب في قاموسهم أبداً، فهم يعيشون كملايين خلايا البدن بسلام وصلح مع بعضهم البعض الآخر؟ لا أحد يعلم إذن، فلو فكرنا قليلا وعدنا إلى أنفسنا لرأينا أنّ ما تصطلح عليه بالعلم البشري وقد أعددنا مكتباتنا التي تضم ملايين الكتب، هو ليس أكثر من شرح لجهلنا، أو لعلمنا بالأمور الجزئية الواضحة التي تشبه إلى حد بعيد شعاع ضئيلًا وسط صحراء دامسة.

ولعل حوض صغير من الحبر يكفى لإعادة كتابة وتدوين كافة العلوم والمعارف البشرية والتي سطرت من قبل ملايين العلماء في ملايين من الكتب، بينما قد لا تكفي كل محيطات الدنيا لو كانت حبراً لكتابة أسرار الوجود وما ضمه من كائنات وما بعد في أعماق

سر الوجود، ص: 72

السموات وما خفي في الماضي والمستقبل «1».

وعلى هذا الأساس ستصدق أنّ «النفي» في مثل هذا العالم وفي ظل هذه الأوضاع والشرائط أمر صعب إن لم نقل أحمق.

لابدّ من التأني في الحركة والخضوع والتواضع، بعبارة أدق لابدّ أن نلتفت إلى صغر حجمنا، كما لابدّ أن لا نتقوقع في الدائرة الضيقة لحياتنا، وعلينا أن نجهد أنفسنا من أجل

الخروج من هذه الدائرة الضيقة، فنفكر أكثر ونطالع أكثر.

فلا نقنع ونفتخر بالمراوحة في مواصلة هذه الحياة العارية واليومية التي تحمل حالة التكرار والرتابة، ولابدّ أن ينصب جهدنا علي كيفية تجاوز هذه الحالة فنعتز بما نتقدمه من خطوات خارج إطار هذه الحياة، فنفكر في حل تلك الأسرار المعقدة (على أساس قدراتنا ومهاراتنا) مهما كانت بسيطة ومتواضعة.

وبالطبع فإنّ هذا اللون من التفكير بشأن مالا نعلم، يمنحنا القدرة على بحث وتحليل سلسلة من الحقائق خارج الدائرة المذكورة، فالواقع هو أنّ هذه المرحلة هي بداية الطريق نحو المصير وحل الاسرار التي تنطوي عليها حياة الإنسان في حركة الواقع.

سر الوجود، ص: 73

كيف نفكر وبم نفكر

اشارة

إنّ البؤس والشقاء ليس معلولا للحظ والطالع، بل وليد سوء التفكير

سر الوجود، ص: 75

«أفضل العبادة الفكر». «1»

أمير المؤمنين علي عليه السلام

أحياناً نتساءل: لِمَ نفكر؟

ما هو الخير الذي جنيناه من هذا التفكير؟ بل كل بلاء وعناء إنّما يصيبنا من جراء هذا التفكير في شؤون الحياة والوجود والمصير والعاقبة وما إلى ذلك.

فهل للمجانين من تفكير وهم على هذه الدرجة من السرور والراحة؟ بل هم على هذه الدرجة من النشاط والحيوية بسبب عدم التفكير، إنّهم يرون العقلاء يشكلون عبئاً ثقيلًا عليهم ولسان حالهم يقول: ياله من عالم رائع عالم الجنون لو نأمن من عدم تسلل العقل إلينا، فما أحرى العقّال أن يلصقوا أنفسهم بذلك العالم فيمارسون حياتهم بعيداً عن التفكير والحساب.

لكن وعلى هذا الأساس فإنّ العالم الأروع والأبعد قلقاً واضطراباً من عالم المجانين هو عالم الشاة، ومن هنا ترى عليها علامات السمنة والترهل، الأجهل من ذلك الخشب والحجر وهذه الجدران المحيطة بنا فهي تفتقر حتى إلى دماغ الشاة الضئيل، كما تفتقر إلى نظرها العبثي والذي لا طائل من ورائه، وعليه

لابدّ لنا أن نتمنى هذه الحياة ونحسدها عليها.

سر الوجود، ص: 76

كلا! ليس الأمر كذلك، فلسنا نفخر بأن تكون حياتنا على غرار ما عليه المجانين أو الحيوانات أو قطع الحجر الخالية من الروح، وليس سعادتنا بعدم الشعور بالمعاناة والأذى بل بالعكس لابدّ أن نتحلى بالشعور والإدراك وإن كبدنا هذا الشعور بعض الشدائد والصعاب، فلولا الشعور والفكر والإدراك لتحجر الإنسان وأخذ يراوح في مكانه ولعاش حالة الذل والهوان على الدوام.

الواقع أنّ جميع الشدائد التي تصيب الإنسان هي وليدة الهروب العابث من التفكير فى الواقعيات وإدراكها، فعملية خاطئة واحدة لا تستند إلى التفكير قد تؤدّي إلى تحطيم الدنيا برمتها، فاليوم تصرف تقريباً نصف ثروة العالم ويهدر ما يعادلها من الطاقات الإنسانية للبشرية التي تعيش على الأرض في هذا المجال أي في كيفية القضاء بصورة أسرع على نسل البشرية! ففي عالمنا المعاصر ليس فقط نصف هذه الطاقات الإنسانية بصورة جنود وصنّاع سلاح وخبراء حروب ومشرفين لوجستيين ومخترعين ومنتجين للصناعات الجبارة المدمرة فحسب، بل النصف الآخر بدوره قد سخره ليدفع به نحو الموت والعدم، والأمر أشبه بمن يشتري بنصف مرتبه مواد سامة يدخرها للقضاء عليه، أو يهبها لمن فوقه ليقتله.

والحق لو عاشت الإنسانية التفكير لما أصبحت الدنيا بهذا الشكل، من المسلم به أنّ التفكير لا يقود إلى الجريمة والقتل أبداً، بل مجانبة

سر الوجود، ص: 77

التفكير وتحكيم العواطف الطائشة هي التي تخلق مثل هذه الحوادث، ومن هنا يندم الإنسان على ما يبدر منه من أعمال طائشة حين يهدأ ويفكر.

وعليه فلابدّ أن نقرّ بأنّ أهم وظيفة لكل إنسان في الحياة هي التفكير، فالتفكير هو السبيل الوحيد لحل جميع المشاكل وتحرير الإنسان من العبودية والقيود والأغلال وعلاج كافة أمراضه الاجتماعية، ومن هنا صرحت

بعض الروايات الاسلامية بأنّ التفكير أفضل العبادة، وتفكر ساعة خير من عبادة ألف سنة.

الصدارة في التفكير:

قطعاً الشي ء الأول الذي يجب علينا التفكير بشأنه هو: من أين ابتدأ وجودنا؟ من هو مُبدى ء هذا العالم؟ وكيف طوينا هذه المسيرة الطويلة؟

ليس هناك موضوع قبل ذلك ينبغي لنا التفكير فيه، فالتعرف على مُبدى ء الوجود وحل هذا اللغز من شأنه أن يساعدنا على التعرف على سائر الأسرار.

قد يقال حسناً لابدّ من استعمال قوّة الفكر، لكن ألا تنصحنا بعض المدارس الفلسفية الحديثة (كالبراغماتية) بأنّ الاصالة بل الوجود بالنسبة لكل ظاهرة إنّما يتوقف على نتائجها؛ أي أنّ ما لا نتيجة له في حياتنا فلابدّ من القول بأنّه أصلًا ليس بموجود، أو لا فرق بين وجوده وعدمه في ميزان فكرنا، وما الضرورة فى التعرف على مُبدى ء الوجود

سر الوجود، ص: 78

من حيث استمرار حياتنا الفردية والاجتماعية، أو ليست بعض الشعوب كالشعب الصيني يعيش الحياة دون حل هذه المسألة، ولعلهم يعيشون بصورة أفضل من حياتنا، ولم يكلّفوا أنفسهم عناء المطالعة والاستغراق في هذه القضية المعقدة.

وهنا نقول إنّ من يحاول بهذا المنطق التنصل عن التفكير بشأن هذه الحقيقة فهو ينسى موضوعين:

الأول: إنّه ليس هنالك نتيجة أسمى من إدراك الواقع في أي بحث ودراسة بشأن مختلف القضايا، وبعبارة أخرى فإننا نريد العلم من أجل العلم، ونبحث الحقائق بهدف فهم واقعيتها، لا فقط لما لها من أثر في حياتنا (عليك بالانتباه والدقّة)، فالعلم هو الضالّة العظمى للبشر وإدراك واقعيات عالم الوجود هو آخر أهداف البشرية وتطلعاتها، ومن هنا نشاهد على مدى التاريخ البشري سعة الجهود والمساعي الجبارة التي بذلها الإنسان من أجل إدراك الحقائق، كما نشعر بدورنا بالدافع الباطني القوي الذي يسوقنا نحو تحقيق هذا الهدف دون أن نرى

أنفسنا مسؤولين عن ارتباط العلوم بحياتنا اليومية، فهل كل هذه الجهود والمساعي التي تبذل من أجل الوقوف على أسرار المجرات والمنظومات وكيفية ظهور العوالم البعيدة بسبب الأثر الذي تلعبه في حياتنا اليومية؟ رغم إننا وفي ظل الظروف الراهنة لا نرى أي تأثير محسوس لها في حياتنا، وهكذا الجهود المضنية التي بذلها العلماء لسنوات مديدة من أجل التعرف، على أسرار الحيوانات والحشرات والمدنية العجيبة التي تحكمها، فهل لهذه الأمور من تأثيرات على

سر الوجود، ص: 79

حياتنا المادية اليومية؟!

لماذا لا يشعر علماء الفلك والحشرات رغم هذه الجهود بالتعب؟

قطعاً لأنّهم يرون أنّ إدراك أسرار الخليقة (مهما كانت) تعد أعظم جزاء يتلقونه تجاه زحماتهم وجهودهم، ومن هنا فهم يشعرون بالفخر والاعتزاز بعملهم، فاذا كنّا نفكر بهذا الأسلوب تجاه الموضوعات البسيطة من عالم الوجود، فهل يسعنا التحفظ عن التفكير بشأن أعظم وأكبر مسألة تتعلق بظهور هذا العالم، أي بشأن المُبدى ء الأول لعالم الخلق (على فرض عدم أثره في حياتنا ومصيرنا)؟

الثاني: إنّنا نستنتج من الأبحاث السابقة أنّ لهذه المسألة أثراً عميقاً في حياتنا الفردية والاجتماعية والمادية والمعنوية ويرتبط بها مصيرنا إلى حدّ بعيد، كما أنّ إصلاح الفوضى القائمة وتجاوز الأزمات التي أفرزتها حياة المكننة لا يمكن ولا يتمّ إلّامن خلال الاعتقاد بذلك المبدأ.

كما لا تتحقق طمأنيتنا الروحية وتجدد قدرتنا المعنوية تجاه مشاكل الحياة دون الاستناد إلى ذلك المبدأ، وعليه فكيف يقال ليس هنالك من أثر لحل هذه المسألة في حياتنا اليومية ولابدّ من تنحيتها وعدم إرهاق الفكر بشأنها؟

لايمكن الاكتفاء بالاعتماد على الحس بمفرده

اشارة

إنّ حواسنا تضلّنامالم تستند إلى العقل

ذريعة أخرى مهمة:

الذريعة المهمّة الأخرى التي ذكرها البعض بهدف الهروب من التفكير بالمُبدى ء الأول لعالم الوجود وهي:

لعلنا نقرّ بأنّ حل هذه المشكلة يساعدنا في حل الكثير من المسائل، إلّاأنّه من المؤسف له هو تعذر حل هذه المشكلة، وبعبارة أخرى ليس لدينا من سبيل لنفي أو إثبات وجود اللَّه، وذلك لأنّه:

ليس هنالك من قيمة علمية تثبت لشي ء ما لم يخضع للإختبار والمشاهدة، فما لا يمكن إخضاعه للتجربة يتعذر إثباته، ولما كان إثبات أو نفي اللَّه غير متيسر بالتجربة يتعذر إثباته، ولما كان إثبات أو نفي اللَّه غير متيسر بالتجربة والمشاهدة، فلا بد من الاعتراف بعدم إمكانية حل هذه المسألة بالأسلوب العلمي، فلا ينبغي إزعاج الفكر بذلك!

بعبارة أخرى

إنّ البحث بشأن «المُبدى ء الأول للوجود» و «خالق العالم» وإن كان من الأبحاث الشيّقة والقيّمة، غير أنّ المؤسف له هو أنّه خارج عن دائرة حسّنا، ولا يرى العلم اليوم من قيمة للأشياء الخارجة عن الحس وذلك لعدم وجود سبيل لإثبات ذلك.

وبصورة عامة فإنّ الخوض بما هو خارج عن دائرة الحس إن لم

سر الوجود، ص: 84

يكن خطيراً، فعلى الأقل مدعاة للقلق والحيرة، فما أحرانا أن ننأى بأنفسنا بعيداً عن هذه الحيرة، وما أكثر الأفراد الذين ولجوا هذا الوادي فلم يتمّوا نصفه حتى عادوا وهم حيارى، فقد اعتدنا التعامل في حياتنا على ما يرتبط بحسّنا، وليس لنا تعامل مع الوجودات الخارجة عن دائرة المشاهدة والحس والاختبار!

و لعل هذا هو السبب في كثرة أنصار وأتباع المدرسة الفلسفية الحسّية.

وأتباع هذه المدرسة من قبيل «جان لوك» الانجليزي (أحد فلاسفة القرن السابع عشر) الذي يعتبر من زعماء المدرسة المذكورة وتلامذته من قبيل (ديفيد هيوم) و (جورج بركلي) وهما من فلاسفة

القرن الثامن عشر، يرون أنّ الحس هو أساس جميع معلومات الإنسان، ولا يرون من إصالة لما خرج عن هذه المنطقة.

المدرسة الفلسفية البراغماتية، وهي إحدى المدارس الفلسفية الحديثة التي ظهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول للقرن العشرين بزعامة بعض الفلاسفة مثل: (جان ديوئي) و (وليم جيمز) الأمريكي، هي فى الواقع صورة أخرى للمدرسة التي تعتقد باصالة الحس.

أمّا «باتلر» مؤلف كتاب المدارس الفلسفية الأربعة على غرار البروفسور «جايلدر» مؤلف كتاب «البراغماتية الامريكية والتعليم والتربية» فقد تعرض للعالم من وجهة نظر البراغماتية فذكر له عشرة خصائص، أحدها كالتالي:

سر الوجود، ص: 85

«يرى البراغماتيون أن ليس للعالم من واقع سوى بالتجربة، فهذه الفلسفة فلسفة طبيعية وتجريبية، حيث تعتبر أمراً حيوياً وفي ذات الوقت متغيّر يشكل أساس العمل».

وعلى ضوء هذه الأساليب الفلسفية الحديثة كيف يمكن البحث عمّا وراء المحسوسات كالخالق العظيم؟

وبصورة عامة فإنّ المسائل الحسّية إنّما تستند إلى مقياس واضح وهو التجرية والمشاهدة والاحساس الذي يتفق عليه الجميع وليس للخطأ من سبيل إليه، بينما يسلب منّا المقياس الذي من شأنه تمييز الحق من الباطل فيما إذا تجاوزنا المسائل الحسية والطبيعية، حيث تكون في مثل هذه الحالة أشبه بالمهندس الذي يريد تحديد مساحة أرض وأبعادها دون أن تكون لديه أيّة وسيلة، وهذا ما لا يمكن أبداً، وزبدة الكلام فإنّ هذا الطريق مغلق ولا ينبغي أن ننطح برأسنا هذا الجدار (هذه هي خلاصة آراء أتباع المدرسة الحسية).

وللوقوف على مدى مجانبة هذا النمط من التفكير للحقيقة فلابدّ من تسليط الضوء على بعض المواضيع.

الحواس لوحدها تخوننا:

قد يبدو للوهلة الاولى أنّ المحسوسات هي أوضح معلوماتنا، إلّا أنّ أدنى تمعن يشعرنا أنّ الأمر ليس كذلك، ولو اكتفينا في المسائل

سر الوجود، ص: 86

الفلسفية وحتى

المسائل العلمية بالاعتماد على المحسوسات لوقعنا قطعاً في ضلال مبين فقد شحنت كتب علماء النفس بالأخطاء التي تعرض الحواس بما فيها الباصرة، حيث ذكروا عشرات الأخطاء للعين.

فما تردده من القول «لا أصدق حتى أرى بعيني» يفيد أنّ العين من أوثق السبل لإدراك الواقعيات وهذا من أكبر الأخطاء، وذلك لأننا نرى بعيننا عدّة أشياء لا واقع لها؛ الأمر الذي يكشف عن إشتباه العين أو عدم قدرتها على الإدراك، على سبيل المثال لو أمسكنا بمشعل وجعلنا ندوره لرأيناه على شكل دائرة من النار، والحال إننا نوقن بعدم وجود مثل هذه الدائرة في الخارج، ولم يخدعنا بذلك سوى العين، وهكذا الحال بالنسبة للاعلانات الضوئية التي ترينا مختلف الأطياف والأمواج الجميلة بواسطة مصابيحها الملونة، في حين لا واقع لتلك الأطياف وكلها ناشئة من أخطاء الباصرة، فلو كانت أعيننا ترى الأشياء على حقيقتها فليس هنالك من وجود لهذه الألواح الجميلة، بل هذه السينما وأفلامها الصاخبة إنّما تتمّ على أساس استغلال خطأ الباصرة، لأنّ العين لو لم تخطى ء، فإنّ أفلام السينما ليست أكثر من حفنة صور منفصلة ومتفرقة وليس لها أن تشد إليها الانظار.

ربّما ليس هناك من لم ير منظر السراب من بعيد حين سفره في فصل الصيف، فهو يبدو كأمواج جميلة من الماء وسط الجادة، وحين نقترب لا نرى سوى صحراء قفراء، فيتضح أنّ ذلك كان بسبب انكسار الضوء وخطأ الباصرة، بل كلنا نرى الهروب السريع للقمر من

سر الوجود، ص: 87

خلال سحب الغيوم في الليالي المقمرة، وكأنّه جاسوس يفرّ من مخالب الشرطة، والحال ليس الحركة للقمر، بل السحب هي التي تتحرك وتمر بسرعة، بينما نراها ساكنة والقمر متحرك، وهذا خطأ آخر من أخطاء الباصرة.

و نقرب المطلب أكثر:

الكل يزعم أنّ الموضوع الفلاني

«ملموس» أو إننا لمسنا الحقيقة الفلانية، كناية عن أنّ الموضوع في غاية الوضوح، والحال حس اللامسة هو الآخر زائف، فإن قلت ليس الأمر كذلك، قلت لك: أعد ثلاثة ظروف من الماء، أحدها حار جدّاً (بحيث لا يحرق يدك) والثاني بارد جدّاً، والثالث معتدل، ثم إغمر إحدى يديك لمدّة قليلة في الماء الحار والاخرى في الماء البارد، ثم اغمرهما معاً في الماء المعتدل، آنذاك سترى ما يذهلك حيث ستشعر باحساسين متضادين في آن واحد، حيث تخبرك إحداهما بأنّ هذا الماء الثالث بارد جدّاً، والاخرى أنّه حار جدّاً، وإن جربت ذلك بإصبعين تحصل على نفس هذه النتيجة العجيبة، والحال أنّه ماء له درجة حرارة معينة واحدة.

مثال آخر: ضع إصبعك الوسطى على الخنصر ثم حركهما على وريد صغير في يدك الاخرى بحيث يكون تحتهما، آنذاك ستشعر بوجود وريدين، حيث ستفيد اللامسة أنّ 1: 2، وهكذا سائر الأمثلة، فهل يمكن والحالة هذه الاعتماد على الحس بمفرده؟ أم هل يمكن إلغاء دور الإدراكات الذهنية والعقلية التي من شأنها تصحيح أخطاء

سر الوجود، ص: 88

الحواس ومنع الضلال؟ فمن المسلم به إننا نقول بأنّ الحس قد أخطأ في الموارد المذكورة ومئات الحالات الأخرى من هذا القبيل؛ والأمر هذا من الأحكام العقلية التي تستند إلى ما وراء الحس، والواقع هو أنّ هذا الحكم العقلي هو المقياس والأداة لإصلاح حواسنا وتسديدها فيما يلتبس عليها من أمور.

وعليه فإن قلنا بفقدان قوانين الحس لقيمتها ما لم تخضع لقوانين الذهن فلا نرانا قد جانبنا الحقيقة.

إعترافات الفلسفة الحسية والبراغماتية:

الطريف في الأمر أنّ فلاسفة الحس الذين أسسوا المذهب الحسي قد اعترفوا بأنّ المحسوسات ليست لها واقعية وتفتقر إلى القيمة النظرية، بل يقتصر دورها على القيمة العملية، أي لابدّ من الاعتماد على الحس

في شؤون الحياة كصنع سفينة وإعداد السيارة والماكنة وتشغيل الحقل الزراعي و ... لكن ليس لأي من هذه الإدراكات الحسية أن توضح لنا الحقائق والواقعيات كما هي بحيث يعتمد عليها من حيث المعرفة والاصول النظرية، على سبيل المثال أقر (جان لوك- الفيلسوف الانجليزي وأحد زعماء المدرسة الحسية- عقيدة ديكارت مؤسس الفلسفة العقلية في القرون الأخيرة- بشأن نفي القيمة العلمية للمحسوسات وقال: «ليس من المعقول التنكر للموجودات المحسوسة، إلّاأنّ اليقين بها ليس كاليقين بالمعلومات

سر الوجود، ص: 89

الوجدانية، ويمكن عدها في مصاف الظنون والتصورات من وجهة النظر العلمية والفلسفية، أمّا على مستوى الشؤون اليومية للحياة فلابدّ من اليقين (علمياً) بحقيقة المحسوسات».

والعجيب أنّ بعض أتباع (جان لوك) مثل (جورج بركلي) و (هيوم) رغم أنّهم يرون الاصالة للحس في العلم، إلّاأنّهم لا يرون أيّة قيمة واعتبار للإدراكات الحسية، حتى أنّهم أنكروا الوجود الخارجي لمحسوساتنا.

البراغماتيون رغم أنّهم يبحثون كل شي ء من زاوية آثاره الخارجية ويرون الوجود والعدم لواقع حسي وذهني إنّما يتوقف على تأثيره في حياة الإنسان ومن هنا ينبغي تسميتهم بالفلاسفة التجار لا الفلاسفة الواقعيين، إلّاأنّهم يعترفون بأنّ مسائل ما وراء الطبيعة خاضعة للبحث والدرس، مثلًا، يقول وليم جيمس- وهو من زعماء المدرسة البراغماتية- بشأن اللَّه:

«رغم أن تصوره ليس واضحاً جلياً كالتصورات الرياضية، إلّاأنّ له قيمة عملية على مستوى حياة الإنسان من حيث كونه نظاماً مثالياً لابدّ من حفظه دائماً، والاعتقاد به يجعل الأفراد يرون وقتية بعض الأمور الأليمة كما يجعل الفرد من الناحية النفسية يعيش حالة الهدوء والسكينة والطمأنينة، وبناءً على هذا يمكن توجيه قضية وجود اللَّه» «1».

سر الوجود، ص: 90

والنتيجة التي نخلص إليها ممّا سبق هي أنّ الحس لايمكن الاعتماد عليه بمفرده، فهو لايمكنه سوى أن يكون

وسيلة وأداة لدى الفكر والذهن. بحيث إذا لم يخضع لسلطة العقل والذهن فليس من شأنه أن يحل مشكلة فحسب، بل يصبح أداة للاضلال أيضاً.

جواز سفر لعالم ماوراء الحس

اشارة

الحس بمفرده لايحل مشكلة

سر الوجود، ص: 93

من العجائب في هذا العصر أنّ بعض الصفات الروحية للإنسان من قبيل المثابرة والإرادة والدقّة والتحمل وأمثال ذلك أخذت تحسب وتقاس بالعقارب وبعض الوسائل والأدوات بحيث اكتسب كل شي ء طابعاً حسياً لنفسه، لكن مع ذلك ليس للحس بمفرده ودون سلطة العقل والموازين الفكرية أن يحل أيّة مشكلة.

الواقع هو أنّ المدرسة الحسّية قد انهارت وتآكلت من الداخل والأشخاص الذين اكتفوا بالحس في مطالعاتهم سوف لن يتمكنوا قط من حل وكشف الأسرار العظمى للوجود.

ونضيف إلى ذلك:

إنّ هؤلاء الأفراد كالجنين الذي ينمو في بطن أمه ويفترض أن يتمتع بعقل وشعور كافٍ، فمن المسلم به أنّه يرى نفسه الموجود الحي الوحيد لعالم الوجود، والخارطة التي يتصورها لعالم الوجود يكون مافوق رأسه شمالها وتحت قدمه جنوبها وطرفه الأيمن والأيسر شرقها وغربها، وقلبه سيكون بالطبع مركز هذا العالم.

أو كدودة القز التي تقبع داخل شرنقتها وتتصور أنّ العالم عبارة عن مجموعة خيوط حرير تحيط بها وهي قابعة في مركز العالم!!

والطريف أنّ خطأ الحواس على درجة من الكثرة بحيث دعت طائفة من الفلاسفة إلى انكار وجود المحسوسات بصورة كلية،

سر الوجود، ص: 94

والاعتقاد بأنّ ما نراه بحواسنا في عالم اليقظة كالصور والمناظر التي نراها في الأحلام الجميلة أو الرؤيا المخيفة فهي خيالية جوفاء لا حقيقة لها. وهذه هي «المدرسة المثالية» التي تشتهر بكثرة أتباعها من بين الفلسفات القديمة والجديدة، فهي ترى عالم الوجود مركباً من الأفكار والتصورات فقط، صحيح أنّ الخيالات والمشاجرات العابثة أو الفلسفة الوهمية والمضحكة أحياناً شجعت بعض الفلاسفة القدماء من أنصار مدرسة

الاصالة الحسية لانكار كل ما وراء الحس، إلّاأنّ هذا الانكار هو غير منطقي بنفس الدرجة التي بلغتها المدرسة المثالية التي خلصت من أخطاء الحواس إلى نتيجة غير معقولة مفادها إنكار الموجودات الحسية بصورة كلية، فكلاهما قد أخطأ في حساباته.

العالم الحسي في اتساع دائم:

لابأس أن نسلط الضوء الآن على هذا الموضوع وهو إننا حين نتحدث عن الحس والموجودات الحسية فإننا لا نشير إلى حقيقة ثابتة ومشخصة، بل إلى واقع مختزن في هذه الكلمة في حالة تغيير واتساع تتناسب والتطور والتقدم الذي يطرأ على أدوات ووسائل المطالعات الحسية.

لقد كان عالم المحسوسات ذات يوم يقتصر على بضعة آلاف من الكواكب التي كنا نشاهدها بأعيننا في أنحاء السماء، كما كان يحتمل أن تكون أصغر وحداتها هي هذه الذرات المعلقة من الغبار، أمّا اليوم

سر الوجود، ص: 95

فقد مكنتنا أدوات ووسائل الأبحاث العلمية من مشاهدة آلاف الملايين من الكواكب في السماء وملايين الوحدات الصغيرة المعلقة في مركز تلك الذرة من الغبار، فهل العالم المحسوس اليوم هو ذات العالم المحسوس بالأمس؟

يمكن تشبيه الوضع في الماضي والحاضر بذلك الزنبور الذي ولج أعماق غابة مترامية الأطراف وهي تضم مئات الملايين من الأشجار الضخمة وقد حط على غصن شجرة ليرى بعينه الضعيفة بضعة أغصان وأوراق أحاطت به من كل عالم الوجود، والوحدة الصغيرة له هي الورقة الصغيرة للشجرة والوحدة الكبيرة هي عدّة غصون حوله، فلو كان لهذه الحشرة مكبرة ومكريسكوب لترى من جانب جميع أرجاء الغاية الواسعة، ومن جانب آخر ترى آلاف الخلايا والألياف الحيّة في الورقة الصغيرة الواحدة، فهل عالم الوجود واحد في الحالتين بالنسبة لهذه الحشرة؟

من أين سندري أنّ العالم سيشهد في المستقبل مثل هذه القفزات بحيث تكون مقارنته بما عليه اليوم أعظم من مقارنته

عمّا كان عليه بالأمس، فهل هناك احتمال ينفي ذلك؟

وعلى هذا الأساس أفلا يبدو الاعتماد على المحسوسات- وبالمقدار المحدود الذي نعيشه- من الناحية العملية ضرباً من ضيق الأفق وبعيداً عن المنطق؟

دور العقل في تسديد الحس:

قلنا: إنّه لدينا اليوم مختبرات في علم النفس تضم سلسلة من الوسائل والأدوات المادية لقياس صفات الإنسان وروحياته، فبعض الصفات من قبيل الدماثة والتحمل وسرعة الانتقال والدقة و ... كل ذلك يقاس بالعقارب والصفحات ذات الاشارات على غرار سرعة سير السيارة التي تحسب بواسطة مقياس السرعة.

ولعل الكلام عن وجود مثل هذه المختبرات يبدو غريباً لمن لم يرها لأنّ روح الانسان ليست كالدم ليقاس ضغطه.

لكنّي ككثير من الناس رأيت ذلك في بعض المختبرات المجهزة، مثلًا إذا اريد امتحان المثابرة والتحمل لدى شخص، فهناك جهاز له زون معين (لا ثقيل ولا خفيف) ينبغي أن يمسكه الشخص المطلوب اختباره ويرفع يديه بصورة منتظمة جانبي جسمه لتشكل خطاً أفقياً مع كتفيه، كما يربط شريطاً خاصاً بيده يكون موصولًا بسلك الكتروني، ففي كل مرّة يرفع يده يسجل الجهاز درجة، إلى جانب ذلك فإن رفع اليد للحد المطلوب له علامة واضحة في الجهاز.

طبعاً يتلقى الشخص أوامر منتظمة بحركة يديه دون أن يقال له لأي اختبار يخضع، وطبيعي أنّ الأفراد الذين لا يملكون التجلد والمثابرة إنّما يسأمون سريعاً من هذا العمل الرتيب والذي يبدو لاطائل من ورائه فلا يرفعون أيديهم إلى الموضع المطلوب بعد تحريكها مرتين أو ثلاثاً، فتشير العقارب إلى التفاصيل على الشاشة الخاصة حيث تعكس عدم التحمل الطبيعي لهذا الشخص، وبالعكس

سر الوجود، ص: 97

فإنّ الفرد المثابر والمتحمل يرفع يديه على الدوام وبصورة منتظمة إلى المستوى المطلوب فتتضح درجة تحمله ليعلم مثلًا أن هذا الفرد يصلح للأعمال الرتيبة والمتعبة التي

تتطلب تحملًا كبيراً.

وهكذا توجد أجهزة أخرى تختبر الدقّة وسرعة الإيعازات السمعية والبصرية، والاستعداد للقيام بأعمال معينة ومدى الحب والرغبة بالعمل وما إلى ذلك.

من جانبي لما رأيت هذه الأجهزة فكرت مع نفسي أنّ جميع الأشياء في عصرنا الراهن قد اتخذت صبغة حسية، ولعله يأتي اليوم الذي يقاس فيه مدى نفرتنا من الشخص الفلاني أو الشي ء الفلاني ومقدار الكبر والحسد والبغض لدى هذا وذاك، بنفس الدقّة التي يسجل فيها المحرار درجات الحرارة.

ولعل الأعم الأغلب سمع عن جهاز معرفة الكذب حيث تشير عقاربه على الشاشة الخاصة لصدق كلام الإنسان من كذبه، والجهاز المذكور ليس من قبيل الأجهزة السحرية والمشبوهة المعقدة كما يظن البعض ذلك، وأساسه هو تأثير الصدق والكذب في الإيعازات العصبية ومن ثم في الدورة الدموية وضغط الدم ونبض القلب.

لكن ورغم كل ذلك فهناك حقيقة لايمكن انكارها، وهي عدم جدوى الحس مالم يخضع لسلطة العقل؛ حيث يمكن الإشارة إلى فلسفة هذه السلطة على صعيد (الإصلاح والتجريد والتعميم والعلية والتقنين) وإليك تفصيل كل واحد منها:

أمّا «الإصلاح» فكما قلنا إنّ حواسنا ترتكب مئات الأخطاء،

سر الوجود، ص: 98

ولدينا عدّة أبحاث في كتب علوم النفس بشأن أخطاء الحواس، وهنا نتساءل: من هذا الذي يقف ويرصد أخطاء الحس؟

لا شك إنّه سلطة العقل والنتائج التي يحصل عليها من خلال مقارنة الحوادث، مثلًا يحكم العقل والمنطق باستحالة اجتماع الضدين في آن واحد ومحل واحد، وعليه فالماء لا يمكن أن يكون في لحظة واحدة حاراً وبارداً.

فإن كانت يدنا اليمنى سابقاً في ماء حار واليسرى في ماء بارد، وغمرناهما في ماء شبه حار فإن أخبرتنا اليد اليمنى ببرودته واليسرى بحرارته فهما كاذبتان، لأنّ الماء الواحد يستحيل أن يتصف بحالتين متضادتين في آن واحد، ويعزى هذا الخطأ

إلى حاستنا اللامسة التي تأثرت بالحالة السابقة،

وهنا يتضح دور العقل والذهن في إصلاح أخطاء الحواس.

وأمّا بشأن «التجريد والتعميم والتقنين» فدور العقل أوضح.

فقد تقذف زجاجة نافذة باب غرفتنا بحجر فتكسر، فهذه حادثة حين يراها الإنسان لأول مرّة في حياته لا يمكنه أن يقف على قانون كلي وأساسي لهذه الحادثة، فلعل كسر الزجاجة كان بسبب ذات الزجاجة أو ذلك الحجر أو ذلك المكان أو تلك اللحظة وما إلى ذلك.

مرّة أخرى يقذف حجر آخر على زجاجة في مكان وزمان آخر فتكسر، فالحسّ من جانبه وكالمرة الأولى يدرك الحادثة، حيث نسمع بأذننا صوت تكسر الزجاجة، ونرى بعيننا تساقط قطعاتها على الأرض، أمّا من حيث الحس فإنّ أي منهما ليس بقانون، بل حادثتان،

سر الوجود، ص: 99

(وعدّة حوادث مشابهة أخرى مع بعضهما ويخضعهما للتحليل.

بادى ء ذي بدء يحذف قيود الزمان والمكان وجنس الزجاجة ومقدار الحجر و ... ثم يعمم بالتجريد هذه الحادثة على سائر الموارد، وبعد القيام بهذه المطالعات يخلص إلى قانون فيقول «الحجر يكسر الزجاجة».

فهذا قانون عقلي حاصل من عدّة نتائج وأفعال رتبه الذهن على أساس الحوادث الحسية، ففي هذا القانون «حجر وزجاج وكسر» معنى واسع شامل ينسحب على عدّة موارد لم يرها الإنسان قط، ويمكن لكل فرد في ظلّه أن يتكهن بالحوادث المشابهة لهذه الحادثة في حياته.

فالبحث الذي أوردناه بشأن هذا المثال البسيط يصدق على أهم وأدّق الاختبارات العلمية، يعني لولا تدخل سلطة العقل سوف لن يكون هناك أي قانون علمي (عليك بالدقّة).

النقطة الأخرى التي تواجه انكار أتباع مدرسة (الأفكار ما وراء الحس) هي أنّ أوثق العلوم اليوم هي العلوم الرياضية، فالنتائج المتحصلة من القضايا الرياضية المعقدة ومختلف المعادلات هي أوثق حتى من المسائل الحسية، ولولا اسعاف الرياضيات للعلوم التجريبية

لما استطاع الإنسان قط شق طريقه إلى الفضاء ولا تمكن من النزول على سطح القمر.

فلابدّ أن تعد العقول الالكترونية وعلماء الرياضيات مسبقاً كافّة الحسابات اللازمة لهذا العمل وتوفر جميع الإمكانات الضرورية له.

سر الوجود، ص: 100

وبالرغم من كل ذلك فإنّ المسائل الرياضية هي مسائل ذهنية حسيّة، وهي تدور حول مجموعة من المخلوقات الذهنية التي يصطلح عليها بالعدد وما شابه ذلك.

وعلى هذا الأساس فكيف نقتصر على مرحلة الحس ونلغي ما ورائه؟

تمكنا لحد الآن من تمهيد السبيل أمام المطالعة في حقائق الوجود وإن كانت خارجة عن دائرة الحس المحدودة والصغيرة، وقد تسلمنا جواز السفر نحو العالم ماوراء الحس، ومن هنا نؤكد لأولئك الذين يخشون مطالعة ماوراء المحسوسات، أن لا سبيل أمامهم سوى سلوك هذا الطريق.

الاعجوبة الصناعية لعصرنا

الشعور الذي ساورني حين رأيت لأول مرة العقل الألكتروني المجهز

سر الوجود، ص: 103

نشعر الآن باستعدادنا لابتداء السفر إلى ماوراء الحس، لكن من البديهي أن تكون انطلاقتنا من عالم الحس، تعالوا نبدأ سفرنا من داخل أنفسنا، ونركز بادى ء الأمر على الدماغ الذي نفكر به، وأراني مضطراً قبل ذلك لأن أصحبكم لمشاهدة الدماغ الألكتروني لكي يتضح لدينا سبيل البحث.

كنت أتصور كسائر الأفراد أنّ العقل الألكتروني كما يبدو من اسمه أعجوبة حيث يقوم في مدّة قصيرة بما يؤدّيه مئات العقول والأدمغة البشرية، وفي الحقيقة فقد حطم جدار «استحالة زيادة الفرع على الأصل» ليتحول إلى جهاز ينبغي لنفس الإنسان أن يلتمسه ويرجوه لحل مشاكله. مهد الأصدقاء الفرصة أمامنا لمشاهدة هذه الأعجوبة الصناعية والتي كانت مستخدمة في إحدى المؤسسات الصناعية الكبرى كان جهاز بحجم آلة طابعة كبيرة (بضعة أمتار مكعبة مع عجلة ولوالب وصامولات وما كنة معقدة على غرار أغلب المكائن).

حكى الأصدقاء بعض القصص والحكايات عن فنية هذا الجهاز

فقالوا، لو كتب اسم السفينة الفلانية على بطاقة مخصوصة (طبعاً ليس المراد الكتابة بالقلم، بل باللسان الذي يتعامل به ذلك الجهاز من

سر الوجود، ص: 104

خلال الثقوب المختلفة التي كانوا يعملونها على البطاقة) ووضعت في الجهاز لتطبع خلال مدّة قصيرة كافة تفاصيل تلك السفينة ومدّة الشحن والسفّان وسائر الأمور ولقدّمها لنا بالخط اللاتيني الواضح دون أي أخطاء.

كما قالوا: لو أمرت هذا الجهاز (العقل الألكتروني) بأن يرسم خارطة الجزيرة الفلانية، لقام فوراً برسم خارطة رائعة جميلة لتلك الجزيرة بكافة تفاصيلها ولسلمها لك بعدّة نسخ بما يجعلك تعيش الدهشة والحيرة، والأهم من كل ذلك لو طرحت بعض المطالب على شكل أسئلة بحيث يجب أن تستفيد من عدّة بطاقات بأرقام متسلسلة وحشرت بعضها خطأ، فان الجهاز يتوقف بمجرد وصوله إلى البطاقة الخاطئة فتدور عتلة بسرعة فائقة ليطالعك خط واضح بأنّك وضعت البطاقة بصورة مخطوءة، وما ينبغي لك أن تقوم به لإصلاح ذلك.

ولما كان هذا العمل يدعو- أكثر من غيره- للذهول والدهشة فقد تقرر أن يعملوا ذلك ويجربوه لنا عملياً، فقد اختاروا عشرة بطاقات للسؤال كتبت عليها بعض المطالب، وكان من المقرر ترتيبها مع بعضها ووضعها في الجهاز ليتلقوا الاجابات السريعة عليها، وهنا عمد المهندس المسؤول إلى ارتكاب خطأ، مثلًا جعل البطاقة رقم «5» بدل البطاقة رقم «6» ثم ضغط زر الجهاز، فقام سريعاً بدراسة ومطالعة بطاقات الأسئلة، فلم يكد يصل البطاقة رقم «6» حتى توقف، فباشر العمل جهاز كشف الأخطاء ودارت العتلة بسرعة فائقه لتصدر هذه العبارة بالانجليزية على سبيل الأمر: «لقد وضعت البطاقة رقم «6»

سر الوجود، ص: 105

خطأ، استبدلها بالبطالة رقم «5» ولا تكرر ذلك ثانية ...؟».

وهنا بلغ إعجابي ذروته، ياله من «رقيب» و «عتيد» عجيب، يقوم

بأعمالنا أسرع وأفضل، كما يضبط أخطاءنا ويهدينا إلى إصلاحها وكأنّه أستاذ خبير ماهر؟ يالها من حافظة؟ ياله من ذكاء؟ يالها من دقة وصراحة منطقية؟ لقد صنع الإنسان شيئاً فاقه قدرة، بل سيمارس سلطته وسيادته على هذا الإنسان، ومن يدري لعلهم حبسوا فيه بعض الأرواح الرفيعة والشياطين! يا إلهي! ...

طبعاً كان إلى جانب ذلك الجهاز المذهل مخزن كبير نسبياً، ولما مد أحد الأصدقاء يده من قريباً منه وإذا به يخرج شريطاً ضخماً وقال: هذه إحدى حافظات عقلنا الألكتروني حيث يتمّ من خلالها تبادل الأسئلة بيننا وبين الجهاز.

أخيراً أدركنا أنّ هذه الأعجوبة، كأغلب الأفراد في زماننا، لها ظاهر وباطن! لا يمكن لهذا الجهاز العجيب أن يجيب على كل سؤال، بل يقتصر على الأسئلة التي أعدت أجاباتها مسبقاً مثل الشريط وقد أودعت في حافظته، فإن رسم خارطة جغرافية، فسابقاً أودعوا حافظته مثلًا خارطة الجزيرة الفلانية، فإن أمرته برسمها، فإنّ هذا السؤال يحرك نقطة معينة في الحافظة ويشرع الشريط بالعمل ويسلمك الخارطة التي أودعها العالم الفلاني حافظته مسبقاً، وعليه فإن أودعت حافظته مائة فرع علمي، ثم سألوه عن الفرع مائة وواحد لما أجاب ...!

الواقع إنّ هذا الجهاز بمثابة ببغاء ضخم وسريع وخفيف ذي عدّة

سر الوجود، ص: 106

أسرار يقول كل ما أودع وقيل له قل، والجهاز وإن فاق الإنسان كسائر المكائن والآلات في سرعة العمل، إلّاأنّه ورغم هذه القدرة الظاهرية والخلابة ليس له أدنى قدرة على الإبداع والإبتكار، فهو ليس إلّا حافظة، وعلى العكس من دماغ الإنسان الذي يسعه بيان عالم من الإبداع بما يتناسب والحوادث التي تقع.

وهنا اتّضح أنّ هذه الأعجوبة الصناعية ومهما كانت سعتها فهي محدودة بما يودع فيها ... لا أكثر من ذلك، والحال دماغ الإنسان ليس

بمحدود وله القدرة على التفكير بالأسئلة المستجدة غير المطروحة والإجابة عليها.

فلو فرض أن اجتمع كافة علماء وخبراء العالم واتفقوا، بدلًا من التنافس الخاطى ء والتسابق من أجل إنتاج وصنع الأسلحة الفتاكة، على صنع عقل ألكتروني بحجم مدينة كبيرة، بل بقدر جبل عظيم وجعلوا له أشرطه حفظ كثيرة بحيث لا تسعها أعظم مخازن ومستودعات العالم، وتغذى بكافة المسائل العلمية، فإذا برزت أيّة مشكلة في المباحث الأدبية والطبية والصناعية والفلسفية والرياضية والاقتصادية و ... توجهوا بالسؤال لأعجوبة الدهر هذه فيحصلوا على الجواب المناسب بأقصى سرعة، كما يقوم آلاف المهندسين بالاشراف على ذلك الجهاز وصيانته.

والسؤال المطروح: هل سيكون لهذا الدماغ العظيم والضخم الألكتروني وبجميع هذه المفردات قيمة دماغ الإنسان الذي لايزن أكثر من كيلو غرام ونصف؟ لابدّ من القول صراحة: لا، كلا، أبداً! ...

سر الوجود، ص: 107

وذلك لأنّ قدرته ونشاطه محدود بما أودع به من حافظات، وهو عاجز إزاء المسائل الجديدة غير المتكهن بها، ليس له من إبداع أبداً، وعمله ملزم بالتعلق بالماضي، لا بالمستقبل حيث تبقى مثل هذه المسائل مستعصية عليه، والحال لايعرف دماغ الإنسان من معنى للماضي والحاضر والمستقبل، وما يستجد بعد آلاف السنين، فله أن يفكر في كل المسائل ويجيب عليها حسب قدرته.

كانت مشاهدة ذلك العقل الألكتروني تمثل بالنسبة لي درساً عظيماً في التوحيد، الدرس الذي لم أسمعه قبل ذلك أبداً، حيث فتحت لي هذه المشاهدة نافذة على عالم ماوراء الطبيعة، كما بعثت شعاعاً جديداً من الإيمان في قلبي، فكرت مع نفسي لو قال أحدهم:

لقد صنع ذلك الجهاز الالكتروني الجبار بتلك العتلة الكاشفة للأخطاء وسرعة العمل الهائلة الفريدة، وتلك المثابرة والمطالعة الدقيقة من قبل عامل أمي ليس له أيّة معلومات فنية أو من قبيل الصدفة، فهل

كان هناك من يصدق هذا الكلام؟ ألا يضحك الجميع عليه بسبب هذا الزعم الأجوف، بل لو زعمت الدنيا برمتها ذلك لما وسعني إلّاالقول بأنّها على ضلال، وأنا مستعد لنعتهم بالمجانين، بدليل أنّهم يقولون ما لا ينبغي أن يتفوه به عاقل!

فهل والحال كذلك أستطيع التصديق بأنّ دماغ الإنسان الذي لا يزن أكثر من كيلو ونصف، وهو ما عليه من الإبداع والنشاط الذي لا

سر الوجود، ص: 108

يعرف الحدود، وتفوق قدرته ذلك العقل الألكتروني الذي له حجم مدينة كبيرة، أنّه من قبيل الصدفة دون أن يكون هناك من برامج وخطط بهذا الشأن؟ ليس لعاقل أن يصدق ذلك أبداً.

ولهذه الحقيقة الجليّة أن تلفت اهتمام عامة علماء العلوم الطبيعية نحو القدرة التامة والعقل الكل والحكمة المطلقة لما وراء الطبيعة، وقد التفت إلى ذلك الكثير من العلماء من قبيل أنشتاين وداروين وفلاماريون و ... ليصرحوا بأنّه اللَّه.

بينما اكتشف البعض الاخر حقيقته فقط حيث سلكوا طرقاً أخرى في تسميته، وخلافاً لما يتصوره الأعم الأغلب فليس هنالك من خلاف بين العلماء بشأن وجود العقل الكل، والاختلاف على تسميته حيث يصطلح عليه البعض بالطبيعة بينما يسبغون عليها صفات اللَّه من قبيل العلم والقدرة.

غرفة ذات أسرار

لم ير البشر لحد الآن مركزاً مشوباً بالأسرار كهذه الغرفة

سر الوجود، ص: 111

كان من المقرر أن نبدأ بحث الأسرار انطلاقاً من أنفسنا، من مركز إدراكاتنا ومن أدمغتنا وما ورائها وما يصطلح عليه بأنفسنا وذواتنا، وتطالعنا هنا دنيا الأسرار التي إنّ قضينا عمرنا من أجل التعرف عليها فما زالت هنالك الكثير من الأمور الغامضة فيها.

إنّه لمن المذهل حقاً أن ندرك جميع الأشياء بعقولنا بينما نصاب بالدوار حين نفكر في ماهية التفكير لدى هذا العقل.

إننا نتساءل: كيف ندرك الأشياء؟ ما المفهوم الواقعي للإدراك؟

أين تكمن خواطرنا؟

ما كيفية علاقة الروح بالجسم وبالخارج؟

ما الدور الذي تلعبه هذه القبضة الرمادية و التي تبدو غير منظمة ولا مستهلكة والمحبوسة هذا العمر المديد في جمجمة الإنسان؟

وأساساً من أين تنبع كل هذه القابلية و الاستعداد العجيب المذهل؟ هذه هي الخطوة الأولى لتعرفنا على الوجود الذي يكتنفه كل هذا التعقيد، ولكن لا ينبغي أن يفهم ذلك على أننا هزمنا في الخطوة الأولى في سبيل حل ألغاز الوجود، ترى أليس من الأفضل أن نعزف عن هذا الأمر ما دمنا في بدايته، ونغض النظر عن هذا «الخيال المحال»، فهذا سفر تستهلك الخطوة الأولى فيه تمام عمرنا، وعليه فما أحرانا أن نقتدي ببعض الفلاسفة الذين صوروا للجميع استحالة

سر الوجود، ص: 112

التعرف على الوجود، فنقبع في زاوية ونتفرغ للحياة والمعيشة، ولكن هل العيش يعني (الأكل والشرب والنوم والشهوة)؟ كلا، ليس الأمر كذلك، فمثلنا مثل المسافر الذي يمر بسيارته في جادة في ليلة ظلماء، فمصابيح السيارة إنّما تضي ء له جانباً من الجادة وتقوده إلى المطلوب، أمّا على طرفى الجادة فهنالك الآلاف المؤلفة من المباني والموجودات غير المعروفة والتي تغط في ظلمة معتمة، فمن المسلم به أن عدم معرفة هذه المباني الغامضة ليس من شأنه أبداً أن يحول دون مواصلة المسافر لسيره، بل حتى لا ينبغي له التقليل من سرعته، نحن بدورنا نشق طريقنا وسط هذه الأسرار فنندفع إلى الأمام على ضوء ما نعتمده من معارف وحلول، فكأنّ آلاف النقط المجهولة قد كمنت من حولنا، وسندنا في هذه المسيرة «معلوماتنا» لا «مجهولاتنا».

سنقف- من خلال عدّة أدلة في بحث استقلال الروح- على هذه الحقيقة، و هي أنّ مادتنا الدماغية «وسيلة دقيقة» لأنشطة قوى خفية تدعى الروح، لا نفس الروح، وبعبارة أخرى الدماغ

«بيت» لا «صاحب البيت» وبعبارة أوضح هو تلسكوب عظيم لرصد كواكب سماء الوجود لا نفس «الراصد»!

و بالتالي الدماغ مهندس «غرفة السيطرة».

ولما انسحب الكلام إلى «غرفة السيطرة» دعونا نتحدث قليلًا

سر الوجود، ص: 113

عنها، فمثل هذه التشبيهات والأمثلة تذلل الطرق الصعبة.

فنرى هذه الأيّام- حين نتفقد بعض المؤسسات الصناعية الحديثة والضخمة- غرفة تعرف باسم «غرفة السيطرة»، وتمتاز هذه الغرفة بهدوئها وسكونها، إلّاأنّها مليئة بالشاشات والأزرار والمفاتيح والمصابيح الصغيرة الملونة، ويتولى المهندسون من داخل هذه الغرفة السيطرة والاشراف على كافة جزئيات تلك المؤسسة الصناعية التي قد تبلغ سعتها أحياناً عشرات الكيلو مترات المربعة.

فالضغط على زر معين يشغل قسماً من تلك المؤسسة وبفتح أو بغلق ذلك الأنبوب الكبير بصورة تلقائية، وبضغط الزر الفلاني يحدّون من سرعة ذلك الجهاز أو يضاعفون من سرعته، وإذا اشتعل الضوء الأحمر للمصباح دلّ على الخطر الفلاني في ذلك القسم، والأهم من كل ذلك العقارب والمؤثرات المتناثرة على الشاشات والتي تشبه إلى حد بعيد صحيفة أعمال الإنسان، حيث تعكس طريقة عمل كافة الأجهزة.

والواقع هو أنّ دماغ الإنسان غرفة سيطرة في معمل بدن الإنسان، فتلك الغرفة المليئة بالأسرار ومن خلال ما أودعت من أزرار ومصابيح بمجرد إثارتها لخلية أو بعض الخلايا يشرع قسم من بدن الإنسان بالعمل أو بالعكس يتوقف عنه، فالقلب والمعدة وجهاز التنفس والعين والاذن واللسان إنّما تعمل بالأوامر الصادرة من غرفة السيطرة هذه، والفارق بين هذه الغرفة وسابقتها في أنّ أزرارها ومصابيحها تنبض بالحياة، كلها حيةّ تتغذى وتنمو، إلّاأنّها صغيرةولطيفة للغاية.

سر الوجود، ص: 114

ورغم أنّ خلاياه أكثر لطافة من أوراق الأزهار، إلّاأنّها أكثر دواماً من الحديد والفولاذ، فهي تصلح نفسها على الدوام، كما تختلف مع كافة المكائن ذات الحركة الرتيبة حيث تعرف بالتجدد والسير

نحو التكامل، والعجيب أنّ هذا الجهاز لا يفقد حيويته وقدرته حتى في حالة ضعف سائر القوى البدنية واتجاهها نحو العجز والتآكل، طبعاً بشريطة قيامه بوظيفته وعدم تعطيله.

أو ليس هذا ما نراه بوضوح لدى العلماء والمفكرين وزعماء السياسة والاقتصاد الذين يتمتعون حتى آخر لحظات عمرهم بقدراتهم العلمية والفكرية (باستثناء بعض الحالات)، والأمر وإن دلّ على الخصوصية العجيبة للدماغ، فإنّه يشير كذلك إلى استقلال الروح حيث تبقى قوية مفعمة بالعلم والقدرة رغم تآكل كافة أجهزة البدن وانحطاط قدرتها وطاقتها.

غالباً ما نسمع أنّ الشخص الفلاني قد أصيب للأسف بسكتة دماغية، بحيث يفقد حياته إن كانت سكتة تامة، أمّا إن كانت جزئية فإنّما تتوقف بعض أعضائه عن الحركة، حيث يشل أحياناً نصف الجسم، وأحياناً أخرى اللسان وبعض أجزاء الوجه، وأخيراً العين والاذن التي تجعل الإنسان في حالة يرثى لها، أحد الأصدقاء، كان يقول: كل شي ء كامله حسن، إلّاالسكتة فناقصها أفضل من كاملها!

سر الوجود، ص: 115

قلت: يبدو أنّ هذه أيضاً كاملها حسن، فهي تحسم حالة الإنسان، إمّا الحياة في هذه الدنيا وإمّا الموت في تلك الدنيا، لا أن تتركه موجوداً مشلولًا معلقاً! طبعاً كان مرادي أنّ السكتة الدماغية كما يظهر من اسمها هي التوقف المفاجى ء لجميع أو بعض غرفة السيطرة العجيبة.

كثيراً ما تنفجر شعيرة دموية (وهي أنحف وألطف بكثير من الشعرة ومسؤولة عن تغذية الخلايا الدماغية وإثر فقدانها لقوة الارتجاع) فتقع قطرة صغيرة من الدم على قسم صغير من الدماغ فتفسده وتشل حركته عن العمل.

قد يكون هذا الزر في منتهى الصغر والنحافة هو زر السيطرة على اللسان فيتوقف اللسان فوراً عن النطق، والحال لم يشهد اللسان أي اختلال أو عارض، أو يكون مرتبطاً بالعين فتنعدم رؤيتها دون أن تتعرض بنية

العين لأي خطر وإن كان مرتبطاً بأعصاب الطرف الأيمن من الجسم فسيصاب بالشلل، وإذا عولجت القطرة الدموية وزالت وتمّ أصلاح ذلك الزر المتوقف عن العمل، إستأنف ذلك الجهاز المرتبط بها عمله من جديد.

لقد رأيت شخصاً محترماً أصيب بالسكتة الدماغية حيث توقف بعض جسمه إضافة إلى لسانه عن العمل، فكان أحياناً يجهد نفسه كثيراً من أجل التلفظ بكلمة، فكان يتمتم ويتلعثم كالأطفال ثم يكف بغتة عن الكلام- إلّاأنّ العجيب أنّه كان يقرأ سورة الفاتحة والسورة الأخرى في الصلاة بكل طلاقة وفصاحة! فإن قلنا لعل ذلك بسبب

سر الوجود، ص: 116

كثرة تكراره لهذه الكلمات، فالواقع كانت هنالك عدّة كلمات أخرى يكررها في حياته أكثر من تكراره لسورة الفاتحة والسورة الأخرى وإن قلنا رغبته الشديدة قد أثرت على جهاز النطق المشلول فجعلته ينطق، فإن ذلك خصوصية أخرى من الخصائص العجيبة لهذا الجهاز الذي يعمل حين الشلل، وهو مشلول في ذات الوقت ..

من يسعه التصديق بعدم وجود أي تنسيق وبرامج مسبقة للعمل في هذه الغرفة الاستثنائية للسيطرة، بحيث كانت هذه الاعجوبة وليدة الصدف؟!

وهنا نقول: ألا يكفي هذا المقدار من معرفة الذات والاطلاع على أوضاع هذا المركز العجيب لكشف أول سر من أسرار الخليقة، والمراد به تلك القدرة والعلم المطلق الذي يدير شؤون العالم؟

فكيف للعقل أن يخلق ما لا يملك.

أم كيف يخلق مثل هذه الآلة الحاسبة العجيبة من افتقر للحساب والنظام في عمله وكانت الصدفة هي المميزة لأفعاله، وكيف لمن لا يحسن الحساب والقانون أن تكون جميع أعماله مبرمجة على أساس القانون والقاعدة؟!

وهنا تكون معرفة النفس دليلًا وسبيلًا لمعرفة اللَّه.

أغرب إرشيف عالمي

اشارة

لو أمرت مئات الأشخاص بحفظ إرشيف معلوماتك فلا يسعها أن تقدم لك العون كما يقدمها الغطاء الشفاف الذي يغطي الدماغ

سر

الوجود، ص: 119

نرد الآن، بعد تصفحنا لهذه المدينة الشاسعة التي تعرف بعالم الوجود، المنزل الأول (منزل وجودنا) حيث انهمكنا بدراسة أول غرفة وهي الغرفة المبهمة للدماغ والذي يمثل بمفرده مدينة عظيمة بل بلداً كبيراً.

ركزت نظري لأرى خطوطاً غير منتظمة تحيط بالمادة الرمادية اللون للدماغ.

آه ... كأنّ هذا الشكل ليس غريباً على ناظري، فقد رأيت مثلها في مواضع أخرى نعم حين نسافر جواً بالطائرة ونصل إلى النقطة التي تصب فيها الأنهار والشطوط ماءَها في البحار فإننا نشاهد هذه الخطوط ترتسم إثر ظاهرة مد البحر وجزره وانحسار وعودة ماء النهر. فهل خطوط الدماغ هي آثار المد والجزر لبحر فكر الإنسان والتي ترتسم على صفحته خلال القرون والعصور؟ أم هي تصنيف دقيق من أجل المراكز الحساسة للدماغ وتحديد وظائفها؟

أم هناك خطوط مواصلات معينة تمرّ عبرها؟ لا نعلم.

كل ما نعلمه أنّ الغطاء الظريف الذي يغطي هذه الكتلة الرمادية كاحتمال قوي يضم أعظم أراشيف في هذا العالم.

نعم، فالذي تفيده الدراسات الأخيرة للعلماء أنّ هناك مركز حافظة (أو الأصح مفتاح الحافظة) يكمن في هذا الغطاء الظريف وقد ارتسمت عليه بشكل إعجازي كافة معلوماتنا وخاطراتنا ومشاهداتنا

سر الوجود، ص: 120

السابقة وعلومنا، ولكن كيف وبأيّة طريقة؟ لا أحد يعلم.

ولكي نقف على مدى الخدمة التي يسديها لنا هذا الغطاء السحري كفاه أن يضرب يوماً واحداً عن العمل ويتحفظ عن التذكير بأيّة خاطرة. فهل يسعك أن تتصور كيف ستصبح حياتنا آنذاك؟

لا يبدو التكهن بذلك صعباً:

حالة عجيبة من الدوار في كل شي ء، بالضبط كالحالة التي يعيشها الوليد الجديد، فكل شي ء غريب علينا وكأننا نشاهده لأول مرّة، لا يسعنا أن نتكلم ولو بكلمة واحدة، و إن أردنا التقدم خطوة واحدة إلى الأمام لفقدنا توازننا وسقطنا على الأرض، لأننا

نكون قد نسينا طريقة المشي، ولو استطعنا المشي فإننا لا نعرف الطريق إلى البيت ولا مركز عملنا، وعلينا أن نتسكع حيارى دون هدف حتى نموت، ولا يقتصر الأمر على عدم معرفتنا لأصدقائنا، بل سوف لن نعرف الأب والأم والأخ والأخت والوالد والبنت، فلا نفرق بينهم وبين سائر الناس الغرباء، وإن جعنا لا ندري ماذا نأكل، لأننا نكون قد نسينا جميع الأطعمة وإن أتونا بطعام فإننا سنجد صعوبة بالغة في سبيل معرفة الطريق إلى الفم، وهكذا سنكتشف أي عذاب وألم سنعيشه في حياتنا.

قد ترون ذلك نوعاً من أنواع الوهم والخيال، لكن ليس الأمر كذلك.

ففي أمراض الحافظة التي عادة ما يشل جزء منها هنالك حالة من فقدان الوعي تحدث للإنسان من قبيل «العمى الذهني» وهو مرض روحي لا يسع المصاب به التعرف على صورة المبصرات، فما يراه بعينه لا يعرفه.

سر الوجود، ص: 121

الصمم الذهني هو نوع آخر من هذه الأمراض ينسى المصاب به إدراكاته السمعية ولا يعرف الأصوات والكلمات والأنغام، مثلًا لا يستطيع تمييز خرير الماء من بوق السيارة!

النوع الآخر من اختلالات الحافظة «نسيان اللمس» الذي لا يستطيع المريض فيه التعرف على شكل الأشياء عن طريق اللمس، مثلًا لا يستطيع التمييز بين العملة النقدية المعدنية والقلم بواسطة حاسة اللمس.

فمثل هذه الأمراض العجيبة التي يشاهد بعض نماذجها الآن لدى بعض الأفراد إنّما تمثل الوضع الأليم و المأساوي الذي يعانيه أولئك الأفراد من جرّاء اختلال جهاز الحافظة.

بعد أن تحدثنا عن الأسرار العجيبة لغطاء الدماغ، نتطرق الآن إلى بعض المواضيع ذات الصلة:

تصنيف الحافظة:

إننا نخطى ء إذا تصورنا أن خاطراتنا على هذا الغطاء كالكتب المصنفة و المرتبة على رفوف المكتبة، كلا ليس الأمر كذلك، فلكل من خاطراتنا و محفوظاتنا و معلوماتنا هوية

معينة و قد رتبت حسب تواريخ ظهورها، أي أن شبكات الحافظة إنما تمتلى ء بالتدريج طبقاً لنظام معين.

و من هنا يستطيع الإنسان أن يخمن بسهولة المدة الزمانية

سر الوجود، ص: 122

لخاطراته الماضية من خلال الرجوع إلى حافظته، مثلا أن الحادثة الفلانية وقعت قبل سنة أو عشر سنوات أو عشرين سنة.

و أحيانا تعرض بعض الأمراض الروحية التي تعرقل هذه الاتصالات أو تتداخل، مثلا أسلاك رفوف الحافظة، فيواجه الإنسان وضعاً أليماً مأساوياً.

فيتصور الحاضر ماضياً، فيرى أن ما يشاهده الآن من حوادث قدرآها في الماضي، إلّاأنّه لا يدري أين ومتى؟! ...

أو بالعكس يتوهم الماضي في الحاضر، فيظن أن الآن فترة طفولته، ولذلك فهو يتصرف بطفولية فيلعب ويمرح ويُبدي كافة ردود الأفعال التي يبديها الأطفال.

فهذان النوعان المرضيان يدلان على مدى الوضع المضطرب العجيب الذي يعيشه الإنسان إذا اختل التنظيم الزماني لشبكات الحافظة.

سرعة الاستذكار:

يرى العلماء أنّ الإنسان لا يلزمه من الوقت أكثر من واحد بالالف من الثانية لاستذكار خاطرة، ولك أن تتصور مدى عظمة هذا العمل بأن تحصل خلال المدّة المذكورة على خاطرة من بين ملايين الخاطرات والحوادث المرتبة في الحافظة.

إفرض أن أحد أصدقائنا الأعزاء سافر قبل عشر سنوات، ففي هذه العشر سنوات تقع عدة حوادث وخاطرات وما إلى ذلك في

سر الوجود، ص: 123

الذهن والحافظة، فاذا دق الباب ووقعت عيننا على ذلك الفرد عرفناه سريعاً، فهل تعرف ماذا تعنى مفردة «عرفناه»؟ يعني إننا طبقنا في لحظة خاطفة صورته مع ملايين الصور التي نحتفظ بها منذ عشر سنوات في الذهن فصدقنا أنّه فلان.

فلو كانت هذه الخاطرات و المعلومات المودعة في حافظة الإنسان على هيئة ملفات بأرقام معينة محفوظة في إرشيف ضخم وتولى مئات الأفراد تنظيمها، فهل لهم ذات القدرة المذكورة على الإتيان

بملف واحد وبتلك السرعة؟!

هذه هي القدرة العجيبة لحافظتنا!

إعجاز الحافظة!

اشارة

يمكن من هذا الطريق مساعدة الحافظة و تقويتها

سر الوجود، ص: 127

لابدّ إنّكم تتذكرون إننا بلغنا غرفة ذات أسرار عظيمة وألغاز غامضة ووقفنا على مدى تعقيدها ونظامها بحيث عدّت من أعقد الأجهزة الموجودة في العالم، فقد كانت تلك الغرفة بمثابة مركز القيادة للبدن، حاولنا أن نرفع الغطاء الكائن على الدماغ فقيل لنا حسبكم! ...

ما الخبر؟

قالوا: إنّ ذلك ليس غطاءً بسيطاً اعتيادياً، فهو مركز جميع الخاطرات وإرشيف كافةّ الحوادث التي صادفتنا طيلة عمرنا، نعم هنا مركز الحافظة وإذا اختل جانب منه أدّى ذلك إلى نسيان طائفة عظيمة من خاطرات الماضي.

قالوا: إنّ بعض الأفراد الذين أجريت لأدمغتهم عملية جراحية فقلع جزء منه ممّا ليس له ارتباط مباشر بأجهزة البدن الحساسة فترتب على ذلك نسيانهم لخاطرات عديدة من سني عمرهم، وكأنّهم نسوا تماماً الأحداث التي وقعت خلال تلك السنين، وأصبح الأفراد ممن كانوا يعرفونهم غرباء.

قلنا: لابدّ أن نتوقف هنا كثيراً ونخوض أكثر في دراسة هذا الغطاء الشفاف، وهذا هو هدفنا حيث ينبغي أن نكمل هنا معرفة الذات: يالها من عملية، فهنالك أوامر تصدر باستمرار من مركز قيادة الدماغ بإحضار الملفات وسوابق الأفراد ومختلف الموضوعات فلا تمضي

سر الوجود، ص: 128

مدّة تفوق واحد بالأف من الثانية ليحضر ما يشاء بسرعة البرق، حقّاً ليس هنالك جهاز مهما كانت عظمته يقوم بهذه الأعمال وبهذه السرعة.

معجزة الحافظة:

لكن قيل لنا أنّ روعة هذا الجهاز لا تقتصر على سرعته وسعته، بل بفعله للمعاجز.

قلنا كيف؟ ... ومن أسماه كذلك؟

قالوا: إنّ العلماء والمختصين لما ذهلوا لطبيعة عمله اصطلحوا عليه بالمعجزة «1».

عادة ما ينسى الإنسان بصورة كلية اسم الشخص أو الموضوع، ثم يبذل جهده وسعيه للعثور عليه، فيقلب رفوف إرشيف الحافظة رأساً على عقب الواحدة تلو الأخرى ويبحث

عن ضالته في كل مكان.

حسناً إن كان الإنسان يعلم ذلك الاسم أو ذلك الموضوع فكيف يبحث عنه؟ وإذا لم يكن يعلمه فكيف يبحث عن شي ء لا يعرفه، أفيمكن أن يبحث الإنسان عن شي ء لا يعلمه؟ ومن هو هذا الإنسان؟

هنا نقول بشأن النسيان: إنّ الإنسان يبحث عن ضالة لا يعلمها، وفجأة ومن خلال جمع القرائن المختلفة يتّجه إلى رف ليجد ضالّته

سر الوجود، ص: 129

هناك! ويصطلح العلماء على هذه القضية بمعجزة الحافظة، والحق أنّ الأمر كذلك، فهناك نقطة حساسة تكمن في حل هذا التضاد المذهل وهي:

إنّ الإنسان في مثل هذه الموارد لا يبحث عن ذلك الاسم أو الموضوع الذي لا يعلمه، بل يبحث من أجل الحصول عليه في مجموعة الحوادث الكائنة في ذهنه برفقة الاسم المطلوب، مثلًا يعلم أنّه تعرف على هذا الصديق لأول مرّة في اليوم الفلاني والمكان الفلاني، فيطلب فوراً ملف ذلك اليوم والمكان من الحافظة وينهمك في تصفحه، ويلتفت فجأة إلى اسم معين على هامش ذلك الملف المذكور، وهذا الاسم بلا شك هو لذلك الصديق، فيشعر بحالة من الفرح والسرور حين العثور على ضالّته بحيث ينسى كل التعب والإرهاق الذي عاناه من أجل الظفر ببغيته.

التداعي؛ القضية العجيبة الأخرى

قالوا: من الخصائص الطريفة الاخرى لهذا الارشيف العظيم عدم ترتيبه وحفظه للخواطر بصورة مستقلة ومنفصلة عن بعضها، وهذا عمل عبثي ومجهد، بل يحفظ الخواطر على هيئة مجموعات كما تقيم بين هذه المجموعات حلقات اتصال وسلسلة من أسلاك الارتباط؛ العمل الذي لا يتمّ في أي إرشيف ومستودع للمعلومات.

والفائدة المترتبة على هذا العمل هى السرعة والسعة الفائقة

سر الوجود، ص: 130

للاستذكار والحيلولة دون النسيان؛ لأنّ مسائل مجموعة كحلقات السلسلة المتصلة مع بعضها ويكفي أن تحرك حلقة واحدة لتتحرك جميع الحلقات وتتمّ

عملية الاستذكار.

يمكن أن ينسى الإنسان بعضى مشخصات فرد أو تفاصيل حادثة، ولو كانت كل واحدة منهما قد حفظت بصورة منفصلة لما تيسرت عملية الاستذكار آنذاك، أمّا الحفظ الجماعي فإنّه يؤدّي إلى كون الظفر بالضالة متوفراً على الدوام، حيث يندر نسيان كافة أجزاء المجموعة وهذا هو الأمر الذي يصطلحون عليه بتداعي المعاني.

ومن هنا أيضا يستنبط طريق يؤدي إلى تقوية الحافظة، وهو أننا حين نحفظ شيئاً نسعى لايجاد تداعي أكبر بين ذلك المطلب والحوادث الزمانية والمكانية الأخرى أي إننا نبعث بذلك الموضوع برفقة مجموعة من الحوادث التي رافقته إلى الحافظة، ليحصل الاستذكار بكل سهولة بمجرّد تحريك إحدى حلقات هذه الحوادث، مثلًا حين حفظ اسم المنطقة الفلانية نلتفت إلى أنّ حرفها الأول شبيه اسم رفيقنا، وشكل كلمتها يرادف اسم المؤسسة الفلانية أو الشارع الفلاني، فهذه الأمور تسهم كثيراً في عملية الاستذكار أو تقوية الحافظة (عليك بالتمعن).

نعمة النسيان:

قالوا لنا: لعلكم تتعجبون وحقّكم أن تتعجبوا في أنّ النسيان من

سر الوجود، ص: 131

نعم اللَّه الكبرى طبعاً لا نقصد نسيان الشدائد والمصائب وما إلى ذلك، والمراد النسيان التدريجي للقدر الأكبر من خاطرات الماضي لفترة الطفولة أو الفترات التي تعقبها.

ففي الحقيقة يقوم إرشيف الحافظة بعمل غاية في الأهميّة بهذا المجال، فرفوف الحافظة وإن كانت كثيرة جدّاً، إلّاأنّها محدودة بالتالي، فإذا امتلأت يوماً جميعها، وأرادت أيّة حادثة جديدة أن تشق طريقها إلى هذه الرفوف قيل لها: لامجال لك ...

وهكذا سيعجز الإنسان عن حفظ حتى كلمة واحدة أو اسم جديد وياله من مصير مؤلم؟

أمّا هذا الجهاز فإنّه يقوم بصورة تلقائية حين ورود أيّة خاطرات ومسائل جديدة بطرح عدد من الملفات السابقة المهملة التي لا طائل من ورائها فيمهد الرفوف لاستقبال الموضوعات الجديدة والطريف في

الأمر أنّه على درجة من الذكاء بحيث لن يشمل الطرح المذكور أيّة مسائل وملفات لها دور في حياة الإنسان، ويقتصر ذلك على الأمور التي لا تستحق تلك الأهميّة وينبغي نسيانها.

فقلنا: يا له من جهاز عجيب ومبرمج لم نكن لحد الآن نعرف دوره، فودعناه وخرجنا من تلك الغرفة ذات الأسرار، والحال لم نطالع لحدّ الآن سوى غشاءً واحداً من أغشيته!!

ولا ندري كم سنذهل وندهش وكم سيطول الأمر لو فكرنا في دراسة كل جوانب «الدماغ» بالكيفية السابقة، ثم نخرج من هذه الغرفة ونتجول في سائر غرف ودور وأحياء ومدن وبلدان وجودنا؟!

سر الوجود، ص: 132

فهل يمكن القول أنّ هذا البناء الضخم كان صدفة وليس له مهندس؟ لا يمكن إصدار مثل هذا الحكم بشأن طابوقة فضلًا عن غرفة أو دار أو مدينة، أضف إلى ذلك فإنّ بلد وجودنا عبارة عن ذرة من الغبار معلقة في أطراف قصر الوجود.

وهنا نعرف كيف أنّ معرفة الذات سبيل لمعرفة اللَّه.

وهنا أيضاً نكتشف أنّ وجود اللَّه ليس لغزاً ولا حتى خفاء، بل لعله نسي لشدّة وضوحه.

هل من بداية و نهاية للعالم!

اشارة

أعماق ظلام الوجود وظهرتخطيط جديد، إلا أنّ عامل ظهور هذا الوميض لايمكن أن يكون من داخل الدنيا المظلمة

سرّ آخر:

تفيد كافة المشاهدات الموجودة أنّ العالم يسير نحو التآكل، لأننا نعلم أنّ العالم يتألف من ذرات، والذرات بأجمعها في حالة تجزئة.

وخلافاً لما يظنّه البعض فلا تشتمل الأجسام الراديوكتيفية لوحدها على ذرات متغيرة في حالة تجزئة و زوال، بل سائر الذرات هي الأخرى تنطلق إلى ذات الغاية.

أمّا الفارق بينهما هو أنّ ذرات الأجسام الراديوكتيفية إنّما تجتاز هذا الطريق بسرعة، بينما تقطعه ذرات سائر الأجسام ببطى ء، وبالطبع فإنّ مدى التجزئة ضئيل جدّاً في الأجسام الصغيرة كالحصى مثلًا، أمّا في الجسم الكبير كالشمس التي تكبر كرتنا الأرضية بمليون وثلاثمئة ألف مرّة، فقد تصل في اليوم والليلة إلى 300 ألف مليون طن.

ومن شأن هذا الأمر أن يوضح لنا إلى حد موضوعين مهمّين بخصوص بداية هذا العالم ونهايته.

1- إنّ لهذا العالم المادي على وجه الحتم بداية، وخلافاً لما يعتقده البعض فإنّ طول عمره لا يمتد إلى اللا نهاية، لأنّه لو مرّ على عمره مالانهاية من السنوات، كان لابدّ أن تتجزأ كافة ذراته وتتبدل إلى طاقة قبل مالا نهاية من السنوات، إلى جانب كون تجزؤ كافة ذرات العالم مهما كانت بطيئة و تتطلب زماناً طويلًا فلا تبلغ اللانهاية،

سر الوجود، ص: 136

ومن هنا كان ينبغي ألا يكون عالمنا المعاصر سوى كتلة من الطاقة، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى فإنّ طاقات العالم إنّما تتجه دائماً نحو الرتابة والتقسيم المتوازن والمتساوي، يعني بالضبط كقطعة الحديد الذائبة التي تفقد حرارتها بالتدريج في الفضاء الطليق حتى تصبح حرارتها واحدة مع حرارة الاجسام من أطرافها، وهذا ما عليه حال طاقات الدنيا.

طبعاً قطعة الحديد المذابة مادامت لم تبلغ هذه الحالة

فهي مصدر بعث للحرارة (الأشعة تحت الحمراء)، إلّاأنّه ما أن تتساوى درجة حرارتها مع الأطراف حتى تخفت سائر الأمواج والأشعة المذكورة، أضف إلى ذلك حين يكون الحديد مذاباً فإنّ الهواء الملامس له يكون دائم الحركة، أي يصبح الهواء حاراً ويرتفع إلى الأعلى فيحل محله الهواء البارد، وهكذا يكون هنالك نسيم معتدل دائم في تلك المنطقة، أمّا حين تخفت الحرارة (أو الأصح: تتساوى درجة حرارة الحديد مع درجة حرارة الأطراف) فإنّ ذلك النسيم يسكن أيضاً.

مثال آخر: حركة الأنهار و دوّي الشلّالات وحركة أمواج البحار وآلاف الظواهر الجميلة المرتبطة بذلك في كافة أجزاء الكرة الأرضية، كلها وليدة اختلاف سطوحها، ولو تساوت المياه يوماً في سطح واحد من الكرة الأرضية، أي لو توزعت بصورة رتيبة في الكرة الأرضية لإنقطعت آنذاك أصوات الشلّالات وخرير المياه ولسادت جميع الأنهار حالة من الصمت الرهيب.

سر الوجود، ص: 137

وهذا هو وضع الطاقات الموجودة في عالم الوجود، فهي تتّجه نحو الرتابة والسكوت، وإذا قسمت بصورة متساوية فسوف لن يكون هناك سوى الصمت المطلق.

وعليه لو مضى مالا نهاية من عمر العالم لوجب أن تحصل هذه الحالة إلى الان، وهذا هو الشي ء الذي عبر عنه في المادة الثانية من الثرمودينامك باسم الانثروبي أو الكهولة.

فالمادة المذكورة تفيدنا حتمية البداية للعالم المادي، قد لا نستطيع بسبب البعد الزماني بيان تاريخ ظهوره والسنوات التي مرّت عليه على وجه الدقّة، إلّاأنّ المسلم به وجود مثل هذا الشي ء.

2- كما تعلمنا هذه المادة أن للعالم المادي نهاية ولا يمكنه أن يستمر إلى الأبد، لأنّ التجزئة التدريجية للذرات ورتابة الطاقة سيكون ختامها تبدل جميع الذرات طاقة والطاقة الفعالة إلى طاقة خاملة وصامتة وساكنة.

فالعالم كالشخص الذي يفقد طاقته تدريجياً إثر مرور الزمان وبالتالي سيأتي

اليوم الذي ينطفى ء فيه سراج عمره- نعم هنالك اليوم الذي يشهد ذبوله وخموله وفقدان جميع قواه (عليك بالدقّة).

لم يبق كلام سوى عن العصور المكررة والومضة الأولى وقيامة العالم، فقد يكون هذا العالم قد شرع من نقطة مئات أو آلاف أو ملايين المرات، و بعد أن اجتاز عصوراً مديدة من حياته وتلاشى

سر الوجود، ص: 138

وتجزأت كل الذرات استجدت حياته واتخذ لنفسه شكلًا حديثاً، وقد حدث انفجار عظيم في قلب هذا العالم في تلك الحالة الرتيبة والسكون المحض، ثم دبت الحياة من جديد في الطاقات فتراكمت شيئاً فشيئاً وشكلت مواد جديدة وابتدأت حركة حول نفسها فظهرت المجرّات والكواكب وسائر الكرات كالكرة الأرضية والكائنات الحية و ...

وكذلك بعد أن يسير عالمنا المعاصر إلى الافول تندثر كواكبه وتهفت طاقاته ويترتب ثانية من جديد، وعليه وإن كان لكل عصر من عصور عالم المادة بداية ونهاية، بينما تتخذ بالمجموع لنفسها صيغة أزلية وأبدية، إلّاأنّ هناك حقيقة كامنة لا يمكن إنكارها وهي في البداية يكون كل شي ء رتيب وعابث و هكذا في النهاية ولابدّ من تسليط قوة عظيمة من الخارج على عالم الطبيعة وتلقي الومضة الاولى ومضة الوجود والحياة بسكونها وصمتها على العالم وإلّا كيف للوسط الهادى ء والفاقد لأي نشاط أن يكون مصدراً للحركة والفعالية، نستنتج ممّا سبق أنّ العالم في ظهوره الأول يتطلب قدرة ما وراء الطبيعة، كما سيحتاج بالتأكيد إلى مثال هذه القدرة في المستقبل بعد الأفول، ومن هنا يحل لدينا لغز آخر من ألغاز الوجود، يمكن تلخصيه في العبارات التالية:

* لعالم المادة بداية وتأريخ للظهور.

* لعالم المادة نهاية وتأريخ للأفول.

* يمكن أن تكون هذه البداية والنهاية تكررت عدّة مرات.

سر الوجود، ص: 139

* يحتاج العالم في بداية إلى عامل ماوراء

الطبيعة.

* يحتاج العالم في مستقبله بعد الأفول المطلق إلى العامل المذكور.

* و عليه فلا مفهوم لأزلية العالم الراهن وأبديته.

ويمكن لهذه الحقائق أن تجيب على عدّة أسئلة (عليك بالدقّة).

قضية المصير

اشارة

التفكير بشأن المصيريهز الإنسان

سر الوجود، ص: 143

يقال: لكل فرد مصيراً مكتوب عليه حين ولادته من بطن أمّه، وهذا المصير كظل الشبح يطارده في كل مكان من حياته ولا ينفصل عنه.

وهذا المصير أرسخ ثباتاً من لون بشرة الإنسان، وهذا اللون هو روح الانسان ونفسه! فالكل يعيش تحت ظل ثقل مصير الحياة من صغير وكبير وسلطان ومُستجدي وعبد وحرّ وغني وفقير ويبدو أنّ لعبة المصير هي التي ترفع بعض الأفراد الحمقى إلى القمة وتدفن النوابغ تحت التراب.

وكذلك لعبة المصير هي التي تهرم مجنون في غم عشقه لليلى وتقوده إلى الموت بينما تسبغ الحلاوة على فلان قبيلة وفلان عصبة!

وكذلك لعبة المصير هي التي تودع بعض الأبرياء السجن أو تحملهم إلى أعواد المشانق بينما تبلغ بالمجرمين والآثمين منتهى الرفعة والعزة. ويبدو التفكير مرعباً بشأن هذا الموضوع خشية أن يكون مصيرنا من المصائر المشؤومة والمخيفة، فهذه القضية تهز الإنسان من أعماقه. الويل لنا إن كنّا ولدنا بمصير مشؤوم من بطون أمهاتنا ...

سر الوجود، ص: 144

ألا أنّ المسلم به هو أن تصوير المصير بهذا الشكل وأنّ كل تفاصيل حياتنا قد دونت في متن كتاب الوجود وقد اتّخذ حالة من الثبات لا يبدو أكثر من وهم وخرافة، تفيد أنّ هذه الفكرة تعود إلى عصور الأساطير والخرافات.

والحق ليس هنالك من دليل يؤيد الفكرة المذكورة، بل بالعكس قامت عدّة أدلة على نفي الفكرة السابقة.

أمّا الأسباب التي كرست تلك الخرافة وجعلتها ذات صبغة عالمية فيمكن إيجازها في ما يلي:

1- إنّ مسألة المصير وسيلة مؤثرة لأولئك الذين

يريدون إستعباد البشرية واستعمارها، إلى جانب تحطيم مقاومتها والحيلولة دون قيامها وثورتها.

فللفرد مصير محتوم ومعين لا يمكن تغييره، وهكذا مصير الأمّة.

فيوحي ذلك إلى الأمّة بأنّ مصيرها منذ الأزل قد تبلور بالفقر والاستعمار وما عليها إلّاالاستسلام لهذا المصير.

كما أنّ الغرب وبهدف استغلال الثروات البشرية ونهبه لخيرات الشعوب الفقيرة كالشعوب الأفريقية التي هي أحوج ما تكون إلى هذه الخيرات، ويدع «الشرق» بين الموت والحياة من فرط الحاجة والتخلف، يسعى لاسباغ المشروعية على هذه العملية المقيتة تحت عنوان أنّ ذلك مقدّر منذ الأزل، وبالتالي فإنّ الوقوف بوجه هذه التقديرات بمثابة الوقوف بوجه القوانين الطبيعية المسلمة والذي لا يقود سوى إلى الهزيمة والفشل ...!

سر الوجود، ص: 145

والعجيب أنّ الماركسيين وبصورة عامة الماديين، الذين يعتبرون أنفسهم من رواد الحركات والنهضات التحررية إنّما يعتقدون بحالة من الجبرية التاريخية أو الفلسفية والتي قد لا تختلف في أكثر مواردها مع فرضية المصير المذكورة، وهنا يسعى الذين يقرون النزعة المادية لتفويض الإنسان مصيره، ويرون الماهية (التي يعبرون عنها بمجموعة القيم الفردية والاجتماعية للإنسان) تابعة له أيضاً.

على أيّة حال يبدو أنّ فكرة الجبر والتقدير التي تبناها خلفاء بني امية وبني العباس وسائر طغاة التاريخ البشري إنّما هي وليدة مضمونها الاستعماري والتخديري، فقد برر أحد الامراء هجوم المغول على منطقة واحتلالها بعد أن يأس من صمود الناس ومقاومتهم بأنّ ذلك كان نوعاً من العذاب الإلهي والمصير الحتمي! فما أحرى الأمّة بالاستسلام لذلك القدر.

وما دعوة الأنبياء حملة أعلام الحرية الإنسانية، وسعيهم الحثيث لتحرير إرادة الإنسان وتحكمه في مصيره إلّادلالة أخرى على تجذر الفكرة الخاطئة المذكورة.

2- الموضوع الآخر الذي أنعش تلك الخرافة هو التوجيه الساذج للفشل والهزيمة حيث يمكن تقليد المصير كافة الذنوب والأخطاء وإبعاد الذات عن مسؤوليتها،

ومن هنا قلما ترى من ينسب الانتصارات الكبرى والنجاحات إلى المصير، كأن ينسب إلى هذا المصير مثلًا نجاحه في الامتحان الوزاري أو نيل المنصب السياسي الفلاني أو كسب التجارة الفلانية، حيث يعزى مثل هذه الأمور إلى

سر الوجود، ص: 146

كفاءته وذكائه وقدرته وقابليته الذاتية!

أمّا إن أفلس و سقط من موقعه سارع إلى تحميل المصير مسؤولية ذلك في محاولة للتغطية على أخطائه!

«مسكين هو المصير» إنّما يتابع الإنسان في الشقاء دائماً ويحمل عنه خطاياه- بينما ليس له من دور في سعادته- والحق أنّ هذا يمثل نوعاً من إبتعاد الإنسان عن الواقع كما يظهر أنانيته وإعجابه بنفسه.

على سبيل المثال ...:

يتعرف شاب وشابة على بعضهما في أحد الأماكن العامة كالسينما إثر مشاهدتهما لفلم خليع فتلتهب لذلك عواطفهما ويتزايد عشقهما فيقترح أحدهما على الآخر قضية الزواج بهذا الشكل العجول.

ويسعى الطرفان هنا لإخفاء هذا الأمر والحذر من اطلاع الآخرين بدلًامن استشارة الوالدين وبعض الأصدقاء الناصحين وممن لهم خبرة، وهكذا يرغب كل منهما بالآخر دون أدنى دراسة وتحقيق، تتمّ فترة الخطوية في ظل سعي كل طرف لستر عيوبه البدنية والأخلاقية عن الآخر والاقتصار على إظهار الكمالات، يحصل الزواج المبارك بينهما وينقضي شهر العسل في حالة من تخدير الأعصاب وعدم الالتفات إلى أي أمر والاقتصار على اللذة.

ثم يتدرجان في مواجهتهما للحياة ومشاكلها فتبدأ عيونهما وآذانهما بالتفتح، ليرى كل واحد منها كل يوم أحد العيوب في الأخر،

سر الوجود، ص: 147

فلا تمضي مدّة طويلة حتى تبيّن عيوب كل منهما للآخر، وهنا يتأوه الزوج ويقول: ترى ماذا أفعل لقد كانت قسمتي كذلك؟ المصير هو الذي قادني إلى هذه الزوجة وإلّا أين أنا من هذه؟ إنّها يد التقدير وأنا لأصغر من أن احاول تغييرها والهروب منها.

الزوجة هي الاخرى تتأوه

من حظها وطالعها المشؤوم الذي أتاها بمثل ذلك الزوج ولقد صدقوا حين قالوا إنّ جبين البعض أسود، ودليل ذلك أنّه أتى الكثيرون ومنهم لخطبتي أفراد شرفاء ونجباء ومن عوائل أصيلة ذات حسب ونسب، إلّاأنّي رفضتهم جميعاً، حظي ومصيري هو الذي جعلني أقترن بهذا الشقي، والحال أنّ كل ذلك البؤس والشقاء كان الوليد الطبيعي لحماقتهم وباختيارهما حتى رأيا بأم أعينهما النهاية الفاشلة لذلك العشق الزائف.

لقد أقدما على عملهم دون أدنى تريث أو دراسة أو استشارة، بل جهداً على إخفاء الأمر، وما أكثر هذه الحالات والنماذج في القضايا السياسية والتجارية والزواج وما شابه ذلك.

3- العامل النفسي الآخر الذي أكّد خرافة المصير هو عدم اطلاع الناس على أسباب الظواهر الاجتماعية، فهم يعتمدون خرافة المصير في تبريرهم للحوادث دون أن يكلّفوا أنفسهم عناء البحث والمطالعة والفكر. فيزعمون مثلًا لو هجمت جيوش المغول وحطمت الشرق والغرب واستسلمت الأمّة لُاولئك البرابرة الوحوش فليس ذلك إلّا نوع من التقدير والمصير الذي كتب على هذه الامّة، فهم لا يفكرون أبداً ما هي نقاط الضعف في هذه الأمّة.

سر الوجود، ص: 148

إلى جانب ذلك فإنّ الجيش المغولي الجرار لم يظهر فجأة وقد أخذ يستعد منذ زمن طويل، فلو كان زعماء الامّة وقادة الجيش ممن يتصوف بالحنكة والذكاء لتكهنوا بما ستؤول إليه الأحداث ولكان عليهم البحث عن حلول سلمية أو التضامن مع سائر البلدان من أجل درء الخطر، إنّ تألق المسلمين في أسبانيا ولفتهم كافة أنظار العالم إليهم في بداية الأمر ومن ثم سقوطهم واندحارهم لم يكن ذلك بسبب التقدير والمصير والحظ والطالع وانتقال القمر للعقرب والشمس إلى برج السرطان والجوزاء والسنبلة، بل كان معلولًا للاهواء والخلود إلى الراحة وعدم كفاءة القادة وغفلة المسلمين.

4- التفكير المادي

كما ذكرنا آنفا يتبنى قضية المصير الاجباري، لأنّ الاقرار بجبرية قانون العلة والمعلول حسب تعليماتهم فإنّ مفهوم ذلك أنّ البنية الخاصة الجسمية والروحية للإنسان إلى جانب الوسط والتربية والتعليم إنّما ترسم له مصيراً معيناً، حيث القانون المذكور وعلى غرار قانون الجاذبية وسائر القوانين الطبيعية يأبى التخلف، وليس هنالك من دخل للإرادة والاختيار، بل الإرادة نتيجة جبرية لعوامل باطنية لكل شخص ومن إفرازات قانون العلة والمعلول.

وقفنا لحد الآن على مختلف الأسباب التي دعت إلى ظهور قضية المصير، ونريد أن نرى هل هنالك من دليل على المعنى المذكور للمصير؟

سر الوجود، ص: 149

لابدّ من القول في الاجابة عن هذا السؤال: كلا، بل هذه من ألاعيب الاستعمار، أو أعمالنا وأفعالنا، أو كسلنا و عدم سعينا لتقصي علل الظواهر، أو الافكار المنحرفة للماديين وما إلى ذلك، والحقيقة أنّه لابدّ من اعتبار المصير (بهذا المعنى الخاطى ء) في عداد أساطير الغيلان والعفاريت وحكايات الوهم والخرافات، وأفضل دليل على مثل هذا المصير هو عالم الوعي واللاوعي لكل إنسان، لأنّ كافة أفراد الجنس البشري دون استثناء إنّما يسعون لتحسين حياتهم ومعيشتهم، وهذا القانون العام للحياة هو الذي دفع الإنسان أن يبذل قصارى جهده منذ ظهوره على الأرض لتحسين معيشته في حركة الحياة ولم يحد عن ذلك قط إلّافي موارد خاصة.

حسناً، لو كان المصير المحتوم حقيقة لما وجب على الإنسان أن يسعى ويجهد نفسه ولوقف مكتوف الأيدي منتظراً ما قدر له، فالمريض لا يراجع الطبيب ويستعمل العلاج لاستعادة عافيته.

ويمتنع أبطال الرياضة عن مزاولة التمارين للفوز في المسابقات.

والطلبة الجامعيون لا يستذكرون دروسهم من أجل النجاح في الامتحان.

وبالتالي لاينبغي للعمال والتجار والعلماء أن يكلّفوا أنفسهم عناء التعب من أجل بلوغ أهدافهم، فهناك مصير لا مفر منه مفروض

على الإنسان.

فمثل هذا المعنى يجعل الضمير البشري يرفضه بشكل قاطع، بل لا يقرّ به حتى اولئك الأفراد الذين يبررون فشلهم من خلال المصير.

سر الوجود، ص: 150

وناهيك عن كل ما سبق فلو قبلنا المصير بهذا المعنى لم يعد لنا الحق في مؤاخذة أي فرد- حتى الجناة والقتلة- على أعماله، فهو مضطر لما ارتكب ولم يكن أمامه من سبيل إلى الهروب.

كما لابدّ من إلغاء أعمدة النقد في الصحف والمجلات التي تتبع أعمال الأفراد والمجتمع، وذلك إنّها محاولة يائسة للوقوف بوجه المصير، وهل من جدوى في ذلك؟

كما لابدّ أن تخمد شعلة النضال من أجل الحرية والاستقلال والخلاص من العبودية والاستغلال.

طبعاً يرفض المصير بهذا المعنى جميع الأفراد الذين ينشطون في أمر التربية والتعليم، وإلّا لما بذلوا جهودهم عبثاً، وظيفة الأنبياء وتعاليمهم ومحور دعواتهم هي الأخرى لا تتناسب أبداً والمعنى المذكور للمصير، ومن الطبيعي ألا يعود هنالك افتخار لما يحصل عليه الأفراد من جوائز وأوسمة وألواح تقدير، فليس لهم أي دور في تحقيقها، كما تصبح المحاكم وأحكامها وعقوباتها من قبيل الأمور العبثية الحمقى.

وبغض النظر عمّا سبق فإنّ من يؤمن باللَّه لا يسعه قبول مثل هذا المصير الذي يمثل قمة الظلم والجور، فهل يقبل عاقل له حظ من المنطق و العدل أن يجبر أحداً آخر عن عن طريق المصير لأن يقوم بعمل ثم يحمله مسؤولية ذلك العمل والحال لو كانت هناك من مسؤولية لوجب تحميلها إيّاه، لا ذلك المجبر الذي لا خيار له! ومن لا يؤمن باللَّه فهو يدرك على الأقل الفارق بين الإنسان والحجر الذي

سر الوجود، ص: 151

يسقط من الأعلى إلى الأسفل أو ورقة الشجرة التي تحركها الرياح وذلك لأنّه:

إننا مهما أنكرنا عامل الاختيار فلا يسعنا إنكار الفارق الواضح

بين الكائنات الحية وعديمة الحياة، حيث يمتاز هذان العالمان بهذا الأمر، طبعاً لا نقول ليس بينهما قواسم مشتركة، لكن هناك وجه للإمتياز ظاهر بينهما حيث لأحدهما قوّة خفية ومجهولة تعرف بالحياة ومن آثار التغذية والنمو وإنجاب المثل، بينما يفقدها الآخر، كما أنّ للكائنات الحية حس وحركة تتصف بها الحيوانات أيضا بينما تفتقر إليها النباتات.

وكذلك الإمتياز الواضح الذي نشاهده بين الإنسان والحيوانات أنّه يمتلك الفكر والإرادة والعزم وتهذيب النفس والمطالعة والإبداع وتأمل الماضي والحاضر والمستقبل والسير نحو السمو والتكامل، بينما تنعدم كل هذه المفردات لدى الحيوانات، ومن هنا أودع الإنسان تقرير مصيره، وهو وحده الذي يتحكم بهذا المصير فله أن يجعله مضيئاً شامخاً أو وضعياً مظلماً!

ومن هنا أيضا يراه الجميع مسؤولًا عن أعماله، وليس للحيوانات والنباتات ذلك.

وعلى هذا الضوء فإنّ قبول قضية المصير بالمعنى المذكور بشأن الإنسان لا ينطوي على مفهوم سوى التنكر لكل هذه الفوارق والإمتيازات للإنسان على سائر الحيوانات والنباتات والكائنات غير الحية، وهو الأمر الذي لا يتفق وأي من الاصول الإنسانية، وبناءً على ما تقدم فإنّ كافة الأدلة تشير إلى أنّ مصير كل إنسان قد وكّل به.

فلسفة الخلقة

اشارة

لماذا جئنا؟ و ماذا سنصبح أخيراً؟ و ما حاصل مجيئنا و ذهابنا؟

سر الوجود، ص: 155

قليل من الأفراد من لا يطرح هذا السؤال: لماذا جئنا؟

ماذا ينقص الغني الحكيم حتى خلقنا؟! ...

لولم نخلق فهل ستنطبق السماء على الأرض؟ أم تتداخل المجرّات؟ أتنتهي الكواكب والسيارات؟! ... يبدو أنّه لا يتغير أي شي ء، أو ليست أغلب السيارات غير مأهولة؟ فما مشكلتها من جراء ذلك؟ حقّاً ماذا كان سيحصل لو لم نكن؟ وإذا كان مراد اللَّه سبحانه قضاء حاجة في نفسه، كأن نعبده ونثني عليه ونتواضع لعظمته، فإنّ هذا الأمر لا

ينسجم وذاته الغنية المطلقة.

هل من أثر للمدح أو الذم على الشمس من قبل بعوضة في زاوية سحيقة من زوايا كرات المنظومة الشمسية ... قطعاً لا، وممّا لا شك فيه أنّ كفرنا وإيماننا لأصغر من ذلك تجاه ذلك الوجود اللامتناهي، فالشمس ذرّة غبار تائهة في سماء عظمته! وإذا لم يكن ذلك هو الهدف من خلقنا فما هو الهدف إذن؟

ليتنا بقينا في مستنقع العدم ولم نظهر للوجود .. فخلقنا لم يكن منذ الأزل سوى رقعة شاذة!

هناك طائفة أراحت نفسها كلياً من هذا السؤال فاعتقدت بعبثية الخلق وعدم انطوائه على أي هدف وغاية!

إنّ أنصار عقيدة عبثية الخلق من الماديين وإن نالوا هدوءاً كاذباً

سر الوجود، ص: 156

لأنّهم لم يروا لأنفسهم أيّة وظيفة ومسؤولية (ولعلهم عمدوا عن علم لحمل هذه الفكرة بغية الهروب من المسؤولية والتمتع بالحرية المطلقة والاستغراق في اللذات)، إلّاأنّهم لم يلتفتوا إلى أنّ مثل هذا التفكير يحطم جميع القيم الإنسانية والاجتماعية، وليس لأيّة فلسفة أو مدرسة أو منطق أن يحدد عمل مثل هؤلاء الأفراد، فلم هذه المحدودية؟ لم لا يفعلون ما يشاءون؟ لماذا يستجيبون للقوانين والإلزامات الأخلاقية والاجتماعية؟ إذا كانت الخلقة عبثية طائشة فليس هنالك ما يدعو إلى التحفظ والالتزام. الواقع إنّ هؤلاء الأفراد خطيرون ومرعبون.

نعم للجزئيات، لا للكليات!

أنا أعتقد أنّ أتباع فكرة عبثية الخلقة ساذجون جدّاً، حيث يعتقدون أنّ لكل عضو من أعضاء أجسامهم حتى الأظافر والأهداب وخطوط الأنامل هدفاً معيناً، ومع ذلك لا يرون من هدف وغاية لمجموع البدن وعالم الوجود!!

إنّ «اللَّه» أو «الطبيعة» أو «الآلهة» أو ما شئنا تسميته، إنما خلق كل طبقة من الطبقات السبع للعين والأجفان والأهداب والعضلات السداسية الشفافة التي تدير حدقة العين والأوعية الدموية وغدد الدمع ونافذة خروج الماء منها من أجل

هدف واضح معين، وكذلك هناك هدف معين لخلق الأذن والأنف والقلب والأعصاب و ... وسائر

سر الوجود، ص: 157

الأعضاء، كما هناك برنامج منظم لأعمالها ووظائفها أمّا مجموع البدن فلا!! فهل بدن الإنسان و وجوده أقل من هدب عين؟

كيف لا يكون لشي ء بكليته هدف بينما هناك هدف لأجزائه؟ ياله من حكم ساذج.

نفرض أنّ مهندساً بنى قصراً وقد اعتمد أدق الحسابات في بنائه لجميع الطابوق والحجر والصالات والديكورات والأحواض والحدائق فرتبها لأهداف معينة، فهل يمكن التصديق بأنّ ذلك القصر بأجمعه قد بُني عبثاً دون أي هدف، لعلي لا أقف على عمق الهدف لكنّي أسلم بوجوده.

دعانا شخص لمنزلة ووفر لنا جميع وسائل الضيافة، وحين نتمعن نرى أنّه لم يقصّر في شي ء ورتبها جميعاً بمنتهى الذوق وكانت جزئيات الضيافة تنطوي على أهداف معينة، فهل يمكن القول أنّ أصل الدعوة كان عبثياً وأجوفاً.

العجيب أنّ دعاة عبثية الخلق حين يردون أي فرع من العلوم الطبيعية يعتمدون غاية الدقّة في تفسيرهم لمختلف الظواهر ولاسيّما في علم الفسلجة ووظائف الأعضاء، فإنّهم لا يغضون الطرف عن معرفة وظيفة أصغر غدة أو عظم أو عصب بسيط، أمّا أنّهم حين يصلون وظائف المجموع يزعمون صراحة أنّها عبث! طبعاً هم يعلمون مدى التناقض المضحك الذي وقعوا فيه.

وعليه وبالنظر لوجود الهدف في كافة ذرات وأجزاء وجود الإنسان فلابدّ من الإذعان بوجود الهدف للكل وأنّه هدف قيّم وسامٍ،

سر الوجود، ص: 158

وبالالتفات إلى وجود الهدف في مختلف الظواهر والكائنات من حولنا فلابدّ من قبول الهدف الرفيع الذي يختزنه العالم بأسره، وحتى وإن فرضنا عدم وقوفنا على هذا الهدف لحدّ الآن، إلّاأننا نقطع بوجوده.

ومن هنا ذم القرآن أولئك الذين يرون عبثية الخلق وصوّرهم بالخلومن الإيمان ى وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا

بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ النَّارِى «1».

عرفنا لحدّ الآن أنّ الفلسفة القائلة بعبثية الخلق هي نفسها فلسفة عبثية ولا تصدر من عقل ومنطق، ونسعى هنا لتشخيص الهدف المذكور، فلو تأملنا سير الحوادث لعلنا نحصل على إجابة السؤال فلا تبدو صعبة ... لماذا؟

لأننا إذا عدنا إلى حياتنا الشخصية، كنّا أطفالًا نزحف ونقفز ونقوي عضلاتنا، وكنّا نتعرف على آثار الأشياء عن طريق أنواع الألعاب، وكنّا نعدّ أنفسنا لحياة أكمل من مرحلة الطفولة.

ثم نرجع أكثر إلى عالم الجنين حيث كنّا في وسط مظلم مخيف، وذلك لعدم امتلاكنا القدرة التي تؤهلنا للعيش في وسط حرّ، إلّاأننا تكيّفنا مع ذلك الوسط حتى استعددنا للحياة المستقلة في الوسط

سر الوجود، ص: 159

المفتوح فخرجنا إلى هذا المكان.

وإذا عدنا إلى الوراء أكثر فلم نكن سوى ذرات في الطبيعة الصماء وسط التراب وماء البحار وأوراق الأشجار ثم جهدنا وتقدمنا لنتحول إلى نطفة بشرية ومن ثم شهدنا مرحلة تكاملية أخرى والنتيجة هي أننا كنّا نتقدم دائماً خلال مسيرة طويلة ممتدة نحو التكامل، وبالمجموع فإنّ مجتمعنا البشري كان يوماً يعيش في الكهوف والغابات وكانت وسائل الدفاع تجاه الحيوانات المفترسة والخطيرة تقتصر على الخشب والحجر، كان إشعال النار يمثل أعظم اختراعاتنا، وأعظم صناعاتنا هو صنع جسم مدور كالعجلة إلّاأننا لم نستقر على حالة حتى شهدنا اليوم استعمال أعقد الأنظمة الألكترونية (طبعاً من قبل عالم البشرية، لا نحن) والسفن الفضائية التي تطلق إلى الكرات السماوية، ونوقن أيضاً أننا لا نكتفي بذلك ولعله يأتي اليوم الذي يكون فيه صنع السفن السماوية والآلات الكامبيوترية الضخمة التي تبدو للناس آنذاك كما يبدو اختراع العجلة وكشف النار لنا!

ومن هنا كنّا نعيش التكامل على الدوام ...

لا ندعي أن لا نقص

هناك في المجتمع البشري، بل هناك الكثير، غير أنّه لا يمكن التنكر لسعة دائرة التكامل.

أفلا نفهم من مجموع هذه المطالعات أنّ هدف خلق الإنسان كان التكامل في كل مكان، غاية ما هنالك ليس فقط التكامل على المستوي المادي، بل على كافة المستويات من قبيل العلم والصناعة والفلسفة والأخلاق والقيم الإنسانية وفي كل شي ء.

سر الوجود، ص: 160

وبالطبع فقد زودنا بالوسائل اللازمة لهذا التكامل، وهناك القوى الخفية التي تسوقنا نحو الأمام، وفي الحقيقة إننا بدأنا من الصفر ونتّجه نحو اللانهاية وستبقى حركتنا دائماً بين الصفر واللانهاية.

ولعل هذه هي الحقيقة التي أشار إليها القرآن في إطار ذكره لفلسفة خلق الإنسان متمثلة بالعبادة ى وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِي ى «1»

.حيث حقيقة العبودية هي التربية الكاملة للإنسان وايصاله إلى السمو والتكامل.

لماذا جئنا من العدم؟

لابدّ إنّك ستقول أنّ مسيرنا بعد الوجود سيكون تكاملياً، لكن ما الضرورة من مجيئنا للوجود، ليكون للخلق تكليف يروم سوقنا إلى الكمال؟ والخلاصة فالتكامل يرتبط بالموجودات، أمّا المعدومات فلا تحتاج إلى التكامل (عليك بالدقّة).

إلّا أنّ هناك إجابة واضحة على هذا السؤال وهي:

إذا أوصلنا العدد 9 إلى 10 فمن المسلم به أنّه حصل تكامل (بقدر واحد) فإن بلغنا بالصفر عدداً فهل حصل تكامل أم لا؟ قطعاً حصل تكامل لامتناهي، فإذا كان الواحد هو وحدة للتكامل فإنّ استبدال الصفر بعدد هو تكامل فائق (عليك بالدقّة أيضاً)، يعني إن كان تطور النطفة في عالم الجنين تكاملًا، فإنّ ظهور النطفة وذراتها من العدم يعد مالانهاية من التكامل.

ما فائدة التكامل؟

سمعنا مراراً على هامش التوضيحات المذكورة بشأن خلق الإنسان أنّ البعض يسأل: أننا إذا خلقنا من أجل التكامل على جميع الأصعدة المادية والمعنوية، فما فائدة هذا التكامل؟ ماذا سيكون الأمرلو لم يكن؟

للإجابة على هذا السؤال نطرح على الشباب سلسلة من الأسئلة الاختبارية فيلتفتون آخر الأمر إلى الردّ القاطع على السؤال، مثلًا نسأل:

- لم تدرسون؟

- لنقبل في الإمتحانات.

- لم تقبلون في الإمتحانات؟

- لنحصل على شهادة مرضية.

- ما فائدة الشهادة؟

- لنمارس عملًا جيداً.

- ما غايتكم من العمل الجيد؟

- ليكون لنا دخل جيد.

- و ما هدفكم من الدخل الجيد؟

- لنعيش حياة وادعة مرفهة و نتمتع بالحياة.

- ولم التمتع بالحياة و المعيشة المرفهة؟

هنا يتوقفون عن الإجابة و يقولون ... حسنا الحياة المرفهة ...

طيب ... كل شي ء معلوم بعد ذلك ...

سر الوجود، ص: 162

وهنا نلفت نظر هؤلاء إلى حقيقة كلية، وهي أنّ للأهداف أبعاداً مقامية حتى تبلغ الهدف النهائي الذي يطلب ذاته، لا شي ء آخر، أي أنّ البقية مقدمة وهو ذو المقدمة ويصطلح عليه أحياناً بالهدف النهائي

وغاية الغايات.

وعليه فإننا نريد كل شي ء من أجل تكامل الإنسان، وأمّا التكامل فهو الهدف النهائي ونطلبه لذاته.

ما استفادة الخالق من وجود المخلوق:

وممّا تقدم يثور السؤال الآتي:

حسناً إنّ هدف خلقنا هو تكامل وجودنا في ظل التعاليم والقيم الإلهيّة، ولكن ما فائدة ذلك للخالق؟ ما الذي يجنيه من هذا العمل؟

يبدو أنّ هذا السؤال ينبع من مقارنة خاطئة؛ مقارنة خالق عالم الوجود اللامتناهي من جميع الجهات بوجودنا المحدود من كل جهة.

طفل يسأل والده الغني! أريد أن أشتري اللعبة الفلانية بهذه النقود، أنت ماذا تشتري لنفسك من لعب بنقودك؟ فهو يتصور الجميع أطفالًا مثله ويعشقون الألعاب.

ولما كان وجودنا في كل تفاصيله قائماً على أساس رفع الحاجة في كل خطوة نخطوها، فعلى أساس هذه المقارنة المضلة نتصور أنّ اللَّه أيضا إذا قام بعمل إنّما يقوم به لرفع الحاجة، والحال ليس الأمر كذلك. أي أنّ أعماله ليست من قبيل أعمالنا من هذه الناحية، حيث

سر الوجود، ص: 163

نحاول في كل عمل رفع حاجة من حاجاتنا، بينما يروم اللَّه رفع حاجة الآخرين وتكاملهم، فذاته مشعة كالشمس، وشعاعها ليس لنفع بل ذاته فياضه وتحفظه عن إفاضة النور- نور الوجود ونور التربية والتكامل- إنّما هو نوع من البخل والنقص وذاته منزهة عن كل بخل ونقص.

فإن كانت الشمس التي تفوق الكرة الأرضية بمليون وثلاثمائة ألف مرّة فإنّها تفيض الأشعة والحرارة والحياة لا لأنّ عمل فراشة على تجفيف جناحها بأشعة الشمس، أو قيام زنبور بالاستمتاع بحمام شمسي خلف خليته له أدنى تأثير على مصير الشمس، بل إنّها مصدر النور، وإفاضة النور من لوازم ذاتها، غاية الأمر أنّ الشمس ليس لها من اختيار في هذه الافاضة، بينما للَّه مثل هذا الاختيار.

التكامل في قلب الموت:

هل يستمر تكامل الوجود الإنساني لما بعد الموت؟ مع العلم إننا نشاهد بوضوح أنّ التكامل البدني للإنسان يستمر حتى سن الأربعين ثم تبدأ المرحلة التنازلية حتى تصل الصفر

حين الموت فينتهي كل شي ء.

لكن لا ينبغي نسيان أنّ موتنا إذا كان يعني نهاية الحياة وما بعد

سر الوجود، ص: 164

الموت هو الظلام التام والعدم، فقد حصلت هنا عملية تناقض التكامل (مع العلم إنّ هذا الحساب صحيح من الناحية الفردية، أو من حيث النظرة الفردية، ولكن من الناحية العلية فان النوع الإنساني يواصل مسيرته التكاملية وآثار الناس باقية مهما كانت صغيرة، كما تواصل البشرية، مسيرتها رغم ذهاب الأفراد ولا تعرف مسيرتها التعثر والتوقف).

ولكن إذا نظرنا إلى الموت على أنّه نوع ولادة ثانية (كولادة الفرخ من البيضة والإنسان من رحم الأم) وانتقال من وسط محدود إلى وسط يفوقه سعة بعدة أضعاف، فإنّ مواصلة المسيرة التكاملية ستكون حتمية حتى في عالم البرزخ و القيامة.

وليس لدينا أي دليل على توقف هذه المسيرة التكاملية للروح بعد الموت، بل سوف تستمر هذه المسيرة نحو اللانهاية (نحو الذات القدسية الطاهرة).

الختام

/ 73

الصدارة في التفكير: 77

سر الوجود، ص: 166

لايمكن الاكتفاء بالاعتماد/ 81

على الحس بمفرده/ 81

ذريعة أخرى مهمة: 83

الحواس لوحدها تخوننا: 85

و نقرب المطلب أكثر: 87

إعترافات الفلسفة الحسية والبراغماتية: 88

جواز سفر لعالم ماوراء الحس/ 91

العالم الحسي في اتساع دائم: 94

دور العقل في تسديد الحس: 96

الاعجوبة الصناعية لعصرنا/ 101

غرفة ذات أسرار/ 109

أغرب إرشيف عالمي/ 117

تصنيف الحافظة: 121

سرعة الاستذكار: 122

إعجاز الحافظة!/ 125

معجزة الحافظة: 128

التداعي؛ القضية العجيبة الأخرى 129

نعمة النسيان: 130

سر الوجود، ص: 167

هل من بداية و نهاية للعالم!/ 133

سرّ آخر: 135

قضية المصير/ 141

على سبيل المثال ...: 146

فلسفة الخلقة/ 153

نعم للجزئيات، لا للكليات! 156

لماذا جئنا من العدم؟ 160

ما فائدة التكامل؟ 161

ما استفادة الخالق من وجود المخلوق 162

التكامل في قلب الموت 163

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.