مجد البيان في تفسير قرآن

هویة الکتاب

بطاقة تعريف: الاصفهاني النجفي ، محمدحسین بن محمدباقر،1266- 1308ق.

عنوان واسم المؤلف: مجدالبیان في تفسیرالقرآن/ محمدحسین الاصفهاني النجفي.

تفاصيل المنشور: تهران: موسسة البعثة، قسم الدراسات الاسلامیة، 1408ق.= 1366.

مواصفات المظهر: 663 ص.: نمونه.

ملحوظة: ببليوغرافيا مع ترجمة.

موضوع : تفسيرات الشيعة -- قرن 13ق.

المعرف المضاف: موسسة البعثة، وحدة العلاقات الدولية

ترتيب الكونجرس: BP97/5/الف 6م 3 1366

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 71-3584

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

كلمة الناشر

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا الكتاب

اشارة

* طبع لأوّل مرّة على الحجر سنة 1313 ه بطهران في 313 صفحة مع أخطاء كثيرة. قام بطبعه و تحريره عن خط المؤلف (ره) السيد محمّد تقي الموسوي الخوانساري.

* أعيد طبعته هذه سنة 1317 ه مع ترجمة للمؤلف في المقدمة بقلم شقيقه (رهما).

و أما في طبعته الاخيرة

* تم أولا استنساخ التفسير المطبوع ثم قوبل مع نسخة المؤلف الخطيّة بعد استحصالها من ذويه، و جرى تصحيح كثير من الاخطاء الناشئة عن الكاتب كما أجريت تصحيحات على بعض الاخطاء النحوية. و ذكر أيضا بعض مواضع الاختلاف بين النسخة الخطيّة و النسخة المطبوعة الحجريّة في الهامش.

* ذكر في الهامش مواضع الآيات و مصادر الاحاديث و الاقوال المنقولة بأجمعها تقريبا.

* المؤلّف (ره) بدأ كلّ صفحات كتابه بعبارة: «ربّ يسّر بحق م، ع، ف، ح، ح (ع)» متوسّلا بالخمسة الميامين من أصحاب

ص: 5

الكساء عليهم السّلام. لذلك ارتأينا ذكر نفس هذه العبارة في بداية كلّ صفحة.

* إنّ هذا الكتاب معروف ب «تفسير الاصفهاني» غير أنّ المؤلّف لم يضع له اسما و بناء على طلب ذوي المؤلّف (ره) سمّيناه «مجد البيان في تفسير القرآن».

* المراحل العلمية في المقابلة و التحقيق و التعليق جرت تحت إشراف حجة الاسلام محمّد پاكتچى.

و من اللّه التوفيق، و الحمد للّه أوّلا و آخرا.

قسم الدراسات الاسلامية في مؤسسة البعثة

ص: 6

ص: 7

ص: 8

ترجمة المؤلّف

بقلم أخيه الحجة الشيخ حاج آقا نور اللّه طاب ثراه

بسم الله الرحمن الرحيم و به ثقتي

الحمد للّه ربّ العالمين خالق الخلق أجمعين، و الصلاة و السّلام على محمّد و آله الطاهرين، و لعنة اللّه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

أمّا بعد، فيقول العبد المذنب الخاطئ الراجي إلى رحمة اللّه «مهدي» الملقب ب «نور اللّه» - عفى اللّه عن جرائمه و آثامه، و أيده اللّه بطاعته في قصير أيّامه -:

قد سألني بعض الاخلاّء ممّن لا يسعني مخالفته، و لا يمكنني مماطلته أن أذكر نبذا من أحوال صاحب هذا الكتاب من غير إيجاز و إطناب ليكون الناظر فيه على بصيرة من الامر، و حظّ من الدهر. فأجبته شكرا لجزيل الآلاء، و قضاء لحقّ الاخاء، مع ضيق المجال و اختلال البال، متوكلا على اللّه الملك المتعال، و هو حسبي في كلّ حال. فأقول:

هو الشيخ البارع، و الأيّد الجامع، و البحر المحيط ، و الحبر الوقيط ، و العقل البسيط ، و العدل الوسيط ، سليل الامجاد، العلم العالم العماد، الفقيه النبيه، السامي الوجيه، الزاهد العفيف، و العلم الغطريف، و العيلم العريف، و العنصر اللّطيف، خاتم المجتهدين، و أعلم المتقدّمين و المتأخّرين، و رئيس الحكماء المتألهين، و كهف العرفاء السالكين، المهذّب من كلّ دنس و شين، أخى و شفيقي و ابن امّي

ص: 9

«الشيخ محمّد حسين» الاصفهاني مولدا، و الغرويّ مدفنا - أعلى اللّه في حظائر القدس مقامه، و حشره مع مواليه في يوم القيامة - ابن الشيخ العالم الكامل حجّة الاسلام و المسلمين و آية اللّه على الخلق أجمعين، غوث المذهب و الملّة و المسلمين، و غياث الدنيا و الدين، الدرّ الزاهر و العلم الباهر والدي العلامة «الشيخ محمّد باقر» ابن الشيخ العالم الكامل معلّم البشر و العقل الحادي عشر، استاد الكلّ في الكلّ ، التقيّ النقي «الشيخ محمّد تقي» صاحب «هداية المسترشدين على معالم اصول الدين» - قدس اللّه أرواحهما الشريفة -.

اولئك آبائي فجئني بمثلهم *** إذا جمعتنا يا جرير المجامع

إذا افتخرت بآباء ذوي حسب *** صدقت فيه و لكن بئس ما ولدوا(1)

و بالجملة كان - رحمه اللّه تعالى - عالما كاملا، فقيها محدثا، اصوليّا حكيما متبحرا زاهدا، جامعا ماهرا، عديم النظير في زمانه في الفقه و الاصول و الحديث و المعاني، و فقيد العديل في أوانه في الحكمة و الكلام و التفسير و العرفان و الرياضي، لم يبصر بمثله عين الزمان في جميع ما يطلبه إنسان العين من عين الانسان من أجلاّء علماء المعقول و المشروع، و أزكياء نبلاء الاصول و الفروع، متقدّما بشعلة ذهنه الوقاد، و فهمه المتوقّد النقاد على كلّ حبر متبحّر استاد، و متفنّن مرتاد؛ عظيم الهيبة، فخيم الهيئة، رفيع الهمّة، سريع الحمّة، جليل المنزلة و و المقدار، جزيل الموهبة و الايثار، جامعا للعلوم الدينية، عارفا بالمعارف اليقينية كاشفا عن الاسرار العرفانية، واقفا على سرائر الافنانية، معلّما في مضامير الغرائب من العلوم، مسلما في فنون الفقه و الاصول و التفسير و الرسوم، عادم العديل في إرشاد الخلائق بحسن التفسير، و فاقد البديل في هداية الخلق إلى الحق و الحقائق بلطف التقرير. فسبحان الذي ورثه غير الامامة و العصمة ما أراد، و جعله حجّة على قاطبة البشر في يوم الميعاد، و نصبه علما يأتمّ به في كل عصر العلماء الامجاد.

ص: 10


1- كان في الاصل بين البيت الاول و الثاني جملة: «إذا لم يجيبني مجيب من بعيد أو قريب» و بما أنه لم نجدها فيما لدينا من المظانّ و لم يكن لها وزن شعري و لا معنى محصّل لم نثبتها في المتن.

و كان - رحمه اللّه تعالى - في ابتداء أمره و أوائل سنّه فطنا ذكيّا تقيّا نقيّا، حافظا للصلوات، مجتنبا عن الشهوات و الشبهات، مشتغلا بالبحث و الدرس و الاستفادة في عنفوان شبابه، مصروفا همته في تحصيل العلوم و المعارف في ذهابه و إيابه، ضنينا بعمره الشّريف من أن يصرف في ملهيات الاباطيل، بخيلا بأيّامه المنيفة من أن يشتغل باللّهو و التعطيل.

و قد فرغ من النحو و الصرف و المعاني و البيان و سائر المقدمات قبل بلوغه إلى حد البلوغ و التكليف، و اشتغل عند ذلك بالفقه و الاصول عند والدي العلامة - أعلى اللّه مقامه - من غير عطل و مطل و تسويف.

و كان من شدّة ذكائه و فطنته و جودة فهمه و جربزته جدليّا عيون الطلبة و وجوه المشتغلين يهابون مباحثته مع صغر سنه، و أعيان العلماء و المحصلين يعترفون بسموّ قدره و جلالة منزلته.

ثمّ ذهب لأجل التكميل إلى النجف الاشرف - على ساكنه آلاف التحيّة و الشرف -، فظلّ هناك سنينا عديدة مشتغلا عند علمائه بالتحصيل، مثمّرا عن ذيل الجدّ و الاجتهاد في ذاك النادي للتكميل، حتّى بلغ من العلم غاية قصواه و ارتقى إلى سماء الفضل نهاية منتهاه. فأتقن من الاصول قوانين أصوله و معالم فصوله و زبدة فوائده و نخبة عوائده، و حاز من الفقه و الحديث غرر درره و جواهر زهره و منتهى نهاية تهذيبه و مسالك تخطئته و تصويبه بما حصل به تبصرة كافية لعباده و ذخيرة شافية لمعاده، حتى أذعن بفضله جميع العلماء الاعيان، و صار في دوحة العلم و الكمال مشارا إليه بالبنان، و انتشر صيت فضيلته في جميع الاقطار، و اشتهر اشتهار الشمس في رابعة النهار.

و تلمّذ في النجف الاشرف عند جماعة من العلماء الاخيار و الفقهاء الابرار.

فمنهم: الشيخ العالم الفاضل، رئيس المجتهدين و أوحد الاصوليين و فريد المتكلّمين، حبر الامة و قدوة الائمة، شيخ الطائفة الحقة و رئيس الفرقة المحقة،

ص: 11

شيخي و استادي و من عليه في العلوم سندي و استنادي، العالم الاوّاه الميرزا حبيب اللّه الرشتى الجيلاني - أسكنه اللّه مساكن أوليائه المقرّبين في يوم الحساب، و جزاه أفضل جزاء المجتهدين من الاصحاب -.

و منهم: الشيخ الوحيد و الحبر المتبحر الفريد، العالم الوجيه و الفقيه النبيه رئيس الفقهاء و المحدّثين، عماد الملّة و الدين، شيخ الطائفة في أوانه، و استاد الفقه و الحديث في زمانه، ابن خالنا العلامة الشيخ راضي - تغمده اللّه بغفرانه، و أسكنه بحبوحة جنانه -.

و منهم: الشيخ الفقيه العالم العجب العجاب و أنجب الانجاب، و حيرة اولى الالباب و خيرة اللّه العزيز الوهّاب، مروّج المذهب و الدين، و معلّم الفقهاء و المجتهدين، و آية اللّه في الارضين، استاد البشر و مجدد المذهب في القرن الرابع عشر ملاذ الانام و حجة الاسلام الحسن المستحسن الحاج ميرزا حسن الشيرازيّ مولدا، السامرائي مسكنا، و الغرويّ مدفنا - أفاض اللّه على روحه شآبيب الغفران و أسكنه مع أوليائه في روضة الجنان -.

و جمع آخر مع العلماء العاملين و الفقهاء المتبحرين.

فلمّا فرغ من مراسم التحصيل و التكميل في الفروع و الاصول، و جمع بين المعقول و المنقول، رجع سالما غانما إلى داره و مستقرّ قراره في أصفهان - صانها اللّه عن الحدثان - و اشتغل بالافادة و الاستفادة و اتّكأ على وسادة الاجادة، أقبل عليه طلبة العلم من كلّ مكان، و أحاطوا عليه لتحصيل العلوم من كلّ فجّ عميق مرخى العنان، فتصدر من غير نكير في مجلس التدريس، و فاق علماء عصره بالاتفاق في كل فنّ نفيس، و أذعن كلّ ذي فضل بفضله الجزيل، و اعترف كلّ ذي فنّ بمهارته في كلّ فنّ جليل، و تصدّى للوعظ و إرشاد الخلق إلى الحق بلطف التقرير و حسن التفسير، فصار في ذلك واحد عصره بالاتفاق بلا نظير.

ثمّ سنح له في ذلك الحال و بدا له في خلال تلك الاحوال التجافي عن دار

ص: 12

الغرور، و الانابة إلى دار البقاء و السرور، فترك جميع ما كان متصديا من الوعظ و التدريس، و هجر جميع ما كان يحجبه عن الانس باللّه و هو نعم الانيس، فأشرق له من صبح السّعادة نور أضاءت به غياهب الدجى، و ظهر له من نور الحقيقة ضياء تقشّعت عنه سحائب العمى، و اشتغل بالفكر و الذكر و التلاوة، و صرف ليله و نهاره في الزهادة و العبادة، و لا يفتر عن ذكر «لا إله إلا اللّه» ليلا و نهارا، و يبكى بكاء الثكلى على نفسه سرّا و جهارا بحيث تأذّى من شدّة بكائه الاخوان، و فزع من عويله النساء و الصبيان، بحيث سئل عن جنابه ترك البكاء إما باللّيل و إمّا بالنهار بعض الجيران، و ذكروا أنّ شدّة بكائه يمنعهم عن النوم في تلك الاحيان.

و لقد سافرت معه في خدمته في خلال تلك الاحوال إلى زيارة النجف الاشرف في أحسن حال، فما تكلّم معي في طول الطريق مع انحصار الرفيق بقليل و لا كثير إلا بكلمات قليلة؛ يشتغل في خلالها بذكر الملك القدير، و كان كلّ من ينظر إلى حاله و غليله، و يرى من كثرة بكائه و عويله في أثناء الطريق من الاكراد و غيرهم، الذين لا يعتقدون بدين و لا معاد، أراهم يتغيّر حالهم من غير اختيار، و تفيض أعينهم من الدمع من غير بصيرة و استبصار.

و دخل يوما من الايام في أثناء الطريق إلى الحمّام و كان فيه جماعة كثيرة من الاكراد و الدهاقين و العوام، فبمجرّد ما شاهدوا حاله و نظروا إلى جنابه، و رأوا من خضوعه و خشوعه، و أبصروا بكائه و دموعه، تشوّشت أحوالهم و جرت دموعهم و خشعت أصواتهم. فسبحان الذي جعل للحقيقة أثرا في القلوب لا يحيط به العقول، و جعل للحقّ حقيقة تؤثّر في النفوس و يذهب بالغفلة و الذهول.

و كان لكلامه - قدّس سرّه - أثر غريب في القلوب بحيث قلّ ما ينصح أحدا أو يوصيه بوصية إلا و يؤثّر في نفسه و هواه، و تصرفه إلى إطاعة مولاه.

و قد قال يوما في النجف الاشرف لبعض أصحابنا الامجاد و هو الشيخ العلم العالم العماد الفاضل المؤيّد «الشيخ على محمّد» - سلّمه اللّه و أبقاه، و بلّغه منتهى

ص: 13

مناه -: «عليك بصلاة اللّيل!» فأثّر هذه الكلمة في نفسه الشريفة بحيث ما ترك صلاة اللّيل على ما شاهدته مدّة مديدة، و لو في مشاقّ الاسفار و مظانّ الاخطار.

و كان السبب في انقطاعه - رضوان اللّه عليه - إلى اللّه و ذهوله عمّا سواه على ما حدثني به الشيخ الجليل و الفاضل النبيل، العالم الامين و الحبر العامل الرزين غوث الملّة و الحقّ و الدين، فخر العلماء العاملين و ثقة الاسلام و المسلمين، أخي الاجلّ الاكرم الوفىّ الحاج شيخ محمّد علي - جعلني اللّه فداه، و أدام اللّه ظلاله على من سواه، و سلّمه اللّه و أبقاه - عنه - قدس سره - أنه قال:

«لمّا كنت في أصفهان مشتغلا بامامة الجماعة خطر في قلبي بعض الوسواس الذي هو من الخناس الذي يوسوس في صدور الناس، فكنت كل يوم قبل الخروج إلى الصلاة أشتغل بالفكر ساعة أو ساعتين لتحصيل الخلوص الذي هو للصلاة عين الفرض و فرض العين، افكر في فناء الدنيا و غرورها، و عدم بقاء نعيمها و سرورها، و ما يجري فيها من المكاره على أهلها، و انقضاء صعبها و سهلها، و في الآخرة و بقائها و منجياتها و مهلكاتها دفعا للمراء، و حذرا من الرياء، فأثر في قلبى أثرا انقطعت بالمرّة عمّا سوى اللّه، و توجّهت بكلّ وجهي إلى اللّه، فحصل لي ما حصل ببركة التفكّر في تلك الساعات، و ظهر لى حقيقة قوله عليه السّلام: «تفكر ساعة خير من عبادة سنة»، و أنّه أصل لكل العبادات، و رأس لجميع السعادات».

و حدّثنى عنه أيضا أنّه قال: «ما أذكر من نفسي أنّي عصيت اللّه في عمري طرفة عين، و لا أبرّئ نفسي من التجرّي في البين». و هو الصادق الجدير بما أظهر المصدق الامين فيما ذكر من غير ريب و شين، و اللّه العالم.

و حدّثني الشيخ الامين و الثقة الرزين، الفاضل المحدّث المسدّد، العالم العامل الحبر المؤيّد، فخر الفقهاء و زبدة العلماء الهادي المهديّ شيخنا «الحاج ميرزا محمّد مهديّ » - أيّده اللّه و أبقاه، و بلّغه منتهى مناه -، و كان صهرا على اخته و صديقه و ابن خالته، و كان منه بمكان من صافي الاخاء خالصا في المحبّة و الصداقة

ص: 14

و الوفاء، قال: «سألت عن جنابه - قدس اللّه أرواحه الشريفة - يوما من الايّام عمّا رأى برأي العيان و حقيقة الوجدان من المقامات و الكرامات في أيّام اشتغاله بالمجاهدة و الرياضات، فذكر لي - رضي اللّه عنه - بعد إنكار شديد و إصرار أكيد أمرين:

أولهما، أنّه كان في ليال عديدة يظهر لي نور مشرق أراه برأي العين يستضاء منه الظلام، و أبصر به كلّ ما احتجب عن عيون الانام، و اطالع به في الكتاب في ليل داج من غير حاجة إلى الضوء و السراج.

و ثانيهما، أنه ربّما يشتد علي ولع الجوع في بعض أوان الاشتغال بالرياضة و المجاهدة، فيأتيني من الغيب أنواع الاطعمة و صنوف الاشربة، فكنت أشربها و آكلها و أتناول منها على قدر الكفاية بما يرفع الجوع عنّي مدّة مديدة، بل أيّاما عديدة.»

و لعمري صدق فيما قال، و هذا قليل بالنسبة إلى مقامات ذاك الحبر الزاهد المفضال، و اللّه العالم بحقيقة الحال.

و كان - رحمه اللّه تعالى - في أواخر عمره و أوان انقضاء دهره برا رءوفا، ضحاكا عطوفا، صاحبا رفيقا، و أخا شفيقا؛ يستأنس بحضرته كلّ أنيس، و لا يشبع من محادثته و مجالسته الصاحب و الجليس.

و كنت في حضرته بعض الاسفار في طريق زيارة الأئمّة الاطهار، فكنت أرى منه من حسن الصحبة و صفاء المحبة، بحيث كان يخدمني و يخدم من معي من الاصحاب بأنواع الخدمات و يتحمّل صنوف المشاقّ من حمل الاثقال و تكفّل الزحمات، بل كان يشارك الخدّام فيما يلزمهم من الامور في كمال الوجد و السرور.

و كان - رضي اللّه عنه - كثير المعونة، قليل المؤنة، يعجبه من اللّباس ما خشن و من الطعام ما جشب، و يؤثر بغذائه و عشائه إلى الفقراء و الايتام، و يقنع بقليل شيء يسدّ به الجوع في اللّيالي و الايّام، يصرف ما زاد عن مئونته إلى الفقراء، و

ص: 15

كان حازما صابرا وقورا في السرّاء و الضرّاء.

و كان - رضي اللّه عنه - معتدل القامة ضئيلا هزيلا، قليل اللّحم، عليل المزاج غالبا، حلو العينين غائرهما، أقنى الانف، مقوّس الحاجبين، أسمر اللّون، مليح الشمائل، خفيف اللّحية، قد أثّر فيها أثر المشيب، خفيف لحم العارضين، في وجهه أثر الجدري ليس بالقليل، أبلج الاسنان.

و قد تلمذت عنده - رحمه اللّه تعالى - في النجف الاشرف أوان ابتداء تشرفي هناك للتحصيل بمقدار من كتاب «الفصول» لعمّي العلامة في الاصول، و قليل من علم الهيئة، و نبذة من علم المعقول.

و قد أفرغ في داره مدى إقامته في أصفهان قبة صغيرة مظلمة لنفسه، لا يخرج منها ليلا و لا نهارا، و يشتغل بالفكر و الذكر و العبادة هناك سرّا و جهارا.

و كان ولادته في ثاني يوم من محرم الحرام من سنة 1266، و وفاته - قدس اللّه روحه - في أوّل يوم من محرّم سنة 1308 في أوائل الظهر، فكان مدى عمره الشريف اثنين و أربعين سنة غير يوم واحد.

و حدّثني من أثق بقوله من خدامه الحاضر عند جنابه حين وفاته أنه سمعه يقرأ هذا الشعر في آخر آن من أوان حياته:

آنكه دائم هوس سوختن ما مى كرد *** كاش مى آمد و از دور تماشا مى كرد

و لا يخفى على العقلاء مناسبة كلامه في ذلك الحال لمقامه، و اللّه أعلم بحقيقة الاحوال.

و حدّثني من أثق بقوله و جلالته، عن بعض الأجلاّء الكرام و الثقات العظام قال: «رأيت في ما يرى النائم و أنا في سامرّاء كأنّي قد وصلت إلى خدمة سيّد الانبياء - صلوات اللّه و سلامه عليه - فقلت له صلّى اللّه عليه و آله بعد كلمات: يا سيّدي، الشيخ مرتضى الانصاري ناج ؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: نعم، هو ناج بشفاعتنا، فقلت له: يا سيّدي، الشيخ محمّد باقر الاصفهاني - يعني: والدي العلامة - ناج ؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله:

ص: 16

نعم، ناج بمحبّتنا، فقلت له: الشيخ محمّد حسين الاصفهاني ناج ؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: إنّه قد ورد على اللّه فأعطاه كل ما أراد. انتهى. و اللّه العالم بالمبدإ و المعاد.

و حدّثني بعض الموثّقين في نقله و روايته، عن الرجل الصالح بوّاب الروضة الشريفة الغرويّة - على ساكنها آلاف السلام و التحيّة - أنّه قال: «كان المرحوم الشيخ محمّد حسين أوان تشرّفه هناك غالبا آخر خارج من الروضة الشريفة في اللّيالي و أوّل داخل عند فتح الباب في السحر. فخرج ليلا و خرجت و سددت الابواب، فلمّا رجعت سحرا لفتح الباب سمعت حسّا و صوتا و محادثة من داخل الروضة، و كأنّه رجلان يتكلّمان أو يتحادثان، فخفت أن يكون قد دخل في الروضة بعض اللّصوص لسرقة الاموال و الفصوص، فأسرعت في فتح الباب، فلمّا دخلت رأيت المرحوم الشيخ محمّد حسين واقفا قبال الضريح المطهّر و المشهد المنوّر، فعجبت من سبق حضوره إلى الحضرة قبل فتح الباب، و تحيرت من مشاهدة هذا العجب العجاب و سألته - رحمه اللّه - عن حقيقة الحال، و عن الرجل الذي يحادثه و يتكلّم معه في تلك الأحوال، فأشار إليّ - رحمه اللّه تعالى - بالسكوت، و حلّفنى بترك إظهار ذلك لأحد ما دام هو في الحياة، و اللّه أعلم. انتهى.

و لمّا كان وفاته - رحمه اللّه - في عشر العاشور أرخ بعض الشعراء تاريخ وفاته بهذا المصرع:

«با حسين شهيد شد محشور»

و قد قلت أنا في تاريخ وفاته - رحمه اللّه تعالى -: «ثلم الاسلام ثلمة.»

و لمّا أتاني نعي وفاته و انقضاء أيامه الجميلة رثيتها أنا بقصيدة طويلة أحببت أن أدرج بعضها في هذا الكتاب الشريف مع ما فيها من التزييف. مطلعها:

يا عين جودي بحمر الدمع مدرارا *** و اذكر مساكن من تهويه و الدارا

منازل عطلت من أهلها و خلت *** و استوحشت بعد ما كانوا لها جارا

باللّه سل مدمع الباكي هل ارتحلوا *** أم هل بقي عنهم في الربع آثارا

ص: 17

و منها:

لم أنس إذ زارني و اللّيل معتكر *** أفديه من زائر جنح الدجى زارا

ثمّ استهلّ دموع العين من جزع *** و ظلّ دمعا على الخدين مدرارا

كادت تأجّج نيران الغرام به *** ثأرا تضرّم في الاحشاء سعّارا

و ظلّ ينثر في ورد الخد و دأسا *** لئالي الدمع مقلالا و مكثارا

و صاح صبرا فانّ القوم قد ظعنوا *** يا بعدها منزلا ساروا و أسفارا

و منها في الرثاء:

لهفي على جيرة جار الزمان بهم *** و أضرموا في الحشا من هجرهم نارا

لهفي على قمر قد غاب عن نظري *** من قبل أن تكتمل للوصل مضمارا

كنا و كانوا جميعا في هوى و تقى *** عونا على الدهر ايرادا و إصدارا

حتى رمثنا صروف الدهر من عجل *** و فرقنا بدوح الارض أشطارا

قد كنت أرجو فدتك النفس يا أملي *** أن يستدان لنا الايّام أعصارا

لكن قضايا قضاء اللّه غالبة *** و ليس بعد قضاء اللّه إنكارا

و منها:

قد حاز من دوحة العلياء أزهرها ***روضا و أرفعها شأنا و مقدارا

ما كان بدرا و لكن يستضاء به *** ما كان بحرا و لكن كان ذخّارا

و كان أوسعنا حلما و أصبرنا *** على الحوادث ايسارا و إعسارا

و كل نبت نما من معشّب حسن *** يكون أقصرها عيشا و أعمارا

و رثيته أيضا بقصيدة طويلة اخرى أردت أن اثبت بعضها في ذلك و إن كنت غير سالك في تلك المسالك. مطلعها:

هل جاد صبّ بالهوى فأجودا *** أم زاد عن لوم العدى فأذودا

أم هل أفاق من الصبابة عاشق *** فأفيق أم هل استطاع جحودا

أم هل سمعت بعاشق ذاق الهوى *** فأطاع عاذله و خان عهودا

ص: 18

أم هل رأيت متيّما خاف الردى *** في وصل من يهوى فرام صدودا

ما كنت اول من تصدّر للهوى *** ذاق النوى دهرا و مات شهيدا

تبدو على كلّ الامور نقيصة *** و الحبّ يوما بعد يوم يزيدا

أ ترى الصبا عيب الفتى باللّه أم *** ذمّ الصبابة في الورى محمودا

كيف التستر و الوشاة على الهوى *** و جدي و كدّي و السقام شهودا

و غرير دمع في الهوى يهريقها *** نار تأجّج في الكلى و سهودا

و منها في الحماسة:

للّه أيّام الصبا إذ كان لي *** نجم المسرّة بازغا مسعودا

و يهزني سكر الشباب كأنّني *** غصن يميل به الصبا و يعيدا

يا دهر كفّ فانّ من عاديته *** شمس العداوة لا يخاف عنيدا

و دع التحاول لمن تذلل من غدا *** قد نال عزّا ما عليه مزيدا

من مبلغ العلياء عنّي إنّني *** أحمي حماها قائما و قعودا

و أنا رضيع لبانها و حليفها *** عند الهزاهز مصدرا و ورودا

و المجد ما رفعت لمجد راية *** إلا أخذت زمامها المعقودا

و العين شاخصة إلى عليائه *** شزرا إذا ما النّاس عند رقودا

فلربّ داهية رفعت قناعها *** و معاضل كشفتها و عقودا

كم طارق غرثى كشفت كروبه *** و بذلت فيه طارقا و تليدا

و مخوف صرف الزمان أجرته *** و صرفته رطب اللّسان حميدا

و بدا غصون المجد منّي مورقا *** بيد تمدّ إلى الفخار مديدا

لو أخلد الشرف الفتى لرأيت لي *** في الدهر ما دام السّماء خلودا

لكنّ من غير الزّمان و صرفه *** لم ينج مذموما و لا محمودا

كرّ الحوادث و الشهور لحادث *** لا والد يبقى و لا مولودا

و أرى المنايا و المنى أثر الفتى *** يتسابقان و ما لهنّ مدودا

ص: 19

و منها في الرثاء:

يا صاحبى أرى التهاجر قاتلي *** عودا على ودّ الاحبّة عودا

عودا اذكرا لى بعد تذكار الهوى *** عهد الحبيب و فضله المشهودا

كنّا جميعا في مضامير الهوى *** في ظلّ شاخصة العلى ممدودا

فأباد تأريب الزّمان و صرفه *** يا ليت كلكلة الزّمان تبودا

مهلا رويبات الزّمان و صرفه *** أمهل رويدا و امهلين رويدا

بأبي أخا برّا كريما ماجدا *** قد عاش محمودا و مات سعيدا

قد كان بحرا للفضائل و النهى *** إن كان للبحر العطا و الجودا

ما جاد بعدك وابل طلاّ و لا *** اخضرّ بعدك للمسرّة عودا

و لقد يعزّ على الزّمان و أهله *** إذ ما يرونك و الفخار فقيدا

لهفي لايّام الوصال و قد مضت *** يا ليت أيّام الوصال تعودا

هيهات أن يلد الزّمان بمثله *** و إن استكان و أبذل المجهودا

يعزز عليّ بأن أرى غوث الورى *** ما بين أطباق الثرى ملحودا

من للأرامل و اليتامى و التقى *** و النائبات إذا وردن ورودا

***

ص: 20

خطبة الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم ربّ يسّر بحقّ م. ع. ف. ح. ح (ع)

الحمد للّه الّذي أنزل على عبده الكتاب نورا لا تطفأ مصابيحه، و سراجا لا يخبأ توقّده، و بحرا لا يدرك قعره، و منهاجا لا يضلّ نهجه، و شعاعا لا يظلم ضوؤه، و فرقانا لا يخمد برهانه، و تبيانا لا تهدم أركانه، و شفاء لا تخشى أسقامه، و عزّا لا تهزم أنصاره، و حقّا لا تخذل أعوانه. فهو معدن الايمان و بحبوحته، و ينابيع العلم و بحوره، و رياض العدل و غدرانه، و أثافيّ الاسلام و بنيانه، و أودية الحقّ. و غيطانه و بحر لا ينزفه المنتزفون، و عيون لا ينضبها الماتحون، و مناهل لا يغيضها الواردون و منازل لا يضلّ نهجها المسافرون، و أعلام لا يعمي عنها السائرون، و آكام لا يجوز عنها القاصدون. جعله اللّه ريّا لعطش العلماء، و ربيعا لقلوب الفقهاء، و محاجّ لطرق الصّلحاء، و دواء ليس بعده داء، و نورا ليس معه ظلمة، و حبلا وثيقا عروته، و معقلا منيعا ذروته، و عزّا لمن تولاّه، و سلما لمن دخله، و هدى لمن ائتمّ به، و عذرا لمن انتحله، و برهانا لمن تكلّم به، و شاهدا لمن خاصم به، و فلجا لمن حاجّ به، و حاملا لمن حمله، و مطيّة لمن أعمله، و آية لمن توسّم، و جنّة لمن استلأم،

ص: 1

و علما لمن وعى، و حديثا لمن روى، و حكما لمن قضى.

نحمدك اللّهمّ يا من تجلّى لعباده(1) في كتابه من غير أن يكونوا رأوه بما أراهم من قدرته؛ و خوّفهم من سطوته، و كيف محق من محق بالمثلات، و احتصد من احتصد بالنغمات (2) ؟الّذي بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله بقرآن قد بيّنه و أحكمه، ليعلم العباد ربّهم إذ جهلوه، و ليقرّوا به إذ جحدوه، و ليثنوه بعد إذ أنكروه. فهو الناصح الّذي لا يغشّ و الهادي الّذي لا يضلّ، و المحدّث الّذي لا يكذب؛ ما جالسه أحد إلاّ قام عنه بزيادة أو نقصان، زيادة من هدى و نقصان من عمى؛ ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، و لا لأحد قبله من غنى، و فيه شفاء من أكبر الداء و هو الكفر و النفاق و الغيّ و الضلال، و ما توجّه العباد إلى اللّه بمثله؛ ظاهره أنيق و باطنه عميق، لا تفنى عجائبه و لا تكشف الظلمات إلاّ به؛ آمر زاجر و صامت ناطق، حجّة اللّه على خلقه أخذ عليهم ميثاقه، و ارتهن عليه أنفسهم، أتمّ نوره و أكرم به دينه؛ شافع مشفّع، و قائل مصدّق؛ من شفع له القرآن يوم القيامة شفّع فيه، و من يمحل به القرآن يوم القيامة صدّق عليه؛ قد اوصينا بأن نستشفي به أدواءنا، و نستعين به على لأوائنا، و نستدلّ به على ربّنا، و نستنصحه على أنفسنا، و نتّهم عليه آرائنا، و نستغشي فيه أهوائنا(3).

و الصّلاة و السّلام على عبده و رسوله الّذي أرسله بالدّين المشهور و العلم المأثور و الكتاب المسطور و النور الساطع و الضياء اللاّمع و الأمر الصادع محمّد صلّى اللّه عليه و آله موضع سرّه و ملجأ(4) أمره و عيبة علمه، و موئل حكمه، و كهوف كتبه، و جبال دينه؛ أساس

ص: 2


1- في المخطوطة: «لعبادك».
2- في النهج: «النقمات».
3- من أوّل خطبة الكتاب إلى هنا مأخوذة من كلمات أمير المؤمنين - عليه السلام -، فراجع نهج البلاغة، خ 198 و 147 و 176 و 18 و 183.
4- في المخطوطة: «لجأ».

الدّين و عماد اليقين، أزمّة الحقّ و أعلام الدّين و ألسنة الصدق؛ فيهم كرائم القرآن و هم كنوز الرّحمن، عيش العلم و موت الجهل، يخبر حلمهم عن علمهم، و صمتهم عن حكم منطقهم، لا يخالفون الحقّ و لا يختلفون فيه؛ هم دعائم الاسلام و ولائج الاعتصام.

السبب الباعث لتأليف هذا الكتاب

أمّا بعد، فانّي طالما كنت أتمنّى التّوفيق لكتابة تفسير مشتمل على بيان ظواهر الآيات، و المواعظ المستخرجة منها، و المعارف و العلوم المشيرة إليها، و جملة من النكات الصوريّة و المعنويّة المحتوية عليها و أشباه ذلك، منضمّا إلى ذكر الأخبار المنقولة في طيّها مع بيان ما نحتاج إلى البيان منها، و تطبيقها على مدلول الآيات عند المخالفة بين ظواهرها، و الجمع بين ما اختلف ظواهرها، و استخراج المعاني الكليّة منها ليكون الكتاب جامعا بين علمي الكتاب و السنّة، الّذين امرنا بالتمسّك بهما؛ مع أنّي لم أعثر إلى الآن على تفسير مشتمل على تلك المقاصد المهمّة مع تكثّرها؛ و كانت العوائق تمنعني عن الاقدام منضمّة إلى علمي بقصوري عن السبق في ذلك الميدان، و انحطاط رتبتي عن التعرّض لذلك، و خوفي عن الوقوع في تفسير شيء من كلام اللّه تعالى و أوليائه بالرّأي، أو متصرّفا فيه بهواي؛ إلى أن اجتمع رأيي في الاقدام على ذكر ما يسنح بالبال من المطالب المذكورة و ما شابهها على وجه العرض على أذهان إخواني في الدّين و طلاّب العلم و اليقين، فينظروا فيها بعين الدقّة و الانصاف دون الجور و الاعتساف، فما وجدوه حقيقا بالقبول فمن فضل اللّه و منّه على عبده، و ما وجدوه سقيما فمن قصوري و تقصيري؛ فأكون كمن يعرض السلعة على الطالبين متبرّئا من عيوبه، مذعنا بنقصانه، فمن وجد شيئا منها مرغوبا أخذه و إلاّ تركه أو صحّحه.

و لا أدّعي في شيء منها إصابة نظري و فكري؛ فانّ معاني كلمات اللّه و أوليائه

ص: 3

و حقائقها وراء ما يصل إليه هذه العقول الناقصة المبتلية بأهوية النفس و وساوس الشيطان، و ليس المعصوم إلاّ من عصمه اللّه تعالى.

فشرعت فيه آيسا من حولي و قوّتي و علمي معتصما بحول اللّه و قوّته و هدايته ملتمسا منه التوفيق في إتمام ما عزمت عليه على نهج يحبّه و يرضاه، مستعيذا به من وساوس الشيطان و الآراء و الأهواء، مستشفعا إليه برسوله و آله - صلوات اللّه عليهم - في ذلك كلّه، سائلا منه أن يجعله خالصا لوجهه الكريم، و ذخيرة ليوم الدّين، و أن يباركه لاخواني المؤمنين، إنّه هو الرّءوف الرّحيم، الّذي يتولّى الصالحين.

ربّ عليك توكّلت و إليك أنبت و بك اعتصمت، فهبني يا إلهي من عندك هداية و توفيقا و تسديدا و تأييدا، و لا تكلني إلى نفسي؛ إنّك حسبي و نعم الوكيل و أنت على كلّ شيء قدير، و لا ملجأ و لا منجى لنا منك إلاّ إليك.

و لنمهّد قبل الشروع في عنوان الآيات مقدّمات.

ص: 4

المقدمات

اشارة

ص: 5

ص: 6

[المقدّمة]

[في فضل القرآن و أوصافه، و الوصيّة بالتمسّك به]

[المقدّمة] الاولى فى نبذة ممّا ورد في الوصيّة بالتمسّك بالقرآن و التدبّر فيه و جملة من أوصافه منضمّة إلى استبصارات عقليّة

[في فضل القرآن و أوصافه، و الوصيّة بالتمسّك به]

قال اللّه سبحانه:

«أَ فَلاٰ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلىٰ قُلُوبٍ أَقْفٰالُهٰا؟» (1)

و قال تعالى:

«أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جٰاءَهُمْ مٰا لَمْ يَأْتِ آبٰاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ؟» (2)

و قال في وصفه:

«مُبٰارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيٰاتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبٰابِ.» (3)

و عن محمّد بن يعقوب (ره) في الكافي، و محمّد بن مسعود العيّاشي باسناديهما عن الصّادق، عن أبيه، عن آبائه عليهم السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«أيّها الناس! إنّكم في دار(4) هدنة (5) ،و أنتم على ظهر سفر و السّير بكم سريع، و قد رأيتم اللّيل و النّهار و الشّمس

ص: 7


1- محمّد - صلّى اللّه عليه و آله - / 24.
2- المؤمنون/ 68.
3- ص/ 29.
4- العيّاشي: «زمان».
5- خ. ل: «حضر».

و القمر يبليان كلّ جديد، و يقرّبان كلّ بعيد، و يأتيان بكلّ موعود، فأعدّوا الجهاز لبعد المجاز(1).

قال: فقام المقداد بن الأسود فقال: يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ما دار الهدنة؟ فقال:

دار بلاغ(2) و انقطاع، فاذا التبست عليكم الفتن كقطع اللّيل المظلم، فعليكم بالقرآن، فانّه شافع مشفّع و ماحل(3)

مصدّق، و من جعله أمامه قاده إلى الجنّة، و من جعله خلفه ساقه إلى النّار؛ و هو الدّليل يدلّ على خير سبيل، و هو كتاب فيه تفصيل و بيان و تحصيل، و هو الفصل ليس بالهزل، و له ظهر و بطن، فظاهره حكم(4) و باطنه علم، ظاهره أنيق و باطنه عميق؛ له تخوم و على تخومه تخوم(5) ، لا تحصى عجائبه و لا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى و منار(6)

الحكمة، و دليل على المعرفة لمن عرف الصّفة.»(7)

ص: 8


1- العيّاشي: «المفاز».
2- العيّاشي: «بلاء».
3- في المخطوطة: «مماحل».
4- العيّاشي: «حكمة».
5- في المخطوطة: «تخومة»، و في بعض نسخ الكافي في الموارد الثلاثة: «نجوم» بدل «تخوم».
6- العيّاشي: «المنازل».
7- العيّاشي: «و دليل على المعروف لمن عرفه»، و الحديث في الكافي، ج 2، كتاب فضل القرآن، ص 598، ح 2؛ و العيّاشي، ج 1، ص 2، ح 1؛ و نوادر الراوندي مع ما زاد في الكافي و سيأتي كما في البحار، ج 92، باب فضل القرآن، ص 17، ح 17؛ و هكذا في الصّافي و البرهان.

و زاد في الكافي:

«فليجل جال بصره، و ليبلغ الصفة نظره، ينج من عطب و يخلص(1)

من نشب، فانّ التفكّر حياة قلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور، فعليكم بحسن التخلّص و قلّة التربّص.»

أقول:

في الصّحاح: «هدن يهدن هدونا: سكن، و هدّنه أي: سكّنه - إلى أن قال: - و الاسم منها الهدنة، و منه قولهم: هدنة على دخن أي: سكون على غلّ.»

و قوله صلّى اللّه عليه و آله: «مشفّع» معناه ظاهرا: مقبول الشّفاعة.

و فيه أيضا: «يقال: محل به إذا سعى به إلى السلطان و هو ماحل و محول.

و في الدّعاء: فلا تجعله ماحلا مصدّقا.» انتهى. و لعلّه من هنا قيل في معناه:

«يمحل بصاحبه إذا لم يتبع ما فيه؛ أعني: يسعى به إلى اللّه تعالى »(2) ،و ما قيل في تفسيره من أنّه: «الخصم المجادل »(3).

و أصل المحل: الجدب، و هو انقطاع المطر و يبس الأرض، فيمكن إرادته هنا على معنى أنّ القرآن مجدب لمن لم يكن من أهله لا يمطر عليهم بمياه العلوم و المعارف و الحكم.

و فيه أيضا: «الأنق: الفرح و السّرور، و قد أنق بالكسر يأنق أنقا، و شيء أنيق أي: حسن.» و «التخوم» على ما قيل جمع تخم بمعني: منتهى الشّيء.

و قوله: «لمن عرف الصّفة» قيل: «أي صفة التعرّف و كيفيّة الاستنباط.»(4)

و يحتمل إرادة صفة القرآن من دقائق إشارته و نكاته.

ص: 9


1- خ. ل: «يتخلّص».
2- راجع الصافي، ج 1، المقدّمة الاولى، ص 9.
3- نفس المصدر.
4- نفس المصدر.

و «العطب»: الهلاك، و نشب الشيء نشوبا أي: علق فيه. فلعلّ المراد من النشب العلاقة، و إليه يرجع تفسيره بالوقوع فيما لا مخلص منه.

اعلم أنّ الدّنيا دار يسكنها الانسان مدّة منقطعة إذا بلغ إليها انقطع عنها و انقطعت عنه، و هي تبلغ الإنسان إلى الآخرة، و العاقل يحصّل منها ما يبلغه إلى نعيم الأبد، و الانسان فيها على ظهر سفر مبدؤه الولادة و آخره الموت، فانّه أجزاء البدن من التّراب و غيره قد تحرّكت عن أماكنها و اجتمعت و ترقّت إلى أن صارت نطفة، ثمّ سارت النطفة سيرا معنويّا بطريق التكميل إلى أن صارت بدنا للانسان، ثمّ تسير سيرا إلى العلوّ و الكمال صاعدة إلى أواسط الشباب، ثمّ تسير سيرا مستويا إلى أوان الانحطاط، ثمّ تسير هابطا إلى أوان الموت. فهذا أحد أمثلة صراط الآخرة المذكور فيه انقسامه إلى الأقسام الثلاثة. و إن شئت فلاحظ مجموع حركات الانسان من مكان الولادة إلى مكان الموت و سكناته؛ فانّك تجده كشخص سافر من المكان الأوّل إلى الثّاني بتئودة و بط ء؛ كالمريض المريد لمكان بعيد، فانّه يكثر سكونه و يقلّ زمان حركته، و هذه المسافة مطابقة لمدّة العمر أعني: الزمان المقدّر لحياة كلّ شخص، فالسير بهم سريع؛ لانّه لا يتصوّر شيء أسرع سيرا من الزّمان، سواء جعلناه منتزعا عن حركة فلك الافلاك، أو جعلناه موجودا ثابتا في الواقع على نحو التقضّي و التصرّم، و اللّيل و النّهار يأتيان بكلّ حادث مقدّر في كلّ منهما؛ لأنّ الامور مرهونة باوقاتها، فاذا جاء وقتها أتى بها، سواء كان بلاء جديد و اندراس عامر، أو أمرا بعيدا بحسب أجزاء الزمان، فكلّ ما وعد يأتيان بها بمجيء وقته، و الشّمس و القمر بتأثيريهما المتضادّين في الأشياء يبليان كلّ جديد، و يؤثران في الكون و الفساد؛ فكلّ منهما كان موعودا أو قريبا آتيا به. و المراد بالتأثير ليس هو التأثير الاستقلاليّ، بل على الوجه الّذي نذكره في محلّه - إن شاء اللّه تعالى -.

ص: 10

كما أنّ بعض النسب المتقدّمة لا يخلو عن توسّع بحسب اللّغة و العرف، فلا ينبغي للعاقل أن يعتقد الدّنيا دار قرار و منزل استيطان، و لا لها استقرارا و ثباتا، و لا أمرا مقصودا بنفسه، و لا يستبعد بلاء جسده و جميع أمتعة الدّنيا، و لا الموت و لا البرزخ و الآخرة الموعودة؛ لأنّها ثابتة عند أزمنتها و انقضاء الزمان المتوسّط بيننا و بينها يأتي بها، فكان ما هو كائن عن قليل لم يكن، و ما لم يكن بعد عن قليل لم يزل.

ثمّ إنّ أسباب الفتن من الجهالات و الشّبهات الباطلة و الاعتقادات الفاسدة، و ما شاكلها كالأخبار الكاذبة و بدع المبتدعين منضمّة إلى كلمات المعاصي و غيرها، و رؤية كلّ شيء بخلاف ما هو عليه، و ملاذ الدنيا و شهواتها الباعثة لحدوث الاهوية إذا اجتمعت و تراكمت صارت مانعة عن رؤية الحقّ و إدراكه، و سببا لالتباس الحقّ على الطالب للحقّ، فيغيّر كاللّباس الّذي يغطّي الانسان من حيث إحاطته بالبصيرة، و منعها عن تأثير أسباب الهداية كوقاية اللّباس عن الحرّ و البرد، و تأثّر البدن عن إشراق نور الشّمس و من حيث سواده، و مقابلته لنور المعرفة كقطع اللّيل الشّديد الظلام، بل لعلّك إذا لاحظتها بالبصيرة الباطنة شاهدتها كألبسة سود مماثلة لقطع اللّيل في الصورة فضلا عن المشابهة في السواد و الايحاش، و منع الادراك بحيث إذا أخرج يده لم يكد يراها.

و المخلص عنها القرآن، فانّه شافع إلى اللّه لمن تتّبعه و تمسّك به و صار من أهله، يستدعي و يسأل و يقتضي معنى من أحد سبحانه دفعا لهم، كما يشفع لهم حسّا و صورة يوم القيامة مقبول الشفاعة في المقامين، يخلّص اللّه أتباعه منها باقتضائه، و يمنع خيراته عمّن لم يتمسّك به و خالفه، و يسعى به اللّه سبحانه، و يقتضي طرده و إبعاده مصدّق عند اللّه تعالى في شهادته و في حكمه على هذه الطائفة؛ بل الاولى في جميع ما أخبر به عن الامور الآتية، بل الماضية و الموجودة؛ فمن ائتمّ به و جعله

ص: 11

أمامه و سار خلفه فأمكن الكتاب من زمامه فصار قائده يحلّ حيث حلّ ثقله(1)

و ينزل حيث كان منزله ساقه إلى الجنّة، و من أعرض عنه بوجه قلبه و خالفه و سار على خلافه قاده إلى اللّه، كما قال سبحانه:

«وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مٰا هُوَ شِفٰاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لاٰ يَزِيدُ الظّٰالِمِينَ إِلاّٰ خَسٰاراً » (2) .

فمثله كماء النيل لبني إسرائيل و أصحاب فرعون، فمن استنصحه نصحه، و من نظر فيه بأهوائه زيد في ضلالته و جهالته، و من لم يؤمن به صار كافرا به.

و هو الدّليل الّذي يدلّ على خير سبيل كما وصفه تعالى بقوله:

«إِنَّ هٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ » (3) .

يريهم الطريق و يوصل إلى المطلوب من مقام الزّلفى إلى اللّه سبحانه و الرضوان و نعيم الآخرة الأبديّة الخالصة عن الأكدار، بل إلى نعم الآخرة و الاولى و مصالحهما.

و فيه تفصيل الحقّ عن الباطل، و الهدى عن الضلال، و الرشد عن الغيّ، و بيان المعارف و النشآت من الاولى و الاخرى، و تحصيل العلوم و الخيرات و الكمالات.

فهو الفصل الّذي ليس فيه شيء من الهزل الباطل، و له ظاهر و باطن، فظاهره حكمة علمية و عملية، و باطنه علوم دقيقة، ظاهره حسن معجب لفظا و معنى، فصاحة و بلاغة، و باطنه علوم عميقة لا تصل إلى قعرها إلاّ الرّاسخون في العلم؛ لمعانيه مبادئ و نهايات، و لنهاياته نهايات، فعجائبه لا تحصى، و غرائبه لا تبلى بفناء العمر و كثرة التدبّر و التفكّر و البحث، بل هو جديد دائما و غريب بديع أبدا؛ كلّما لاحظه أدرك منه شيئا غير ما تفطّن له من قبل.

فيه مصابيح الهدى يدرك الانسان بها هدايته في كلّ مقام، و يطرد عن الطالب

ص: 12


1- «الثقل» بالفتح: متاع المسافر.
2- الاسراء/ 82.
3- الاسراء/ 9.

كلمات أهويته و جهالاته، و منار الحكمة فيظهر به وجوه الحكمة العلميّة و العمليّة و حكمة اللّه في إجراء العالم، و يستدلّ به عليها، و دليل على معرفة الحقّ و الخلق لمن عرف كيفيّة التعرّف و إشاراته و نكات بيانه، فهو الّذي ينبغي إجالة اولي الأبصار بصيرته فيه؛ إذ لا شيء أحقّ بصرفه و إنفاقه من هذا المصرف.

و ليبلغ نظره إلى صفات الحقّ الّتي تجلّى بها في صفاته و أسمائه الحسنى الظاهرة به، و استرشاده إلى أن يبلغ إلى كنه ما وصفه لعباده في ظاهره و نكاته و إشاراته و لطائفه و حقائقه، حتّى ينجو السالك فيه من الهلاك الحقيقي معنى في هذا اليوم و صورة في الغد، و يتخلّص من العلائق و الاندار من الوقوع فيما لا مخلص منه، و يصل إلى مقام الموحّدين المنقطعين إليه سبحانه، المستكنّين المستغنين به عمّن سواه.

و هذا السّلوك الفكريّ النظريّ موجب لحياة قلب من له بصيرة، يسلك به في نور القرآن كمشي المستنير بالنور في القرآن؛ فانّ النور الحسّي يظهر المحسوسات للماشي الحسّي، و نور القرآن يظهر المعاني و الطرق المعنويّة للسالك فيها معنى.

و على العاقل قصر الهمّ في التخليص الحسن عن التشبّث و قلّة التربّص و المقام فيها؛ فانّ الكيّس من جدّ و اجتهد في تحصيل الخلاص و النجاة بعد معرفته بطريقه و ترك الرّاحة. و اللّه الموفّق للصواب.

و عنهما باسنادهما عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«القرآن هدى من الضلالة، و تبيان من العمى، و استقالة من العثرة، و نور من الظلمة، و ضياء من الأجداث (1) ،و عصمة من الهلكة، و رشد من الغواية، و بيان من الفتن، و بلاغ

ص: 13


1- الكافي: «الاحداث»، و العيّاشي: «الأحزان».

من الدّنيا إلى الآخرة؛ و فيه كمال دينكم (1) ،و ما عدل أحد من(2) القرآن إلاّ إلى النّار »(3).

اعلم أنّ الهدى و الضلالة كما يطلقان في الطريق الحسّي، كذلك يقعان على الطرق المعنويّة الّتي يسلكها اولو الألباب للوصول إلى اللّه سبحانه و رضوانه و النعم الباقية الصوريّة و المعنويّة. و الانسان في هذه الدّار سالكة بمعارفه و جهالاته، و أخلاقه الحسنة و القبيحة، و أعماله الحسنة و السيّئة إلى القرب إلى اللّه سبحانه و البعد منه، و إلى الخروج من الحجب و زيادتها على نفسه، و إلى نعيم حقيقيّ و جحيم كذلك، و إلى جنّة و إلى نار؛ و كما أنّ الماشي إلى مقصد كما يحتاج إلى دلالة يستدلّ بها إلى المقصود حذرا من الضلال كذلك السالك المعنويّ يحتاج إلى هدى يستهدي به حتّى لا يضلّ عن مقصوده، بل هو أشدّ احتياجا لكثرة طرق الضلالة؛ كما يشير إليه قوله تعالى:

«وَ أَنَّ هٰذٰا صِرٰاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لاٰ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ، فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ » (4) .

حيث أتى السبل بصيغة الجمع، و القرآن يهدي للّتي هي أقوم كما نصّ سبحانه عليه (5).و كذا العمى قد يطلق على صفة العين الظاهرة باعتبار انعدام البصر عنه؛ و قد يقع على العين المثاليّة باعتبار انعدام صفة الابصار عنه، فلا يرى الامور المثاليّة و قد يقع على العقل باعتبار انعدام صفة التعقّل عنه، فلا يعقل الأشياء الّتي من شأنها

ص: 14


1- و زاد العيّاشي هنا: «فهذه صفة رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله - للقرآن.»
2- الكافي و العيّاشي: «عن».
3- الكافي، ج 2، كتاب فضل القرآن، ص 600، ح 8؛ و العيّاشي، ج 1، ص 5، ح 8؛ و هكذا في الصافي و البحار و البرهان.
4- الأنعام/ 153.
5- إشارة إلى آية 9 سورة الاسراء، و قد مرّ آنفا.

أن يدركها. و ربما يطلق العمى على نفس خفاء الشيء عند شأنية ظهوره في كلّ من المقامات الثلاثة، خفي من المبصرات الحسيّة و المثاليّة و المدركات العقليّة عند شأنية إدراكه فقد عمى عنه، و القرآن تبيان لما خفي من العلوم و المعارف و المدركات الباطنيّة، و تبيان به يرتفع الغشاوة و العشاوة عن البصيرة الباطنيّة، فيصير الانسان بصيرا بعد ما كان أعمى. و به يطلب إقالة العثرات باستجلاب حال التوبة الماحية للعثرات و من مواعظه و بياناته و استشفائه من الأمراض الباطنيّة لترتفع ببركته و الاستدلال عليه لرفع الشكوك و الشبهات. و هو نور من الظلمة، فانّ النّور حقيقته ما بسببه يظهر الأشياء، و قد قيل في تفسيره: «الظاهر بنفسه المظهر لغيره »(1).

و القرآن يظهر به العلوم و المعارف و سائر الامور المتعلّقة بالنشأتين لمن كان بصيرا غير أعمى القلب؛ «إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَذِكْرىٰ لِمَنْ كٰانَ لَهُ قَلْبٌ » .(2) كما أنّ نور الشّمس يظهر المحسوسات للبصير كذلك القرآن يظهر المعاني و غيرها لصاحب البصيرة، و كما يرتفع ظلمة اللّيل باشراق الشّمس كذلك ترتفع ظلمة الجهل و الوهم و غيرها ممّا أشرنا إليه بنور القرآن.

و لعلّك إن كنت ممّن تعرف النّور و الظلمة الموجودين في باطن العالم و مراتب القرآن الحكيم، استغنيت به عن ما ذكرنا و غيره فيه و في أمثاله.

و ممّا أشرنا إليه يظهر وجه كونه ضياء من الجدث المحتمل لارادة القبر و للهيكل الحيواني؛ إذ ضياء القرآن تدخل في باطن الانسان بأيّ اعتبار أخذوه و يبقى في البرزخ، بل دائما أبدا إذا اجتمع بما يعتبر في بقائه.

و هو عصمة من الهلكة الصوريّة، كما يدلّ على نبذة منه ما ذكر في خواصّ جملة الآيات و السور، و المعنويّة، لأنّ الكفر و الجهل و الأخلاق الرذيلة و هوى

ص: 15


1- راجع مجمع البحرين.
2- ق/ 37.

النفس و ميلها إلى المعاصي و النّيات ترتفع ببركة قراءته و تبياناته و مواعظه و زواجره و دلالاته و غيرها من سائر بركاته. فيخلّص الانسان من الشقاوة الباقية، و يوصله إلى السعادة الحقيقيّة.

فهو رشد من الغواية، يحصل منه التّميز بين الضارّ و النافع الحقيقيّ، كما أنّ الرّشد المالي عقل كيفيّة استثمار المال، و ترك تضييعه و التميز بين المعاملة الضارّة و النافعة، و جميع أعضاء الانسان و عمره و أمواله، و جميع ما يرتبط به من نعم الدّنيا أموال يمكن الانتفاع بها لمنافع الآخرة؛ فانّ الدنيا مزرعة الآخرة. و عقل الانسان أنحاء التصرّفات اللاّئقة و صورة ما يمضي منها رشد حقيقيّ يحصل من بركة القرآن.

فهو البيان لفتن الدّنيا و غيرها، كما هو بيان لكلّ بدعة و ضلالة و شبهة و ما ضاهاها.

و البلاغ من الدنيا للآخرة، بل مخرج للانسان عن نشأة الدّنيا الدنيّة إلى دار السّلام، ففيه كما في الدّين، الّذي من عدل عنه صار إلى النّار المعنويّة و الحسّيّة.

و عن العيّاشي باسناده عن الحارث الأعور، عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث قال:

«سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: أتاني جبرئيل عليه السّلام فقال:

يا محمّد! ستكون في امّتك فتنة.

قلت: فما المخرج منها؟

فقال: كتاب اللّه، فيه بيان ما قبلكم من خبر، و خبر ما بعدكم و حكم ما بينكم، و هو الفصل ليس بالهزل؛ من وليه(1) من

ص: 16


1- العيّاشي: «و اللّه».

جبّار فعمل بغيره قصمه(1) اللّه، و من التمس الهدى في غيره أضلّه اللّه؛ و هو حبل اللّه المتين، و هو الذّكر الحكيم، و هو الصّراط المستقيم لا تزيغه الأهوية، و لا تلبسه الألسنة، و لا - يخلق على الرد، و لا ينقض(2) عجائبه، و لا يشبع منه العلماء.

هو الّذي لم يلبث(3) الجنّ إذ سمعه أن قالوا: «إِنّٰا سَمِعْنٰا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ» (4) من قال به صدق و من عمل به أجر، و من اعتصم به فقد هدي إلى صراط مستقيم. هو الكتاب العزيز الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد »(5).

و سيظهر لك بعض ما يتبيّن به كثير من هذه الفقرات ممّا لم يظهر بما سبق فيما يأتي - إن شاء اللّه تعالى -.

[في الوصيّة بالتّمسّك بأهل البيت عليهم السّلام، و أنّهم الكتاب النّاطق]

و روى عليّ بن إبراهيم القمّيّ في تفسيره عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال في جملة كلام:

«ألا و إنّي سائلكم عن الثقلين! قالوا: يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله! و ما الثقلين(6) ؟

ص: 17


1- «القصم»: انكسار الظهر بشدّة.
2- العيّاشيّ: «ينقضى».
3- في بعض نسخ العيّاشي: «لم تكنّه».
4- راجع سورة الجنّ، آية 1 و 2.
5- العيّاشيّ، ج 1، ص 3، ح 2؛ و الصافي، ج 1، المقدّمة الاولى، ص 9، نقلا عنه؛ و هكذا في البحار و البرهان.
6- القمّي: «الثقلان».

قال: كتاب اللّه الثقل الأكبر طرف بيد اللّه و طرف بأيديكم، فتمسّكوا به لن تضلّوا و لن تزلّوا؛ و الثقل الأصغر عترتي أهل بيتي، فانّه قد نبّأني اللّطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض كاصبعيّ هاتين - و جمع بين سبّابتيه - و لا أقول كهاتين - و جمع بين سبّابته و الوسطى -، فتفضل هذه على هذه »(1).

و روايات الثقلين على اختلاف ألفاظها كثيرة من الفريقين متواترة.

و لا يخفى عليك أنّ الكتاب كتابان: كتاب صامت، و كتاب ناطق مشتمل على ما اشتمل عليه الصامت، كما أنّ الصامت مبيّن لما اشتمل عليه الناطق؛ كمناهاة مكتوب القرآن لملفوظه، فهما كالسبّابتين، و كلّ منهما دالّ على الآخر؛ كالمرآتين المتقابلتين اللّتين يظهر في كلّ منهما الآخر بما انعكس فيها. فانّ كلّ ما اشتمل عليه القرآن من معرفة اللّه سبحانه بأسمائه و صفاته و أفعاله و آثاره، و معرفة حقائق الاشياء في المبدا و البرزخ و المعارف و وجوه الحكمة فيها، و بيان صفات المواليد الثلاثة و أحوال الانسان و شقاوته و سعادته و ما يؤدّي إلى كلّ منهما، و بيان ما وقع و ما يقع، و أحكام اللّه سبحانه، و غيرها ممّا يدلّ عليها دلالة لفظيّة، موجودة في نفس الامام عليه السّلام منقوشة بالوجود العلميّ الّذي هو أعلى مرتبة من الوجود اللّفظيّ و الكتبيّ. و كلّ ما يحكي عنه القرآن بجميع أنواعه حكاية لفظيّة وضعيّة يدلّ عليه علوم الامام عليه السّلام دلالة علميّة مرآتيّة. فكما أنّ المطّلع على ألفاظ القرآن ينتقل منها إلى تلك المعاني كذلك المطّلع على علومه ينتقل إليها، و كلّ أثر يوجده الأوّل من التّقريب و التّعريف و التّعليم، و البشارة و الانذار، و التكميل

ص: 18


1- القمّيّ، ج 1، مقدّمة الكتاب، ص 3؛ و البحار، ج 23، باب فضائل أهل البيت - عليهم السّلام -، ص 129، ح 61.

و الترقّي إلى عالم القدس، و النصح و الدعاء إلى اللّه سبحانه بأنواع المقرّبات يترتّب على الثاني أيضا، بل الموجود في الثاني المعاني و الألفاظ قوالب لها يحكي عنها.

فانّ الامام عليه السّلام هو الّذي عنده علم الكتاب، و كلّ شيء أحصى اللّه سبحانه في الامام المبين بالوجود العلميّ، و في الكتاب الكريم بالوجود اللّفظي، و فرق ظاهر بين كتاب العلم و نفس العالم المنتقش فيها العلوم. فالامام عليه السّلام بهذا الاعتبار كتاب ناطق كتب اللّه سبحانه في لوحه معاني القرآن و ألفاظه، و تجلّى فيه بصفاته و آياته و أفعاله؛ مع استجماعه لسائر الشئون من تخلّقه بما يستحقّه القرآن من الأخلاق، و عمله بما يرغب إليه من الأفعال، و امتثاله لأحكامه في جميع المقامات.

فهو كتاب إلهيّ، و انقياد و عمل بمقتضاه و غيرها.

فهو الداعي إلى اللّه على نحو دعاء القرآن مع زيادة القبول و الدعاء بالفعل فانّ أخلاقه و أعماله تدعو العارف بها إلى التشبّه بها خصوصا مع المناسبة الظاهريّة في هيكل البشريّة. فهما من حيث الحكاية متشاركان في جميع المقامات و إن ازداد الثاني على الاوّل بامور أخر، و كلّ منهما يدلّ على صاحبه و يشهد بحقيقته و تبيّنه؛ إذ جميع صفات الامام عليه السّلام مسطور في الكتاب، و يشهد له بذلك، و إلاّ لم يكن تبيانا لكلّ شيء، كما أنّ جميع صفات القرآن لفظا و معنى و غيرهما تحصى في الامام عليه السّلام، و يشهد له بالحقيقة تفصيلا علما و لفظا و تخلّقا، و هو على صورة القرآن تماما مع إجابته و قبوله.

[بيان أنّ الكتاب هو الثّقل الأكبر]

فان قلت: فعلى هذا الثقل الأكبر هو الامام عليه السّلام دون الكتاب و الخبر مصرّح بخلافه.

قلت: إذا لاحظنا سائر مراتب القرآن و مقاماته دون مقام اللّفظ و الكتب و النقش، فمن جملة مقاماته مقام قلب النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الامام عليه السّلام؛ إذ هو آيات بيّنات

ص: 19

في صدور الّذين اوتوا العلم. و من جملتها مقامات أخر لسنا نتعرّض لبيانها.

و الامام أيضا مشتمل على جميع تلك المقامات، فالقرآن بجميع مقاماته عندهم و لا يبطل بذلك المقايسة و المفاضلة نظرا إلى اتّحادهما حينئذ؛ إذ ربّما يصحّ بملاحظة الاعتبارات و الحيثيّات، فيصحّ أن يلاحظ المقايسة بين القرآن بتمام شئونه، أو خصوص المرتبة اللّفظيّة و الكتبيّة، و بين الامام عليه السّلام باعتبار كونه صورة قبول القرآن و الاجابة و التخلّق به. و الأوّل في مقام الفعل و الاقتضاء، و الآخر مقام الانفعال و الاجابة. فالقرآن أكبر شأنا من هذه الملاحظة كما أنّه منسوب إلى الحقّ و من صفاته، و الآخر من صفات العبد و إن كان الامام عليه السّلام هو الآية الكبرى التامّة؛ لكنّه لم يلحظ في المقايسة.

و يصحّ أن يلاحظ بين جميع مراتب القرآن مع المندرج فيها مرتبة عند الامام عليه السّلام مقيسا إلى الامام عليه السّلام بسائر شئونه إذا قطع النظر عن كونه حاملا لمراتب القرآن، و يصحّ أن يلاحظ النسبة بين القرآن بجملتها، و ما صدر عن العترة في الظاهر قولا فقط أو مع ما ظهر من أفعالهم، فانّه المتمسّك به لعامّة الناس لو أخذوا به، و حينئذ فالكتاب أكبر منه. و لا أستبعد أن يكون السرّ في هذا التعبير ملاحظة حال السامعين، و عدم قابليّتهم لكشف أزيد من ذلك عندهم، أو أنّ أهل الظاهر الّذين هم الجمهور يرون كتاب اللّه منتسبا مضافا إلى الحقّ، و الامام عليه السّلام مستقلاّ غير مضاف إليه سبحانه. فالأوّل أشرف من الثاني إذا لوحظا كذلك، فافهم ما ذكر، و ليكن ببالك فلعلّه يتّضح به جملة من الأخبار المؤوّلة لكثير من الآيات بهم عليهم السّلام؛ كما رواه عليّ بن إبراهيم القمّيّ، عن أبي بصير بسند متّصل في تفسير قوله تعالى: «ذٰلِكَ الْكِتٰابُ لاٰ رَيْبَ فِيهِ» (1) عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال:

«الكتاب عليّ عليه السّلام لا شكّ فيه، «هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» قال: فيه

ص: 20


1- البقرة/ 2.

تبيان(1) لشيعتنا »(2).

و الأخبار فيما عنونّا به المقدّمة كثيرة، كما نقله في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السّلام ممّا اقتبسناه في خطبة الكتاب، فانّ جلّها أو كلّها مأخوذة منه متبرّكين به.

و لنقتصر من ذلك الكثير بهذا القليل.

فانظر الآن أيّها البصير إلى أنّ اللّه سبحانه على ما هو عليه من عزّ صفاته أهّلك لمخاطبته و مكالمته، و وجّه خطابه و كلامه إليك، و ألّف كتابا لك، و أرسله إليك على لسان أحبّ خلقه و أقربهم إليه، و جعله الرسول المبلّغ له، ثمّ جعل له حملة حفظة هم أقرب خلق اللّه إليه سبحانه بعد رسوله، فلاحظ شأن المتكلّم و مؤلّف الكتاب، ثمّ شأن مبلّغه، تمّ شأن حامله بقدر معرفتك وسعة وعائك، حتّى يظهر لك شأن الكتاب على حسب فهمك. و إلاّ فلن تصل إلى أزيد من جزء واحد من أجزاء غير متناهية من شأن واحد من الثلاثة فضلا عن الأوّل. فان كنت عبد اللّه فكن مستمعا لكلامه، متوجّها نحو خطابه، متدبّرا في كتابه، مهتديا بهداه، آخذا به، متّبعا له.

و اعلم أنّ كلّ كتاب مصنّف(3) تابع في الكمال و النقصان لمصنّفه في المرتبة فكلّ من كان أكمل علما و فضلا كان كتابه أكمل، و كلّ موعظة لفظيّ أو كتبيّ تابعة لواعظه، فمن كان أعلم بجهات الوعظ و أقدر و أرحم بالمخاطبين، كان وعظه أعلى و أجلّ و أنفع، و كلّ من كان أعلم بسرائر المخاطبين و أشفق بهم، كان كلامه أنفع لهم.

ص: 21


1- في بعض النسخ: «البيان».
2- القمّيّ، ج 1، ص 30؛ و البرهان، ج 1، ص 53.
3- المخطوطة: «كتاب كلّ مصنّف».

و بالجملة فالكلام تابع لصفة المتكلّم كاشف عنه، أ لا ترى أنّ من لم يكن مطّلعا على حال عالم من حيث العلم و الحال إذا نظر إلى كتابه عرف به حال المصنّف؟ فمن هذا الميزان يصحّ أن يعرف البصير كلام اللّه سبحانه من غيره، فيعلم به أنّه لا يقدر أحد وصف كتاب اللّه صورة و معنى كما لا يحصي أحد وصف اللّه سبحانه و ثنائه فان كنت لا تعرف في كتاب اللّه سبحانه ما وصفناه لك فاعلم أنّ النقص فيك و في بصيرتك، و أنّك محتجب عنه بحجاب؛ لا أنّه ناقص في البيان و الهداية، و النقص منك لا منه، فاجتهد في رفع حجابك، و ألق السمع و أنت شهيد.

[أسماء القرآن]

و اعلم أنّ للقرآن صفات كثير [ة] وصفه بها(1) سبحانه، يشهد بحقيقتها العارفون، ينتزع منها أسماء كثيرة للقرآن على ما جمعه بعض العلماء(2) و إن كان في بعضها بعض الاحتمال:

منها: «الفرقان»؛ قال تعالى: «تَبٰارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقٰانَ عَلىٰ عَبْدِهِ.» (3)

و الظاهر إرادة معنى الفرق و الفصل بين الحقّ و الباطل.

و منها: «التذكرة» و «الذكرى» و «الذكر»؛ قال تعالى: «وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ » (4) ، «وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرىٰ تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ » (5) ،بضميمة: «فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ

ص: 22


1- المخطوطة: «به».
2- كثير من العلماء و المفسّرين ذكروا أسماء القرآن و صفاته في كتبهم، و بيّنوا معانيها و نكتها؛ منهم: فخر الدين الرازي في تفسيره. و قد يحتمل أنّ المؤلّف (قده) قد أخذ هذه الأسماء عنه باعتبار ترتيب بيانها و تفسير بعضها على ما ذكره، فراجع تفسير الكبير، ج 1، ص 238-241.
3- الفرقان/ 1.
4- الحاقّة/ 48.
5- الذاريات/ 55.

يَخٰافُ وَعِيدِ » (1) ، «وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ » (2).و فسّر بأنّه ذكر من اللّه سبحانه، ذكّر به سبحانه عباده أو شرّف و فخر.

و منها: «التنزيل»؛ قال تعالى: «وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعٰالَمِينَ.» (3) دلّ على أنّه نزل من مقام شاهق إلى هذه الدار.

و منها: «الحديث»؛ قال اللّه سبحانه: «اَللّٰهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ.» (4) قيل:

«شبّهه بما يتحدّث به، فانّ اللّه تعالى خاطب به المكلّفين.» و الاولى تبديل الاسم بأحسن الحديث.

و منها: «الموعظة»؛ قال تعالى: «قَدْ جٰاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ شِفٰاءٌ لِمٰا فِي الصُّدُورِ.» (5)

و منها: «الحكم» و «الحكمة» و «الحكيم» و «المحكم»؛ قال تعالى:

«وَ كَذٰلِكَ أَنْزَلْنٰاهُ حُكْماً عَرَبِيًّا » (6) ، «حِكْمَةٌ بٰالِغَةٌ » (7) ، «وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ » (8) ، «كِتٰابٌ أُحْكِمَتْ آيٰاتُهُ » (9).

و منها: «الشفاء» و «الرحمة»؛ قال تعالى: «وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مٰا هُوَ شِفٰاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ » (10).

ص: 23


1- ق/ 45.
2- الزخرف/ 44.
3- الشعراء/ 192.
4- الزمر/ 23.
5- يونس/ 57.
6- الرعد/ 37.
7- القمر/ 5.
8- يس/ 2.
9- هود/ 1.
10- الاسراء/ 82.

و منها: «الهدى» و «الهادي»: «هُدىً لِلْمُتَّقِينَ » (1) ، «إِنَّ هٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ » (2).

و منها: «اَلصِّرٰاطَ الْمُسْتَقِيمَ » :قال تعالى: «وَ أَنَّ هٰذٰا صِرٰاطِي مُسْتَقِيماً » (3).

و منها: «حبل اللّه»: قال سبحانه: «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّٰهِ جَمِيعاً » (4).

و منها: «الروح»: «وَ كَذٰلِكَ أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنٰا » (5).و لعلّه باعتبار أنّه سبب لحياة الأرواح، كما أنّ بالروح حياة الأبدان.

و منها: «القصص»: «إِنَّ هٰذٰا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ » (6).و لك تبديله بالقاص:

«إِنَّ هٰذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلىٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ.» (7)

و منها: «البيان» و «التبيان» و «المبين»: «هٰذٰا بَيٰانٌ لِلنّٰاسِ » (8) ، «تِبْيٰاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ » (9) ، «تِلْكَ آيٰاتُ الْكِتٰابِ الْمُبِينِ.» (10)

و منها: «البصائر»: «هٰذٰا بَصٰائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ .» (11).

و منها: [الفصل ](12): «إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ.» (13)

و منها: «النجوم»: «فَلاٰ أُقْسِمُ بِمَوٰاقِعِ النُّجُومِ.» (14) و لعلّه لأنّه نزل نجما نجما.

و منها: «المثاني»: «مَثٰانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ.» (15) و لعلّه

ص: 24


1- البقرة/ 2.
2- الاسراء/ 9.
3- الأنعام/ 153.
4- آل عمران/ 103.
5- الشورى/ 52.
6- آل عمران/ 62.
7- النمل/ 76.
8- آل عمران/ 138.
9- النحل/ 89.
10- يوسف/ 1؛ و الشعراء/ 2؛ و القصص/ 2.
11- الأعراف/ 203.
12- أضفناها قياسا، و هي موجودة في تفسير الكبير.
13- الطارق/ 13.
14- الواقعة/ 75.
15- الزمر/ 23.

لأنّه يثنّى فيه القصص و الأخبار.

و منها: «النعمة»: «وَ أَمّٰا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ.» (1) على ما روي عن ابن عبّاس من تفسيره بالقرآن.

و منها: «البرهان»: «قَدْ جٰاءَكُمْ بُرْهٰانٌ مِنْ رَبِّكُمْ.» (2)

و منها: «البشير» و «النذير»: «قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)بَشِيراً وَ نَذِيراً.» (4)

و منها: «القيّم»: «قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً.» (5)

و منها: «المهيمن»: «مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتٰابِ، وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ.» (6)

و منها: «النور»: «وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ.» (7)

و منها: «الحقّ»: «وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ.» (8)

و منها: «العزيز»: «وَ إِنَّهُ لَكِتٰابٌ عَزِيزٌ.» (9)

و منها: «الكريم»: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ.» (10)

و منها: «العظيم»: «وَ لَقَدْ آتَيْنٰاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثٰانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ.» (11)

و منها: «المبارك»: «كِتٰابٌ أَنْزَلْنٰاهُ إِلَيْكَ مُبٰارَكٌ.» (12)

فانظر بعين التأمّل إلى صفات القرآن، و اعرف صدق ما روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام من أنّه: «ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، و لا لأحد قبله من غنى »(13) ، فانّك محتاج إلى فرقان يفرق بين الحقّ و الباطل في ظلمة هذه الدار الّتي لا بدّ

ص: 25


1- الضحى/ 11.
2- النساء/ 174.
3- في المخطوطة: «يعقلون».
4- فصّلت/ 3-4.
5- الكهف/ 2.
6- المائدة/ 48.
7- الأعراف/ 157.
8- الحاقّة/ 51.
9- فصّلت/ 41.
10- الواقعة/ 77.
11- الحجر/ 87.
12- ص/ 29.
13- نهج البلاغة، خ 176، ص 252، و قد مرّ في خطبة الكتاب.

من تحصيل الزاد أشدّ من جميع ما تحتاج إليه و هو الفرقان، و إلى مذكّر لك يذكّرك ربّك و منسيّ نعمته و ما نسيته من عهدك الأوّل، و يرفع غشاوة الغفلة و النسيان عليك، و هو الذكر و التذكرة، و إلى ما في العالم الاعلى لترتبط به، و تتخلّص من هذه الدار، و قد نزل إليك التنزيل، و إلى حديث تستمع له و هو أحسن الحديث، و إلى موعظة تتّعظ بها و هو الموعظة، و إلى حكم و حكمة بالغة موصوف بالحكمة محكم الآيات و هو الحكم العربيّ و الحكمة البالغة و القرآن الحكيم المحكم الآيات، و إلى شفاء تستشفي به من أمراضك الروحانيّة من الجهل و الكفر و الأخلاق الرذيلة و العادات السّيئة، الّتي تؤدّيك إلى موت روحانيّ أبديّ، و أمراضك الجسمانيّة، و هو الشفاء لما في الصدور، و شفاء بقول مطلق، و الى رحمة ترحمه بها؛ لأنّك محتاج بجميع الشئون و الجهات، و هو رحمة للمؤمنين بقول مطلق، و إلى هداية تستهدي بها في ظلمة هذه الدار لمصالحك، و هو الهدى و الهادي إلى صراط مستقيم تصل باتّباعه إلى المقصد الأصليّ، و هو الصراط المستقيم، الّذي من تبعه نجى، و إلى حبل يربطك إلى عالم القدس لينجذب به روحك إليه، و يبقى معلّقة به، كما ورد في شأن الخواصّ: أنّهم «صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالملإ الاعلى »(1) ،و يعتصم به من رياح الأهواء و أمواج الفتن، و هو حبل اللّه المتين، و إلى روح تحيي به حياة باقية حقيقة، فانّك ميّت معنى و إن كنت حيّا صورة، و «الناس موتى و أهل العلم أحياء »(2) ،و هو روح نزل من عالم الامر الاعلى، و إلى قاصّ يقصّ عليك القصص، و هو المشتمل على أحسن القصص، و إلى بيان

ص: 26


1- الكلام لأمير المؤمنين - عليه السلام -، فراجع نهج البلاغة، ح 147، ص 497؛ و تحف العقول، ص 114، و فيهما: «المحلّ» مكان «الملأ».
2- اشارة إلى قول أمير المؤمنين - عليه السلام - في الديوان المنسوب ذيل قوله - عليه السلام -: «الناس من جهة التمثال أكفاء...».

و تبيان يتبيّن به ما خفى عليك ممّا لا يحصيه إلاّ اللّه سبحانه، و يبيّنه لك، و هو البيان للناس، و التبيان لكلّ شيء، و المبين بكلمة مطلقة، و إلى بصائر تستبصر بها فيما خفي على بصيرتك و هي البصائر، و إلى قول فصل يفصّل لك ما التبس عليك بين الحقّ و الباطل من كلّ شيء، و هو القول الفصل، و إلى نجوم معنويّة تستضيء بها في ديجور هذا اللّيل الّذي أنت فيه، و آياته نجم نجوم كذلك، و إلى تكرير الكلام ليتقرّر و يتثبّت في نفسك و هو المثاني، و إلى ما يرعد فرائصك و يقرع سمعك بكلام عظيم ليوحشك عن هذه النشأة و يخرجك عنها، و ما يؤنسك إلى ذكر اللّه، و يلين قلبك القاسية، و هو الّذي يقشعرّ منه جلود الّذين يخشون ربّهم، ثمّ تلين جلودهم و قلوبهم إلى ذكر اللّه، و إلى نعمة روحانيّة يتنعّم بها روحك، و هو النعمة من ربّك، و إلى برهان تبرهن به في المعارف و العلوم لدفع شبهات شياطين الجنّ و الانس، و تظفر به على من خالف الحقّ، و هو البرهان النازل من الربّ، و إلى مبشّر يبشّرك بالثواب على الخيرات، و منذر يخوّفك عن الموبقات، فانّك كالطفل في عمل الآخرة، تحتاج دائما إلى ترغيب و ترهيب لتجتهد في كسبها، و تتّقي من ضررها، و هو البشير و النذير، و إلى كتاب قيّم لا عوج فيه، حتّى يقام و يعدل به سائر المطالب، الّتي ترد عليك من داخل و خارج، و هو القيّم؛ حتّى ورد في جملة من الأخبار عرض الروايات على الكتاب و طرح ما يخالفه و الأخذ بما يوافقه (1) ،و إلى مهيمن على الكتب السابقة، إمّا بشهادة على صحّتها حتّى تؤمن بما انزل من قبلك، أو يؤمنك على عدم بطلان فيه، و إمّا باحاطته على ما فيها حتّى تكتفي به عنها، و لا تحتاج إليها بعده، و هو المهيمن للكتاب الّذي بين يديه، و إلى نور تستنير به في الكلام على ما سبق و هو النور، و إلى عزيز يمنع نادر الوجود لم يوجد مثله، أو يمنع الشكوك و الأباطيل و يدفعها،

ص: 27


1- ستأتي في المقدّمة الثانية.

أو يمنع المنقطع إليه المتخلّق من كلّ آفة و سوء، أو ذو عزّة و رفعة شأن حتّى يسرى منه العزّة إلى حامله، و هو الكتاب العزيز، و إلى كريم يكرم عليك ما تحتاج إليه، يدرّ الأرزاق الصوريّة و المعنويّة، و يعطيك المواهب الجسمانيّة و الروحات، و هو الكتاب الكريم، و إلى عظيم يجبر به هونك و ذلّتك في الدين و الدنيا و الآخرة، و هو الكتاب العظيم، و إلى بركات كثيرة، ظاهريّة و باطنيّة، سماويّه و أرضيّة، يفتح عليك؛ كما في قوله تعالى: «لَفَتَحْنٰا عَلَيْهِمْ بَرَكٰاتٍ مِنَ السَّمٰاءِ وَ الْأَرْضِ » (1) ،و هو الكتاب المبارك.

و لعلّك تفهم ممّا ذكرناه بعض وجوه تجلّي الحقّ سبحانه في كتابه الوارد في الأحاديث إن كنت عالما بمعني التجلّي، فانّه سبحانه ظهر في كلامه باسم «الفاضل» و «الفاصل» و «المذكّر» و «المنزل» و «الحكيم» و «الشافي» و «الرحيم» و «الهادي» و «المحيي» و «المبين» و «المنعم» و «القيّوم» و «المهيمن» و «النور» و «العزيز» و «الكريم» و «العظيم»، و سيأتي بيان هذه الاشارة في نظائره - إن شاء اللّه تعالى -.

فان قلت:

إنّا لا نجد كثيرا ممّا ذكرت في وصف القرآن في أوّل المقدمة إلى هنا، و لم نسمع بمن وجد ذلك، فما وجه صحّة هذه الدعاوي؟

قلت:

ليس معنى وجود الخاصيّة في الشيء أنّ هذا الشيء بأيّ وجه أخذ و في أيّ حال و على أيّ صفة و مقترنا بأيّ شيء و مفترقا عن أيّ شيء له تلك الخاصيّة، بل معناه في مثل المقام أنّ من كان بصفة كذا إذا أخذ الجزء المعيّن و صنع به كذا، بشرط كذا و ارتفاع مانع كذا، يحصل منه كذا، فانّ لكلّ شيء شروطا

ص: 28


1- الأعراف/ 96.

و موانع و مكملات و حدودا و موازين و قواعد لا يطّلع عليه إلاّ من كان من أهله، أو أخذه عنه، و لا ينتفع به إلاّ من كان محلّه قابلا له إذا أتى به بشروطه و موازينه بحسب الخصوصيّات المرتبطة بذلك المورد كمالا و نقصانا. فللشمس نور ظاهر بنفسه، لكنّ الأعمى لا يبصره و لا يستنير به، و مستحقّ للأجسام، و من ابتدأ به نوبة الربع غير مستحقّ به مربّي للنباتات و النبات الّذي بعد عهده عن الماء يهزل به، و منضج للثمار لكنّ الثمرة الّذي ضرّ به البرد لا تنضج به، و ما كان محتجبا عن نور الشمس لا ينتفع به. و طريق التصديق بما ذكر إمّا بملاحظة الآيات و الأخبار الواردة في المقام مع جودة التفكّر فيها، و الاطّلاع على معانيها فيما اشتملت عليه منها بظاهرها، إن كنت مؤمنا بظاهر الثقلين و باطنهما إجمالا موقّتا بأنّ شيئا منها غير مبنيّ على المجازفات الشعريّة، و إنّه حقّ اليقين، و إمّا تصديق أهل الخبرة فيها تقليدا لهم، و إمّا تحصيل أهليّة الاطّلاع على تلك الاوصاف، كلّ على حسب مقامه ليظهر لك كلّ منها بطريق الوجدان.

و سنذكر بعض شرح ذلك في المواضع المناسبة - إن شاء اللّه تعالى - بحسب المقدار السانح بالبال. أو لست من أهل إدراك حقائق تلك الاوصاف و حقائقها؟ لعلّه ينبّه الطالب المستعدّ ليشتغل فى طلبها و التأهل لظهورها فيه حتّى يجدها.

ص: 29

المقدّمة الثّانية في ذكر جملة ممّا جاء في المنع من تفسير القرآن بالرأي،

و ما يتراءى منه بترك تفسيره بغير ما ورد عن أهل البيت - عليهم السلام -، و أنّ من عداهم لا يعلمون شيئا منه، و ما أشبه ذلك، و تحقيق ذلك

[نبذة من الروايات التي تدلّ على أنّ علم القرآن كلّه عند أهل البيت عليهم السلام]

قال اللّه سبحانه بعد ذكر أنّ من آيات الكتاب محكمات:

«هُنَّ أُمُّ الْكِتٰابِ وَ أُخَرُ مُتَشٰابِهٰاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مٰا تَشٰابَهَ مِنْهُ ابْتِغٰاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغٰاءَ تَأْوِيلِهِ وَ مٰا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّٰهُ وَ الرّٰاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّٰا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنٰا.» (1)

و قوله تعالى: «وَ الرّٰاسِخُونَ» يحتمل كونه معطوفا على اسم الجلالة، يكونون ممّن استثناهم عن عدم علم تأويله، و هو الظاهر من جملة من الاخبار(2).

يحتمل كونه مبتدأ خبره «يقولون».

و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه:

ص: 30


1- آل عمران/ 7.
2- كما ذهب اليه جمهور علماء الشيعة، و عقد محمد بن الحسن الصفار (ره) في بصائر الدرجات بابين أورد فيهما روايات تدل عليه، فراجع الجزء الرابع، باب 7 و 10 و الروايات في ذلك خارج عن حدّ الاحصاء و من أرادها فليراجع التفاسير و كتب الحديث.

«من فسّر القرآن برأيه فأصاب الحق، فقد أخطأ.»(1)

و لعلّ المراد أنّه إن أصاب الواقع اتّفاقا فقد أخطأ في الطريق، أو أنّه أخطأ طريق السداد أو النجاة من المهالك، أو مار و أخطأ خطيئة.

و عن الكافي، عن الصّادق، عن أبيه عليهم السّلام قال:

«ما ضرب [رجل](2) القرآن بعضه ببعض إلا كفر.»(3)

و روي العامّة عن ابن عباس، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال:

«من قال في القرآن بغير علم، فليتبوّأ مقعده من النار.»(4)

و روي عنه و عن الائمّة القائمين مقامه عليهم السّلام:

«أنّ تفسير القرآن لا يجوز إلا بالاثر الصحيح و النصّ الصريح.»(5)

و عن الشيخ الطوسي [ره] باسناده عن عبيدة السلماني، قال: سمعت عليّا عليه السّلام يقول:

ص: 31


1- سنن الترمذي، ج 4، باب 1 من ابواب تفسير القرآن. ص 268. رقم 44024 و سنن ابي داود، ج 3، كتاب العلم، ص 320، رقم 3652؛ و هكذا نقله الفيض (ره) في الصافي، ج 1، المقدمة الخامسة، ص 21؛ و المجلسي (رض) في البحار، ج 92، باب تفسير القرآن بالرأي، ص 111، ح 20، عن «منية المريد».
2- سقط في المخطوطة.
3- الكافي، ج 2، باب النوادر من كتاب فضل القرآن، ص 632، ح 17؛ و العياشي، ج 1، ص 18، ح 2؛ و هكذا في المحاسن و ثواب الاعمال و معاني الاخبار.
4- اخرجه الترمذى فى سننه، ج 4، باب 1 من ابواب تفسير القرآن، ص 268، رقم 4022؛ و نقله الفيض (ره) في الصافي ج 1، المقدمة الخامسة، ص 21؛ و المجلسي (ره) في البحار، ج 92، باب تفسير القرآن بالرأي، ص 111، ح 20، عن منية المريد.
5- راجع التبيان، ج 1، المقدمة، ص 4؛ و مجمع البيان، ج 1، المقدمة، الفنّ الثالث، ص 13؛ و الصافي، ج 1، المقدمة الخامسة، ص 21.

«يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ ،اِتَّقُوا اللّٰهَ ، (و لا تفتوا الناس بما لا تعلمون،) فانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد قال قولا آل منه إلى غيره، و قد قال قولا من وضعه غير موضعه كذب عليه.

فقام «عبيدة» و «علقمة» و «الاسود» و اناس معهم، فقالوا:

يا أمير المؤمنين، فما نصنع بما قد خبّرنا به في المصحف؟

فقال: يسأل عن ذلك علماء آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله.»(1)

و عن التفسير المنسوب إلى الامام العسكري، عن آبائه، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في حديث أنّه قال:

«أ تدرون متى يوفّر(2) على المستمع و القارئ هذه المثوبات العظيمة؟ إذا لم يقل في القرآن برأيه، و لم يجف عنه، و لم يستأكل به، و لم يراء به.

و قال: عليكم بالقرآن! فانّه الشفاء النافع، و الدواء المبارك، عصمة لمن تمسّك به، و نجاة لمن اتّبعه.

ثمّ قال: أ تدرون من المتمسّك به، الّذي يتمسّكه ينال هذا الشرف العظيم؟ هو الّذي يأخذ القرآن و تأويله عنّا أهل البيت، و عن وسائطنا السفراء عنّا إلى شيعتنا، لا عن آراء

ص: 32


1- التهذيب، ج 4، باب من الزيادات في القضايا و الاحكام، ص 295، ح 823؛ و الوسائل، ج 18، باب 4 من أبواب صفات القاضي، ص 13، ح 19؛ و ايضا رواه الصفار (ره) في البصائر، الجزء الرابع، باب 7، ص 196، ح 9، بهذا الاسناد؛ و هكذا في البحار، ج 2، باب النهي عن القول بغير علم، ص 113، ح 1، عن كتاب «عاصم بن حميد» باختلاف يسير في الالفاظ.
2- في بعض النسخ: «يتوفر».

المجادلين. و أمّا من قال في القرآن برأيه، فان اتّفق له مصادفة صواب فقد جهل في أخذه عن غير أهله، و إن أخطأ القائل في القرآن برأيه، فقد تبوّأ مقعده من النار.»(1)

و عن الكافي، عن الصّادق عليه السّلام في رسالته الطويلة إلى أصحابه، المرويّة بعدّة طرق:

«إنّ اللّه أتمّ لكم ما آتاكم من الخير، و اعلموا أنّه ليس من علم اللّه و لا من أمره أن يأخذ أحد من خلق اللّه في دينه بهوى و لا رأي و لا مقاييس. قد أنزل اللّه القرآن، و جعل فيه تبيان كلّ شيء، و جعل للقرآن و تعلّم القرآن أهلا لا يسع أهل علم القرآن، الّذين آتاهم اللّه علمه، أن يأخذوا في دينهم(2) بهوى و لا رأي و لا مقاييس و هم أهل الذكر، الّذين أمر اللّه الامّة بسؤالهم.»(3)

و عن الصدوق [ره] في عدّة من كتبه باسناده عن الرضا عليه السّلام، عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال:

«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: قال اللّه جلّ جلاله: ما آمن بي من فسّر برأيه كلامي، و ما عرفني من شبّهني بخلقي،

ص: 33


1- تفسير العسكري عليه السلام، المقدمة، ص 4؛ و البحار، ج 92، باب فضل حامل القرآن ص 182، ح 18.
2- في بعض النسخ: «فيه» بدل «في دينهم».
3- الكافي، ج 8، ص 5، ح 1؛ و الوسائل، ج 18، باب 6 من ابواب صفات القاضي، ص 22، ح 2.

و ما على ديني من استعمل القياس في ديني.»(1)

و عنه عن الصادق عليه السّلام أنّه قال ل «أبي حنيفة »(2):

«أنت فقيه أهل العراق؟ قال: نعم. قال: فبم تفتيهم؟ قال:

بكتاب اللّه و سنّة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله. قال: يا أبا(3) حنيفة، تعرف كتاب اللّه حقّ معرفته؟ و تعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: نعم.

قال: يا أبا حنيفة، لقد ادّعيت علما، ويلك! ما جعل اللّه ذلك إلا عند أهل الكتاب، الّذين أنزل عليهم؛ ويلك! و لا هو إلا عند الخاصّ من ذريّة نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و ما ورثك اللّه من كتابه حرفا.»(4)

ص: 34


1- رواه في التوحيد، باب التوحيد و نفي التشبيه، ص 68، ح 23؛ و العيون، ج 1، باب ما جاء عن الرضا - عليه السلام - في التوحيد، ص 95، ح 4؛ و الامالي، و هكذا في البحار، ج 2 باب البدع و الرأي و المقاييس، ص 297، نقلا عنهم.
2- و هو: نعمان بن ثابت بن زوطي بن ماه مولى «تيم اللّه بن ثعلبة» الكوفي، احد الائمة الاربعة السنية، صاحب الرأي و القياس و الفتاوى المعروفة في الفقه، و من الذين ردوا كثيرا من أحاديث رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله - و ضيعوها كما قيل. و روي عن الامام مالك قال: «كانت فتنة أبي حنيفة أضرّ على هذه الامة من فتنة ابليس.» و روي: «انه كان رأس المرجئة.» (الكنى و الالقاب). أقول: هو أشهر من أن نطيل الكلام فيه. و من أراد أن يطلع على ترجمته أكثر من هذا فليراجع كتب الرجال.
3- في المخطوطة: «ابي».
4- رواه الصدوق (ره) فى العلل، ج 1، باب 81، ص 89، ح 5، و المجلسي (رض) في البحار، ج 2، باب البدع و الراي و المقاييس، ص 292، ح 13.

و عن العيّاشي، عن عمّار بن موسى، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سئل عن الحكومة، فقال:

«من حكم برأيه بين اثنين فقد كفر، و من فسّر برأيه آية من كتاب اللّه فقد كفر.»(1)

و عن الكليني [رض] باسناده إلى منصور بن حازم فيما حكاه للصادق عليه السّلام من مكالمته للناس:

«قلت لهم: فحين مضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من كان الحجّة للّه على خلقه؟ قالوا: القرآن، فنظرت في القرآن فاذا هو يخاصم المرجئي(2) و العدويّ (3) و الزنديق(4) الّذي لا يؤمن به حتّى يغلب الرجال بخصومته، فعرفت أن القرآن لا يكون حجّة إلا بقيّم (5) ،فما قال فيه من شيء كان حقّا - إلى أن قال: - فأشهد أنّ عليّا عليه السّلام كان قيّم القرآن، و كانت طاعته مفترضة، و كان الحجّة على الناس بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،

ص: 35


1- العياشي، ج 1، ص 18، ح 6؛ و البرهان، ج 1، باب النهي عن تفسير القرآن ص 19، ح 13، و هكذا فى البحار و الوسائل.
2- في الكافي: «القدري» مكان «العدوي» و هو الظاهر، و قد تطلق هذه الاسماء على اصحاب فرق «المرجئة» و «القدرية» و «الزنادقة».
3- في الكافي: «القدري» مكان «العدوي» و هو الظاهر، و قد تطلق هذه الاسماء على اصحاب فرق «المرجئة» و «القدرية» و «الزنادقة».
4- في الكافي: «القدري» مكان «العدوي» و هو الظاهر، و قد تطلق هذه الاسماء على اصحاب فرق «المرجئة» و «القدرية» و «الزنادقة».
5- قال المولى صالح المازندراني (ره) فى شرحه على الكافي، ج 5، ص 105: «قوله: «الا بقيم»، فى الفائق: قيم القوم من يقوم بسياسة امورهم. و المراد به هنا من يقوم بأمر القرآن و يعرف ظاهره و باطنه، و مجمله و مؤوّله، و محكمه و متشابهه، و ناسخه و منسوخه بوحي الهي، أو بالهام رباني، او بتعليم نبوي.»

و أنّ ما قال في القرآن فهو حقّ.

فقال - يعنى الصّادق عليه السّلام -: رحمك اللّه.»(1)

و عن الكافي باسناده إلى زيد الشحّام، قال: دخل «قتادة بن دعامة»(2)

على أبي جعفر عليه السّلام، فقال:

«يا قتادة، أنت فقيه أهل البصرة؟ فقال: هكذا يزعمون. فقال أبو جعفر عليه السّلام: بلغني أنّك تفسّر القرآن؟ فقال له قتادة:

نعم.

فقال له أبو جعفر عليه السّلام: فان كنت تفسّره بعلم فأنت أنت(3)

و أنا أسألك - إلى أن قال أبو جعفر عليه السّلام: - ويحك يا قتادة إن كنت إنّما فسّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت و أهلكت، و إن كنت قد فسّرته(4) من الرجال، فقد هلكت و أهلكت - إلى أن قال: - ويحك يا قتادة! إنّما يعرف القرآن من خوطب به.»(5)

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام في خطبة له، قال:

ص: 36


1- الكافي، ج 1، باب الاضطرار إلى الحجة، ص 168، ح 2؛ و الوسائل، ج 18، باب 13 من ابواب صفات القاضي، ص 129، ح 1، نقلا عنه.
2- هو من مشاهير محدثى العامة و مفسريهم، روى عن «انس بن مالك» و «ابي الطفيل» و «سعيد بن المسيب» و «الحسن البصري». و قال الخزرجي في «تذهيب الكمال»: «قتادة بن دعامة السدوسي، أبو الخطاب البصري الاكمه، أحد الائمة الاعلام، حافظ، مدلس.»
3- أي: أنت المفسر الذي يجوز له التفسير و الرجوع اليه، و الحاصل: أنت كامل فى العلم. كما قال المولى صالح المازندراني (ره) في شرحه على الكافي، ج 12، ص 415.
4- في بعض نسخ الكافي: «أخذته».
5- الكافي، ج 8، ص 311، ح 485؛ و الصافي، ج 1، المقدمة الثانية ص 12.

«إنّ علم القرآن ليس يعلم ما هو إلا من ذاق طعمه، فعلم بالعلم جهله، و بصر به عماه، و سمع به صممه، و أدرك به ما قد فات (1) ،و حيي به بعد إذ(2) مات، فاطلبوا ذلك من عند أهله و خاصّته، فانّهم خاصّة نور يستضاء به، و أئمّة يقتدى بهم؛ هم عيش العلم و موت الجهل، و هم الّذين يخبركم حلمهم(3) عن علمهم، و صمتهم عن منطقهم، و ظاهرهم عن باطنهم؛ لا يخالفون الحقّ، و لا يختلفون فيه.»(4)

و عن الصدوق [رض]، عن ابن عبّاس، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في خطبة له يذكر فيها بعض فضائل عليّ عليه السّلام و مراتبه:

«إنّ اللّه أنزل القرآن(5) و هو الّذي من خالفه ضلّ، و من يبتغي علمه عند غير عليّ هلك.»(6)

و عن الصّادق عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام:

ص: 37


1- في بعض نسخ الكافي: «علم ما فات».
2- في المخطوطة: «اذا».
3- في بعض نسخ الكافي: «حكمهم».
4- رواه الكلينى (قده) فى الكافى، ج 8، ص 386، ح 586؛ و الحر العاملى (ره) فى الوسائل، ج 18، باب 13 من أبواب صفات القاضى، ص 137، ح 26، و هكذا روى السيد الرضى (رض) من قوله - عليه السلام -: «هم عيش العلم - الخ»، الذى تقدم فى خطبة الكتاب، في نهج البلاغة، خ 147، ص 206، و خ 239، ص 357، فراجع.
5- في الامالى و الوسائل: «علىّ القرآن».
6- الامالى، المجلس الخامس عشر، ص 64، ح 11؛ و الوسائل، ج 18، باب 13 من أبواب صفات القاضى، ص 137، ح 29.

«إنّ أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن عليّ عليهما السّلام يسألونه عن الصمد، فكتب إليهم:

بسم اللّه الرحمن الرحيم، أمّا بعد، فلا تخوضوا في القرآن، و لا تجادلوا فيه، و لا تتكلّموا فيه بغير علم، فانّي سمعت جدّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: من قال في القرآن بغير علم، فليتبوّأ مقعده من النار.»(1)

و عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«لعن اللّه المجادلين في دين اللّه على لسان سبعين نبيّا، و من جادل في آيات اللّه كفر (2) ؛قال اللّه: «مٰا يُجٰادِلُ فِي آيٰاتِ اللّٰهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا.» (3) و من فسّر القرآن برأيه فقد افترى على اللّه الكذب، و من أفتى النّاس بغير علم لعنته ملائكة السموات و الارض - الحديث.»(4)

و عن البرقي [ره] في المحاسن عن المعلّى بن خنيس قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام في رسالة له:

«فأمّا ما سألت عن القرآن، فذلك أيضا من خطراتك المتفاوتة المختلفة؛ لأنّ القرآن ليس على ما ذكرت، و كلّ

ص: 38


1- التوحيد، باب تفسير قل هو اللّه أحد، ص 90، ح 5، و الوسائل، ج 18، باب 13 من أبواب صفات القاضي، ص 140، ح 35.
2- في الاكمال: «فقد كفر».
3- الغافر/ 4.
4- اكمال الدين، باب 24 ص 256، ح 1، و البرهان، ج 1 باب في النهي عن تفسير القرآن بالرأي، ص 17، ح 1.

ما سمعت فمعناه على غير(1) ما ذهبت إليه، و إنّما القرآن أمثال لقوم يعلمون دون غيرهم، و لقوم يتلونه حقّ تلاوته، و هم الذين يؤمنون به و يعرفونه.

و أمّا غيرهم، فما أشدّ إشكاله عليهم و أبعد(2) من مذاهب قلوبهم؛ و لذلك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إنّه ليس شيء أبعد من قلوب الرجال من تفسير القرآن.» و في ذلك تحيّر الخلائق أجمعون إلا من شاء اللّه. و إنّما أراد اللّه بتعميته في ذلك أن ينتهوا إلى بابه و صراطه، و أن يعبدوه و ينتهوا في قوله إلى طاعة القوّام بكتابه و الناطقين عن أمره، و أن يستنبطوا ما احتاجوا إليه من ذلك عنهم لا عن أنفسهم.

ثمّ قال: «وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ.» (3)

فأمّا عن غيرهم، فليس يعلم ذلك أبدا و لا يوجد، و قد علمت أنّه لا يستقيم أن يكون الخلق كلّهم ولاة الامر؛ لأنّهم(4) لا يجدون من يأتمرون عليه، و من يبلغونه أمر اللّه و نهيه، فجعل اللّه الولاة خواصّ ليقتدى بهم، فافهم ذلك - إن شاء اللّه تعالى -.

و إيّاك و إياك و تلاوة القرآن برأيك! فانّ النّاس غير

ص: 39


1- في بعض النسخ: «فمعناه غير».
2- في الوسائل: «أبعده».
3- النساء/ 83.
4- في بعض النسخ: «اذ».

مشتركين في علمه كاشتراكهم فيما سواه من الامور، و لا قادرين على تأويله إلا من حدّه و بابه الّذي جعله اللّه له، فافهم - إن شاء اللّه -، و اطلب الامر من مكانه تجده - إن شاء اللّه -.»(1)

و عن الطبرسي في احتجاج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوم الغدير على مفسّر كتاب اللّه و الداعي إليه إلى أن قال:

«معاشر النّاس! تدبّروا [القرآن] و افهموا آياته، و انظروا في محكماته، و لا تتّبعوا متشابهه، فو اللّه لن يبيّن لكم زواجره، و لا يوضح لكم عن تفسيره(2) إلا الّذي أنا آخذ بيده.»(3)

و عن بشارة المصطفى، عن الحسن عليه السّلام في خطبته لمعاوية:

«نحن حزب اللّه الغالبون - إلى أن قال: - و المعوّل علينا في تفسيره لا نتظنّى تأويله، بل نتّبع حقائقه، فأطيعونا - الحديث.»(4)

ص: 40


1- المحاسن، ج 1، كتاب مصابيح الظلم، باب 36، ص 268، ح 356، و الوسائل ج 18، باب 13 من أبواب صفات القاضي، ص 141، ح 38.
2- في الاحتجاج: «لكم تفسيره».
3- الاحتجاج، ج 1، ص 75، و الوسائل ج 18، باب 13 من أبواب صفات القاضي، ص 142، ح 43.
4- بشارة المصطفى، ص 106، عن هشام بن حسان، عنه - عليه السلام -، و الوسائل ج 18، باب 13 من ابواب صفات القاضي، ص 144، ح 45، و روى الطبرسى (ره) في الاحتجاج، ج 2، ص 22، عن موسى بن عقبة، عن الحسين بن علي - عليهما السلام - نحوه، الذي سيجيء في المقدّمة السادسة - إن شاء اللّه تعالى -.

و عن تفسير فرات بن إبراهيم، عن سعد بن طريف، عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث كلامه مع «عمرو بن عبيد»، قال:

«و أمّا قوله تعالى: «وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوىٰ » (1) ، فانّما على النّاس أن يقرءوا القرآن كما انزل، فاذا احتاجوا إلى تفسيره فالاهتداء بنا و إلينا يا عمرو - الحديث.»(2)

و عن العيّاشي، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«من فسّر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر، و إن أخطأ خرّ(3) أبعد من السماء»(4)

و عن أبي الجارود، عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

«ما علمتم فقولوا، و ما لم تعلموا فقولوا: اللّه أعلم؛ إن الرجل ينتزع(5) الآية، فيخرّ فيها(6) أبعد ما بين السماء و الارض.»(7)

و عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

«إيّاكم و الخصومة! فانّها تحبط العمل و تمحق الدين؛

ص: 41


1- طه/ 81.
2- تفسير فرات، ص 91، و الوسائل، ج 18، باب 13 من أبواب صفات القاضى ص 149، ح 64. ينتهي الحديث فيما بأيدينا من المصادر المذكورة إلى كلمة «عمرو» فلا يصح أخذ لفظ «الحديث» كما استعمله المؤلف (ره).
3- في بعض النسخ: «فهو».
4- العياشي، ج 1، ص 17، ح 4؛ و البحار، ج 92، باب تفسير القرآن بالرأي ص 110 ح 13، و الوسائل، ج 18، باب 13 من أبواب صفات القاضي، ص 149، ح 66.
5- في بعض نسخ العياشى: «ينزع».
6- في بعض نسخ العياشي: «بها».
7- العياشي، ج 1، ص 17، ح 3.

إن أحدكم لينزع بالآية، فيخرّ فيها(1) أبعد من السماء.»(2)

و عنه عليه السّلام قال:

«ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن؛ إنّ الآية ينزل أوّلها في شيء، و أوسطها في شيء، و آخرها في شيء.»(3)

و عن عبد الرحمن بن الحجّاج قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

«ليس شيء أبعد من عقول الرجال عن(4) القرآن.»(5)

و عن جابر قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

«يا جابر، إنّ للقرآن بطنا، و للبطن ظهرا، و ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن (6) ؛إنّ الآية ينزل أوّلها في شيء، و أوسطها في شيء، و آخرها في شيء، و هو كلام متصرّف(7) على وجوه.»(8)

و ذكر صاحب الوسائل في حاشيته أنّه:

ص: 42


1- في بعض نسخ العياشي: «يقع».
2- العياشي، ج 1 ص 18، ح 1.
3- العياشي، ج 1، ص 17، ح 1.
4- في بعض النسخ: «من».
5- العياشي، ج 1، ص 17، ح 5.
6- في العياشي و الوسائل و البرهان: «منه» بدل «من تفسير القرآن».
7- في بعض نسخ العياشي: «و هو كلام متصل يتصرف».
8- العياشي، ج 1، ص 11، ح 2. و هذه الاحاديث الخمس نقله الحر العاملي (ره) في الوسائل، ج 18، باب 13 من أبواب صفات القاضي ص 149 و 150، ح 68 و 71 و 73 و 69 و 74؛ و السيد هاشم البحراني (رض) في البرهان، ج 1، ص 19، عن العياشي.

«قد ورد أحاديث متواترة تزيد على مأتين و عشرين حديثا، قد جمعتها في محلّ آخر، دالّة على عدم جواز استنباط الاحكام النظريّة من ظواهر القرآن إلا من بعد معرفة تفسيره من كلام الائمّة عليهم السّلام، و التفحّص عن أحوالها، و أنّها محكمة أو متشابهة، ناسخة أو منسوخة، عامّة أو خاصّة إلى غير ذلك؛ أو ورد ما يوافقها من أحاديثهم الثابتة، و أنّه يجب العمل بالكتاب و السنّة، و قد تقدّم ذلك في حديث «عبيدة السلماني» - إلى آخر كلامه.»(1)

[معنى التّفسير و أنواعه]

أقول: اعلم أنّ المفسّر إمّا أن يفسّر ظاهر القرآن أو إشاراته و دقائقه و بواطنه، فالقسم الاوّل من التفسير من ترجمة المراد من الالفاظ و ما استعمل فيها، و بيان ما هو المقصود من الكلام ابتداء، الّذي هو الشائع المعروف في كتب التفسير؛ فانّ القرآن عبارة عن ألفاظ و كلمات عربيّة مؤلّفة على النهج العربيّ، فكما أنّ لكلّ كلام عربيّ معنى إذا عرض على عرف العرب فهم منه ذلك المعنى بعد ملاحظة مساق الكلام و خصوصيّاته و سائر القرائن الحاليّة و المقاليّة المتّصلة و المنفصلة، كذلك آيات القرآن و جمله إذا عرضت عليهم بجميع الخصوصيّات الّتي هي عليها، و ملاحظة القرائن المتّصلة و المنفصلة، يفهمون منها معاني خاصّة بملاحظة معاني المفردات و خصوصيّات الاعراب و التأليف و مساق الكلام و القرائن المكتنفة باللّفظ و غيرها، و كلّ كلام تامّ بأيّ لغة كانت إذا عرض على العارف بتلك اللّغة يفهم منه معنى، و يحكم بأنّه هو معنى ذلك الكلام.

ص: 43


1- راجع التعليقة، ص 20 من مجلد 18.

و لا شكّ أنّ ظاهر القرآن كلام عربيّ نزل بلغة العرب، و طريقة العقلاء، و المسلمين خصوصا جارية على حمل كلّ كلام على ما هو الظاهر المتبادر منه بعد ملاحظة جميع الخصوصيّات. و لعلّ مثل هذه الترجمة لا يعدّ تفسيرا فضلا عن كونه تفسيرا بالرأي؛ فقد ذكر بعض العلماء: «انّ التفسير أصله الكشف و الاظهار، و كذلك سائر تقاليبه من ذلك، سفرت المرأة: كشفت عن وجهها، و الفرس لأنّه يكشف به عن وجوه الحوائج، و منه السرف لانّه يكشف عن حاله حينئذ، و الرفس لأنّه يكشف عن عضوه، و انكشاف حال المقيّد من ومقاته في رسناته(1) واضح »(2).

فلا يبعد أن يكون التفسير هو بيان كلام لا يفيد بنفسه ذلك المعنى، فيكون مساوقا لتعيين المجمل و كشف المغلق. نعم، لا يبعد اندراج ما دلّ عليه القرائن الخفيّة فيه باعتبار إظهار تلك القرينة، و أمّا بعد الالتفات إليها، فان كانت معتبرة عند العقلاء كانت كسائر القرائن الظاهرة، و إلا لم يصحّ الاعتماد عليها.

و بالجملة فكلّ آية لها ظاهر معنى لفظيّ بملاحظة جميع الخصوصيّات، فهو حجّة فيه على ما فصّل في علم الاصول، فيصحّ تفسيرها به.

و يرشد إليه مضافا إلى ما تقدّم من الاخبار من أخبار الثقلين، المرويّة في «غاية المرام» من طريق الخاصّة باثنين و ثمانين طريقا، و من طريق العامّة بتسعة و ثلاثين طريقا، و غيرها، و ما أدرجناه في الخطبة من كلمات أمير المؤمنين عليه السّلام روايات كثيرة:

[روايات عرض الأخبار على القرآن]

و منها: الروايات الواردة في عرض الاخبار عند التعارض على الكتاب العزيز

ص: 44


1- «المقة» بالكسر: المحبة، و الهاء عوض عن الواو، و قد ومقه يمقه بالكسر فيهما أي: أحبه فهو وامق (مجمع البحرين). «الرسن»: الحبل الذي يشد به الدابة.
2- الكلام للنيشابوري، راجع تفسيره، ج 1، ص 18.

و الاخذ بما وافقه؛ كرواية «الميثمي»، «و عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه»، «و الحسن بن الجهم»، و «عمر بن حنظلة»(1) و غيرها على ما هو الظاهر.

و منها: الروايات الواردة في عرض الاخبار على الكتاب مطلقا و ترك العمل بما لم يوافقه أو لم يشبهه و ما يقرب من ذلك؛ كرواية «السكوني» عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ على كلّ حقّ حقيقة، و على كلّ صواب نورا، فما وافق كتاب اللّه فخذوه، و ما خالف كتاب اللّه فدعوه.»(2)

و المراد بالموصول يحتمل أن يكون هو الحديث، أو مطلق الكلام، أو مطلق القضيّة العقليّة، و لعلّ الاطلاق أقرب، فانظر كيف يعدّ الكتاب ميزانا للمخاطبين مشخّصا لهم الحقّ و الباطل و الصواب و الخطاء.

و رواية «عبد اللّه بن أبي يعفور»، قال:

«سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن اختلاف الحديث يرويه من تثق به، و منهم من لا تثق به؟

قال: إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب اللّه أو

ص: 45


1- راجع الوسائل، ج 18، باب 9 من أبواب صفات القاضي، ح 21 و 29 و 40 و 48 و 1، و قد نقلها عن العيون و رسالة سعيد بن هبة اللّه الراوندي و الاحتجاج و العياشي و الكافى بالترتيب.
2- المحاسن، ج 1، باب 14 من كتاب مصابيح الظلم، ص 226، ح 150؛ و الكافى، ج 1، باب الاخذ بالسنة و شواهد الكتاب، ص 69، ح 1؛ و العياشي، ج 1، ص 8، ح 2؛ و الامالي كما في البحار، ج 2، باب علل اختلاف الاخبار و كيفية الجمع بينها، ص 227، ح 4؛ و الوسائل، ج 18، باب 9 من أبواب صفات القاضي، ص 78 ح 10؛ و هكذا في البرهان.

من قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و إلا فالّذي جاءكم به أولى به.»(1)

و ظاهر الجواب غير مخصوص بمورد الاختلاف.

و رواية «أيّوب بن راشد» عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«ما لم يوافق من الحديث القرآن، فهو زخرف.»(2)

و رواية «أيّوب بن الحرّ»، قال:

«سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: كلّ شيء مردود إلى الكتاب و السنّة، و كلّ حديث لا يوافق كتاب اللّه، فهو زخرف.»(3)

و عن هشام بن الحكم و غيره عنه عليه السّلام قال:

«خطب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بمنى، فقال: أيّها الناس، ما جاءكم عنّي يوافق كتاب اللّه فأنا قلته، و ما جاءكم يخالف كتاب اللّه فلم أقله.»(4)

و عن جميل بن درّاج، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة؛ إنّ على

ص: 46


1- المحاسن، ج 1، باب 12 من كتاب مصابيح الظلم، ص 225، ح 145؛ و الكافى ج 1، باب الاخذ بالسنة و شواهد الكتاب، ص 69، ح 2؛ و الوسائل، ج 18، باب 9 من أبواب صفات القاضي، ص 78، ح 11؛ و هكذا في البرهان.
2- الكافي، ج 1، باب الاخذ بالسنة و شواهد الكتاب، ص 69، ح 4؛ و الوسائل ج 18، باب 9 من أبواب صفات القاضي، ص 78، ح 12؛ و هكذا في البرهان. (3و4) رواهما البرقي (ره) في المحاسن، ح 1، باب 11 من كتاب مصابيح الظلم ص 220 و 221، ح 128 و 130؛ و الكليني (رض) في الكافي، ج 1، باب الاخذ بالسنة و شواهد الكتاب، ص 69، ح 3 و 5؛ و العياشى (ره) في تفسيره، ج 1، ص 9 و 8، ح 4 و 1؛ و الحر العاملي (ره) في الوسائل، ج 18، باب 9 من أبواب صفات القاضي، ص 79، ح 14 و 15؛ و هكذا البحراني (قده) في البرهان.

كلّ حقّ حقيقة، و على كلّ صواب نورا، فما وافق كتاب اللّه فخذوه، و ما خالف كتاب اللّه فدعوه.»(1)

و عن جابر، عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث، قال:

«انظروا أمرنا و ما جاءكم عنّا، فان وجدتموه للقرآن موافقا فخذوا به، و إن لم تجدوه موافقا فردّوه، و إن اشتبه الامر عليكم فقفوا عنده، و ردّوه إلينا حتّى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا.»(2)

و عن العيّاشي، عن سدير قال: قال أبو جعفر و أبو عبد اللّه عليهما السّلام:

«لا تصدّق(3) علينا إلا ما وافق(4) كتاب اللّه و سنّة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله.»(5)

و لعلّك تستفيد من هذه الاخبار أنّ القاعدة هو إرجاع الاخبار إلى الكتاب و جعل الميزان فيها هو الكتاب مطلقا، و الاخذ بما وافقه و أشبهه، و طرح ما خالفه أو لا يشبهه، بل و ما لا يوافقه و ما لا يخالفه إذا لم يكن مستجمعة لشرائط الحجيّة.

و العجب من جماعة عكسوا الامر، فلم يأخذوا بالكتاب بنفسه أصلا، و جعلوا الحديث ميزانا للكتاب. فتدبّر في هذه الاخبار و ما قدّمناه، و احتفظ بما حصّلته منها

ص: 47


1- نقله الحر العاملى (ره) عن رسالة سعيد بن هبة اللّه الراوندي، فراجع الوسائل، ج 18، باب 9 من أبواب صفات القاضي، ص 86، ح 35.
2- الامالي للطوسي (رض)، ج 1، الجزء التاسع، ص 236؛ و البحار، ج 2 باب علل اختلاف الاخبار و كيفية الجمع بينها، ص 235، ح 21؛ و الوسائل، ج 18، باب 9 من أبواب صفات القاضي، ص 86، ح 37.
3- فى بعض النسخ: «لا يصدق».
4- في بعض النسخ: «بما يوافق».
5- العيّاشي، ج 1، ص 9، ح 6؛ و الوسائل، ج 18، باب 9 من أبواب صفات القاضي، ص 89؛ ح 47؛ و هكذا في البرهان.

حتّى تنتفع به في مواضع كثيرة.

[في أخذ محكمات القرآن و ترك المتشابهات و ردّ علمها إلى أهلها]

و منها: ما دلّ على الاخذ بمحكم الكتاب و ردّ متشابهه إليه؛ كما روي عن أبي حيون مولى الرضا [عن الرضا] عليه السّلام قال:

«من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه فقد هدي إلى صراط مستقيم. ثمّ قال عليه السّلام: إن في أخبارنا محكما كمحكم القرآن، و متشابها كمتشابه القرآن، فردّوا متشابهها إلى محكمها، و لا تتّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا.»(1)

فانظر إلى هذا الخبر كيف سوّى بين الكتاب و الحديث في الاشتمال على القسمين، و كيف حكم في كلّ منها بحكم واحد، و هو ردّ المتشابه إلى المحكم، فان كان الاشتمال عليهما مانعا عن الحجيّة عمّ المقامين.

و ما عن أمير المؤمنين عليه السّلام في كتابه إلى مالك الاشتر، المرويّة في نهج - البلاغة:

«و اردد إلى اللّه و رسوله ما يضلعك من الخطوب، و يشتبه عليك من الامور؛ فقد قال اللّه سبحانه لقوم أحبّ إرشادهم:

«يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّٰهِ وَ الرَّسُولِ.» (2)

فالراد إلى اللّه الاخذ بمحكم كتابه، و الرادّ إلى الرسول

ص: 48


1- رواه الصدوق (ره) في العيون، ج 1 باب، 28، ص 226، ح 39؛ و نقله الحر العاملي (ره) في الوسائل، ج 18، باب 9 من أبواب صفات القاضي، ص 82، ح 22.
2- النساء/ 59.

الاخذ بسنّته الجامعة غير المتفرّقة.»(1)

و عن إبراهيم بن هاشم، عن ابن سنان أو غيره، عمّن ذكره، قال:

«سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن القرآن و الفرقان، أ هما شيء واحد؟ فقال عليه السّلام: القرآن جملة الكتاب، و الفرقان المحكم الواجب العمل به .»(2).

و عن وهيب بن حفص، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال:

«سمعته يقول: إنّ القرآن فيه محكم و متشابه، فأمّا المحكم فنؤمن به و نعمل به و ندين اللّه به، و أمّا المتشابه، فنؤمن به و لا نعمل به؛ و هو قول اللّه: «فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ - إلى قوله: - وَ الرّٰاسِخُونَ .» (3).

و لعلّ المراد هو التفصيل بالنسبة إلى المخاطبين و غيرهم، و إلا فهم يعلمون جميع القرآن من دون فرق بين المحكم و المتشابه؛ كما ورد في رواية اخرى:

«المحكم ما يعمل به و المتشابه الّذي يشبه بعضه بعضا.»(4)

ص: 49


1- في بعض النسخ: «المفرقة». و الحديث فى: نهج البلاغة، ر 53، ص 434؛ و الوسائل، ج 18، باب 9 من أبواب صفات القاضي ص 86، ح 38.
2- الكافي، ج 2، باب النوادر من كتاب فضل القرآن، ص 630، ح 11؛ و معانى الاخبار، ص 189؛ و البحار، ج 92، باب فضل القرآن، ص 15، ح 10.
3- الآية؛ آل عمران/ 7؛ و الحديث في: بصائر الدرجات، ص 203، ح 3؛ و الوسائل، ج 18، باب 13 من أبواب صفات القاضي، ص 146، ح 52؛ و هكذا في البرهان.
4- العياشي، ج 1، ص 10، ح 1، عن أبي محمد الهمداني، عن رجل، عن أبي عبد اللّه - عليه السلام -؛ و البرهان، ج 1، ص 20، ح 5.

[جواز العمل بظاهر القرآن في الأحكام]

و منها: ما ربما يظهر صحّة العمل بظاهر القرآن في المسائل الفقهيّة؛ كما ورد في من أتمّ في السفر أنّه:

«إن قرء عليه آية التقصير و فسّرت له أعاد.»(1)

و لعلّ اشتراط التفسير لكون ما يتراءى من الآية ابتداء عند الجاهل هو جواز القصر لا لزومه، أو اشتراطه بالخوف.

و كقوله عليه السّلام على ما ببالي في من عثر فانقطع ظفره أنّه:

«يعرف هذا و أشباهه من كتاب اللّه؛ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.» (2)

و ما روي من:

«انّ اللّه لا يخاطب الخلق بما لا يعلمون.»(3)

إلى غير ذلك.

و من لاحظ مساق الآيات الواردة في شأن الكتاب الكريم، و تأمّلها حقّ

ص: 50


1- رواه العياشي (ره) في تفسيره، ج 1، ص 271، ح 254؛ و الصدوق (رض) في الفقيه ج 1، ص 278، ح 1؛ و الشيخ (رض) في التهذيب، ج 3، ص 226، ح 80 عن زرارة و محمد بن مسلم، عن أبي جعفر - عليه السلام -؛ و نقله الحر العاملي (رض) في الوسائل ج 5 باب 17 من أبواب صلاة المسافر ص 531، ح 4.
2- الآية: الحج/ 78؛ و الحديث في الكافي، ج 3، باب الجبائر و القروح و الجراحات ص 33، ح 4، عن عبد الاعلى مولى آل سام، عن أبى عبد اللّه - عليه السلام -؛ و الوسائل ج 1، باب 39 من أبواب الوضوء، ص 327، ح 5.
3- راجع الوسائل، ج 18، باب 13 من أبواب صفات القاضي، ص 151، ح 81.

التأمّل، و شاهد طريقة المسلمين، و تتبّع سائر الاخبار مضافا إلى ما قدّمناه، ظهر له أنّ ما أحدثه بعض الاخباريّين من عدم جواز استنباط العلوم من القرآن بعيد عن إصابة الحقّ و الصواب، و لعلّه كفران بهذه النعمة العظيمة، الّتي أنعم اللّه سبحانه على عباده حيث أنزل إليهم كتابا جامعا لأنواع العلوم و المعارف ليدّبّروا آياته، و ليتذكّر اولو الالباب، و إنّه آيات بيّنات لا إجمال و لا ريب فيه؛ كيف و الاجمال و الاغلاق و عدم وفاء اللفظ بالمراد نقص في الكلام، و مناف لبلاغة الكلام، و كلام اللّه سبحانه منزّه عن كلّ نقص و كامل تامّ. و تفصيل البحث موكول إلى علم الاصول.

و ليعلم أنّ القدر الّذي ذكرنا من الاخذ بظاهر القرآن، و المعنى الّذي يتبادر منه عرفا موقوف على الاطلاع على معاني المفردات و قوانين تأليفها، و ملاحظة القرائن الحاليّة و المساقيّة و المقاليّة، و جميع دقائق الكلام، و البحث عن القرائن المنفصلة من الاحاديث، و سائر الادلّة العقليّة و السمعيّة.

فأمّا حمل القرآن على معنى من دون اطّلاع على القواعد اللفظيّة، أو عدم الالتفات إلى القرائن و الدقائق اللفظيّة، أو عدم البحث عن القرائن المنفصلة و ملاحظة حال الناسخ و المنسوخ و المجمل و المفصّل و غيرهما، أو تخصيص شيء منها بمورد بملاحظة استحسان عقليّ، أو نكتة غير عرفيّة، أو محض ميل نفسه إليه، أو تعصّب لمذهبه، أو تقليد مفسّر غير معصوم و لا آخذ عنه، أو خيال سبق إلى ذهنه، أو قاعدة خارجيّة فاسدة، أو قياس فاسد إلى غير ذلك، أو حمل اللفظ المحتمل لوجهين أو وجوه على معنى بأحد الامور المشار إليها، أو تصرّف آخر غيرهما بواحد منها كما هو كثير في تفسيرات المفسّرين فهو غير صحيح، و فيها يتحقّق تفسير القرآن بالرأي و ضرب بعض القرآن ببعض، و القول في القرآن بغير علم و من دون سؤال علماء آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله مع التمكّن منه، كما هو شأن «قتادة» و «أبي حنيفة» و أضرابهما، و الاخذ

ص: 51

في الدين بالهوى و المقاييس، و التفسير من تلقاء النفس و عن الرجال، و الخوض و المجادلة و التكلّم في القرآن بغير علم، و اتباع المتشابه، و تظنى التأويل، و انتزاع الآية الّذي يخرّبه أبعد من السماء، و الغفلة عن نزول أوّل الآية في شيء و آخرها في شيء. و منه يظهر الجواب عن أكثر الاخبار المتقدّمة.

فان قلت: إن اقتصر في علم القرآن على القدر الّذي يفيده القواعد اللفظيّة بالشروط المتقدّمة من الفحص عن القرينة المنفصلة و الدليل المعارض و غيره، قلّ الانتفاع بالقرآن في استخراج العلوم و المعارف، و بطل أكثر ما ذكره المفسّرون و قد امرنا بالتدبّر فيه و استنارته و استنصاحه؛ مع أنّ القرآن فيه تبيان كلّ شيء و فيه ينابيع العلم و بحوره، و هو بحر لا يدرك غوره إلى غير ذلك ممّا ورد في صفته.

قلت: ليس مدلول القرآن منحصرا في ذلك، بل هو قطرة من ذلك البحر الزاخر، و لكن لكلّ مرتبة منه أهل خاصّ به. فمن كان عالما بقواعد الالفاظ و ما يتوقّف عليه إعمالها فقط، كان شأنه مقصورا على ذلك من دون تعدّي إلى الاستمداد بشيء من الامور المشار إليها، حتّى نكون ممّن نستدلّ به على ربّنا، و نستنصحه على أنفسنا، و نتّهم عليه آرائنا، و نستغشّ فيه أهوائنا، و آخذا للمعنى من القرآن و جاعلا له حجّة علينا، لا ممّن يحمل القرآن على رأيه و هواه و تقليده، و يجعل شيئا ممّا قدّمناه حجّة على القرآن و دليلا حاكما عليه. و لعلّك بالتأمّل فيما فصّلنا ترى انطباق كثير من أخبار الطرفين بعد ملاحظة مساقها و ما توجّه الكلام في بيانه، و بعد اتّفاق تلك القواعد و التجنّب عمّا أشرنا إليه يحصل له باستعمالها في القرآن و التدبّر فيه علوم كثيرة بقدر غوره فيه، و الاطلاع على دقائقه يزداد علومه، و بضمّ بعضها إلى بعض يكثر العلوم؛ فانّ العلوم إذا كثرت يمكن العالم من استخراج مجهولات كثيرة من ضمّ بعضها إلى بعض، كما تبين في علم المنطق،

ص: 52

خصوصا بملاحظة التطبيق بين ظواهر الآيات و التفاسير المأثورة عنهم عليهم السّلام. فعسى أن يتحصّل منه قواعد يستخرج منها علوما كثيرة من سائر مراتب القرآن؛ إذ ما ذكرناه إنّما هو في عالم لفظ القرآن و نشره، و لعلّه المراد من التنزيل في جملة من الاخبار.

و أمّا مراتبه الكثيرة الخارجة عنه، فجميعه إنّما هو عند المعصومين، كما استفاضت به الاخبار، بل المتواترات به، بل لا يحصي جميع مراتب حرف واحد منها غيرهم عليهم السّلام، أو من علّموه من خواصّهم إن أمكن لغيرهم إحصائه.

و قد نقل «السيّد البحرانيّ» [رض] في «غاية المرام» عن ابن طاوس [ره] أنّه قال: ذكر أبو عمرو الزاهد و اسمه محمّد بن عبد الواحد في كتابه باسناده أنّ علي بن أبي طالب عليه السّلام قال:

«يا ابن عبّاس، إذا صلّيت عشاء الآخرة فالحقني إلى الجبّان.

قال: فصلّيت و لحقته و كانت ليلة مقمرة.

قال: فقال لي: ما تفسير الالف من الحمد؟ فقال: فما علمت حرفا اجيبه، فتكلّم في تفسيرها ساعة واحدة تامّة.

قال: فما تفسير الحاء من الحمد؟ فقلت: لا أعلم. فتكلّم فيها ساعة تامّة.

قال: قال عليه السّلام: فما تفسير الميم؟ قال: قلت: لا أدري. قال:

فتكلّم فيها ساعة تامّة.

قال: ثمّ قال: فما تفسير الدال من الحمد؟ قال: قلت: لا أدري. قال: فتكلّم فيها إلى برق عمود الفجر.

قال: فقال لي: قم يا ابن عبّاس إلى منزلك و تأهّب لفرضك. قال أبو العبّاس عبد اللّه بن العبّاس: فقمت و قد وعيت كلّما قال،

ص: 53

ثمّ تفكّرت فاذا علمي بالقرآن في علم علي عليه السّلام كالقرارة في المثعجر.»(1)

و عنه في كتاب «سعد السعود» نقله من طريق العامّة، عن أبي حامد الغزالي:

«قال عليّ عليه السّلام لمّا حكى عهد موسى أنّ شرح كتابه كان أربعين حملا: «لو أذن اللّه و رسوله لي، لأشرع في شرح معاني ألف الفاتحة حتّى يبلغ مثل ذلك.» يعني: أربعين وقرا أو حملا، و هذه الكثرة في السعة و الافتتاح في العلم لا يكون إلا لدنّيّا سماويا إلهيّا، هذا آخر لفظ محمّد بن محمّد بن محمّد الغزالي.»(2)

و لا شكّ أنّ القدر الّذي يفيده الالفاظ باعتبار اوضاعها اللغويّة و العرفيّة نسبته إلى سائر مراتبه المجتمعة عندهم عليهم السّلام كنسبة القطرة من البحر، فلا جرم مثل «قتادة» و «أبي حنيفة» و أضرابهما لم يورثوا منه حرفا واحدا؛ إذ غاية إدراكهم قشر الحرف الواحد.

و من هنا يعلم الجواب عن جملة اخرى من الاخبار المشار إليه، و أنّ ما دلّ من الاخبار على انحصار علم القرآن أو تمامه لهم عليهم السّلام، لا تنفى صحّة التمسّك بظاهرها؛ إذ العالم به بالنسبة إلى أصل علم القرآن كالعامي الصرف العالم بأنّ كتاب «الشفاء» للشيخ الرئيس اسمه الشفاء، و حجمه كذا، و جلده كذا، و لون جلده و أوراقه كذا، و مداده من السواد أو الحمرة، و سطور الصفحة كم هي؛ فهل

ص: 54


1- قال المؤلف (ره) في الحاشية: «كالقرارة في المثعجر» أي: كالغدير في جنب البحر. كذا قيل. و الحديث في غاية المرام، المقصد الثاني، الباب الخامس و العشرون، ص 513؛ و تراه في سعد السعود، ص 284؛ و البحار، ج 92، ص 104.
2- المصادر السابقة.

يعدّ ذلك الشخص عالما بذلك الكتاب؟

و منه يعلم أنّ ما أورده صاحب الوسائل من ذلك و أشباهه في باب عدم جواز استنباط الاحكام النظريّة من ظواهر القرآن إلا بعد معرفة تفسيرها من الائمّة عليهم السّلام ليس في محلّه. و يعلم أنّ ما نقلناه سابقا عنه في الحاشية من كثرة الاخبار فالظاهر كون كثير منها من هذا القبيل، بل لا دخل لجملة منها بالمدّعى، و على ما قرّرنا يتحسّم أصل إشكال التعارض بين الاخبار.

هذا، و لا يخفى عليك أنّ بين المرتبتين، مرتبة أهل اللفظ و مرتبة الائمة عليهم السّلام العالمين بجميع المراتب في الجميع، مراتب كثيرة يرشدك إليه ما قدّمناه في الخطبة من كلمات أمير المؤمنين عليه السّلام و جملة من الاخبار المتقدّمة، إذا تدبّرتها حقّ التدبّر فيشاهد المنتزفون بحرا لا ينزف، و الماتحون عيونا لا تنضب، و الواردون مناهل لا تغاص، و المسافرون منازل لا يضلّ نهجها، و السائرون أعلاما لا يعمى عنها، و القاصدون آكاما لا يجاز عنها، و العلماء فيه ريّ عطشهم، و الفقهاء ربيع قلوبهم، و الصلحاء محاجّ طرقهم.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام في احتجاجه على زنديق سأله عن آيات متشابهة من القرآن فأجابه، إلى أن قال:

«ثمّ إنّ اللّه قسّم كلامه ثلاثة أقسام، فجعل قسما منه يعرفه العالم و الجاهل، و قسما لا يعرفه إلا من صفا ذهنه و لطف حسّه و صحّ تمييزه ممّن شرح اللّه صدره للاسلام، و قسما لا يعلمه(1) إلا اللّه و ملائكته(2) و الراسخون في العلم. و إنّما فعل ذلك لئلا يدّعي أهل الباطل المستولين على ميراث رسول

ص: 55


1- الاحتجاج: «يعرفه».
2- في بعض نسخ الاحتجاج: «امناؤه».

اللّه صلّى اللّه عليه و آله من علم الكتاب ما لم يجعله اللّه لهم، و ليقودهم الاضطرار إلى الائتمام بمن ولي(1) أمرهم فاستكبروا عن طاعته - الحديث.»(2)

و القسم الثاني يحتمل أن يكون وراء عالم الالفاظ و دون مرتبة الراسخين عليهم السّلام بقرينة ذكر شرح الصدر للاسلام، و أن يكون من العالم بمباني ظاهر القرآن و ما يرتبط به، فيكون القسم الاوّل ما يفهمه أهل لسان العرب مطلقا.

و عنه عليه السّلام:

«إلا أن يؤتي اللّه عبدا فهما في القرآن.»(3)

و عنه عليه السّلام:

«من فهم القرآن فسّر جمل العلم.»(4)

و عن الصادق عليه السّلام أنّه قال:

«كتاب اللّه على أربعة أشياء: العبارة، و الاشارة، و اللطائف، و الحقائق؛ و العبارة للعوام، و الاشارة للخواصّ، و اللطائف

ص: 56


1- في بعض نسخ الاحتجاج: «الى الائتمار بمن ولاه».
2- الاحتجاج، ج 1، ص 376؛ و الوسائل، ج 18، باب 13 من أبواب صفات القاضى، ص 143، ح 44.
3- أخرجه البخاري: و الترمذي، و النسائي، و ابن ماجة عن أبي جحيفة، عنه - عليه السلام - باختلاف يسير في الالفاظ، فراجع صحيح البخاري، ج 9، كتاب الديات، باب 24 و 31، ص 14 و 16؛ و سنن الترمذي، ج 2، باب 16 من أبواب الديات، ص 432 رقم 1433؛ و سنن النسائي، ج 8، كتاب القسامة، ص 23؛ و سنن ابن ماجة، ج 2 كتاب الديات، باب 21، ص 887، رقم 2658؛ و هكذا نقله الفيض (ره) في الصافي، ج 1 المقدمة الرابعة، ص 19؛ و أبو الحسن العاملي الاصفهاني (قده) في مرآة الانوار، ص 17.
4- الصافي، ج 1، المقدمة الخامسة، ص 22؛ و مرآة الانوار، ص 17.

للأولياء، و الحقائق للأنبياء.»(1)

و لعلّ المراد من الاولياء خواصّ الشيعة و الكاملين منهم، و إلا فالائمّة أعلم من سائر الانبياء على ما يستفاد من أحاديثهم عليهم السّلام (2) ،و سيظهر لك تحقيق الحال في ذلك - إن شاء اللّه تعالى -.

ص: 57


1- الصافي، ج 1، المقدمة الرابعة، ص 19؛ و مرآة الانوار، ص 17؛ و جامع الاخبار، ص 41، عن حسين بن علي - عليهما السلام -؛ و أيضا نقله المجلسي (رض) في البحار، ج 92، باب أن للقرآن ظهرا و بطنا، ص 103، ح 81، عن «الدرة الباهرة».
2- راجع البحار، ج 26، باب أنّهم - عليهم السّلام - أعلم من الانبياء - عليهم السلام -، و قد أورد - رحمه اللّه - فيه روايات تضمن هذا المعنى.

المقدّمة الثّالثة في نبذة ممّا جاء في أنّ علم القرآن كلّه إنّما هو عندهم - عليهم السّلام - و ما أشبه ذلك

فعن الكافي، عن بريد بن معاوية، عن أحدهما عليهم السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ:

«وَ مٰا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّٰهُ وَ الرّٰاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ » (1) :

«فرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أفضل الراسخين في العلم؛ قد علّمه اللّه جميع ما أنزل عليه من التنزيل و التأويل، و ما كان اللّه لينزل عليه شيئا لا يعلّمه تأويله، و أوصيائه من بعده يعلمونه - الحديث.»(2)

و عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«نحن اَلرّٰاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ،و نحن نعلم تأويله.»(3)

و عن عبد الرحمن بن كثير، عنه عليه السّلام قال:

«اَلرّٰاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ أمير المؤمنين و الائمّة عليهم السّلام.»(4)

ص: 58


1- آل عمران/ 7، و قد مرّ.
2- الكافي، ج 1، باب أن الراسخين في العلم هم الائمة - عليهم السلام -، ص 213؛ و كذا رواه الصفار (ره) في بصائر الدرجات، الجزء الرابع، باب 10 بطريق آخر عن بريد، عن أبي جعفر - عليه السلام -؛ و العياشي (ره) في تفسيره، ج 1، ص 164 مرسلا عن بريد، عنه - عليه السلام - أيضا.
3- نفس المصادر.
4- الكافي، ج 1، باب أن الراسخين في العلم هم الائمة - عليهم السلام -، ص 213، ح 3؛ و البرهان، ج 1، ص 270، ح 2.

و عن أبي بصير قال:

«سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول في هذه الآية: «بَلْ هُوَ آيٰاتٌ بَيِّنٰاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» (1) فأومأ بيده إلى صدره.»(2)

و عن عبد العزيز العبدي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام فيه أنّه قال:

«هم الائمّة عليهم السّلام.»(3)

و عن أبي بصير قال:

«قرأ أبو جعفر عليه السّلام هذه الآية: «بَلْ هُوَ آيٰاتٌ بَيِّنٰاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» ثمّ قال: أما و اللّه يا با محمّد ما قال: ما بين دفّتي المصحف.

قلت: من هم جعلت فداك؟

قال: من عسى أن يكونوا غيرنا؟»(2)

و عن عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«قٰالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتٰابِ... - إلى أن قال: - و عندنا و اللّه علم الكتاب كلّه.»(3)

و عن بريد بن معاوية قال:

ص: 59


1- العنكبوت/ 49. (2و3) الكافى، ج 1، باب أن الائمة - عليهم السلام - قد اوتوا العلم و أثبت فى صدورهم؛ و البرهان، ج 3، ذيل الآية.
2- المصادر السابقة؛ و أيضا في البصائر، الجزء الرابع، باب 11، ح 3.
3- الآية: النّمل/ 40، و الحديث في الكافي؛ ج 1، باب انه لم يجمع القرآن كلّه إلاّ الائمة - عليهم السلام - و انهم يعلمون علمه كله، ص 229، ح 5؛ و البصائر، الجزء الخامس، باب 1، ص 212، ح 2؛ و هكذا في البرهان.

«قلت لأبي جعفر عليه السّلام: «قُلْ كَفىٰ بِاللّٰهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتٰابِ» (1) قال عليه السّلام: «إيّانا عنا، و عليّ أوّلنا و أفضلنا و خيرنا بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.»(2)

و عن سدير، عن أبى عبد اللّه عليه السّلام في حديث قال:

«علم الكتاب كلّه و اللّه عندنا، علم الكتاب كلّه و اللّه عندنا.»(3)

و عن علي بن إبراهيم في تفسيره في الصحيح ظاهرا، عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام في قول اللّه: «وَ اللَّيْلِ إِذٰا يَغْشىٰ» (4) قال:

«اللّيل في هذا الموضع هو الثاني غشي أمير المؤمنين عليه السّلام في دولته - إلى أن قال: - و القرآن ضرب فيه الامثال للناس، و خاطب(5) نبيّه صلّى اللّه عليه و آله به، و نحن نعلمه، فليس يعلمه غيرنا.»(6)

و عن الكافي باسناده عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

ص: 60


1- الرعد/ 43.
2- الكافي، ج 1، باب انه لم يجمع القرآن كله إلاّ الائمة - عليهم السلام - و أنهم يعلمون علمه كلّه، ص 229، ح 6؛ و البصائر، الجزء الخامس، باب 1، ص 216، ح 20؛ و هكذا في البرهان.
3- الكافي، ج 1 باب نادر فيه ذكر الغيب، ص 257، ح 3؛ و البصائر، الجزء الخامس، باب 1، ص 213، ح 3، و فيه بعد قوله «عندنا»: «ثلاثا»؛ و أيضا في البرهان.
4- الليل/ 1.
5- في القمّي: «خاطب اللّه».
6- القمّي، ج 2، ص 425؛ و الوسائل، ج 18، باب 13 من أبواب صفات القاضي ح 80؛ و هكذا في الصافي.

«ما يستطيع أحد أن يدّعي أنّ عنده جميع(1) القرآن كلّه، ظاهره و باطنه، غير الاوصياء.»(2)

و الاخبار فيما نحن فيه كثيرة يطول الكلام في ذكرها، و قد سبق جملة منها.

و أنت إذا تأملت ما قدّمناه من صفات القرآن علمت أنّ حقائقه ليس شريعة لكل وارد، و لا يطّلع عليه إلا واحدا بعد واحد. و سيتّضح لك ذلك مع جملة من الاخبار في المقام - إن شاء اللّه تعالى -.

ص: 61


1- في البصائر: «انه جمع».
2- الكافي، ج 1، باب انه لم يجمع القرآن كله إلاّ الائمة - عليهم السلام - و انهم يعلمون علمه كله، ص 228، ح 2؛ و البصائر، الجزء الرابع، باب 6، ص 193، ح 1 و ايضا في الصافي و البرهان.

المقدّمة الرّابعة في جملة ممّا جاء في معاني وجوه الآيات،

و التّنزيل و التّأويل، و الظّهر و البطن، و الحدّ و المطلع، و المحكم و المتشابه، و النّاسخ و المنسوخ، و اشتمال الآيات على البطون و التأويلات و غير ذلك، و ما يتعلّق ببيانها

[الرّوايات الواردة في الظّهر و البطن و الحدّ و المطلع و...]

فعن العيّاشي و البرقي في المحاسن بتفاوت ما في الالفاظ باسنادهما عن جابر قال:

«سألت أبا جعفر عليه السّلام عن شيء من تفسير القرآن، فأجابني ثمّ سألته ثانية فأجابني بجواب آخر، فقلت: جعلت فداك كنت أجبت في هذه المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم؟! فقال لي: يا جابر، إنّ للقرآن بطنا، و للبطن بطنا(1) و ظهرا و للظهر ظهرا (2) ،يا جابر، و ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن؛ إنّ الآية ليكون أوّلها في شيء، و آخرها

ص: 62


1- في المخطوطة: «بطن».
2- في المخطوطة: «ظهر».

في شيء، و هو كلام متّصل يتصرّف على وجوه.»(1)

و قد سبق ذيله بتغيير ما في الالفاظ (2).

و عن العامّة أنّهم رووا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

«إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف، لكلّ آية منها ظهر و بطن، و لكلّ حرف حدّ و مطلع.»(3)

و في رواية اخرى:

«إنّ للقرآن ظهرا و بطنا، و لبطنه بطنا إلى سبعة أبطن.»(4)

و عنه صلّى اللّه عليه و آله:

«إنّ للقرآن ظهرا و بطنا و حدّا و مطلعا.»(5)

و عن العيّاشي باسناده عن حمران بن أعين، عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

«ظهر القرآن الّذين نزل فيهم، و بطنه الّذين [عملوا](6) بمثل

ص: 63


1- العياشي، ج 1، ص 12، ح 8؛ و المحاسن، ج 2 كتاب العلل، ص 300، ح 5؛ و الصافي، ج 1، المقدمة الرابعة، ص 17.
2- راجع المقدمة الثانية، ص 42.
3- أخرجه الطبري في تفسيره، ج 1، ص 9، عن ابن مسعود، عنه - صلّى اللّه عليه و آله -؛ و نقله الفيض (ره) في الصافي، ج 1، المقدمة الرابعة: ص 18؛ و هكذا أخرجه الفريابي مرسلا عنه - صلّى اللّه عليه و آله - كما أورده الذهبي في التفسير و المفسّرون، ج 3، ص 19؛ و ايضا في تفسير البغوي، المقدمة؛ و روح المعاني، ج 1، ص 7.
4- نقله الفيض (ره) في الصافي، ج 1، المقدمة الرابعة، ص 18؛ و ابو الحسن العاملي الاصفهاني (رض) في مرآة الانوار، المقدّمة الاولى ص 5.
5- ذكره الغزالي في الاحياء، ج 1، كتاب آداب تلاوة القرآن، باب الرابع، ص 289؛ و الفيض (ره) في الصافي، ج 1، المقدمة الرابعة، ص 18؛ و هكذا أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن مسعود بنحوه كما قال العراقي في هامش الاحياء.
6- سقط عن المخطوطة.

أعمالهم.»(1)

و باسناده عن الفضيل بن يسار قال:

«سألت أبا جعفر عليه السّلام عن هذه الرواية: «ما في القرآن آية إلا و لها ظهر و بطن، و ما فيه حرف إلا و له حدّ و مطّلع» ما يعني بقوله: «لها ظهر و بطن»؟

قال عليه السّلام: ظهره تنزيله، و بطنه تأويله، منه ما مضى، و منه ما لم يكن بعد، يجري كما يجري الشمس و القمر، كلّما جاء منه شيء وقع؛ قال اللّه تعالى: «وَ مٰا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّٰهُ وَ الرّٰاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ» نحن نعلمه.»(2)

و عن بصائر الدرجات روايته عنه بتفاوت يسير.(3)

[المراد من الحدّ و المطلع هو التّنزيل و التّأويل]

أقول: يحتمل أن يكون «المطلع» اسم مكان على وزن المشدّد(4) بمعنى مكان الاطّلاع من موضع عال، و أن يكون على وزن المصعد أي: صعد يصعد إليه.

قيل: «و محصّل معناه قريب من معنى التأويل و البطن، كما أنّ معنى الحد قريب من معنى التنزيل و الظهر.»(5)

ص: 64


1- العياشي، ج 1، ص 11؛ و البحار، ج 92، باب أن للقرآن ظهرا و بطنا، ص 94؛ و ايضا في الصافي و البرهان.
2- المصادر السابقة.
3- البصائر، الجزء الرابع، باب 10، ح 2؛ و البحار، ج 92، باب أنّ للقرآن ظهرا و بطنا، ص 97، ح 64.
4- تشبيهه - رحمه اللّه - بالمشدد لا يناسب كلمة الاطلاع، و الاولى تشبيهه بالمدكر.
5- الكلام للفيض (ره)، راجع الصافي، ج 1، المقدّمة الرابعة، ص 18.

[في اندراج الجزئيّات تحت الكليّات و تطبيقها عليها]

و لعلّ المراد حينئذ أنّ لكلّ من المفردات و المركّبات بمعنى الحروف و الكلمات أو بمعنى الكلمات و الجمل معاني محدودة جزئيّة، و حقائق كلّيّة، فتحصّل من تجريد الجزئيات عن الخصوصيّات الّتي لا دخل لها في نفس تلك الحقيقة و عن تعلّق الحكم بها كما سبق فيما قبله، فانّ الّذين نزل فيهم الآية لهم خصوصيّات لا دخل فيها لما حكم في الآية عليهم، و إنّما مناط الحكم هو القدر المشترك الحاصل فيهم، و فيمن كان له مثل أعمالهم، فانّ الجزئيات كلّها تندرج تحت قاعدة كليّة هو المعوّل عليها، فيعمّ الافراد الماضية و الآتية، فكلّما جاء موضوعه الكلّيّ في ضمن فرد من الافراد وقع عليه المحمول الكلّيّ، كالشمس و القمر، فانّهما ينيران و يظهران كلّ جسم كثيف قابلهما، فلا اختلاف فيهما، و إنّما الاختلاف من جهة تقابل الاجسام لهما، كذلك لكلّ خبر أو إنشاء تعلّق بموضوع جزئيّ حقيقيّ، فانّما يتعلّق من حيث عنوان كلّيّ هو المناط الّذي لا تبديل فيه و لا تغيير، و سائر الخصوصيّات المشخّصة لا دخل لها بذلك الحكم، و «لاٰ تَبْدِيلَ لِكَلِمٰاتِ اللّٰهِ» (1) سبحانه و «لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّٰهِ تَبْدِيلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّٰهِ تَحْوِيلاً.» (2)

و لعلّه لذا ورد في رواية المعلّى السابقة(3) أنّ: «القرآن أمثال لقوم يعلمون دون غيرهم، و لقوم يتلونه حقّ تلاوته، و هم الّذين يؤمنون به و يعرفونه - الحديث» و في رواية محمّد بن مسلم السابقة: (4)«و القرآن ضرب فيه الامثال للناس - إلى آخره» فانّ المثل يطلق كثيرا على ما يفيد حال مماثله بتوسط الامر الجامع بينهما، الّذي

ص: 65


1- يونس/ 64.
2- فاطر/ 43.
3- راجع المقدمة الثانية، ص 39.
4- راجع المقدمة الثالثة، ص 60.

هو المعيار و المناط، و إلا فالجزئيّ لا يكون بنفسه كاسبا لمجهول، كما تقرّر في علم المنطق؛ مثلا: المؤمن الّذي ذكر في سورة «يس» شخص جزئيّ حقيقيّ قيل له:

«اُدْخُلِ الْجَنَّةَ قٰالَ يٰا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ » .(1) لكنّ الّذي يرتبط بوقوع هذا الخطاب عليه من خصوصيّاته هو إيمانه و أعماله الصالحة من دعوة قومه، أو تحمّل الاذى في جنب اللّه مثلا دون شكله و لونه و نسبه و اسمه؛ فتنزيل الآية و حدّه الرجل الّذي يسعى هو ذلك الشخص بعينه، و تأويله من كان بمثل عمله. فمفاد التأويل قضيّة كلّيّة هو أنّ: كلّ من آمن و عمل كذا مثلا يقال له: ادخل الجنّة، ممّن مضى و ممّن يأتي كلّما جاء شخص بصفة كذا، وقع عليه كذا، على ما روي عن إسحاق بن عمّار زيادة على ما مرّ، قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام: يقول:

«إنّ للقرآن تأويلا، فمنه ما [قد](2) جاء، و منه ما لم يجىء فاذا وقع التأويل في زمان إمام من الائمّة عليهم السّلام عرفه إمام ذلك الزمان.»(3)

و روي عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

«تفسير القرآن على سبعة أوجه، منه ما كان، و منه ما لم يكن بعد، تعرفه الائمّة عليهم السّلام.»(4)

و في رواية محمّد بن مسلم:

«و القرآن ضرب فيه الامثال للناس.»(5)

ص: 66


1- يس/ 26.
2- سقط عن المخطوطة.
3- رواه الصفّار (ره) في البصائر، الجزء الرابع، باب 7؛ و نقله الحرّ العاملي (ره) في الوسائل، ج 18، باب 13 من أبواب صفات القاضي، ص 145.
4- نفس المصادر.
5- قد مرّ آنفا.

[إرادة الكلّيّ من إيراد الجزئي]

و قد جرت طريقة العقلاء و العلماء على بيان الامور الكليّة في ضمن الامثلة الجزئيّة؛ كقول «ابن مالك»:(1)

مبتدأ زيد و عاذر خبر *** إن قلت زيد عاذر من اعتذر

في مقام بيان المبتدإ و الخبر بعنوان كلّي، و قيل في شأنه: «إنّ من عادته الحكم بالمثال.» فلاحظ أنّ زيدا ليس مبتداء لكون مادّته هو الحروف الثلاثة و لا كونه على زنة فعل، بل لمعان اخرى أو معنى آخر هو المقصود بالبيان.

و تحقيق ذلك أنّ كلّ محمول خارج عن ذات الموضوع، و لا لازم لماهيّته، فانّما يعرضه لعلّة موجبة لعروضه، و لا بدّ من أن يكون للموضوع اختصاص لذلك العلّة من حيث أنّها علّة موجب لتأثيره في إلحاق ذلك المحمول عليه. فالموضوع الواقعيّ هو الوصف العنوانيّ المنتزع من ذلك الاختصاص الناعث، و سائر الخصوصيّات الذاتيّة و العرضيّة خارجة عن موضوع الحكم في الواقع لا دخل لها في عروضه، فاذا قال لابنه: «يٰا بُنَيَّ لاٰ تُشْرِكْ بِاللّٰهِ» (2) فالمخاطب ذلك الشخص الخاص، لكن صورة النهي الارشادي لم يتعلّق به إلا من حيث كون الشرك ظلما عظيما، و كون لقمان شفيقا عليه لا يرضى بصدور الظلم منه، فكلّ موجود كان شركه ظلما عظيما و كان شفيقا عليه اندرج تحت العنوان الواقعيّ و إن خرج عن الصورة.

و إذا جرّدت النهي عن الناهى و لاحظت أنّ ذلك الفعل بحيث ينبغي النهي عنه، الّذي هو حقيقة النهي الارشادي، سقط اشتراط الشفقة، و القضيّة حينئذ أن كلّ شيء كان شركه ظلما عظيما، فينبغى تحذّره عنه و امتناعه منه.

ص: 67


1- راجع الفية ابن مالك، باب الابتداء.
2- لقمان/ 13، و هي: «وَ إِذْ قٰالَ لُقْمٰانُ لاِبْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يٰا بُنَيَّ لاٰ تُشْرِكْ بِاللّٰهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ.»

و إذا لاحظت أنّ لقمان صدر منه هذا الكلام لأجل أنّه حكيم، و جرّدته عن سائر خصوصياته، علم منه أنّ كلّ من كان حكيما فهو ينهى عن الشرك معنى ثمّ إذا جرّدت الحكيم عن كونه شخصا خارجيا ماديّا، و لاحظت أنّ الحكمة صفة العقل هو أثقل، و أن العقل هو الحكيم الذى يمنع عن الشرك لكونه ظلما و انّ صدور النهي عن لقمان لمكان عقله المتّصف بالحكمة، صارت القضيّة أنّ العقل المتّصف بالحكمة ينهى عن الشرك لذلك. فالعقل لقمان يعظ بذلك، و كلّ عاقل حكيم يعظ بذلك و المخاطب كلّ موجود له قابليّة النهي عنه متّصف بالصفات الموجبة لكون شركه ظلما من الماضين و الآتين، و المنهيّ عنه هو الشرك من حيث كونه ظلما عظيما، فالعنوان الواقعيّ هو الظلم العظيم في أيّ مفهوم تحقّق.

و قس عليه الحال في الامور الخارجيّة، فانّ كلّ نسبة خارجيّة يعبّر منه الكلام إنّما تحقّق لعلّة و العلّة فاعليّة و ماديّة و صوريّه و غائيّة، و لا يخلو عن إمكانات استعداديّة و معدّات و شرائط و انتفاء موانع. و الكلام الحاكي عن النسبة الخارجيّة إذا جرّدتها، و قطعت النظر عن جميع ما لا يرتبط بتحقّق تلك النسبة الخارجية، و أخذت بما يرتبط بتحقّقه عقلا على الميزان العقليّ، صار الكلام الجزئيّ قاعدة كلّيّة جارية من أوّل العالم إلى آخره، و جميع الامور الخارجيّة الجزئيّة مندرجة تحت كلّيّات معيّنة في الواقع، لا تبديل لها أبدا ما دامت السموات و الارض، كما أنّ إعرابات الكلمات العربيّة الواقعة في ألسنة الفصحاء كلّها مندرجة تحت القواعد النحويّة، و التكاليف الشخصيّة مندرجة تحت الاحكام الفقهيّة الكلّيّة، و الكلّيّات ثابتات، و الجزئيّات داثرات، و للتجريد درجات، و للقضايا الكلّيّة مراتب كلّما اتّسعت دائرة عمومه و شموله و قلّت عددا، و كلّما نزلت تعدّدت و تضيّقت.

ص: 68

[في كثرة العوالم و أنّ لكل شيء حقيقة في كلّ واحد منها]

ثمّ اعلم أنّ العوالم كثيرة، و لكلّ شيء حقيقة في كلّ عالم من العوالم، و لكلّ صورة معنى، و كما عرفت حال المفاهيم الجزئيّة و الكلّيّة بمراتبها، فقس عليه حال العوالم من حيث الضيق و السعة، و سرعة الانقضاء و بطئها، و الثبات و عدمه و كما أنّ لزيد وجودا في الخارج، و وجودا في الحسّ المشترك، و وجودا معنويّا في الوهم، و وجودا متوسّطا في المتخيّلة، و وجودا كلّيّا في العقل؛

و الاوّل، جزئيّ حقيقيّ يمتنع فرض الاشتراك فيه مقترن بمادّته الجسمانيّة.

و الثاني، مجرّد عن المادّة مقترن بما اكتنفه من الخصوصيّات.

و الثالث، مجرّد عن الخصوصيّات الصوريّة ملبوس بالمعاني الكائنة فيه.

و الرابع، ملبوس بهما معا.

و الخامس، مجرّد عن جميع المشخّصات و جميع اللواحق الّتي لا دخل لها في نفس تلك الحقيقة الكلّيّة من المعاني و الصور.

مع اختلاف ما سوى الاوّل من المراتب في مقدار التلبّس و التجرّد، فربّما يلاحظ العقل حقيقة الشيء مجرّدا عن جميع ما سواه، و ربّما يلاحظه ملبوسا بعوارض كلّيّة، فيكون التصوّر على الاوّل النوع، و على الثاني الصنف، و اللواحق و الخصوصيّات لها كلّيّات متصوّرة بالعقل، و معان مدركة بالوهم، و صور مدركة بالحسّ، و لها ضمّ و تفريق يحصلان بالمتخيّلة.

و كما أنّك إذا أبصرت زيدا ارتسم صورته في الحسّ، ثمّ معناه في الوهم، ثمّ الجميع في المتخيّلة، ثمّ تمام حقيقته في العقل، كذلك يوجد حقيقته الكلّيّة أوّلا في عالم من عوالم الوجود، ثمّ معانيه في آخر، ثمّ الجامع لهما في ثالث أو في حدّ مشترك بين عالمين، ثمّ صورته مجرّدة عن المادّة في رابع ثمّ المتلبّس بالمادّة العنصريّة في هذا العالم. و الاوّل في عالم العقل، و الثاني في

ص: 69

عالم المعاني، و الرابع في عالم المثال، و الثالث في المتوسّط بينهما، و الخامس في عالم الحسّ و الشهادة، و لكلّ منهما درجات.

و ذلك لأنّ موجودات هذا العالم كلّها مركّبات من المادّة و الصورة و الحصص الكلّيّة و الخصوصيّات المشخّصة، و وجود كلّ مركّب مسبوق بوجود سابقه سبقا ذاتيا عقلا، و سبقا خارجيّا بالحدس الناشي عن ملاحظة تقابل القوس الصعودي في عالم الانسان مع القوس النزولي في العالم الكبير، و عن ملاحظة سنّة اللّه سبحانه في خلق الاشياء من التدريج في ايجادها، و ترتيبها على ما يقتضيه الحكمة بوضعها في مواضعها، و تنزيلها منزلته، و مرتبة البسيط مقدّمة على المركّب، فتقدّمه بالوجود وضع له في محلّه.

و أيضا فانّ الكلّيّات أشرف من الجزئيّات الداثرة و الفانية، يقتضي قاعدة إمكان الاشرف هي موجودة مقدّمة على الجزئيات، و أيضا فانّ الحكمة الالهيّة المقتضية لابداع الاشياء إنّما تتحصّص متدرّجة، فلا يتعلّق أوّلا بالماديّات المركبة و الجزئيّات، أ لا ترى أنّ صفة الجود في الجواد منّا إنّما يقتضي الانفاق و الاعطاء الكلّي فلو كنّا قادرين على أن نوجده على صفة الكلّيّة لأوجدناه كذلك، و كانت تلك الصفة كافية في صدور ذلك الكلّيّ منّا من دون حاجة إلى ضمّ أمر آخر؟ و أمّا الانفاق على زيد بطريق جزئيّ فلا يكفي تلك الصفة في صدوره، بل لا بدّ من خصوصيّات تنضمّ إليه توجب تحصيل تلك الطبيعة في ضمن ذلك الفرد من إدراك متعلّق بزيد، و بأنّه مستحقّ للانفاق عليه، و بالشيء الّذي ينفق عليه و غير ذلك.

و حينئذ فالجواد المطلق القادر على جميع الاشياء ينبغي أن يكون صدور الكلّيّات عنه مع قدرته عليه مقدّما على صدور الجزئيّات؛ و قد قال اللّه سبحانه:

«وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّٰ عِنْدَنٰا خَزٰائِنُهُ وَ مٰا نُنَزِّلُهُ إِلاّٰ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ.» (1)

ص: 70


1- الحجر/ 21.

و لا نريد بالكلّيّ هنا المفهوم الذهنيّ الّذي يمتنع عروض الوجود العينيّ له؛ إذ الكلّيّ إذا جاء في ظرف الخارج يصير فردا، بل أمرا آخر يحاكيه المفهوم الكلّيّ الذهنيّ، و هو عنوان له. و سيظهر لك تتمّة كلام فيما يتعلّق بما مرّ - إن شاء اللّه تعالى -.

و حينئذ فيشبه أن يكون لكلّ آية مراتب من حيث المدلول بحسب عوالم مفاده، فانّ القرآن حكاية عن الافعال و الاحكام الالهيّة، و فيه تبيان كلّ شيء، و حينئذ فلا يبعد أن يكون حكاية القرآن عن كلّ واقعة على نحو ينطبق على جميع عوالمه، بشرط أن يراعى في كلّ منها المعنى بحيث يناسب ذلك العالم؛ إذ متاع البيت يشبه صاحب البيت، و حينئذ فلا بدّ من نقل تلك القضيّة بجميع أجزائه إلى ذلك العالم، و أخذ كلّ واحد على الوجه المناسب له، و حينئذ فقد يكون ما هو حقيقة في هذا العالم مجازا معنويّا فى بعض العوالم، إمّا بتوسّع في نسبة المحمول إلى الموضوع أو في غيره، كما في نسبة القتل إلى النبيّ، فانّه إذا لوحظ النبيّ في عالم المجرّدات يكون النبيّ هو العقل، و عدوّه الجهل الكلّيّ؛ لكن نسبة القتل بينهما لا يقع في نفس ذلك العالم، بل في مظاهرهما و آثارهما كما أنّ القتل الحسّي لا يقع على الارواح، بل على الاجسام التي هي مظاهر للارواح، و قد يكون لفظ مجازا في عالم الشهادة، و حقيقة في عوالم أخر؛ كالنور و الظلمة التي كثر ذكرهما في الآيات و الأخبار في شأن المكلّفين؛ كقوله تعالى:

«اَللّٰهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمٰاتِ إِلَى النُّورِ.» (1)

إذ الظلمات بحسب الظاهر هو الجهل بمصالحه و مفاسده، أو ما أشبه ذلك و هو مجاز بعلاقة المشابهة، لكنّه على معناه الحقيقيّ في عالم المثال و البرزخ و غيرهما، و قد يكون العرض في عالم جوهرا في عالم آخر؛ كأعمال المكلّفين، التي

ص: 71


1- البقرة/ 257.

تتجسّم في النشأة البرزخيّة و عالم القيامة.

[مراتب القرآن على ما ذكر بعض العارفين]

و ذكر بعض العارفين للتفسير ستّ مراتب: الظاهر، و ظاهر الظاهر، و الباطن و باطن الباطن، و التأويل، و باطن التأويل، و قال (ره) في بيانها:

«الظاهر معروف، و ظاهر الظاهر هو ما يؤخذ من مادّة الكلمة أي: من حروفها. و يراد منها معنى و إن كان مخالفا لقاعدة أهل اللّغة؛ كما في قوله تعالى:

«وَ أَوْحىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبٰالِ بُيُوتاً.» (1)

ففي تفسير الظاهر أنّ «الجبال» جمع «جبل» و هو معروف، و في تفسير ظاهر الظاهر أنّ «الجبال» جمع «جبلّة» و هي الطبيعة، و في تفسير التأويل «الجبال» الاجساد الحيوانيّة من الانسان و غيرها. و «النحل» في الظاهر معروف، و في الباطن آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و في التأويل نفوس العلماء و في ظاهر الظاهر النفوس الّتى لها قدرة على الانتحال أي: الاختيار الحسن؛ كما في قوله تعالى: «فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ» (2) بقرينة قوله تعالى: «وَ أَوْحىٰ رَبُّكَ ...» .

و أمّا التأويل، فأن تصرف كلاما عن ظاهره على معنى آخر لم يرد منه ظاهرا كما قال عليّ عليه السّلام في ذكر قيام القائم [عليه السلام]:

«و ما ينالون ما أدركوه من العلم بحيث يستغني كلّ منهم عن علم الآخر.»

قال عليه السّلام:

«و هو تأويل قوله تعالى: يُغْنِ اللّٰهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ.» (3)

ص: 72


1- النحل/ 68.
2- الزمر/ 18.
3- النساء/ 130.

و أمّا باطن التأويل فكذلك، و لكن يجري فيه على معنى الباطن؛ كما روي عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا الصَّلاٰةَ وَ آتُوا الزَّكٰاةَ؟» (1)

قال عليه السّلام:

«هو الحسن بن عليّ عليهما السّلام أمر بالكفّ عن القتال و الصلح.» أو كما قال: «فَلَمّٰا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتٰالُ» (2) قال:

«هو الحسين بن علىّ عليه السّلام كتب عليه القتل، و اللّه لو برز معه أهل الارض لقتلوا.»(3)

فانظر هذا المعنى، فانّه تأويل باطن، لانّه باطن تأويل؛ لكن لا يجري على ظاهر العربيّة كما ترى.

و كما ورد في قوله تعالى: «وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسٰانَ بِوٰالِدَيْهِ حُسْناً» (4) ما معناه: «أن الانسان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أنّ الوالدين الحسن و الحسين عليهما السّلام.»(5)

و كما رواه فرات بن إبراهيم في تفسير قوله تعالى: «وَ السَّمٰاءِ ذٰاتِ الْحُبُكِ» (6)

عن أحدهم عليهم السّلام قال:

ص: 73


1- النساء/ 77.
2- النساء/ 77.
3- لم نجد الحديث بعينه فيما بأيدينا، و لكن يقرب من ألفاظه الحديثان اللّذان رواهما العيّاشي (ره) في تفسيره، ج 1 ص 258، عن الحسن بن زياد العطّار، عن أبي عبد اللّه - عليه السلام -، و عن عليّ بن أسباط يرفعه، عن أبي جعفر - عليه السلام -؛ و نقلهما البحراني (رض) في البرهان، ج 1، ص 395، ح 6 و 7.
4- العنكبوت/ 8.
5- راجع القمّي، ج 2، ص 297، و نور الثقلين، ج 5، ص 11.
6- الذاريات/ 7.

«السماء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و الحبك عليّ عليه السّلام، فعليّ عليه السّلام ذات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.»(1)

و أمّا تفسير باطن الباطن، فلا يجوز بيانه؛ فقد روي أن القائم - عجّل اللّه تعالى فرجه - إذا خرج و نادى أنصاره و اجتمعوا عنده دعاهم إلى مبايعته، فأجابوا فقال: تبايعونى على كيت و كيت، فنفروا عنه و لم يثبت معه إلا المسيح و أحد عشر نقيبا، فيجولون في الارض، فلا يجدون ملجأ الا إليه، فيأتونه و يبايعونه على ما يريد منهم، و هو حرف من باطن الباطن حتّى أنّ الصادق عليه السّلام قال ما معناه: «و اللّه إنّي لأعلم الكلمة التي قالها لهم فيكفرون.»(2) انتهى كلامه - رفع مقامه -.

[في جواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى و أقسامه]

فان قلت: قد تقرّر في علم الاصول أنّه لا يجوز استعمال اللّفظ الواحد في أكثر من معنى سواء كانا حقيقيين أو مجازيين أو مختلفين، فما وجه إرادة المعاني

ص: 74


1- تفسير فرات، ص 169؛ و روى القمّي (ره) صدره في تفسيره، ج 2، ص 329 عن أبي حمزة، عن أبي جعفر - عليه السلام -.
2- الظاهر أن القائل استفاد هذا من الحديث المروي فى كمال الدين باب 62 (نوادر الكتاب) ح 25، و البحار، ج 52، ص 326، ح 42 نقلا عنه. و نص الحديث - كما في البحار - هكذا: قال الصادق عليه السلام: كأني أنظر إلى القائم على منبر الكوفة و حوله أصحابه ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا عدة أهل بدر، و هم أصحاب الالوية و هم حكام اللّه في أرضه على خلقه حتى يستخرج من قبائه كتابا مختوما بخاتم من ذهب عهد معهود من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيجفلون عنه إجفال الغنم فلا يبقى منهم إلا الوزير و أحد عشر نقيبا كما بقوا مع موسى بن عمران عليه السلام. فيجولون في الارض فلا يجدون عنه مذهبا فيرجعون إليه و اللّه إني لأعرف الكلام الذي يقوله لهم فيكفرون به.

المختلفة من الآية الواحدة لو أريد منها ذلك؟ و ما ثمرة حملها على غير المراد منها إن لم يثبت الاستعمال إلا في أحدها، و لا سيّما في تفسير ظاهر الظاهر، الذي ذكره العارف المتقدّم، و به يجمع بين جملة من الاخبار المتنافية الواردة في تفسير آية واحدة بحمل أحد المتنافيين على تفسير الظاهر، و الآخر على ظاهر الظاهر، كما يجمع بين كثير من المتعارضات بحمل البعض على الظاهر، و غيره على البطون و التأويلات، و بملاحظة المجموع يرفع معظم التعارض الواقع بين أخبار التفسير؟ و كيف يجوز إخراج استعمالات ألفاظ القرآن من وجوه الاستعمالات الصحيحة عند أهل اللسان، بل لو سلّم جوازه عندهم، فلا يخلوا من استبشاع عندهم، و هو مناف للمرتبة العالية الثابتة للقرآن في جميع المقامات اللفظيّة و المعنويّة فصاحة و بلاغة و أسلوبا و إمارة؟

قلت: الّذي أرى في المسألة الاصوليّة أنّ المانع من استعمال اللّفظ في أكثر من معنى عدم إمكان حقيقة الاستعمال فيه، و ملخّص بيانه: أنّ الاستعمال عبارة عن إيراد اللّفظ بازاء المعنى، و جعله قالبا له، و مرآة للانتقال إليه، و آلة لتصويره في ذهن السامع؛ كما أنّ الوضع عبارة عن تعيين لفظ المعنى و تخصيصه به على وجه كلّيّ، بحيث متى أطلق أو أحسّ فهم منه ذلك المعنى، و مفاد المقامين هو صيرورة اللّفظ كلّيّة في الثانى و في الكلام الخاصّ في الاوّل بازاء المعنى، بحيث يكون اللّفظ المركّب من حيث كونه مجتمعا وحدانيا بازاء المعنى البسيط، أو المركب من حيث كونه مركّبا وحدانيّا. فالمحاكات هنا بين اللّفظ الواحد و المعنى الواحد و لو كانت الوحدة اعتباريّة، و الحاكي الواحد في الاستعمال الواحد لا يحكي إلا حكاية واحدة عن الشيء الواحد، و من ضروريّته أن لا يقع بازاء الاكثر، و لا قالبا له و لا مرآة له لبساطته في هذا اللحاظ، إلا أن يلاحظ الاكثر من حيث الاجتماع واحدا، فيخرج عن العنوان و يندرج تحت استعمال اللّفظ في مجموع معنيين، و هو غير

ص: 75

الموضوع له، فان تمّت العلاقة صحّ مجازا و إلا بطل.

و إن شئت قلت: معنى الوضع تخصيص لفظ بمعنى بحيث يكون الاوّل بتمامه واقعا بحذاء الثاني، و يصير بكلّيّته مرآة له، و متمحّضا في الدلالة عليه، فلا - يطابقه الاستعمال إلا حال وحدة المعنى، و توضيحه موكول إلى فنّه.

و حينئذ فمتى تعقّلنا الاستعمال على الوجه المفروض صحّ، بل لو قلنا: بأنّ جهة المنع أمر آخر، فلا ريب أنّ المانع إنّما يمنع من الاستعمال في المتعدّد إذا لم يلاحظ فيه اعتبار بجعل المتعدّد واحدا اعتباريّا، كما أشرنا إليه، و يظهر ممّا فصّله متأخّر و الاصوليّين في تحرير محلّ النزاع.

و حينئذ فحلّ الاشكال إمّا باعتبار إخراج بعض المعاني عن الاستعمال، فلا يكون مستعملا فيه ابتداء بالمعنى المتقدّم، و إمّا بتحصيل اعتبار و لحاظ يوحّد به المتعدّد، و يخرج به عن صفة الكثرة.

أمّا الاول، فبأن يقال: الانتقال من اللّفظ إلى المعنى و استفادة المطلب من الكلام ليس منحصرا فيما استعمل فيه اللّفظ ابتداء بالمعنى المشار إليه، بل إذا استعمل المفردات المركّبة تركيبا مفيدا، أفاد الكلام مطابقة معانيها، و تضمّنا حال أجزائها العقليّة و الخارجيّة، و التزاما عللها و أجزاء عللها و شرائطها، و انتفاء موانعها، إلى أن ينتهي إلى مبدإ المبادي تفصيلا مع الانحصار، أو منضمّا إلى ما ينفي الباقي، و إجمالا بدونهما، و نفي ما لا يجتمع معه حال وجوده و وجود ما لا بدّ، منه في وجوده، و إثبات معلولاتها و معلولات معلولاتها و ما يلزمها و مفاهيمها المعتبرة بنفسها و بمعونة القرائن، و ما يستخرج من ضمّ تلك القضيّة إلى أخرى مثلها، و هذه هي المرتبة الاولى من الظاهر.

ثمّ إنّ المعنى المقصود بالافادة من الكلام قد يكون منحصرا في ذلك، و قد يكون خارجا عنه، كما في أحد قسمي الكناية و قد يكون كلاهما معا، كما في

ص: 76

الوجه الآخر منه. فقد يقال: فلان مهزول الفصيل و لا فصيل له، مريدا بذلك أنّه جواد. فقد استعمل اللّفظ صورة في معناه، و اوقعت النسبة الصوريّة مع عدم تحققها في الواقع، و قصد به أمر آخر، و قد اختلف في كونه حقيقة أو مجازا، و الاوّل أقرب كما في محلّه. و قد يقال ذلك لبيان هزال فصيله، و إفادته منضمّا إلى بيان الجواد مع أصالة كلّ منهما أو أحدهما فقط، مع أنّ هزال الفصيل بنفسه لا يدلّ على الجود بوجه من الدلالات الثلاث؛ إذ لا ملازمة بينهما واقعا و إن أطلق عليه اسم اللازم بملاحظة غلبة محقّقه أو مفروضه على وجه الادّعاء، إلا أنّه يفيده بشيوع ذكره في مقام بيانه أو بملاحظة سائر القرائن و الخصوصيّات من حال أو مقال أو مساق أو غيرها. و قريب من الكناية التمثيل، لكنّه في المركّب و الكناية في المفرد، و في كلّ منهما يتحصّل من الكلام معنيان مستقلّتان، و كلاهما شايعان في استعمالات الألبّاء، بل لا يبعد أن يكون كثير من القصص و الحكايات العاميّة بما وضعها الحكماء و العقلاء لافادة معان مغايرة لها، لينتقل منها إليها من كان ذا لبّ و بصيرة، كما يومئ إليه مطابقة جملة منها لمواعظ شافية أو مطالب عالية، و فيهما ينتقل المستنبط من مطلب إلى آخر مناسب له مناسبة واقعة بين المعنيين و لا يشترط كونه ملازمة، فلا مانع من أن يكون لآيات القرآن العزيز [معان](1) لا يخلو من مداليل كنائيّة و مثاليّة؛ «وَ لَقَدْ صَرَّفْنٰا [لِلنّٰاسِ] فِي هٰذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ.» (2)

و قد سبق في الاخبار: «أنّ القرآن أمثال لقوم يعلمون»، و تدبّر. و ما ذكر أحد الوجوه في المقام.

و منها:

أنّه ربّما يتكلّم بكلام لمعنى بحيث يصلح لارادة غيره تنبيها على صحّة إرادته

ص: 77


1- أضفناه بقرينة المقام.
2- الاسراء/ 89.

أيضا، و مطابقته للواقع من دون أن يكون مستعملا فيه أصلا، كما أنّه قد ينشأ الشاعر شعرا بقافية خاصّة على وجه يمكن تغييره، و قراءته على وجه آخر موزون.

و ربّما يجري بعض الكلام على الوجه المناسب للمعنى الآخر، فيصير قرينة على صحّة إرادته أيضا، فانّ الكلام الصادر من الحكيم القادر العالم بتمام الوجوه ينبغي مطابقته للمعنى بجميع الخصوصيّات، كما ينبغي كونه على أحسن الوجوه اللّفظية. و حينئذ فاذا لم يتمّ الكلام على الوجه المناسب للمعنى المقصود، فينبغي حمل ذلك التغيير الواقع في الاسلوب علي نكتة، و من أعظمها ما ذكر. و لعلّ ذلك هو المراد خاصّة، أو بعض أفراد المراد من قوله عليه السّلام في الخبر السابق: «إنّ الآية ليكون أوّلها في شيء، و آخرها في شيء، و هو كلام متّصل يتصرّف على وجوه»(1) و غيره ممّا تقدّم في المقدّمات السّابقة. و لا يختصّ القرينة بالتغيير في الاسلوب، بل قد يكون الجهتان مجتمعتين ابتداء أحدهما حاليّا أو مساقيا، و الآخر لفظيّا، إلى غير ذلك. و لعلّ هذا و أشباهه من الاشارة الّتي للخواصّ في الرواية السابقة.

و منها:

أنّه قد يذكر المتكلّم في كلامه شيئا يشير إلى جريان الحكم المذكور في مورد آخر، أو عنوان كلّيّ بأن يعلّق الحكم على وصف في مقام تعليقه على الذات أو تذييله بما يقتضي ذلك إشارة أو إيراد في مقام يناسب بيانه.

و منها:

أنّه ربّما يذكر كلام أحد على وجه الحكاية، و يسكت عنه في مقام لو كان كذبا اقتضى ردّه، فيستفاد من الكلام صحّته، مع أنّ اللّفظ لم يستعمل في ذلك.

ص: 78


1- راجع الرواية الاولى من هذه المقدمة.

و أما الثّاني: فيما عرفت سابقا أنّ الاشياء لها عوالم و نشئات و أنحاء من الوجود و الظهور، فالرزق مثلا له نحو وجود في هذا العالم؛ كالحنطة و الخبز المأكولين، و له وجود في السماء؛ قال سبحانه: «وَ فِي السَّمٰاءِ رِزْقُكُمْ وَ مٰا تُوعَدُونَ.» (1)

و لأبدان الحيوانات أرزاق، و للنفوس أرزاق؛ بل لكلّ شيء رزق، و هو ما به قوامه و بقائه و نموّه. فليس معنى الرزق إلا واحد، لكنّه يختلف أحكامه بحسب العوالم، و إن كان بحسب العرف لا ينصرف إلا إلى الاوّل خاصّة، إمّا لجهلهم بسائر أنحائه، أو لكونه أظهر عندهم، أو لاختصاص الوضع العرفيّ به، أو الوضع اللّفظيّ به. و حينئذ فالاستعمال في الاعمّ فيما سوى الاخير حقيقة لغويّة، و على الاخير مجاز لفظيّ و حقيقة معنويّة. و لا ضير في التزام المجاز اللّفظي في آيات الكتاب خصوصا مع كونه حقيقة معنويّة. أ لا ترى إلى إطلاق اليد و السمع و البصر و الاحاطة و الاستواء و غيرها على اللّه تعالى مع استحالة معانيها العرفيّة على اللّه سبحانه؟ و الظاهر في تفسير ظاهر الظاهر هو الاوّل، و في غيرها هو الثاني، و إن أمكن في بعض البطون حمل اللّفظ على الظاهر، و الانتقال إلى البطن بمثل ما تقدّم في الوجه الاوّل.

و ربّما يستفاد من كلام بعض العارفين أنّ الالفاظ لم توضع بازاء خصوص المفاهيم العرفيّة أصلا، بل هي موضوعة بازاء الحقائق الواقعيّة العامّة، و أنّ أفرادها المعنويّة أولى بالصدق من الافراد الحسّيّة، و هذا بناء على أنّ الواضع هو اللّه سبحانه، و أنّ الاسماء تنزل من السماء، أو بني بأمر الحقّ أو إلهامه، أو أنّ دلالتها بالمناسبة الذاتيّة، له وجه وجيه، و إن كان التعميم في بعض المقامات محلّ تأمّل. و اللّه سبحانه العالم بحقيقة الحال.

ص: 79


1- الذاريات/ 22.

[في أنّ للقرآن محكما و متشابها، و ناسخا و منسوخا، و سننا و أمثالا، و فصلا و وصلا، و أحرفا و تصريفا و ما جاء فيها]

و أمّا المحكم، فالظاهر أنّه الكلام الدالّ على المراد منه بالصراحة أو الظهور بحيث يفهم منه المعنى المقصود منه، و لو بما اكتنف من القرائن الحاليّة و المقاليّة، فيكون المتشابه هو ما لا يدلّ عليه كذلك، سواء لم يكن ظاهرا في شيء أصلا، كالحروف المقطّعة على كثير من الاحتمالات، أو كان موهما لما لا يراد منه؛ كقوله تعالى:

«اَلرَّحْمٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوىٰ.» (1)

و المنسوخ، هو الآية الدالّة على حكم كان ثابتا بحيث يتراءى منه الدوام، ثمّ رفع.

و الناسخ، ما اشتمل على الرافع له.

و عن الكليني في الكافي بسنده عن محمّد بن سالم، عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

«إنّ أناسا تكلّموا في القرآن بغير علم، و ذلك أنّ اللّه يقول:

«هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتٰابَ مِنْهُ آيٰاتٌ مُحْكَمٰاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتٰابِ وَ أُخَرُ مُتَشٰابِهٰاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مٰا تَشٰابَهَ مِنْهُ ابْتِغٰاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغٰاءَ تَأْوِيلِهِ وَ مٰا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّٰهُ وَ الرّٰاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ.» (2)

فالمنسوخات من المتشابهات، و الناسخات من المحكمات - الحديث.»(3)

ص: 80


1- طه/ 5.
2- آل عمران/ 7.
3- الكافي، ج 2، ص 28، ح 1؛ و الوسائل، ج 18، باب 13 من أبواب صفات القاضي، ص 134، ح 18.

و باسناده عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، في حديث احتجاجه على الصوفيّة لمّا احتجّوا عليه بآيات من القرآن في الايثار و الزهد، قال:

«أ لكم علم بناسخ القرآن و منسوخه، و محكمه و متشابهه، الّذي في مثله ضلّ من ضلّ، و هلك من هلك من هذه الامّة؟ قالوا(1) له أو بعضه فأمّا كلّه فلا.

فقال [لهم]: فمن هنا اتيتم، و كذلك أحاديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله - إلى أن قال: - فبئس ما ذهبتم إليه و حملتم الناس عليه من الجهل بكتاب اللّه، و سنّة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله، و أحاديثه الّتي يصدّقها الكتاب المنزل، و ردّكم إيّاها لجهالتكم، و ترككم النظر في غريب(2) القرآن من التفسير و الناسخ و المنسوخ(3) ، و المحكم و المتشابه، و الامر و النهي - إلى أن قال: - دعوا عنكم ما اشتبه عليكم ممّا لا علم لكم به، و ردّوا العلم إلى أهله تؤجروا و تعذروا عند اللّه، و كونوا في طلب ناسخ(4)

القرآن من منسوخه، و محكمه من متشابهه، و ما أحلّ اللّه فيه ممّا حرّم، فانّه أقرب لكم من اللّه، و أبعد لكم من الجهل؛ دعوا الجهالة لأهلها، فانّ أهل الجهل كثير، و أهل العلم قليل؛ و قد قال اللّه: وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ.» (5)

ص: 81


1- في بعض نسخ الكافي: «فقالوا».
2- في بعض نسخ الكافي: «غرائب».
3- في بعض نسخ الكافي: «بالناسخ من المنسوخ».
4- في بعض نسخ الكافي: «علم ناسخ».
5- الآية: يوسف/ 76؛ و الحديث في الكافي، ج 5، ص 65، ح 1؛ و الوسائل ج 18 باب 13 من أبواب صفات القاضي، ص 135، ح 23.

و عن البرقي في المحاسن بسنده عن أبي الوليد البحراني، ثمّ الهجري، عن أبي جعفر عليه السّلام أنّ رجلا قال له: «أنت الّذي تقول(1) ليس شيء من كتاب اللّه إلا معروف؟» قال عليه السّلام:

«ليس هكذا قلت، إنّما قلت (2):ليس شيء من كتاب اللّه إلا عليه دليل ناطق عن اللّه في كتابه ممّا لا يعلمه الناس - إلى أن قال: - إنّ للقرآن ظاهرا و باطنا، و معانيا، و ناسخا و منسوخا، و محكما و متشابها، و سننا و أمثالا، و فصلا و وصلا، و أحرفا و تصريفا، فمن زعم أنّ الكتاب مبهم فقد هلك و أهلك - الحديث.»(3)

قال صاحب الوسائل:

«المراد من آخره أنّه ليس بمبهم على كلّ أحد، بل يعلمه الامام عليه السّلام و من علّمه إيّاه، و إلا لناقض آخره أوّله.»

أقول:

بل الظاهر أنّ المراد أنّ الكتاب ليس مبهما بنفسه بحيث لا يفي ببيان مداليله، بل فيه تبيان كلّ شيء و مشتمل على بيان المرادات، و لكن لا يصل إلى ذلك كلّ أحد لقصور مرتبتهم عن ذلك. فليس الاجمال فيه، بل قصور بصائر الناس يمنعهم عن إدراكه، كالشمس في رابعة النهار بالنسبة إلى الاعمى و الضرير و الخفّاش.

ص: 82


1- في بعض النسخ: «تزعم أن».
2- في بعض النسخ: «و لكن» بدل «إنّما قلت».
3- المحاسن، باب 36 من كتاب مصابيح الظلم، ص 270، ح 360؛ و الوسائل، ج 18، باب 13 من أبواب صفات القاضي، ص 141، ح 39؛ و البحار، ج 92، باب أنّ للقرآن ظهرا و بطنا، ص 90، ح 34؛ و البرهان، ج 2 ص 3، ح 3.

و حينئذ فالظاهر أن يكون حظّ كلّ إنسان من بيانات القرآن بقدر قابليّته و استعداده و علمه بكيفيّة الاستخراج، و لا يستفاد من صدر الحديث ما ينافي ذلك، بل يدلّ علي ذلك إن جعلنا قوله «في كتابه» طرفا للدليل، فيكون الدليل في الكتاب هو الآية الدالّة. و الظاهر أنّه ليس المراد من نفي علم الناس به نفي علم ما سوى الامام بشيء منه على سبيل الاستغراق الحقيقيّ، و إلا لاقتضى إنكار وجود المحكم في الكتاب أصلا، بل نفي وصول أفهام عامّة الناس إلى الادلّة الخفيّة منها.

و الظاهر أنّ المراد بالسنن هو طريقة فعل اللّه بالنسبة إلى عباده؛ كقوله:

«سُنَّةَ اللّٰهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ » (1) ،و يبعد إرادة السنّة التشريعيّة المقابلة للفريضة.

و أمّا الفصل و الوصل، فالظاهر إرادة وصل الكلام و ربطه معنى بسابقه، و انقطاعه عنه باستيناف مطلب جديد؛ ك «آية التطهير»(2) الواقع ذيلها عقيب المخاطبة لأزواج النبي صلّى اللّه عليه و آله في الظاهر، لكون المخاطب بالذيل غيرهنّ، فيكون الذيل مفصولا عن الصدر غير موصول به.

و لا يبعد أن يكون [المراد](3) ب الاحرف الحروف المقطّعة في القرآن، و ب التصريف ما عداها، أو بما أريد من قوله تعالى: «نُصَرِّفُ الْآيٰاتِ » .

و ربّما يطلق النسخ على الاعمّ من النسخ التشريعى و البداء التكويني، أو على الاخير خاصّة البداء؛ كما هو الظاهر فيما عن الكليني بسنده عن جميل بن صالح قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ: «الم * غُلِبَتِ الرُّومُ *

ص: 83


1- الاحزاب/ 38 و 62.
2- الاحزاب/ 33، و هي: «... إِنَّمٰا يُرِيدُ اللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ».
3- أضفناه بقرينة المقام.

فِي أَدْنَى الْأَرْضِ » (1) ،فقال:

«إن لهذا تأويلا لا يعلمه إلا اللّه و الراسخون في العلم من آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله - إلى أن قال: - أ لم أقل لك إنّ لهذا تأويلا و تفسيرا، و القرآن ناسخ و منسوخ»(2)

[حدود القرآن]

و أمّا الحدود، فقد ذكر فيما رواه البرقي في المحاسن بسنده عن عبد الحميد بن عوّاض الطائيّ قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

«إنّ (3) للقرآن حدودا كحدود الدار.»(4)

و لعلّ المراد منه حدود معانيها في التشريعيّات و التكوينيّات، نظير ما ورد ظاهر [أ] أنّ:

«للصّلاة أربعة آلاف حدّ.»(5)

فانّ لكلّ حكم مذكور في القرآن حدودا من الشروط و الموانع و القيود الزمانيّة و المكانيّة و الحاليّة و غيرها، و لأفعال اللّه سبحانه أيضا حدودا و ترتيبا

ص: 84


1- الروم/ 1-3.
2- الكافي، ج 8، ص 269، ح 397؛ و الوسائل، ج 18، باب 13 من أبواب صفات القاضي، ص 136، ح 24.
3- هذه الكلمة ليست في بعض نسخ المحاسن.
4- المحاسن، باب 38 من كتاب مصابيح الظلم، ص 273، ح 375؛ و الوسائل، ج 18، باب 13 من أبواب صفات القاضي، ص 142، ح 40؛ و هكذا في البحار.
5- رواه الشيخ (قده) في التهذيب، ج 2، باب في فصل الصلاة من أبواب الزيادات، ص 242، ح 25؛ و ابن شهرآشوب (ره) في المناقب، ج 4 باب إمامة أبي عبد اللّه - عليه السلام -، ص 249، عن حماد بن عيسى، عنه - عليه السلام -؛ و هكذا نقله المجلسي (رض) في البحار، ج 82، باب أنّ للصلاة أربعة آلاف باب و...، ص 303، ح 2؛ و ذكر أقوال العلماء في تبيينه، فراجع.

و نظاما معيّنا لا يتعدّاها.

و روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال:

«ما من آية إلا و لها أربعة معان: ظاهر و باطن، و حدّ و مطلع. و الظاهر: التلاوة، و الباطن: الفهم، و الحدّ:

هو أحكام الحلال و الحرام، و المطلع: هو مراد اللّه من العبد بها.»(1)

[تذييل]

و لنختم الكلام في هذه المقدّمة بما روي عن محمّد بن إبراهيم النعماني في تفسيره باسناده عن إسماعيل بن جابر قال: سمعت أبا عبد اللّه جعفر بن محمّد الصادق عليهما السّلام يقول:

«إن اللّه تبارك و تعالى بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله فختم به الانبياء، فلا نبيّ بعده، و أنزل عليه كتابا فختم به الكتب، فلا كتاب بعده؛ أحلّ فيه حلالا، و حرّم حراما، فحلاله حلال إلى يوم القيامة، و حرامه حرام إلى يوم القيامة، فيه شرعكم، و خبر من قبلكم و بعدكم.

و جعله النبيّ صلّى اللّه عليه و آله علما باقيا في أوصيائه، فتركهم الناس و هم الشهداء على أهل كلّ زمان، و عدلوا عنهم، ثمّ قتلوهم و اتّبعوا غيرهم و أخلصوا لهم الطاعة، حتّى عاندوا من أظهر ولاية ولاة الامر و طلب علومهم. و ذلك أنّهم ضربوا القرآن بعضه ببعض (2) ،و احتجّوا بالمنسوخ و هم يظنّون أنّه الناسخ،

ص: 85


1- نقله الفيض (ره) فى الصافى، ج 1، المقدمة الرابعة، ص 18.
2- فى البحار: «ضربوا بعض القرآن ببعض».

و احتجّوا بالخاصّ و هم يقدّرون أنّه العامّ، و احتجّوا بأوّل الآية و تركوا السنّة(1) في تأويلها. و لم ينظروا إلى ما يفتح الكلام و إلى ما يختمه، و لم يعرفوا موارده و مصادره؛ إذ لم يأخذوه عن أهله، فضّلوا و أضلّوا.

و اعلموا رحمكم اللّه أنّه من لم يعرف من كتاب اللّه عزّ و جلّ الناسخ من المنسوخ، و الخاصّ من العامّ، و المحكم من المتشابه، و الرخص من العزائم، و المكّي و المدنيّ، و أسباب التنزيل، و المبهم من القرآن في ألفاظه المنقطعة و المؤلّفة، و ما فيه من علم القضاء و القدر، و التقدم و التأخّر (2) ،و المبيّن و العميق، و الظاهر و الباطن، و الابتداء من الانتهاء(3) ، و السؤال و الجواب، و القطع و الوصل، و المستثنى منه و الجار [ي] فيه، و الصفة لما قبل ممّا يدلّ على ما بعد، و المؤكّد منه، و المفصّل، و عزائمه و رخصه، و مواضع فرائضه و أحكامه، و معنى حلاله و حرامه، الّذي هلك فيه الملحدون، و الموصول من الالفاظ، و المحمول على ما قبله و على ما بعده، فليس بعالم في القرآن، و لا هو من أهله.

و متى ادّعى معرفة هذه الاقسام مدّع بغير دليل، فهو كاذب مرتاب، مفتر على اللّه الكذب و رسوله، و مأواه جهنّم و بئس المصير - إلى أن قال: -

ص: 86


1- خ. ل: «السبب».
2- في البحار: «التقديم و التأخير».
3- في البحار: «و الانتهاء» بدل «من الانتهاء».

ثمّ سألوه عن تفسير المحكم من كتاب اللّه، فقال: أمّا المحكم الّذي لم ينسخه شيء، فقوله(1) عزّ و جلّ: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتٰابَ مِنْهُ آيٰاتٌ مُحْكَمٰاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتٰابِ وَ أُخَرُ مُتَشٰابِهٰاتٌ - الآية.» و إنّما هلك الناس في المتشابه؛ لأنّهم لم يقفوا على معناه، و لم يعرفوا حقيقته، فوضعوا له تأويلا(2) من عند أنفسهم بآرائهم، و استغنوا بذلك عن مسئلة الاوصياء، و نبذوا قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وراء ظهورهم .»(3).

ص: 87


1- في البحار: «شيء من القرآن، فهو قول اللّه».
2- في البحار: «تأويلات».
3- نقل العلامة المجلسي - أعلى اللّه مقامه الشريف - هذا التفسير بتمامه في البحار، ج 93، باب ما ورد في أصناف آيات القرآن، ص 3، فراجع.

المقدّمة الخامسة فيما نزل عليه القرآن من الأقسام الكليّة و ما يتعلّق بذلك

فعن الكافي و تفسير العيّاشي باسنادهما عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

«نزل القرآن على أربعة أرباع: ربع فينا، و ربع في عدوّنا، و ربع سنن و أمثال، و ربع فرائض و احكام، - و زاد العيّاشي: - و لنا كرائم القرآن.»(1)

و باسنادهما عن الاصبغ بن نباتة قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السّلام يقول:

«نزل القرآن أثلاثا: ثلث فينا و في عدوّنا، و ثلث سنن و أمثال، و ثلث فرائض و أحكام.»(2)

ص: 88


1- رواه الكليني (رض) في الكافي، ج 2، كتاب فضل القرآن، باب النوادر، ص 628، ح 4، عن أبي بصير؛ و العياشي (ره) في تفسيره ج 1، ص 9، ح 1، عن أبي الجارود، و أيضا رواه فرات بن إبراهيم (قده) في تفسيره، ص 2، عن الاصبغ بن نباتة، عن علي بن أبي طالب - عليه السلام -؛ و الحسين بن الحكم الحيري الكوفي من رواة القرن الثالث في كتاب «ما نزل من القرآن في أهل البيت - عليهم السلام -»، ص 44، عن أبي الجارود، عن الاصبغ، عنه - عليه السلام -، و فيه: «رفع حلال و حرام» بدل «ربع سنن و امثال»؛ و هكذا في البحار، ج 92، باب أنواع آيات القرآن، ص 114، ح 1؛ و الصافي و البرهان.
2- الكافي، ج 2، كتاب فضل القرآن، باب النوادر، ص 627، ح 2؛ و العياشي، ج 1، ص 9، ح 3، و البحار، ج 92، باب أنواع آيات القرآن، ص 114، ح 2، و أيضا في الصافي و البرهان.

و عن ابن المغازلي، عن ابن عباس، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال:

«إنّ القرآن أربعة أرباع: فربع فينا أهل البيت خاصّة، و ربع حرام، و ربع فرائض و أحكام، و اللّه انزل فينا كرائم القرآن .»(1).

و عن العيّاشى باسناده عن خثيمة، عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

«القرآن نزل أثلاثا: ثلث فينا و في أحبّائنا، [و] ثلث في أعدائنا و عدوّ من كان قبلنا، و ثلث سنّة و مثل؛ و لو أنّ الآية إذا نزلت في قوم ثمّ مات اولئك القوم ماتت الآية، لما بقي من القرآن شيء، و لكنّ القرآن يجري أوّله على آخره ما دامت السموات و الارض، و لكلّ قوم آية يتلونها هم فيها(2) من خير أو شرّ.»(3)

ص: 89


1- انظر مناقب عليّ بن أبي طالب - عليه السلام -، ص 328، و هكذا رواه فرات ابن إبراهيم (ره) في تفسيره، ص 2 و 89، بهذا الاسناد، و الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل، ج 1، الفصل الخامس، ص 43، ح 57، نقلا عن فرات، و أخرجه الحافظ أبو نعيم في كتاب «ما نزل من القرآن في عليّ - عليه السلام -» على ما نقله العلامة المجلسي (رض) في البحار، ج 35، باب 14، ص 359، و أيضا في إحقاق الحق، ج 14، باب ربع القرآن في أهل البيت - عليهم السلام -، ص 701، و البرهان، ج 1، ص 21، نقلا عن المناقب. و في جميع المصادر سوى البرهان و إحقاق الحق و بعض نسخ المناقب: «... و ربع في أعدائنا، و ربع حلال و حرام... و اللّه انزل في عليّ...»
2- خ. ل: «منها».
3- العياشي، ج 1، ص 10، ح 7؛ و البحار، ج 92، باب أنواع آيات القرآن، ص 115، ح 4؛ و هكذا في الصافي و البرهان.

أقول:

الظاهر أنّ بناء هذه القسمة ليس على تعديل السهام و تسوية الاقسام، بل على ضبط المقسم فيها. و ما ورد في أحبّائهم فقد ورد فيهم عليهم السّلام؛ لأنّ ما يلحق بأحبّائهم من حيث كونهم أحباء فقد لحق بهم عليهم السّلام، و شيعتهم منهم، خلقوا من فاضل طينتهم، و كلّ خير نسب إلى الاحبّاء فأصله فيهم. و عدوّ من كان قبلهم عليهم السّلام فهو عدوّ لهم، كما أنّ المؤمنين السابقين كانوا من شيعتهم و أحبّائهم؛ لأنّه إذا ذكر الخير كانوا أوّله و أصله و فرعه و معدنه و مأواه و منتهاه، و كلّ كمال نسب إلى الناقص يدخل فيه الكامل، كما سبق بيانه؛ كالذّم المنسوب إلى الناقص في تلك الصفة المذمومة، و قد سبق أنّه يدخل في الآية من كان عمل(1) بمثل أعمالهم، و [كان](2) من سنخ طينتهم، فراجع.

و أمّا الفرائض و الاحكام، فيمكن إدخالها في الخبر الاخير في قوله عليه السّلام:

«ثلث فينا و في أحبّائنا»؛ لأنّهم القائمون بها، فكأنّها حكايات أحوالهم و أفعالهم، أو لأنّ بطونها ترجع إلى ولايتهم عليهم السّلام. و لعلّ المراد بالسنّة سنّة اللّه سبحانه في النشأة الاولى، الّتي لا تبديل لها في السابقين و اللاحقين، فيندرج فيها القصص و الاخبار عمّا مضى و ما يأتي، و بيان صنائع اللّه و نعمه على عباده ما عدا حكاية أحوال المؤمنين و الكفّار؛ إذ يمكن إدخالها فيما نزل فيهم، خصوصا في الخبر الاخير.

و أمّا حكاية النشأة الاخرى، فيمكن إدخالها في السنن، و إدخالها في ما نزل فيهم عليهم السّلام و في أعدائهم، و التفصيل بين ما يختصّ باحدى الطائفتين و غيره، كانشاء القيامة الكبرى و مقدّماتها.

ص: 90


1- في المخطوطة: «من».
2- أضفناه بقرينة المقام.

و أمّا ما نزل في بيان صفات الحقّ، فيمكن إدخالها في الاوّل، لأنّهم عليهم السّلام مظاهرها و محالّ معرفتها، و إدخالها في السنن فيما كان من صفات الفعل، و الامثال فيما كان من صفات الذات؛ إذ المعاني الّتي نتصوّرها من تلك الالفاظ مثل اللّه سبحانه، فانّ كلّ ما ميّزناه بأوهامنا فهو مخلوق مثلنا، مردود إلينا(1).

و قد ورد روايات كثيرة عن المعصومين عليهم السّلام في تأويل كثير من الآيات بهم و بأوليائهم و أعدائهم (2) ،حتّى قيل: «إنه قد صنّف في ذلك كتب، واحد منها يقرب من عشرين ألف بيت.»(3) و سنورد كثيرا منها في شرح الآيات المتعلّقة بها - إن شاء اللّه تعالى -.

و عن تفسير العيّاشي، عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

«يا محمّد (4) ،إذا سمعت اللّه ذكر قوما(5) من هذه الامّة بخير فنحن هم، و إذا سمعت اللّه ذكر قوما بسوء ممّن مضى فهم

ص: 91


1- كما قال الباقر عليه السلام: «هل سمّي عالما و قادرا الا لانه وهب العلم للعلماء و القدرة للقادرين؟ و كل ما ميزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه مخلوق مصنوع مثلكم، مردود إليكم، و البارئ تعالى واهب الحياة و مقدر الموت. و لعلّ النمل الصغار تتوهم أن للّه زبانيتين فانهما كمالها...» نقله الفيض في المحجة البيضاء، ج 1، ص 219.
2- قد رواها كثير من العلماء و محدثي الخاصّة و العامّة، و جمعوها في كتبهم؛ كمحمد ابن العباس (ره) في الكنز، الّذي أورده النجفي (رض) في تفسير الآيات الباهرة؛ و أبو القاسم الحسكاني في شواهد التنزيل، و الحويزي (قده) في نور الثقلين؛ و غير ذلك.
3- الكلام للفيض - نوّر اللّه مرقده - ظاهرا، فراجع الصافي، ج 1، المقدمة الثالثة، ص 14.
4- في المخطوطة: «أبا محمد» كما في الصّافي.
5- في بعض النسخ: «أحدا».

عدوّنا.»(1)

[في أنّ الولاية المطلقة للنّبيّ و الأئمّة - عليهم السّلام -]

اعلم أنّ النبوّة المطلقة مختصّة بنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله، و الوصيّة النيابة المطلقة عنه، و الولاية المطلقة الكلّيّة له صلّى اللّه عليه و آله و للائمّة - صلوات اللّه عليهم -، و أمّا سائر الانبياء و الاولياء فلهم نبوّة خاصّة مقيّدة و ولاية جزئيّة على أهل عصر خاصّ أو قرية معيّنة، لا على ما سوى اللّه سبحانه من أقسام موجودات العوالم بأسرها، الّذي هو معنى الخلافة عن اللّه سبحانه بعنوان كلّيّ مطلق؛ لانّهم عليهم السّلام مظاهر الاسم الاعظم بتمامه، ما سوى الحرف الواحد، الّذي لا مظهر له في العالم، و سائر المعصومين عليهم السّلام مظاهر لبعض أجزائه و حروفه (2).و إذا كانوا عليهم السّلام مظاهر لاسم السلطنة الالهيّة المطلقة، فلا جرم كان كلّ من سواهم تحت سلطنتهم، و نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله سيّد الانبياء. و لمّا ثبت أنّ الولاية الّتي له صلّى اللّه عليه و آله هي بعينها لخلفائه فهم السلاطين و الاولياء على ما سوى اللّه سبحانه، فلهم الولاية على الانبياء السابقين، و له صلّى اللّه عليه و آله النبوّة المطلقة، و جميع الانبياء يخبرون عن بعض ما أنبأه معنى لانحصار

ص: 92


1- العياشي، ج 1، ص 13، ح 3؛ و الصّافي، ج 1، المقدّمة الثالثة، ص 14؛ و البرهان، ج 1، ص 22.
2- كما ورد في أحاديثهم - عليهم السلام -؛ كرواية الصفار (ره) عن هارون ابن الجهم، عن رجل من أصحاب أبي عبد اللّه - عليه السلام - قال: سمعت أبا عبد اللّه - عليه السلام - يقول: «انّ عيسى بن مريم أعطي حرفين و كان يعمل بها، و أعطي موسى بن عمران أربعة أحرف، و أعطي إبراهيم ثمانية أحرف، و أعطى نوح خمسة عشر حرفا، و أعطى آدم خمسة و عشرون حرفا، و انّه جمع اللّه ذلك لمحمّد - صلّى اللّه عليه و آله - و أهل بيته، و انّ اسم اللّه الأعظم ثلاثة و سبعون حرفا أعطى اللّه محمّدا - صلّى اللّه عليه و آله - اثنين و سبعين حرفا، و حجب عنه حرفا واحدا.» راجع البصائر، باب 13 من الجزء الرابع، ص 208، ح 2.

الشريعة الكاملة التامّة بهذه الشريعة، فهم بمنزلة الدّعاة إلى بعض هذه الشريعة، و قد أخذ ميثاق نبوّته صلّى اللّه عليه و آله على جميع الانبياء، قال تعالى:

«وَ إِذْ أَخَذَ اللّٰهُ مِيثٰاقَ النَّبِيِّينَ - الخ.»(1)

فهم أتباع مقام النبوّة و الولاية، داعين إليه صلّى اللّه عليه و آله، مبشّرين به صلّى اللّه عليه و آله و النبوة و الولاية المقيّدتين مستمدّتان من الكلّيّتين: أخبار عرض الولاية عليهم، و تقدّم خلقهم و أنّهم العلّة الغائيّة لانشاء هذا العالم.

و لعلّ ما ذكر يظهر للمتأمّل في ما ورد في أخذ ميثاق النبوّة المطاعيّة لهم عليهم السّلام من الانبياء في العوالم السابقة (2) ،و أنّ آدم و غيره عليهم السّلام تحت لوائه صلّى اللّه عليه و آله يوم القيامة (3) ،إلى غير ذلك ممّا سنورد بعضه في خلال التفسير مشروحا.

و حينئذ فالاخبار عن النبوّات السابقة و الولايات الماضية، و عن المؤمنين و الكافرين السابقين كلّها يرجع إلى الاخبار عن أتباعهم، الّذين هم بمنزلة أبعاضهم و رشحاتهم، و عن أعدائهم؛ لأن عدوّ الجزء و التابع عدوّ للكلّ و المتبوع، و منكر جزء النبوّة و الولاية منكر للكلّ من حيث هو كلّ لانعدام الكلّ بانعدام جزئه، و منكر من كان آخذا لميثاق النبوّة، و داعيا إلى التصديق به، منكر لذلك النبيّ، و عدوّه و جاحده من هذه الحيثيّة جاحد و عدوّ له، و سائر النبوّات و الولايات بمنزلة أجزاء البيت، و النبوّة و الولاية المطلقة بمنزلة البيت التامّ. فمن انتسب إلى

ص: 93


1- آل عمران/ 81.
2- الاخبار في هذا الموضوع كثيرة جدا، حتى أنّ المجلسي (قده) عقد له بابا في البحار، كتاب الامامة، ص 267-319، و أورد فيه روايات عن كتب كثيرة؛ من أراد أن يطلع عليها فليراجع.
3- راجع البحار، كتاب المعاد، باب اللواء؛ و كتاب الامامة، باب الخامس و الثمانين في فضائل عليّ بن أبي طالب - عليه السلام -.

بيت الابعاض بمعرفة و ايمان، أو محبّة، أو متابعة و تسليم، فقد انتسب إلى البيت بقدره، و من عاند و أنكر و جحد الابعاض، أو صار عدوّا لها، فقد أنكر و عاند و جحد و اعتدى على التامّ. هذا جملة ما سنح بالبال، و اللّه العالم بحقيقة الحال.

[في أنّ عليّا - عليه السّلام - قسيم الجنّة و النّار]

و يؤيّد جملة ممّا ذكر ما عن الصدوق [رض] في علل الشرائع باسناده عن المفضّل بن عمر، قال:

«قلت لأبي عبد اللّه: بما صار عليّ بن أبي طالب عليه السّلام قسيم الجنّة و النار؟

قال: لأنّ حبّه إيمان و بغضه كفر، و إنّما خلقت الجنّة لاهل الايمان، و خلقت النّار لأهل الكفر، فهو عليه السّلام قسيم الجنّة و النار لهذه العلّة، و الجنّة لا يدخلها إلا أهل محبّته، و النار لا يدخلها إلا أهل بغضه.

قال المفضّل: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فالانبياء و الاوصياء هل كانوا يحبّونه و أعدائهم يبغضونه (1) ؟فقال: نعم.

قلت: فكيف ذلك؟

قال: أ ما علمت أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال يوم خيبر: «لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ اللّه و رسوله، و يحبّه اللّه و رسوله، ما يرجع حتى يفتح اللّه على يديه»؟ قلت: بلى.

قال: أ ما علمت أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا أتي بالطائر المشوي قال: اللّهم ائتني بأحب خلقك إليك(2) يأكل معي هذا

ص: 94


1- في العلل و البحار: «كانوا يبغضونه».
2- في بعض النسخ: «إليك و إليّ».

الطير» و عنى به عليّا عليه السّلام؟ قلت: بلى.

قال: يجوز أن لا يحبّ أنبياء اللّه و رسله و أوصيائهم رجلا يحبّه اللّه و رسوله، و يحبّ اللّه و رسوله؟ فقلت: لا.

قال: فهل يجوز أنّ يكون المؤمنون من أممهم لا يحبّون حبيب اللّه و حبيب رسوله و أنبيائه؟ قلت: لا.

قال: فقد ثبت أنّ جميع أنبياء اللّه و رسله و جميع المؤمنين كانوا لعلي بن أبي طالب محبّين، و ثبت أنّ [أعداءهم و] المخالفين لهم كانوا له و لجميع أهل محبّته مبغضين. قلت:

نعم.

قال: فلا يدخل الجنّة إلاّ من أحبّه من الاوّلين و الآخرين، فهو إذن قسيم الجنّة و النار.

قال المفضّل بن عمر: فقلت له: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فرّجت عنّي فرّج اللّه عنك، فزدني مما علّمك اللّه. فقال:

سل يا مفضّل.

فقلت: أسأل يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فعليّ بن أبي طالب عليه السّلام يدخل محبّه الجنّة و مبغضه النار، أو رضوان و مالك؟

فقال: يا مفضّل، أ ما علمت أنّ اللّه تبارك و تعالى بعث رسوله و هو روح إلى الانبياء، و هم أرواح قبل خلق الخلق بألفي عام؟ قلت: بلى.

قال: أ ما علمت أنّه دعاهم إلى توحيد اللّه و طاعته و اتّباع أمره، و وعدهم الجنّة على ذلك، و أوعد من خالف ما

ص: 95

أجابوا إليه و أنكره النار؟ فقلت: بلى.

قال: أ فليس النبي صلّى اللّه عليه و آله ضامنا لما وعد و أوعد عن(1) ربّه عزّ و جلّ؟ قلت: بلى.

قال: أ و ليس عليّ بن أبي طالب عليه السّلام خليفته و إمام أمّته؟

قلت: بلى.

قال: أ و ليس رضوان و مالك من جملة الملائكة و المستغفرين لشيعته الناجين بمحبّته؟ قلت: بلى.

قال: فعليّ بن أبي طالب عليه السّلام إذن قسيم الجنّة و النار عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و رضوان و مالك صادران عن أمره بأمر اللّه تبارك و تعالى. يا مفضّل، خذ هذا، فانّه من مخزون العلم و مكنونه، لا تخرجه إلا إلى أهله.»(2)

[في أنّ القرآن نزل بايّاك أعني...]

هذا، و عن الكافي أنّه روى عن عبد اللّه بن بكير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال:

«نزل القرآن بايّاك أعني و اسمعي يا جارة.»(3)

و هو مثل يضرب لمن يتكلّم بكلام و يريد به غير المخاطب(4).

ص: 96


1- في المخطوطة: «لما وعدوا عن وعد ربه».
2- العلل، ج 1، باب 130، ص 161، ح 1؛ و البحار، ج 39، باب انه - عليه السلام - قسيم الجنّة و النار، ص 194، ح 5.
3- روى الكليني (ره) هذا الحديث في الكافى، ج 2، باب النوادر من كتاب فضل القرآن؛ و العياشي (رض) في تفسيره، ج 1، ص 10؛ و نقله الفيض (ره) في الصافي، و البحراني (ره) في البرهان، فراجع.
4- قال الميداني في مجمع الامثال، ج 1، ص 50: «أوّل من قال ذلك «سهل بن مالك الفزاري»، و ذلك انّه خرج يريد النعمان، فمرّ ببعض أحياء طىء، فسأل عن سيد الحي، فقيل له «حارثة بن لام»، فأمّ رحله فلم يصبه شاهدا، فقالت له أخته: انزل في الرحب و السعة، فنزل فأكرمته و لاطفته، ثم خرجت من خبائها فرأى أجمل أهل دهرها و أكملهم، و كانت عقيلة قومها و سيدة نسائها، فوقع في نفسه منها شيء، فجعل لا يدري كيف يرسل إليها و لا ما يوافقها من ذلك، فجلس بفناء الخباء يوما و هي تسمع كلامه، فجعل ينشد و يقول: يا أخت خير البدو و الحضارةكيف ترين في فتى فزارة أصبح يهوي حرة معطارةإياك أعني و اسمعي يا جارة فلما سمعت قوله عرفت انه إيّاها يعني، فقالت: ما ذا يقول ذي عقل اريب و لا رأي مصيب و لا أنف نجيب؟ فأقم ما قمت مكرما، ثم ارتحل متى شئت مسلما، و يقال: أجابته نظما فقالت: إنّي أقول يا فتى فزارةلا أبتغى الزوج و لا الدعارة و لا فراق أهل هذى الجارةفارحل إلى أهلك باستخارة فاستحي الفتى و قال: ما أردت منكرا، وا سوءتاه! قالت: صدقت. فكأنها استحيت من تسرعها إلى تهمته. فارتحل، فأتى النعمان فحيّاه و أكرمه. فلمّا رجع نزل على أخيها، فبينا هو مقيم عندهم تطلعت إليه نفسها و كان جميلا، فأرسلت إليه أن اخطبنى إن كان لك إليّ حاجة يوما من الدهر، فاني سريعة إلى ما تريد. فخطبها و تزوّجها و ساربها إلى قومه. يضرب لمن يتكلّم بكلام و يريد به شيئا غيره.»

كما روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«ما عاتب اللّه نبيّه فهو يعني به من قد مضى في القرآن؛ مثل قوله: «وَ لَوْ لاٰ أَنْ ثَبَّتْنٰاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً » ،عنى بذلك غيره »(1).

و لعلّ المراد من «قد مضى» ما أسقط اسمه من القرآن، أو مضى زمانه، و يكون المجرور ب «في» متعلّقا بقوله «عاتب»، أو خبرا مقدّما مبتدؤه قوله:

«مثل قوله». و يحتمل تعميم المثل السابق لكلّ كلام ورد مختصّا بمورد،

ص: 97


1- الآية: الاسراء/ 74؛ و الحديث: راجع تعليقة 3 من صفحة 96.

و المقصود بالافادة منه غير ذلك الفرد، كالاخبار عن الامم الماضية الّتي خلت. و لا نسأل عمّا فعلوا و لا يسألون عمّا نفعل، لها ما كسبت و لنا ما كسبنا، و لكنّها أمثال تجري نظائرها في هذه الامّة أشخاصا و أفعالا و مجازاة. فالكلام وارد في فرعون خاصّ، و المقصود بيان حال غيره، إلى غير ذلك. و هذا التعميم أنسب من التخصيص الاوّل، لأنّ التصرّف في المخاطب في أكثر المقامات متعذّر ظاهرا؛ إذ المخاطب هو النبيّ و المؤمنون، أو جميع الناس، أو طائفة خاصّة. و من ذلك يظهر لك وجه آخر للأخبار المتقدّمة، فتدبّر فيه بالتأمّل.

و فيما قدّمناه يظهر وجه للجمع بين الاخبار المتقدّمة و ما روي عن الكليني بسنده عن داود بن فرقد، عمّن ذكره، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال:

«إنّ القرآن نزل أربعة أرباع: ربع حلال، و ربع حرام، و ربع سنن و أحكام، و ربع خبر ما كان قبلكم و نبأ ما يكون بعدكم و فصل ما بينكم.»(1)

ص: 98


1- الكافي، ج 2، باب النوادر من كتاب فضل القرآن، ص 627، ح 3؛ و البرهان، ج 1، ص 21، ح 2.

المقدّمة السّادسة في نبذة ممّا جاء في أنّ القرآن تبيان كلّ شيء و بيان ذلك

فعن الكافي بسنده عن مرازم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«إنّ اللّه تعالى أنزل في القرآن تبيان كلّ شيء، حتّى و اللّه ما ترك اللّه شيئا يحتاج إليه العباد حتّى لا يستطيع عبد يقول: «لو كان هذا في القرآن» إلا و قد أنزله اللّه فيه.»(1)

و باسناده عن عمرو بن قيس، عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: سمعته يقول:

«إنّ اللّه تعالى لم يدع شيئا يحتاج إليه الامّة إلا أنزله في كتابه، و بيّنه لرسوله، و جعل لكلّ شيء حدّا، و جعل عليه دليلا يدلّ عليه، و جعل على من تعدّى ذلك الحدّ حدّا.»(2)

و باسناده عن المعلّى بن خنيس قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

ص: 99


1- الكافي، ج 1، باب الردّ إلى الكتاب و السنّة، ص 59، ح 1؛ و هكذا رواه البرقي (ره) في المحاسن، باب 36 من كتاب مصابيح الظلم، ص 267، ح 352؛ و القمي (ره) في تفسيره، ج 2، ص 451، بهذا الاسناد؛ و أيضا في البحار و الصافي.
2- الكافي، ج 1 باب الردّ الى الكتاب و السنة، ص 59، ح 1؛ و هكذا رواه الصفار (قده) في البصائر، الجزء الاول، باب 3، ص 6، إلى قوله - عليه السلام -: «يدلّ عليه» بهذا الاسناد بطريقين عن «عبد اللّه بن جعفر» و «إبراهيم بن هاشم»؛ و العياشي (ره) في تفسيره، ج 1، ص 6، ح 13؛ و نقله الفيض (ره) في الصافي.

«ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا و له أصل في كتاب اللّه، و لكن لا تبلغه عقول الرجال.»(1)

و باسناده عن أبي الجارود قال: قال أبو جعفر عليه السّلام:

«إذا حدّثتكم بشيء فاسألوني أين هو في كتاب اللّه تعالى».

ثمّ قال في بعض حديثه: إنّ (2) رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نهى عن القيل و القال، و فساد المال، و كثرة السؤال. فقيل له: يا ابن رسول اللّه، أين هذا من كتاب اللّه؟ قال: إنّ اللّه تعالى يقول: «لاٰ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوٰاهُمْ إِلاّٰ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاٰحٍ بَيْنَ النّٰاسِ.» (3) و قال: «لاٰ تُؤْتُوا السُّفَهٰاءَ أَمْوٰالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّٰهُ لَكُمْ قِيٰاماً.» (4) و قال: «لاٰ تَسْئَلُوا عَنْ أَشْيٰاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ.» (5)

و بأسانيد متعدّدة، عن الصادق عليه السّلام في الرسالة الّتي كتبها لأصحابه بعد التحذير عن الاخذ في الدين بالهوى و الرأي و المقاييس:

«... قد أنزل اللّه القرآن و جعل فيه تبيان كلّ شيء، و جعل

ص: 100


1- الكافي، ج 1، باب الردّ إلى الكتاب و السنة، ص 60، ح 6؛ و رواه في المحاسن، ج 1، باب 36 من كتاب مصابيح الظلم، ص 267، ح 355؛ و هكذا في الصافي و البحار.
2- في المخطوطة: «ثم ان».
3- النساء/ 114.
4- النساء/ 5.
5- الآية: المائدة/ 101؛ و الحديث في الكافي، ج 1، باب الردّ إلى الكتاب و السنة، ص 60، ح 5؛ و أيضا رواه البرقي (ره) في المحاسن، ج 1، باب 36 من كتاب مصابيح الظلم، ص 269، ح 358 بهذا الاسناد؛ و أورده الطبرسي (رض) في الاحتجاج، ج 2، ص 55، مرسلا عن أبي الجارود.

للقرآن و تعلّم القرآن أهلا...»(1)

و عن الصفّار في بصائر الدرجات بسنده عن إبراهيم بن عمر، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«إنّ في القرآن ما مضى و ما يحدث و ما هو كائن، و كانت فيه أسماء الرجال فألقيت، و إنّما الاسم الواحد في وجوه لا تحصى يعرف ذلك الوصاة.»(2)

و عن العيّاشي، عنه ما يقرب من ألفاظه(3).

و روى غيره عن موسى بن عقبة أنّ معاوية أمر الحسين عليه السّلام أن يصعد المنبر فيخطب، فحمد اللّه و أثنى عليه، ثمّ قال:

«نحن حزب اللّه الغالبون، و عترة نبيّه الأقربون، و أحد الثقلين، الّذين جعلنا رسول اللّه ثاني كتاب اللّه؛ فيه تفصيل لكلّ شيء، لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه،

ص: 101


1- قد تقدم في المقدمة الثانية، انظر ص 33.
2- البصائر، باب 7 من الجزء الرابع، ص 195، ح 6؛ و الصافي، ج 1، المقدمة السادسة، ص 25؛ و البرهان، ج 1، ص 15، ح 7. قال الفيض - نوّر اللّه مرقده -: «لعلّ المراد ب «أسماء الرجال» الملقية أعلامهم، و ب «الاسم الواحد» ما كنّى به تارة عنهم و تارة عن غيرهم من الالفاظ التي لها معان متعددة؛ و ذلك ك «الذكر» فانّه قد يراد به رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله -، و قد يراد به أمير المؤمنين - عليه السّلام - و قد يراد به القرآن؛ و ك «الشيطان»، فانه قد يراد به الثاني، و قد يراد به إبليس، و قد يراد به غيرهما. أراد عليه السلام أن الرجال كانوا مذكورين في القرآن تارة بأعلامهم فألقيت، و أخرى بكنايات فألقيت، فهم اليوم مذكورون بالكنايات بألفاظ لها معان آخر يعرف ذلك الاوصياء».
3- العياشى، ج 1، ص 12، ح 10.

و المعوّل علينا في تفسيره لا نتظنّى(1) تأويله، بل نتّبع حقائقه.»(2)

أقول:

اعلم أنّ الحكيم هو الّذي يضع الاشياء مواضعه، و يعطي كلّ ذي حقّ حقّه، و الجواد المطلق هو الّذي يعطي كلّ محتاج ما يحتاج إليه، و الفيّاض المطلق من يعطي كلّ قابل ما له قابليّته و استعداده. و لمّا كان الممكن في نفسه و مرتبة ذاته معدوما محضا، لا يتّصف بأمر أصلا، فحصول القابليّة و الاحتياج و الاستحقاق و صيرورته ذا شأنيّة و صلاحيّة به يكون موضعا واقعيّا لأمر ما لا يكون في الممكن إلا باعطاء الحقّ إيّاه ذلك، كما أنّه لا تمايز بين الاعدام حال العدم المطلق، فاللّه سبحانه ينشأ ذات الممكن، و يعطيه القابليّة و الاستحقاق و الشأنيّة و الاحتياج، و يهب له ما يقتضيه ذلك العطاء الاوّل؛ فيخلق الحيوان و يعطيه الحاجة إلى الرزق و يرزقه، و كل شيء موجود فهو بتقدير اللّه و قضائه و قدره و مشيّته و إمضائه، و المتعلّقة بتلك الجزئيّات، و تلك الجزئيّات واقعة تحت أنواع و أصناف هي مناط صيرورتها محالّ تلك الامور الالهيّة. فالانواع و قابليّاتها المصحّحة لتلك الامور و الامور المفروضة كلّها راجعة إليه، و فعل كلّ أحد يرجع إلى صفاته؛ لأنّها المبادئ للأفعال، فاذا أعطى زيدا أحدا و منع آخر مع استواء قدرته بالنسبة إلى كلّ منهما، فيعلم كلّ أحد أنّ للمعطى خصوصيّة في قلب المعطي به صار سببا لاعطائه، و هو غير

ص: 102


1- في بعض نسخ الاحتجاج: «لا يبطينا»، و في بعض آخر: «لا يبطئنا».
2- رواه الطبرسي (ره) في الاحتجاج، ج 2، ص 22؛ و هكذا أورده الطبري (رض) في بشارة المصطفى، عن هشام بن حسان، عن الحسن بن عليّ - عليهما السلام - نحوه؛ و نقله الحرّ العاملي (ره) في الوسائل، ج 18، باب 13 من أبواب صفات القاضي ص 144، ح 45، و قد مر في المقدمة الثانية، ص 40.

موجود في الآخر من محبّة أو صداقة أو فقر أو غيرها.

و أنت إذا تدبّرت جميع أفعال الانسان وجدت لها مبادئ في نفسه، لو لم يكن تلك المبادئ لم يصدر عنها تلك الافعال الاختياريّة، فاذا رأينا زيدا يصلّي أو يدعو أو يضرب أحدا أو يقتله أو يكرمه أو غير ذلك، علم العاقل أنّ له إرادة متعلّقة بذلك، منبعثة عن صفة نفسانيّة اقتضت ذلك الاختيار. و كذا جميع موجودات العالم يرجع إلى تلك الامور المفروضة، و هي إلى حقائق أسماء اللّه سبحانه، الّتي تسمّى بها، و صفاته الافعاليّة، و هي إلى الصفات الذاتيّة، الّتي هي عين الذات. و لكلّ شيء سبب مركّب من مقتض و شرط و معدّ و انتفاء مانع، و لها أيضا أسباب كذلك، إلى أن ينتهي إلى مسبّب الاسباب. فمن عرف اللّه سبحانه بجميع أسمائه فقد عرف جميع المخلوقات لانتقال الذهن من الاسباب إلى المسبّبات، و من عرف فردا من أفراد كلّ عنوان بالعناوين الّتي باعتبارها صار معروضا لأفعال اللّه سبحانه و أسمائه، فقد عرف الاسماء و الصفات بعد معرفة كيفيّة الارتباط و مناطه.

و القرآن مبيّن للأسماء و الصّفات و الحوادث و كيفيّة الارتباط تصريحا و تلويحا، و يشبه أن يكون ذكر كثير من أسماء اللّه سبحانه عقيب ذكر الحوادث تنبيها على مبدئ تلك الحادثة، و أن مصدرها هو ذلك الاسم و الصفة. فالقرآن واف ببيان جميع الاشياء لمن يعرفه حق معرفته.

و قد سبق بعض البيان في ذلك، و ستعرف بعض ما يتّضح به ذلك - إن شاء اللّه تعالى -. و هذا ذكر إجمالي سنح بالبال، فتدبّره فلعلّه يكون الحقّ في المقال، و اللّه العالم بحقيقة الحال.

ص: 103

المقدّمة السابعة في نبذة ممّا جاء في جمع القرآن و تحريفه و زيادته و نقصه، و ما يتعلّق بذلك

فعن عليّ بن إبراهيم [قدّه] في تفسيره باسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لعلي عليه السّلام: يا عليّ، إنّ القرآن لخلفة فراشه(1) في الصمت(2) و الحرير و القراطيس، فخذوه و اجمعوه، و لا تضيّعوه كما ضيّعت اليهود التوراة. و انطلق عليّ عليه السّلام فجمعه في جراب أصفر (3) ،ثمّ ختم عليه في بيته و قال: لا أرتدي حتّى أجمعه، قال: كان الرجل ليأتيه فيخرج إليه بغير رداء حتّى جمعه.»(4)

و عن الكافي باسناده عن سالم بن أبي سلمة قال:

«قرأ رجل على(5) أبي عبد اللّه عليه السّلام و أنا أستمع حروفا من القرآن ليس على ما يقرؤها الناس، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

ص: 104


1- في بعض نسخ القمي: «خلف فراشي».
2- في بعض نسخ القمي: «الصحف».
3- في المخطوطة: «جواب أصفر»، و في بعض النسخ: «ثوب أصفر»، كما يأتي الاشارة اليه.
4- القمي، ج 2، ص 451، عن أبي بكر الحضرمي، عنه - عليه السلام -؛ و الصافي، ج 1، المقدمة السادسة، ص 24؛ و البحار، ج 92، باب ما جاء في كيفية جمع القرآن، ص 48، ح 7.
5- في المخطوطة: «عن»، و كتب فوقه: «عند - ظ».

كفّ عن هذه القراءة، اقرأ كما يقرأ الناس حتّى يقوم القائم عليه السّلام فاذا قام قرأ كتاب اللّه تعالى على حدّه، و أخرج المصحف الّذي كتبه عليّ عليه السّلام.

و قال: أخرجه عليّ عليه السّلام إلى الناس حين فرغ منه و كتبه، فقال لهم: هذا كتاب اللّه كما أنزله اللّه على محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و قد جمعته بين اللّوحين. فقالوا: هو ذا عندنا مصحف جامع فيه القرآن، لا حاجة لنا فيه. فقال: أما و اللّه ما ترونه بعد يومكم هذا أبدا، إنّما كان عليّ أن أخبركم حين جمعته لتقرءوه.»(1)

و باسناده عن البزنطي قال:

«دفع إلىّ أبو الحسن عليه السّلام مصحفا و قال: لا تنظر فيه؟ ففتحته و قرأت فيه: «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا ...» .(2) فوجدت(3)

فيها اسم سبعين رجلا من قريش و أسمائهم و أسماء آبائهم - إلى آخره.»(4)

ص: 105


1- الكافي، ج 2، باب النوادر من كتاب فضل القرآن، ص 633، ح 23؛ و ايضا رواه الصفار (ره) في البصائر، باب 6 من الجزء الرابع، ص 193، ح 3؛ و هكذا في الصافي و البرهان.
2- البيّنة/ 1.
3- في المخطوطة: «فوجد»، و كتب عليه: «كذا».
4- الكافي، ج 2، باب النوادر من كتاب فضل القرآن، ص 631، ح 16؛ و الصافي ج 1، المقدمة السادسة، ص 25، و قد أورد الفيض (ره) في شرحه في ص 33 منه، و فى الوافي، ج 1، باب اختلاف القراءات و عدد الآيات، ص 237 كلاما مفيدا جدّا، من أراد فليراجع.

و عن محمّد بن سليمان، عن بعض أصحابه، عن أبي الحسن عليه السّلام قال:

«قلت له: جعلت فداك، إنّا نسمع الآيات في القرآن ليس هي عندنا كما نسمعها، و ما نحسن أن نقرأها كما بلغنا عنكم فهل نأثم؟ فقال: لا، اقرءوا كما تعلّمتم، فسيجيء من يعلّمكم.»(1)

و عن العيّاشي في تفسيره، عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

«لو لا أنّه زيد في كتاب اللّه و نقص، ما خفي حقّنا على ذي حجى، و لو قد قام(2) قائمنا فنطق صدّقه القرآن.»(3)

و فيه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«لو قرء القرآن كما أنزل لألفيتنا فيه مسمّين.»(4)

ص: 106


1- قوله عليه السلام: «من يعلمكم» يعني به: صاحب الزمان - عجل اللّه تعالى فرجه الشريف -. و الحديث في الكافي، ج 2، باب أن القرآن يرفع كما انزل، ص 619 ح 2؛ و الصافي، ج 1، المقدمة السادسة، ص 24.
2- في المخطوطة: «قدم» بدل «قد قام». (3و4) العياشي، ج 1، ص 13، ح 6، عن ميسر، عن أبي جعفر - عليه السلام - و ح 4، عن داود بن فرقد، عمّن أخبره، عن أبي عبد اللّه - عليه السلام -؛ و الصافي، ج 1، المقدمة السادسة، ص 25؛ و البرهان، ج 1، ص 22. و هكذا نقل الحرّ العاملي (ره) هذين الحديثين و أحاديث أخر في إثبات الهداة، ج 3، فصل 38، ص 43 و قال في ذيلها: «هذه الاحاديث و امثالها دالة على ان النص على الائمة - عليهم السلام - و كذا التصريح بأسمائهم، و قد تواترت الاخبار بأن القرآن نقص منه كثير و سقط منه آيات لما تكتب، و بعضهم يحمل تلك الاخبار على ان ما نقص و سقط كان تأويلا نزل مع التنزيل، و بعضهم على أنه وحي لا قرآن، و على كلّ حال فهو حجة في النصّ، و تلك الاخبار متواترة من طريق العامة و الخاصة.»

و فيه عنه(1) عليه السّلام:

«إنّ القرآن قد طرح منه آي كثيرة، و لم يزد فيه إلا حروف قد أخطأت به الكتبة و توهّمها الرجال.»(2)

و عن الطبرسي في الاحتجاج في جملة احتجاج أمير المؤمنين عليه السّلام على جماعة من المهاجرين و الانصار أنّ طلحة قال له في جملة مسائله عنه:

«يا أبا الحسن، شيء أريد أن أسألك عنه، رأيتك خرجت بثوب مختوم فقلت: أيّها الناس، إنّي لم أزل مشتغلا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بغسله(3) و كفنه و دفنه، ثمّ اشتغلت بكتاب اللّه حتّى جمعته، فهذا كتاب اللّه عندي مجموعا؛ لم يسقط عنّي حرف واحد، و لم أر ذلك الّذي كتبت و ألّفت، و قد رأيت عمر بعث إليك أن ابعث به إليّ، فأبيت أن تفعل. فدعا عمر الناس، فاذا شهد رجلان على آية كتبها، و إن لم يشهد عليها غير رجل واحد أرجأها(4) فلم يكتب، فقال عمر و أنا أسمع:

إنّه قد قتل يوم اليمامة قوم كانوا يقرءون قرآنا لا يقرؤه غيرهم

ص: 107


1- المراد من الضمير في قوله: «عنه» هو الباقر - عليه السلام - كما يظهر من العياشي و البرهان، لا الصادق - عليه السلام -، كما يوهمه عبارة المتن التي هي مأخوذة من الصافي أو مرآة الانوار.
2- العياشي، ج 1، ص 180، ح 73، عن حبيب السجستاني، عن أبي جعفر - عليه السلام -؛ و الصافي، ج 1، المقدمة السادسة، ص 25؛ و البرهان، ج 1، ص 294، ح 5؛ و مرآة الانوار، المقدمة الثانية، ص 37.
3- في المخطوطة: «و غسله».
4- أي: «أخّرها».

فقد ذهب. و جاء شاة إلى صحيفة و كتاب يكتبون فأكلتها، و ذهب ما فيها، و الكاتب يومئذ عثمان، و سمعت عمر و أصحابه الّذين ألّفوا ما كتبوا على عهد عمر و على عهد عثمان، يقولون:

إنّ «الاحزاب» كانت تعدل سورة «البقرة»، و إنّ «النور» نيّف(1) و مائة آية، و «الحجر» تسعون و مائة آية، و ما هذا؟ و ما يمنعك - يرحمك اللّه - أن تخرج كتاب اللّه على الناس و قد عهد عثمان حين أخذ ما ألف عمر، فجمع له الكتاب، و حمل الناس على قراءة واحدة. فمزّق مصحف «أبيّ بن كعب» و «ابن مسعود» و أحرقهما(2) بالنار؟

فقال عليّ عليه السّلام: يا طلحة، إنّ كلّ آية أنزلها اللّه عزّ و جلّ على محمّد صلّى اللّه عليه و آله عندي باملاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خطّ [يدى](3) و تأويل كلّ آية أنزلها اللّه على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و كلّ حلال و حرام أو حدّ أو حكم أو شيء يحتاج إليه الامّة إلى يوم القيامة مكتوب باملاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خطّ يدي، حتّى أرش(4)

الخدش - و ساق الكلام إلى أن قال: -

ثمّ قال طلحة: لا أراك يا أبا الحسن أجبتني عمّا سألتك عنه من أمر القرآن، أ لا تظهره للناس؟(5)

قال عليه السّلام: يا طلحة، عمدا كففت عن جوابك، فأخبرني عمّا

ص: 108


1- في بعض نسخ الاحتجاج: «ستون».
2- في المخطوطة: «أحرقها».
3- سقط عن المخطوطة.
4- الارش: الدية.
5- في المخطوطة: «تظهر».

كتب عمر و عثمان، أ قرآن كلّه أم فيه ما ليس بقرآن؟ قال طلحة: بل قرآن كلّه.

قال: إن أخذتم بما فيه نجوتم من النار و دخلتم الجنّة؛ فانّ فيه حجّتنا و بيان حقّنا و فرض طاعتنا. قال طلحة:

حسبي [أمّا](1) إذا كان قرآنا، فحسبي - إلى آخر الحديث.»(2)

و قال رحمه اللّه: و في رواية أبي ذرّ الغفاري:

«لمّا توفّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جمع عليّ عليه السّلام القرآن و جاء به إلى المهاجرين و الانصار و عرضه عليهم لما قد أوصاه بذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. فلمّا فتحه أبو بكر خرج في أوّل صفحة فتحها فضائح القوم، فوثب عمر، فقال: يا عليّ، اردده فلا - حاجة لنا فيه. فأخذه عليّ عليه السّلام و انصرف.

ثمّ أحضر «زيد بن ثابت» - و كان قارئا للقرآن - فقال له عمر: إنّ عليّا جاءنا بالقرآن و فيه فضائح المهاجرين و الانصار، و قد أردنا أن تؤلّف لنا القرآن و تسقط (3) منه ما كان فيه فضيحة و هتك للمهاجرين و الانصار.

فأجابه زيد إلى ذلك، ثمّ قال: فان أنا فرغت من القرآن على ما سألتم و أظهر عليّ عليه السّلام القرآن الّذي ألّفه، أ ليس قد بطل كلّ ما عملتم؟

ص: 109


1- سقط في المخطوطة.
2- الاحتجاج، ج 1، ص 222-225، عن سليم بن قيس الهلالي، و الصافي، ج 1، المقدّمة السادسة، ص 25-26؛ و البحار، ج 92، باب ما جاء في كيفية جمع القرآن، ص 41.
3- في بعض نسخ الاحتجاج: «رأينا أن نؤلّف القرآن و نسقط».

ثمّ قال عمر: فما الحيلة؟ قال زيد: أنتم أعلم بالحيلة.

فقال عمر: ما الحيلة دون أن نقتله و نستريح منه؟ فدبّر في قتله على يد «خالد بن الوليد»، فلم يقدر على ذلك، و قد مضى شرح ذلك(1).

فلمّا استخلف عمر سأل عليّا عليه السّلام أن يدفع إليهم القرآن فيخرجوه(2) فيما بينهم فقال: إن كنت جئت به إلى أبي بكر فأت به إلينا حتّى نجتمع عليه.

فقال عليّ عليه السّلام: هيهات! ليس إلى ذلك سبيل، إنّما جئت به إلى أبي بكر لتقوم الحجة عليكم، و لا تقولوا يوم القيامة:

إنّا كنّا عن هذا غافلين، أو تقولوا: ما جئتنا به. إنّ القرآن الّذي عندي لا يمسّه إلا المطهّرون و الاوصياء من ولدي.

فقال عمر: فهل وقت لاظهاره معلوم؟

قال عليّ عليه السّلام: نعم، إذا قام القائم [عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف] من ولدي يظهره و يحمل الناس عليه. فتجري السنّة به.»(3)

[و] روي عنه عليه السّلام في جملة احتجاجه على الزنديق الّذي جاء إليه مستدلا بآي من القرآن متشابهة(4) يحتاج إلى التأويل أنّه قال عليه السّلام:

ص: 110


1- قوله: «و قد مضى شرح ذلك» من كلام صاحب الاحتجاج (ره).
2- في المخطوطة و المآخذ: «يحرفوه».
3- الاحتجاج، ج 1، ص 225؛ و الصافي، ج 1، المقدمة السادسة، ص 27؛ و البحار، ج 92، باب ما جاء في كيفية جمع القرآن، ص 42، ح 2.
4- في المخطوطة: «متشابه».

«و لم يكنّ عن أسماء الانبياء تجبّرا و تعزّزا، بل تعريفا لأهل الاستبصار. إنّ الكناية عن أسماء ذوي الجرائر العظيمة من المنافقين في القرآن ليست(1) من فعله تعالى، و إنّها من فعل المغيّرين و المبدّلين (2) ،الّذين جعلوا القرآن عضين، و اعتاضوا الدنيا من الدين. و قد بيّن اللّه تعالى قصص المغيّرين بقوله: «لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتٰابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هٰذٰا مِنْ عِنْدِ اللّٰهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً » (3) ،و بقوله: «وَ إِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتٰابِ » (4) ،و بقوله: «إِذْ يُبَيِّتُونَ مٰا لاٰ يَرْضىٰ مِنَ الْقَوْلِ» (5) بعد فقد الرسول ما يقيمون به أود(6)

باطلهم حسب ما فعلته اليهود و النصارى بعد فقد موسى

ص: 111


1- في المخطوطة: «الّتي ليست».
2- قال الفيض (ره) في توضيح هذه الفقرة في حاشية تفسيره: «قوله: «ان الكناية» مفعول للتعريف؛ أراد عليه السلام ان اللّه سبحانه صرّح في كتابه بأسماء المنافقين كما صرّح بأسماء الانبياء، و إنما بدلها المبدلون، و إنما لم يكن من أسماء الانبياء في مقام ذكر هفواتهم، بل صرّح بها تجبرا و تعزّزا لئلا يتخذوا من دونه آلهة. و ليعرف أهل الاستبصار أنّ التكنية عن أسماء المنافقين ليست من فعله، بل هو من فعل المغيّرين، و ذلك لعلمه بأنهم سيبدلونها، و يبقى أسماء الانبياء مصرحا بها بلفظه، «بل» ليست للإضراب بل للترقي.» و قال أبو الحسن العاملي الاصفهاني في مرآة الانوار في شرحها: «ثم ان قوله: «بل تعريفا» متعلّق بمجموع قوله «لم يكن» إلى وجه التصريح، ليس التجبر، بل تعريف أهل الاستبصار. هذا غاية توجيه العبارة المذكورة، و يحتمل أيضا سقوط شيء منها.»
3- البقرة/ 79.
4- آل عمران/ 78.
5- النساء/ 108.
6- الاود: الاعوجاج.

و عيسى من تغيير التوراة و الانجيل، و تحريف الكلم عن مواضعه، و بقوله: «يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللّٰهِ بِأَفْوٰاهِهِمْ وَ يَأْبَى اللّٰهُ إِلاّٰ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ.» (1) يعني: إنّهم أثبتوا في الكتاب ما لم يقله اللّه ليلبسوا على الخليقة، فأعمى اللّه قلوبهم(2) حتّى تركوا فيه ما دلّ على ما أحدثوه فيه و حرّفوه منه، و بيّن عن إفكهم و تلبيسهم، و عن كتمان ما علموه منه؛ و لذلك قال لهم: «لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبٰاطِلِ وَ تَكْتُمُونَ الْحَقَّ؟» (3) و ضرب مثلهم بقوله: «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفٰاءً وَ أَمّٰا مٰا يَنْفَعُ النّٰاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ.» (4) فأمّا «الزبد» في هذا الموضع كلام الملحدين، الّذين أثبتوه في القرآن، فهو يضمحلّ و يبطل، و يتلاشى عند التحصيل؛ و الّذي ينفع الناس منه فالتنزيل الحقيقيّ الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، و القلوب تقبله. و «الارض» في هذا الموضع هي محلّ العلم و قراره، و ليس يسوغ(5) مع عموم التقيّة التصريح بأسماء المبدّلين، و لا الزيادة في آياته على ما أثبتوه من تلقائهم في الكتاب لما في ذلك من تقوية حجج أهل التعطيل و الكفر، و الملل المنحرفة عن قبلتنا، و إبطال هذا العلم الظاهر الّذي قد استكان له الموافق و المخالف بوقوع الاصطلاح على الائتمار

ص: 112


1- التوبة/ 32.
2- في المخطوطة: «على قلوبهم».
3- آل عمران/ 71.
4- الرعد/ 17.
5- في المخطوطة: «سوغ».

لهم و الرضاء بهم، و لأنّ أهل الباطل في القديم و الحديث أكثر عددا من أهل الحقّ، و لأنّ الصبر على ولاة الامر مفروض لقول اللّه عزّ و جلّ لنبيّه: «فَاصْبِرْ كَمٰا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ » (1) ،و ايجابه مثل ذلك على أوليائه و أهل طاعته بقوله:

«لَقَدْ كٰانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّٰهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» (2) - إلى آخره.»(3)

مشتملا على مواضع أخر تدلّ على التغيير:

منها: التصريح بتغيير الكتاب و إسقاط ما فيه من فضل ذوي الفضل و كفر ذوي الكفر منه.

و منها: التصريح بأنّهم تركوا منه ما قد رأوا أنّه لهم و هو عليهم، و زادوا فيه ما ظهر تناكره و تنافره، و علم اللّه أنّ ذلك يظهر و يبيّن، فقال: «ذٰلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ » (4) ،و انكشف لأهل الاستبصار عوارهم و افترائهم، الّذي بدا في الكتاب من الازراء على النبيّ من فرية الملحدين؛ و لذلك قال: «لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَ زُوراً.» (5)

و منها: التصريح بأنّه إسقاط المنافقين بين القسط في اليتامى، و بين نكاح النساء في قوله تعالى: «إِنْ خِفْتُمْ أَلاّٰ تُقْسِطُوا فِي الْيَتٰامىٰ فَانْكِحُوا مٰا طٰابَ لَكُمْ مِنَ النِّسٰاءِ» (6)

ص: 113


1- الاحقاف/ 35.
2- الاحزاب/ 21.
3- الاحتجاج، ج 1، 370-371؛ و الصافي، ج 1، المقدّمة السادسة، ص 28-29؛ و البحار، ج 92، باب ما جاء في كيفية جمع القرآن، ص 43، ح 3؛ و مرآة الانوار، المقدمة الثانية، ص 43-46.
4- النجم/ 30.
5- المجادلة/ 2.
6- النساء/ 3.

من الخطاب و القصص أكثر من ثلث القرآن، إلى غير ذلك.

و الاحاديث الظاهرة في تغيير القرآن و تبديله، و التقديم و التأخير، و الزيادة و النقيصة، و غير ذلك كثيرة، حتّى نقل بعض العارفين المحدّثين عن السيّد نعمة اللّه الجزائري أنّه ذكر في الرسالة الصلاتيّة:

«أنّ الاخبار الدالّة على ذلك تزيد على ألفي حديث.»(1)

و ذكر أنّه لم يقف على حديث واحد يشعر بخلاف ذلك، و قال:

«القرآن الموجود الآن ستّة آلاف آية، و ستّمائة و ستّ و ستّون آية تقريبا.»

و في صحيحة «هشام بن سالم الجواليقي»: «أنّ القرآن الذى نزل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله سبعة عشر ألف آية.»(2)

و في رواية: «ثمانية عشر ألف آية.»(3)

و نقل عن سعد بن إبراهيم الاردبيلي من علماء العامّة في كتاب «الاربعين» أنّه روى باسناده إلى المقداد بن الاسود الكندي، قال:

«كنت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله [و هو](4) متعلّق بأستار الكعبة و يقول: اللّهمّ اعضدني، و اشدد أزري، و اشرح صدري، و

ص: 114


1- مراده من الرسالة الصلاتية هي: رسالة «هدية المؤمنين و تحفة الراغبين»، الموضوعة في بيان أحكام الصلاة، فراجعها، ص 121 (المخطوط).
2- رواه الكليني (ره) في الكافي، ج 2، باب النوادر من كتاب فضل القرآن، ص 634، ح 28، عنه، عن أبي عبد اللّه - عليه السلام -.
3- نقله المولى محمد صالح المازندراني (ره) عن كتاب سليم بن قيس الهلالي (ره) في شرحه على الكافي، ذيل آخر حديث من كتاب فضل القرآن، فراجع.
4- سقط عن المخطوطة.

ارفع ذكري؛ فنزل جبرئيل عليه السّلام و قال: اقرأ: «أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَ وَضَعْنٰا عَنْكَ وِزْرَكَ * اَلَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَ رَفَعْنٰا لَكَ ذِكْرَكَ (1) بعليّ صهرك.» فقرأ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على ابن مسعود، فألحقها في تأليفه (2) ،و أسقطها عثمان.»(3)

[اختلاف العلماء في التّحريف]

و قد اختلف أنظار علمائنا - رحمهم اللّه تعالى - في ذلك؛ فقال عليّ بن إبراهيم - رحمه اللّه تعالى - أستاد الكليني (ره) في أوّل تفسيره:

«فالقرآن [منه] ناسخ، و منه منسوخ، و منه محكم، و منه متشابه، و منه خاصّ، و منه عامّ، و منه تقديم، و منه تأخير، و منه منقطع، و منه معطوف، و منه حرف مكان حرف، و منه محرّف (4) ،و منه على خلاف ما أنزل اللّه عزّ و جلّ، و منه [ما] لفظه عامّ و معناه خاصّ، و منه [ما] لفظه خاصّ و معناه عامّ، و منه آيات بعضها في سورة و تمامها في سورة أخرى - ثمّ ذكر أنواعا كثيرة و قال في آخرها: - و نحن ذاكرون جميع ما ذكرناه آية آية في أوّل الكتاب مع خبرها ليستدل بها على غيرها، و يعرف بها علم ما في الكتاب - إلى أن قال: -

و أمّا التقديم و التأخير، فانّ آية «عدّة النساء» الناسخة تقدّمت على المنسوخة؛ لأنّ في التأليف قد قدّمت آية «عدّة

ص: 115


1- الانشراح/ 1-4.
2- في الاربعين: «مصحفه».
3- تراه في الاربعين (المخطوط)، الحديث التاسع و الثلاثون.
4- هذه الفقرة ليست في بعض النسخ.

النساء أربعة أشهر و عشرا»(1) على آية «عدّة سنة »(2) ،و كان يجب أوّلا أن تقرأ المنسوخة الّتي نزلت قبل، ثمّ الناسخة الّتي نزلت بعد.

و قوله: «أَ فَمَنْ كٰانَ عَلىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شٰاهِدٌ مِنْهُ وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتٰابُ مُوسىٰ إِمٰاماً وَ رَحْمَةً.» (3) فقال الصادق عليه السّلام: إنّما أنزل:

«أ فمن كان على بينه من ربه و يتلوه شاهد منه إماما و رحمة و من قبله كتاب موسى.»

و قوله: «وَ قٰالُوا مٰا هِيَ إِلاّٰ حَيٰاتُنَا الدُّنْيٰا نَمُوتُ وَ نَحْيٰا.» (4)

و إنّما هو: «نحيا و نموت»؛ لأنّ الدهريّة(5) لم يقرّوا بالبعث بعد الموت، و إنّما قالوا: «نحيا و نموت» فقدّموا

ص: 116


1- البقرة/ 234، و هي: «وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْوٰاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً.»
2- البقرة/ 240. و هي: «وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْوٰاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوٰاجِهِمْ مَتٰاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرٰاجٍ.» و نظير قوله (ره) ما قال الفيض (ره) في الصافي، ج 1، المقدمة السادسة، ص 33، و هو: «الآيتان متقاربتان في سورة البقرة. و أما الناسخة المتقدمة، فهي قوله تعالى: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْوٰاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً .و أما المنسوخة المتأخّرة، فهي قوله تعالى: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْوٰاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوٰاجِهِمْ مَتٰاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرٰاجٍ.»
3- هود/ 17.
4- الجاثية/ 24.
5- الدهريون هم القائلون أن العالم موجود أزلا و أبدا لا صانع له، و هم فرقة من الكفار ملحدون، كما في هامش فرق الشيعة، ص 46. و قال الطريحي (ره) في مجمع البحرين: «الدهرية قوم يقولون: لا ربّ و لا جنّة و لا نار، و يقولون، ما يهلكنا إلا الدهر، و هو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان منهم على غير تثبّت.»

حرفا على حرف.

و قوله: «يٰا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اسْجُدِي وَ ارْكَعِي.» (1) و إنّما هو:

«اركعي و اسجدي ».

و قوله: «فَلَعَلَّكَ بٰاخِعٌ (2) نَفْسَكَ عَلىٰ آثٰارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً.» (3) و إنّما هو: «فَلَعَلَّكَ بٰاخِعٌ نَفْسَكَ عَلىٰ آثٰارِهِمْ

أسفا إن لم يؤمنوا بهذا الحديث.» و مثله كثير - إلى أن قال: -

و أمّا ما هو كان على خلاف ما أنزل اللّه، فهو قوله: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّٰاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ.» (4) فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام لقاري هذه الآية:(5)

«خير امّة يقتلون(6) أمير المؤمنين و الحسن و الحسين ابنا عليّ عليهم السّلام؟ فقيل له: كيف انزلت يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟ فقال:

إنّما انزلت: «كنتم خير أئمة اخرجت للناس »؛أ لا ترى مدح اللّه لهم في آخر الآية: «تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ » ؟

و مثله آية قرئ على أبي عبد اللّه عليه السّلام: «اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنٰا

ص: 117


1- آل عمران / 43.
2- في المصباح: «بخع نفسه بخعا، قتلها من وجد أو غيظ.»
3- الكهف/ 6.
4- آل عمران / 110.
5- في المخطوطة: «القراءة».
6- في المخطوطة: «تقتل».

هَبْ لَنٰا مِنْ أَزْوٰاجِنٰا وَ ذُرِّيّٰاتِنٰا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اجْعَلْنٰا لِلْمُتَّقِينَ إِمٰاماً.» (1)

فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

«لقد سألوا اللّه عظيما أن يجعلهم للمتّقين إماما».

فقيل له: يا ابن رسول اللّه، كيف نزلت؟

فقال: «إنّما نزلت: و اجعل لنا من المتقين».

و قوله: «لَهُ مُعَقِّبٰاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّٰهِ.» (2) فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

«كيف يحفظ الشيء من أمر اللّه؟ و كيف يكون المعقّب من بين يديه؟» فقيل له: و كيف ذلك يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله؟ فقال عليه السّلام: «إنّما انزلت: له معقبات من خلفه و رقيب من بين يديه يحفظونه بأمر اللّه.»

و مثله كثير - ثمّ قال: -

و أمّا ما هو محذوف منه، فهو قوله: «لٰكِنِ اللّٰهُ يَشْهَدُ بِمٰا أَنْزَلَ إِلَيْكَ في علىّ عليه السّلام - كذا نزلت - أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ الْمَلاٰئِكَةُ يَشْهَدُونَ » (3).

و قوله: «يٰا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ في علي عليه السلام وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمٰا بَلَّغْتَ رِسٰالَتَهُ.» (4)

و قوله: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا آل محمّد حقّهم لَمْ يَكُنِ اللّٰهُ(5)

ص: 118


1- الفرقان/ 74.
2- الرعد/ 11.
3- النساء/ 166.
4- المائدة/ 67.
5- النساء/ 168.

و قوله: «وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا آل محمد حقهم أي مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ.» (1)

و قوله: «وَ لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا آل محمّد حقّهم فِي غَمَرٰاتِ الْمَوْتِ.» (2)

و مثله كثير نذكره في مواضعه - إلى أن قال: -

و أما الآيات التي هي في سورة و تمامها في سورة أخرى، فقوله في سورة «البقرة» في قصّة بني إسرائيل حين عبر بهم موسى البحر، و غرق اللّه فرعون و أصحابه، و نزل موسى ببني إسرائيل و أنزل اللّه عليهم المنّ و السلوى، فقالوا لموسى:

«لَنْ نَصْبِرَ عَلىٰ طَعٰامٍ وٰاحِدٍ فَادْعُ لَنٰا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنٰا مِمّٰا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهٰا وَ قِثّٰائِهٰا وَ فُومِهٰا وَ عَدَسِهٰا وَ بَصَلِهٰا قٰالَ

لهم موسى أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مٰا سَأَلْتُمْ.» (3) فقالوا له: «يٰا مُوسىٰ إِنَّ فِيهٰا قَوْماً جَبّٰارِينَ وَ إِنّٰا لَنْ نَدْخُلَهٰا حَتّٰى يَخْرُجُوا مِنْهٰا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهٰا فَإِنّٰا دٰاخِلُونَ.» (4) فنصف الآية في سورة «البقرة» و نصفها في سورة «المائدة».

ص: 119


1- الشعراء/ 227.
2- الانعام/ 93، و هي في المصحف هكذا: «وَ لَوْ تَرىٰ إِذِ الظّٰالِمُونَ فِي غَمَرٰاتِ الْمَوْتِ.»
3- البقرة/ 61.
4- المائدة/ 22.

و قوله: «اِكْتَتَبَهٰا فَهِيَ تُمْلىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً» (1) فردّ اللّه عليهم:

«وَ مٰا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتٰابٍ وَ لاٰ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتٰابَ الْمُبْطِلُونَ.» (2)

فنصف الآية في سورة «الفرقان» و نصفها في سورة «العنكبوت».

و مثله كثير، نذكره في مواضعه - إن شاء اللّه تعالى -.»(3)

انتهى.

و الظاهر من حاله أنّ ما ذكره جميعا مأخوذ من أحاديثهم عليهم السّلام.

و استظهر من الكليني اعتقاد التحريف و النقصان في القرآن من جهة روايته روايات في هذا المعنى من دون تعرّض لقدح فيها في الكافي، مع ذكره في أوّله أنّه كان يثق بما رواه فيه.

و كذلك الطبرسي في كتاب «الاحتجاج».

و نسب إلى أكثر الاخباريّين أنّه وقع فيه التحريف و الزيادة و النقصان(4) ،

-

ص: 120


1- الفرقان/ 5.
2- العنكبوت/ 48.
3- القمي، ج 1، المقدمة، ص 5-12.
4- كالسيد نعمة اللّه الجزائري (ره). و قد أورد في رسالته الموسومة ب «منبع الحياة في حجية قول المجتهدين من الاموات» (المخطوط) أدلّة لإثباته و قال: «انّ الاخبار المستفيضة بل المتواترة قد دلّت على وقوع الزيادة و النقصان و التحريف في القرآن؛ منها: ما روي عن مولانا أمير المؤمنين - عليه السلام - لمّا سئل عن التناسب بين الجملتين في قوله تعالى. «وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّٰ تُقْسِطُوا فِي الْيَتٰامىٰ فَانْكِحُوا مٰا طٰابَ لَكُمْ مِنَ النِّسٰاءِ مَثْنىٰ وَ ثُلاٰثَ وَ رُبٰاعَ »،فقال: «و اللّه لقد سقط بينهما أكثر من ثلث القرآن.» و منها: ما روي عن الصادق - عليه السلام - في قوله تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ» قال: «كيف يكون هذه الامة خير أمة و قد قتلوا ابن بنت رسول اللّه؟ ليس هكذا نزلت، و إنما نزلت: «كنتم خير ائمة »؛ يعني: الائمة من أهل البيت - عليهم السلام. و منها: ما روي من الاخبار المستفيضة في أن آية الغدير هكذا نزلت: يٰا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ في عليّ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمٰا بَلَّغْتَ رِسٰالَتَهُ. إلى غير ذلك مما لو جمع لصار كتابا كثير الحجم.» و ذكر في رسالة «هدية المؤمنين و تحفة الراغبين» (المخطوط): «هذا ليس بأول قارورة كسرت في الاسلام لما استفاض في أخبارنا من أن القرآن نزل أربعة أرباع، ربع في مدح عليّ و أهل بيته - عليهم السلام -، و حذفوه بأجمعه، و حرّفوا القرآن و العمل تحريفا بينا، و لكنّا أمرنا في هذه الاعصار بقراءة هذا القرآن و العمل بأحكامه، حتى تظهر دولتهم - عليهم السلام -، و يظهر القرآن الذي جمعه أمير المؤمنين - عليه السلام - و هو الآن مخزون مع سائر الكتب السماوية و المواريث النبوية عند الصاحب عليه السلام. و العجب من الصدوق و المرتضى و الطبرسي - رضوان اللّه عليهم - كيف قالوا: إنّ ما بين دفّتي المصحف هو المنزل من غير حذف و تبديل، مع أن الاخبار الواردة في هذا الباب تزيد على ألفي حديث ما بين صحيح و حسن و موثّق و معتبر، لكنّ الغارة إذا وقعت اشترك فيها الغريب و الصديق!» و مال إليه أيضا جماعة من العلماء في تصانيفهم؛ كالفيض (ره) في الصافي و غيره؛ و الحرّ العاملي (رض) في إثبات الهداة حيث قال ما تقدم في تعليقة 3، ص 106؛ و العاملي الاصفهاني (ره) في مرآة الانوار، المقدمة الثانية، فراجع.

و مال إليه جماعة من الاصوليّين؛ كالمحقق القمّيّ (ره) في ظاهر كلماته(1).

ص: 121


1- وجه الاستظهار من قول المحقق القمي حيث أورد أدلة المثبتين للتحريف و قوّاها و أورد أدلة النافين له و ضعّفها، و اختار في آخر كلامه وقوعه لا في الاحكام. فراجع كلامه في القوانين، قانون حجية الكتاب، ص 385-390.

و عن السيّد المرتضى(1) و الصدوق(2) و الشيخ الطوسي في «التبيان»(3) و الطبرسي(4)

و جمهور المجتهدين عدمه. و نقل الشيخ و الطبرسي الاجماع على نفي الزيادة (5).و ادّعى بعض المتأخّرين إجماع المسلمين عليه، قال:

«و حملوا أحاديث الزيادة على زيادة بعض الحروف في بعض القراءة؛ مثل: ملك و مالك، و مثل: مسكنهم و مساكنهم.»

ص: 122


1- ذكر رحمه اللّه في جواب المسائل الطرابلسيات على ما نقله الطبرسي (ره) في مجمع البيان، ج 1، الفن الخامس، ص 15: «انّ العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان و الحوادث الكبار و الوقائع العظام، و الكتب المشهورة و أشعار العرب المسطورة، فان العناية اشتدت و الدواعي توفّرت على نقله و حراسته، و بلغت إلى حدّ لم يبلغه فيما ذكرناه؛ لأن القرآن معجزة النبوة و مأخذ العلوم الشرعية و الاحكام الدينية، و علماء المسلمين قد بلغوا في حفظه و حمايته الغاية، حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من إعرابه و قراءته و حروفه و آياته، فكيف يجوز أن يكون مغيرا أو منقوصا مع العناية الصادقة و الضبط الشديد؟»
2- قال رحمه اللّه: «اعتقادنا ان القرآن الذى أنزله اللّه على نبيه - صلّى اللّه عليه و آله - هو ما بين الدفّتين، و ما في أيدي الناس، ليس بأكثر من ذلك - الى ان قال: - و من نسب إلينا انا نقول انه أكثر من ذلك فهو كاذب.» راجع الاعتقادات، الباب الثالث و الثلاثون.
3- التبيان، ج 1، المقدمة، ص 3. قال: «و أما الكلام في زيادته و نقصانه، فممّا لا يليق به أيضا؛ لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانها، و النقصان منه فالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه، و هو الاليق بالصحيح من مذهبنا، و هو الذي نصره المرتضى (ره)، و هو الظاهر في الروايات، غير أنه رويت روايات كثيرة من جهة الخاصة و العامة بنقصان كثير من آي القرآن، و نقل شيء منه من موضع إلى موضع، طريقها الآحاد التي لا توجب علما و لا عملا، و الاولى الاعراض عنها، و ترك التشاغل بها، لأنه يمكن تأويلها، و لو صحّت لما كان ذلك طعنا على ما هو موجود بين الدفتين، فانّ ذلك معلوم صحّته، لا يعترضه أحد من الامة و لا يدفعه.»
4- مجمع البيان، ج 1، المقدمة، الفن الخامس، ص 15. و كلامه فيه هو: «فأما الزيادة فيه فمجمع على بطلانه، و أما النقصان منه، فقد روى جماعة من أصحابنا و قوم من حشوية العامة انّ في القرآن تغييرا و نقصانا، و الصحيح من مذهبنا خلافه.»
5- راجع التعليقتين السابقتين.

[معنى التحريف و الزيادة]

و استظهر من الزيادة أن يكون هي الحاصلة من التقديم و التأخير؛ كما في قوله: «أَ فَمَنْ كٰانَ عَلىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ - الخ» على ما مرّ، فكان الكلام المؤخر زائدا في المكان الثاني ناقصا من الاوّل، و الكلام المقدّم زائدا في المكان الاوّل ناقصا من المكان الثاني.

و يمكن حمله على التحريف، فانّ المكتوب عوض ما كان زيادة، و إسقاط ما كان نقيصة؛ كتبديل «من» ب «الباء» في «مِنْ أَمْرِ اللّٰهِ »،و «من» ب «اللام» في «لِلْمُتَّقِينَ »كما سبق.

و ربّما يعبّر عن التحريف بالزيادة و النقصان في العرف، كما يظهر من ملاحظة ترجمتهما بالفارسيّة، كما يسمّى تبديلا و تحريفا؛ و قد ورد في جواب الصحابة لنبيّهم صلّى اللّه عليه و آله على الحوض إذا سألهم: «كيف خلفتموني في الثقلين من بعدي؟» أنّهم يقولون:

«أمّا الاكبر فحرّفناه و بدّلناه - الخ.»(1)

و يدلّ على نفي الزيادة بالوجوه الآخر كزيادة آية، أو جملة، أو كلام، مضافا إلى الاجماع المتقدّم ما حكيناه سابقا عن العيّاشي أنّه: «لم يزد فيه إلا حروفا

ص: 123


1- أورده محمد بن بحر الرهني من علماء العامة في الجزء الثاني من كتاب مقدمات علم القرآن؛ و نقله الجزائري (رض) في منبع الحياة (المخطوط)؛ و المحقق القمي (ره) في القوانين قانون حجية الكتاب، ص 389، نقلا عنه. و هذا المعنى قد ورد في روايات كثيرة؛ كرواية علي بن إبراهيم (ره) عن أبي ذر (رض)، عن رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله - في قوله تعالى: «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ »؛قال صلّى اللّه عليه و آله: «يرد على أمتى يوم القيامة على خمس رايات، فراية مع عجل هذه الامة، فأسألهم: ما فعلتم بالثقلين من بعدي؟ فيقولون: أما الاكبر، فحرّفناه و نبذناه وراء ظهورنا - الخ.» فراجع القمي، ج 1، ص 109.

أخطأت به الكتبة »(1) ،و ما سبق من مخاطبة أمير المؤمنين عليه السّلام لطلحة(2) حيث ذكر «أن الموجود قرآن كلّه» و لم ينكره عليه السّلام، بل ربّما سيظهر من قول طلحة بعد ذلك: «حسبى إذا كان قرآنا» أنّه فهم تقريره عليه السّلام لذلك و غير ذلك، و ما ذكره السيّد المرتضى - رحمه اللّه تعالى - من أنّ:

«العلم بتفصيل القرآن و أبعاضه في صحّة نقله كالعلم بجملته، و جرى ذلك مجرى ما علم ضرورة من الكتب المصنّفة؛ ككتاب «سيبويه» و «المزني». فانّ أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلها ما يعلمونه من جملتها، حتّى لو أنّ مدخلا أدخل في كتاب «سيبويه» بابا في النحو ليس من الكتاب لعرف و ميّز، و علم أنّه ملحق و ليس من أصل الكتاب، و كذلك القول في كتاب «المزني». و معلوم أنّ العناية بنقل القرآن و ضبطه أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه و دواوين الشعراء.»(3)

و أيضا فانّ كثيرا من وجوه إعجاز القرآن تأبى عن زيادة آية أو كلام يشبهه، و من نظر في آيات القرآن نظر تدبّر و استبصار، فربّما لاح له أنّه لم يدخل فيه كلام آخر؛ إذ لو كان لخرج عن أسلوبه و مشاكلته، و صار كحبّة شعير في صاع من حنطة بخلاف التحريف اليسير لبقاء الاسلوب و التركيب و غيرهما. أ ما سمعت بعض ما وضعه المبطلون في مقابل آيات القرآن؟ هل يشابهه، أو يمكن خفاء مغايرته له و مباينته معه على بصير؟

ص: 124


1- قد تقدم في هذه المقدمة، فراجع ص 107.
2- قد تقدم في هذه المقدمة، فراجع ص 107-109.
3- راجع المصدر المذكور في تعليقة 1 ص 122.

و هذا عمدة جهات الفرق بين الزيادة و غيرها من وجوه التصرّف و بين القرآن المجيد و سائر الكتب المنزلة على ما هو الظاهر من شأنها. فان القرآن المجيد نزل معجزا بألفاظه و معانيه، بحيث يعجز الخلق عن الاتيان بآية مثله في أنظار الالباب، بحيث يرونه مماثلا له؛ مضافا إلى ان التحريف على تقدير وقوعه إنّما هو من فعل رؤساء المنافقين و أتباعهم، و لو كان بنائهم على الزيادة لزادوا فيه ما يشيّد به أركان باطلهم، و يهدم به الحقّ. فلمّا لاحظنا آيات القرآن لم نجد شيئا منه يؤسّس شيئا من باطلهم، و لا يدلّ على شيء من أضاليلهم الّتي كانوا ساعين في إقامتها، و لا مقيما سوق رياستهم.

و ما يتراءى منه فى بادئ النظر أمر لا يوافق الاصول الصحيحة، فبعد تدقيق النظر فيه و استعمال العقل المبرّأ عن وساوس الشيطان في فهمه يظهر خلافه، و أنّه «لاٰ يَأْتِيهِ الْبٰاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاٰ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ » .على أنّه لو أدخل فى القرآن ما ليس منه، لكان ذلك أولى ببيان المعصومين عليهم السّلام إيّاه من النقيصة الّتي وردت بها الاخبار الكثيرة. و لم أظفر إلى الآن بخبر واحد يدلّ على زيادة آية واحدة بخصوصها، سوى ما يتراءى من رواية الاحتجاج الاخيرة مع معارضتها فى مورده بغيره ظاهرا، و عدم موافقة العقل لهذا المعنى المترائى منه؛ إذ الآيات المذكورة لها معان صحيحة يحكم العقل بصحّتها من دون أن يلزم منه انتقاص بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله على طبق ما ورد بعضها في كلامهم، بل في الرواية المذكورة إشكال آخر، و هو أنّه كيف يخاطب الزنديق بما فيه لغوية حجج أهل التعطيل و الكفر و الملل المنحرفة عن ملّتنا على ما صرّح به فيه؛ إذ لا نجد فرقا بين التصريح بزيادة آيات مخصوصة و بين بيانه إجمالا؛ بل الثاني أضرّ بالعقائد؛ إذ يسرى به الشكّ إلى جميع ما في القرآن، مع أنّ المترائى من ذيلها بيان بعضها. على أنّي لم أجد ألفاظ الخبر و كيفيّة بيانه على أسلوب سائر أحاديثهم، لكنّي لا أردّه و لا أنكره مع ذلك كلّه

ص: 125

بل أكل علمه إليهم، و أصدّق بما أريد به واقعا لو كان صادرا عنهم عليهم السّلام، و نردّ ذلك إليهم، و احتمل فيه أن يكون الحديث منقولا بالمعنى بزيادة و نقيصة. و مع هذا كلّه فهو خبر واحد ضعيف الاسناد ظاهرا، غير صريح في أمر زائد على التحريف بالمعنى المتقدّم.

[معنى التّحريف و النّقيصة]

و أمّا التحريف و النقيصة، فمع ورودها في الروايات الكثيرة من جهة العامّة و الخاصّة كما اعترف به الشيخ في تبيانه (1) ،و عدم ظهور معارض لها، لا أجد نافيا لها، مثبتا لعدمها، و مجرّد الشهرة المنقولة على النفي لا يصلح للاعتماد عليه، خصوصا في مثل المقام الّذي ليس من المسائل الفرعيّة بنفسه؛ مع أنّه نقل وجود المخالف في كل آن من زمن الائمة عليهم السّلام إلى هذا الآن، و إن اختلفت الشهرة باختلاف الازمنة، و لم يظهر لي أمر ينافي صحّة هذا النقل.

[نقد أدلّة النّافين للتّحريف]

و أمّا ما يذكر دليلا للنافين، فهي وجوه ضعيفة؛ كقوله: «لاٰ يَأْتِيهِ الْبٰاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاٰ مِنْ خَلْفِهِ » (2).

و فيه أنّ سقوط البعض عن النسخ الشائعة أو تحريفه ليس مبطلا للقرآن الواقعيّ، خصوصا بعد حفظه عند أهله، إذ ليس إبطال الكلام إلا بما يجعله باطلا مخالفا للواقع، و يكون حجّة على ذلك، أو رافعا له، أو اشتماله على الباطل في الاخبار عن الماضي أو المستقبل أو الحال. و هل يصحّ أن يقول أحد - العياذ باللّه - بطل كلام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الائمّة عليهم السّلام و أبطله الراوون إذ غيّروا كلامهم بزيادة و نقيصة أو أتاه الباطل؟

ص: 126


1- قد مرّ آنفا، فراجع تعليقة 3 ص 122
2- فصّلت/ 42.

و كقوله: «إِنّٰا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّٰا لَهُ لَحٰافِظُونَ » (1).

و فيه أنّه إن حمل على غير حفظ الحروف في المصاحف و القلوب فلا ربط له بالمقام و إن حمل عليه، فان أريد حفظه في الجميع لزم انتفاء الغلط في المصاحف الموجودة بين الناس، و عدم ضياع المصاحف و بقائها على حالها أبد الدهر، و عدم سهو أحد في حفظه، و عدم نسيانه له، و المشاهد المحسوس كثرة خلاف ذلك؛ إذ قلّما يوجد مصحف صحيح تامّ لا غلط فيه، و لا لها بقاء أزيد من سائر الكتب، و يرد عليه المحو و الاندراس و كثرة غلط حفظة السور و القرآن و نسيانهم إيّاه.

و إن أريد حفظه في الجملة بأن يكون باقيا و لو في بعض، فيكفي فيه كونه محفوظا عند أهله، على أنّ الحفظ غير موقّت بالابد، فيمكن كونه محفوظا إلى زمان وقوع التحريف؛ مع أنّه لم يصرّح فيه بالحفظ عن كلّ تحريف و تبديل، فيمكن بقاء الاكثر محفوظا عند الناس و وقوع التصرّف في القليل، فلا يضرّ في صدق الاسم عرفا مضافا إلى احتمال إرادة العلم من الحفظ، كما احتمله المحقّق القمي(2).

و كدعوى أنّ: «القول بجواز التبديل فتح لباب الكلام على إعجاز القرآن».

و فيه ما أشرنا إليه من ذلك في الزيادة بالمعنى المتقدّم، و لا يلزم من غيره خصوصا النقيصة.

ص: 127


1- الحجر/ 9.
2- قال رحمه اللّه في بحثه عن التحريف: «و أما الدليل على الثاني، فقوله... و قوله تعالى: «إِنّٰا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنّٰا لَهُ لَحٰافِظُونَ.» و فيه انه لا يدلّ على عدم التغيير في القرآن الذي بأيدينا، فيكفي كونه محفوظا عند الائمة - عليهم السلام - في حفظ أصل القرآن في مصداق الآية. و لا ريب أنّ ما في أيدينا أيضا محفوظ من أن يتطرق إليه نقص آخر أو زيادة، مع احتمال أن يراد من قوله تعالى «لَحٰافِظُونَ »:لعالمون.» راجع القوانين، الباب السادس، ص 389.

و كدعوى أنّ ذلك مناف للأخبار الدالّة على التمسّك بالكتاب؛ كخبر «الثقلين »(1) ،و روايات عرض الاخبار عليه و الاخذ بما وافقه(2) باعتبار دلالتها على بقاء الكتاب في كلّ وقت؛ إذ لا معنى للأمر بالتمسّك بما لا يوجد عندنا، كما أنّ الامام موجود في كلّ عصر، أو باعتبار استظهار إرادة الكتاب الموجود عندنا في كثير منها؛ مع أنّه على تقدير التحريف لا يجوز التمسّك بها؛ إذ ليس المحرّف كلام اللّه حتى يكون دليلا، بل كلام مخلوق منافق أو فاسق أو نحوهما.

و فيه أنّه يكفي بقائه واقعا كبقاء المعصوم، فيكون لكلا الثقلين حالان:

غيبة لا نتمكّن من الوصول إليه، و ظهور و حضور يتمكّن الناس من الاخذ به تفصيلا، على أنّ قيد التمكّن معتبر في الاوامر، فالمأمور به هو المقدار المقدور من التمسّك بالكتاب، أو عرض الحبر عليه، أو الاخذ به، فيصحّ أن يكون في البعض غير مقدور؛ كالمتشابهات، و لو حمل بالنسبة إليها على التمسّك الاجمالي جرى فيما نحن فيه أيضا؛ مع أنّ أكثر آيات الكتاب الوارد في الاحكام غير وافية بنفسها بالتفاصيل في أنظارنا القاصرة.

و أمّا دعوى أنّه لا يصحّ التمسّك بالكتاب الموجود حينئذ.

ففيه أنّه يمكن أن يكون المعصوم عليه السّلام عالما بأنّه لم يقع فيه تحريف يوجب تغيير حكم، كما استظهر من بعض دعوى الاجماع عليه. و يمكن أن يكون حكما ظاهريّا؛ كالامر بالأخذ بالأحاديث مع كثرة وقوع الاختلال فيها، كما أنّ الدلالة ظنّيّة غالبا، فليكن اللّفظ أيضا كذلك؛ إذ الحكم ظاهريّ بالنسبة إلى الدلالة الظنّيّة و لو حمل على التمسّك بالمراد الواقعيّ، فانقطاع الايدي عنه كانقطاعها عن مصحف الامام عليه السّلام. و يؤيّده ورود عرض الخبر على السنّة و التمسّك بها أيضا مع

ص: 128


1- تقدم في المقدمة الاولى، ص 17. و قد علمت كثرة أخباره و تعدّد طرقه فيما سبق.
2- تقدم في المقدمة الثانية، ص 44-47، فراجع.

العلم بوقوع التصرّف بالنقصان و التحريف فيها، مضافا إلى أنّه إنّما يلزم ذلك لو لم يصل إلينا من ناحية المعصومين عليهم السّلام مواضع التحريف.

و أمّا ما نقص من الكتاب فليس المصيبة به أعظم من مصابنا بالغيبة(1) المستندة إلى أعمالنا السيّئة.

و كدعوى أنّ القرآن ممّا يتوفّر الدواعي علي نقله، و اشتدّت العناية على حراسته، إذ القرآن معجز النبوّة و مأخذ الاحكام الدينيّة، و كلّما كان كذلك فالعادة تقتضي بنقله متواترا، فما لم ينقل كذلك ليس قرآنا، و علماء المسلمين قد بلغوا في حفظه و حمايته الغاية، حتّى عرفوا كلّ شيء اختلف فيه من إعرابه و قراءته و حروفه و آياته؛ مع أنّ القرآن كان على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مجموعا مؤلّفا على ما هو عليه الآن؛ إذ القرآن كان يدرس و يحفظ جميعه في ذلك الزمان حتّى يمكن على جماعة من الصحابة في حفظهم له، و أنّه كان يعرض على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و يتلى عليه، و أنّ جماعة من الصحابة مثل: «عبد اللّه بن مسعود» و «أبيّ بن كعب» و غيرهما ختموا القرآن علي النبىّ صلّى اللّه عليه و آله عدّة ختمات، و كلّ ذلك يدلّ على أنه كان مجموعا مرتّبا غير مبثوث، و لو تمكّن المستولون على الخلافة و أتباعهم على تغيير المصاحف المكتوبة، فما كانوا متمكّنين من تغيير ما حفظ فى القلوب.

و فيه أنّ توفّر الدواعي على حفظه من جهة الاعجاز في القرآن كتوفّره

ص: 129


1- المقصود هو: غيبة الامام المنتظر و الحجة الثانى عشر - عجل اللّه تعالى فرجه الشريف -، و استنادها إلى معاصي العباد مؤيد بالاخبار؛ منها: كلام القائم - عليه السلام - في كتابه إلى الشيخ المفيد (قده)، و هي: «و لو أنّ أشياعنا - وفّقهم اللّه لطاعته - على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم لما تأخّر عنهم اليمن بلقائنا، و لتعجّلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حق المعرفة و صدقها منهم بنا. فما يحبسنا عنهم إلا ما يتصل بنا ممّا نكرهه و لا نؤثره منهم.» فراجع الاحتجاج، ج 2، ص 325، و البحار، ج 53، باب 31، ص 176، ح 8.

على سائر المعجزات الّتى لم تنقل غالبا إلا من جهة الآحاد. و لعلّ ما لم ينقل منها كثير، مع أنّ انتفاع غالب الناس بها من حيث الوضوح أكثر من القرآن لعدم شدّة ظهور الاعجاز فيه، كظهوره عندهم في غيره، و إن كان عند الكاملين بالعكس و من جهة كونه أصلا لسائر الاحكام، كالسنّة الّتى وقع في نقلها اختلالات لا تحصى و اهتمام علماء الاعصار فى ضبطه و حراسته إنّما وقع بعد الصدر الاوّل الّذي وقع ما وقع فيها.

[كيفيّة جمع القرآن و زمانه]

و أمّا كونه مجموعا في زمانه صلّى اللّه عليه و آله فلم يثبت (1) ،قال السيّد نعمة اللّه -

ص: 130


1- اعلم أن جماعة من العلماء ذهبوا إلى جمع القرآن في عهد النبي - صلّى اللّه عليه و آله -، و أن كثيرا منهم نصروا المؤلّف (قده) على جمعه بعده - صلّى اللّه عليه و آله - فمن الاول: السيد المرتضى - طاب ثراه -، الذي قال في جواب المسائل الطرابلسيات كما في مجمع البيان، ج 1، الفن الخامس، ص 15: «انّ القرآن كان على عهد رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله - مجموعا مؤلّفا على ما هو عليه الآن.» و استدلّ على ذلك بأن: «القرآن كان يدرس و يحفظ جميعه في ذلك الزمان، حتى عين على جماعة من الصحابة فى حفظهم له و ان كان يعرض على النبي - صلّى اللّه عليه و آله - و يتلى عليه، و أن جماعة من الصحابة مثل: «عبد اللّه بن مسعود» و «أبي بن كعب» و غيرهما ختموا القرآن على النبي - صلّى اللّه عليه و آله - عدة ختمات، و كل ذلك يدلّ بأدنى تأمل على أنه كان مجموعا مرتبا غير مبتور و لا مبثوث.» و هكذا آية اللّه العظمى السيد أبو القاسم الخوئى - متع اللّه المسلمين بطول بقائه - و قد أجاد الكلام فيه في تفسير البيان. و من الثاني زائدا على من ذكره (ره) من الخاصة و العامة، أبو الحسن الشريف - رضوان اللّه تعالى عليه -، قال في مرآة الانوار، المقدمة الثانية، ص 51 في جواب السيد المرتضى (ره) بعد ذكر كلامه المتقدم: «و جوابه أن القرآن مجموعا في عهد النبي - صلّى اللّه عليه و آله - على ما هو عليه الآن غير ثابت، بل غير صريح. و كيف كان مجموعا و إنما كان ينزل نجوما، و كان لا يتمّ إلا بتمام عمره؟ و لقد شاع و ذاع و طرق الاسماع في جميع الاصقاع أن عليا - عليه السلام - قعد بعد وفاة النبي - صلّى اللّه عليه و آله - في بيته أياما مشتغلا بجمع القرآن. و أما درسه و ختمه، فانما كانوا يدرسون و يختمون ما كان عندهم منه، لاتمامه.» و أيضا الشيخ آقابزرگ الطهراني (ره)، في رسالة «النقد اللطيف في نفي التحريف عن القرآن الشريف» (المخطوط)، التي أثبت فيها حجية مصحف الموجود، و أيد إجماع المسلمين على نفي الزيادة و النقيصة العينية فيه، و اعتقد أن المقصود من الالفاظ الواقعة في متون الاخبار كالتنقيص و الاسقاط و المحو و الطرح و غيرها، هو التنقيص الاجمالي المتوجه إلى الباقى، الذي سقط عن الجامعين، لا المصحف الموجود؛ قال: «المصرّح به في كلمات أهل السير أن القرآن لم يكن في عهد رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله - مجموعا بين الدفتين على الترتيب المشهور في اليوم، و ما كان في موضع واحد مرسوما و لا بالمصحف موسوما، بل الجمع كذلك كان بعد رحلته - صلّى اللّه عليه و آله -.» و استشهد على ما رواه السيوطي في كتاب الاتقان، النوع الثامن، ص 57، عن زيد بن ثابت، و ما حكاه فيه أيضا من تعليل أبي سليمان حمد الخطابي المتوفى سنة 388 لعدم جمع النبي - صلى اللّه عليه و آله - القرآن في حياته بقوله: «انما لم يجمع رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله - القرآن في المصحف لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه، أو تلاوته - إلى قوله: - و قد كان القرآن كتب كله في عهد رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله -، لكن غير مجموع في موضع واحد، و لا مرتب السور.» و على ما رواه أبو الفرج ابن الجوزى في كتابه «نقد العلم و العلماء» عن زيد بن ثابت، ثم قال: «إلى غير ذلك من كلماتهم الصريحة في أن الجمع كذلك كان بعد عصره - صلّى اللّه عليه و آله - و ان اختلفت في أنه في عصر أبي بكر أو عمر أو عثمان؛ لكنّ الكلّ متفق على عدم الجمع في موضع واحد في عصره - صلّى اللّه عليه و آله -.»

الجزائري (ره) في رسالته(1):

ص: 131


1- منبع الحياة (المخطوط)، و هكذا نقله المحقق القمّي في القوانين، قانون حجية الكتاب، ص 385-386.

«إنّ القرآن كان ينزل منجّما على حسب المصالح و الوقائع و كتّاب الوحي كانوا أربعة عشر رجلا من الصحابة، و كان رئيسهم أمير المؤمنين عليه السّلام، و قد كانوا في الاغلب ما يكتبون إلا ما يتعلّق بالاحكام و إلا ما يوحى إليه في المحافل و المجامع. و أمّا الّذي كان يكتب ما ينزل عليه في خلواته و منازله، فليس هو إلا أمير المؤمنين عليه السّلام؛ لأنّه كان يدور معه ما دار، فكان مصحفه أجمع من غيره من المصاحف. فلمّا مضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى لقاء حبيبه و تفرّقت الاهواء بعده جمع أمير المؤمنين عليه السّلام القرآن كما أنزل، و شدّه بردائه و أتى به إلى المسجد [و فيه الاعرابيان و أعيان الصحابة ](1) ، فقال لهم: «هذا كتاب ربّكم كما أنزل.»

فقال [له الاعرابيّ الجلف ](2): «ليس لنا [فيه](3) حاجة، هذا عندنا مصحف عثمان».

فقال عليه السّلام: «لن تروه و لن يراه أحد حتّى يظهر القائم - عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف -» - إلى أن قال: -

و هذا القرآن كان عند الائمّة عليهم السّلام يتلونه في خلواتهم.»

و ساق الكلام إلى أن ذكر حكاية عثمان ما عدا مصحفه من مصاحف كتّاب الوحي، و قال:

فلو لا حصول المخالفة بينها لما ارتكب بهذا الامر الشنيع، الّذي صار من أعظم المطاعن عليه.

ثمّ حكى عن ابن طاوس:

ص: 132


1- سقط عن المخطوطة.
2- سقط عن المخطوطة.
3- سقط عن المخطوطة.

«أنّه نقل عن محمّد بن بحر الرهني - و هو من أعاظم علماء العامّة - في بيان التفاوت في المصاحف الّتي بعث بها عثمان إلى أهل الامصار، قال: «اتّخذ عثمان سبع نسخ فحبس منها بالمدينة مصحفا و أرسل إلى أهل مكّة مصحفا، و إلى أهل الشام مصحفا، و إلى أهل الكوفة مصحفا، و إلى أهل البصرة مصحفا، و إلى أهل اليمن مصحفا، و إلى أهل البحرين مصحفا.»(1)

ثمّ عدّد ما وقع فيها من الاختلاف بالكلمات و الحروف، مع أنّها كلّها بخطّ عثمان، فكيف حال ما ليس بخطّه؟» إلى آخر ما ذكره رحمه اللّه.

و أنت إذا تدبّرت ما نقل في كيفيّة جمع القرآن من طريق العامّة فضلا عن الخاصّة ظهر لك أنّه ليس الامر على ما زعموه.

قال النيشابوري في أوّل تفسيره - و هو من علمائهم، الموالين لأعداء الائمة عليهم السّلام، الناصرين لهم - في كيفيّة جمع القرآن:

«روي عن زيد [بن] ثابت أنّه قال: أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة و إذا عنده عمر، فقال أبو بكر: إنّ عمر أتاني فقال: إنّ القتل قد استحرّ(2) بقرّاء القرآن يوم اليمامة، و إنّي أخشى أن يستحرّ القتل بالقرّاء في المواطن كلّها، فيذهب قرآن كثير، و إنّي أرى أن تأمر بجمع القرآن، قال: فقلت: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول اللّه

ص: 133


1- نقله السيد الاجل علي بن طاوس (رض) في سعد السعود، ص 279.
2- أي: اشتدّ.

صلّى اللّه عليه و آله؟ فقال لى: هو و اللّه خير. فلم يزل [عمر] يراجعني في ذلك حتّى شرح اللّه صدري له، فرأيت فيه الّذي رأى عمر.

قال زيد بن ثابت: قال أبو بكر: إنّك رجل شابّ عاقل لا نتّهمك، قد كنت تكتب الوحي لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فتتبّع القرآن فاجمعه، فتتبّعت القرآن أجمعه من الرقاع(1) و العسب(2)

و اللّخاف(3) و من صدور الرجال.

و كانت الصحف عند أبي بكر حتّى مات، ثمّ كانت عند عمر حتّى مات (4) ،ثمّ كانت عند حفصة مدّة إلى أن أرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إليّ بالصحف ننسخها في المصاحف ثمّ نردّها عليك، فأرسلت إلى عثمان، فأرسل عثمان إلى «زيد بن ثابت» و إلى «عبد اللّه بن زبير» و «سعيد بن العاص» و «عبد الرحمن بن الحرث بن هشام»، فأمرهم أن ينسخوا الصحف في المصاحف، ثمّ قال للرهط القرشيّين الثلاثة: ما اختلفتم فيه أنتم و زيد فاكتبوه بلسان قريش، فانّه نزل بلسانهم.

قال: ففعلوا حتّى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، بعث عثمان في كلّ افق بمصحف من تلك المصاحف، و أمر بما سوى ذلك من القرآن أن يحرق أو يخرق.»(5)

ص: 134


1- «الرقاع» جمع رقعة، من رقعت الثوب اذا جعلت مكان القطع خرقة.
2- «العسب» جريدة النخل، و فى المخطوطة: «العشب»، و هو لا يلائم المعنى.
3- «اللخاف» جمع لخفة، و هى حجارة بيض.
4- فى المخطوطة: «فات».
5- تفسير النيشابوري، ص 9. و هذه ليست بخبر واحد، بل مركّب من الاخبار، و قد أخرجها البخاري و الترمذي و النسائي و أحمد و غيرهم في كتبهم كما في البحار، ج 92، باب ما جاء في كيفية جمع القرآن، ص 75-77، و مرآة الانوار، المقدمة الثانية، ص 39-40.

انتهى المقصود من كلامه.

فانظر بعين التدبّر أنّ الّذين كتبوا الرقاع و العسب و اللخاف و من أخذ من صدورهم هل كانوا معصومين من الخطأ و النسيان و السهو و تعمّد الكذب؟ أو أنّه أخذ كلّ آية آية من جماعة بالغة إلى عدد التواتر؟ أو اقترنت بالقرائن المفيدة للعلم و إلى أنّ الجماعة المستودعين للصحف كانوا ضابطين لها بحيث يعلم عدم سقوط شيء منها؟ و إلى أنّ الاربعة المباشرين للنسخ معصومون في نسخهم على ما يظهر من حالهم في الآثار؟ و إلى أنّ وقوع الاختلاف في القطعيّات ممكن؟ و إلى أنّ تحريق ما لا يوافق تلك النسخ و تخريقه هل يتصوّر له داع يعتذر به عثمان إلى المسلمين، مع ما كان عليه من حفظ ظاهره نفاقا و رياء؟ إلى غير ذلك.

[اختلاف القراءات]

و لو كان الكلّ متّفقين فما هذا الاختلاف الواقع بين القرّاء من الصحابة و التابعين و من بعدهم في الكلمات و الموادّ و الحروف و الهيئات ممّا ملئوا به كتب التفسير و القراءة؟ و يعدّون منهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الائمّة عليهم السّلام، بل ينقلون منهم قراءات شاذّة باصطلاحهم، فراجعها و تثبّتها و استخبرها تجدها ناطقة بخلاف ما قالوا.

أ لا ترى أنّ سورة «الحمد» الّتي يحفظها الصبيان و الجواري، و يجب على كلّ مكلّف قراءته في اليوم و الليلة عشر مرّات وجوبا عينيّا في غير الجماعة، و يسمعها المأموم(1) كذلك في الجماعات، كيف وقع فيها الاختلاف الكثير من الصحابة و التابعين و من يتلوهم من حيث الكلمة، و الهيئة المغيّرة للمعنى، و الحرف و الاعراب المغير للمعنى التركيبي و غيرها؟ فراجع «الكشاف»(2) و «مجمع البيان»(3)

ص: 135


1- في المخطوطة: «المأمون».
2- ج 1، ص 9.
3- ج 1، ص 23.

أو غيرهما، و كفى بالاختلاف الواقع في «مٰالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» و «مالك» عند المشهورين منهم غير سائر القراءات الّتي قرأها أهل الصدر الاوّل و من يتلوهم في هذه الآية.

أ ليس المعنى و الحروف مختلفة مع أنّ الظاهر عندنا أنّ القرآن حرف واحد نزل من عند واحد؟ فقس على ذلك حال سائر القرآن، مضافا إلى ما وقع فيه الاختلاف بين المسلمين ممّا يعمّ به البلوى؛ كغسل اليدين في الوضوء مستويا و منكوسا، و كالغسل و المسح في الرجلين و غيرهما.

و ذكر بعض العارفين:

«أنّ الكتاب دلّ بصريحه المؤيّد بالحديث المجمع على معناه من المسلمين كافّة على أنّه مغيّر محذوف منه كثير بمعونة الاحاديث المجمع عليها من المسلمين، و هي ما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

«لتركبنّ سنن من كان قبلكم؛ حذو النعل بالنعل، و القذّة(1)

بالقذّة، حتّى لو سلكوا جحر ضبّ لسلكتموه.»(2)

و هذا لا يختلف في معناه اثنان من الشيعة - ثمّ نقله من طرق العامّة عن «أبي ليث الواقدي»، ثمّ قال: - و هذا الحديث لا يختلف في معناه اثنان منهم، فقد حصل إجماع المسلمين على المعنى.

ص: 136


1- «القذة» أي: ريش السهم.
2- قد رواه كثير من علماء الخاصة و العامة في كتبهم بألفاظ و أسانيد مختلفة و طرق متعددة، كسليم بن قيس و القمي و الشيخ و الصدوق و غيرهم - رضوان اللّه تعالى عليهم - من الخاصة، و البخاري و مسلم و الترمذي و أحمد و الحاكم و الهيثمي و غيرهم من العامة، فراجع البحار، الباب الاول من كتاب الفتن و المحن؛ و مرآة الانوار، ص 33-34، و مجمع الزوائد، ج 7، ص 261، و جامع الاصول.

و في صريح القرآن: «وَ كَتَبْنٰا لَهُ فِي الْأَلْوٰاحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ ءٍ.» (1) و هذه التوراة الّتي عند اليهود قد غيّروا فيها صفة محمّد صلّى اللّه عليه و آله بالاجماع من المسلمين، و قد أخبر القرآن عن كثير من ذلك.

و منه قوله تعالى (2):وَ قَدْ كٰانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يعني: من أسلافهم اليهود يَسْمَعُونَ كَلاٰمَ اللّٰهِ في أصل جبل طور سيناء و أوامره و نواهيه ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ عمّا سمعوه إذ أدّوه إلى من ورائهم من بني إسرائيل مِنْ بَعْدِ مٰا عَقَلُوهُ فهموه بعقولهم وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أنهم في قولهم كاذبون.»

انتهى كلامه.

و لعلّ مثل هذا الاستدلال هو المعنيّ في رواية الاحتجاج الاخيرة (3) ،فراجع.

[اختيار القول بالتحريف في الجملة]

فالظاهر من ملاحظة ما ذكرناه هو وقوع التحريف في القرآن مادّة و هيئة و كلمة، و زيادة بعض الحروف و نقصانه، و التقديم و التأخير، و نقصان كثير؛ لكن التصرّف الواقع فيه إمّا أن لا يكون مضرّا بصحّة معنى الكلام الموجود، أو يكون مبيّنا في كلام الائمّة عليهم السّلام حفظا للدين، بل الأصل في مطلق التحريف ذلك، إلا أن يمنع عنه مانع مدفوع بالأصل، أو بيّن لهم و لم يصل إلينا، و الظاهر عدمه.

و بالجملة فالقرآن الموجود الآن حجّة ظاهرا بدلالة الأخبار الكثيرة

ص: 137


1- الاعراف/ 145.
2- البقرة/ 75.
3- راجع صفحة 111.

المتقدّم كثير منها، و ليس هذا المقدار من التصرّف مقصورا على طريقتنا بل على طريقة العامّة؛ إذا لاحظ المنصف اختلاف القراءات بين السلف ظنّ وقوع أمثال ذلك في القراءات الشائعة؛ إذ ليس كلّ شاذّ باطلا و لا كلّ مشهور أصيلا.

و أمّا النقصان في الجملة، فعلى طريقتهم ليس ببعيد، و على طريقتنا فالظاهر وقوع الكثير منه.

و أمّا التحريف البالغ الزائد على أمثال ما اختلف فيه القرّاء فغير ظاهر، و يدلّ على عدمه ما روي عن الكليني باسناده عن أبي جعفر عليه السّلام في رسالته إلى «سعد الخير»:

«... و كان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه، و حرّفوا حدوده، فهم يروونه و لا يرعونه، و الجهّال يعجبهم حفظهم للرواية، و العلماء يحزنهم تركهم للرعاية - الحديث.»(1)

و لا أستبعد أن يكون جملة ممّا ورد في أخبار التحريف في خصوص الآيات محمولا على تحريف المعنى دون اللّفظ، فتكون تلك الأخبار مبيّنة لمعانيها لا لألفاظها (2) ،و يؤيّده عدم ظهور أسلوب القرآن فيما ورد في بعضها. و أمّا إجراء هذا الاحتمال في الجميع و إنكار التصرّف في الألفاظ رأسا، فبعيد جدّا. و اللّه العالم.

ص: 138


1- الكافي، ج 8، ص 52، ح 16، و الصافي، ج 1، المقدّمة السادسة، ص 34.
2- كما احتمله الفيض (رض) في علم اليقين، ج 1، ص 565، إذ قال: «ان مرادهم - عليهم السلام - بالتحريف و التغيير و الحذف إنما هو من حيث المعنى دون اللفظ، أي: حرّفوه و غيّروه في تفسيره و تأويله، أي: حملوه على خلاف ما هو عليه في نفس الامر.» و نظيره ما قاله في الوافي، ج 2، باب اختلاف القراءات من أبواب القرآن، ص 274، و الصافي، ج 1، المقدمة السادسة، ص 34.

المقدّمة الثّامنة فيما ورد من نزول القرآن على سبعة أحرف و بيانه، و اختلاف القراءات و المعتبر منها

قد اشتهر بين العامّة، بل ادّعى بعضهم التواتر في أصل الحديث(1) عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال:

«نزل القرآن على سبعة أحرف، كلّها كاف شاف »(2).

و نسب إلى أكثر العلماء أنّها سبع لغات من لغات قريش لا يختلف، بل هي متّفقة المعنى، و استدلّ على أنّ السبعة هي سبع لغات متّفقة المعنى بما روي عن «ابن سيرين» أنّ ابن مسعود قال:

«اقرءوا(3) القرآن على سبعة أحرف، و هو كقول أحدكم(4):

هلمّ و تعال و أقبل».

و عن بعضهم:

ص: 139


1- كأبي عبيد على ما في تفسير القاسمي، ج 1، ص 284.
2- رواه ابو يعلى في الكبير عن أبي المنهال، و الطبراني في الاوسط عن أبي سعيد كما في مجمع الزوائد، ج 7 ص 152 و 153، باب كم أنزل القرآن على حرف؛ و رواه أيضا ابن الاثير في النهاية؛ و هكذا نقله الشيخ (ره) في التبيان، ج 1، المقدمة، ص 7؛ و الطبرسي (ره) في مجمع البيان، ج 1، المقدمة، الفن الثاني، ص 12؛ و الفيض (ره) في الصافي، ج 1، المقدمة الثامنة، ص 38.
3- خ. ل: «اقرأ» كما قال المؤلف (ره) في الهامش.
4- في المخطوطة «أحدهم».

«أنّها سبع قبائل من العرب: قريش و قيس، و تميم (1) ،و هذيل، و أسد، و خزاعة، و كنانة، لمجاورتهم قريشا».

و قيل:

سبع لغات من أيّ لغة كانت لقوله صلّى اللّه عليه و آله: «إنّه قد وسع لي أن أقرأ كلّ قوم بلغتهم».

و قيل:

معناه أن يقول في صفات الربّ - تبارك و تعالى - مكان قوله:

«غفورا رحيما، عزيزا حكيما، سميعا بصيرا» لما روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال: «اقرءوا القرآن على سبعة أحرف ما لم تجمعوا مغفرة بعذاب و عذابا بمغفرة، أو جنّة بنار، أو نارا بجنّة(2)».

إلى غير ذلك من الوجوه. بل قيل: إنّ الاختلاف في معناه يقرب من أربعين قولا(3).

و رووا عنه صلّى اللّه عليه و آله أنه:

«نزل القرآن على سبعة أحرف: أمر، و زجر، و ترغيب، و ترهيب، و جدل، و قصص و مثل.»(4)

ص: 140


1- في المخطوطة: «تيم».
2- كلّ هذه الاقوال في الاحرف السبعة تجدها في تفسير النيشابوري، ص 8، فراجع.
3- راجع الصافي، المقدمة الثامنة، ص 38؛ و القوانين، الباب السادس، ص 391.
4- رواه الطبري في تفسيره، ج 1، ص 23، عن أبي قلابة، عنه - صلّى اللّه عليه و آله -؛ و نقله الشيخ (ره) في التبيان، ج 1، المقدمة، ص 7؛ و الطبرسي (ره) في مجمع البيان، ج 1، المقدمة، الفن الثاني، ص 13؛ و الفيض (رض) في الصافي، ج 1، المقدمة الثامنة، ص 38.

و في رواية أخرى:

«زجر، و أمر، و حلال، و حرام، و محكم، و متشابه، و أمثال.»(1)

و المستفاد منهما أنّ الأحرف إشارة إلى أقسامه و أنواعه. و يؤيّد ذلك ما روي من طريق أصحابنا عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال:

«إن اللّه تبارك و تعالى أنزل القرآن على سبعة أقسام، كلّ قسم منها كاف شاف، و هي: أمر، و زجر، و ترغيب، و ترهيب، و جدل، و مثل، و قصص.»(2)

[في عدم نزول القرآن على سبعة ألفاظ]

و يدلّ على نفي ورود القرآن بالألفاظ المختلفة ما روي عن الكليني بسنده الحسن كالصحيح، عن فضيل بن يسار قال:

«قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّ الناس يقولون: إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف، فقال: كذبوا أعداء اللّه، و لكنّه نزل

ص: 141


1- أخرجه الطبري فى تفسيره، ج 1، ص 22، عن يونس؛ عن ابن مسعود، عن النبي - صلّى اللّه عليه و آله -؛ و رواه الطبراني عم عمر بن أبي سلمة، عنه - صلّى اللّه عليه و آله - في قوله لعبد اللّه بن مسعود كما ذكره الهيثمي فى مجمع الزوائد، ج 7، باب كم أنزل القرآن على حرف، ص 153؛ و هكذا في التبيان، ج 1، المقدمة، ص 7؛ و مجمع البيان، ج 1، الفن الثاني من مقدمة الكتاب، ص 13؛ و الصافي، ج 1، المقدمة الثامنة، ص 39.
2- رواه النعماني (قده) في تفسيره، عن إسماعيل بن جابر، عن أبي عبد اللّه، عنه - عليهما السلام -، فراجع البحار، ج 93، باب ما ورد في أصناف آيات القرآن، ص 4. و قد تقدم صدر كلام أبي عبد اللّه - عليه السلام - من تفسيره في المقدمة الرابعة. و هكذا نقله الفيض (ره) في الصافي، ج 1، المقدمة الثامنة، ص 39؛ و المحقق القمي (ره) في القوانين، الباب السادس، ص 391.

على حرف واحد من عند الواحد.»(1)

و عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال:

«إنّ القرآن واحد نزل من عند واحد، و لكنّ الاختلاف يجيء من قبل الرّواة.»(2)

و عن كتاب «التحريف و التنزيل» المنسوب إلى «أحمد بن محمّد»، المعروف ب «السيّارى»: حدّثني البرقي و غيره، عن ابن أبي عمير و صفوان بن يحيى و أحمد بن محمّد بن أبي نصر، عن جميل بن درّاج، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

«القرآن واحد نزل من عند ربّ واحد إلى نبيّ واحد، و لكنّ الاختلاف يجيء من قبل الرواة.»

البرقي و غيره، عن حمّاد بن عيسى، عن جابر بن عبد اللّه قال:

«قيل لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّ الناس يقولون: إنّ القرآن على سبعة أحرف، فقال: كذبوا، نزل حرف واحد من عند ربّ واحد إلى نبيّ واحد.»

و عنه أيضا، من البرقي باسناده المتّصل عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

«قلت له: قول الناس: «نزل القرآن على سبعة أحرف»؟

فقال: واحد من عند واحد.»

[و] عنه أيضا ما هذا لفظه.

و باسناده عن زرارة بن أعين قال:

«سأل سائل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رواية الناس في القرآن:

ص: 142


1- الكافى، ج 2، باب النوادر من كتاب فضل القرآن، ص 630؛ و الصافى، ج 1، المقدمة الثامنة، ص 40؛ و البرهان، ج 1، ص 21.
2- نفس المصادر.

«نزل على سبعة أحرف»، فقال: كذبوا الناس في رواياتهم، بل هو حرف واحد من عند واحد نزل به الملائكة على واحد.»

و عنه أيضا مسندا عن جميل بن درّاج، عن زرارة مثل رواية الكلينى(1).

[المراد من الاحرف ما هو؟]

و هذه الاخبار قامت على أنّ القراءة النازلة واحدة، و أنّه لم ينزل على سبعة ألفاظ مختلفة، فيجوز أن يكون للكلام بالمعنى الّذي أرادوا كما هو الظاهر من التكذيب؛ إذ تكذيب اللّفظ باعتبار المعنى المقصود منه فلا ينافي ورود هذا اللّفظ في الاخبار بالمعنى المتقدّم أو بمعنى آخر؛ كارادة البطون و التأويلات، كما ربّما يستفاد ممّا روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام لمّا قال له حمّاد: «إنّ الاحاديث تختلف عنكم(2) أنّه قال:

«إنّ القرآن نزل على سبعة أحرف، فأدنى ما للامام(3) أن يفتي على سبعة وجوه.»(4)

ص: 143


1- المراد من «مثل رواية الكليني» روايته الاخيرة كما صرّح به السيد محمد الموسوي الخوانساري عند نقل هذه الاخبار في هامش الوسائل، ج 1، ص 385، المطبوع بتبريز في سنة 1313؛ و هكذا نقلها المحدث النوري (ره) في فصل الخطاب، الدليل العاشر، ص 212.
2- في بعض نسخ الخصال: «منكم».
3- في المخطوطة: «للإتمام».
4- رواه العياشي (رض) في تفسيره، ج 1، ص 12، ح 11؛ و الصدوق (ره) في الخصال، ج 2، باب السبعة، ص 358، ح 43؛ و نقله الفيض (ره) في الصافي، ج 1، المقدمة الثامنة، ص 39؛ و المجلسي (ره) في البحار، ج 92، باب أن للقرآن ظهرا و بطنا، ص 83، ح 13.

و ما(1) ربّما يستفاد من رواية الخصال عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال:

«أتاني آت من اللّه عزّ و جلّ فقال: [إنّ اللّه] يأمرك أن تقرأ القرآن على حرف واحد، فقلت: يا ربّ وسّع على امّتي، فقال: إنّ اللّه عزّ و جلّ يأمرك أن تقرأ القرآن على سبعة أحرف.»(2)

فمع ضعف سنده و معارضته بما تقدّم المعتضدة بالاعتبار محتمل لارادة التوسعة و الضيق المعنويين باعتبار الاكتفاء من بعض بما يفهمونه من بعض الآيات، و إن لم يكن مطابقا للواقع في مقابل إلزام الكلّ بتحصيل المراد الواقعي، أو بملاحظة أنّ المطلوب من كلّ صنف من أصناف المؤمنين آداب و شرائط لا يراد ممّن دونه؛ إذ حسنات الابرار سيّئات المقرّبين.

فلعلّ المراد أنّ القرآن على سبعة أحرف، كلّ حرف يتعلّق بأهل مرتبة من المراتب السبعة المذكورة في الاخبار للايمان، فلا يراد من الجميع الاحكام المراد من ذي الدرجة السابعة. و يؤيّد هذا الاحتمال الرواية السابقة؛ إذ هذا السبب هو السبب الظاهر في اختلاف الفتاوى.

و يحتمل إرادة التوسعة اللّفظيّة مع بقاء المادّة و التركيب بحاله، بحيث لا يتغيّر به المعنى الافراديّ و التركيبيّ، و إن كان اللّفظ النازل من اللّه سبحانه واحدا مشتملا على كيفيّات خاصّة، فيجوز قراءة ذلك بسائر الكيفيّات الصحيحة، على أنّه لا يبعد أن يكون العبرة في القراءة بما يعدّ حكاية لكلام اللّه سبحانه في العرف. و كثير من أنحاء التغييرات لا نحلّ بذلك؛ كالاشمام، و الامالة، و التفخيم،

ص: 144


1- في المخطوطة: «اما».
2- الخصال، ج 2، باب السبعة، ص 358، ح 44 عن عيسى بن عبد اللّه الهاشمي، عن أبيه، عن آبائه - عليهم السلام -، عنه - صلّى اللّه عليه و آله -؛ و الصافي، ج 1، المقدمة الثامنة، ص 39؛ و الوسائل، ج 4، باب 74 من أبواب القراءة في الصلاة ص 822، ح 6.

و ما يحذو حذوها جزما؛ و كالقلب و الابقاء على الاصل، و الادغام، و فكّه، و الاسكان، و التحريك؛ كقراءة «كفؤا» بالهمزة و الواو، متحرّك الوسط و ساكنه، دون يرتدّ و يرتدد، على احتمال قويّ. فلا يبعد أن يقال: لا يلزم في ذا مثلا ذلك تعدّ بقراءة أصلا، بل يجوز قراءة الآية الواحدة بما لا يخرجها عن كونها هي من الوجوه الصحيحة عند أهل اللّسان و إن لم يقرأه به أحد من القرّاء.

و هذا بخلاف ما لو أفضى إلى تغيير المادّة؛ مثل ينشر و ينشز باهمال الآخر(1) أو إعجامه أو هيئته المشتملة على تبديل الحرف، و مثل القراءة بصيغة المغايب و المتكلّم في مواضع، و كقراءة «ملك» و «مالك»، أو المعنى: كصيرورة المفعول حالا، و المبتدأ خبرا و غير ذلك. فانّه يخرجه عن حكاية القرآن عند الدّقّة؛ إذا الكلام مأخوذ فيه المادّة و الهيئة في المفردات، و الهيئة التركيبيّة الّتي تختلف باختلافها المعاني التابعة لها كالفاعليّة و المفعوليّة؛ فافهم.

و يؤيّد ما ذكر من عدم التوسعة الّتي زعموه بحيث تؤدّي إلى تبديل ألفاظ القرآن، ما روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال:

«إن كان ابن مسعود لا يقرأ على قراءتنا فهو ضالّ. قال ربيعة:

ضالّ؟ فقال: نعم، ضالّ. ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أمّا نحن فنقرأ على قراءة ابي.»(2)

و استظهر بعض أنّ ذيله ورد من باب المصلحة (3) ،و احتمل أن يكون اللّفظ

ص: 145


1- في المخطوطة: «الاحرام».
2- رواه الكليني (قد) في الكافي، ج 2، باب النوادر من كتاب فضل القرآن، ص 634، ح 27 عن عبد اللّه بن فرقد و المعلّى بن خنيس عنه - عليه السلام -؛ و نقله الفيض (ره) في الصافي، ج 1، المقدمة الثامنة، ص 40.
3- الاستظهار للفيض (ره) على حسب الاحتمال إذ قال في ذيل الرواية، «و لعلّ آخر الحديث ورد على المسامحة مع «ربيعة» مراعاة لحرمة الصحابة، و تداركا لما قاله فى «ابن مسعود». ذلك لأنهم - عليهم السلام - لم يكن يتبعون أحدا سوى آبائهم - عليهم السلام -؛ لأن علمهم من اللّه، و في هذا الحديث إشعار بأن قراءة «أبي» كانت موافقة لقراءتهم - عليهم السلام - أو كانت أوفق لها من قراءة غيره من الصحابة.».

«أبي» باضافة الاب إلى ياء المتكلّم، و لم يظهر إتقان النسخ بحيث لا يقع فيه تشديد زائد لو كان.

[جواز اختيار القراءة المشهورة]

ثمّ اعلم أنّ الظاهر بناء على ما ذكرناه هو التزام ما صدق عليه الاخبار المرخّصة للقراءة كما علّمنا، كما تقدّم بعضها بالمعنى المتقدّم. فكلّ قراءة كانت شائعة في ذلك الزمان جازت القراءة به، سواء كان من السبع أو تمام العشر أو لا، بوجه من الوجوه الصحيحة عند أهل اللّسان فيما خرج عن جوهر الكلام، مع احتمال إسقاط قيد الشيوع و الاكتفاء بمجرّد كونه قراءة من شأنها أن يتعلّم، و إلغاء خصوصيّة ذلك الزمان و مناسبته، فيكتفي بكلّ قراءة؛ إذ الظاهر أنّ مبنى الكلام ليس على إفادة أنّ لهذه القراءات الموجودة في ذلك العصر خصوصيّة، فلا تغفل.

ص: 146

المقدّمة التّاسعة في زمان نزول القرآن و ما يتعلّق بذلك

قال اللّه سبحانه: «شَهْرُ رَمَضٰانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ.» (1)

و قال عزّ و جلّ: «إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ.» (2)

و قال سبحانه: «إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبٰارَكَةٍ إِنّٰا كُنّٰا مُنْذِرِينَ * فِيهٰا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِنْ عِنْدِنٰا، إِنّٰا كُنّٰا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ.» (3)

و عن الكافي بسنده عن حفص بن غياث، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«سألته عن قول اللّه تعالى: «شَهْرُ رَمَضٰانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ»

و إنّما أنزل القرآن في عشرين سنة بين أوّله و آخره؟

فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى البيت المعمور، ثمّ نزل في طول عشرين سنة.

ثمّ قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: نزل صحف إبراهيم في أوّل ليلة من شهر رمضان، و أنزلت التوراة لستّ مضين من شهر رمضان، و أنزل الانجيل لثلاث عشرة خلت من شهر رمضان، و انزل الزبور لثمان عشرة خلون من شهر رمضان، و أنزل

ص: 147


1- البقرة/ 185.
2- القدر/ 1.
3- الدخان/ 3-6.

القرآن في ليلة ثلاث و عشرين من شهر رمضان.»(1)

و عنه عن الفقيه باسنادهما عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«نزلت التوراة في ستّ مضين من شهر رمضان، و نزل الانجيل في اثني عشرة ليلة مضت من شهر رمضان، و نزل الزبور في ليلة ثمان عشرة في شهر رمضان، و نزل القرآن في ليلة القدر.»(2)

و باسنادهما عن حمران أنّه سأل أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه تعالى:

«إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبٰارَكَةٍ » ،قال:

«هي ليلة القدر، و هي في كلّ سنة في شهر رمضان في العشر الاواخر، و لم ينزل القرآن إلا في ليلة القدر؛ قال اللّه تعالى:

«فِيهٰا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ » ،قال: يقدّر في ليلة القدر كلّ شيء يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل، من خير أو شرّ، أو طاعة أو معصية، أو مولود أو أجل، أو رزق.»(3)

أقول:

لمّا كان جميع الحوادث الواقعة في السنة مقدّرة متعيّنة الاحكام و الحدود

ص: 148


1- الكافي، ج 2، باب النوادر من كتاب فضل القرآن، ص 628، ح 6؛ و الصافي ج 1، المقدمة التاسعة، ص 41؛ و كذا روى العياشي (ره) فى تفسيره، ج 1، ص 80، ح 184، عن علي بن إبراهيم، عنه - عليه السلام - مثله، إلا فيه: «و أنزل القرآن لأربع و عشرين من رمضان.»
2- الكافي، ج 4، باب في ليلة القدر من كتاب الصيام، ص 157؛ و الفقيه، ج 2، ص 101 و 102؛ و الصافي، ج 1، المقدمة التاسعة، ص 41.
3- نفس المصادر.

في ليلة القدر على ما يستفاد من الاخبار المستفيضة (1) ،لزم منه أن يكون الآيات الّتي نزل في كلّ سنة ثابتة متعيّنة في ليلة القدر الّتي تقع في تلك السنة. و بهذا يصحّ القول بأن القرآن نزلت في ليلة القدر، و في شهر رمضان؛ لأنّها فيه على ما يستفاد من المستفيضة المعتضدة بالكتاب (2) ،لكنّ الظاهر من تنكير اللّيلة في الآية الثالثة و رواية حفص المتقدّمة، و ذكر عليّ بن إبراهيم في تفسيره(3) مضمون(4)

هذا الجزء منه أعني قوله: «نزل القرآن جملة واحدة - الخ» من دون إسناد إلى الامام عليه السّلام، لكنّ الظاهر من حاله أخذه من رواياتهم، مع ما يشعر به سائر الروايات، أنّ القرآن نزل في ليلة واحدة جملة. و حينئذ فيمكن أن يقال: أنّ القرآن إنّما قرّر و ثبت كلاّ تبعا لتقدير النبوّة و الرسالة؛ لأنّه لمّا قدّر الرسالة و الانذار قدّر المرسل به و المنذر به، لأنّه من متعلّقاته. و لمّا كان إعطاء منصب الرسالة دفعيّا، لزم منه تعيين المرسل به، كما إذا قدّر و عين السبب في آخر السنة، بحيث لا ينفك عن تفرّع مسبّبه عليه، ترتّب عليه تقدير المسبّب في أوّل السنة الآتية.

[مراتب نزول القرآن]

و الّذي يقتضيه النظر الدقيق أنّ توقيت التقديرات بليلة القدر إنّما

ص: 149


1- كالخبر الاخير و سائر الاخبار التي أوردها الاعلام في كتبهم، و قد جمعها المجلسي (رض) في البحار، ج 97، باب ليلة القدر و فضلها، فراجع.
2- مراده (ره) الروايات الكثيرة المتواترة المنقولة في كتب الاخبار. منها ما ذكره المجلسي (ره) في البحار، ج 97، باب ليلة القدر و فضلها. و هي معتضدة بقوله تعالى: «شَهْرُ رَمَضٰانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ.»
3- القمي، ج 1، ص 66.
4- في عبارة المؤلف (قده) هنا تشويش، و عبارته هي: «و ذكر مضمون هذا الجزء منه أعني: قوله: «نزل القرآن جملة واحدة - الخ» علي بن إبراهيم في تفسيره...»

هو في بعض المراتب النازلة من مراتب القضاء و القدر، و فوقه مراتب أخرى، إلى أن ينتهي إلى اللّوح المحفوظ الّذي رقّم فيه جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة قبل خلق العالم. و يشبه أن يكون هو أمّ الكتاب (1) ،الّتى يتولّد منها أحكام القضاء مرتبة بعد مرتبة، إلى أن ينتهي إلى تفصيل أحكام كلّ سنة في ليلة القدر منها.

و حينئذ فنزول القرآن جملة واحدة يصحّ أن يكون من عالم اللّوح المحفوظ دفعة إلى مرتبة تحتها، ثمّ نزوله منها في مرتبة ثالثة في كلّ سنة بقدرها، ثمّ نزوله في هذا العالم في أجزاء اللّيالي و الايّام. و يشبه أن يكون المرتبة الثانية هي البيت المعمور، أو باطنه و روحه و هو مظهره، كما روي.

و أمّا ما ذكره المحدّث الكاشاني بقوله: «كأنه أريد به نزول معناه على قلب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله »(2) ،فان أراد به أنّ البيت المعمور هو قلبه صلّى اللّه عليه و آله فهو فاسد؛ إذ هو من أجزاء العالم الكبير و قد ورد ذكره في الاخبار (3) ،و للقرآن مراتب نزولية في العالم الكبير. و إن أراد به أنّه مساوق لمقام قلبه بحيث إذا نزل فيه اطّلع قلبه صلّى اللّه عليه و آله عليه لاتّحادهما رتبة، فهو ليس بذلك البعيد؛ إذ أريد بالقلب ما يسمّى به قلبا باصطلاح جماعة من أهل المعرفة، إلا أنّ ذلك المقام لا يأبى عن الالفاظ حين ينزّل النزول إلى المعاني، بل الالفاظ بنفسها ممّا يصحّ نزولها فيه، و ليس تنزيل نزول القرآن إلى نزول المعاني الصرفة، إلا تأويلا من دون سبب

ص: 150


1- لقد ذهب اليه جمهور المفسرين.
2- راجع الصافي، ج 1، المقدمة التاسعة، ص 42.
3- راجع البحار، ج 58، باب البيت المعمور. و انه (ره) ذكر فيه روايات من الخاصة و العامة يستفاد منها أن البيت المعمور هو في السماء الرابعة، و انه قد سمي: «الضراح».

يقتضيه، فثبت.

[كيفيّة نزول القرآن في ليلة القدر و تفصيله]

ثمّ لمّا كان القرآن تبيان كلّ شيء على نهج كلي إجماليّ مشتمل على تكليفيّات و تكوينيّات متعلّقة بموضوعات مستقلّة، تفصل في ليلة القدر، و تتولّد منها أحكام و قضايا معيّنة مشخّصة جزئيّة بالنسبة إلى ما كان عليه، صحّ أنّه: «لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن» كما روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام (1) ؛إذ لو لم ينزل تفصيله فيها و بقي على حاله الاجماليّ كان مرفوعا عن هذا العالم.

و ربّما يشهد لما ذكرناه معنى ما رواه في الكافي عن الباقر عليه السّلام أنّه قال:

«قال اللّه عزّ و جلّ في ليلة القدر: «فِيهٰا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ»

يقول: ينزل فيها كلّ أمر حكيم، و المحكم ليس بشيئين، إنّما هو شيء واحد، فمن حكم بما ليس فيه اختلاف فحكمه من حكم اللّه عزّ و جلّ، و من حكم بأمر فيه اختلاف فرأى أنّه مصيب، فقد حكم بحكم الطاغوت. إنّه لينزل في ليلة القدر إلى وليّ الامر تفسير الامور سنة سنة، يؤمر فيها في أمر نفسه بكذا و كذا، و في أمر الناس بكذا و كذا، و إنّه ليحدث لأولي الامر سوى ذلك كلّ يوم علم اللّه الخاصّ، و المكنون العجيب المخزون، مثل ما ينزل في

ص: 151


1- رواه الكليني (ره) في الكافي، ج 4، باب في ليلة القدر من كتاب الصيام، ص 158، ح 7 عن داود بن فرقد، عن يعقوب، عنه - عليه السلام -؛ و أيضا الصدوق (ره) في الفقيه، ج 2، ص 101، ح 9، بهذا الاسناد؛ و نقله الفيض (ره) في الصافي، ج 1، المقدمة التاسعة، ص 42.

تلك اللّيلة من الامر، ثم قرأ: وَ لَوْ أَنَّ مٰا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاٰمٌ.» (1)

و سيمرّ عليك ما يوضح لك كثيرا ممّا ذكر هنا - إن شاء اللّه تعالى -.

ص: 152


1- الكافي، ج 1، باب في شأن «إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» و تفسيرها، ص 248، ح 3؛ و الصافي، ج 2، ص 540. و الآية الاخيرة: لقمان/ 27.

المقدّمة العاشرة في نبذة ممّا جاء في تمثّل القرآن يوم القيامة

و شفاعته لأهله و معاتبة السّورة لتاركها بعد تعلّمها، و ثواب حفظه و تلاوته و سماعه و استماعه، و فضيلتها، و ما يتعلّق بذلك

فعن الكليني باسناده عن سعد الخفّاف، عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

«يا سعد، تعلّموا القرآن، فانّ القرآن يأتي يوم القيامة في أحسن صورة نظر إليها الخلق، و الناس صفوف، عشرون و مائة ألف صفّ، ثمانون [ألف] صفّ أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و أربعون ألف صفّ من سائر الامم، فيأتي على صفّ المسلمين في صورة رجل فيسلّم (1) ،فينظرون إليه، ثمّ يقولون: لا إله إلا اللّه الحليم الكريم؛ إنّ هذا الرجل من المسلمين، نعرفه بنعته و صفته، غير أنّه كان أشدّ اجتهادا منّا في القرآن، فمن هناك أعطي من البهاء و الجمال و النور ما لم نعطه.

ثمّ يجاوز حتّى يأتي على صفّ الشهداء، فينظر إليه الشهداء ثمّ يقولون: لا إله إلا اللّه الربّ الرحيم؛ إنّ هذا الرجل من الشهداء، نعرفه بسمته(2) و صفته غير أنّه من شهداء البحر، فمن هناك أعطي من البهاء و الفضل ما لم نعطه.

قال: فيجاوز حتّى يأتي على صفّ شهداء البحر في صورة

ص: 153


1- قال (ره) في حاشية المخطوطة: «الظاهر: مسلم».
2- «السمت»: الطريق، و يستعمل لهيئة أهل الخير.

شهيد، فينظر إليه شهداء البحر، فيكثر تعجّبهم و يقولون:

إنّ هذا من شهداء البحر، نعرفه بسمته و صفته غير أن الجزيرة الّتي أصيب فيها كانت أعظم هولا من الجزيرة الّتي أصبنا فيها، فمن هناك اعطي من البهاء و الجمال و النور ما لم نعطه.

ثمّ يجاوز حتّى يأتي صفّ النبيّين و المرسلين في صورة نبيّ مرسل، فينظر النبيّون و المرسلون إليه، فيشتدّ(1) لذلك تعجّبهم و يقولون: لا إله إلا اللّه الحليم الكريم؛ إنّ هذا لنبيّ مرسل، نعرفه بسمته و صفته غير أنّه أعطي فضلا كبيرا.

قال: فيجتمعون، فيأتون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيسألونه و يقولون:

يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله من هذا؟

فيقول لهم: و ما تعرفونه؟

فيقولون: ما نعرفه، هذا ممّن لا يغضب اللّه عزّ و جلّ عليه.

فيقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: هذا حجة اللّه على خلقه، فيسلّم.

ثمّ يجاوز حتّى يأتي على صفّ الملائكة في صورة ملك مقرّب، فينظر إليه الملائكة فيشتدّ تعجّبهم، و يكبر ذلك عليهم لما رأوا من فضله، و يقولون: تعالى ربّنا و تقدّس، إنّ هذا العبد من الملائكة، نعرفه بسمته و صفته غير أنّه كان أقرب الملائكة إلى اللّه عزّ و جلّ مقاما، فمن هناك ألبس من النور و الجمال ما لم نلبس.

ص: 154


1- في بعض النسخ: «فيشد».

ثمّ يجاوز(1) حتى يأتي(2) ربّ العزّة تبارك و تعالى، فيخرّ تحت العرش، فيناديه تبارك و تعالى: يا حجّتى في الارض و كلامي الصادق الناطق! ارفع رأسك، و سل تعط، و اشفع تشفّع.

فيرفع رأسه، فيقول اللّه تبارك و تعالى: كيف رأيت؟

فيقول: يا ربّ، منهم من صاننى و حافظ عليّ و لم يضيّع شيئا. و منهم من ضيّعني و استخفّ بحقّي و كذب بي. و أنا حجّتك على جميع خلقك.

فيقول اللّه تبارك و تعالى: و عزّتي و جلالي و ارتفاع مكاني، لأثيبنّ اليوم عليك أحسن الثواب، و لأعاقبنّ عليك اليوم أشدّ(3) العقاب.

قال: فيرفع(4) القرآن رأسه في صورة أخرى.

قال: فقلت [له]: يا أبا جعفر عليه السّلام، في أيّ صورة يرجع؟ قال: في صورة رجل شاحب(5) اللّون متغيّر، يبصره(6) أهل الجمع، فيأتي الرجل من شيعتنا الّذي يعرفه و يجادل به أهل الخلاف، فيقوم بين يديه، فيقول: ما تعرفني؟

فينظر إليه الرجل، فيقول: ما أعرفك يا عبد اللّه.

قال: فيرجع في صورته الّتي كان في الخلق الاوّل، فيقول:

ص: 155


1- في المخطوطة: «يتجاوز».
2- في بعض النسخ: «حتى ينتهي إلى».
3- في بعض النسخ: «اليم».
4- في بعض النسخ: «فيرجع».
5- شحب لونه: كمنع و نصر و كرم و عمى، تغيّر من هزال أو جوع أو سفر.
6- في بعض النسخ: «ينكره».

ما تعرفنى؟ فيقول: نعم.

فيقول: أنا الّذي أسهرت ليلك، و أنصبت عينك (1) ،و سمعت الاذى، و رجمت بالقول فيّ. ألا و إنّ كلّ تاجر قد استوفى تجارته، و أنا ورائك اليوم.

قال: فينطلق به إلى ربّ العزّة تبارك و تعالى، فيقول:

يا ربّ عبدك و أنت أعلم به، كان نصبا بي، مواظبا عليّ، يعادي بسببى، و يحبّ فيّ و يبغض فيّ.

فيقول اللّه عزّ و جلّ: أدخلوا عبدي جنّتى، و اكسوه حلّة من حلل الجنّة، و توّجوه بتاج.

فاذا فعل به ذلك عرض القرآن، فيقال له: هل رضيت بما صنع بوليّك؟

فيقول: يا ربّ، إنّى أستقلّ هذا له، فزده مزيد الخير كلّه.

فيقول: و عزّتي و جلالي و ارتفاع مكاني لانحلنّ اليوم له خمسة أشياء مع المزيد له و لمن كان بمنزلته؛ ألا إنّهم شباب لا يهرمون، و أصحّاء لا يسقمون، و أغنياء لا يفتقرون، و فرحون لا يحزنون، و أحياء لا يموتون. ثمّ تلا هذه الآية:

«لاٰ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولىٰ.» (2)

قال: قلت: يا أبا جعفر، و هل يتكلّم القرآن؟

فتبسّم، ثمّ قال: رحم اللّه الضعفاء من شيعتنا، إنّهم أهل تسليم. ثمّ قال: نعم، يا سعد، و الصلاة تتكلّم، و لها صورة

ص: 156


1- في بعض النسخ: «عيشك».
2- الدخان/ 56.

و خلق تأمر و تنهى.

قال سعد: فتغيّر لذلك لوني و قلت: هذا شيء لا أستطيع أن أتكلّم به في الناس.

فقال أبو جعفر عليه السّلام: و هل الناس إلا شيعتنا؟ فمن لم يعرف بالصلاة فقد أنكر حقّنا. ثمّ قال: يا سعد، أسمعك كلام القرآن؟

قال سعد: قلت: بلى صلّى اللّه عليك.

فقال: «إِنَّ الصَّلاٰةَ تَنْهىٰ عَنِ الْفَحْشٰاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اللّٰهِ أَكْبَرُ.» (1)

فالنهي كلام، و الفحشاء و المنكر رجال، و نحن ذكر اللّه، و نحن أكبر .»(2).

و عنه باسناده عن إسحاق بن غالب قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

«إذا جمع اللّه الاوّلين و الآخرين أراهم(3) بشخص قد أقبل لم يرقّط أحسن صورة منه، فاذا نظر إليه المؤمنون و هو القرآن؛ قالوا: هذا منّا، هذا أحسن شيء رأينا. فاذا انتهى إليهم جازهم، ثمّ ينظر إليه الشهداء حتّى إذا انتهى إلى آخرهم جازهم، فيقولون: هذا القرآن، فيجوزهم كلّهم حتّى إذا انتهى إلى المرسلين، فيقولون: هذا القرآن، فيجوزهم. ثمّ ينتهي حتّى يقف عن يمين العرش، فيقول

ص: 157


1- العنكبوت/ 45.
2- الكافي، ج 2، كتاب فضل القرآن، ص 596، ح 1؛ و البحار، ج 7، باب تطاير الكتب و إنطاق الجوارح، ص 319، ح 16.
3- في بعض النسخ: «إذا هم».

الجبّار: و عزّتي و جلالي و ارتفاع مكاني لأكرمنّ اليوم من أكرمك، و لأهيننّ من أهانك.»(1)

و عنه باسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«تعلّموا القرآن، فانّه يأتي يوم القيامة صاحبه في صورة شابّ جميل شاحب اللّون، فيقول: أنا القرآن الّذي كنت أسهرت ليلك، و أظمأت هواجرك (2) ،و أجففت ريقك، و أسبلت(3) دمعتك، أوّل معك حيث ما ألت، و كلّ تاجر من وراء تجارته، و أنا لك اليوم من وراء تجارة كلّ تاجر، و سيأتيك كرامة اللّه عزّ و جلّ، فأبشر.

قال: فيؤتي بتاج فيوضع على رأسه، و يعطى الامان بيمينه، و الخلد في الجنان بيساره، و يكسى حلّتين، ثمّ يقال [له]:

اقرأ و ارق، فكلّما قرأ آية صعد درجة، و يكسى أبواه حلّتين إن كانا مؤمنين، ثمّ يقال لهما: هذا لما علّمتماه القرآن.»(4)

و عنه، عن جابر، عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

«يجيء القرآن يوم القيامة في أحسن منظور إليه صورة

ص: 158


1- الكافي، ج 2، كتاب فضل القرآن، ص 602، ح 14؛ و الوسائل، ج 4، باب 2 من أبواب قراءة القرآن، ص 827، ح 1.
2- «الهواجر» جمع هاجرة: وسط النهار و شدة حرارته.
3- في بعض النسخ: «أسلت».
4- الكافي، ج 2، باب فضل حامل القرآن من كتاب فضل القرآن، ص 603، ح 3؛ و الوسائل، ج 4، باب 7 من أبواب قراءة القرآن، ص 834، ح 1.

- إلى أن قال: - حتّى ينتهي إلى ربّ العزّة، فيقول: يا ربّ فلان بن فلان أظمأت هواجره، و أسهرت ليله في دار الدنيا؛ و فلان بن فلان لم أظمأ هواجره، و لم أسهر ليله.

فيقول تبارك و تعالى: أدخلهم الجنّة على منازلهم، فيقوم فيتّبعونه، فيقول للمؤمن: اقرأ و ارقه. قال: فيقرأ و يرقأ حتّى يبلغ كلّ رجل منهم منزلته الّتي هي له، فينزلها.»(1)

و عنه باسناده عن منهال القصّاب، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«من قرأ القرآن و هو شابّ مؤمن اختلط القرآن بلحمه و دمه، و جعله اللّه مع السفرة الكرام [البررة]، و كان القرآن حجيزا عنه يوم القيامة؛ يقول: يا ربّ إنّ كلّ عامل قد أصاب أجر عمله غير عاملي، فبلّغ به أكرم عطائك.

قال: فيكسوه العزيز الجبّار حلّتين من حلل الجنّة، و يوضع على رأسه تاج الكرامة، ثمّ يقال له: هل أرضيناك فيه؟ فيقول القرآن: يا ربّ، قد كنت أرغب له فيما هو أفضل من هذا.

[قال:] فيعطى الامن بيمينه، و الخلد بيساره، ثمّ يدخل الجنّة، فيقال له: اقرأ و اصعد درجة، ثمّ يقال له: هل بلّغنا به و أرضيناك؟ فيقول: نعم.

قال: و من قرأه كثيرا و يعاهده بمشقّة من شدّة حفظه أعطاه

ص: 159


1- الكافي، ج 2، كتاب فضل القرآن، ص 601، ح 11؛ و الوسائل، ج 4، باب 1 من أبواب قراءة القرآن، ص 824، ح 2؛ و الصافي، ج 1، المقدمة العاشرة ص 43.

اللّه عزّ و جلّ أجر هذا مرّتين.»(1)

و روي قريب من كثير مضامين هذه الروايات في روايات أخر.

[مراتب وجود القرآن في النزول و الصعود]

أقول: يمكن أن يقال: القرآن له وجود كتبيّ بين الدفّتين؛ و وجود لفظيّ للقارئ منّا و من المعصومين عليهم السّلام و من الملائكة كجبرئيل عليه السّلام؛ و وجود علميّ في لوح النفس مكتسب من المرتبتين الاوليين؛ و وجود علميّ من إلقاء الروح الّذي في عالم الامر إيّاه في القلب بأمر اللّه سبحانه؛ كما لعلّه يرشد إليه قوله تعالى: «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ.» (2) أو من انتقاش الالفاظ الغيبيّة في لوح القلب عند مواجهته لها و مقابلته إيّاه. و لعلّه يومي إليه قوله تعالى: «بَلْ هُوَ آيٰاتٌ بَيِّنٰاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ.» (3)

و وجود غيبيّ كتبيّ في لوح غيبيّ هو المبدأ لهذه النقوش الواقعة في لوح القلب، و به يصير القلب مصحفا لوجه أوراقه و تلك النقوش كتابته. و لعلّ إليه الاشارة بقوله تعالى: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتٰابٍ مَكْنُونٍ * لاٰ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ.» (4)

و وجود لفظيّ غيبيّ هو كلام اللّه سبحانه، الّذي أوجده و أسمعه من شاء من عباده من الملك و النبي. و لعلّ إليه الاشارة بقوله تعالى: «اَللّٰهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ

ص: 160


1- الكافي، ج 2، باب فضل حامل القرآن من كتاب فضل القرآن، ص 603، ح 4؛ و الوسائل، ج 4، باب 6 من أبواب قراءة القرآن، ص 833، ح 1؛ و رواه أيضا الصدوق (ره) في ثواب الاعمال، ص 126.
2- الشعراء/ 193-194.
3- العنكبوت / 49.
4- الواقعة / 77-79.

اَلْحَدِيثِ.» (1)

و له وجود إجمالي قبل التفصيل. لعلّ إليه الاشارة بقوله تعالى: «كِتٰابٌ أُحْكِمَتْ آيٰاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ.» (2)

و هو الاصل، و الباقي تنزّلاته و مراتبه و شئونه بمنزلة أصل الشجرة بالنسبة إلى ساقه و أغصانه. و لعلّ إلى هذه المقامات الاشارة باطلاق الانزال و التنزيل على القرآن في مواضع كثيرة.

ثمّ إن له صعودا ايضا، فانّ القرآن اللّفظيّ الصادر عنّا يتمثّل بمثال و يتشكّل بصورة جوهريّ في عالم أرفع من هذا العالم، على ما تحقّق و ثبت في محلّه بالآيات و الاخبار الكثيرة الواردة في الموارد الكثيرة، المعتضدة بالاستبصارات العقليّة و غيرها، من أنّ الاعمال الحسنة و السيّئة تتجسّم و تتمثّل و تبقى في عالم البرزخ مع الميّت؛ و قراءة القرآن منها، بل من أولى أفرادها بهذا الحكم، و كتابة القرآن أيضا عمل يتجسّم كذلك.

و حينئذ فيتحقّق في القرآن قوسان؛ قوس نزول ينتهي إلى وجوده اللّفظيّ و الكتبيّ الواقع في هذه النشأة، و قوس صعود واقع في عالم البرزخ، كما هو الحال في حقيقة الانسان.

ثمّ إنّ حقيقة القرآن ليس مقصورا على عالم الالفاظ و النقوش الواقعة في عالم الملك و الملكوت، بل مداليل الكلمات القرآنيّة أحقّ بالدخول في حقيقة القرآن منها، و لها وجود في عالمها المعنويّة، فهي أيضا يصحّ أن تعدّ مقاما آخر له، و مراتبه المتعدّدة تنتهي إلى حقيقة الاسم الالهيّ، الّذي هو المبدا للقرآن.

و يشبه أن يكون هو حقيقة اسم الهادي و النور، الّذي ربّما أطلق اسمه على القرآن في مواضع.

ص: 161


1- الزمر/ 23.
2- هود/ 1.

[شرح تنزّل القرآن في القيامة بصور مختلفة]

ثمّ إنّ عالم القيامة الكبرى لمّا كان يوم الجمع بين العوالم، و يوم إبلاء السرائر و إظهار المكنونات و إبراز الامور الغيبيّة بصور حسيّة مطابقة لها حتّى يتوافق النشئات و العوالم لينبّئهم بما عملوا. و لتبلى كلّ نفس ما كسبت، و يحصد كلّ زارع ما زرع - و الزرع تابع للبذر -، و الدنيا بمنزلة الأمّ للآخرة لزمه أن يتنزّل القرآن من عالم الغيب إلى ظاهر عالم القيامة مصوّرة بصورة حسنة أحسن ما يكون حتّى يوافق حسنه المعنويّ؛ لأنّه أحسن ما يكون، و له بهاء و جمال و نور حسيّ، كما أنّ له هذه الصفات اليوم في عالم الغيب على وجه غيبىّ.

ثمّ إنّه لا بدّ أن يمرّ على صفوف المؤمنين، كما يمرّ على قلوبهم و نفوسهم فى دار الدنيا ليطابق الظاهر الباطن، و القالب الروح، و الصورة المعنى، مبتدئا للمرور من الادنى إلى الاعلى؛ لأنّه سالك في الاستكمال متوجّه إلى ربّ العزّة، فيلزمه الكون مع النازل قبل الكون مع الكامل، و أن يكون مع كلّ صنف منهم بصورة ذلك الصنف؛ لأنّه عند كلّ منهم واقع في مرتبتهم بزيادة بهاء و جمال و نور لعدم مخالطته بما يضادّ هذه الصفات من ظلمة و كدورة، و لأنّهم لا يدركون منه إلا المقدار الّذي كان لهم في الدنيا، و منه الشأن المتعلّق بصفتهم و مقامهم و حالهم، كما أنّ كلا منهم حال قراءته للقرآن يشاهد المعنى الموافق لمقامه من الظاهر و الباطن و باطن الباطن و إن كان الكامل مشتملا على الناقص. فلا بدّ و أن يظنّ كلّ صنف منهم أنّه منهم، كما كانوا يظنّون في الدنيا أنّه بيان طريقتهم و صفة حالهم، و أن يعرفه كلّ منهم بنعته و صفته عند المواجهة، كما كان يعرف ذلك المقدار في دار الدنيا من القرآن و معانيه، و قبله منه فيها؛ إذ القدر الظاهر منه في كلّ مقام يساوي ذلك المقام، و لو لم يعرف أهل الصنف ذلك القدر الظاهر لم يكونوا

ص: 162

من أهل ذلك المقام. إلى أن ينتهي إلى ربّ العزّة في آخر قوسه الصعودي، فيسجد صورة كما سجد بالخضوع المطلق و الفناء معنى. و قد كان مصير القرآن إليه سبحانه في النشأة الاولى.

ثمّ إنّ له بعد ذلك مقاما يؤمر برفع الرأس من السجدة يضاهي مقام البقاء باللّه بعد الفناء في اللّه؛ و أن يسأل فيعطى، كما كان مستمدّا مواهب الحقّ سبحانه و بركاته لاهله في الدنيا؛ و أن يشفع فيقبل شفاعته، كما كان مقرّبا للعباد إلى اللّه سبحانه، و موجبا لشمول الرحمة لهم، و دفع العذاب عنهم في الدنيا.

ثمّ إنّه يظهر حال القابلين له و التاركين، كما كان يبيّن في الدنيا أحوال الطائفتين راضيا عن الاولى ساخطا للثانية؛ كالملك بالنسبة إلى رعيّته، كموافقته و مخالفته و القبول و الردّ المعنويين في الاولى.

ثمّ إنّ الحقّ يحكم بترتّب أحسن الثواب و العقاب بالقرآن هناك، كما كان استحقاق الفريقين هنا، و لزوم كلّه الاعطاء و العقاب هنا تابعا له؛ إذ لا تكليف إلا بعد البيان، و لا ثواب و لا عقاب قبل التكليف.

ثمّ إنّه يرفع رأسه في صورة رجل شاحب اللّون متغيّر ثانيا، كالنبيّ الكامل الراجع إلى الخلق بالحقّ بعد الفناء فيه، قد اجتمع فيه الفعل و الانفعال، و الامر و الائتمار، و الطلب و الاجابة، و العبوديّة و المرآتيّة للربوبيّة، وجهة إلى الحقّ، و الاخرى إلى النفس، فيلزمه تغيّر لونه و كونه بصورة رجل؛ إذ خلق الانسان في أحسن تقويم.

و من هذا البيان مضافا إلى الرواية الاولى يظهر عدم المنافاة بين الرواية الثانية و الثالثة.

ثمّ إنّه يتعرف إلى الرجل العارف به من الشيعة، كما تعرّف إليه في

ص: 163

الدنيا، و ما يعرفه بالصورة الثانية؛ لأنّه ما عرفه به في الدنيا، و يعرفه إذا تصوّر بالصورة الّتي كان عليها في باطن هذا العالم؛ إذ كان عرفه كذلك.

ثمّ إنّه ينطلق به إلى رب العزّة، كما كان يقرّبه إلى اللّه سبحانه في الدنيا بحضوره في قلبه، و جريانه على لسانه، و تعليمه و هدايته، و حمله إيّاه على ما يقرّبه إلى اللّه سبحانه، و يظهر عند الربّ ما صنع به، كما أظهر في مشاهدة الربّ في دار الدنيا من العبد ما صنعه و حمله عليه، كما صرّح به في الرواية الثالثة و الرابعة، فيجزيه الربّ الجزاء الاولى، و يبشّره القرآن بكرامة اللّه، كما في الرواية الثالثة، كما كان يبشّره في الدنيا؛ «وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهٰارُ.» (1)

ثمّ الظاهر أنّ تعجّب الراوي من تكلّم القرآن لأنّه لم يطّلع منه إلا على الالفاظ و النقوش الواقعة في هذا العالم؛ لأنّه نظر إليه نظر الضعفاء في مقام الايمان، و لهذا استرحم الامام على الضعفاء المسلّمين لكلام الائمّة عليهم السّلام و إن لم يصل إلى إدراكه أفهامهم، فانّ طريقة النجاة لهم هو التسليم دون جعل الافهام الناقصة ميزانا لكلامهم في الردّ و القبول. و أمّا الاقوياء فهم يدركون صحّته على قدر درجاتهم في الايمان، فيصدّقون تصديقا إيقانيّا، لا تعبّديّا. و لعلّ محصّل الجواب هو المقايسة بالصلاة لاشتراك الاستبعاد الوهمي بينهما، و أنّ لها صورة و خلقا تأمر و تنهى، و هو من باب تجسّم الاعمال الجزئيّة الصادرة عنّا، أو من باب صورته الكلّيّة المقدّمة على الافعال الجزئيّة، نظير ما مرّ في القرآن.

ثمّ إنّ الصلاة بكلا الوجهين تنهى عن موالاة أعدائهم خصوصا الاوّلين، المكنّى عنهما بالفحشاء و المنكر بالخصوص (2) ،أو مندرجين تحت المكنّى عنه لو لم

ص: 164


1- البقرة/ 25. و في المخطوطة: «يبشر».
2- هذه التكنية قد وردت في روايات الأئمة - عليهم السلام -؛ كرواية رواه العياشي (ره) في تفسيره، ج 2، ص 267، ح 62، عن عطاء الهمداني، عن أبي جعفر - عليه السلام - أنه قال في تفسير قوله تعالى: «وَ يَنْهىٰ عَنِ الْفَحْشٰاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ» (النحل/ 90): «و ينهى عن الفحشاء الاول و المنكر الثاني و البغي الثالث.» و هكذا ذكر السيد هاشم البحراني (ره) هذه الرواية و غيرها ممّا يتضمّن هذا المعنى في البرهان، ج 2، ص 381، فراجع.

يخصّص بهما، و تأمر بموالات الائمّة الّذين هم ذكر اللّه الّذي هو أكبر. و شرحه خارج عن العنوان الّذي نحن فيه.

[تكلّم القرآن و معاتبة السّورة المتروكة لتاركها]

و ممّا ذكرنا يمكن أن يعرف كيفيّة مخاطبة السورة المتروكة و المنسيّة لتاركها و ناسيها الواردة في عدّة من الاخبار؛ كما عن الكافي بسنده الصحيح، عن يعقوب الاحمر قال:

«قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: جعلت فداك، إنّه أصابتني هموم و أشياء لم يبق شيء من الخير إلا و قد تفلت منّي منه طائفة، حتّى القرآن لقد تفلت منّي طائفة منه.

قال: ففزع عند ذلك حين ذكرت القرآن، ثمّ قال: إنّ الرجل لينسي السورة من القرآن فتأتيه يوم القيامة حتّى تشرف عليه من درجة من بعض الدرجات، فتقول:

السلام عليك. فيقول: و عليك السلام، من أنت؟ فتقول:

أنا سورة كذا و كذا ضيّعتني و تركتني، أما لو تمسّكت بي لبلغت بك هذه الدرجة - إلى آخر الحديث.»(1)

ص: 165


1- الكافي، ج 2، كتاب فضل القرآن، باب من حفظ القرآن ثمّ نسيه؛ و الوسائل، ج 4، باب 12 من أبواب قراءة القرآن.

و عنه و عن عقاب الاعمال و المحاسن بالسند الحسن و غيره عن أبي بصير قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

«من نسي سورة من القرآن مثّلت له في صورة حسنة و درجة رفيعة في الجنّة (1).فاذا رآها قال: ما(2) أنت؟ فما أحسنك! ليتك لي. فتقول: أ ما تعرفني؟ أنا سورة كذا و كذا، لو لم تنسني لرفعتك إلى هذا المكان.»(3)

و عنه بسنده عن ابن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام [يقول]:

«إنّ الرجل إذا كان يعلم السورة ثمّ نسيها أو تركها و دخل الجنّة أشرفت عليه من فوق في أحسن صورة، فتقول: تعرفني؟ فيقول: لا. فتقول: أنا سورة كذا و كذا، لم تعمل بى و تركتني، تقول: أما و اللّه لو عملت بي لبلغت بك هذه الدرجة، و أشارت بيدها إلى ما فوقها.»(4)

[درجات الجنّة على عدد آيات القرآن]

و المستفاد من هذه الاخبار أنّ التمسّك بأيّ سورة كانت و العمل بها و عدم نسيانها موجب للوصول إلى درجة رفيعة، و أنّ تضييعها و تركها و نسيانها و ترك العمل بها سبب لفقدانها، كما أنّ المستفاد من جملة من الروايات أنّ القارئ إذا

ص: 166


1- ليس في عقاب الاعمال: «في الجنة». منه (ره).
2- في المصادر: «من».
3- المصادر المذكورة في تعليقة 1 ص 165، و المحاسن، ج 1، كتاب عقاب الاعمال، ص 96، ح 57؛ و عقاب الاعمال، ص 283؛ و هكذا فى البحار، ج 92، باب ثواب تعلم القرآن و تعليمه، ص 188، ح 11.
4- المصادر المذكورة في تعليقة 1 ص 165.

قرأ آية صعد درجة، و أنّ عدد درجات القارئ بعدد آيات القرآن، كما في الروايات الاخيرة، و كما رواه في المجالس بسنده عن المفضّل بن عمر، عن الصادق عليه السّلام قال:

«عليكم بتلاوة القرآن، فانّ درجات الجنّة على عدد آيات القرآن، فاذا كان يوم القيامة يقال لقارئ القرآن: اقرأ و ارق، فكلّما قرأ آية رقا درجة.»(1)

و ما عن الكليني بسنده عن حفص، قال: سمعت موسى بن جعفر عليه السّلام يقول - في حديث -:

«إنّ درجات الجنّة على قدر آيات القرآن؛ يقال له: اقرأ و ارق. فيقرأ ثمّ يرقا.»(2)

و غير ذلك.

و يشبه أن يكون السرّ في ذلك أن في كلّ سورة بل كلّ آية علم و معرفة و هداية و دعوة إلى الحقّ، فبالتمسّك بكل منها و المعرفة بها و التخلّق بموجبها و العمل بها درجة في التقرّب إلى اللّه سبحانه، و المتحصّل من مجموعها نهاية درجات القرب إليه سبحانه. و لمّا كان الدرجات الواقعة بين العبد و الحقّ مضاهيا لدرجات الجنّة و مطابقا لها، بل هي معانيها و أرواحها، و تلك قوالبها و مظاهرها، و جوائزها و آثارها المترتّبة عليها، كانت الدرجات أيضا على حسب السور و الآيات.

و لعلّ المراد من الحفظ و النسيان ليس مجرّد ألفاظ القرآن و نسيانها، بل

ص: 167


1- المجالس للصدوق (ره)، المجلس السابع و الخمسون، ح 10؛ و البحار، ج 92، باب فضل قراءة القرآن عن ظهر القلب، ص 197، ح 4؛ و الوسائل، ج 4، باب 11 من أبواب قراءة القرآن، ص 842، ح 10.
2- الكافي، ج 2، كتاب فضل القرآن، باب فضل حامل القرآن، ص 606، ح 10؛ و علم اليقين للفيض (ره)، ج 1، الباب الثاني عشر، ص 554؛ و الوسائل، ج 4، باب 11 من أبواب قراءة القرآن، ص 840، ح 3.

مع حفظ معانيها و الايمان بها و التخلّق بها و العمل بموجبها، كما يؤيّده مضافا إلى إشارة الاخبار المذكورة من ذكر التضييع و التمسّك و العمل و تركه، ما سيجيء في آداب القراءة و حامل القرآن - إن شاء اللّه تعالى -.

[رفعة مقام أهل القرآن]

و لعلّ ذلك هو المراد ممّا عن الكليني بسنده عن السكوني، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«إنّ أهل القرآن في أعلى درجة من الآدميّين ما خلا النبيين و المرسلين، فلا تستضعفوا أهل القرآن حقوقهم، فانّ لهم من اللّه العزيز الجبّار لمكانا.»(1)

و ما رواه الطبرسي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال:

«أهل القرآن هم أهل اللّه و خاصّته.»(2)

و ما رواه الصدوق باسناده عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال:

«أشراف أمّتي حملة القرآن و أصحاب اللّيل.»(3)

ص: 168


1- الكافي، ج 2، كتاب فضل القرآن، باب فضل حامل القرآن، ص 603، ح 1؛ و الوسائل، ج 4، باب 4 من أبواب قراءة القرآن، ص 830، ح 1؛ و روى الصدوق (رض) في ثواب الاعمال، ص 105، عن أبيه، عن أحمد بن إدريس، عن محمد بن أحمد، عن إبراهيم بن هاشم مثله.
2- في المخطوطة: «أهل اللّه خاصة». و الحديث فى مجمع البيان، ج 1، المقدمة، الفن السادس، ص 15، عن أنس بن مالك، عنه - صلّى اللّه عليه و آله -؛ و الوسائل، ج 4، باب 1 من أبواب قراءة القرآن، ص 825، ح 9؛ و أخرجه بهذا الاسناد أيضا ابن ماجة في سننه، ج 1، المقدمة، باب 16، ص 68، رقم 215، و الحاكم في المستدرك، ج 1، باب فضائل القرآن، ص 556.
3- الخصال، باب الواحد، ص 7، ح 21، و فيه: عن ابن عباس، عنه - صلى اللّه عليه و آله -؛ و هكذا في الفقيه و معاني الاخبار كما في الوسائل، ج 4، باب 4 من أبواب قراءة القرآن، ص 831، ح 2، و رواه أيضا الطبرسي في مجمع البيان، ج 1، المقدمة، الفنّ السادس، ص 16.

و لعلّ المراد من أصحاب اللّيل أرباب النفوس الساذجة من أهل المعرفة المنقطعين إلى اللّه سبحانه.

و ما عن تفسير الامام العسكري عليه السّلام عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال:

«حملة القرآن المخصوصون لرحمة اللّه، الملبّسون نور اللّه، المعلّمون كلام اللّه، المقرّبون عند اللّه؛ من والاهم فقد والى اللّه، و من عاداهم فقد عادى اللّه. يدفع اللّه عن مستمع القرآن بلوى الدنيا، و عن قارئه بلوى الآخرة - إلى أن قال: - و الّذي نفس محمّد صلّى اللّه عليه و آله بيده لسامع(1) آية من كتاب اللّه و هو معتقد أعظم أجرا من ثبير ذهبا يتصدّق به... و لقارئ(2) آية من كتاب اللّه معتقدا أفضل ممّا دون العرش إلى أسفل التخوم.»(3)

و ما رواه الكليني بسنده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال:

«الحافظ للقرآن العامل به مع السفرة الكرام البررة.»(4)

ص: 169


1- وقع التقديم و التأخير هنا في المخطوطة.
2- في المخطوطة: «لقارئه».
3- تفسير الامام العسكري - عليه السلام -، المقدمة، ص 4؛ و البحار، ج 92، باب فضل حامل القرآن، ص 182، ح 18؛ و الوسائل، ج 4، باب 4 من أبواب قراءة القرآن، ص 831، ح 4؛ و روى الطبرسي (ره) صدره في مجمع البيان، ج 1، المقدمة، الفنّ السادس، ص 15، عن أنس بن مالك، عنه - صلّى اللّه عليه و آله -.
4- الكافي، ج 2، كتاب فضل القرآن، باب فضل حامل القرآن، ص 603، ح 2؛ و هكذا رواه الصدوق (ره) في ثواب الاعمال، ص 127؛ و المعاني كما في الوسائل، ج 4، باب 5 من أبواب قراءة القرآن، ص 832، ح 1.

و بسنده عن معاوية بن عمّار قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام:

«من قرأ القرآن فهو غنيّ لا يفقر(1) بعده، و إلا ما به غنى.»(2)

[فضل قراءة القرآن و ختمه و استماعه]

و الاخبار الواردة في فضيلة قراءة القرآن زيادة على ما مرّ كثير؛

منها: ما رواه الكليني بسنده عن الزهري قال:

«قلت لعليّ بن الحسين عليهما السّلام: أيّ الاعمال أفضل؟

قال: الحالّ المرتحل.

قلت: و ما الحالّ المرتحل؟

قال: قال: فتح القرآن و ختمه؛ كلّما جاء بأوّله ارتحل بآخره.(3)

ص: 170


1- في بعض النسخ: «فقر».
2- الكافي، ج 2، كتاب فضل القرآن، باب فضل حامل القرآن، ص 605، ح 8؛ و ثواب الاعمال، ص 128؛ و الوسائل، ج 4، باب 6 من أبواب قراءة القرآن، ص 834، ح 3. قال الفيض (ره) في ذيل هذا الحديث في الوافي: «و ذلك لأنّ في القرآن من المواعظ ما إذا اتّعظ به استغنى عن غير اللّه في كل ما يحتاج إليه، و إن لم يستغن بالقرآن فما يغنيه شيء، و هذا أحد معاني قوله - صلّى اللّه عليه و آله -: من لم يتغنّ بالقرآن فليس منّا.»
3- في المآخذ: «في آخره». و قال المجلسي (رض) في مرآة العقول، ج 12، ص 488: «الحال المرتحل أي: عمله، و في النهاية: فيه أنه سئل أي الاعمال أفضل؟ فقال: الحال المرتحل. قيل: و ما ذلك؟ قال: الخاتم المفتتح، و هو الذى يختم القرآن بتلاوته، ثم يفتتح التلاوة من أوله، شبهه بالمسافر يبلغ المنزل فيحل فيه، ثم يفتتح السير؛ أي: يبتدئ به. و كذلك قراء مكة اذا ختموا القرآن بالتلاوة ابتدءوا و قرءوا «الفاتحة» و خمس آيات من أول سورة «البقرة» الى قوله «هُمُ الْمُفْلِحُونَ »،ثم يقطعون القراءة، و يسمون فاعل ذلك «الحال المرتحل»، أي: أنه ختم القرآن و ابتدأ بأوله و لم يفصل بينهما بزمان.»

و قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من أعطاه اللّه القرآن فرأى أنّ رجلا أعطي أفضل ممّا أعطي، فقد صغّر عظيما و عظّم صغيرا.»(1)

و عن الصدوق روايته أيضا كما رواه الكليني إلا أنّه قال: «كلّما حلّ بأوّله ارتحل في آخره.»(2) و هو أقرب و أنسب.

و منها: ما عنهما بسنديهما عن عبد اللّه بن سليمان، عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

«من قرأ القرآن قائما في صلاته كتب اللّه له بكلّ حرف مائة حسنة، و من قرأ في صلاته جالسا كتب اللّه له بكلّ حرف خمسين حسنة، و من قرأ في غير صلاة كتب اللّه له بكلّ حرف عشر حسنات.»(3)

ص: 171


1- الكافي، ج 2، كتاب فضل القرآن، باب فضل حامل القرآن، ص 605، ح 7؛ و الصافي، ج 1، المقدمة العاشرة، ص 43؛ و الوسائل، ج 4، باب 11 من أبواب قراءة القرآن، ص 839، ح 2.
2- راجع معاني الاخبار، باب معنى الحال المرتحل، ص 190.
3- الكافي، ج 2، باب ثواب قراءة القرآن، ص 611، ح 1، و فيه: «عن ابن محبوب، عن عبد اللّه بن سنان، عن معاذ بن مسلم، عن عبد اللّه بن سليمان، عن أبي جعفر - عليه السلام -.» و قال في ذيل هذا الحديث: «قال ابن محبوب: و قد سمعته عن معاذ على نحو ممّا رواه ابن سنان.» و هكذا في ثواب الاعمال، ص 126؛ و الوسائل، ج 4، باب 11 من أبواب قراءة القرآن، ص 840، ح 4.

و الظاهر أن الاخير من جهة أنّ كلّ حرف منها حسنة، و «مَنْ جٰاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثٰالِهٰا.» (1) و الاوّل لأنّ جعله في الصلاة حسنة أخرى، فيضرب العشر في العشر، أو لأنّ حالة الصلاة يقتضي المضاعفة كذلك، و الثاني لأنّ صلاة الجالس نصف القائم.

و منها: ما عن الكليني بسنده عن بشير بن غالب الأسدي، عن الحسين بن عليّ عليهما السّلام قال:

«من قرأ آية من كتاب اللّه عزّ و جلّ في صلاته قائما يكتب اللّه له بكلّ حرف مائة حسنة، فان قرأها في غير صلاة كتب اللّه له بكلّ حرف عشر حسنات، و إن استمع القرآن كتب اللّه له بكلّ حرف حسنة، و إن ختم القرآن ليلا صلّت عليه الملائكة حتّى يصبح، و إن ختمه نهارا صلّت عليه الحفظة حتّى يمسي، و كانت له دعوة مجابة، و كان خيرا له ممّا بين السماء إلى الارض.

قلت: هذا لمن قرأ القرآن، فمن لم يقرأه؟

قال: يا أخا بني أسد، إنّ اللّه جواد ماجد كريم، إذا قرأ ما معه أعطاه اللّه ذلك.»(2)

ص: 172


1- الانعام/ 160.
2- الكافي، ج 2، باب ثواب قراءة القرآن، ص 611، ح 3؛ و الوسائل، ج 4، باب 11 من أبواب قراءة القرآن، ص 841، ح 5؛ و هكذا رواه ابن فهد الحلّي في عدة الداعي كما في البحار، ج 92، باب فضل قراءة القرآن عن ظهر القلب، ص 200، ح 17. قال الفيض (ره) في الوافي: «لعلّ المراد بختمه ليلا و نهارا فراغه منه فيهما، لا ختمه كلّه فيهما. و أما الدعوة المجابة، فانّما تترتّب على ختمه كله.»

و ما عنه باسناده عن محمّد بن بشير، عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام [قال:](1) و قد روي هذا الحديث عن الصادق عليه السّلام قال:

«من استمع حرفا من كتاب اللّه من غير قراءة كتب اللّه له حسنة، و محى عنه سيّئة، و رفع له درجة؛ و من قرأ نظرا من غير صلاة كتب اللّه له بكلّ حرف حسنة، و محى عنه سيّئة و رفع له درجة؛ و من تعلّم منه حرفا ظاهرا كتب اللّه له عشر حسنات، و محى عنه عشر سيّئات، و رفع له عشر درجات.

قال: لا أقول بكلّ آية، و لكن بكلّ حرف، باء أو تاء أو شبههما.

قال: و من قرأ حرفا و هو جالس في صلاة كتب اللّه له خمسين حسنة، و محى عنه خمسين سيّئة، و رفع له خمسين درجة؛ و من قرأ حرفا و هو قائم في صلاته كتب اللّه له مائة حسنة، و محى عنه مائة سيّئة، و رفع له مائة درجة؛ و من ختمه كانت له دعوة مستجابة، مؤخّرة أو معجّلة.

قال: قلت: جعلت فداك، ختمه كلّه؟

قال: ختمه كلّه.»(2)

و بهذا السند عن الصادق عليه السّلام قال:

«سمعت أبي يقول: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ختم القرآن إلى

ص: 173


1- القائل يمكن أن يكون المصنف (ره) كما احتمله المولى محمد صالح المازندراني (رض) في شرحه على الكافي، أو الراوي كما ذكر في بعض النسخ.
2- الكافي، ج 2، باب ثواب قراءة القرآن؛ و الوسائل، ج 4، باب 11 من أبواب قراءة القرآن، ص 841.

حيث يعلم.»(1)

و لعلّ المراد بالحسنة لقراءة الحرف هو الحسنة المضاعفة عشرا، فيكون لتعلّمه عشرة مضاعفة إلى المائة بظاهر السياق.

و منها: ما عنه بسنده عن عمرو بن أبي المقدام، عن الصادق عليه السّلام في حديث قال:

«ما من عبد من شيعتنا يتلوا القرآن في صلاته قائما إلا و له بكلّ حرف مائة حسنة، و لا قرأ في صلاته جالسا إلا و له بكلّ حرف خمسون حسنة، و لا في غير صلاته إلا و له بكلّ حرف عشر حسنات.»(2)

و لعلّ التخصيص بالشيعة لاختصاص قبول الاعمال أو مضاعفتها لهم.

و منها: ما عنه بسنده عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من قرأ عشر آيات في ليلة لم يكتب من الغافلين، و من قرأ خمسين آية كتب من الذاكرين،

ص: 174


1- في بعض النسخ: «تعلم». و الحديث في المصادر السابقة. قال الفيض (ره) في الوافي: «يعني: ختمه فى حقك أن تقرأ كل ما تعلم منه.» و قال المجلسى (ره) فى مرآة العقول: «ربي حيث يعلم؛ في بعض النسخ: «إلى»، و في بعضها: «إلى ربي»، و على نسخة: «إلى» بدون ربي. لعلّ المراد أن من قرأ القرآن قدر ما يعلم يعطى ثواب ختمه، فيترتب ثواب الختم على ختم هذا القرآن الذي نقرؤه، و إن كان في الواقع أكثر من ذلك. و على نسخة: «ربي» فقط؛ لعلّ المراد أنه تعالى جعل مجموع القرآن عند من يعلم، أي: الائمة - عليهم السلام -. و على الجمع بينهما لعلّ المراد، أن ثوابه إلى اللّه تعالى لا يعلم غيره لكثرته، و اللّه يعلم.»
2- الكافي، ج 8 (الروضة) ص 214، ح 260؛ و الوسائل، ج 4، باب 11 من أبواب قراءة القرآن، ص 842، ح 8.

و من قرأ مائة آية كتب من القانتين، و من قرأ مائتي آية كتب من الخاشعين، و من قرأ ثلاث مائة آية كتب من الفائزين، و من قرأ خمس مائة آية كتب من المجتهدين، و من قرأ ألف آية كتب له قنطار - القنطار خمسة عشر ألف مثقال من ذهب؛ المثقال أربعة و عشرون قيراطا - أصغرها مثل جبل أحد، و أكبرها ما بين السماء و الارض.»(1)

و منها: ما عنه باسناده عن ابن القدّاح، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«قال أمير المؤمنين عليه السّلام: البيت الّذي يقرأ فيه القرآن و يذكر اللّه عزّ و جلّ فيه تكثر بركته، و تحضره الملائكة، و تهجره الشياطين، و يضيء لأهل السماء كما تضيء الكواكب لأهل الارض؛ و إنّ البيت الّذي لا يقرأ فيه القرآن و لا يذكر اللّه عزّ و جلّ فيه تقلّ بركته، و تهجره الملائكة، و تحضره الشياطين.»(2)

و قريب من جملة ممّا فيه أخبار أخر، و منها غير ذلك.

ص: 175


1- في بعض النسخ: «إلى الارض». و الحديث في الكافي، ج 2، باب ثواب قراءة القرآن، ص 612، ح 5؛ و رواه أيضا الصدوق (ره) في ثواب الاعمال و المجالس و المعاني كما في الوسائل، ج 4، باب 17 من أبواب قراءة القرآن، ص 851، ح 2.
2- الكافي، ج 2، باب البيوت الّتي يقرأ فيها القرآن، ص 610، ح 3؛ و الوسائل، ج 4 باب 16 من أبواب قراءة القرآن، ص 850، ح 2.

المقدّمة الحادية عشر في ذكر جملة ممّا ورد في آداب التّلاوة الظّاهريّة و الباطنيّة و كيفيّتها، و ما يتعلّق بذلك

و الآداب المرغّب فيها كثيرة:

[استحباب النّظر في المصحف حال القراءة]

منها: النظر إلى المصحف حال القراءة و كون القراءة منه؛ فعن الكليني باسناده عن إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«قلت [له]: جعلت فداك، إنّى أحفظ القرآن على ظهر قلبي فأقرأه على ظهر قلبى أفضل أو أنظر في المصحف؟

قال: فقال عليه السّلام لي: بل اقرأه و انظر في المصحف، فهو أفضل، أ ما علمت أنّ النظر في المصحف عبادة؟»(1)

و عنه باسناده عن يعقوب بن يزيد رفعه إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«من قرأ القرآن في المصحف متّع ببصره، و خفّف على والديه و إن كانا كافرين.»(2)

و عن ثواب الاعمال روايته باسناده عنه، عن رجل عن العوّام رفعه مثله إلا

ص: 176


1- الكافي، ج 2، باب قراءة القرآن في المصحف، ص 613، ح 5؛ و الصافي، ج 1، المقدمة الحادية عشرة، ص 44؛ و الوسائل، ج 4، باب 19 من أبواب قراءة القرآن، ص 854، ح 4.
2- الكافي، ج 2، باب قراءة القرآن في المصحف، ص 613؛ و الوسائل، ج 4، باب 19 من أبواب قراءة القرآن.

أنّه قال: «في المصحف نظرا.»

و زاد: و بهذا الاسناد رفعه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال:

«ليس شيء أشدّ على الشيطان من القراءة في المصحف نظرا.»(1)

و عن الكلينى باسناده عن الحسن بن راشد، عن جدّه، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«قراءة القرآن في المصحف تخفّف العذاب عن الوالدين و إن كانا كافرين.»(2)

و عن الامالي باسناده عن أبي ذرّ قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول:

«النظر إلى عليّ بن أبي طالب عليه السّلام عبادة، و النظر إلى الوالدين برأفة و رحمة عبادة، و النظر في الصحيفة يعني صحيفة القرآن عبادة، و النظر إلى الكعبة عبادة.»(3)

و لعلّ السرّ في استحبابه أنه شغل العين بملاحظة كلام اللّه سبحانه، أو أنّه يورث زيادة توجّه القلب إليه، أو أنّه يمنع العين عن شغله بغيره الصارف للقلب عنه.

[استحباب الطّهارة عند قراءة القرآن]

و منها: الطهارة؛ فعن عبد اللّه بن جعفر الحميري [ره] في قرب الاسناد، عن

ص: 177


1- ثواب الاعمال، ص 128 و 129؛ و الوسائل، ج 4، باب 19 من أبواب قراءة القرآن، ص 853، ح 1 و 2.
2- راجع المصادر المذكورة في تعليقة 2 ص 176.
3- أمالي الشيخ، ج 2، الجزء السادس عشر، ص 70؛ و الوسائل، ج 4، باب 19 من أبواب قراءة القرآن، ص 854، ح 5.

محمّد بن عبد الحميد، عن محمّد بن الفضيل، عن أبي الحسن عليه السّلام قال:

«سألته: أقرأ المصحف ثمّ يأخذني البول، فأقوم فأبول و أستنجي و أغسل يدي و أعود إلى المصحف فأقرأ فيه؟

قال: لا، حتّى تتوضّأ للصلاة.»(1)

و المراد من الوضوء للصلاة إنّما الوضوء المأتيّ به لأجله، و يكون ذلك لأنّه أدخل في الطهارة من غيره، أو الوضوء الّذي من شأنه أن يتوصّل به إليها و إن لم يفعله لها، فيكون المراد هو الوضوء الرافع للحدث، أو غير ذلك.

و عن الصدوق [ره] في الخصال باسناده عن عليّ عليه السّلام في حديث الاربعمائة قال:

«لا يقرأ العبد القرآن إذا كان على غير طهور حتّى يتطهّر.»(2)

و عن ابن فهد [ره] في عدّة الداعي قال: قال عليه السّلام(3):

«لقارئ القرآن بكلّ حرف يقرؤه في الصلاة قائما مائة حسنة، و قاعدا خمسون [حسنة]، و متطهّرا في غير صلاة خمس و عشرون حسنة، و غير متطهّر عشر حسنات. أما إنّي لا أقول «المر»، بل بالالف عشر، و باللام عشر و بالميم عشر، و بالراء عشر.»(4)

ص: 178


1- قرب الاسناد، ص 175؛ و الوسائل، ج 4، باب 13 من أبواب قراءة القرآن، ص 847، ح 1.
2- الخصال، ج 2، حديث الاربعمائة، ص 627؛ و الوسائل، ج 4، باب 13 من أبواب قراءة القرآن، ص 847، ح 2.
3- و الظاهر أن المراد من «قال عليه السلام» هو: جعفر بن محمد الصادق - عليه آلاف التحية و السلام - كما يظهر من رواية سبقت على هذا الحديث فى العدة.
4- عدة الداعى (المخطوطة)، الباب السادس، ص 256؛ و الوسائل، ج 4، باب 13 من أبواب قراءة القرآن، ص 848، ح 3.

و لعلّ السرّ في ذلك أنّ حالة الطهارة أقرب إلى الاستفاضة بأنوار القرآن من حالة الحدث، كما أنّ طهارة القلب عن الادناس الباطنيّة معدّ لحصول تلك الفيوضات للقارئ، بل الظاهر أنّه أولى بالمراعات؛ إذ هو المعنى و الروح، و الطهارة الظاهريّة صورة و قالب، و بينهما ارتباط كسائر المعاني و الصور، فلا بدّ من الجمع بينهما في تحصيل الكمال على ما يخطر بالبال، و اللّه العالم بحقيقة الحال.

[خفض الصّوت و رفعه و رجحان أحدهما على الآخر]

و منها: خفض الصوت به؛ ففي المجالس و الاخبار باسناده عن أبي ذرّ، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في وصيّته له، قال:

«يا أبا ذرّ، أخفض صوتك عند الجنائز، و عند القتال، و عند القرآن.»(1)

و روى الكليني [ره] عن الباقر عليه السّلام أنّ:

«من قرأ «إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ» يجهر بها صوته كان كالشاهر سيفه في سبيل اللّه، و من قرأها سرّا كان كالمتشحّط بدمه في سبيل اللّه.»(2)

و الثاني أرفع شأنا من الاوّل.

و أمّا ما روي عن ابن إدريس في آخر السرائر بسند ظاهره الصحّة، عن معاوية بن عمّار قال:

ص: 179


1- المجالس و الاخبار (الامالي) للشيخ، ج 2، المجلس الاول، ص 146؛ و الوسائل، ج 4، باب 23 من أبواب قراءة القرآن، ص 858، ح 3.
2- الكافي، ج 2، باب فضل القرآن، ص 621، ح 6؛ و الوسائل، ج 4، باب 23 من أبواب قراءة القرآن، ص 857، ح 1؛ و هكذا رواه الصدوق (ره) في ثواب الاعمال، ص 152.

«قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: الرجل لا يرى أنّه صنع شيئا في الدعاء و في القراءة حتّى يرفع صوته.

فقال عليه السّلام: لا بأس، إنّ عليّ بن الحسين عليهما السّلام كان أحسن الناس صوتا بالقرآن، و كان يرفع صوته حتّى يسمعه أهل الدار، و إنّ أبا جعفر عليه السّلام كان أحسن الناس صوتا بالقرآن و كان إذا قام من اللّيل و قرأ رفع [به] صوته، فيمرّ به مارّ الطريق من السقّائين و غيرهم، فيقومون فيستمعون إلى قراءته.»(1)

فصدره لا يدلّ على أزيد من نفي البأس عن رفع الصوت لمن كان كذلك، و هو محتمل لنفي الكراهة و إن تضمّن ترك بعض الآداب؛ إذ ليس كلّ ترك مستحبّ مكروها بالمعنى الشائع، و لكونه لأجل ترجيح ما يترتّب على رفع الصوت لمن كان كذلك من تأثّر القلب أو التّحزّن و غيرهما على الخفض، و لنفي كون السنّة الاخفات مطلقا بحيث يخرج الجهر بها عن السنّة.

و أمّا ذيله فاجهار الامامين عليهما السّلام لأجل تنبيه السامعين و تأثيره في قلوبهم، خصوصا على الحالة الّتي يقرءاه، فيكون القراءة موعظة و تذكيرا في ضمن عبادة، و هو حينئذ أرجح من ملاحظة استحباب الخفض بالقراءة، خصوصا من الامام المنصوب لتكميل العباد؛ لكن لا يبعد أن يكون رجحان الاسرار غير عامّ بحسب حالات القارئ و إن كان الظاهر أرجحيّة إخفاء العبادات المندوبة؛ إذ النسبة بين

ص: 180


1- السرائر، باب النوادر (المستطرفات)، ص 484، و قد نقله من كتاب نوادر المصنفين لمحمد بن علي بن محبوب الاشعري الجوهري القمي؛ و هكذا في الوسائل، ج 4، باب 23 من أبواب قراءة القرآن، ص 858، ح 2؛ و البحار، ج 92، باب قراءة القرآن بالصوت الحسن، ص 194، ح 9.

الإسرار و الإظهار للغير عموم من وجه، و حينئذ فيحتمل قويّا أن يكون في الحكم الاسرار و الاجهار مختلفا بحسب الاحوال، فمن كان الإسرار له أخلص من جهة النيّة، أو أدخل في التوجّه، كان أرجح له، و من كمل إخلاصه، أو كان متخلّيا عن الناس، و كان الاجهار أشدّ تأثيرا في القلب، أو أجمع للفكر، أو كان منبّها للغير، أو نحو ذلك، كان أولى له.

و يؤيّد أولويّة الجهر في الجملة ما رواه الكليني بسنده عن أبي بصير قال:

«قلت لأبي جعفر عليه السّلام: إذا قرأت القرآن فرفعت به صوتي جاءني الشيطان فقال: إنّما ترائي بهذا أهلك و الناس.

فقال: يا أبا محمّد، اقرأ قراءة ما بين القراءتين تسمع أهلك، و رجّع بالقرآن صوتك، فانّ اللّه عزّ و جلّ يحبّ الصوت الحسن.»(1)

و لا يبعد أن يكون ذلك لاستظهاره عليه السّلام أنّ ذلك الخطور له بالنسبة إلى الاهل محض خطور لا يؤثّر في نيّته، فيكون من قبيل تصوّر الرياء بخلافة بالنسبة إلى الناس؛ إذ ربّما يشوب النيّة فيمنعه عن كمال الاخلاص.

[استحباب تحسين الصّوت و عدم جواز التّرجيع و الغناء]

و منها: تحسين الصوت؛ كما دلّ عليه ذيل الخبرين المتقدّمين، و ما رواه الكليني بسنده عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لكلّ شيء حلية، و حلية القرآن الصوت الحسن.»(2)

ص: 181


1- الكافي، ج 2، باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن، و الصافي؛ ج 1، المقدمة الحادية عشرة، ص 45؛ و الوسائل، ج 4، باب 24 من أبواب قراءة القرآن.
2- نفس المصادر، و كذا في جامع الاخبار، ص 49، و فيه: أنس بن مالك، عن النبي - صلّى اللّه عليه و آله -.

و ما رواه في المرسل عنه عليه السّلام قال:

«كان عليّ بن الحسين عليهما السّلام أحسن الناس صوتا بالقرآن، و كان السقّاءون يمرّون فيقفون ببابه يستمعون قراءته.»(1)

و ما رواه عن عليّ بن محمّد النوفلي، عن أبي الحسن عليه السّلام، قال:

«ذكرت الصوت عنده، فقال: إنّ عليّ بن الحسين عليهما السّلام كان يقرأ فربّما مرّ به المارّ فصعق من حسن صوته.»(2)

و ما رواه الصدوق في عيون الاخبار باسنادين عن الرضا عليه السّلام قال:

«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: حسّنوا القرآن بأصواتكم، فانّ الصوت الحسن يزيد القرآن حسنا.»

و زاد في إحدى الروايتين:

«و قرأ: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مٰا يَشٰاءُ .» (3).

و ما رواه الطبرسي في مجمع البيان عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله تعالى: «وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً » (4) ،قال:

ص: 182


1- الكافي، ج 2، باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن؛ و الصافي، ج 1، المقدمة الحادية عشرة، ص 45؛ و الوسائل، ج 4، باب 24 من أبواب قراءة القرآن، ص 859.
2- نفس المصادر.
3- الآية: فاطر/ 1؛ و الروايتين: تجد الاخيرة في العيون، ج 2، باب 31، ص 68، ح 323، عن دارم بن قبيصة، عنه - عليه السلام -، عن آبائه - عليهم السلام -، عنه - صلّى اللّه عليه و آله -؛ و أما الرواية الاولى فلم نعثر عليها فيما بأيدينا من نسخ العيون؛ و لكن نقلهما الشيخ حرّ العاملي (رض) عنه فى الوسائل، باب 24 من أبواب قراءة القرآن، ص 859 و 860، ح 6 و 7. و اسناد الرواية الاولى على ما في الوسائل هو: محمد بن عمر الجعابي، عن الحسن بن عبد اللّه التميمي، عن أبيه، عن الرضا - عليه السلام -، عنه - صلى اللّه عليه و آله و سلّم -.
4- المزّمّل/ 4.

«هو أن تتمكّث فيه و تحسن به صوتك.»(1)

أقول:

قد يكون حسن الصوت طبيعيّا منشؤه كون آلات التنفّس و التكلّم بحيث يصدر عنه الكلام حسنا و ملائما مناسبا لسمع السامعين، بحيث يستلذّ به السامع، كما أنّها قد تكون على خلاف ذلك بحيث يخرج منه الكلام على وجه تشمئزّ منه النفوس؛ كصوت الحمار. و هذا في الصوت كالحسن و القبح في الوجه و غيره من سائر الاشياء. و قد يكون اختياريّا ناشئا من طرف المادّة باعتبار إخراج الحروف من أليق حدود مخارجها بها على وجه متناسب، كما يشاهد في بعض القرّاء، أو من طرف الهيئات العارضيّة للحروف، المحسّنة لها، المزيّنة إيّاها، باعتبار الانفراد و التأليف مع غيرها بحيث يميل إلى معروضها نفس السامع، كما يعرض القبح للكلام بالاعتبارين، كما هو المشاهد من بعض الناس. و قد يكون اختياريّا ناشئا من ترجيح الصوت و ترديده بكيفيّات خاصّة، بحيث تؤثر في النفس سرورا و حزنا، مع قطع النظر عن مادّة الحروف و الكلمات و هيئاتها العارضة لها، بل هو خارج عنها أصلا، بل ربّما يؤثّر تأثيرها في نفس السامع مع عدم سماعه لجوهر الكلام.

و بيان هذا النمط من الحسن هو الّذي تكفّل له علم الموسيقى المعدود من أجزاء علم الحكمة، و له أقسام و قواعد مسطورة فيه.

و لا يبعد أن يكون هذا القسم بالخصوص هو المراد بالغناء الّذي ورد عنه النهي في الاخبار و أفتى بحرمته العلماء، و يشبه أن يكون موضوعه ظاهرا عند أهله و من له بصيرة بهذا الشأن، و لو في الجملة؛ إذ ليس كلّ من يعرف حسن الشيء من قبحه يقدر على صناعته، كما يظهر بين الخطّ الحسن و القبيح، و البناء الحسن

ص: 183


1- مجمع البيان، ج 5، ص 378؛ و الوسائل، ج 4، باب 21 من أبواب قراءة القرآن، ص 856، ح 4.

من القبيح. و الظاهر أنّ هذا من الكيفيّات العارضة للصوت؛ كعروض هيئة الشعر على الكلمات في تعيّنه واقعا، و انقسامه إلى أقسام محصورة في الواقع، و معرفته من لا يقدر على إحداثه، و اختلاف الصانعين في جودة الطبع و عدمها، و مقدار الاكتساب. و هذه الكيفيّة هي ترجيع خاصّ معهود، و مطرب مؤثّر في النفس سرورا و حزنا، و هو المراد من تفسيره بالترجيع، أو مع قيد الاطراب، أو ما يعبّر عنه في الفارسيّة ب «خوانندگى»، و نحوها إن أريد بها، و ما يشبهها المعاني المعهودة عند أهل الخبرة بهذا الشأن.

و هاهنا نوع آخر من حسن الصوت بالقرآن يحصل من حال القارئ إذا ترقّى في مقامات القراءة من هذا العالم إلى عالم السرور و البهاء و القدس، فانه يحدث لقراءته ملاحة و حسنا، و يتلبّس بها كلامه بحيث يبتهج به السامع ابتهاجا روحانيّا لصدوره من عالم البهجة و الحسن و الجمال، و ظهور حال المتكلّم و صفاته في الكلام، كما يظهر حزنه و سروره فيه بحيث سرى منه إلى السامع، كما يؤثّر الغناء في ذلك، و كما أنّه إذا خرج عن القلب دخل في القلب. و يشبه أن يكون هذا النمط من الحسن هو ما كان لداود و عليّ بن الحسين و الباقر عليهم السّلام على ما روي في الأخبار، أو نمط أعلى من ذلك يشابهه في الروحانيّة، و ذلك بخروج القرآن عن لسان المتكلّم على ما هو عليه من البهاء و الكمال الروحاني، أو عن مبدئه الّذي له الجمال المطلق.

و ممّا ذكر يظهر أنّه لا يختصّ تحسين الصوت بالقرآن، و الترجيع به بالتغنّي به، بل ليس لتلك الاخبار الواردة ظهور تامّ في جوازه فضلا عن رجحانه، فالخروج بها عن إطلاق ما دلّ على حرمته جرأة تامّة، خصوصا بملاحظة ما رواه الكليني بسنده عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اقرءوا القرآن بألحان العرب و

ص: 184

أصواتها، و إيّاكم و لحون أهل الفسق و أهل الكبائر! فانّه سيجيء من بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء و النوح و الرهبانيّة، لا يجوز تراقيهم، قلوبهم مقلوبة و قلوب من يعجبه شأنهم.»(1)

[استحباب التّرتيل في القراءة و معنى التّرتيل]

و منها: الترتيل؛ قال سبحانه: «وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً.»

و عن الكافي بسنده عن عبد اللّه بن سليمان قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن ذلك، قال:

«قال أمير المؤمنين: بيّنه تبيانا، و لا تهذّه هذّ الشعر، و لا تنثره نثر الرمل، و لكن أقرعوا(2) به قلوبكم القاسية، و لا يكن همّ أحدكم آخر السورة.»(3)

و روى الطبرسي قريبا من ألفاظه عنه عليه السّلام مرسلا (4).لكنّ الموجود في

ص: 185


1- الكافي، ج 2، باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن، ص 614، ح 3؛ و رواه أيضا الطبرسي (ره) في مجمع البيان، ج 1، المقدمة، الفن السابع، ص 16، عن حذيفة بن اليمان، عنه - صلّى اللّه عليه و آله -؛ و الشيخ البهائي (قده) في كشكوله، ج 2، ص 16، مرسلا عن أبي عبد اللّه - عليه السلام -، عنه - صلّى اللّه عليه و آله -؛ و هكذا في الوسائل، ج 4، باب 24 من أبواب قراءة القرآن، ص 858، ح 1.
2- في بعض النسخ: «أفزعوا» أو «فزعوا».
3- الكافي، ج 2، باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن، ص 614، ح 1؛ و الصافي، ج 1، المقدمة الحادية عشرة، ص 45؛ و الوسائل، ج 4، باب 21 من أبواب قراءة القرآن، ص 856، ح 1. و قال الفيض (ره) في الصافي: «الهذّ: السرعة في القراءة؛ أي: لا تسرع فيه كما تسرع في قراءة الشعر، و لا تفرق كلماته بحيث لا تكاد تجتمع كذرّات الرمل، و المراد به الاقتصاد بين السرعة المفرطة و البطوء المفرط.»
4- راجع مجمع البيان، ج 5، ص 378.

النسخة أفزع بالموحّدتين، كما أنّ الموجود في نسخة الوسائل عن الكليني أقرع بالمثنّاة و المهملة، كما أنّ الموجود في نسخة تفسير عليّ بن إبراهيم هكذا:

قال:

«بيّنه تبيانا، و لا تنثره نثر الرمل، و لا تهذّه هذّ الشعر، و لكن أقرع به القلوب القاسية».(1)

و قال الطبرسي بعد الرواية: و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«إذا مررت بآية فيها ذكر الجنّة فاسأل اللّه الجنّة، و إذا مررت بآية فيها ذكر النار، فتعوّذ باللّه من النار.»(2)

و قد سبق رواية أخرى عنه فيه.

و روى غيره عن الصادق عليه السّلام في المرسل كالصحيح:

«ينبغي للعبد إذا صلّى أن يرتّل في قراءته، فاذا مرّ بآية [فيها] ذكر الجنّة و ذكر النار سأل اللّه الجنّة و تعوّذ [باللّه] من النار، و إذا مرّ ب (3): «يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ» و «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» يقول: لبّيك ربّنا»(4)

ص: 186


1- القمي، ج 2، ص 392.
2- مجمع البيان، ج 5، ص 378؛ و البحار، ج 92، باب آداب القراءة و أوقاتها، ص 216، ح 20؛ و الوسائل، ج 4، باب 3 من أبواب قراءة القرآن، ص 830، ح 8.
3- في المخطوطة: «إذا قرأ».
4- رواه الشيخ (ره) في التهذيب، ج 2، باب في كيفية الصلاة و صفتها....، ص 124، ح؛ و نقله الحرّ العاملي (ره) في الوسائل، ج 4، باب 18 من أبواب القراءة في الصلاة، ص 753، ح 1.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام تفسيره ب: «حفظ الوقوف، و أداء الحروف.»(1)

و عن دعائم الاسلام عن أمير المؤمنين عليه السّلام على ما نقله بعض الفقهاء عقيب رواية عبد اللّه بن سليمان:

«و لا تنثره نثر الرمل، و لا تهذّه هذّ الشعر، قفوا عند عجائبه، و حرّكوا به القلوب، و لا يكن همّ أحدكم آخر السورة.»(2)

و قد اختلفوا تعبيرا في تفسير الترتيل، فقال الجوهري في الصحاح: «الترتيل في القراءة: الترسّل فيها، و التبيين بغير بغي و كلام، رتّل بالتحريك أي: مرتّل، و ثغر رتّل أيضا إذا كان مستوى البنات.»

و عن ابن عباس في تفسيره في الآية: «بيّنه تبيانا، و اقرأه على هنيئتك ثلاث آيات و أربعا و خمسا.»(3)

ص: 187


1- نقله الفيض (ره) في الصافي، ج 1، المقدمة الحادية عشرة، ص 45؛ و المجلسي (ره) في البحار، ج 67، باب علامات المؤمن و صفاته، ص 323؛ و ج 85، كتاب الصلاة، باب القراءة و آدابها، ص 8.
2- دعائم الاسلام، ج 1، كتاب الصلاة، باب في ذكر صفات الصلاة ص 161. و المراد من بعض الفقهاء هو: الشيخ محمد حسن النجفي - قدّس اللّه سرّه - صاحب الجواهر، و قد نقله في ج 9، كتاب الصلاة، باب القراءة، ص 392 من كتابه؛ و نقله أيضا المجلسي (رض) عن الدعائم، عنه - عليه السلام - في البحار، ج 85، باب القراءة و آدابها من كتاب الصلاة، ص 50، و عن نوادر الراوندي، عن موسى بن جعفر، عن آبائه - عليهم السلام -، عن النبي - صلّى اللّه عليه و آله - في ج 92، باب آداب القراءة من كتاب القرآن، ص 215، ح 17؛ و هكذا أخرجه العسكري فى المواعظ عن عليّ - عليه السلام -، عنه - صلّى اللّه عليه و آله - كما في الدرّ المنثور، ج 6، ص 277.
3- راجع مجمع البيان، ج 5، ص 377.

و عن الزجاج: «البيان لا يتمّ بأن يعجل في القرآن، إنّما يتمّ بأن يبيّن جميع الحروف و توفي حقّها من الاشباع.»(1)

و عن مجاهد: «معناه: يرسّل فيه ترسيلا.»(2) و عن قتادة: «ثبت فيه تثبيتا.»(3)

و قيل: «الترتيل هو أن يقرأه على نظمه و تواليه، و لا يغيّر لفظا، و لا يقدّم مؤخّرا، و هو مأخوذ من ترتّل الاسنان إذا استوت و حسن انتظامها.»(4)

و قيل: «رتّل معناه: ضعّف، و الرتل: اللّين» عن قطرب، قال: «و المراد بهذا تحزين القرآن، أي: اقرأه بصوت حزين.»(5)

و عن بعض تفسيره ب «الترسّل و التؤدة بتبيين الحروف و إشباع الحركات.»(6)

و عن آخر: «بالتأنّي و التمهّل، و تبيين الحروف و الحركات»، قال: «تشبيها بالثغر المرتّل، و هو المشبّه بنور الاقحوان.»(7)

و عن الشيخ الطوسي [ره] و غيره تفسيره ب «تبيين الحروف من غير مبالغة »(8).

ص: 188


1- نفس المصدر؛ و هكذا نقله الطوسي (ره) في التبيان، ج 10، ص 162؛ و الرازي في التفسير الكبير، ج 8، ص 334.
2- التبيان، ج 10، ص 162؛ و مجمع البيان، ج 5، ص 377؛ و الدرّ المنثور، ج 6، ص 277.
3- راجع مجمع البيان، ج 5، ص 376.
4- نفس المصدر، ص 378.
5- نفس المصدر.
6- هذا التفسير للزمخشري على الظاهر، راجع الكشّاف، ج 4، ص 152.
7- القول لابن الاثير كما يقول في النهاية؛ و هكذا في تفسير القرطبي، ج 1، ص 17.
8- التبيان، ج 7، ص 488، و ج 10، ص 162؛ و هكذا في منتهى المطلب للعلامة كتاب الصلاة، باب القراءة، ص 278؛ و المعتبر للمحقّق الحلّي، كتاب الصلاة، باب القراءة، ص 176، نقلا عن الشيخ.

و عن العلامة: ب «بيان الحروف و إظهارها»، و ب «أن لا يمدّه بحيث يشبه الغناء.»(1) و كأنّهما مأخوذان من كلام الجوهري من التقييد بغير بغي(2).

و عن إرشاد الجعفريّة ب: «تبيين الحروف و إظهارها »(3).و عن المدارك ب «الترسّل و التبيين و حسن التأليف.»(4) و عن جماعة ب «حفظ الوقوف و أداء الحروف.»(5)

و أكثر هذه التعبيرات متقاربة المفاد، و ليس المفسّر ملتزما بايراد الحدّ الجامع المانع، و إنّما عليه كشف المعنى و لو في الجملة، كما هو الظاهر من ملاحظة كلمات أهل اللّغة و التفسير.

و فسّره بعض الفقهاء ب «الترسّل و التأنّي بالقراءة بسبب المحافظة على كمال بيان الحروف و الحركات، فيحسن تأليفه و تنضيده، و يكون كالثغر المرتّل الّذي حسن نضده بسبب ما فيه من الفلج حتّى شبّه بنور الاقحوان، بخلاف غير المرتّل من الكلام الّذي يشبه في تتابعه الثغر الألصّ، أو الشعر الذي يهذّ و يسرع في تأديته، أو الرمل المنثور الذي بعضه على بعض؛ كالدقل من التمر المتراكم قبل سقوطه أو بعده إذا تساقط متتابعا.»(6)

ص: 189


1- ذكره (ره) في نهاية الاحكام، كتاب الصلاة، باب القراءة؛ و تذكرة الفقهاء ج 1، كتاب الصلاة، ص 117.
2- كما قال (ره) في الجواهر، ج 9، ص 394.
3- كما في المصدر السابق؛ و مفتاح الكرامة، كتاب الصّلاة، باب القراءة.
4- مدارك الاحكام، كتاب الصلاة، باب القراءة.
5- كالشهيد الاول - قدّس اللّه روحه -، ذكره في الذكرى، ج 1، كتاب الصلاة باب القراءة (الواجب الرابع)؛ و هكذا فى الجواهر، ج 9، ص 391-395، و لقد يوجد فيه كثير من الاقوال المتقدمة كما أشرنا إلى بعضها فيما سبق.
6- الكلام لصاحب الجواهر، راجع المصدر، ج 9، كتاب الصلاة، باب القراءة، ص 392.

و استظهر أن يكون هو المراد لأكثر اللّغويين و الفقهاء و إن اختلفت عباراتهم.

و يشبه أن يكون الجامع لجميع ما ذكر عدا ما عن قطرب، الترسّل و التأنّي و التؤدة و التمهّل فيها، فلا يكون هذّا كهذّ الشعر على ما عن ابن الاثير من تفسيره بترك الاسراع فيه و ترك الافراط في التمهّل، فيكون نثرا كنثر الرمل أو الدقل على أحد الاحتمالين، و تبيين الحروف و إظهارها، و ترك المبالغة فيه، و توفية حقّها من الاشباع، و بيان الحركات، و المحافظة على نظمه و تواليه بحيث يحسن تأليفه، و يحفظ وقوفه. و هذا قريب ممّا سبق عن المدارك.

و لعلّ الجامع لها هو: إفصاح الكلام و إظهاره مادّة و هيئة على الوجه الّذي ينبغي أن يكون عليه، بحيث يكون ظاهر الأجزاء منفصلة الابعاض مع بقاء نظامها، و ارتباط بعضها مع بعض؛ كالثغر المرتّل الّذي انفصل أسنانه، مع بقاء نسقه و نظامه، و لزومه محلّه الّذي ينبغي أن يكون عليه.

و أمّا سؤال الجنّة و النار، فلم يعلم من الاخبار كونه معنى الترتيل، فلعلّه من لواحق الترتيل؛ إذ الكلام الصادر على الوجه المذكور يكون منشرح المعاني للقارئ، فيناسب إلحاق السؤالين المفروضين بالقراءة؛ كقول لبّيك عقيب الخطابين، و كذا الوقوف عند عجائبه، و تحريك القلوب و تقريعها و تفزيعها.

و يمكن أن يقال: إنّ هاهنا ترتيلا صوريا في لفظ القراءة، و ترتيلا معنويا في معانيها الواردة على القلب، و ترتيلا في الحالات المنبعثة عن تلك المعاني الواردة عليه؛ فتبيين للقلب، و تبيين للمعنى لعلّه المراد من الوقوف عند عجائبه، و تبيين للحالة الحادثة من ذلك المعنى من طلب جنّة و استعاذة من نار في القلب مؤكّدا إيّاهما باجرائه على اللّسان، أو حالة إجابة نداء الحقّ، كذلك. و لعلّه المراد من إقراع القلب و إفزاعه و تحريكه، و كذا التأنّي في اللّفظ و المعنى و الحالة، و كذا حسن التأليف في كلّ منها، فتدبّر.

ص: 190

و أمّا ما نقل عن قطرب من إرادة تحزين الصوت بالقرآن فشاذّ، و لا يؤيّده الرواية المذكورة في بيان استحباب تحسين الصوت؛ إذ المذكور هو: التمكّث و تحسين الصوت و هو غير التحزين، و بينهما عموم من وجه.

و لعلّ المراد من التحسين تحسين المادّة و الصورة و النظم، فيدلّ على ما ذكرنا، و قد أشرنا إلى بيانه هناك، فيكون هذه الرواية و الروايات السابقة و الآتية متفرّقة مع كلمات الجماعة، مجتمعة على ما استظهرناه و إن احتاج إلى تصرّفات في ظواهر كثير منها.

و أمّا ما ذكره العلامة [ره] من ترك مدّها بحيث يشبه الغناء، فان كان المراد منه ما يخلّ بأسلوب القرآن و نظامه، الّذي ينبغي أن يكون عليه، فهو حسن، و إلا كان ممنوعا؛ إذ لم نجد له شاهدا أصلا.

هذا ما سنح بالبال، و اللّه العالم بحقيقة الحال.

[ترك الافراط في مقدار القراءة إلاّ في شهر رمضان]

و منها: ترك الافراط في مقدار القراءة على ما يستفاد من جملة من الاخبار؛ فعن الكليني بسنده عن محمّد بن عبد اللّه قال:

«قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أقرأ القرآن في ليلة، فقال: لا يعجبني أن تقرأه في أقلّ من شهر.»(1)

و باسناده عن الحسين بن خالد، عنه عليه السّلام قال:

«قلت له: في كم أقرأ القرآن؟ فقال: اقرأه أخماسا، اقرأ أسباعا؛ أما إنّ عندي مصحفا مجزّأ أربعة عشر جزءا.»(2)

ص: 191


1- الكافي، ج 2، باب في كم يقرأ القرآن و يختم؛ و الوسائل، ج 4، باب 27 من أبواب قراءة القرآن، ص 862.
2- نفس المصادر.

و باسناده عن عليّ بن أبي حمزة قال: سأل أبو بصير أبا عبد اللّه عليه السّلام و أنا حاضر، فقال له:

«جعلت فداك، أقرأ القرآن في ليلة؟

فقال: لا. قال: ففي ليلتين؟

فقال: لا. حتّى بلغ ستّ ليال، فأشار بيده فقال: ها.

ثمّ قال: يا با محمّد، إنّ من كان قبلكم من أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله كان يقرأ القرآن في شهر و أقلّ؛ إنّ القرآن لا يقرأ هذرمة، و لكن يرتّل ترتيلا. إذا مررت بآية فيها ذكر النار وقفت عندها و تعوّذ [ت] باللّه من النار.

فقال له أبو بصير: أقرأ القرآن في رمضان في ليلة؟

فقال: لا. فقال: ففي ليلتين؟

فقال: لا. فقال: ففي ثلاث؟

فقال: ها، و أومأ بيده، نعم، شهر رمضان لا يشبهه شيء من الشهور، له حقّ و حرمة، أكثر من الصلاة ما استطعت.»(1)

و عن السيّد ابن طاوس في الاقبال، عن وهب بن حفص، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«سألته: الرجل في كم يقرأ القرآن؟ قال: في ستّ، فصاعدا.

قلت: في شهر رمضان؟ قال: في ثلاث، فصاعدا.(2)

ص: 192


1- نفس المصادر.
2- الاقبال، ص 110؛ و الوسائل، ج 4، باب 27 من أبواب قراءة القرآن، ص 864.

و عن جعفر بن قولويه باسناده إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«لا يعجبني أن يقرأ القرآن في أقلّ من شهر.»(1)

و لعلّ السرّ فى ذلك هو لزوم الاخلال بآداب القراءة من الترتيل و التدبّر و غيرهما على تقدير الافراط، أو حدوث القساوة في القلب و عدم تأثّره من مواعظه، كما ربّما يشاهد نظيره عن بعض من يدمن حضور مجالس الوعّاظ و محادثتهم، فانّه أبعد تأثّرا من المقتصدين، أو حدوث الكسل عن هذه العبادة الشريفة و إدبار النفس عنها، و كراهتها إيّاها، مع أنّ النشاط في العبادة و الاقبال عليها مطلوب.

و أمّا شهر رمضان، فانّ المواظبة فيه على العبادة أكثر، فربّما يسهل عليه مراعات الآداب مع الاكثار، و القلب فيه رقيق من جهة الصوم، فلا يحدث للمتّقي قساوة، و النشاط فيه للعبادة و قلّة الكسالة و إقبال القلب مشاهد من أهل العبادة، كما يظهر بأدنى تأمّل في تفاوت أحوالهم فيه بالنسبة إلى سائر الشهور. مع أنّ فيوضات ذلك الشهر ربّما تمدّ المتّقي باطنا، و تصير سببا لظهور بركات القراءة لأهله، و قبول ما لم يكمل فيه آدابه. و لعلّه لذا ورد فيها الاذن في الختم في كلّ ليلة، بل استفاد الرخصة في أربعين ختمة في مجموع الشهر. و لعلّ الاشارة فيما رواه الكليني إلى ما مرّ باسناده عن جابر، عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

«لكلّ شيء ربيع، و ربيع القرآن شهر رمضان.»(2)

و منه يظهر قوّة احتمال اختلاف الأشخاص في المقدار الّذي ينبغي له من الجزء الواحد من ثلاثين جزء إلى السدس من القرآن، بل ورد في رواية «إبراهيم بن العباس» أنّ الرضا عليه السّلام كان يختمه في كلّ ثلاث و يقول:

ص: 193


1- نفس المصادر.
2- الكافي، ج 2، باب النوادر من كتاب فضل القرآن ص 630، ح 10؛ و رواه أيضا الصدوق (ره) في ثواب الاعمال، ص 129؛ و في المجالس و المعاني كما في الوسائل، ج 4، باب 18 من أبواب قراءة القرآن، ص 853، ح 2.

«لو أردت أن أختمه في أقرب من ثلاثة لختمت، و لكنّي ما مررت بآية قطّ إلا فكّرت فيها، و في أيّ شيء انزلت، و في أيّ وقت، فلذلك صرت أختم في كلّ ثلاثة.»(1)

[التّحزين في القراءة]

و منها: كون القراءة بالحزن؛ فعن الكليني باسناده عن ابن أبي عمير، عمّن ذكره، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«إنّ القرآن نزل بالحزن، فاقرءوه بالحزن.»(2)

و باسناده عن عبد اللّه بن سنان، عنه عليه السّلام قال:

«إنّ اللّه أوحى إلى موسى بن عمران عليه السّلام: إذا وقفت بين يديّ فقف موقف الذليل الفقير، و إذا قرأت التوراة فأسمعنيها بصوت حزين.»(3)

و باسناده عن حفص قال:

«ما رأيت أحدا أشدّ خوفا على نفسه من موسى بن جعفر عليه السّلام، و لا أرجى الناس منه، و كانت قراءته حزنا، فكأنه يخاطب إنسانا.»(4)

ص: 194


1- رواه الصدوق (ره) في العيون، ج 2، باب 44، ص 177، ح 4؛ و نقله الحرّ العاملي (رض) في الوسائل، ج 4، باب 27 من أبواب قراءة القرآن، ص 863، ح 6.
2- الكافي، ج 2 باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن من كتاب فضل القرآن؛ و الوسائل، ج 4، باب 22 من أبواب قراءة القرآن، ص 857.
3- نفس المصادر.
4- الكافي، ج 2، باب فضل حامل القرآن، ص 606، ح 10؛ و الوسائل، ج 4، باب 22 من أبواب قراءة القرآن، ص 857، ح 3.

[استحباب سؤال الجنّة و الاستعاذة من النّار عند آيتيهما]

و منها: سؤال الجنّة و الاستعاذة من النار عند آيتيهما، بل سؤال كلّ مسئلة عند آيتها، و العافية من العذاب؛ و قد مرّ جملة من الأخبار في ذلك.

و عن الكليني باسناده عن سماعة قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

«ينبغي لمن قرأ القرآن إذا مرّ بآية من القرآن فيها مسئلة أو تخويف أن يسأل [اللّه] عند ذلك خير ما يرجو أو يسأله العافية من النار و من العذاب.»(1)

و عن الطبرسي عن الصّادق عليه السّلام في قوله تعالى: «اَلَّذِينَ آتَيْنٰاهُمُ الْكِتٰابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاٰوَتِهِ » ،(2) قال:

«حقّ تلاوته هو: الوقوف عند ذكر الجنّة و النار؛ يسأل في الاولى، و يستعيذ من الاخرى .»(3).

و اعلم أنّ السؤال و الاستجارة لفظيّان و قلبيّان، ربّما يعبّر عنهما بالطلب و الاستدفاع، و الرجاء و الخوف؛ و علميان فعليّان بمعنى المعرفة بأنه في معرض حصول المرجوّ له، و وقوع المخوف عليه، مع العلم بوجودهما في الواقع، و كونهما في يد المسئول عنه، و المستعاذ به يعذّب من يشاء بما يشاء كيف يشاء، و يرحم من يشاء بما يشاء كيف يشاء، مع تذكّر الانسان لمعرفته تفصيلا، و الاوّلان حكايتان عن الثانيين منبعثان عنهما، و هما مسبّبان عن الاخيرتين. فاذا حصّل العلم و المعرفة في النفس

ص: 195


1- الكافي، ج 3، باب البكاء و الدعاء في الصلاة، ص 301، ح 1؛ و رواه الشيخ (ره) في التهذيب، ج 2، باب كيفية الصلاة و صفتها و... من أبواب الزيادات، ص 286، ح 3؛ و هكذا في الوسائل، ج 4، باب 3 من أبواب قراءة القرآن، ص 828، ح 2.
2- البقرة/ 121.
3- مجمع البيان، ج 1، ص 198؛ و الوسائل، ج 4، باب 27 من أبواب قراءة القرآن، ص 863، ح 7.

بما مرّ، و صار ذاكرا له انبعث الرجاء و الخوف و الطلب و الهرب في القلب، و إذا تحقّقت صار اللّسان مترجما للحالة الحادثة حاكيا عنه، و توسّل السائل بسؤاله نيل مقصوده، أو الهرب عن مبغوضه. و القرآن هو المذكّر لذلك، و الهادي إليه لمن يؤمن به، فيحقّ أن يكون حقّ تلاوته هو حصول التذكّر و المعرفة بحيث يستتبعهما آثارهما في القلب و اللّسان، و لا يكمل السؤال حقيقة إلا باستجماعه المراتب، و كذا الاستجارة و الاستعاذة، فتأمّل.

[التفكّر في معاني القرآن و التأثّر منها]

و منها: التفكّر في معاني القرآن و التدبّر و التأثّر و الاتّعاظ، و استشعار الرقّة و اللّين و الوجل و الدمعة، و ما أشبه ذلك دون إظهار الغشية.

فعن الكليني باسناده عن الحلبيّ، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، و الصدوق بسنده عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر عليه السّلام أنّهما قالا:

«قال أمير المؤمنين عليه السّلام: أ لا أخبركم في الفقيه حقّا؟ من لم يقنّط الناس من رحمة اللّه، [و لم يؤمنهم من عذاب اللّه،] و لم يؤيسهم من روح اللّه (1) ،و لم يرخّص لهم في معاصي اللّه، و لم يترك القرآن رغبة عنه إلى غيره؛ ألا لا خير في علم ليس فيه تفهّم، ألا لا خير في قراءة ليس فيها تدبّر، ألا لا خير في عبادة ليس فيها تفقّه.»(2)

و الاوّل باسناده عن الزهري قال: سمعت عليّ بن الحسين عليهما السّلام يقول:

«آيات القرآن خزائن، كلّما فتحت خزانة ينبغي لك أن

ص: 196


1- هذه الفقرة غير موجودة في بعض نسخ الكافي و المعاني.
2- الكافي، ج 1 باب صفة العلماء، ص 36، ح 3 و المعاني، باب معنى الفقيه حقا، ص 226؛ و الوسائل، ج 4، باب 3 من أبواب قراءة القرآن، ص 829، ح 7.

تنظر ما فيها.»(1)

[كلام عليّ - عليه السّلام - في صفة المتّقين و شرحه]

و في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السّلام في كلام طويل في صفة المتّقين:

«أمّا اللّيل، فصافّون أقدامهم، تالين لأجزاء القرآن يرتّلونه ترتيلا، يحزنون به أنفسهم، و يستثيرون به دواء دائهم. فاذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا، و تطلعت نفوسهم إليها شوقا، و ظنّوا أنّها نصب أعينهم؛ و إذا مرّوا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم، و ظنّوا أنّ زفير جهنّم و شهيقها في أصول آذانهم. فهم حانون على أوساطهم، مفترشون لجباههم و أكفّهم و ركبهم، و أطراف أقدامهم؛ يطلبون إلى اللّه سبحانه تعالى في فكاك رقابهم.»(2)

و عن الصدوق في المجالس باسناده عن جعفر بن محمّد، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليهم السّلام في جملة كلام في صفتهم هكذا:

«أما اللّيل، فصافّون أقدامهم، تالين لاجزاء القرآن يرتّلونه ترتيلا، يحزنون به أنفسهم، و يستثيرون به تهييج أحزانهم بكاء على ذنوبهم، و وجع كلوم جراحهم. و إذا مرّوا

ص: 197


1- الكافي، ج 2، باب في قراءته من كتاب فضل القرآن، ص 609، ح 2؛ و الوسائل، ج 4، باب 15 من أبواب قراءة القرآن، ص 849، ح 2؛ و هكذا رواه ابن فهد الحلّي (رض) في عدّة الداعي (المخطوطة)، الباب السادس، ص 255؛ و نقله المجلسي (ره) عنه في البحار، ج 92، باب آداب القراءة و أوقاتها، ص 216، ح 22.
2- نهج البلاغة، خ 193، ص 304؛ و البحار، ج 67، باب علامات المؤمن و صفاته، ص 315، ح 50؛ و هكذا رواه الحرّاني (ره) في تحف العقول، ص 107.

بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم و أبصارهم، فاقشعرّت منها جلودهم، و وجلت [منها] قلوبهم، فظنّوا أنّ صهيل جهنّم [و زفيرها] و شهيقها في أصول آذانهم؛ و إذا مرّوا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا، و تطلّعت أنفسهم إليها شوقا، و ظنّوا أنّها نصب أعينهم - الحديث.»(1)

و عن كنز الكراجكي باسناده عنه عليه السّلام في جملة كلام له في صفة شيعة أهل البيت هكذا:

«أمّا اللّيل، فصافّون أقدامهم، تالون لأجزاء القرآن يرتّلونه ترتيلا، يعظون أنفسهم بأمثاله، و يستشفون لدائهم بدوائه تارة و تارة، مفترشون جباههم و أكفّهم و ركبهم و أطراف أقدامهم، تجري دموعهم على خدودهم - الحديث.»(2)

أقول:

«الصفّ»: ترتيب الجمع على صفّ، و صفّ القدمين في الصلاة: وضعهما بحيث يتحاذى الابهامان و يتساوى البعد بين الصدر و العقب. و حينئذ إرادة هذا المعنى في حال صلاتهم حقيقة لكون قراءتهم فيها كذلك، أو كونهم بهذه الصفة و لو في غيرها، و أن يكون كناية عن مطلق قيامهم بالقراءة مع شدّة ثباتهم و إقبالهم عليها بجدّهم، و عن بعض النسخ: «تالون».

و «الحزن»: الهمّ، و حزنه الامر كنصر أي: جعله حزينا، و حزن كعلم أي: صار حزينا، و حزّنه تحزينا: جعل فيه حزنا، و الاوّل و الاخير كلاهما

ص: 198


1- المجالس، المجلس الرابع و الثمانون، ص 570، ح 2؛ و البحار ج 67، ص 341، ح 51؛ و رواه أيضا سليم بن قيس الكوفي - قدّس اللّه سرّه - فى كتابه، ص 239.
2- كنز الفوائد، ص 32.

موجودان في النسخ، و تحزين النفوس بآيات الوعيد ظاهر، و أمّا آيات الوعد، فللخوف من الحرمان و عدم الاستعداد، كذا قيل؛ لكن أكثر الآيات بظاهرها خارجة عن كلتا الطائفتين. و يصحّ أن يلاحظ فيها أمورا يحزن به النفس من جهات عديدة، فيلاحظ في الآيات المشتملة على ذكر النعم العامّة و التقصير في شكرها، و فيما دلّ على صفات الحقّ بعدم القيام بواجب حقّ عبوديّته، و ما اشتمل على نعمه على بعض العباد باستشعار أنّ فقدها له لقصوره إن كان مفقودا له، و التقصير في الشكر إن كان مثله موجودا، و غير ذلك من الوجوه المناسبة. و كما يمكن تحزين النفس بالقرآن يمكن إثارة البشارة و الرجاء منه و لو من آيات الوعيد لكون الانتقام من الاشقياء نعمة على السعداء لأنّهم أعدائهم، و إثارة المحبّة منها بملاحظة صفات اللّه سبحانه الذاتيّة و الفعليّة في جملة أفعاله و حكمته و عدله و سنّته في الماضين و الغابرين، و عجائب تدبيره. فينشرح منها القلب بالمعرفة و المحبّة و استثارة الحياء لمشاهدة عظمة المتكلّم في كلامه الحاكي عن جلاله و جماله، و مشاهدة القصور و التقصير، و نفود حكمه و مشيّته، وسعة قدرته و حلمه و كرمه في طيّ أفعاله و صنائعه و أحكامه.

و لعلّه عليه السّلام اقتصر على الاوّل لكون التحزين أقرب إلى مقام العبوديّة و الخضوع و الاستكانة للحقّ، و أقرب إلى شمول الرحمة له بالتدارك، و أقمع للنفس عن هواه و كبره و أنانيّته من الرجاء، مع أكثريّة الزواجر في القرآن عن المبشّرات لاقتران المبشّرات نوعا بشرائط و خصوصيّات غير متحقّقة الحصول للعبد.

و أمّا المحبّة و الحياء، فاستثارتهما من القرآن موقوف على علوّ مقام في المعرفة، و صلاح القلب لا تحضر لأغلب العباد في أكثر أوقاتهم. و يحتمل أن يراد من تحزين القلب بالقرآن تحزينه بما اشتمل ظاهره على ما ينبغي الحزن بسببه، لا

ص: 199

الاستغراق، هذا.

و أثار الغبار و استثاره أي: هيّجه؛ قيل: «لعلّ المراد بالدواء: العلم، و بالداء: الجهل، و استثارة العلوم الكامنة على حسب الاستعداد و الكمال بالتدبّر و التفكّر و التذكّر.»

و قال بعضهم: «المراد أنّهم يداوون بآيات الخوف داء الرجاء الغالب الّذى كاد يبلغ [حدّ] الاغترار و الامن لمكر اللّه، و بآيات الرجاء داء الخوف إذا قرب من القنوط، و بما يستكمل اليقين داء الشبهة، و بالعبر داء القسوة، و بما ينفر عن الدنيا و الميل إليها داء الرغبة فيها، و نحو ذلك.»(1)

و هذا مقام أهل الاحوال و الاخلاق المشتغلين بمعالجة نفوسهم، كما أنّ الاوّل مقام الحكماء المستهدين بأنوار القرآن، فيمكن الحمل على الاعمّ منهما، بل على الاعمّ من حال المنقطع إلى اللّه سبحانه في أدواته المتقرّب إليه سبحانه بكلامه ليجعله شفاء لما في صدره.

و ركن إلى الشيء: مال و سكن. و التطلّع إلى الشيء: الاستشراف له، و الانتظار لوروده. و نصب الشيء: رفعه، و أن يستقبل به شيء، و الكلمة منصوبة على الظرفيّة؛ أي: ظنّوا أنّها فيما نصب بين أيديهم، كذا قيل، و عن بعض النسخ برفع النصب على أنّه خبر «أنّ»، و يكون النصب بمعنى المنصوب و الاضافة إلى الاعين لأدنى ملابسة.

و عن «الكيدريّ»: «و تطّلعت نفوسهم إليها أي: كادت تطلع شموس نفوسهم من أفق عوالم الابدان، فتصعد إلى العالم الاعلى شوقا إلى ما وعدوا به في تلك الآيات من أخائر الذخائر و عظائم الكرائم.»

ص: 200


1- نقله المجلسي (رض) عن والده (ره) في البحار، و سنشير إلى موضعه فيه عن قريب - إن شاء اللّه تعالى -.

و عن «الراوندي» أنّ: «الظنّ هنا بمعنى اليقين.» و عن بعض الشرّاح أنّه: «يمكن أن يكون على حقيقته.»(1) و كلاهما موجّهان؛ إذ المعلوم هو وجوده المبشّر به و المشوّق إليه في حدّ نفسه، فهو بين يدي العبد شأنا.

و أمّا أنّ الوجهة الّتي توجّه العبد إليها بكمال إيمانه و خلقه و عمله و هو ذلك الّذى بشّر به بأن يكون غاية تلك الجهات هو المشوّق إليه المرغوب إليه، فذلك غير معلوم، بل المؤمن ظنون بنفسه.

و أصغى سمعه إليه أى: أماله، و «زفير النار»: صوت توقّدها، و الزفير أيضا: إخراج النفس بعد مدّة، فالمراد زفير أهل جهنّم. و «الشهيق»: تردّد البكاء في الصدر مع سماع الصوت من الحلق، و شهيق الحمار صوته، و كونهما في أصول الآذان كناية عن تمكّنهما في الآذان؛ كذا ذكره بعضهم.

و حنى الظهر يحنوه و يحنيه أي: عطفه فانحنى. قيل: و حنوهم على أوساطهم وصف لحال ركوعهم. و الافتراش: البسط على الارض و هو وصف لحال سجودهم. و يحتمل تعميم الفقرتين لغير الحالين أيضا، فانّ المتّصف بالاحوال المذكورة إذا كان قائما كان منحني الظهر في الجملة، و افتراش الجبهة و الاكفّ من حالات الخضوع المنبعث منها.

و قال بعضهم: يطلبون إلى اللّه أي: يسألونه راغبين و متوجّهين إليه. و فكّ الرقبة كمدّ أي: أعتقها، و الاسير: خلّصه.

هذا، و في بعض النسخ في نظير الرواية الثانية: «و يستترون به» بعد قوله:

«يحزنون به أنفسهم»؛ و لعلّ المراد أنّهم يخفونه عن الناس خوفا من الرياء، أو طلبا لكونه عبادة سرّيّة. و في بعضها: «و يستبشرون به»، و قيل في معناه: «أي:

ص: 201


1- القول لابن أبي الحديد، فراجع شرحه على نهج البلاغة، ج 10، خ 186، ص 143.

يفرحون بالحزن أو بالتلاوة شكرا لما وفّقهم اللّه لذلك.» و لعلّ إرادة الاستبشار من آيات الترغيب، و يكون التحزين مقصورا على آيات الترهيب أولى ليطابق ما بعده و تهييج أحزانهم على بناء المجرّد فيكون أحزانهم فاعله، و بكاء منصوبا على العلّة، و وجع عطف على ذنوبهم، أو على بناء التفعيل و بكاء فاعله و أحزانه مفعوله، و وجع عطف على بكاء و يحتمل العكس، فيكون الاحزان مهيّجا للبكاء على الذنوب و الوجع، بل لعلّه أولى و إن اقتصر بعضهم على سابقه.

و «الكلوم» جمع كلم بالفتح و هو: الجرح، و الجراح جمع جراحة، و الاضافة للتأكيد، أو الجراح مصدر؛ أي: الجراحات الّتي حدثت من جراحهم لأنفسهم بالذنوب و المعاصي. و «المسامع» جمع مسمع و هو: آلة السمع، أو جمع السمع على غير قياس. و «أبصارهم» بالنصب(1) عطفا على المسامع أي: أبصار قلوبهم، أو بالجرّ عطفا على قلوبهم، فالابصار بمعنى البصائر، كذا ذكر بعض الشارحين.(2)

و «الصهيل»: صوت الفرس، و لعلّه شبّه به صوت توقّد النار لرفعته و شدّته.

[عدم جواز إظهار الغشية عند قراءة القرآن]

و عن الكليني و الصدوق بأسانيد مختلفة الصدور عن جابر، عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

«قلت: إنّ قوما إذا ذكروا شيئا من القرآن أو حدّثوا به

ص: 202


1- في المخطوطة: «بالفتح».
2- هذا الكلام و سائر الاقوال المذكورة في شرح خطبته - عليه السلام - لهمام (ره) في صفة المتقين لمولانا المجلسي - عطّر اللّه مرقده - صاحب البحار، إلا ما ذكر قائله في كلام المؤلّف (ره) أو في الهوامش، فراجع البحار، ج 67، باب علامات المؤمن و صفاته، ص 323-324 و ص 347.

صعق أحدهم حتّى ترى أنّ أحدهم لو قطعت يداه و رجلاه لم يشعر بذلك.

فقال عليه السّلام: سبحان اللّه! ذاك من الشيطان، ما بهذا نعتوا، إنّما هو اللّين و الرّقة و الدمعة و الوجل.»(1)

و لعلّه لأجل استظهاره عليه السّلام أنّه محض إظهار و تصنّع و تكلّف، أو لأجل أنّ تكلّف تحصيل الغشية ليس مأمورا به و إن كان الترقّي في المقامات و الاحوال مطلوبا. و يلزم من بعض معاليها عروضها أحيانا من دون تكلّف له. و يسنح ببالي وجود رواية مشتملة على عروض الغشية للصادق عليه السّلام بعد تكراره «إِيّٰاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّٰاكَ نَسْتَعِينُ» معلّلا إيّاه: بأنّي «ما زلت أردّدها حتّى سمعتها من قائلها، فلم يثبت قلبي لعظمته.»(2)

و عنه باسناده عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

«قرّاء القرآن ثلاثة - إلى أن قال: - و رجل قرأ القرآن فوضع دواء القرآن على داء قلبه، فأسهر به ليله و أظمأ به نهاره، و قام به في مساجده، و تجافى به عن فراشه. فبأولئك يدفع [اللّه] البلاء، و بأولئك يديل اللّه من الاعداء، و بأولئك ينزل اللّه الغيث من السماء. فو اللّه لهؤلاء في قرّاء القرآن أعزّ من الكبريت الاحمر.»(3)

ص: 203


1- الكافي، ج 2، باب فيمن يظهر الغشية عند قراءة القرآن، ص 616، ح 1؛ و الامالي، المجلس الرابع و الاربعون، ح 9؛ و الوسائل، ج 4، باب 25 من أبواب قراءة القرآن، ص 860، ح 1.
2- نقله الفيض (ره) في المحجة، ج 2، كتاب آداب تلاوة القرآن، الباب الثالث، ص 248؛ و الشيخ البهائي (ره) في العروة الوثقى (المخطوطة)، ذيل الآية.
3- الكافي، ج 2، باب النوادر من كتاب فضل القرآن ص 627، ح 1 و عن عبيس بن هشام، عمّن ذكره، عنه - عليه السلام -؛ و رواه أيضا الصدوق (ره) بهذا الاسناد في الامالي، المجلس السادس و الثلاثون، ح 15؛ و الخصال، ج 1، باب الثلاثة، ص 142، ح 164؛ و هكذا في الوسائل، ج 4، باب 8 من أبواب قراءة القرآن، ص 836، ح 3.

و قد أشرنا في أوّل الكتاب إلى كيفيّة الاستشفاء بالقرآن و غير ذلك ممّا يناسب المقام، فراجع و تأمّل(1).

و عن مصباح الشريعة عن الصادق عليه السّلام أنّه قال:

«من قرأ القرآن و لم يخضع له و لم يرقّ عليه و لم ينشأ حزنا و وجلا في سرّه، فقد استهان بعظم شأن اللّه، و خسر(2)

خسرانا مبينا. فقارئ القرآن يحتاج إلى ثلاثة أشياء: قلب خاشع، و بدن فارغ، و موضع خال. فاذا خشع للّه قلبه فرّ، منه الشيطان الرجيم، و إذا تفرّغ نفسه من الاسباب تجرّد قلبه للقراءة، فلا يعترضه(3) عارض فيحرمه نور القرآن و فوائده، و إذا اتّخذ مجلسا خاليا و اعتزل من الخلق بعد أن أتى بالخصلتين الاوّلتين استأنس روحه و سرّه باللّه، و وجد حلاوة مخاطبات اللّه عباده الصالحين، و علم لطفه بهم و مقام اختصاصه لهم بقبول كراماته و بدائع إشاراته. فاذا شرب كأسا من هذا المشرب، فحينئذ لا يختار على ذلك الحال حالا، و [لا] على ذلك الوقت وقتا، بل يؤثره على كلّ طاعة و عبادة؛ لأنّ فيه المناجاة مع الربّ بلا واسطة.

ص: 204


1- راجع مبحث أسماء القرآن من المقدمة الاولى.
2- في المخطوطة: «فقد خسر».
3- في المخطوطة: «يعترض».

فانظر كيف تقرأ كتاب ربّك و منشور ولايتك، و كيف تجيب أوامره و نواهيه، و كيف تمتثل حدوده، فانّه كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. فرتّله ترتيلا، وقف عند وعده و وعيده، و تفكر في أمثاله و مواعظه، و احذر أن تقع من إقامتك حروفه في إضاعة حدوده »(1).

ص: 205


1- مصباح الشريعة، الباب الرابع عشر؛ و الصافي، ج 1، المقدمة الحادية عشرة، ص 46؛ و البحار ج 85، باب القراءة و آدابها و أحكامها، ص 43، ح 30.

المقدّمة الثّانية عشر فيما جرينا عليه في هذا التفسير من اصطلاح و غيره

اعلم أنّه إذا ذكرنا فيه عن «الكافي» فالمراد به كتاب الحديث المعروف للشيخ الاجلّ ثقة الاسلام محمّد بن يعقوب الكليني، الّذي لم نعهد كتابا أكثر اعتبارا منه بين الاماميّة.

و إذا ذكرنا «القمّي» فالمراد به صاحب التفسير المشهور الثقة الجليل عليّ بن إبراهيم القمّي شيخ الكلينيّ.

و إذا ذكرنا «العيّاشي» فالمراد محمّد بن مسعود العيّاشي المعروف من قدماء الاماميّة صاحب التفسير المعروف.

و المراد ب «الفقيه» في هذا الكتاب كتاب «من لا يحضره الفقيه»، و ب «العيون» كتاب «عيون الاخبار»، و ب «الاكمال» كتاب «إكمال الدين و إتمام النعمة»، و ب «المعاني» كتاب «معاني الاخبار» و ب «العلل» كتاب «علل الشرائع و الاحكام» كلّها للشيخ الجليل رئيس المحدّثين محمّد بن عليّ بن الحسين [بن] موسى بن بابويه القمّي و له أيضا كتاب «الامالي» و يسمّى «المجالس» على ما صرّح به بعض المحدّثين، و «الخصال»، و «ثواب الاعمال»، و «عقاب الاعمال»، و كتاب «التوحيد»، و «المجالس»، و «الاعتقادات».

و «المناقب» لمحمّد بن شهرآشوب المازندراني.

و «التهذيب» و «الغيبة» و «الامالي» للشيخ أبي جعفر الطوسي.

و عبّرنا عن التفسير المنسوب إلى الامام أبي محمّد العسكري عليه السّلام ب «تفسير الامام» المنسوب إليه في هذا الكتاب.

ص: 206

ثمّ إنّا قد نأخذ الحديث من نفس الكتاب و «المجمع» و «الجوامع» للشيخ أبي عليّ الطبرسي، و من كتاب العلماء الناقلين؛ كالمحدّث الكاشاني من تفسيره «الصافي»، و المحدّث الحرّ العاملي من كتاب «الوسائل»، و المحدّث المجلسي من «بحار الانوار»، و السيّد هاشم البحراني من كتاب «معالم الزلفى» و «غاية المرام» و غيرهم، و ننسبه إلى الكتاب أو المصنّف المنقول عنه ثقة و اعتمادا عليهم.

و ربّما نوصف السند بالصحّة و الموثقيّة و الحسن، و نريد به المعاني المعروفة، و هو مبنيّ على الظنون الاجتهاديّة الرجاليّة، و ما نقل عن متقدّمي علماء الرجال.

و النسخ الّتي ننقل عنها غير تام الصحّة، فان كان الغلط ظاهرا أبدلناه بالصحيح إن تعيّن، و إلا نقلناه على ما وجدنا، و ربّما ننبّه على استظهار الغلط بأن نكتب فوقه «كذا» تنبيها للخاطر.

ثمّ اعلم أنّا نتعرّض في هذا الكتاب إلى بيان ألفاظ القرآن و الحديث مادّة و صورة و تركيبا مأخوذة من كلمات المفسّرين، أو أهل اللّغة و الادب، و نعتمد في ذلك على كلامهم، فانّهم أهل الخبرة و البصيرة بهذا الشأن، و إلى ما يتفرّع على تلك القواعد اللّفظيّة مبنيّة على ظنون و اجتهادات لفظيّة: و إلى إيراد أكثر الاخبار الّتي عثرنا عليها حال التفسير مأخوذة من كتب على ما وضعت، و إلى بيانات لها و تنبيهات مطابقة لمداليها، و دقائق و استبصارات من نفس تلك الآيات، و بضميمة الاخبار. و لست بانيا في جميع ما ذكرته في هذا الكتاب على القطع و اليقين و إن كان موردا له بصورة الجزم، و لا أدّعي مطابقة الواقع فيها و إصابة النظر له، بل إنّما أذكر ما يخطر ببالي و يسنح في فكري، و أعرضه على الناظرين لينظروا فيه، فان وجدوه صحيحا قبلوه، و إن وجدوا فيه خللا أصلحوه، و إن رأوه غير صحيح

ص: 207

لم يقبلوه، و الخطأ منّي أو منهم، و إن وجدوه مشتبها فليذروه في سنبله، و عليهم أن لا يبادروا بالانكار قبل تمام الجدّ و الجهد في فهم الكلام و ملاحظة المباني و الادلّة و القواعد، فلعلّ من وراء مبلغ نظرهم نظر لغيرهم.

و لا ألتزم إصابة نظري للواقع؛ إذ القلب عليل، و الرأي كليل، و موانع الادراك كثيرة، و أسباب الاختلال في الأدلّة الّتي نتوصّل بها إلى المطالب من الاخبار و غيرها كثيرة، و المطالب غير محصورة، و الاوقات محدودة، و الاسباب غير مجتمعة؛ فلعلّ من وراء مذهبي مذهبا لغيري، و فوق فكري فكرا سواه. و مع هذه الاحوال لا بدّ أن يتطرّق إلى الكلام الخطأ و النقصان، مضافا إلى كون الانسان محلا للسهو و النسيان، فغاية ما يرجى في مثل ذلك الحال أن يكون أكثر المطالب مطابقة للواقع، إلا أن يسدّدني ربي و يعصمني، و يأخذ بقلبي إلى الرشاد؛ إنّه بكلّ شيء قدير، و هو بكلّ شيء عليم.

و هذا أوان الشروع في المقصود بعون اللّه الملك المعبود. و أخّرنا تفسير الاستعاذة إلى الآية المشتملة عليها لنذكرها عنده - إن شاء اللّه تعالى -، و من اللّه التوفيق، و هو حسبنا و نعم الوكيل.

ص: 208

سورة الحمد سبع آيات

اشارة

ص: 209

ص: 210

[تحقيق حول كلمة البسملة]

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

في تفسير الامام عليه السّلام و التوحيد عنه(1) عليه السّلام في قوله تعالى: «بسم اللّه - الخ»:

«هو الّذي يتألّه إليه عند الحوائج و الشدائد كلّ مخلوق عند انقطاع الرجاء من كلّ من [هو] دونه، و تقطع الاسباب من جميع من سواه.

يقول: «بِسْمِ اللّٰهِ» أي: أستعين على أموري كلّها باللّه، الّذي لا تحقّ العبادة إلا له، المغيث إذا استغيث، و المجيب إذا دعي.»(2)

قيل: معنى «يتألّه إليه»؛ بفزع و يلتجأ إليه.»(3)

و في رواية عنه عليه السّلام:

«يعني: بهذا الاسم أقرأ و أعمل هذا العمل.»(4)

[القول في معنى الباء و متعلّقها]

اعلم أنّ حرف الجرّ يدلّ على أن له متعلّقا و ليس بمذكور، فيكون

ص: 211


1- المراد من قوله: «عنه» هو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب - عليه السلام -.
2- تفسير الامام - عليه السلام -، ص 7؛ و التوحيد، باب معنى «بسم اللّه الرحمن الرحيم» ص 230، ح 5؛ و الصافي، ج 1، ص 50؛ و البحار، ج 92، باب فضائل، سورة الفاتحة و تفسيرها، ص 232، ح 14، و ص 240، ح 48.
3- القول للفيض (ره)، راجع الصافي، ج 1، ص 50.
4- تفسير الامام - عليه السلام -، ص 9؛ و الصافي، ج 1، ص 50؛ و البرهان، ج 1، ص 46، ح 11.

محذوفا، و قرينة تعيين المحذوف هو ما يقع بعده، و هو القراءة و العمل الواقع بعده، فيناسب في المقام تقدير «أقرأ» متأخّرة عن الجارّ و المجرور، لا القراءة، و لا مقدّما لوجوده ذكرها المفسّرون. و في عطف «أعمل» على «أقرأ» إشعار بأنّ في كلّ مقام يقدّر ما يكون التسمية لأجله. فالمسافر إذا حلّ و ارتحل فقال: «بسم اللّه و البركات» كان المعنى: بسم اللّه أحلّ و أرتحل و كذلك. و نظيره قولهم في الدعاء للعرس: «بالرخاء و البنين»؛ أي: بالرخاء أعرست. و تقدير القراءة و نحوها أنسب من الابتداء ليكون الفعل بتمامه منتسبا إلى اسم اللّه؛ كقوله تعالى: «اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ.» (1)

و ذكروا في معنى تعلّق اسم اللّه بالقراءة وجهين(2):

تعلّق الكتابة بالقلم، كأنّ فعله لا يجيء معتدّا به إلا بعد تصديره بذكره، كما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله على ما ببالي:

«كلّ أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم اللّه فهو أبتر.»(3)

و تعلّق الدهن بالانبات في قوله: «تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ» (4) أي: متبرّكا باسم اللّه أقرأ، كما في قوله: «بالرخاء و البنين» أي: ملتبسا بالرخاء و البنين أعرست.

و هذا الوجه أعرب و أحسن عند جماعة، و علّل بوجوه عديدة من كون استعمال الباء في الملابسة و المصاحبة أكثر من الاستعانة، و أنّ دلالتها على تلبّس إجراء

ص: 212


1- العلق/ 1.
2- راجع تفسير النيشابوري، ج 1، ص 19.
3- تفسير الامام - عليه السلام -، ص 9؛ و الصافي، ج 1، ص 52؛ و البحار، ج 92، باب فضائل سورة الفاتحة و تفسيرها، ص 242؛ و هكذا أخرجه أحمد في مسنده، ج 2، ص 359؛ و رواه الزمخشري في الكشاف، ج 1، ص 5.
4- المؤمنون/ 20.

الفعل بالتبرّك أظهر، و أنّ في التبرّك باسم اللّه من التأدّب ما ليس في جعله بمنزلة الآلة؛ إذ الآلة لا يكون مقصودة بالذات، و اسم اللّه عند الموحّد أهمّ شيء و أقدمه، و غيرها من بعض الامور الاعتباريّة المحضة.

و الظاهر أن الاوّل هو الظاهر من الباء في مثل المقام، و فيه من التأدّب و المناسبة ما ليس في الثاني؛ إذ نهاية أدب العبد غمض العين عن حوله و قوّته، و الالتجاء إلى اسم ربّه، و الاعتصام و الاستعانة به في جميع شئونه و أفعاله، إلى أن يصل إلى مقام يغني عن مشاهدة نفسه فاعلا و مريدا، و يرى ذاته فاعلا و مريدا باللّه سبحانه. و هذا حقيقة التبرّك باسمه تبارك و تعالى، فانّه مفتاح نزول البركات عليه، و سبب لوصول الفيض عليه في إتمام المقصود، فلا يكون الفعل المبتدإ به أبتر، بخلاف من يرى نفسه مصدرا لأفاعيله معتمدا على نفسه و إن تبرّك بذكر اسم اللّه. و يشهد لذلك الرواية المتقدّمة. و ليس ذكر الاستعانة فيه دليلا على نقي تقدير القراءة و العمل، بل لعلّه بناء [على] معنى الربط المدلول عليه بكلمة الباء، فلا ينافي كون متعلّقها هو القراءة و العمل، و يجوز تقدير مستعينا حالا من الضمير في «أقرأ» و «أعمل» ليكون هو المتعلّق.

و أمّا تعميم المستعان له للأمور كلّها، فيجوز كونه لأجل بيان أنّ جميع الاعمال التي يبدأ بها باسم اللّه كذلك، فيكون كلّ فرد من أفراد البسملة مرادا بها استعانة خاصّة، و أن يكون تكميلا للاستعانة الخاصّة بالحاق جميع ما يشاركها به ليكون أتمّ. و حينئذ فيكون الروايتان متقاربتين في المفاد معتضدتين بالاعتبار.

و لهذا القول حينئذ صورة و معنى. أمّا الصورة، فاظهار أنّي أوجد القراءة و العمل باسم اللّه مستعينا به و معتمدا عليه، لا بأسمائي و صفاتي و حولي و قوّتي و مشيّتى. و أمّا المعنى، ففي مقام الحال كون حال القائل اللجأ و الاعتصام باسم اللّه سبحانه، و عدم الاعتماد على نفسه و صفاته، و في مقام المعرفة العلم بأنّه لا يملك

ص: 213

لنفسه ضرّا و لا نفعا إلا ما شاء اللّه، و أنّه ليس بفاعل شيئا الآن و لا غدا إلا أن يشاء اللّه، كما روي في التوحيد عنه صلّى اللّه عليه و آله:

«إنّ اللّه تبارك و تعالى يقول: يا ابن آدم، بمشيّتي كنت أنت الّذي تشاء لنفسك ما تشاء، و بإرادتي كنت أنت الّذي تريد لنفسك ما تريد، و بفضل نعمتي عليك قويت على معصيتي، و بعصمتي و عوني و عافيتي أدّيت إليّ فرائضي، فأنا أولى بحسناتك منك، و أنت أولى بسيّئاتك منّي، فالخير منّي إليك بما أوليت يدا، و الشرّ منّي إليك بما جنيت جزاء، و باحساني إليك قويت على طاعتي - الحديث.»(1)

[في معنى التّسمية]

و ربّما يؤيّد ما ذكر و يوافقه ما روي في التوحيد عن الرضا عليه السّلام بعد السؤال عن ترجمة البسملة، أنّه قال:

«معنى قول القائل «بسم اللّه» أي: أسم على نفسي سمة من سمات اللّه عزّ و جلّ، و هي العبادة.

قال - الراوي -: فقلت له: ما السمة؟ قال: العلامة.»(2)

ص: 214


1- التوحيد، باب المشية و الارادة، ص 343، ح 13 عن معاذ بن جبل، عنه - صلى اللّه عليه و آله -؛ و هكذا رواه القمي (رض) في تفسيره، ج 2، ص 210؛ عن السكوني، عن جعفر، عن أبيه - عليهما السلام -، عنه - صلّى اللّه عليه و آله -؛ و المجلسي (ره) في البحار، ج 5، باب القضاء و القدر، ص 93 و 94، ح 13 و 14، عنه و عن التوحيد.
2- التوحيد، باب معنى «بسم اللّه الرحمن الرحيم»، ص 229، ح 1، عن علي ابن الحسن بن على بن فضال، عن أبيه، عنه - عليه السّلام -؛ و هكذا رواه (ره) في المعاني: باب في معنى بسم اللّه، ص 3 بهذا الاسناد؛ و نقله الفيض (ره) في الصافي، ج 1، ص 50؛ و المجلسي (ره) في البحار، باب فضائل سورة الفاتحة و تفسيرها، ص 230، ح 9.

و عن العيون و العلل عنه عليه السّلام مثله(1).

فانّ التسمية بهذه الكيفيّة متحقّق بمقام العبوديّة الّتي هي علامة الربوبيّة و مظهرها، فانّ العبوديّة فناء و تبعيّة و قابليّة و سؤال و التجاء و اعتصام و استمداد، و الربوبيّة كمال وجود و إعطاء و إمداد و إيجاد و نفاذ كلمة و تأثير، و الاوّل علائم و مظاهر للآخر، و المسمّى بذلك المعنى دال على ربّه فاعل به، و تاركها كذلك مظهر نفسه في فعله، و محتجب عن ربّه بذاته و صفاته و أفعاله. و العلامة ما كان كاشفا عن المعنى الّذي هي علامة له، لا حاجبا ساترا عنه. فمن وضع التسمية على نفسه فقد و سم نفسه بسمة اللّه و علامته.

و مناط التفرقة بين الوجهين، و أصله و مبدئه أن كلّ ممكن زوج تركيبي و مركّب من وجود و مهيّة، و الاوّل هو جهته من ربّه و فعل لربّه، و الثاني جهته من نفسه و قابل لفعل الحقّ بمنزلة المادّة و الصورة الفعليتين، وجهة الوجود هو مبدأ توجّهه إلى الحقّ، و هو مبدأ كلّ خير، وجهة الماهيّة نظره إلى نفسه بما هي هي، و هو مناط الاحتجاب عن الحقّ و دعوى الأنانيّة، و هو مبدأ كلّ شرّ يصدر منه، كما أنّ الجهة الاولى جهة كون الشيء آية لربّه و حاكيا عنه و مظهرا له، و الجهة الثانية مبدأ كونه حجابا له، فانّه سبحانه تجلّي لخلقه بخلقه و احتجب به عنه (2) ؛كما ورد في كلماتهم عليهم السّلام(3).

ص: 215


1- العيون، ج 1، باب 26، ص 203، ح 19، بنفس الاسناد. و أما موضعه في العلل، فلم نظفر عليه.
2- في المخطوطة: «بها عنها».
3- يوجد هذا المعنى في كثير من كلماتهم و خطبهم - عليهم السلام - في التوحيد؛ كخطبة أمير المؤمنين - عليه السلام - خطبها للناس بالكوفة، و رواها الكليني (ره) في الكافي، ج 1، باب جوامع التوحيد، ص 139، ح 5، عن إسماعيل بن قتيبة، عن الصادق، عنه - عليهما السلام -، فانه - عليه السلام - قال: «... الحمد للّه... الدالّ على وجوده بخلقه - إلى أن قال: - و لا تحجبه الحجب، و الحجاب بينه و بين خلقه خلقه إياهم.»

و التسمية هي نظر الوجود و توجّهه إلى مبدئه، و من لواحقه التسمية باللّسان و القلب و غيرهما.

هذا، و يحتمل أن يكون المراد من الرواية تعلّق الجارّ و المجرور باسم المقدّر، و يكون الاسم بمعنى السمة و الوسم، ليكون ترجمته مطابقة: «أعلم على نفسي بعلامة اللّه»، و يكون الجملة إنشاء كالوجه السابق؛ إذ التسمية بنفسها عبادة و يجري فيها نظير ما سبق من المراتب؛ إذ العبوديّة فعليّة و حاليّة و قلبيّة و عقلية و روحيّة، و لكلّ تسمية، و حينئذ فيكون أحد المعنيين تفسيرا ابتدائيّا، و الآخر تفسيرا لظاهر الظاهر على ما مرّ بيانه في المقدّمة (1) ،أو أحدهما للبسملة القرآنية و الآخر لغيرهما ممّا يقع في كلمات العباد، لا بعنوان كونه قرآنا. و على ما ذكر يكون المعنى الثاني ذكرا للمدلول الالتزامي للمعنى الاوّل المراد بالكلام مطابقة و هذا ممّا يؤيّده ترجيحه.

ثم الرواية الاخيرة يؤيّد ما ذهب إليه الكوفيّون من كون الاسم أصله الوسم و السمة، لأنّ الاسم علامة للمسمّى، خلافا للبصريّين، فذهبوا إلى أنّ أصله السموّ بمعنى العلوّ، و المناسبة أنّ التسمية تنويه للمسمّى و إعلاء له، أو أنّ اللّفظ معرّف للمعنى، و المعرّف متقدّم على المعرّف في المعلوميّة، فهو عال عليه.

و كلاهما بعيدان و إن كان اشتقاق الاسماء و أسمّي و سمّيت في الجمع و التثنية و بناء الفعل يؤيّده.

[في وجوه تعليق الاستعانة باسم الجلالة و كيفيّتها]

ثمّ إنّ في تعليق الاستعانة و ما شابهها باسم اللّه سبحانه في البسملة و سائر

ص: 216


1- راجع المقدمة الرابعة، بحث مراتب القرآن.

المقامات كقوله: «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ» (1) و «اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ» (2) و «تَبٰارَكَ اسْمُ رَبِّكَ» (3)

و «فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ» (4) و غيرها وجهين:

أحدهما، أن يكون المنسوب إليه هو اللّه سبحانه لا الاسم؛ كقول «لبيد»:

«إلى الحول ثمّ اسم السلام عليكما».

و هذا يمكن أن يكون نحو تعظيم في التعبير، كما شاع ذكر الجناب و نحوه عند إرادة العرض على الاكابر، مع أنّ المنسوب إليه هو الكبير بنفسه، و أن يكون المراد من الاسم المذكور هو المسمّى، كما صرّح به بعضهم في الآية الاولى(5)

و ثانيهما، أن يكون الاستعانة بنفس الاستعانة، و ما شاكلها، متعلّقة بنفس الاسم من حيث كون الاستعانة به استعانة بالمسمّى، و كونه وسيلة إليه سبحانه سواء جعل الاسم بمعنى اللّفظ، كما هو المفهوم منه عند العامّة، فيكون إسناد التسبيح و التبارك إليه باعتبار كونه منزّها عن الدلالة على ما يشعر بنقص، و كونه موجبا للبركة لمن واظب عليه، أو ذكر اللّه سبحانه به، أو عبارة عن حقيقة ذلك الاسم في عالم الربوبيّة، فانّ للاسماء حقائق في أعلى درجات عالم الامكان، كما سنبيّنه في خلال التفسير - إن شاء اللّه تعالى -. و حينئذ فنسبة التنزيه و البركة و الاستعانة إليه حقيقة إمكانيّة، يعني في مقام نسبة الاشياء الامكانيّة بعضها إلى بعض. و هذا الوجه أدلّ على تنزيه الحقّ و تباركه و كونه المستعان به من حذف الاسم و جعل المسمّى متعلّق النسبة.

ص: 217


1- الاعلى/ 1.
2- العلق/ 1.
3- الرحمن/ 78.
4- الواقعة/ 74 و 96؛ و الحاقّة/ 52.
5- راجع تفسير النيشابوري، ج 3، سورة الاعلى، ذيل الآية؛ و هكذا في مجمع البيان، ج 1، ص 20، و ج 5، ص 474 و في التفسير الكبير، ج 8، ص 536.

و لعلّ أوجه الوجوه أن يقال: لمّا كان ذات الحقّ سبحانه منزّها عن تعلّق إدراكنا به، و غيبا محضا لا يصحّ الاشارة إليه لا عقلا و لا وهما، ظاهرا لنا بصفاته و أسمائه و أفعاله و آثاره، و كان صفاته الذاتيّة عين الذات الممتنعة عن الادراك، افتقر الداعي و المستعين و المسبّح إلى وجهة يتوجّه بها إليه سبحانه من أسمائه الكلّيّة و الجزئيّة: «وَ لِلّٰهِ الْأَسْمٰاءُ الْحُسْنىٰ فَادْعُوهُ بِهٰا » (1) ،بمنزلة القاصر عن مشاهدة الشمس بعينه، المتوسّل إلى ملاحظتها بالماء الصافي، أو المرآة الصافية، فانّ الاسم من حيث أنّه اسم و علامة للشيء لا يعتبر له استقلال و هويّة، بل يلاحظ به المسمّى و يجعل آلة للحاظه؛ كالناظر إلى الشمس من المرآة و الماء، فانّه ينبغي غفلته عن ملاحظة صفات الماء و المرآة، و استغراقه في مشاهدة صفات الشمس الظاهرة له بتوسّط الماء، فتسبيحه حينئذ لما ظهر في الماء تسبيح للشمس، و الماء مظهر لها.

و أمّا من يرى الماء شيئا مستقلا، و يشاهده و صفاته، فهو غير ناظر إلى الشمس، و لا إلى علامته، بل إلى أمر آخر محتجب به عن الشمس. و كذا المستعين بحقائق الاسماء الالهيّة أو ألفاظها و مسبّحها قد يكون مسبّحا له سبحانه مستعينا به بايقاع الالفاظ و الحقائق عليه، و هو الموحّد في ذلك المقام، و قد يكون مسبّحا للألفاظ و الحقائق، و محتجبا بها عنه سبحانه، و هو من أخفى أقسام الشرك.

و مثالهما: القارئ المشتغل بألفاظ القراءة عن معانيها، و المشتغل بمعانيها عن ألفاظها بحيث ربّما يذهل عن الالفاظ من كونها أشياء في عين نظره إليها، من حيث كونها قوالب و مظاهر للمعاني. فلو سألت عن الاوّل عن معنى ما قرأ و في أيّ مطلب كان لم يشعر بذلك، و لو سألت الثاني عن خصوصيّات الالفاظ و الحروف و الكيفيّة الّتي وقع عليها إخراج الحروف لم يدر شيئا منها.

و إن شئت ظهور الحال لك فاستظهر بحال مطالعة الكتاب عند استغراق

ص: 218


1- الاعراف/ 180.

النفس في معانيها، و تمام انصراف الفكر إليها، فانّه غافل عن النقوش المكتوبة من حيث صفاتها، بل هي عنده مرآة للمعاني. و قايسه بحال رجل من العوام يريد شراء كتاب، فانّ نظره على النقوش من حيث صفاتها و أنحائها، و كذلك المتوجّه إلى اللّفظ و الحقيقة تارة متوجّه إلى أحدهما من حيث كونه شيئا، و تارة من حيث كونه اسما و علامة و معرّفا، فيكون متوجّها إلى المسمّى بالاسم لا إلى الاسم. و نظر الموحّدين إلى كلّ شيء من حيث كونه آية من آيات اللّه سبحانه، كما أنّ نظر الناقصين إليها من حيث أنّها هي، فهو ناظر إلى مهيّاتها، كما أنّ الاوّل نظر إلى وجوداتها.

و لعلّ ما ذكر من الدقيقة هو الّذي أوقع جماعة في توهّم أنّ الاسم عين المسمّى، و استفاضت الاخبار في ردّه (1) ،و ردّه الجمهور، بل هو كلام لا محصّل له إلا أن يريد به ما ذكرناه توسّعا في التعبير، و مجازا بعيدا عن الحقيقة؛ إذ الفرق بيّن بين أن يكون الاسم هو المسمّى، و بين إمكان التوجّه بالاسم إلى المسمّى.

[تفسير الاسم باعتبار معنى كلّ حرف من حروفها]

هذا تفسير الكلمة باعتبار معناه التركيبي، و أمّا باعتبار معاني حروفه مفردا و مادّة هذه الكلمة فهو ما رواه في الكافي و التوحيد و المعاني و العيّاشي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في تفسير البسملة:

«الباء بهاء اللّه، و السين سناء اللّه، و الميم مجد اللّه - و في رواية:

ص: 219


1- كحديث رواه الصدوق (رض) فى التوحيد، باب أسماء اللّه تعالى، ص 220، ح 13، عن أبي عبد اللّه - عليه السلام - في جواب ما سأله هشام بن الحكم (ره) عن أسماء اللّه عز و جلّ و اشتقاقها، - إلى أن قال عليه السلام -: «و الاسم غير المسمى...» و هكذا روايات أخر نقله المجلسي (ره) في البحار، ج 4، باب المغايرة بين الاسم و المعنى، فراجع.

ملك اللّه - الحديث.»(1)

و روى القمّي بأسانيد متعدّدة جملة منها معتبرة، عن الباقر و الصادق و الرضا عليهم السّلام مثله بالرواية الأخيرة (2).و ذكره كذلك في التوحيد ثانيا في ضمن حديث آخر في ترجمة البسملة(3).

و هذه الرواية الّتي رواها أساطين مشايخ الحديث بالطرق المتكثّرة عنهم عليهم السّلام في تفسير البسملة موافقة لما رواه في التوحيد باسناده عن الرضا عليه السّلام:

«إنّ أوّل ما خلق اللّه عزّ و جلّ ليعرف به خلقه الكتابة حروف المعجم - إلى أن قال: - و لقد حدّثني أبي، عن أبيه، عن جدّه، عن أمير المؤمنين عليه السّلام في «ا، ب، ت، ث» أنّه قال:

«الألف آلاء اللّه، و الباء بهجة اللّه - إلى أن قال: - «س، ش»، فالسين سناء اللّه - إلى أن قال: - «م، ن»، فالميم ملك يوم الدين (4) ،يوم لا مالك غيره، و يقول عزّ و جلّ:

ص: 220


1- الكافي، ج 1، باب معاني الاسماء و اشتقاقها من كتاب التوحيد، ص 114، ح 1؛ و التوحيد، باب معنى «بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ »،ص 230، ح 2: و المعاني، باب معنى «بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ »،ص 3، ح 1؛ و العياشي، ج 1، ص 22، ح 18؛ و رواه أيضا البرقي (رض) فى المحاسن، ج 1، باب 24 من كتاب مصابيح الظلم، ص 238، ح 213؛ و هكذا في الصافي و البحار و البرهان. و اسناد الحديث في الجميع هو: عبد اللّه بن سنان، عنه - عليه السلام -.
2- القمي، ج 1، ص 28.
3- التوحيد، باب معنى «بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ »،ص 230، ح 3، عن صفوان ابن يحيى، عمن حدثه، عن أبى عبد اللّه - عليه السلام -؛ و هكذا رواه رحمه اللّه بهذا الاسناد في المعانى، باب معنى «بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ »،ص 3، ح 2.
4- خ. ل: «ملك اللّه».

لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ؟ثمّ تنطق أرواح أنبيائه و رسله و حججه فيقولون: اَللّٰهُ الْوٰاحِدُ الْقَهّٰارُ ،فيقول جلّ جلاله: اَلْيَوْمَ تُجْزىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمٰا كَسَبَتْ لاٰ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللّٰهَ سَرِيعُ الْحِسٰابِ - الحديث .»(1).

و هذه الرواية تؤيّد الرواية الثانية، كما يؤيّده في ترجمة «الميم» ما رواه فيه أيضا باسناده عن الكاظم عليه السّلام أنّه قال عليّ بن أبي طالب عليه السّلام في جواب اليهودىّ، السائل عن الفائدة في حروف الهجاء بعد أمر رسول صلّى اللّه عليه و آله إيّاه بجوابه:

«ما من حرف إلا و هو اسم من أسماء اللّه عزّ و جلّ - إلى أن قال: - و أمّا الميم، فمالك الملك - الحديث.»(2)

و ما رواه أيضا باسناده عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه:

«سأل عثمان بن عفّان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن تفسير «أبجد»، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: تعلّموا تفسير أبجد، فانّ فيه الأعاجيب كلّها؛ ويل لعالم جهل تفسيره.

فقيل: يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ما تفسير أبجد؟

فقال: أمّا الألف، فآلاء اللّه حرف من أسمائه، و أمّا الباء،

ص: 221


1- الآيتين: الغافر/ 16-17؛ و الحديث في التوحيد؛ باب تفسير حروف المعجم: ص 232، ح 1، عن عليّ بن الحسن بن على بن فضال، عن أبيه، عنه - عليه السلام -؛ و هكذا رواه (ره) بهذا الاسناد في المعاني و العيون و الامالي كما في البحار، ج 2، باب غرائب العلوم من تفسير أبجد و حروف المعجم، ص 318، ح 3.
2- التوحيد، باب تفسير حروف المعجم، ص 234، ح 2، عن يزيد بن الحسن، عن الكاظم - عليه السلام -،...، عنه - عليه السلام -؛ و المعاني، باب معاني حروف المعجم، ص 44، ح 2 بهذا الاسناد؛ و البحار، ج 2، باب غرائب العلوم من تفسير أبجد و حروف المعجم، ص 319، ح 4.

فبهجة اللّه - إلى أن قال: - و أمّا الميم، فملك اللّه الّذي لا يزول، و دوام اللّه الّذي لا يفنى.»(1)

و ما رواه عن الباقر عليه السّلام في حروف «الصمد» أنّه قال:

«و أمّا الميم، فدليل على ملكه، و أنّه الملك الحقّ لم يزل و لا يزال، و لا يزول ملكه.»(2)

و روى أيضا باسناده عن الباقر عليه السّلام في حديث عن عيسى عليه السّلام في تفسير «أبجد»:

«الألف آلاء اللّه، و الباء بهجة اللّه.»(3)

و يؤيّد الرواية الاولى ما في المعاني عن الصّادق عليه السّلام في «الم» في «آل عمران» من أنّ معناه: «أنا اللّه المجيد»، و في «حم» من أنّ معناه «الحميد المجيد».(4)

و البهجة و البهاء متّحدان معنى؛ قال الجوهري في «بهج»: عن أبي عبيدة:

ص: 222


1- التوحيد، باب تفسير حروف الجمل، ص 236، عن الاصبغ بن نباتة عنه - عليه السلام -؛ و رواه أيضا بهذا الاسناد في المعاني، باب معنى حروف الجمل، ص 46؛ و هكذا في الامالي كما في البحار، ج 2، باب غرائب العلوم من تفسير أبجد و حروف المعجم.
2- التوحيد، باب تفسير «قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ» إلى آخرها، ص 92، ح 6؛ عن وهب بن وهب القرشي، عن الصادق، عنه - عليهما السلام -؛ و المعاني، باب معنى الصمد، ص 8، بنفس الاسناد؛ و البحار، ج 3، باب 6 من أبواب التوحيد، ص 224، ح 15.
3- راجع المصادر المذكورة في تعليقه 1 من هذه الصفحة، و فيها: عن أبي الجارود زياد بن المنذر، عنه - عليه السلام -.
4- المعاني، باب معنى الحروف المقطعة في أوائل السور من القرآن، ص 22، ح 1 عن سفيان بن السعيد الثوري، عنه - عليه السلام -؛ و هكذا في تفسير الامام - عليه السلام - كما في البحار، ج 92، باب متشابهات القرآن و تفسير المقطعات، ص 373، ح 1.

«البهجة: الحسن؛ يقال: رجل ذو بهجة. و قد بهج بالضمّ بهاجة فهو بهيج؛ قال تعالى: «مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ » (1).و بهج [به] بالكسر أي: فرح [به] و سرّ، فهو بهج و بهيج.»

و لعلّ إطلاق البهجة عليه باعتبار انبعاثه كثيرا من إدراك الكمال و الحسن في نفسه، أو لانبعاثه عن إدراك الشيء الحسن من مرئيّ أو مسموع أو غيرهما، فأطلق لفظ الأصل على أثره المتفرّع عليه، أو لأنّ الفرح يحدث للبشرة حسنا و إشراقا عكس الهمّ و الخوف، فيكون من إطلاق لفظ المسبّب على السبب. و يحتمل كون المعنى الأوّل مأخوذا من الثاني باعتبار كون الحسن موجبا للسرور، و ربّما يشعر به كلام بعضهم.

و قال في «بهاء»: «البهاء: الحسن؛ تقول: بهي الرجل بالكسر و بهو بالضمّ فهو(2) بهيّ.»

ثمّ ذكر له معنى الخلوّ و التعطيل و الفخر أيضا، و ذكر للبهاء من المهموز معنى الانس، و أنّ البها بمعنى الحسن من بهى الرجل غير مهموز.

و في مجمع البحرين: «البهاء: الحسن و الجمال؛ يقال: «بهاء الملوك» أي: هيئتهم و جمالهم، و «بهاء اللّه» عظمته.»

و بالجملة فالظاهر أنّ المراد من البهاء و البهجة هنا هو الحسن، و هو منشأ الانس الّذى هو معنى المهموز.

و أمّا السناء، فقال الجوهري: «السنا مقصور ضوء البرق - إلى أن قال - و السناء من الرفعة ممدود، و السنيّ: الرفيع، و أسناه أي: رفّعه.»

و ذكر المعنيان الطريحي أيضا و قال: «في الخبر: «بشّر أمّتي بالسناء» أي:

ص: 223


1- الحج/ 5.
2- في المخطوطة: «فهي».

بارتفاع القدر و المنزلة عند اللّه تعالى.»

و يمكن كون الثاني مأخوذا من الأوّل لارتفاع ضوء البرق على الأشياء، فشبّه به الشيء الرفيع في رفعته، فأطلق لفظه على الرفعة؛ كالسماء في إطلاقه على ما يقابل الارض و على كلّ عال.

و أمّا المجد، فقال الجوهري: «المجد: الكرم، و المجيد: الكريم، و قد مجد الرجل بالضمّ فهو مجيد و ماجد؛ قال «ابن السكّيت»: المجد و الشرف يكونان بالآباء؛ يقال: رجل شريف ماجد، له آباء متقدّمون في الشرف. قال:

و الحسب و الكرم يكونان في الرجل و إن لم يكن له آباء لهم شرف.»

و يشعر ذيل كلامه بخلاف ما حكاه عنه.

و قال الطريحي: «المجد: الشرف الواسع في كلام العرب - إلى أن ذكر عن أبي عليّ أنّ: - «معناه: العلوّ و الكمال و الرفعة» - و ذكر أيضا أن: - المجد:

الكرم و العزّ، و في الخبر: «المجد حمل المغارم و إيتاء المكارم.» و رجل ماجد:

كريم شريف.»

و على هذا فالظاهر أنّ المجد هنا هو العلوّ و العزّ، فيصحّ اتحاده مع الملك؛ إذ حقيقته السلطنة على الشيء و الاستعلاء عليه و إن أخذ الأوّل وصفا للشيء في حدّ نفسه، فلا يقال: مجده و عزّه بخلاف مجد و عزّ الشيء، و الثاني وصفا إضافيّا خاصّا، فيقال: ملكه و لا يقال: ملك من دون اعتبار متعلق إن أخذ الملك مكسورا، الّذي يعبّر عن صاحبه بالمالك، لا الملك بالضمّ، الّذى يشتقّ منه الملك. و ذلك لأنّ العلوّ و العزّ لا يعقلان ما لم يلاحظ سائر الاشياء و لو إجمالا ليصدق العلوّ و العزّ باعتباره؛ أ لا ترى أنّه إذا فرضنا انحصار الموجود في واحد لم يصحّ وصفه بالعلوّ و العزّ ما لم يقايس بسائر الاشياء و لو وهما؟ غاية الامر عدم لزوم ملاحظة أمر خاصّ في التوصيف، بل يصحّ اعتباره وصفا مع ملاحظة إجماليّة كالملك بالضمّ

ص: 224

إذ لا يعقل السلطنة بدون فرض الرعيّة، إلا أنّه لا يلزم ملاحظة شخص خاصّ أو أشخاص في التوصيف بخلاف الملك بالكسر؛ إذ يعتبر فيه النسبة الخاصّة و لو حذف من اللّفظ.

و حينئذ فالملك بالضمّ أقوى أنواع المجد، فيتّحد الروايتان إن أخذنا الملك بالضمّ، كما يؤيّده الاستشهاد بالانواع؛ إذ مجد الحقّ أعظم مجد و أقواه بديهة، و لا مجد فيما يعرفه الناس أعظم من السلطنة. و إن أخذنا الملك بالكسر فبعد عموم متعلّق الملك يكون بمنزلة التفصيل من الاجمال الذي يدلّ عليه المجد، فيتّحدان في الحقيقة و إن اختلفا في اللحاظ.

و حينئذ فنقول في معنى الاشتقاق: إنّ حقائق الاسماء الالهيّة على نوعين:

إمّا ظاهر من شأنه الظهور؛ أو خفيّ من شأنه الخفاء بنفسه و إن ظهر في آثاره و الثاني أقرب إلى الحقّ، لكونه مثالا للحقّ في غيبيّة الذات و ظهوره بالآثار، فهو الرابطة بين الظهور و البطون، و ذاته الخفيّ من طرف الحقّ، و أثره من طرف الخلق، فهو آية الحقّ في الظهور و البطون، فالمطابق له في الالفاظ الالف الذي أوّل الحروف من حيث أوّليّته و خفائه عن أوائل أسماء اللّه سبحانه و غيرها، كالبسملة لفظا و ظهوره كتبا، إلا في البسملة حيث ابدل إظهاره بتطويل الباء لما ذكروه في موضعه، و نسبة الكتابة إلى اللّفظ نسبة الجسد إلى الروح، فهو خفيّ روحا و ظاهر قشرا، و من حيث استقامته التي هي الاصل في أشكال الحروف، ككون «الصراط المستقيم» صفة فعل الحقّ؛ «إِنَّ رَبِّي عَلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ» (1) و من حيث اشتقاق سائر الحروف منه كتبا. فهو كالمركز من الدائرة؛ كتوسّط «اَلصِّرٰاطَ الْمُسْتَقِيمَ» بين السبل «وَ أَنَّ هٰذٰا صِرٰاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لاٰ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ» (2) و لان

ص: 225


1- هود/ 56.
2- الانعام/ 153.

مخرجه أقرب من القلب الذي هو المبدا الاول في عالم الانسان، فهو أوّل الحروف مخرجا، و أبعدها ظهورا، و أكثرها امتدادا لجريانه من قريب السرّة إلى الفم يمرّ على وسط المخارج كالصراط المستقيم إلى غير ذلك، فهو الآلاء بمعنى النعم الباطنيّة الخفيّة.

و الاوّل على أقسام ثلاثة:

إمّا أن يكون ظاهرا بالمرآتيّة المحظة للحقّ، بحيث يكون فاني الهوية في جنب الحقّ، و الاسم المكنون المخزون عنده سبحانه.

و إمّا أن يكون ظاهرا بنفسه و هويّته أيضا.

و إمّا أن يكون ظاهرا بنفسه في مظاهره و مظهرا لها.

و الاوّل مرآة ظهر بالمرآتيّة و خفي بنفسه؛ كالمرآة الصافية التي لا يظهر بصفات نفسه للابصار، و إنّما شأنه إظهار الشيء.

و الثاني مرآة يتعلّق بنفسها الادراك، و يظهر فيها الصورة على ما هو عليه كأكثر المرائي الصافية.

و الثالث مرآة ضعف مرآتيّته في ظهور نفسه، و مظهر هويّته في صفاته المغايرة، كما هو مرآة له، فصار مبدأ لظهور الكثرة و خفاء الوحدة الحقيقيّة التى هي مرآة له.

و من البيّن سبق الاوّل على الثاني، و سبقه على الثالث.

فالاوّل هو الباء الذي يتلوا الالف مرتبة، و لا يفارقه كتبا إلا بانحراف طرفيه و بقاء الباقي بعد الانبساط، و هو بهاء الحقّ و مرآة حسنه ليس لها صفة وراء إظهار حسن الحقّ؛ إذ الحقّ هو الحسن المطلق و الجميل المطلق، فمرآته مرآة الحسن و البهاء، و هو حقيقة الاسم الحاكي عن صفاته الذاتيّة، و هو متّصف بصفة الفناء، فهو خال عن نفسه بخلاف الثاني، و عن سائر الاشياء بخلاف الثالث، و

ص: 226

معطّل عمّا سوى شأن المرآتيّة، فيوافقه المعنى الثاني للبهاء و هو مظهر الفخر الذاتي، فيوافقه المعنى الثالث، و هو أصل مقام الانس المنبعث عن الوصل؛ إذ لا وصل إلا بالفناء و البقاء، فيوافقه المعنى الرابع الذي للبهاء ممدودا، فهو مبدأ البهجة و السرور بالحقّ، الذي هو السرور الحق و البهجة الحقّة؛ إذ لا سرور للعارف إلا بذلك، و غيره باطل عاطل.

و الثاني هو السين الذي هو الباء بزيادة التصرّف في وسطه، و جعله كالطرفين فصار له أضراس ثلاثة، و هو: سناء الحق، و ضوء برقه، و نوره الظاهر بنورانيّة الحاكي عن مبدإ وجوده، و كما أنّ سناء البرق ظاهر بنفسه، و بكونه شعاعا للبرق و دالا عليه، بحيث لا يكاد يفارق أحد اللّحاظين عن الآخر عند إدراكه، و لمعان و ظهور للبرق لا أمر مغاير له منفصل عنه، كذا سناء اللّه ظاهر بنفسه و هويّته مظهر للحقّ و آية له، لا تغلب أحد اللّحاظين الآخر، و هو لمعان و ظهور لفعل الحق و المرتبتين المتقدّمتين عليه، فكأنّ السابقة برق لا يظهر بهويّته للابصار بنفسه، و اللاحقة ضوئه الذي ظهر بنفسه و أظهر البرق بظهوره، فكأنّه عبد قائم بصفة العبوديّة المقتضي لملاحظة نفسه و ربّه، السابق عليه، فان عن نفسه باق بربّه، و هذا السناء أرفع من جميع الابداعات الظاهرة، فهو رفعة الحقّ و مظهرها، فيصحّ أخذه بالمعنى الثاني.

و الثالث فهو الميم المستدير الحاكي عن معنى دائرة الامكان، و يقابل الالف من حيث أنّ صفته الاستقامة المقابلة للاستدارة، و من حيث أنّ مخرجه آخر المخارج نزولا، فيقابل مخرج الالف، و هو ملك، و مجده و علوّه على الاشياء، و هذا المعنى يقتضي ظهور الاشياء بصفة المقهوريّة و المملوكيّة حتّى يظهر الحقّ فيها بصفة الملكيّة و المالكيّة و العلوّ، فهو البرزخ الحاكي عن الواجب بهذه الصفات، و عن الممكنات بتلك، و الجامع لحقائق الاسماء الاضافيّة، و قد انضمّ إلى

ص: 227

جهته التي إلى الحقّ، و جهته في نفسه جهته إلى الخلق، و باعتبارها أظهر أعيانها بصفاتها، فشهدت لخالقها بأضدادها، و هو مقام الربوبيّة الفعليّة الّتي تقتضي وجود المربوب. و ليس الغرض من هذا البيان حصر حقائق الاسماء في الحروف الاربعة، بل يشبه أن يكون هي أصول تلك الحقائق، أو الاولى من كلّ نوع من الانواع ما عدا الالف؛ إذ هو الاخير من مقام الغيب، و قبله الالف المشار إليه بلام ألف لا و قبله النقطة، و يشهد لكثرة الاسماء و تقدّم البهاء عليها دعاء السحر المعروف الوارد في شهر رمضان(1) حيث قدّم على الاسماء الكثيرة، و منها: الملك، و النور المساوق للسناء في وجه.

هذا جملة ما خطر بالبال في ترجمة الجار و المجرور تركيبا و تحليلا، و اللّه العالم.

[بحوث حول لفظ الجلالة]

و أمّا «اللّه» ففي الرواية السابقة بطرقها:

«و اللّه إله كلّ شيء »(2).

و في التوحيد عن الامام العسكري عليه السّلام، عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّ رجلا قام إليه، فقال:

«يا أمير المؤمنين، أخبرني عن «بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ»

ما معناه؟

فقال: إنّ قولك «اللّه» أعظم اسم من أسماء اللّه عزّ و جلّ و هو الاسم الّذي لا ينبغي أن يسمّى به غير اللّه، و لم يتسمّ به مخلوق.

فقال الرجل: فما تفسير قوله: «اللّه»؟

ص: 228


1- هو دعاء أبي جعفر - عليه السلام -؛ قد نقله السيد الاجلّ عليّ بن طاوس - نوّر اللّه مضجعه - في الاقبال، ص 77، فراجع.
2- راجع المصادر المذكورة في تعليقة 1 و 2 ص 220.

قال عليه السّلام: هو الّذي يتألّه إليه عند الحوائج و الشدائد كلّ مخلوق عند انقطاع الرجاء من جميع من دونه، و تقطع الاسباب من كلّ من سواه. ثمّ قال: و ذلك أنّ كلّ مترئّس في هذه الدنيا، و متعظّم فيها و إن عظم غنائه و طغيانه، و كثرت حوائج من دونه إليه، فانّهم سيحتاجون حوائج لا يقدر عليها هذا المتعاظم، و كذلك هذا؛ المتعاظم يحتاج حوائج لا يقدر عليها، فينقطع إلى اللّه عند ضرورته و فاقته حتّى إذا كفي همّه عاد إلى شركه؛ أ ما تسمع اللّه عز و جلّ يقول: قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتٰاكُمْ عَذٰابُ اللّٰهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السّٰاعَةُ أَ غَيْرَ اللّٰهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ * بَلْ إِيّٰاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مٰا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شٰاءَ وَ تَنْسَوْنَ مٰا تُشْرِكُونَ.» (1)

و فيه أيضا في حديث أنّه قال أمير المؤمنين عليه السّلام:

«اللّه معناه: المعبود الّذى يأله فيه الخلق و يؤله إليه، و اللّه هو المستور عن درك الابصار، المحجوب عن الاوهام و الخطرات».

ثمّ قال: قال الباقر عليه السّلام:

«اللّه معناه: المعبود الّذي أله الخلق عن درك ماهيّته و الاحاطة بكيفيّته، و يقول العرب: أله الرجل: إذا تحير في الشيء فلم يحط به علما، و و له: إذا فزع إلى شيء ممّا

ص: 229


1- الآيتين: الانعام/ 40-41؛ و الحديث في التوحيد، باب معنى «بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ »،ص 230، ح 5؛ و هكذا في تفسير الامام - عليه السلام -، ص 10، و البحار ج 92، باب فضائل سورة الفاتحة و تفسيرها، ص 232 و 244، ح 14 و 48؛ و البرهان، ج 1، ص 45، ح 8.

يحذره و يخافه، و الاله(1) هو المستور عن حواس الخلق - الحديث »(2).

و ذكر في جملة رواه عنه أنّ:

«تفسير الاله هو الّذي أله الخلق عن إدراك ماهيّته و كيفيته بحسّ أو بوهم، لا بل هو مبدع الاوهام، و خالق الحواسّ - الحديث »(3).

و فيه باسناده عن الحسن بن راشد، عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السّلام قال:

«سألته عن معنى اللّه، قال: استولى على ما دقّ و جلّ »(4).

و في مجمع البحرين أنّ في الحديث: «اللّه معنى يدلّ بهذه الاسماء و كلّها

ص: 230


1- في بعض النسخ: «فالإله».
2- الحديثان في التوحيد، باب تفسير «قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ» الى آخرها، ص 89، ح 2؛ و البحار، ج 3، باب 6 من كتاب التوحيد، ص 222، ح 12.
3- راجع المصادر المذكورة في تعليقة 2 ص 222.
4- التوحيد، باب معنى «بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ »،ص 230، ح 4، و المعاني باب معنى «اللّه عز و جلّ»، ص 4، ح 1، بهذا الاسناد؛ و رواه أيضا الكليني (ره) بالاسناد المذكورة في الكافي، ج 1، باب معاني الاسماء و اشتقاقها، ص 114، ح 3؛ و العياشي (رض) في تفسيره، ج 1، ص 21، ح 15، عن الحسن بن خرزاذ، عن الصادق - عليه السلام -، و نقله المجلسي (ره) في البحار، ج 4، باب معاني الاسماء و اشتقاقها، ص 181، ح 6، و قال في ذيله: «لعلّه من باب تفسير الشيء بلازمه، فانّ معنى الالهية يلزمه الاستيلاء على جميع الاشياء دقيقها و جليلها. و قيل: السؤال إنما كان عن مفهوم الاسم و مناطه، فأجاب - عليه السلام - بأنّ الاستيلاء على جميع الاشياء مناط العبودية بالحقّ لكلّ شىء.»

غيره».

و في التوحيد باسناده عن الصادق عليه السّلام:

«اللّه مشتق عن إله، و إله يقتضي مألوها(1)».

و في خطبة الرضا عليه السّلام:

«له معنى الربوبيّة إذ لا مربوب، و حقيقة الالهيّة إذ لا مألوه.»(2)

[في اشتقاق كلمة الجلالة و علميّتها، و أنّ أصلها ما هو؟]

اعلم أنّه لا خلاف في أنّ الالف و اللاّم في لفظ الجلالة حرف تعريف في الاصل لا من أصل الكلمة، كما مرّ على ما صرّح به بعضهم، و ذهب الاكثر إلى أنّ أصله «الالاه»، و جوّز سيبويه أن يكون أصله لاها من لاه يليه: تستّر و احتجب، و قيل:

بمعنى: ارتفع، و يبعده كثرة دوران إله في الكلام و استعمال إله في المعبود، و إطلاقه على اللّه. فهو حينئذ كلفظ الناس حيث أنّ أصله «الاناس»، فحذف منه الهمزة،

ص: 231


1- التوحيد، باب أسماء اللّه تعالى، ص 220، ح 13، عن هشام بن الحكم، عنه - عليه السلام -؛ و البحار، ج 4، باب 1 من أبواب أسمائه تعالى، ص 157، ح 2؛ و هكذا رواه الكليني (ره) بهذا الاسناد في الكافي، ج 1، باب معاني الاسماء و اشتقاقها، ص 114، ح 2؛ و الطبرسي (ره) في الاحتجاج، ج 2، ص 72، مرسلا عن هشام بن الحكم، عنه - عليه السلام -.
2- رواه الصدوق (ره) في التوحيد، باب التوحيد و نفي التشبيه، ص 38، ح 2؛ و العيون، ج 1، خطبة الرضا - عليه السلام - في التوحيد، ص 125، عن محمد بن يحيى ابن عمر بن علي بن أبي طالب، عنه - عليه السلام -؛ و الطبرسي (ره) في الاحتجاج، ج 2 ص 177، مرسلا عنه - عليه السلام -؛ و هكذا في البحار، ج 4، باب جوامع التوحيد، ص 229، ح 3.

و عوّض منه الالف و اللام، كما عن أبي عليّ النحويّ، أو من دون تعويض كما ذكره غيره.

و الاله مشتقّ من أله بالفتح إلاهة أي: عبد عبادة على ما ذكره الجوهري(1)

و وافقه جماعة.

و عن المصباح: «أله يأله - من باب تعب - إلهة [بمعنى] عبد عبادة، و تألّه:

تعبّد، و الإله: المعبود و هو اللّه سبحانه، ثمّ استعار [ه] المشركون لما عبد من دونه».

و أجود منه ما ذكره الجوهري من تعليل تسمية الاصنام بالآلهة باعتقادهم أنّ العبادة تحقّ لها، و أسمائهم تتبع اعتقاداتهم، لا ما عليه الشيء في نفسه.

قيل: «اتّفق القائلون بالاشتقاق على اشتقاقه ممّا ذكر (2) ،و أنّه اسم جنس كالرجل و الفرس، يقع على كلّ معبود بحقّ أو باطل، ثمّ غلب على المعبود بحقّ؛ كما أنّ النجم اسم لكلّ كوكب، ثمّ غلب على الثريّا. و كذا السنة على عام القحط و البيت على الكعبة، و الكتاب على كتاب سيبويه. و أمّا اللّه بحذف الهمزة فمختص بالمعبود [ب] الحقّ لم يطلق على غيره (3).»انتهى.

و قيل: «من أله بكسر أي: تحيّر.» و ذكر الجوهري أنّ أصله الوله، و ردّ بمخالفته لكثير من كلام أهل اللّغة، و المناسبة ظاهر؛ إذ تحيّرت الاوهام، و غمضت مداخل الفكر، و عجزت العقول عن إدراكه.

و قيل: «من ألهت إلى فلان أي: سكنت إليه.» فالنفوس لا تسكن إلا إليه، و العقول لا تقف إلا لديه، «أَلاٰ بِذِكْرِ اللّٰهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ » .(4)

ص: 232


1- راجع الصّحاح، و قد يوجد فيه أيضا كثير من الاقوال المتقدّمة و الآتية المنقولة عنه و عن غيره في حول كلمة الجلالة.
2- يعني به ما تقدم أخيرا عن الجوهري.
3- القول للنيشابوري، راجع تفسيره، ج 1، ص 24.
4- الرعد/ 28.

و قيل: «من الوله و هو ذهاب العقل سواء فيه الواصلون إلى ساحل بحر العرفان، و الواقفون في ظلمات الجهالة و تيه الخذلان.»

و قيل: «من أله الفصيل إذا أولع بامّه؛ لانّ العباد تتضرّع إليه في البليّات.» و عن الخليل و متابعيه و أكثر الاصوليّين و الفقهاء من العامّة أنّ: اسم الجلالة ليس بمشتقّ، و اسم علم له سبحانه، و احتجّ لذلك بأنّه: لو كان مشتقّا لكان معناه كلّيّا لا يمنع نفس تصوّره عن وقوع الشركة فيه، فلا يكون «إلا اللّه» موجبا للتوحيد المحض؛ و بأنّ: الترتيب العقلي ذكر الذات ثمّ نعته بالصفات، و إنّا نقول: اللّه الرحمن الرحيم العالم القادر، و لا نقول بالعكس، فدلّ على أنّه اسم علم؛ و بأنّه: لو كان صفة و سائر أسمائه صفات لم يكن للباري تعالى اسم، و لم يبق العرب شيئا من الاشياء إلا سمّته، و لم تسمّ خالق الاشياء و مبدعها (1) ؛هذا محال.

أقول:

الّذي يظهر لي في المقام أنّ الاله الّذي هو الاصل في اللّه على ما عرفت، و صرّح به في الرواية المتقدّمة، و يظهر من سائر الروايات أيضا هو: فعال بمعنى مفعول؛ كالكتاب بمعنى المكتوب، من أله بمعنى عبد، كما صرّح به جماعة(2) و أصل العبودية الخضوع و الذلّ، كما صرّح به الجوهري، و ربّما فسّر بغاية التذلّل، و لعلّه لانصراف اللّفظ إلى الفرد الكامل، فيكون الاله هو: المعبود الّذي لأجله يقع الخضوع و التذلّل الكامل.

ثمّ إنّ المعبود تارة يعتبر و يؤخذ بالاضافة إلى شخص خاصّ فيقال: معبود زيد، و تارة يؤخذ مطلقا، و على الاوّل فلا يبعد انصرافه إلى من كان شأنه أن

ص: 233


1- تجد هذه الاقوال و الدلائل التي أقيم في إثبات قول الاخير في التفسير الكبير، ج 1، ص 121-125؛ و تفسير النيشابوري، ج 1، ص 24.
2- كالفيومي، فراجع المصباح.

يعبده ذلك الشخص، و كان قابلا لذلك و أهلا له، و إلا فهو متّخذ إلها، لا أنّه معبود. و لمّا لم يكن المخلوق أهلا لذلك في ظرف الواقع كان إطلاق الاله و المعبود و لو مقيّدا على المخلوق المتّخذ معبودا خطاء في الاطلاق لاشتباه في المصداق، كما سبق عن الجوهري، أو مبنيّا على اعتقاد المخطي، فيكون إطلاق إله «هذيل» و معبودهم على الصنم مبنيّا على اعتقادهم، فيكون المعنى أنّه معبود بزعمهم و على حسبانهم. و حينئذ فلا مصداق له حقيقة في نفس الامر سوى الواحد الحقّ و إطلاقه على غيره مبنيّ على الزعم الفاسد.

و أمّا الثاني، فهو إمّا مأخوذ بمعنى الشأنيّة و الاستحقاق مع قطع النظر عن تحقّق العابد في الخارج، أو بمعنى الفعليّة لكلّ من سواه استغراقا، بأن يكون معبودا مطلقا يعبده جميع من سواه، أو على وجه الاهمال ليصدق على الكلّ أو البعض، فيكون مفاده التوصيف بالمعبوديّة على وجه الاجمال.

و على الاوّلين فاختصاصه بالحقّ ظاهر؛ إذ هو الّذي «وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّٰ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ» (1) و «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ إِلاّٰ آتِي الرَّحْمٰنِ عَبْداً .» (2).

و على الثالث، فربّما يستفاد منه العموم باعتبار إفادة حذف المتعلّق العموم، و إذا حلّي بالالف و اللام قوي ذلك لاقتضائه الاشارة الّتي هي مدلولها التعييني، و لا يتعيّن المعبود بمعنى الفعليّة من حيث كونه معبودا إلا باضافته إلى العابد، و لا تعيّن لشيء من أفراد العابدين في اللّفظ لتساوي نسبتها إلى اللّفظ، و امتناع الترجّح من غير مرجّح فيتعيّن إرادة الجميع. و التوصيف بالمعبوديّة المطلقة نظير ما قرروه في إفادة الجمع المحلّى باللام العموم في الاصول.

و ممّا ذكر ظهر أنّه لا حاجة إلى تقييد «الاله» في كلمة «لا إله إلا اللّه»،

ص: 234


1- مأخوذ من آية 44 سورة الاسراء، و أصلها هو: «إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ...»
2- مريم/ 93.

و أن الاله معرّفا باللام ظاهر الاختصاص بالحقّ من وجوه من حيث استظهار الشأنيّة، و الصلاحيّة في جوهر الكلمة من حيث هو، و من حيث خصوصيّة ترك إضافته إلى عابد معين، و من حيث تحليته باللام.

فالاله هو الّذي يعبده بالاستحقاق جميع من سواه و تأكّد هذه الدلالة عند حذف الالف و قطع همزة التعريف بصيرورته؛ كالمنسلخ عن الاضافة الخاصّة، و انضمّ إليه كثرة الاستعمال، و هجر غيره حتّى صار كالاعلام الشخصية في الاختصاص، بل منها حقيقة بحسب ظاهر النظر في العرف.

و هذه حكومة بين المثبتين للاشتقاق و القائلين بالعلميّة و الاسميّة؛ إذ الوضع العرفي التاري على المعنى الاصلي علميّ و إن كان مطابقا للمعنى الاشتقاقي الاصلي من حيث المعنى، لكنه صار بحيث لا يتبادر منه المعنى الوصفي بحسب العرف، بل يتبادر إلى أذهانهم الذات من حيث هو، أو كاد أن يصير كذلك. و مثاله لفظ «العلامة» و «المفيد» و «بحر العلوم» و غيرها من اجتماع الجهتين فيها، و تمحّضها أوّلا للمعنى الوصفي.

و من ذلك ظهر معنى تفسير الكلمة باله كلّ شيء، و أنّه الاسم الّذي لا ينبغي أن يسمّى به غير اللّه، و لم يتسمّ به مخلوق؛ إذ معنى الاسم منحصر به سبحانه على ما فصّلنا.

[في حقيقة العبوديّة، و أنّ كلمة الجلالة مستجمع لجميع الصّفات الكماليّة]

ثمّ إنّ التذلّل و الخضوع الّذي هو معنى المادّة فيتحقّق تارة من حيث استحقاق العباد لذاته الخضوع لمعبوده لذاته و صفاته، فيكون المعبود مستحقّا للخضوع له بذاته و صفاته، و العبد مستحقّا للاتّصاف به لذاته، و هذا حقيقة العبادة؛ فاذا عرف ذاته بخواصّ الامكان و نقائصه، و عرف الحقّ باستجماعه لجميع الصفات

ص: 235

الكماليّة انبعث له حال الخضوع قلبا، و الطاعة له جوارحا. و بهذه الملاحظة فاللّه هو الذات المستجمعة لجميع الصفات الكماليّة؛ إذ لو فقد منها شيئا لم يكن معبودا بقول مطلق. و من جملتها أن يكون مرتفعا عن الخلق و عن مبلغ مداركهم، بحيث يحتجب عنها بغير حجاب، و مستورا عن درك الابصار، و محجوبا عن الاوهام و الخطرات، فيأله الخلق عن إدراك حقيقته، فيناسب جملة من مبادي الاشتقاق السابقة، و يوافق جملة من الروايات المتقدّمة.

و ذلك لأنّ المدارك لا تدرك إلا ما كان واقعا في عالمها و مشاركا لها، و مثله لا يستحقّ العبادة، و إنّما المستحقّ هو خالق المدرك و المدرك، المنزّه عن صفاتها و شباهتها، و صيرورته في عالم من عوالمها؛ إذ المتماثلين أو المتشابهين أو المتجانسين لا يستحقّ واحد منهما العبادة على الآخر، و إنّما المستحقّ القدّوس المطلق المنزّه عن جميع ما ينعت به الخلق.

و أيضا الخضوع المطلق إنّما يكون عند من تحيّر فيه إدراك الخاضع؛ إذ التحيّر من أنواع الخضوع و الاستكانة، و المدرك بالاكتناء يسكن الخضوع بعد تمام إدراكه. و أيضا الّذي يحاط به العلم محاط للعالم، و المحيط أولى بالمعبوديّة من المحاط.

و من جملتها أن يكون مستوليا على جميع ما دقّ و جلّ؛ إذ لو لم يستول على شيء منها لم يكن مستحقّا لعبادته من هذه الحيثيّة، فانّ المستولى عليه يحقّ له عبادة المستولي دون غيره، فليس معبودا مطلقا. و لعلّ إليه الاشارة بالحديث السابق، لا اشتقاق لفظ الجلالة من الاستيلاء إلا أن يؤل بالاشتقاق الكبير، فيكون الغرض بيان المناسبة.

و تارة أخرى من حيث طلب شيء بالاستحقاق الذاتي من المعبود من مطلوب دنيويّ أو معنويّ أو أخروي، أو هرب من شيء مبغوض بأحد الوجوه الثلاثة،

ص: 236

فالعابد يتألّه إلى معبوده في حاجته. و الاله المطلق بهذا الاعتبار من كان مستوليا على كلّ شيء دقيق و جليل لا يخرج عن حكمه شيء، حتّى يصحّ تذلّل كلّ شيء له في كلّ أمر من الامور المتعلّقة به من مطلوب أو مبغوض على الوجوه الثلاثة، حتّى يتذلّل العابد له بالالتجاء إليه في كلّ حاجة.

و من هنا يتبيّن وجه التعميم في الحاجة و المحتاج في الرواية الاولى، و تفصيله باثبات انحصاره فيه سبحانه، و أنّ من سواه لا يقدر على الكلّ و إن قدر على بعض، بل هو محتاج أيضا، و المعبود في كلّ جهة لا بدّ و أن يكون غنيّا من كلّ جهة، إذ عبادة المحتاج للمحتاج سفاهة، و هذا بحسب ظاهر النظر، و الا فالمحتاج إليه عند العارف ليس إلا الحقّ سبحانه، و هو من دونهم وليّ الاعطاء و المنع، و جميع ما سواه يلتجأ به، إمّا دائما كالعارف، و إمّا عند الحاجة كالمؤمنين، و إمّا عند الاضطرار كالكفار؛ كما يشهد له الآية(1) و الرواية، و ما رواه في التوحيد بعد ما قدّمناه في صدر ترجمه البسملة؛ قال:

«و هو ما قال رجل للصّادق عليه السّلام: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، دلّني على اللّه ما هو، فقد أكثر عليّ المجادلون و حيّروني.

فقال له: يا عبد اللّه، هل ركبت سفينة قطّ؟ قال: نعم.

قال: فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك و لا سباحة تغنيك؟

قال: نعم.

قال: فهل تعلّق قلبك هنالك أنّ شيئا من الاشياء قادر على

ص: 237


1- كقوله تعالى: «فَإِذٰا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمّٰا نَجّٰاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذٰا هُمْ يُشْرِكُونَ.» (العنكبوت/ 65)، و قوله تعالى: «وَ إِذٰا مَسَّ النّٰاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذٰا أَذٰاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذٰا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ.» (الروم/ 33).

أن يخلّصك من ورطتك؟ قال: نعم.

قال الصّادق عليه السّلام: فذلك الشيء هو اللّه القادر على الانجاء حيث لا منجي، و على الاغاثة حيث لا مغيث .»(1).

و الظاهر أنّ السبب في ذلك رجوع الكافر حال اضطراره إلى فطرته المحجوبة، و ظهور تلك المعرفة و فعليّته.

و لا يخفى عليك أنّ الالتجاء و الاستغاثة و السؤال و الفزع كلّها من شئون العبوديّة و الخضوع و التذلّل، بل هي تذلّلات و خضوعات حاليّة، كما أن الاطاعة بالجوارح عبوديّة، بل أغلب النفوس لا تخضع و لا تتذلّل إلا عند الحاجة:

«إِنَّ الْإِنْسٰانَ لَيَطْغىٰ * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنىٰ.» (2)

فالعبوديّة أصلها الخضوع و التذلّل، و لها أغصان و فروع و آثار يصحّ إطلاق العبوديّة على كلّ منها أيضا. أ لا ترى أنّ السجدة عبادة جوارحيّة، و لها معنى قلبيّ هو السجدة القلبيّة؟

و بما فصّلنا يتّضح أنّ اللّه هو أعظم اسم من أسماء اللّه سبحانه، الحاكية عن صفات الذات و صفات الافعال في مقام الظهور باعتبار دلالته على المعبوديّة المطلقة، المشتملة على جميع شئونها من صفات الذات و صفات الافعال، و العبوديّة مساوقة لعالم الامكان، و كلّ حادث عبد؛ «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ إِلاّٰ آتِي الرَّحْمٰنِ عَبْداً.» و العبوديّة وجهة العبد إلى سيّده، و العابد إلى معبوده، و الرابطة و الوسيلة، و اللّه سبحانه معبود بذاته و صفاته و أفعاله و آثاره. و لو اغمض النظر عن واحد منها لم يكن معبودا مطلقا، فلو خرج عن مدلول كلمة الجلالة اسم من أسمائه الظاهرة لم يكن باعتباره معبودا، فخرج مظاهر ذلك الاسم عن دائرة العبوديّة

ص: 238


1- راجع تعليقة 2 ص 211.
2- العلق/ 6-7.

من حيث كونها مظاهر له. و المعبود المطلق من كان كاملا في ذاته و صفاته باستجماعه جميع الصفات الجماليّة و الكماليّة، الذاتيّة و الفعليّة، مرجوّا عند كلّ ما يرجى، مخوفا عند كلّ ما يخاف، مستحقّا للمحبوبيّة بجميع الوجوه و الحيثيّات، و للحياء منه بجميع الشئون الموجبة لاستحقاق الحياء منه، متوحّدا في جميع ذلك، لا يشاركه في شيء منها غيره. فمدلول هذه الكلمة شاملة لمدلول كلّ اسم من الاسماء الظاهرة، فهو أعظم منها و أعمّ.

و من هنا يتبيّن أنّه المقدّم عليها معنى، فهو المستحقّ للتقديم لفظا يوصف بها، و لا يجري وصفا لشيء منها.

[في بيان أنّ كلمة الجلالة ليست اسما للذّات]

و ممّا ذكرنا ظهر فساد الاستدلال على أنّه اسم للذات بأنّه لولاه لم يكن مفهومه مانعا عن وقوع الشركة فيه؛ إذ الاستغراق و الشمول لجميع ما سواه يمنع من الشركة فيه، فيكون كلمة التوحيد دالا عليه، فكأنّ معناها أنّه لا معبود إلا المعبود المطلق، و بملاحظة الترتيب العقلي لما ذكرنا. و أمّا الاستدلال بلزوم انتفاع اسم الذات، فمردود بأنّ امتناع وقوع الادراك على الذات من حيث هي هي، الّذي هو الغيب المطلق، و منقطع الاشارات العقليّة و الوهميّة و الحسّيّة مانع عن وضع اسم بازائه؛ إذ كلّ معروف بنفسه مصنوع كما ورد عنهم عليهم السّلام(1).

و أمّا ما أورده الفاضل النيشابوري في تفسيره(2) من «أنّ وضع الاسم للذات لا ينافي عدم إدراكه كما ينبغي، و إنّما ينافي عدم إدراكه مطلقا، فيجوز أن يقال:

الشيء الّذي يدرك منه هذه الآثار و اللّوازم مسمّى بهذا اللّفظ، و أيضا إذا كان

ص: 239


1- راجع خطبة علي بن موسى الرضا - عليه السلام - في مجلس المأمون في التوحيد، و قد مرّ مصادرها في تعليقة 2 ص 231.
2- تفسير النيشابوري، ج 1، ص 20.

الواضع هو اللّه تعالى، و أنّه يدرك ذاته على ما هو عليه، فله أن يضع لذاته اسما مخصوصا لا يشاركه فيه غيره حقيقة، فمدفوع بأنّ جميع أسماء اللّه سبحانه دالّة على الذات من حيثيّة من الحيثيّات السلبيّة و الايجابيّة، أو الاضافيّة، أو المركّبة، و لا يكون معانيها عند المدرك إلا متميّزة محدودة متعيّنة؛ إذ لو لا التميز و التعيين امتنع الادراك، و المشار إليه بهذه المعاني ليس إلا الذات: إذ لولاه لم تكن هذه أسماء له، بل لغيره، و لم يكن الداعي بها داعيا له بكلّ معنى من المعاني المدلول عليها بالاسماء، وجهة يتوجّه بها العبد إلى ذات الحقّ سبحانه. فاذا فرضنا خلو المدلول عن وجهة أصلا لم يقع عليه الادراك أصلا، فلا يفهم منه شيء أصلا، فلم يكن موضوعا له؛ إذ الوضع تخصيص شيء بشيء بحيث متى أطلق أو أحسّ الشيء الاوّل فهم منه الشيء الثاني. و إن اشتمل على وجهة على جهة المرآتيّة و المعرفيّة للمسمّى فهو شأن كلّ اسم من أسمائه من حيث كونه اسما؛ إذ لو لم يكن معرّفا و مرآة لم يكن اسما له سبحانه، بل اسما لغيره، فتبصّر.

و حينئذ فوضع الحقّ الاسم إن كان لتعريف نفسه لنفسه فهو العالم بنفسه لنفسه، المنزّه عن كونه معرفته بغيره؛ و إن كان لتعريف غيره به، فقد عرفت امتناعه، فما معنى الوضع المفروض؟

و نظير هذا الكلام يجري في حقائق الاسماء الالهيّة؛ إذ الاسم مخلوق و المخلوق محدود و اللّه سبحانه منزّه عن الحدّ، فلا بدّ أن يكون الحقيقة حاكيا عن الحقّ بما ظهر له من الشأن فقط، فلا يكون اسما للذات بما هي هي، فافهم.

و يؤيّد ما اخترناه في كلمة الجلالة ظاهر قوله سبحانه: «وَ هُوَ اللّٰهُ فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ فِي الْأَرْضِ » (1) ،و الاخبار المذكورة أخيرا.

و أمّا إطلاق المألوه على المربوب مع أنّ المألوه بمعنى المعبود، فكأن الوجه

ص: 240


1- الانعام/ 3.

فيه إرادة ظهور مظاهر الالوهيّة بمعنى المعبوديّة، و محالّها و متعلّقات إشراقها، فكأنّ الاله لمّا كان بمعنى المعبود بالاستحقاق، و الاستحقاق بالصفات واقع على الاشياء وقوع الشخص بصورته في المرآة ظاهر بها، اشتقّ اسم المفعول منه بهذا الاعتبار، فمعنى المألوه متعلّق الالوهيّة بمعنى المعبوديّة.

و ممّا فصّلنا ظهر اندراج سائر الاحتمالات في المشتقّ منه تحت ما ذكرنا على وجه يظهر للمتأمّل فيما ذكر، فلا نطيل ببيانها و وجه الجمع بين الاخبار الواردة في ذلك و انطباقها على القواعد اللّفظيّة، فلا تغفل.

ثمّ اعلم أنّه يشبه أن يكون حقيقة اسم الجلالة بمعنى الاسم العينيّ الواقعي، لا اللّفظيّ و الكتبي، هو حقيقة الامكان و الافتقار الذاتي الّذي هو مفتاح خزائن الجود و العطاء بعنوان مطلق؛ إذ العبوديّة جوهرة كنهها الربوبيّة، إذ الربوبيّة الذاتيّة معناها و مدلولها، و الربوبيّة الفعليّة أمر ظاهر فيها و متأخّر عنها؛ إذ مرتبة العبوديّة مرتبة القابليّة، و الربوبيّة الفعليّة مرتبة الفعليّة، و القابليّة شرط الفعليّة و معدّ لحصوله، أو التربية بعد الوجود المتأخّر عن القابليّة، فكأنّ حقيقة هذا الاسم هو القابليّة و الامكان الكلّي، الّذي حقّق قابليّات الاشياء و إمكاناتها و افتقاراتها إلى ما ينبغي لها؛ إذ في هذه المرتبة يظهر العبوديّة و قبله لا عبد و لا عبوديّة، و لا يصحّ اعتبار شيء منهما فعلا، و فيها يصحّ اعتبار التذلّل و الخضوع، و السؤال و التضرّع بلسان الحال، و امتثال خطاب «كن» بقبول الكون، و التداعي و الاتّصاف به، و هي الرابطة بين الحقّ و الخلق؛ «قُلْ مٰا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لاٰ دُعٰاؤُكُمْ » (1).

و لعلّه المراد ممّا نسب إلى بعض العارفين من أنّه إذا تمّ الفقر فهو اللّه، فتبصّر.

ص: 241


1- الفرقان/ 77.

[تفسير كلمة الجلالة باعتبار حروفها]

و أمّا شرح الكلمة باعتبار حروفه، ففي التوحيد باسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام بعد السؤال عن تفسير «اللّه» في ضمن تفسير البسملة، قال:

«الالف آلاء اللّه على خلقه من النعيم بولايتنا، و اللام إلزام اللّه خلقه ولايتنا.

قلت: فالهاء؟

قال: هو ان لمن خالف محمّدا و آل محمّد - صلوات اللّه عليهم - الحديث.»(1)

و لعلّه اسقط منه الالف و اللام لخروجهما عن جوهر الكلمة، أو أخذ اللام المشدّدة واحدة، و اسقط الالف المتأخّرة عنه، إمّا لخروجه عن الحروف الثمانية و العشرين المعروفة و عدم ظهوره في الكتابة، أو عدم قابليّة الراوي لفهمه، أو أخذ اللامين واحدا و الهمزة و الالف واحدا لعدم تفاوت المعنى بالتكرار. و قد مرّ في عدّة من الاخبار تفسير الالف بآلاء اللّه سبحانه من دون تقييد بخصوص الولاية و لعلّ التخصيص هنا لأجل كونها أصل النعم و غايتها، أو كونها أعظم النعم و أخفاها عن الانظار، فاحتاجت إلى مزيد بيان، أو انحصار النعمة الباطنة الخفيّة الّتي أريد من الآلاء بها، أو اختصاص الاختصاص بلفظ الجلالة لخصوصيّة تظهر وجهه ممّا نذكره. و قريب منه الكلام في تفسير اللام في بيان معاني الحروف في بعض الاخبار ب «اللّطيف بعباده »(2) ،و في بعض آخر تفسيرها ب «إلمام أهل الجنّة بينهم

ص: 242


1- راجع المصادر المذكورة في تعليقة 3 ص 220؛ و هكذا في البحار، ج 92، باب فضائل سورة الفاتحة و تفسيرها، ص 231، ح 12.
2- كرواية الصدوق (ره) عن حسين بن علي - عليهما السلام - عن أمير المؤمنين - صلوات اللّه و سلامه عليه - في جوابه ممّا سأله اليهودي من الفائدة في حروف الهجاء؛ فراجع التوحيد باب تفسير حروف المعجم، ص 235، ح 2.

في الزيارة و التحيّة و السلام، و تلاوم أهل النار فيما بينهم »(1).

و اللّطف الحقيقي هو جعله الولاية الّتي هي مساوقة للدين بل هي عينه، و ثمرة الولاية بل ظهورها بآثارها؛ إذ الولاية موجب لتحقق الالفة و الولاية بين الموالين، و هي من آثار ولايتهم عليهم السّلام و توابعها و شئونها، و التزاور و التحيّة و السلام كلّها من آثار المحبّة و الاتّحاد و المؤاخاة الّتي هي من آثار الولاية.

و أمّا تلاوم أهل النار، فمن لوازم عدم قبولهم الولاية؛ قال اللّه سبحانه:

«وَ أَنَّ هٰذٰا صِرٰاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لاٰ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ » (2) .

و لنعم ما قيل بالفارسيّة:

جان گرگان و سگان جمله جداست *** متّحد جانهاى شيران خداست

و أمّا الهاء ففي بعض الاخبار المفسّرة للحروف تفسيره بأنّه: «هان على اللّه من عصاه.»(3) و هو مطابق لما مرّ؛ إذ كلّ معصية راجعة إلى مخالفتهم عليهم السّلام، كما أنّ كلّ طاعة إلى طاعتهم، و كلّ معصية مخالفة لهم، و كلّ مخالفة لهم معصية للّه سبحانه، بل هما متّحدتان معنى و حقيقة و إن اختلفا صورة و اعتبارا.

و في آخر تفسيره ب «هول جهنّم »(4) ،و في ثالث ب «هاء الهاوية» قال عليه السّلام:

ص: 243


1- راجع كلام رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله - في جواب من سأله عن تفسير أبجد؛ نقله الصدوق - طاب ثراه - في التوحيد، باب تفسير حروف الجمل، ص 237، ح 2، عن الاصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين، عنه - صلّى اللّه عليه و آله -.
2- الانعام/ 153.
3- رواه الصدوق (ره) فى التوحيد، باب تفسير حروف المعجم، ص 234، ح 1؛ و المعاني، باب معاني حروف المعجم؛ ص 44، ح 1؛ و الامالي و العيون عن علي بن موسى الرضا - عليهما السلام -... عن أمير المؤمنين - عليه السلام -؛ و هكذا في البحار، ج 2 باب غرائب العلوم من تفسير أبجد و حروف المعجم، ص 319، ح 3.
4- رواه الصدوق (ره) في التوحيد، باب تفسير حروف الجمل؛ و المعاني و الامالي عن أبي الجارود زياد بن المنذر، عن أبي جعفر - عليه السلام - و هكذا في البحار، ج 2 باب غرائب العلوم من تفسير أبجد و حروف المعجم.

«فويل لمن هوى في النار.»(1)

و هذان غايتان لهوان العبد على اللّه سبحانه، و ثمرتان له، فانّ من هان عليه هنا ترتّب عليه ورود أهوال الآخرة خصوصا هول جهنّم، و أدّاه الهوان على اللّه إلى دخول الهاوية و الهويّ في النار. فالهوان هو الاصل، و هي آثاره و نتائجه، كما أنّ الجنّة أثر كرامة العبد على اللّه و رضوان اللّه سبحانه.

و حينئذ فنقول: ظهور معنى المعبود الّذي هو معنى كلمة الجلالة بجعل حقيقة الدين الّتي هي الولاية كما أشرنا إليه، و النعيم الحقيقي، و إلزام العباد بقبوله فيترتّب على قبوله جميع الخيرات الحقيقيّة الّتي هي نتائج ذلك النعيم الحقيقي، و جعل الهوان و الهلاك و العذاب على من أبى عن قبول الدين. فهذه أمور ثلاثة و إن كانت بحسب الاعتبار الاوّل أربعة: جعل الدين، و إلزام العباد على قبوله، و ما يترتّب على القبول، و ما يترتّب على إبائه و إنكاره؛ لكنّ الثالث لمّا كان من آثار الدين الّذي هو الامر الاوّل صحّ تثليثها، و هي مترتّبة بحسب الواقع كترتّب الحروف الثلاثة الدالّة عليه، و هو ظاهر بملاحظة ما مرّ و حينئذ فيوافق معنى المادّة أعني الحروف الكلمة معنى و تركيبا، فلا تغفل.

[بحوث حول كلمتي الرّحمن و الرّحيم]

و أمّا الرحمن الرحيم، ففي رواية التوحيد المتقدّمة صدرها:

«الرحمن الّذي يرحم ببسط الرزق علينا، الرحيم بنا في أدياننا

ص: 244


1- نفس المصادر، عن الاصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين - عليه السلام - عن رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله -.

و دنيانا و آخرتنا، خفّف علينا الدين، و جعله سهلا خفيفا، و هو يرحمنا بتمييزنا عن أعدائه.»(1)

و في الرواية المتقدّمة صدرها، المرويّة بالطرق المتكثّرة:

«الرحمن بجميع خلقه، و الرحيم بالمؤمنين خاصّة.»(2)

و في رواية التوحيد الثانية قال:

«قلت: الرحمن؟

قال: بجميع العالم.

قلت: الرحيم؟

قال: بالمؤمنين خاصّة.»(3)

و في رواية تفسير الرحمن ب:

«العاطف على خلقة بالرزق، لا يقطع عنهم موادّ رزقه و إن انقطعوا عن طاعته.»(4)

و في المجمع عن عيسى بن مريم عليه السّلام.

«الرحمن رحمان الدنيا، و الرحيم رحيم الآخرة.»(5)

و عن الصادق عليه السّلام:

ص: 245


1- في بعض النسخ: «عن أعاديه». و موضع الحديث قد أشرنا إليه، فراجع تعليقة 1 ص 229.
2- راجع تعليقة 1 و 2 ص 220.
3- راجع تعليقة 3 ص 220.
4- تفسير الامام - عليه السلام -، ص 12. و الصافي، ج 1، ص 51؛ و البحار ج 92، باب فضائل سورة الفاتحة و تفسيرها ص 248 ح 48.
5- مجمع البيان، ج 1، ص 21؛ و الصافي، ج، ص 51؛ و هكذا في الدرّ المنثور، ج 1 ص 8.

«الرحمن اسم خاصّ لصفة عامّة، و الرحيم اسم عامّ لصفة خاصّة.»(1)

و في بعض أدعية الصحيفة السّجاديّة:

«يا رحمان الدنيا و الآخرة و رحيمهما.»(2)

و نقل النيشابوري و غيره أنّه جاء:

«رحمان الدنيا و الآخرة و رحيم الدنيا.»(3)

أقول:

الرحمن و الرحيم كلاهما صفتان مشتقّان من الرحم، و أصله بحسب المعنى:

العطف و الرقّة و فسّرا بالتعطّف و الشفقة و الميل الروحاني لا الجسماني، فان ذلك ليس معنى الرحمة و إن كان معنى بعض ما يلاقيها في الاشتقاق.

و ذكر بعضهم: «أنّ منه الرحم لرقّتها و انعطافها على ما فيها.»(4)

و لعلّه أراد به بيان المناسبة، و إلا فلا يطلق على ما رقّ جسمه حسّا، أو انعطف كذلك الرحمة، كما نبّه عليه المفسّر المتقدّم.(5) نعم، يصحّ ذلك في الرحم بمعنى القريب لما جعل بين الارحام من الميل و الشفقة و التعطّف.

و ذكر بعضهم في تفسير الرحمة هنا: «أنّها ترك عقوبة من يستحقّها، أو إرادة الخير لأهله.»(6) و ذكر آخر أنّها: «في بني آدم عند العرب رقّة القلب ثمّ

ص: 246


1- نفس المصادر غير الدرّ المنثور.
2- الصحيفة السجادية، دعائه - عليه السلام - في استكشاف الهموم (د 53).
3- تفسير النيشابوري، ج 1 ص 24؛ و نقله أيضا الزمخشري في الكشاف، ج 1، ص 6؛ و البيضاوي في أنوار التنزيل ص 2.
4- ذكره النيشابوري و الزمخشري و البيضاوي في المصادر المتقدمة.
5- راجع تفسير النيشابورى، ج 1، ص 24.
6- نفس المصدر.

عطفه، و في اللّه عطفه و برّه و رزقه و إحسانه.»(1)

و التحقيق أنّ الّذي يظهر لنا في مورد الرحمة في الخلق رقّة و انكسار في قلب الراحم، ثمّ عطف القلب نحو المرحوم، ثمّ ما يترتّب عليه من الافعال المنبعثة عن ذلك من إصلاح أمر المرحوم، و كشف ضرّه، و جبر فاقته، و رفع حاجته، و يشبه أن يكون الاوّل سببا لحصول الرحمة و الثالث ثمرة له و أثرا مترتّبا عليه، و يكون حقيقة الرحم هو الامر الثاني. و يستظهر ذلك بملاحظة ظهور بساطة المعنى و عدم تركّبه من أمرين مختلفين: انفعال من شيء و فعل. و حينئذ فملاحظة عدم كون الاوّل متعدّيا بل لازما لا يتجاوز بنفسه إلى المفعول، مع أنّ الرحم يتعدّى إليه بلا واسطة تقتضي بنفي الاوّل، و المقصود من اللّزوم و التعدية هو كون المعنى بنفسه واقعا على الفاعل أو متجاوزا منه إلى غيره بنفسه، و هو الاصل في التعدية و اللّزوم اللّفظيّين. و ملاحظة كون الرحم من الصفات الباطنية دون الافعال الخارجيّة فيقال: رحيم القلب و لا يقال: رحيم الفعل، تشهد بأنّ الفعل الخارجي منبعث عنه و مظهر له باعتبار ما يصحّ إطلاق الرحم و الرحمة عليه، لا أنّه عينه.

و حينئذ فالظاهر كون أصل الرحم هو العطف الحاصل للراحم نحو المرحوم المنبعث عن ملاحظة حاجته و ضرّه، المقتضي لاصلاح شأنه و جبر كسره. و حينئذ فلا بعد في أن يقال، إنّ إطلاق الرحم على اللّه سبحانه على نحو الحقيقة اللّغوية، و أنّ الحكم بالمجازيّة ناش من عدم تجريد أصل المعنى من الاغشية اللازمة له بحسب الموارد المحسوسة؛ كملازمة الانكسار و الانفعال للرحم فينا بحيث لا يكاد يوجد إلا منبعثا عنه، و ليس إطلاق الرحم على اللّه سبحانه مقصودا على اعتبار أخذ الغاية و الاثر، و إلغاء المبادي التي هي المعاني الاصليّة كما يظهر منهم، بل لأفعال اللّه سبحانه مبادي وجوديّة عينيّة على التحقيق هي حقيقة معاني الالفاظ. فاطلاق

ص: 247


1- الكلام للطريحي (ره)، راجع مجمع البحرين.

الرحم و الرضا و الغضب و أشباهها ليس باعتبار تحقّق الآثار فقط مجرّدة عن المبادي بل باعتبار مبادي تلك الافعال التي هي الاصل لها.

فحقيقة الرحمة و الرحم هو المعنى الذي باعتباره يرحم الممكنات، و هو حقيقة اسم الرحمة من أسمائه سبحانه المخلوقة؛ كما يشهد له ما روي في المشهور و أورده في المجمع عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

«إنّ للّه عزّ و جلّ مائة رحمة، أنزل منها واحدة إلى الارض فقسّمها بين خلقه، فبها يتعاطفون و يتراحمون، و أخّر تسعا و تسعين [لنفسه] يرحم بها عباده يوم القيامة.»(1)

و عن تفسير الامام عليه السّلام معناه عن أمير المؤمنين عليه السّلام.(2)

و حينئذ فانكسار القلب سبب لظهور تلك الرحمة المنفصلة في القلب، فيعطفه على المرحوم كظهورها في الآباء و الامّهات و الارحام و غيرهم بالنسبة إلى الاولاد و القرابات و غيرهم، و كلما كان القلب أصفى كان ظهور الرّحمة بالنسبة إلى الخلق أتمّ.

و لعلّه المراد بالتخلّق بأخلاق اللّه، و حينئذ فاطلاق الرحمن و الرحيم على اللّه سبحانه باعتبار كونه ذا الرحمة الواسعة و مبدأ لها و جاعلا لها، و قيامها به قيام صدور لا قيام حلول، كما يوصف الانسان بصفات أفعاله من الكلام و غيره بخلاف توصيف الناس به، فانّه باعتبار كونه محلا للرحم، و مظهرا له في وجه يظهر به حصر الرحمة في الحقّ، و أنّه لا راحم على الحقيقة إلا هو، و أنّ له الرحمة المطلقة

ص: 248


1- مجمع البيان، ج 1، ص 21؛ و الصافي، ج 1، ص 51.
2- تفسير الامام - عليه السلام -، ص 13؛ و البحار، ج 92، باب فضائل سورة الفاتحة و تفسيرها، ص 250. و قوله - عليه السلام -: «و من رحمته أنه خلق مائة رحمة، و جعل منها رحمة واحدة في الخلق كلهم. فبها يتراحم الناس... فاذا كان يوم القيامة أضاف هذه الرحمة إلى تسعة و تسعين رحمة، فيرحم بها أمة محمد - صلّى اللّه عليه و آله -.»

لا لمن سواه، و هو التوحيد في هذه الصفة كما ورد في بعض فقرات الصحيفة السجاديّة على ما ببالي:

«فلعلّ بعضهم برحمتك يرحمني.»(1)

و لعلّ هذه الرحمة هي حقيقة المراد من قوله تعالى: «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» (2) في مقام التكوين لا الوعد، و قوله سبحانه: «وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ فَسَأَكْتُبُهٰا لِلَّذِينَ - الخ »(3) ،و قوله عزّ و جلّ: «رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وٰاسِعَةٍ » (4) ،و ما ورد من أنّه سبقت رحمته غضبه (5) ،و ما في دعاء كميل من قوله عليه السّلام: «برحمتك التي وسعت كل شيء »،و ما شابهها.

[في أنّ مرتبة الرّحمة متأخّرة عن مرتبة الالوهيّة]

ثمّ إنّ هذه الرحمة المخلوقة يظهر في الموجودات تارة في ضمن حصص محدودة معيّنة؛ كالحالة الحادثة فينا و في غيرنا من ذوات الادراك، كما يظهر نور الشمس في نور القمر و غيره من ذوات الانوار؛ و أخرى بآثارها و غاياتها المترتّبة عليها من

ص: 249


1- الصحيفة السجادية، دعائه - عليه السلام - في ذكر التوبة و طلبها (د 310).
2- الانعام/ 54.
3- الاعراف/ 156.
4- الانعام/ 147.
5- هذا المعنى قد وردت في روايات نقلها الاعلام؛ منها: ما رواه ابن فهد الحلّي (ره) في عدة الداعي، الباب الرابع؛ و نقله الحر العاملي (رض) عنه في الجواهر السنية ص 72 من أن اللّه سبحانه حين أرسل موسى إلى فرعون قال له: «توعده و أخبره أنّي إلى العفو و المغفرة أسرع منّي إلى الغضب و العقوبة.» و منها: ما نقله الطريحي (ره) في مجمع البحرين من كلامه سبحانه: «رحمتي تغلب على غضبي.» و منها: ما في العيون و العلل و تفسير الامام - عليه السلام - من كلامه سبحانه لموسى - عليه السلام -: «انّ رحمتي سبقت غضبى.»

إعطاء ما يحتاج إليه المرحوم، أو دفع ما ينافيه. و يندرج فيها إعطاء الرحمة للرحماء و جعلهم رحماء. فالاولى مندرجة في الثانية بهذا الاعتبار.

و الرحمة تارة تعتبر مطلقة مجردة عن التعلّقات و الاضافات، كما يقال: فلان رحيم القلب في مقابلة القسيّ القلب بمعنى أنّه على صفة لو وجد مرحوما لرحمه؛ و أخرى مضافة متعلّقة بمتعلّق خاصّ، و نسبته إلى الاعتبار الاول يشبه نسبة الفعليّة إلى الشأنيّة، و ما بالفعل إلى ما بالقوّة و حقيقة الاعتبار الاوّل ملاحظة الرحمة في حدّ نفسها و صرافة حقيقتها، و الثاني إلى ملاحظة انبساطها و شمولها وسعتها للاشياء. و به يظهر آثارها الخارجيّة الّتي ربّما تطلق عليها الرحمة أيضا باعتبار ظهور الرحمة بها، و اقتضائها إيّاها، فهي بمنزلة الفرع من الاصل، بل هي رحمة فعليّة صوريّة، كما أنّ سابقها رحمة معنويّة صفتيّة. و على أيّ اعتبار أخذت الرحمة فهي إنّما تعقل بالاضافة إلى محلّ يصلح لعروض الرحمة له، و هو الشيء المتّصف بصفة الحاجة و الفقر إلى أمر ليس بحاصل له، فما لم يكن فقير محتاج سائل بلسان حاله فعلا أو شأنا لم يكن رحمة فعليّة و شأنيّة. فمرتبة هذا الاسم متأخّرة عن مرتبة اسم الالوهيّة عقلا و عينا، إذ المعبوديّة يقتضي عابدا، كما مرّ في الحديث أنّ: «إلها يقتضي مألوها.»(1) فلو لم يكن عابد لم يكن معبودا. و إن كانت الالوهيّة الشأنيّة لا يقتضى وجود العابد بالفعل، بل تصير مبدأ لايجاده لتظهر، و هو معنى ما تقدّم في الحديث من إثبات الالهيّة إذ لا مألوه؛ لكنّها لا تصدق إلا بعد فرض وجود العابد، فتصدق الشأنيّة بعد فرض وجود العابد و الفعليّة بعد الفعليّة. فبمجرّد وجود الممكن فرضا و عينا صحّ وصف الحقّ بالإلهيّة بمعنى المعبوديّة شكرا لنعمة إيجاده، و لما هو عليه من عزّ جلاله و صفاته، و لما عليه الممكن من خواصّ الامكان، و لا يلزم من ذلك كون الحقّ

ص: 250


1- تقدم عن هشام بن الحكم، عن الصادق - عليه السلام -، فراجع ص 231.

مستكملا بالخلق؛ إذ المعبوديّة الاضافيّة ليس كمالا للحقّ و إن كان تجلّيا لكماله و إظهارا له.

و أمّا الرحمة فانّما تتحقّق بفرض حاجة الممكن إلى أمر ليس حاصلا له ليستكمل به، و هو حقيقة سؤاله بلسان حاله و عبادته الذاتيّة، فالرحمة الشأنيّة تقتضي إعطاء الحاجة لها، و تعريضها للعطاء، و جعلها سائلة بألسنة أحوالها قابلة لعروض الرحمة لها، فهي متأخّرة عن الالوهيّة و المعبوديّة. و الرحمة الفعليّة بمعنى الخاصّة لا تكون إلا بعد صيرورة كونها كذلك، و بالمعنى العامّ لا تكون إلا بعد تحقّق الحاجة الكلّيّة. فاسم الرحمة متأخّر عن مبدإ اسم الجلالة رتبة عقليّة و عينيّة، فتتبعهما مرتبة اللّفظيّة و الكتبيّة.

[الرّحمن اسم خاصّ لصفة عامّة و الرّحيم اسم عامّ لصفة خاصّة]

ثمّ إنّ الموجودات لمّا ظهرت و أعطيت لها قابليّة عطايا كثيرة، و سألت بلسان أحوالها كمالاتها، و ما تحتاج إليها في دوامها، و السير إلى غاياتها و نهاياتها، و اتّصفت بصفة العبادة الذاتيّة، ظهرت صفة الرحمة، فأعطي كلا منها ما يستحقّها.

و هذه الرحمة تنقسم إلى قسمين؛ قسم منه بالقياس إلى القوس النزولي و النشأة الاولى، و سيره من الحقّ إلى آخر درجات الخلق، فاعطاء ما يحتاج إليه من إعطاء الرزق و دفع مكاره و إعطاء منافع و إصلاح شأن و تحسين صورة، و إعطاء ما يتوقّف عليه شيء من ذلك و لو بوسائط، إلى غير ذلك. و الآخر بالقياس إلى القوس الصعودي و النشأة الاخرى، و سيره من الخلق إلى الحقّ، و طيّ درجات القرب إلى اللّه سبحانه.

و الاوّل هو الرحمة الاولى الابتدائيّة لعدم بنائه على فعل العبد، فيشمل كلّ شيء من مؤمن و كافر، و جماد و نبات و حيوان و غيرها؛ كما وصف سبحانه:

ص: 251

«وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ.»

و الثاني الرحمة الثانية و الاكتسابيّة و المجازاتيّة ب «أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسٰانِ إِلاّٰ مٰا سَعىٰ * وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرىٰ * ثُمَّ يُجْزٰاهُ الْجَزٰاءَ الْأَوْفىٰ » ،(1) كما وصف سبحانه: «فَسَأَكْتُبُهٰا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ - الخ». و هذه الرحمة اختصّت بالسعداء على تفاوت درجاتهم و منازلهم و حرّمها الاشقياء على درجاتهم في الشقاوة مع شدّة احتياجهم و فقرهم إليه.

فالاوّل الرحمة الرحمانيّة؛ كما قال سبحانه:

«مٰا تَرىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمٰنِ مِنْ تَفٰاوُتٍ.» (2)

و قد استوى الحقّ بتلك الصفة على العرش، فأعطى بها كلّ ذي حقّ حقّه.

و الثاني الرحمة الرحيميّة المكتوبة لخصوص أهله على تفاوتهم في درجاتهم، و ميزوا المجرمون منهم بالحرمان، و اعطوا أضداد تلك الرحمة، و هو المقرون باسم «الغفور» و ما في مرتبته. فالاوّل عامّ لم يخلّ منه شيء، و الآخر خاص بالبعض دون البعض مع تفاوت الطائفتين.

فالرحمن اسم خاصّ لصفة عامّة، و الرحيم اسم عامّ لصفة خاصّة كما مرّ في الحديث.(3)

قال النيشابوري في وجه خصوص الرحمن أنّه: «من حيث لا يسمّى به إلا اللّه تعالي، لأنّه من الصفاف الغالبة، كالدبران و العيّوق.»(4)

و في وجه عمومه: «أنّه يشمل جميع الموجودات من طريق الخلق و الرزق

ص: 252


1- النجم/ 39-41.
2- الملك/ 3.
3- راجع قول الصادق - عليه السلام - فى ص 246 المنقول عن المجمع.
4- «الدبران»: منزل للقمر، و هو مشتمل على خمسة كواكب في برج الثور؛ سمّي بذلك لأنه يتبع الثريا. و «العيوق»: نجم أحمر مضىء فى طرف المجرة الايمن، يتلو الثريا و لا يتقدمها؛ سمّى بذلك لأنه يعوق الدبران عن لقاء الثريا.

و النفع.» و في وجه عموم الرحيم: «اشتراك تسمية الخلق به.» و في خصوصه:

«رجوعه إلى اللطف بالمؤمنين و التوفيق.»(1)

و يمكن أن يوجّه اختصاص الرحمن معنى بدلالة اللّفظ على زيادة الرحمة، و بلوغها الغاية القصوى، نظرا إلى أنّ زيادة المباني تدلّ على زيادة المعاني، فهو أبلغ من الرحيم. و هذا هو النكتة في اختصاصه بالرحمة الاولى الشاملة لجميع الاشياء، فيتبعه اختصاص الرحيم مع اجتماعه معه في التوصيف بالرحمة الخاصّة بصميمة ملاحظة الترتيب اللّفظي، و تطبيقه على المراتب المعنويّة.

و لمّا كان كلّ رحمة وصف المخلوق بها فهي حقيرة بالاضافة إلى رحمة الحقّ لم يستحقّ إطلاق الاسم الدالّة على الزيادة و الكثرة على الخلق، بخلاف الرحيم الّذي لا يدلّ إلا على المتّصف بالرحمة، فيشمل المخلوقات في النظر الجليّ. و هذه القاعدة أعني: دلالة زيادة المباني على زيادة المعاني، مع أنّها مصرّح بها في كلام أهل العربيّة، مؤيّدة بشواهد لا يسعنا ذكر تفصيلها.

و ممّا فصّلناه يظهر الوجه في تخصيص الرحمن فيما مرّ من الاخبار في الفرق بين الرحمن و الرحيم، فهو المعتمد عليه.

و أمّا ما في دعاء الصحيفة من إضافتها إلى الدنيا و الآخرة، فلعلّ الوجه فيه أخذ الدنيا و الآخرة بمعنى العالم الاوّل و الثاني لجميع ما تتحقّق فيهما. و لا ريب أنّ الرحمة الرحيميّة يبتدأ في الدنيا بجعل التكليف سهلا خفيفا (2) ،ثمّ عرضه على العباد، ثمّ التوفيق لقبوله و الهداية بمعنى الايصال إلى المطلوب و التسديد و العصمة ثمّ ترتيب الفيوضات الكماليّة المعنويّة عليه، و إعطاء الجنان المعنويّة لأهله، و غير ذلك كلّها إنّما يقع في عالم الدنيا الّتي هي المزرعة للآخرة، و هي من الرحمة

ص: 253


1- تفسير النيشابوري، ج 1، ص 25.
2- في المخطوطة: «حنيفا».

الرحيميّة كما يشهد له الرواية الاولى (1) ،كما أنّ بقاء ما يحتاج إليه الانسان في بقائه من الدنيا إلى الآخرة من الرحمة الرحمانيّة؛ إذ ليس المعاد إعادة المعدوم المحض الّذي لا عين له و لا تميز، كما حقّق في محلّه.(2)

و أمّا الرواية الاخيرة (3) ،فمع ضعفه جدّا لعلّه إطلاق اللّفظ باعتبار آخر، أو إسقاط عطف الآخرة مرتبة ثانية تعويلا على العطف الاوّل، أو ترك له لنكتة خاصّة.

هذه جملة ما سنح بالبال في ترجمة كلمات البسملة من حيث الافراد، و بقي أمور متعلّقة بها ينبغي ذكرها.

[في بيان أنّ البسملة أقرب إلى اسم اللّه الأعظم من بياض العين إلى سوادها]

منها: أنّه روى العيّاشي (ره) عن الرضا عليه السّلام أنّها:

«أقرب إلى اسم اللّه الاعظم من ناظر(4) العين إلى بياضها.»(5)

و روى الصدوق في المجالس و عيون الاخبار عنه عليه السّلام أنّه قال:

«بسم اللّه الرحمن الرحيم أقرب إلى الاسم الاعظم من بياض العين إلى سوادها.»(6)

ص: 254


1- يعني به أول رواية نقلها (ره) في ترجمة «اَلرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ »،راجع ص 244 و 245
2- راجع مبحث المعاد في الكتب الكلامية.
3- المراد بها ما نقله النيشابوري، راجع ص 246.
4- في بعض النسخ: «سواد».
5- العياشي، ج 1 ص 21، ح 13، عن إسماعيل بن مهران، عنه - عليه السلام - و روى الحرّاني (ره) في التحف، ص 366، عن أبي محمد العسكري - عليه السلام - مثله؛ و هكذا في الصافي ج 1، ص 52، و البحار و البرهان.
6- العيون، ج 2، باب 30، ص 5، ح 11، عن محمد بن سنان، عنه - عليه السلام -؛ و الوسائل، ج 4، باب 11 من أبواب القراءة في الصلاة، ص 747، ح 11، نقلا عنه. و في النسخة الموجودة عندنا من العيون: «سواد العين إلى بياضها» كما يأتي في الرواية الآتية؛ لكنه في الوسائل، على نحو نقله المؤلف (ره)، و هكذا ما وجدنا الحديث في المجالس.

و نسب إلى الرواية عنه عليه السّلام أيضا أنّها:

«أقرب إلى الاسم الاعظم من سواد العين إلى بياضها.»(1)

و روى الشيخ في التهذيب عن الصادق عليه السّلام مثله على الوجه الاوّل(2).

و ربّما يوجّه بأنّ البسملة اللّفظيّة نسبتها إلى البسملة التكوينيّة بمعنى حقيقة ما تدلّ عليها في عالم الاسماء الالهيّة نسبة المظهر و المرآة و الفرع إلى الغيب و الاصل، فتلاحظها فيها من دون مشاهدة الاولى، و بملاحظتها، كما إذا توجّهت إلى النفس المقابلة في المرآة من دون التفات إليها أصلا، و الاولى محلّ لظهور الثانية و حاكية لها، فهي أقرب إليه من سواد العين إلى بياضه؛ لأنّ ذلك قرب الملاصقة و هنا قرب المداخلة، لا كدخول شيء في شيء.

و الّذي يظهر لي أنّ البسملة في المقامين نسبتها إلى الاسم الاعظم فيهما نسبة الناظر و السواد إلى بياض العين. و ذلك أنّ حقيقة الاسم الاعظم الالهي ينبغي أن يكون هو الاسم الواحد الّذي بوحدته يشمل جميع الاسماء، و يكون تلك الاسماء بمنزلة الاجزاء و الجزئيّات و الحروف من تلك الكلمة العينيّة، و لا يعزب عنه شيء من

ص: 255


1- المصادر السابقة غير الوسائل؛ و هكذا نقله عليّ بن عيسى الاربلى (ره) في كشف الغمة، ج 2، ص 420، من كتاب دلائل الحميري، عن أبي هاشم الجعفري، عن أبي محمد العسكري - عليه السلام -.
2- التهذيب، ج 2، باب في كيفية الصلاة من أبواب الزيادات، ص 289، ح 15، عن عبد اللّه بن يحيى الكاهلي، عنه - عليه السلام -؛ و الوسائل، ج 4، باب 11 من أبواب القراءة في الصلاة ص 745، ح 3.

حقائق الاسماء و حقائق مدلول البسملة أمور متعددة لا تجمعها وحدة من البهاء و السناء و الملك أو المجد، و آلاء اللّه على خلقه من نعيم الولاية و إلزامه إيّاهم قبوله، و هوان مخالفيهم في مقام الحروف، و الرابط بين اسم الحقّ و الخلق المدلول عليه بالباء، و مطلق الاسم أنّه لم يجعل مقحما فيه، أو متعيّنا بالمضاف إليه في مقام قانون العربيّة، و اسم الجلالة و الرحمن و الرحيم. و الظاهر أنّ شيئا منها ليس اسما جامعا على ما وصفنا، كما يظهر بالتأمّل فيما فصّلناه سابقا، فيشبه أن تكون هي تفصيل ذلك الاسم الاعظم و بمنزلة الحروف من تلك الكلمة، و إذا أخذت تلك الحقائق التفصيلية و نسبتها إلى الحقيقة الاجماليّة الوحدانيّة، و لاحظت إحاطة ذلك الاسم الواحد بها و اندراجها فيه، كان الاسم الاعظم كالبياض المحيط بالناظر المشتمل على الاجزاء المتعدّدة، و السواد مشتمل عليها، أو قربه إليها قرب البياض إلى أحدهما؛ إذ ليس المحاط معزولا عن المحيط و مفضولا عنه سواء كانت الاحاطة صوريّة أو معنويّة، فالاعظم هو البياض، كما هو الاظهر بلفظ الرواية. و إن لاحظت أنّ الحقائق التفصيليّة مظاهر و محالّ لتلك الحقيقة الوحدانيّة، و هي الظاهر فيها المتجلّي بها كانت هي كالبياض و تلك الحقيقة كالسواد أو الناظر، و قربها إليها كقربه إليه إذ قرب الظاهر و المتجلّي في المظهر المتجلّى فيه بحسب المعنى، و كقرب الحالّ إلى المحلّ في الصورة.

و إذا عرفت كيفيّة النسبة بين البسملة و الاسم الاعظم في مقام الحقيقة صحّ لك اعتبارها بين لفظ البسملة و ذلك الاسم اللّفظي؛ إذ نسب الالفاظ هاهنا تابعة للحقائق كتبعيّتها إيّاه في وصفها بالكلّيّة و الجزئيّة، و الترادف و التباين، و كما أنّ بياض العين غير محيط من جميع الجوانب، كذا لا يحيط البسملة بجميع تفصيل الاسم الاعظم مطابقة؛ إذ منه أسامي القهر و الانتقام في مقام التفصيل، و هي غير مصرّحة بها، و إن فهم من الملك و المجد إن لم تؤخذ بمعنى الكرم و الالوهيّة على

ص: 256

وجه التضمّن أو الالتزام. نعم، يدلّ عليها الهاء من لفظ الجلالة على وجه إجمالي كما سبق.

و كما أنّ حقيقة العين و الاصل فيها هو الناظر و السواد المشتمل عليه، و البياض بمنزلة القالب لهما، كذا مرتبة الاسم الاعظم مرتبة الاصل و الحقيقة بالنسبة إلى حقيقة البسملة، و هي بمنزلة القالب له.

[هل البسملة جزء من سورة الفاتحة أم لا؟]

منها: أنّ المستفاد من الاخبار و كلمات فقهائنا دخول البسملة في سورة الحمد، و أنّها جزء منها و إن وقع في غيرها مناقشة شاذّة و اختلف العامّة في ذلك اختلافا فاحشا.

قال المحدّث الكاشاني:

«البسملة في أوّل كلّ سورة آية منها، و إنّما كان يعرف انقضاء السورة بنزولها ابتداء للأخرى، «و ما أنزل اللّه كتابا من السماء إلا و هي فاتحته» كذا عن الصادق عليه السّلام رواه العيّاشي.»(1)

و في الكافي عن الباقر عليه السّلام:

«أوّل كلّ كتاب نزل من السماء بسم اللّه الرحمن الرحيم، فاذا قرأتها فلا تبال أن لا تستعيذ، و إذا قرأتها سترتك ما بين السماء و الارض.»(2)

ص: 257


1- راجع الصافي، ج 1، ص 51؛ و الحديث في العياشي، ج 1، ص 19، ح 5، عن صفوان الجمال، عنه - عليه السلام -؛ و البحار، ج 92، باب فضائل سورة الفاتحة و تفسيرها، ص 236، ح 29.
2- الكافي، ج 3، باب قراءة القرآن من كتاب الصلاة، ص 313، ح 3، عن فرات ابن أحنف، عنه - عليه السلام -؛ و الوسائل، ج 4، باب 11 من أبواب القراءة في الصلاة، ص 746، ح 8، و الصافى، ج 1، ص 51.

أقول:

المناسبة المعنويّة في الابتداء بها ظاهرة ممّا سبق؛ لأنّ للقارئ حقيقتها هي المبدا لنزولها و ما اشتمل عليها من المعاني إن عمّت لمداليلها التبعيّة. و أمّا كون قراءتها ساترة ما بين السماء و الارض، و كونها مغنية عن الاستعاذة، فالظاهر أنّه إنّما يكون إذا كانت القراءة مشتملة على الصورة و المعنى، و يكون القاري متسمّيا بها متحقّقا بحقيقتها على ما يفهم ممّا قدّمناه، و إلا فمحض تحريك اللّسان لا يفيد هذه الفائدة العظيمة، كما يظهر بالمراجعة إلى الوجدان، و إن كان عدم خلوّه عن التأثير في الجملة غير منكر.

و في العيون و المجالس عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال:

«بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ آية من فاتحة الكتاب، و هي سبع آيات تمامها بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ.» (1)

و في العيون و تفسير الامام عليه السّلام أنّه قيل لأمير المؤمنين عليه السّلام:

«أخبرنا عن بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ أ هي من الفاتحة؟

قال: فقال: نعم، كان(2) رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقرؤها و يعدّها آية منها، و يقول: فاتحة الكتاب هي السبع المثاني.»(3)

ص: 258


1- العيون، ج 1، باب 28، ص 235؛ و المجالس، المجلس الثالث و الثلاثون و فيهما: عن علي بن محمد بن سيار، عن أبويهما، عن الحسن بن علي - عليهما السلام - عن آبائه - عليهم السلام -، عنه - عليه السلام -؛ و الوسائل، ج 4، باب 11 من أبواب القراءة فى الصلاة؛ و هكذا في تفسير الامام - عليه السلام -، ص 10.
2- في المخطوطة و بعض النسخ: «فان».
3- تفسير الامام - عليه السلام -، ص 21؛ و هكذا في المصادر المذكورة في تعليقة 1 من هذه الصفحة بنفس الاسناد.

و عن القمّي، عن الصادق عليه السّلام أنّها:

«أحقّ ما يجهر به، و هي الآية الّتي قال اللّه عزّ و جلّ:

وَ إِذٰا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلىٰ أَدْبٰارِهِمْ نُفُوراً.» (1)

[في بيان علّة رجحان الاجهار بالبسملة في الصّلاة و أنّها أعظم آية من كتاب اللّه]

و لعلّ الوجه في رجحان الاجهار به كما في غيره من الاخبار أيضا هو أنّ الاجهار نوع من الاظهار، و إظهار التحقّق بمقام البسملة في عالم الملك الانساني و الكبير موجب لظهور فيوضاتها و بركاتها و دفع الشياطين فيما ظهرت فيها. و في كونه ذكرا للربّ وحده و اشتمال مدلولها على كثير من معاني التوحيد، كما يظهر ممّا أسلفناه، و في تنفّرهم عنه و تولّيهم على أدبارهم نفرتهم عن التوحيد، و إعراضهم عن هذه الاسماء، و التحقّق بها، و التخلّق بموجبها، و عمّن كان شأنه و صفته ذلك، كما أنّه يبعد بسبب قراءتها على وجه الحقيقة أشباههم الداخليّة في عالم القلب الانساني.

و العيّاشي [ره] عنه عليه السّلام قال:

«ما لهم قاتلهم اللّه عمدوا إلى أعظم آية في كتاب اللّه، فزعموا أنّها بدعة إذا أظهروها.»(2)

ص: 259


1- الآية: الاسراء/ 46؛ و الحديث في القمّي، ج 1، ص 28 عن ابن اذينة، عنه - عليه السلام -؛ و الصافي، ج 1، ص 52؛ و نور الثقلين، ج 3، ص 173؛ و هكذا روى العياشي (رض) في تفسيره، ج 2، ص 295، ح 86، عن زرارة، عن أحدهما - عليهما السلام - مثله.
2- العياشي، ج 1، ص 21، ح 16، عن خالد بن مختار، عنه - عليه السلام -؛ و الصافي، ج 1، ص 52؛ و البحار، ج 92، باب فضائل سورة الفاتحة و تفسيرها، ص 238، ح 39.

و الظاهر أنّها تعريض بالعامّة، المنكر ثلّة منهم لكونها جزء من السورة، و بعض للجهر بها في الصلاة، كما أنّ المنكرين للجزئيّة هم المرادون بما رواه عن الباقر عليه السّلام:

«سرقوا أكرم آية(1) كتاب اللّه بسم اللّه الرحمن الرحيم.»(2)

و الوجه في كون البسملة أكرم آية و أعظم آية يظهر ممّا قدّمناه و فصّلناه في تفسيرها، و ممّا يأتي - إن شاء اللّه تعالى -.

و روى البرقي [ره] في المحاسن عن الصادق عليه السّلام أنّه قال:

«ما نزل كتاب من السماء إلا أوّله بسم اللّه الرحمن الرحيم.»(3)

و روى الشيخ الطوسي [رض] في الصحيح على الظاهر عن محمّد بن مسلم أنّه قال:

«سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن السبع المثاني و القرآن العظيم، أ هي الفاتحة؟

قال: نعم. قلت: بسم اللّه الرحمن الرحيم من السبع المثاني؟

قال: نعم، هي أفضلهنّ.»(4)

ص: 260


1- في بعض النسخ: «في كتاب».
2- العياشي، ج 1، ص 19، ح 4، عن أبي حمزة، عنه - عليه السلام -؛ و الصافي، ج 1، ص 52؛ و البحار، ج 92، باب فضائل سورة الفاتحة و تفسيرها، ص 236، ح 28.
3- المحاسن، كتاب ثواب الاعمال، باب 37، ص 40، عن صفوان الجمال، عنه - عليه السلام -؛ و البحار، ج 92، باب فضائل سورة الفاتحة و تفسيرها، ص 234، ح 17؛ و الوسائل ج 4، باب 11 من أبواب القراءة فى الصلاة، ص 747، ح 12.
4- التهذيب، ج 2، باب في كيفية الصلاة من أبواب الزيادات، ص 289، ح 13؛ و الوسائل، ج 4، باب 11 من أبواب القراءة في الصلاة، ص 745، ح 2.

و عن الكافي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال:

«كتموا بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ ،فنعم و اللّه الاسماء كتموها.

كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا دخل منزله و اجتمعت عليه قريش يجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم، و يرفع بها صوته، فتولّى قريش فرارا، فأنزل اللّه [في ذلك]: وَ إِذٰا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلىٰ أَدْبٰارِهِمْ نُفُوراً.» (1)

و روى الشيخ (ره) عن أبي حمزة أنّه قال: قال عليّ بن الحسين عليهما السّلام:

«يا ثماليّ، إنّ الصلاة إذا أقيمت جاء الشيطان إلى قرين الامام، فيقول: هل ذكر ربّه؟ فان قال نعم ذهب، و إن قال لا ركب على كتفيه، فكان إمام القوم حتّى ينصرفوا.

قال: فقلت: جعلت فداك، أ ليس يقرءون القرآن؟

قال: بلى، ليس حيث تذهب يا ثماليّ، إنّما هو الجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم.»(2)

[لما ذا جعل البسملة في أوّل السّورة؟]

و منها: أنّه روى الصدوق في العلل و الكليني في الكافي بأسانيد معتبرة عن جماعة من أجلاّء أصحابنا، عن الصادق عليه السّلام في ذكر صلاة ليلة المعراج بطوله:

«ثمّ إنّ اللّه عزّ و جلّ قال: يا محمّد، استقبل الحجر الاسود

ص: 261


1- الكافى، ج 8، ص 266، ح 387، عن هارون، عنه - عليه السلام -؛ و الوسائل، ج 4، باب 21 من أبواب القراءة فى الصلاة، ص 757، ح 2.
2- التهذيب، ج 2، باب في كيفية الصلاة من أبواب الزيادات، ص 290، ح 18؛ و الوسائل، ج 4، باب 21 من أبواب القراءة في الصلاة، ص 758، ح 4.

و هو بحيالي، و كبّرني بعدد حجبي. فمن أجل ذلك صار التكبير سبعا؛ لانّ الحجب سبع (1) ،و افتتح القراءة عند انقطاع الحجب، فمن أجل ذلك صار الافتتاح سنّة. و الحجب متطابقة(2) ثلاثا بعدد النور الّذي أنزل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله ثلاث مرّات، فلذلك كان الافتتاح ثلاث مرّات، فلاجل ذلك كان التكبير سبعا و الافتتاح ثلاثا. فلمّا فرغ من التكبير و الافتتاح قال اللّه عزّ و جلّ: الآن وصلت إليّ، فسمّ باسمي. فقال: بسم اللّه الرحمن الرحيم. فمن أجل ذلك جعل بسم اللّه الرحمن الرحيم في أوّل السورة - إلى آخر الحديث الشريف.»(3)

و هو مشتمل على معان تكلّ العقول عن إدراكها إلا قليلا و منها، نشير إلى نبذة تتعلّق بهذه السورة في خلال التفسير بما يخطر تصوّره بالبال، و اللّه العالم بحقيقة الحال

فنقول:

بعد تحقّق الوصال و ارتفاع الحجب افتتح صلّى اللّه عليه و آله بالقراءة، و ذكر اسم الحقّ، إذ الوصال بفناء العبد في الحقّ عن أوصافه و أسمائه، و يلحقه ظهور أسماء اللّه سبحانه عليه، و التسمّي بها، و هو حقيقة ذكر العبد الحقّ و بيانه له.

و لمّا كانت البسملة على ما مرّ مشتملة على جمل أسمائه سبحانه كانت هي الظاهرة على أشرف الممكنات في أشرف المقامات، فصار محلاّ لهذه الكلمة

ص: 262


1- في المخطوطة: «سبعة» كما في العلل و البحار.
2- في بعض النسخ: «مطابقة».
3- العلل، ج 2، باب 1، ص 315؛ و الكافي، ج 3، باب النوادر من كتاب الصلاة، ص 485؛ و البحار، ج 18، باب إثبات المعراج و معناه، ص 358.

الكلّيّة لفظا و حقيقة و حالا، فكان صلّى اللّه عليه و آله هو تلك الكلمة، كما أنّ لوح القرآن قرآن و محلّ للقرآن، فظهر فيه صلّى اللّه عليه و آله اسم الوهيّة الحقّ للممكنات و الرحمة الرحمانيّة و الرحيميّة، و كان رحمة للعالمين بقول مطلق في المعنى الكلماتي، و بهاء الحقّ و سنائه و مجده أو ملكه، و آلاء اللّه على خلقه بنعيم ولاية الحقّ، و إلزام العباد إيّاه، و الهوان على المخالفة في مقام معاني الحروف.

و لمّا كان هو صلّى اللّه عليه و آله محلاّ لذلك الولاية و الالزام و الحكم بالهوان على المخالف، صحّ نسبة الولاية إليه و إلى القائمين مقامه في ذلك، كما أنّ صورة العلم إذا وجدت في ذهن الانسان نسبت إليه، و كانت علما له عن قبل تلك الولاية عنهم أوصله إلى كلّ خير، و من أبي لزمه الهوان، و هذه التسمّي بالتسمية ينسب إلى الحقّ نسبة الشيء إلى جاعله و موجده، و إليه صلّى اللّه عليه و آله نسبة الشّيء إلى محلّه.

فهذا روح نزول التسمية إليه و يطابقه المراتب النازلة إلى أن ينتهي إلى نزول اللّفظ عليه و الوحي اللّفظي، و ظهور الكلمة من فمه المبارك في الخارج. فالبسملة أوّل السورة في كلّ مقام.

[في استحباب إتيان البسملة عند بدء كلّ أمر]

و منها: أنّه ينبغي الاتيان بالبسملة عند افتتاح كلّ أمر عظيم أو صغير ليبارك فيه، ففي الكافي عن الصادق عليه السّلام قال:

«لا تدعها و لو كان بعدها شعر.»(1)

و في المحاسن عنه عليه السّلام قال:

«إذا توضّأ أحدكم و لم يسمّ كان للشيطان في وضوئه شرك،

ص: 263


1- الكافي، ج 2، ص 672، ح 1، عن جميل بن دراج، عنه - عليه السلام -؛ و نور الثقلين، ج 1، ص 6، ح 15.

و إن أكل أو شرب أو لبس و كلّ شيء صنعه ينبغي له أن يسمّي عليه، فان لم يفعل كان للشيطان فيه شرك.»(1)

و في التوحيد باسناده عن العسكري، عن الصّادق عليهما السّلام في جملة حديث تقدّم أكثره أنّه قال:

«و لربّما ترك بعض شيعتنا في افتتاح أمره «بسم الله الرحمن الرحيم» فيمتحنه اللّه عزّ و جلّ بمكروه لينبّهه على شكر اللّه تبارك و تعالى و الثناء عليه، و يمحق عنه و صمة تقصيره عند تركه قول «بسم الله الرحمن الرحيم» - و ساق الحديث إلى أن قال: -

فقال اللّه جلّ جلاله لعباده: أيّها الفقراء إلى رحمتي، إنّي قد ألزمتكم الحاجة إليّ في كلّ حال، و ذلّة العبوديّة في كلّ وقت، فاليّ فافزعوا في كلّ أمر تأخذون فيه و ترجون تمامه و بلوغ غايته، فانّي إن أردت أن أعطيكم لم يقدر غيري على منعكم، و إن أردت أن أمنعكم لم يقدر غيري على إعطائكم، فأنا أحقّ من سئل، و أولى من تضرّع إليه، فقولوا عند افتتاح كلّ أمر صغير أو عظيم: «بسم الله الرحمن الرحيم» - و ساق الحديث إلى أن قال: -.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من حزنه أمر تعاطاه فقال: «بسم الله الرحمن الرحيم» و هو مخلص للّه و يقبل بقلبه إليه، لم ينفكّ

ص: 264


1- المحاسن، باب 33 و 34 من كتاب المآكل، ص 430 و 432، ح 252 و 260، و قد رواه (ره) بأسانيد متعددة؛ و هكذا في الوسائل، ج 4، باب 17 من أبواب الذكر، ص 1194، ح 3.

من إحدى اثنتين: إمّا بلوغ حاجته في الدنيا، و إمّا يعدّ له عند ربّه و يدّخر لديه، و ما عند اللّه خير و أبقى.»(1)

و فيه تأييد لما قدّمناه من كيفيّة الاستعانة باسم اللّه، كما يظهر من ذلك البيان المتقدّم السرّ فيما نحن فيه، و سيأتي فيما بعد ما يظهر منه تتمّة كلام تتعلّق بأطراف المقام - إن شاء اللّه تعالى -.

[نزول البسملة على الأنبياء و رفع شدّتهم بها]

و منها: أنّه روى النيشابوري مرسلا عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال:

«لمّا نزلت «بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ *» قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

أوّل ما أنزلت هذه الآية على آدم قال: أمن ذرّيّتي من العذاب ما داموا على قراءتها، ثمّ رفعت فانزلت على إبراهيم - صلوات اللّه عليه -، فتلاها فهو في كفّة المنجنيق، فجعل اللّه عليه النار بردا و سلاما، و ثمّ رفعت بعده فما أنزلت إلا على سليمان و عندها قالت الملائكة: الآن تم و اللّه ملكك، ثم رفعت فأنزلها اللّه تعالى عليّ، ثمّ تأتي أمّتي يوم القيامة و هم يقولون:

«بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ » ،فاذا وضعت أعمالهم في الميزان ترجّحت حسناتهم.»(2)

ص: 265


1- التوحيد، باب معنى «بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ »،ص 231، ح 5، عن على ابن محمد بن سيار، عن أبويهما، عنه - عليه السلام -، و هكذا في تفسير الامام - عليه السلام - ص 8 و 10؛ و البحار، ج 92، باب فضائل سورة الفاتحة و تفسيرها، ص 232، ح 14، و ص 240 و 244، ح 48.
2- تفسير النيشابورى، ج 1، ص 26.

[في الأمور الباطنيّة الّتي ينبغي أن يراعيها قارئ البسملة]

و منها: أنّ المناسب لحال قارئ البسملة بقلبه أن يثير في قلبه محبّة اللّه سبحانه من حروف «بسم» على ما تقدّم، و الحياء منه سبحانه من عظمة كلمة الجلالة من حيث الكلمة و الحروف، و الرجاء من الرحمن و الرحيم و الخوف من فوات الرحمة الرحيمية الخاصّة بأهله، فانّ اختصاصه بالبعض دليل على حرمان الباقين، و العبد لا يدري من المستحقّين أم لا، و الحرمان من جهة صفات العبد لا من أسماء الحقّ؛ «مٰا أَصٰابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّٰهِ وَ مٰا أَصٰابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ.» (1) فلا يرجو راج إلا ربّه، و لا يخاف إلا نفسه.

و في جعل البسملة ابتداء للفاتحة و السور و الكتب المنزلة على ما تقدّم دلالة على سعة الرحمة. فبملاحظته يعالج داء القنوط. و على أنّ إنزال السورة و الكتب نشأ من الرحمة، فاللازم المسارعة في القبول و الامتنان، لا الكراهة و التثاقل، و به يقوي الرجاء الحاصل من جعل البسملة فاتحة، و تسميته نفسه رحمانا رحيما جامعا بينهما، فكيف لا يرحم؟

حكي أنّه وقف سائل على باب رفيع، فسأل شيئا، فأعطي شيئا قليلا، فجاء بفاس و أخذ يخرب الباب.

فقيل له: لم تفعل؟

قال: إمّا أن تجعل الباب لائقا بالعطيّة، أو العطيّة لائقة بالباب.

و عن عارف أنّه كتب «بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ» و أوصى أن يجعل في كفنه، فقيل له في ذلك فقال: أقول يوم القيامة: إلهي، بعثت كتابا و جعلت عنوانه «بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ» فعاملني بعنوان كتابك.

ص: 266


1- النساء/ 79.

ففي البسملة إثارة للحبّ و الحياء و الرجاء و الخوف، الّتي هي أصول التقوى و العبوديّة، و لا ينفك العابد عن أحد هذه الاحوال.

و منها:

انّ البسملة تسعة عشر حرفا و الزبانية تسعة عشر، فالمرجوّ من اللّه سبحانه أن يدفع بليّتهم بهذه الحروف التسعة عشر(1).

و أيضا انّ نوحا لمّا ركب السفينة قال: «بِسْمِ اللّٰهِ مَجْرٰاهٰا وَ مُرْسٰاهٰا » (2) ،فنجا بنصف هذه الكلمة، فما ظنّك بمن واظب على الكلمة طول عمره؟ كيف يبقى محروما عن النجاة؟ كذا نبّه بعضهم.

و أيضا اليوم بليلته أربع و عشرون ساعة، فرض خمس صلوات تقع في خمس ساعات منها، فتبقى تسعة عشر ساعة لا يستغرق فيها بذكر اللّه سبحانه، و عسى أن يجعل اللّه سبحانه هذه التسعة عشر حرفا كفّارة للتفريط الواقع في التسعة عشر ساعة(3).

و لنقتصر في شرح ما يتعلّق بالبسملة على هذا المقدار و إن بقي التتمّة.

ص: 267


1- هذا المعنى يؤيّد بما روي في جامع الاخبار الفصل الثاني و العشرون، ص 42، عن ابن مسعود، عن النبي - صلّى اللّه عليه و آله - أنه قال: «من أراد أن ينجيه اللّه تعالى من الزبانية التسعة عشر، فليقرء «بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ »،فانها تسعة عشر حرفا، ليجعل اللّه كل حرف منها جنّة من واحد منهم.» و نقله أيضا المجلسي (ره) في البحار، ج 92، باب فضائل سورة الفاتحة و تفسيرها، ص 257، ح 52.
2- هود/ 41.
3- جميع ما تقدم أخيرا من النكات و الحكايات مذكور في تفسير النيشابوري، ج 1، ص 25-26؛ و التفسير الكبير، ج 1، ص 131 و 134.

[تحقيق حول كلمة الحمد]

اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ

في العيون و تفسير الامام عليه السّلام عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه سئل عن تفسيرها، فقال:

«هو أنّ اللّه عرّف عباده بعض نعمه عليهم جملا؛ إذ لا يقدرون على معرفة جميعها بالتفصيل، لأنّها أكثر من أن تحصى أو تعرف. فقال [لهم]: قولوا: الحمد للّه على ما أنعم به علينا.»(1)

[الفرق بين الحمد و المدح]

اعلم أنّ الحمد نقيض الذمّ، و هو الثناء باللّسان على الجميل الاختياري.

و لعلّه مراد من حدّه بأنّه قول دالّ على أنّه مختصّ بفضيلة اختياريّة معيّنة، و هي فضيلة الانعام عليك و على غيرك. و لا بدّ أن يكون على جهة التفضيل لا على سبيل التهكّم و الاستهزاء. و من حدّه بأنّه الثناء بالجميل على قصد التعظيم و

ص: 268


1- العيون، ج 1، باب 28، ص 220، ح 30 و تفسير الامام - عليه السلام -، ص 11؛ و هكذا في العلل كما في البحار، ج 92، باب فضائل سورة الفاتحة و تفسيرها، ص 224، ح 2.

التبجيل للممدوح سواء كان لنعمة و غيرها. و من زاد على ما ذكرناه أوّلا اعتبار كونه على قصد التعظيم و لا حاجة إليه؛ إذ لو أريد منه وقوعه على جهة التفضيل المقابل للتهكّم و نحوه فهو مدلول عليه بلفظ الثناء، و إن أريد أزيد من ذلك فاعتباره غير ظاهر، بل الظاهر خلافه.

و المدح أعمّ منه مطلقا و يقابله الهجاء؛ إذ المدح توصيف للحيّ و لغير ذي الحياة؛ كاللّؤلؤة و الياقوتة الثمينة بخلاف الحمد، و أعمّ من كون التوصيف على الامر الاختياريّ أو غيره بخلاف الحمد المختصّ بالاوّل في وجه اختاره جماعة؛ إذ لا يقال: حمدته على صباحة خدّه، و يقال: مدحته عليه.

و زاد بعضهم (1):أنّ المدح أعمّ من أن يكون قبل الاحسان أو بعده، و الحمد إنّما يكون بعده، و هو بعيد جدّا.

و لعلّ منشأ الوهم أنّ عمدة الفضائل الاختياريّة عند العرب هو الكرم، فظنّ الاختصاص به، أو أنّه لا ينبغي الثناء إلا من المنعم عليه على المنعم، فظنّ أنّ غيره ليس بحمد. و ما أبعد بينه و بين ما يظهر منه أنّهما مترادفان كعبارة «الفائق »(2) ،و هو أيضا ضعيف.

و لو ورد في كلام العرب إطلاق الحمد على المعنى الاعمّ لم يكن بعيدا لكثرة التوسعة و المجازات في كلامهم، كما أنّ كثرة وروده في مورد الاحسان لا يصير دليلا على تخصيص أصل المعنى به، كما يفصح عنه مقابلته بالذمّ الّذي لا يختصّ بالبخل و ترك الاحسان، بل يحتمل أن يكون مطلق الثناء على القادر العالم حمدا و إن كان باعتبار صفاته الذاتيّة الخارجة عن الاختيار و الاكتساب. و اختاره بعض

ص: 269


1- المراد من بعضهم هو: النيشابوري، راجع تفسيره، ج 1، ص 30.
2- و عبارته هي: «الحمد هو المدح و الوصف بالجميل.» كما في رياض السالكين، دعاء 21، ص 220.

المتأخّرين(1) فقال:

«الحمد هو الثناء على ذي علم بكماله، ذاتيّا كان؛ كوجوب الوجود و الاتّصاف بالكمالات، و التنزّه عن النقائص، أو وصفيّا؛ ككون صفاته كاملة واجبة، أو فعليّا: ككون أفعاله مشتملة على حكمة فأكثر تعظيما له.»

[الفرق بين الحمد و الشكر]

و الشكر أعمّ من الحمد من وجه؛ إذ هو على النعمة الواصلة على الشاكر خاصّة، إمّا باللّسان أو بالقلب أو بالجوارح؛ قال الشاعر(2):

أفادتكم النعماء منّي ثلاثة *** يدي و لساني و الضمير المحجبا

و سيأتي بيانه في محلّه - إن شاء اللّه تعالى -.

[أقسام الشكر]

و أمّا ما رواه القمّيّ في الحسن بأبيه عن الصادق عليه السّلام في قوله «اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ » أنّه قال: «الشكر للّه »(3) ،و يوافقه ظاهر مساق الرواية المتقدّمة، فالظاهر أنّ المراد من الشكر فيه الشكر باللّسان فقط و هو على قسمين: أحدهما إظهار النعمة الواصلة إلى الشاكر باللّسان، و ثانيهما مطلق الثناء على المنعم لأجل كونه منعما

ص: 270


1- هو: السيد عليخان المدني (قده) شارح صحيفة سيد الساجدين - عليه آلاف التحية و السلام -، و قد ذكر هذا الكلام في شرحه عليها عند شرح دعائه - عليه السلام - في التحميد للّه عز و جلّ.
2- راجع مجمع البحرين.
3- القمي، ج 1، ص 28، عن أبي بصير، عنه - عليه السلام -؛ و البحار، ج 92، باب فضائل سورة الفاتحة و تفسيرها، ص 229، ح 5.

على الشاكر، و أداء لحقّه في الانعام، و كلاهما مندرجان تحت الحمد، و لا يخرج الحمد عنهما إلا إذا لم يقع من جهة الانعام.

و لمّا كان سورة الحمد تعليما للعباد في مخاطبتهم و مكالمتهم مع اللّه سبحانه على ما يظهر من جملة من الاخبار (1) ،و يوافقه الآيات الاخيرة من السورة، و كان من حقّ العبد المستغرق في نعم اللّه سبحانه أن يقصد أداء حقّ النعمة و إن عجز عن إكماله على ما يستحقّه سمّى الحمد شكرا لاندراجه تحت عنوانه بهذه الملاحظة.

و يؤيّد ما ذكرنا من البيان الرواية الاولى و ما رواه في الكافي عن الصادق عليه السّلام من أنّه:

«ما أنعم اللّه على عبد بنعمة، صغرت أو كبرت، فقال: الحمد للّه، إلا أدّى شكرها.»(2)

و يمكن أن يكون في تفسير الحمد بالشكر إشارة إلى تعميم الحمد للثناء بلسان القال، و الثناء بلسان الحال؛ إذ حقيقة الشكر على ما ذكره بعضهم إشاعة النعمة و الابانة عنها، فيعمّ ما كان باللّسان أو العمل أو القلب، و نقيضه الكفران

ص: 271


1- كالروايات المشتملة على بيان فضائل هذه السورة، و معاني آياتها، و بيان أنها تشتمل على تمجيد اللّه سبحانه و ثناءه و شكره، و الاقرار برحمانيته و رحيميته و ربوبيته، و مالكيته في يوم الجزاء و اختصاصه في العبادة و الاستعانة، و طلب الهداية منه، و الاستعاذة به من الوقوع في طرق الضلال و المهالك، و قد ذكر بعضها المؤلف (ره) في آخر تفسير هذه السورة، فراجع. و اعلم أن الاخبار الواردة في آداب الدعاء و استحباب تقديم تمجيد اللّه سبحانه و ثناءه قبله مؤيّدة لذلك أيضا، فراجع الوسائل، ج 4، باب 31 من أبواب الدعاء.
2- الكافي، ج 2، باب الشكر، ص 96، ح 14، عن صفوان الجمّال، عنه - عليه السلام -؛ و البحار، ج 71، باب الشكر، ص 32، ح 9.

ينبئ عن الستر و التغطية.

و لمّا كان كلّ ثناء من مثن بلسان حال أو مقال مسبوقا بالنعم الالهيّة عليه، الّتي منها هذا الثناء، كان كلّ ثناء شكرا لأياديه و إنعامه إذا قصد به ما يحقّ للعبد إيراده عليه من أداء حقّ النعمة، فتدبّر.

[في اختصاص الحمد باللّه سبحانه]

و اللام في الحمد للجنس؛ إذ هو الظاهر من اللام حيث لا عهد كما هنا، فهي للاشارة إلى المعنى الجنسى الّذي هو مدلول قوله.

و لمّا كانت الاشارة لا تصحّ إلاّ بمتعيّن، و لا تعيّن للمعنى الجنسيّ إلا إذا أخذ مطلقا غير مشروط بالقيود و المشخّصات دلّت اللام على كون الماهيّة مأخوذة على وجه اللابشرطيّة.

و اللام في للّه للاختصاص، فيدلّ الجملة الخبريّة على أنّ ماهيّة الحمد و حقيقته بعنوان كلّيّ مختصّ باللّه و ملك له و حقّ له، فلا يستحقّ غيره شيئا من أفراده. فيفيد لام الجنس هنا مفاد لام الاستغراق بالمآل، و قد فصّل في علم الاصول بيان أنّ تحلية المسند إليه باللام يفيد الحصر، و سرّه ما ذكرناه إجمالا و التفصيل موكول إلى العلم المذكور.

فتحصّل ممّا ذكرنا أنّ مفاد هذه الكلمة انحصار ماهيّة الحمد بجميع أفراده و اختصاصه باللّه سبحانه، فلا مستحقّ لشيء منه سواه، و هو يستحقّ جميع أفراده و أنواعه، فهو المحمود المطلق، و من سواه لا يحقّ له المحمودية، و هذا هو التوحيد في مقام الحمد.

و منه يظهر وجه ترجيح هذه الجملة على جملة من الوجوه؛ كالجملة الفعليّة و إيراد المبتدأ منكّرا.

ص: 272

[اعتقاد العدليّة في جواز التّحميد لغير اللّه سبحانه]

فان قلت: كيف يصحّ حصر الحمد به سبحانه مع ما تقرّر عند العدليّة من القول بالتحسين و التقبيح العقليين بالنسبة إلى أفعال العباد، و قد فسّروا الحسن بما يستحقّ المدح أو الثواب، مع أنّ المدح هنا يقع بازاء الجميل الاختياريّ، فهو حمد على ما مرّ؟ و حينئذ يتّجه ما عن الجبريّة من التشنيع على العدليّة بأنّكم تثبتون للعبد فعلا و اختيارا، و استحقاق الحمد إنّما يكون على أشرف النعم و هو الايمان، فلو كان الايمان بفعل العبد لكان المستحقّ للحمد هو العبد، و يكون هذه الكلمة على ما ذكر في مفاده دليلا على صحّة قول الاشاعرة، فكيف المخلص عنه؟

قلت: العدليّة على ضربين:

فمنهم: من أرادوا أن يصفوا اللّه بعدله، فأخرجوه عن سلطانه، و هم القدريّة الّذين ورد في حقّهم: «أنّهم مجوس هذه الامّة»(1) على أظهر الوجهين، و هم المشركون بالشرك الخفيّ، المنكرين لكثير من أبواب التوحيد.

و منهم: الفرقة الوسطى الجامعين بين التوحيد في جميع مراتبه و العدل، و هم أهل الحقّ على تفاوت درجاتهم في زيادة العلم و المعرفة و البصيرة و نقصانها، و الخطاء في جهات المطلوب و نكاتها الدقيقة.

و حينئذ فنقول: إنّ شرطنا في مفهوم الحمد وقوعه بعد نعمة صادرة من المحمود بالنسبة إلى غيره و لو كان غير الحامد، أو في المراد من الحمد هنا كما يوافقه تفسيره بالشكر فوجه الحصر ظاهر؛ إذ لا منعم في الحقيقة إلا الحقّ، و ليس من سواه منعما في الواقع، و إنّما هو في صورة المنعم ظاهرا، و هو واقعا مجرى النعمة

ص: 273


1- الروايات الواردة في هذا المعنى كثيرة، فراجع التوحيد، باب القضاء و القدر، ص 381 و 382، ح 28 و 29؛ و البحار، ج 5، باب القضاء و القدر و الجبر و التفويض.

و المجرى بيده النعمة؛ كما ورد في دعاء الصحيفة السجادية:

«و أنت من دونهم - يعني: المعطين و المانعين، أو مطلق المخلوقين - وليّ الاعطاء و المنع.»(1)

و أمّا إذا لم نأخذ في المراد منه ذلك و القيد فوجه الاختصاص أن يقال: إنّ المراد باختصاص ماهيّة الحمد به ليس أنّه لا يحمد في الخارج سواه لكثرة ما يحمد غيره، بل إنّه ممّا يستحقّه الحقّ من الخلق، و من جملة حقّه الثابت عليهم بحيث لو لم يفعلوا كانوا مقصّرين في أداء حقّه الثابت عليهم، و لا يستحقّ الحمد بهذا المعنى أحد من المخلوقين و إن استحقّ فاعل الحسن الحمد بمعنى أنّه لو مدح به لكان صحيحا عند العقل، موضعا للشيء موضعه الّذي ينبغي أن يوضع فيه عقلا، لا أنّه يستحقّ من غيره أن يمدحوه به على معنى أنّه لو لم يفعل لكانوا مانعين حقّه. فهاهنا فرق واضح بين استحقاق الديّان من المديون دينه، و استحقاق الفقير للبذل له، و إن عبّر بلفظ واحد في المقامين. فالاستحقاق في الثاني بمعنى أنه لو أعطى شيئا لكان في محلّه؛ إذ له أهليّة ذلك، و في الاوّل أنّه يطلبه منه، و له حقّ ثابت عليه لو منعه كان متعدّيا، فالفرق بينهما كالفرق بين الجواز و بين الرجحان و الوجوب. فالحمد حقّ للّه ثابت له على وجه الاطلاق بحكم العقل، و ليس لأحد حقّ الحمد على غيره و إن كان في فاعل الحسن صحيحا؛ لكنّ الحامد متفضّل بالحمد على العبد المحمود، كما أنّ المعطي متفضّل على الفقير المستحقّ، بخلاف حامد الحقّ؛ إذ هو تأدية لحقّ من حقوقه الغير المتناهية، مع كون هذه التأدية أيضا نعمة منه سبحانه على الحامد.

فالاستحقاق في الواجب إلزام و ترجيح، و في الممكن تجويز و ترخيص؛ كيف و لو كان فاعل كلّ حسن مستحقّا من غيره المدح لكان الّذي ينبغي عند العقل أن

ص: 274


1- الصحيفة السجادية، دعائه - عليه السلام - في مكارم الاخلاق (د 20).

يترك الناس مشاغلهم، و يشتغلوا بمدح فاعلي كلّ حسن، و لا يسعه أوقاتهم لكثرتهم و كثرة أفعالهم.

و نظير هذا ما نذهب إليه في استحقاق فاعل الحسن و كلّ مطيع الثواب بحسب حكم العقل الاوّليّ، فانّه لا يحكم بأنّه يستحقّ من اللّه سبحانه ثوابا بمعنى ثبوت حقّ للعبد على الحقّ لو لم يؤدّه لكان ظالما له، بل يحكم بالاستحقاق بمعنى أنّ من شأنه أن يثاب عليه، بحيث لو أثيب عليه لكان واضعا للشيء موضعه بخلاف فعل القبيح و المعصية، إذ لو أثيب عليهما لكان قبيحا، و يظهر حاله من ملاحظة حال المعصية بالنسبة إلى الذّمّ و العقاب؛ إذ ترك ذمّ فاعل القبيح لغير مصلحة من ردع و هداية و غيرهما لو لم يكن راجحا على فعله لم يكن مرجوحا، مع أنّه يطلق عليه الاستحقاق، و كذا العقاب على مرتكب القبيح و المعصية لو لم يكن مرجوحا بالنسبة إلى العفو لم يكن راجحا، مع قطع النظر عن الخصوصيّات، مع أنّهم يطلقون الاستحقاق عليه.

[وجوب شكر المنعم في الواجب و الممكن و نسبته مع الحمد]

فان قلت: كيف يصحّ إنكار حق المدح من المنعم على المنعم عليه؛ كالاستاد بالنسبة إلى التلميذ، و السيّد بالنسبة إلى عبده، و المعطي بالنسبة إلى السائل، و المحسن بالنسبة إلى المحسن إليه، مع اتّفاق كلمة العدليّة على الظاهر على وجوب شكر المنعم، و الحمد من الشكر بل رأسه كما في الخبر(1) ؟

و كيف يصحّ إنكار وجود المنعم في المخلوقين مع تصريح كلماتهم و احتجاجاتهم

ص: 275


1- قال النبي - صلّى اللّه عليه و آله -: «الحمد رأس الشكر.» نقله الزمخشري في الكشاف، ج 1، ص 7؛ و البيضاوي في أنوار التنزيل، ص 3؛ و النيشابوري في تفسيره، ج 1، ص 30. و قريب هذا المضمون قد ورد في روايات نقلها علماء الخاصة؛ كالكليني (ره)، فراجع الكافي، ج 2، باب الشكر.

بما يشتمل على إثبات صفة الانعام و الاحسان للخلق، و يوافقه مشاهدة صدور الاحسان و الانعام منهم، و وجدان تحسين العقل شكرهم و قبح الكفران لهم؛ كما ذكره العدليّة في احتجاجاتهم؟

قلت: لا ننكر استحقاق الشكر و الحمد للمنعم، و إنّما ننكر وجود الوصف في المخلوق، و نقول: إنّه ليس غيره منعما، فلا يستحقّ حمدا و لا شكرا.

و أمّا ما وقع في كلماتهم من التمثيل بالخلق، فلعلّه مسوق على ما يقتضيه النظر الظاهري، أو على سبيل الفرض، أو خطاء وقع في الكلام؛ إذ ليس المعصوم إلا من عصمه اللّه.

و أمّا ما يرى من تحسين العقل و تقبيحه، فهو مبنيّ على فرض وجود الموضوع، إذ أحكام العقل كلّيّات لا جزئيّات فالعقل يحكم بوجوب شكر المنعم بالحقيقة، و القاصرون يرون منعمين كثيرين، فيتحصّل منهما النتيجة، فيحسّنون و يقبّحون بحسبه، و الموحّدون لا يرون في الوجود منعما إلا المنعم الواحد الحقيقيّ، فيحكمون بأنّه لا يستحقّ أحد من أحد ثناء و لا مدحا أوّلا و بالذات. نعم، إذا جعل الحقّ سبحانه لأحد حقّا على غيره من شكر و ثناء و غيرهما صار ذا حقّ جعليّ، و لزم الوفاء به من حيث أنّ اللّه سبحانه جعل له ذلك، فيندرج تحت حقّ الحقّ سبحانه على عباده، و يعرضه الوجوب عقلا لذلك، فلا ينافي ما ذكرناه ما ورد في شكر الناس و حمدهم(1).

و أمّا دعوى مشاهدة النعم و الاحسان صادرة عن العباد، فمنشؤها قصور النظر عن ملاحظة الواقع على ما هو عليه، و احتجاب الناظرين بالخلق عن الحق جلّ

ص: 276


1- كخبر الصدوق (ره) عن الرضا - عليه السلام - حيث قال - عليه السلام -: «من لم يشكر المنعم من المخلوقين لم يشكر اللّه عز و جلّ» راجع العيون، ج 2، باب 31، ص 23، ح 2.

و علا، و إلا فالبصير لا يرى معطيا و لا مانعا سواه، و يرى الوسائط كلّها مجاري لفيضه، و وسائط مسخّرة تحت قضائه ليوصل بها حقّ كل ذي حقّ إليه على حسب ما قدّر له النعمة، و الواسطة و قدرته و علمه و اختياره و داعيه على الاختيار، و تمكين المنعم عليه من الانتفاع بالنعمة، و إبقاء تلك النعمة كلّها نعم منه سبحانه عليه؛ كما قال عزّ من قائل: «وَ مٰا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللّٰهِ.» (1)

و لعلّك ستعرف توضيحه في المحلّ اللائق به - إن شاء اللّه تعالى -.

و أيضا كلّ مخلوق ينعم على غيره فانّه يطلب بذلك الانعام غرضا، إمّا ثوابا، أو ثناء، أو تحصيل خلق، أو تخليصا من رذيلة البخل، فهو حينئذ معاوض لا منعم و لا جواد؛ إذ الجواد هو الّذي يجود لا لغرض يعود إليه غير نفس الجود، فليس غيره سبحانه مستحقّا للحمد و الشكر في الحقيقة. أمّا اللّه سبحانه، فانّه كامل لذاته، و الكامل لذاته لا يطلب الكمال؛ لأنّ تحصيل الحاصل محال، فكان عطائه جودا محضا. فثبت أن لا مستحقّ للحمد إلا اللّه سبحانه.

فتحصّل من ذلك كلّه أنّ صرف الحمد إلى العباد الّذين لا حقّ لهم على الحامد، مع أنّ عليه حمده سبحانه في كلّ حال ممّا لا ينبغي، و أن الّذي ينبغي أن يحمد منحصر فيه سبحانه، و مثال حامد الغير مثال من كان [له] أموال قليلة و ديون كثيرة، و اشتغل بصرف تلك الاموال في مصارف لاغية لا منفعة فيها له.

[رجوع المحامد كلّها إليه سبحانه]

و ذكر بعض المتأخّرين الّذي تقدّم صدر كلامه في شرح دعاء في وجه اختصاص جميع أفراد الحمد به سبحانه أنّ:

«النعوت الكماليّة كلّها ترجع إليه، لأنّه فاعلها و غايتها،

ص: 277


1- النحل/ 53.

كما حقّق في مقامه (1) ،و لأنّه الموجود الحقيقيّ كما يعرفه العارفون. و ثبوت الصفة فرع ثبوت الموصوف، و ذلك أنّهم يرون كلّ قدرة مستغرقة في القدرة في الذات، و كلّ علم مستغرقا في العلم بالذات، و هكذا في كل صفة كماليّة، فإذن المحامد كلّها راجعة إليه سبحانه، و لهذا ذكر اسم اللّه دون غيره من الاسماء لدلالته بحسب المفهوم على جامعيّته الاوصاف الجماليّة و الجلاليّة و ربوبيّته أنواع الاشياء كلّها، و كلّ اسم غيره إنّما يدلّ على صفة و ربوبيّة نوع واحد.»(2)

انتهى.

و يؤيّد ما ذكرناه من إفادة هذه اختصاص جميع أنواع الحمد به سبحانه ما روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال:

«فقد أبي بغلة له، فقال: لئن ردّها اللّه تعالى لأحمدنّه بمحامد يرضاها، فما لبث أن أتي [بها](3) بسرجها و لجامها، فلمّا استوى عليها و ضمّ إليه ثيابه رفع رأسه إلى السماء فقال: الحمد للّه، و لم يزد. ثمّ قال: ما تركت و ما أبقيت شيئا، جعلت كلّ أنواع المحامد للّه عزّ و جلّ، فما من حمد إلا و هو داخل فيما قلت.»(4)

ص: 278


1- في المخطوطة: «خاتمته».
2- راجع المصدر المذكور في تعليقة 1 ص 270.
3- كذا في المصادر.
4- رواه علي بن عيسى (ره) في كشف الغمة، ج 2، باب في ذكر الامام الخامس أبي جعفر - عليه السلام -، ص 118؛ و نقله البحراني (ره) في البرهان، ج 1، ص 46.

و قيل:

«لا شكّ أنّ الوجود خير من العدم، و أنّ وجود كلّ ما سوى اللّه فانّه حصل بايجاد اللّه وجوده، فانعام اللّه تعالى واصل إلى كلّ من سواه. فاذا قال: «الحمد للّه» فكأنّه قال:

الحمد للّه على كلّ مخلوق، و على كلّ محدث أحدثه من نور و ظلمة، و سكون و حركة، و عرش و كرسيّ، و جنّي و إنسيّ، و ذات و صفة، و جسم و عرض من أزل الآزال و أبد الآباد.»(1) انتهى.

و أنت إذا لاحظت إفادة الجملة الخبريّة للثبات و الدوام، و لاحظت عموم الحمد من الجهة المتقدّمة لجميع الانواع و الافراد الصادرة من كلّ حامد، فربّما أفادت هذه الكلمة باختصارها لك أنّ المحامد الّتي أتى بها الاوّلون و الآخرون من الملائكة و الثقلين للّه تعالى، و كذا المحامد الّتي سيذكرونها إلى وقت قوله تعالى: «وَ آخِرُ دَعْوٰاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ الْعٰالَمِينَ » (2) ،و إلى أبد الآبدين و دهر الداهرين. و أنّ كلّ حمد يصحّ أن يقع حمدا بجهة من الجهات المتصوّرة، فهي ثابتة له سبحانه بحيث لا يبقى ثناء متصوّر لأحد باعتبار إلا و هو حقّ للّه سبحانه.

فيدلّ على استجماعه سبحانه جميع شئون المحموديّة، بحيث لم يبق شأن منها وجهة من جهاتها إلا و هو متحقّق و ثابت له سبحانه. و أنّ كلّ حمد صدر من أحد لغيره سبحانه باعتبار جهة من الجهات، فانّه لا يستحقّه و إنّما المستحقّ له هو اللّه سبحانه، حتّى لو وقع الحمد على فاعل فعل من الافعال الاختياريّة و باعتباره، فانّ اللّه أولى بحسنات العبد من نفسه، و هو أولى بسيّئاته؛ كما ورد في الخبر

ص: 279


1- الكلام للنيشابوري، راجع تفسيره، ج 1، ص 31.
2- يونس/ 10.

و فصّل في محلّه(1).

و يؤيّد التعميم ما ذكر في كلام الاصوليّين من أنّ حذف المتعلّق يفيد العموم، و إذا عمّمنا الحمد للسان الحال و المقال شمل جميع الاشياء؛ إذ ما من شيء إلا و يسبّح بحمده، كما نصّ عليه في القرآن (2) ،إن جعلت التحميدات بألسنة الاحوال و إلا بأن أثبتنا لها ألسنة على حسبها ناطقة بالثناء على ربّها فالشمول أوضح من دون حاجة إلى التعميم.

و عن بعض المحقّقين (3): «التعميم المذكور لإدخال حمد الحقّ سبحانه نفسه، و ذلك حيث بسط بساط الوجود على ممكنات لا تعدّ و لا تحصى، و وضع عليه موائد كرمه الّتي لا تتناهى، فكلّ ذرّة من ذرّات الوجود لسان ناطق عنه بحمده، و مثل هذا الحمد لا يطيق به نطاق النطق، و من ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله: لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» كذا قرّر.

و له وجه عند تجريد معنى الحمد عن الخصوصيّات الّتي يعتبر فيه أهل العرف بالنظر الظاهريّ.

ربّ العالمين

في الرواية المتقدّم صدرها عن القميّ عن الصادق عليه السّلام فيه أنّه قال:

«خلق(4) المخلوقين(5)

ص: 280


1- راجع خبر الصدوق (ره) عن النبي - صلّى اللّه عليه و آله - في ص 214.
2- قال اللّه تعالى في سورة الاسراء، آية 44: «وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّٰ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ.»
3- هذا القول نقله السيّد عليخان المدني (ره) في الرياض، في شرح دعائه - عليه السلام - في التحميد للّه عز و جلّ (د 1) عن بعض المحقّقين، فراجع.
4- في بعض النسخ: «خالق».
5- راجع تعليقة 3 ص 270.

و في العيون و تفسير الامام عليه السّلام عن أمير المؤمنين عليه السّلام:

«يعني: مالك الجماعات من كلّ مخلوق و خالقهم، و سائر(1)

أرزاقهم إليهم من حيث يعلمون و من حيث لا يعلمون؛ يقلّب الحيوانات في قدرته، و يغذوها من رزقه، و يحوطها بكنفه، و يدبّر كلاّ منها بمصلحته، و يمسك الجمادات بقدرته، يمسك ما اتّصل منها من التهافت، و المتهافت عن التلاصق، و السماء أن تقع على الارض إلا باذنه، و الارض أن تنخسف إلا بأمره .»(2).

[معنى كلمة الربّ و اشتقاقها]

أقول: ذكر جماعة أنّ الربّ هنا بمعنى «المالك»، و قال في الصحاح:

«ربّ كلّ شيء مالكه، و الربّ اسم من أسماء اللّه عزّ و جلّ، و لا يقال في غيره إلا بالاضافة. و قد قالوه في الجاهلية للملك - إلى أن قال: - و رببت القوم: سستهم أي: كنت فوقهم؛ قال أبو نصر: «هو من الربوبيّة.» و منه قول صفوان: «لان يربّني رجل من قريش أحبّ إليّ من أن يربّنى رجل من هوازن. و ربّ الضيعة أي: أصلحها و أتمّها. و ربّ فلان ولده يربّه ربّا، و ربّبه و تربّبه بمعنى أي: ربّاه. و المربوب المربّى.» و استشهد عليه ببعض الابيات.

و ذكر غيره للربّ معنى المالك و المدبّر و السيّد و المربّي و المنعم و الصاحب و غيرها(3).

ص: 281


1- استظهر المؤلف (قده) أن تكون الكلمة «سائق»، و يوافقه بعض النسخ.
2- راجع تعليقة 1 ص 268.
3- راجع مجمع البحرين و النهاية.

و الّذي أحتمله قويّا أنّ الاصل في معنى هذا اللّفظ هو التربية و إصلاح شأن المربوب.

و ذكر شيخنا البهائي في تفسير التربية هنا أنّه: «تبليغ الشيء كماله تدريجا»(1) و هو جيّد. و إطلاقه على المالك و السيّد باعتبار أنّ من شأنه القيام بشأن المربوب و تربيته، و كذا المدبّر و المنعم؛ إذ فيهما بعض شئون التربية، و على الصاحب باعتبار أنّ من شأنه القيام ببعض حاجات صاحبه، و يشهد له ملاحظة جملة من المشتقّات؛ كالربيبة الّتي تربّى في دار الرجل، و «الربّي» على فعليّ بمعنى: الشاة الّتي وضعت حديثا حيث انّ همّها تربية ولدها، و الربيبة واحدة الربابيب للغنم التي تربّيها الناس في البيوت لألبانها، و الربيبة للحاضنة و المربّيات، يقال: زنجبيل مربّب و مربّى بمعنى، و غيرها.

و المراد بالتربية ليس خصوص التغذية بالمعنى الاعمّ للحيوان و النبات، بل إصلاح الشأن مطلقا من رزق و تكميل و إعطاء ما يحتاج إليه و دفع ما يضادّه و ينافيه، بل خلقه أن جعل المربوب هو الشيء الّذي أعطى خلقه ثمّ هدى(2).

و حينئذ فالربّ هو القائم بأمر المربوب من خلق و هداية، و رزق و إعطاء ما يحتاج إليه، و دفع ما يضرّه. و يرشد إليه في الجملة ما تقدّم من الروايتين.

و حينئذ فلعلّ منشأ عدم استعماله بدون الاضافة على غيره سبحانه و اختصاصه به جلّ و علا من جهة إفادة حذف المتعلّق العموم حيث لا معهود، و هو منحصر فيه سبحانه، و إطلاقه مضافا مبنيّ على ظنّهم كون غيره سبحانه مربّيا حقيقة، أو لكونه في صورة المربّي و إن لم يكن موجدا للتربية في الواقع.

ص: 282


1- العروة الوثقى (المخطوط)، رب العالمين.
2- مأخوذ من قوله تعالى: «قٰالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطىٰ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىٰ.» (طه/ 50).

هذا، و لو جعلنا الربّ هنا بمعنى المالك دلّت الكلمة على لوازم المالكيّة و آثاره من الامور المذكورة بالالتزام. فانّ الملكيّة بمعنى السلطنة يقتضي ظهور آثار المسلّط على المسلّط عليه، فيندرج فيه ما ...(1).

و هذا أحد الوجهين في الرواية الثانية، و الآخر منهما الوجه السابق بأن يكون ذكر المالك مدلولا التزاميّا ذكر توطئة لبيان الربوبيّة أو غير ذلك.

و الظاهر أنّ الربّ صفة مشبّهة بمعنى اسم الفاعل لا مصدر وصف به للمبالغة كالعدل، و إن كان هذا أيضا جائزا.

[معنى العالم و عدد العوالم]

و «العالم» اسم موضوع للجمع كالانام و الرهط، و هو ما يعقل من الملائكة و الثقلين عن ابن عباس و الاكثرين (2).و قال بعضهم: «كلّ ما علم به الخالق من الجواهر و الاعراض »(3) ،كقوله تعالى: «قٰالَ فِرْعَوْنُ وَ مٰا رَبُّ الْعٰالَمِينَ * قٰالَ رَبُّ السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ وَ مٰا بَيْنَهُمَا.» (4)

فعلى الاوّل مشتقّ من العلم و خصّوا بالذكر للتغليب، و على الثاني من العلامة، و جمع ليشمل كلّ جنس ممّا سمّي به، و جمع بالواو و النون تغليبا لما فيه من صفات العقلاء، كذا قرّره بعضهم(5).

و حينئذ فالظاهر أنّ كلّ جنس من ذوي العلم و غيرهم، أو ممّا يعلم به الخالق أخذ عالما، و جمع ليفيد شمول اللفظ لجميعها لما تقرر في محلّه من إفادة

ص: 283


1- سقط هنا كلمة من المخطوطة في التجليد.
2- راجع التبيان و المجمع و الدر المنثور و غيرها من التفاسير.
3- راجع الكشاف، ج 1، ص 8،
4- الشعراء/ 23-24.
5- الكشاف، ج 1، ص 8؛ و رياض السالكين، د 12، ص 149.

الجمع المحلى للعموم حيث لا عهد فيفيد الكلام استغراق ربوبيّته كلّ عالم من العوالم، قال بعضهم:

يقال: عالم الملك و عالم الانس و عالم الجنّ و كذا عالم الافلاك و عالم النبات و عالم الحيوان، و ليس اسما لمجموع ما سوى اللّه، بحيث لا يكون له أفراد بل أجزاء، فيمتنع جمعه.

و قد اختلفت الاخبار في عدد العوالم، و ذكر بعض أصحابنا العارفين:

«أنّ في بعضها العوالم ثلاثة، و في بعضها أربعة، و كذا خمسة و ستّة و سبعة، و ثمانية و تسعة و عشرة و عشرون و ثلاثون و أربعون و خمسون و ستّون و ثمانون و و تسعون و مائة و ألف و ألف ألف - ثمّ قال: - و الّذي عدّدنا من العوالم تسعة و ثلاثون ألف ألف و تسعمائة ألف و تسعمائة و ثمانون عالما.» انتهى.

و عن الصدوق [ره] في آخر الخصال أنّه روي عن الباقر عليه السّلام أنّه ذكر في قوله تعالى: «بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ » (1):

«إنّ اللّه قد خلق ألف ألف عالم، و ألف ألف آدم.»(2)

و نحن في آخر العوالم و آخر الآدميّين، و أوّل ذلك بارادة مراتب التنزّلات و التطوّرات؛ كما أشار إليه أمير المؤمنين عليه السّلام في قوله: «لقد دوّرتم دورات، و و كوّرتم كورات.»

و قوله عليه السّلام: «إنّ للّه في كلّ يوم ثلاثة عساكر: عسكر ينزلون من الاصلاب إلى الارحام، و عسكر يخرجون من الارحام إلى الدنيا، و عسكر يرتحلون من

ص: 284


1- ق/ 15.
2- الخصال، ج 2، ص 652، و التوحيد، باب ذكر عظمة اللّه جلّ جلاله، ص 277، ح 2، عن جابر بن يزيد، عنه - عليه السلام -؛ و البحار، ج 57، باب العوالم، ص 321، ح 3.

الدنيا إلى الآخرة.» كذا أفاده بعض العلماء العارفين، و لكن لا يطمئنّ به النفس بعد خروجه عن ظاهر اللّفظ، و هو أعلم بما قال. لكنّا لم نجده دليلا على حصر العوالم العرضيّة و الطوليّة إلا في ضمن الاجناس الكلّيّة. فمن المحتمل حينئذ وصول عدد العوالم إلى العدد المذكور، بل جميع الاعداد الواردة في الاخبار؛ إذ يصحّ أن يكون لأمر عددا باعتبار، و آخر باعتبار آخر؛ مثلا: يمكن أن يعدّ السموات جميعها عالما واحدا فيقال عالم السّماء و أن يعدّ كل منها عالما مستقلاّ لما بينها من البينونة و البعد في المرتبة.

[إشارة إلى علم الهيئة و عالم الكبير و الصّغير]

و ممّا يكسر سورة استبعاد وجود عوالم كثيرة بالمعنى الظاهري ملاحظة قانون الهيئة الّتي أسّسها أهل الافرنج - خذلهم اللّه تعالى - بمؤنة الآلات القويّة، الّتي وجدت عندهم و لم تكن يصل إليها أيدي الحكماء السابقين.

و الّذي نقل عنهم على ما ببالي أنّهم يعتقدون أنّ كلّ كوكب من الكواكب السيّارة غير القمر و الشمس أرض كأرضها، تدور حول الشمس و الشمس كالمركز لها، و زادوا على السيارات المعروفة سيارتان كبيرتان يسمى إحداهما «أورانوس» و الآخر «نبطون»، و وجدوا أيضا سيّارات صغار كثيرة يمتنع إدراكها إلا بتوسّط الآلات المعدّة لهذا الشأن، و يجعلون لكلّ واحد من السيّارات الاول ثمانية أقمار إلى واحد أو اثنين تدور تلك الاقمار على تلك الاراضي، كما أنّ لأرضنا هذه قمرا يخصّه، و أنّ كلّ كوكب من الكواكب الثابتة شمس كشمسنا هذه في فضاء غير متناه مع اختلافها في القرب من شمسنا و البعد منها، و كلّما كان أبعد كان جرمه في أبصارنا أصغر، فيستظهرون من ذلك أن يكون لكلّ كوكب منها أراضي حولها كالاراضي الّتي لشمسنا هذه. و حينئذ فيكون أصل الاراضي خارجة عن حدّ

ص: 285

الاحصاء فضلا عن الانواع الواقعة في كلّ منها.

و ليس غرضي من إيراد هذا المجمل الاذعان لهم في ذلك، بل لمجرّد رفع استبعاد من آنس بالهيئة السابقة حتّى صار قواعده في الاصول الكلّيّة كالقطعيّات عنده، و خصوصا بملاحظة ما وصل إلينا من الاخبار من طرقهم من أنّ جملة ممّا كان يعتقده السابقون كان خطاء ظهر خطائه بالحسّ بتوسّط الآلات الّتي عندهم، و بملاحظة ما ينقل لنا منهم لا يبقى وثوق بقواعد السابقين في كثير من مسائل الهيئة و لا بقواعدهم، بل هي أبعد من الوثوق منها لما نقل إلينا من استنباطات لهم لا يساعدها الذهن السليم.

و الّذي أعتقده اشتمال كلام الفريقين على الحقّ و الباطل، كما هو شأن الانسان إلا إذا عصمه اللّه، هذا.

و اعلم أنّ كلّ فرد من أفراد الانسان عالم صغير مشتمل على انموذج ممّا في العالم الكبير من الجواهر و الاعراض، و المجرّدات و المادّيّات، فعلا أو قوّة، كما نسب إلى أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال(1):

و تزعم أنّك جرم صغير *** و فيك انطوى العالم الاكبر

و ذكر الحكماء أنّ: «النفس الانسانيّة إذا كملت صارت عالما عقليّا مضاهيا للعالم الحسّي.» و قد ورد عنهم إطلاق لفظ القرية على الانسان أو تأويلها به.

[في أنّ الرّبوبيّة منحصر في اللّه سبحانه و بيان اشتمالها لجميع الموجودات]

ثمّ ان إضافة الرب إلى الجمع المحلّى و حذف متعلّق الربوبية ربما تفيد أنّ وصف الحقّ بالربوبيّة لكلّ فرد من العوالم من كلّ جهة من جهات الربوبيّة،

ص: 286


1- ديوان الامام عليّ - عليه السلام -، ص 57.

فتفيد الكلمة انحصار الربوبيّة فيه سبحانه على نحو ما قدّمناه في كلمة الحمد، و لذا ذكر بعضهم: «أنّه توحيد له و تحميد و إقرار بأنّه المالك لا غير .»(1).

و هذا هو توحيد الربوبيّة، و أنّه لا ربّ في الحقيقة سواه، و لا يتّصف غيره بشيء من شئون الربوبيّة، و هو توحيد غامض بحسب العلم، صعب المنال بحسب الحال، و الاستقامة على العمل بها عسير. و ربّما يشير إليه قوله سبحانه:

«إِنَّ الَّذِينَ قٰالُوا رَبُّنَا اللّٰهُ ثُمَّ اسْتَقٰامُوا.» (2)

و هو التوحيد الّذي يبنى عليه أساس التوكّل، و يتخلّص به من الشرك في الطاعة من المندرج فيها الرياء و السمعة. و لعلّك تسمع منّا تمام الكلام فيه و في مقدّماته متفرّقا في خلال التفسير - إن شاء اللّه تعالى -.

و معنى هذه الكلمة عامّة شاملة لجميع الموجودات محيط بجميع العوالم الامكانيّة فيكون حقيقة هذا الاسم محيطة بها و بالاسماء الخاصّة ببعض المخلوقات دون بعض، أو ببعض الشئون دون بعض؛ كالشافي المختصّ بمرض المريض، و كالرازق المختصّ بالرزق، و يعمّ الدنيا و الآخرة، فيشمل فيه الرحمة الرحمانيّة و الرحيميّة الّتي ظهرت. و تظهر على أعيان المربوبات في الاولى و الاخرى. و مرتبة هذا الاسم تحت اسم الجلالة، و لذا أخّر عنه و ناسب وصفه به لكونه مظهرا لآثار الالوهيّة لنا، و تكميلا للثناء، و إشعارا بعلّة استحقاقه الحمد من باب دلالة تعليق الحكم على الوصف المناسب لعلّيّته لذلك الحكم.

و في هذه الآية إنعاش لمحبّة المحبّين، و إيقاظ لرجاء الراجين لما اشتمل عليه من معناها من المدائح و المحامد المحرّكة للحبّ، و من الاحسانات الّتي تحرّك الرجاء؛ إذ كلّ كمال فعليّ أو مطلقا فرض، فقد دلّ عليه كلمة «الحمد

ص: 287


1- القول للطريحي (ره)، فراجع مجمع البحرين.
2- فصّلت/ 30؛ و الاحقاف/ 13.

للّه» على ثبوته له سبحانه مع الانحصار، فلا تستحقّ غيره المحبوبيّة لهذه الجهة.

و من أعظم أسباب الحمد و معناه وصف الجود و الكرم و النعت به، و هو يبعث الرجاء. و أمّا الوصف بأنّه ربّ العالمين، فهو محرّك للحبّ باعتبار أنّ المربوب لا ينبغي أن يحبّ إلا ربّه، و بأنّ كلّ خير فرض فيه و في كل من وجد خيرا ما، و كلّ شرّ فرض اندفاعه عنه أو عن غيره من كلّ من سلم من شرّ ما فهو من ربّ العالمين. فمن ذا يحقّ له الحبّ غيره سبحانه، و من الّذي يستحقّ أن يرجى دونه؟

فانظر الآن إلى كلّ جهة، «اُنْظُرُوا مٰا [ذٰا] فِي السَّمٰاوٰاتِ وَ الْأَرْضِ» (1) فهل ترى إلا خيرا أعطى أو شرّا وقى؟ و ارجع إلى نفسك و انظر كيف تربّى؛ «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسٰانَ مِنْ سُلاٰلَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنٰاهُ نُطْفَةً فِي قَرٰارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً -

إلى قوله تعالى: - ثُمَّ أَنْشَأْنٰاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبٰارَكَ اللّٰهُ أَحْسَنُ الْخٰالِقِينَ » (2) ، «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسٰانُ إِلىٰ طَعٰامِهِ * أَنّٰا صَبَبْنَا الْمٰاءَ صَبًّا - إلى آخر الآيات.»(3)

و قد ذكر اللّه سبحانه أنحاء نعمه سبحانه فى آيات كثيرة، و دفع البليّات في جملة. و هي كلّها من بعض شئون الربوبيّة الّتي دلّ عليها هذه الكلمة. بل لو تأمّلت في معنى هذه الكلمة رأيت جميع الاشياء بصفاتها و هيئاتها مندرجة تحت حكم هذه الكلمة، و تصوّرها بعض تصوّر لها، و جميع العلوم المتعلّقة بها شرح لهذه الكلمة. و كلّ من كان أعلم بها كان نصيبه من علمها أكثر. و لا مطمع في الوصول إلى نهاية علم هذه الكلمة لاندراج الكلّ فيها؛ «وَ مٰا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّٰ قَلِيلاً.» (4)

لكنّ التأمّل في أجزاء مجاريها يورث المعارف و الاحوال، فيوجب استشعار التعظيم

ص: 288


1- يونس/ 101.
2- المؤمنون/ 12-14.
3- عبس/ 24-25.
4- الاسراء/ 85.

و الانكسار، و الحياء و الخشوع، و الاخبات و الانقطاع، و الوقوف على حدود المربوبية و شئونها التي يليق به، و ترك دعوى المشاركة في شيء من شئون الربوبيّة؛ إذ كما أنّ الحقّ ربّ مطلق بكل وجه و بكلّ اعتبار و حيثيّة، كذلك العبد مربوط مطلق بكلّ وجه و اعتبار و لحاظ. فزن بميزان العقل المربوب المطلق بصفاتها، و انظر ما الّذي يناسب شأنه بالقياس إلى الربّ المطلق حتّى يظهر لك حقيقة ما نحن فيه من البعد عن كلّ استقامة و سداد. و اجتهد في تحصيل تلك الشئون الّتي يليق بالمربوب حتّى يظهر الحقّ عليك ربوبيّته، و يوصل إليك كلّ خير يليق به، و يدفع عنك كلّ شرّ لا خير لك فيه، فانّ ذلك من شئون الربوبيّة العامّة الّتي لا يشوبه بخل و لا منع.

فعليك بتحصل شئونك، و فوض شئون الربوبية إليه، إنه عليم بالحاجات، جواد بالعطيّات، لا يمكن تربية أحسن من تربيته، و لا كرم فوق كرمه، يربّيك كأنّه ليس له عبد غيرك و هو ربّ العالمين، لا ليربح عليك؛ إذ هو الغنيّ عن عباده، بل ليربحوا عليه؛ إذ هم الفقراء إليه (1) ،و أنت تخدمه كأنّ لك أربابا غيره، و لا ملجأ و لا منجى لك و لغيرك إلا إليه؛ «قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهٰارِ مِنَ الرَّحْمٰنِ.» (2) نسأل اللّه سبحانه العفو و المغفرة و السداد، إنّه وليّ كل خير.

[أثر اسم الرّبّ في مقام الدّعاء]

ثمّ إنّ لاسم الرّب مضافا إلى ضمير المتكلّم وحده أو مع الغير مذكورا أو

ص: 289


1- قال اللّه تعالى في آية 15 من سورة فاطر: «يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرٰاءُ إِلَى اللّٰهِ وَ اللّٰهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ.» و ذكر الديلمي (ره) في إرشاد القلوب، الباب التاسع و العشرون، ص 148، أن اللّه تعالى أوحى إلى داود - عليه السلام -: «قل لعبادي لم أخلقكم لأربح عليكم، و لكن لتربحوا عليّ.»
2- الانبياء/ 42.

مقدّرا، أو إلى اسم ظاهر يشمل القائل خصوصيّة في مقام الدعاء و ما أشبهه. و قد كثر وروده في هذا المقام في القرآن و الادعية، بل لا أذكر الآن موضعا ورد فيه دعاء في القرآن بدونه. و يشبه أن يكون السرّ في ذلك أنّ إعطاء المسألات و رفع الحاجات و كفاية المهمّات كلّها من الشئون المتعلّقة بالربوبيّة بالمعنى المتقدّم، و التوجّه إليه سبحانه واقع عندها باسم الربّ، فافهم.

ص: 290

[علّة تكرار آية «اَلرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ » ] اَلرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

و لعلّ تكريرهما للتّنبيه بهما في جملة الصفات المذكورة لاستحقاقه الحمد، أو لافادة التأكيد و بسط رجاء العباد في رحمته، أو لأنّ الرحمتين في البسملة مأخوذتان في حدّ نفسيهما كلّيّتين من دون اعتبار نزولهما و ظهورهما في المرحومات، و من أجله اتّصلتا بكلمة الجلالة على وجه التابعيّة لهما من دون لحاظ متعلّق لهما، و هاهنا اعتبرنا في مقام الظهور و التعلّق بالمرحومات باعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، و لذا تأخّرنا عن ربّ العالمين المذكور فيه المتعلّقات، و صار من جملة الاوصاف الّتي وقعت في حيّز الحمد المختصّ بالنعمة، أو الجميل الاختياري على ما سبق.

و في حديث صلاه المعراج المتقدّم صدره:

«... ثمّ قال له: احمدني (1).فقال: الحمد للّه ربّ العالمين.

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في نفسه شكرا.

فقال اللّه: يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله، قطعت حمدي فسمّ باسمي. فمن أجل ذلك جعل في الحمد «اَلرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ» مرّتين - الخ.»(2)

و كون الشكر قاطعا للحمد إمّا باعتبار أنّ الشكر إنّما يقع من العبد في مقابل نعمة الحقّ عليه بخلاف الحمد حيث يصحّ صدوره من الحقّ و من العبد، و الملحوظ في الاوّل حال العبد بالنسبة إلى الخلق، و في الثاني وصف الحقّ

ص: 291


1- في بعض النسخ: «حمّدنى».
2- راجع المصادر المذكورة في تعليقة 3 ص 262.

بأسمائه و أفعاله، فيكون الاوّل قاطعا للثاني لكونه فصلا بالنسبة إلى الثاني، و هو وصل بالنسبة إليه. و إمّا باعتبار أنّ قول «اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ الْعٰالَمِينَ» كان كلام الحقّ يرد عليه صلّى اللّه عليه و آله و يقوله صلّى اللّه عليه و آله، لا كلامه بخلاف شكرا؛ إذ كان هو ممّا أنشأه صلّى اللّه عليه و آله أداء لحقّ النعمة، فكان كلام نفسه قاطعا لكلام ربّه و إن وقع تقرّبا إليه سبحانه، و لاختلافهما في ذلك كان الاوّل قرآنا و جزء من المصحف بخلاف الثاني.

و يشبه أن يكون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عند قراءة «رَبِّ الْعٰالَمِينَ» توجّه نحو معنى المضاف إليه، و أوّل شيء يظهر من «اَلْعٰالَمِينَ» نفس القاري و الالتفات إلى نفسه من حيث كونه مربوبا، خصوصا في مثل ذلك الحال المغمور بالتوجّه إلى الحقّ، و إنعام الحقّ و إقباله إليه يستدعي الشكر منه، و يكون هذه الحالة قاطعا للحمد الّذي هو الثناء على المحمود فقط، فلزم تكرار اسم الحقّ سبحانه، و تكميل التوجّه إليه سبحانه، و إفناء ملاحظة النفس.

و لمّا كان هذه الحالة، أعني الالتفات إلى المربوبين و النفس من الاحوال المشتركة بينه صلّى اللّه عليه و آله و بين سائر الّذين يتلون الكتاب حقّ تلاوته، كان كمال السورة في وقوع التكرار الصوري ليحصل به محو ما كان، و الترقّي إلى ما بعده، و لا يكفي في ذلك المحو الاسم الاخير، إمّا لخفائه عن مدارك النوع الانساني الاوحدي منهم، أو لأنّ ظهوره مطلقا انّما هو باقتضاء سائر الاسماء كالرحمة، فقبل التسمّي بها لا يظهر، أو لانّه وحده غير كاف لجمع القلب عن مقام الفرق الى عين الجمع، و اللّه العالم.

ص: 292

[تحقيق حول «مالك» و «ملك» و «الدين»]

مٰالِكِ يَوْمِ الدِّينِ

القمّيّ: قال - يعني الصادق عليه السّلام على الظاهر -:

«يوم الحساب - ثمّ قال: - و الدليل على ذلك قوله:

«وَ قٰالُوا يٰا وَيْلَنٰا هٰذٰا يَوْمُ الدِّينِ .» (1) ؛يعني: يوم الحساب.»(2)

و عن تفسير الامام عليه السّلام:

«يعني: القادر على إقامته، و القاضي فيه بالحقّ، و الدين:

الحساب.»(3)

[معنى الدّين]

و ذكر جماعة أنّ الدين بمعني الجزاء(4).

و في الحديث:

«ابن آدم، كن كما شئت، كما تدين تدان.»

قيل: «أي: كما تجازي تجازى بفعلك و بحسب ما عملت. و سمّي الاول جزاء

ص: 293


1- الصافات/ 20.
2- راجع المصادر المذكورة في تعليقة 3 ص 270.
3- تفسير الامام - عليه السلام -، ص 13؛ و البحار، ج 92، باب فضائل سورة الفاتحة و تفسيرها، ص 250، ح 48.
4- كسعيد بن جبير و قتادة و غيرهما من المفسرين و اللغويين.

للازدواج، كما في قوله تعالى: «فَمَنِ اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ.» (1) و إن كان الثاني مجازا في الآية عكس ما في الحديث.»(2)

و قال الشاعر في جزء بيت الحماسة: «دنّاهم كما دانوا »(3) ،قيل: «يعني:

جازيناهم بمثل ما ابتدءونا به.»

و الدين في قوله: «يُوَفِّيهِمُ اللّٰهُ دِينَهُمُ» (4) فسّر بالجزاء الواجب، و في قوله تعالى: «إِنَّ الدِّينَ لَوٰاقِعٌ» (5) بالجزاء، و في قوله: «ذٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ» (6) بالحساب المستقيم.

و ربّما يطلق الدين على الشرع، و هو مراد من حدّه بأنّه وضع لاولي الالباب يتناول الاصول و الفروع، و على الطاعة كما فسّر به قوله تعالى: «وَ لاٰ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ.» (7)

و ربّما يجيء «دان» بمعنى: أذلّ و استعبد. فيقال: فلان دان الناس إذا قهرهم فأطاعوه، و يصدق يوم الدين على يوم القيامة بكلّ من هذه الوجوه؛ إذ هو يوم الحساب و الجزاء و الشرع لظهور حقائقه و غاياته و ثمراته، و وقوعه على حسب ميزانه و أحكامه، و يوم الطاعة لظهور ثمرة الطاعة فيه. بل هو المعدّ لظهور

ص: 294


1- البقرة/ 194.
2- القول للطريحي (ره)، ذكره في مجمع البحرين بعد نقل الحديث المتقدم.
3- هو جزء بيت من قصيدة «سهل بن شيبان» قالها في حرب البسوس، و هى: فلما صرح الشر فأمسى و هو عريانو لم يبق سوى العدوان دناهم كما دانوا فراجع جامع الشواهد، باب الفاء.
4- النور/ 25.
5- الذاريات/ 6.
6- التوبة/ 36؛ و يوسف/ 40؛ و الروم/ 30.
7- التوبة/ 29. و قد توجد هذه الوجوه في تفسير «الدين» في مجمع البحرين.

غايات الطاعة، و طاعة الاشياء كلّها للحقّ طوعا و كرها، و يوم الاذلال و القهر لمن لم يكن ذليلا مقهورا للحقّ حتّى يصير الكلّ منقادين.

و أنت إذا دقّقت النظر رأيت الشريعة و الدين ميزانا يحاسب عليها العباد في المعنى الآن و في الصورة غدا، و الاتيان بها و إقامتها يصير جزاء بنفسه اليوم باطنا، و غدا ظاهرا على ما نذهب إليه من تجسّم الاعمال و جوهريّة العلوم و المعارف و الملكات و الاحوال، و هي الطاعة؛ إذ لا يطاع اللّه إلا بدينه الّذى وضعه على خلقه، و هو العبوديّة الّتي هي غاية التذلّل و الاسلام الكلّي، الّذي هو غاية المقهوريّة، فيوم القيامة يوم ظهور الدين و الطاعة و الذلّة له سبحانه بحقائقه و آثاره و غاياته من الحساب و الجزاء؛ «وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ.» (1)

[اختلاف القراءات في كلمة «مالك»]

ثمّ إنّه قد اختلفت القرّاء في القراءة هنا على قراءات شاذّة، و قراءتين مشهورتين: أحدهما: مالك يوم الدين بالالف عن «سهل» و «يعقوب» و «عاصم» و «عليّ» و «خلف»، و الآخر: ملك بلا ألف مكسور اللام كما نسب إلى الباقين من السبعة و رواتهم(2).

و قد اختلف كلمات العلماء في الترجيح فذهب جماعة إلى ترجيح الثاني، و علّل بوجوه من أنّ كلّ واحد من أهل البلد يكون مالكا، و الملك لا يكون إلا واحدا، و هو أعلاهم شأنا، و الموافقة لقوله تعالى: «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النّٰاسِ * مَلِكِ النّٰاسِ» (3) و لم يقرأ فيه غير ملك، و لقوله: «لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلّٰهِ الْوٰاحِدِ

ص: 295


1- طه/ 111.
2- راجع مجمع البيان، و البيان للامام الخوئي - مدّ ظلّه العالي - و سائر التفاسير.
3- الناس/ 1-2.

اَلْقَهّٰارِ.» (1)

و ذكر لترجيح الاولى أيضا وجوه؛ كدعوى أنّ في القيامة ملوكا و لا مالك إلاّ اللّه، و أنّ المالكيّة سبب لاطلاق التصرّف و ليست الملكيّة كذلك، و أنّ العبد أسوء حالا من الرعيّة، فيكون القهر في المالكيّة أكثر منه في الملكيّة، و أن الرعيّة يمكنهم إخراج أنفسهم و عن كونهم رعيّة لذلك الملك بالاختيار بخلاف المملوك، و أن الملك يجب عليه رعاية حال الرعيّة و لا يجب على الرعيّة خدمة الملك، أمّا المملوك فيجب عليه خدمة مالكه، و أن لا يشتغل بأمر إلا باذنه.

[في إضافة الملك و المالك إلى يوم الدّين و ما يستفاد منها]

ثمّ إنّ إضافة الملك إلى يوم الدين من قبيل إضافة الصفة المشبّهة إلى غير معمولها فتكون معنويّة؛ مثل قولهم: «ملك العصر، و كريم الزمان، و حسن البلد». و أمّا إضافة المالك إليه فباجراء الظرف مجرى المفعول به توسّعا، و معناه مالك الامور كلّها في ذلك اليوم.

و يمكن أن يجعل اليوم عبارة عن النشأة الاخرى، الّذي هو مظروف للظرف توسّعا، فيراد باليوم ما يتحقّق فيه، و كلاهما مشتملان على نحو من التوسّع، و هذا أيضا من مرجّحات القراءة الاخرى.

ثمّ إنّ تخصيص يوم الدين بالاضافة مع أنّه سبحانه ملك و مالك لجميع الاشياء في جميع الاوقات لتعظيم ذلك اليوم، و لأنّ الملك و الملك الحاصلين لبعض الناس في هذه النشأة بحسب الظاهر يزولان و يبطلان في ذلك اليوم بطلانا بيّنا، و ينفرد جلّ شأنه بهما انفرادا ظاهرا على كلّ أحد بخلاف حال ظاهر الدنيا في نظر أهله، حيث كان حال التوحيد في الصفتين و عموم متعلّقهما مختفيا عنهم غيبا

ص: 296


1- غافر/ 16.

بالنسبة إليهم و إن كان ظاهرا عند العارفين، فيظهر ذلك المعنى المختفي في ذلك اليوم ظهورا تامّا لا يخفى على أحد؛ كسائر الامور الّتي هي غيب في الدنيا لأهلها و ينكشف و يصير شهادة في يوم تبلى السرائر: «لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هٰذٰا فَكَشَفْنٰا عَنْكَ غِطٰاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ.» (1)

[ارتباط صفة المالكيّة مع انحصار الحمد للّه سبحانه]

هذا، و اعلم أنّ في ذكر هذه الصفة في عداد الصفات المتعلّقة بالحمد إشعار بكونه محمودا باعتباره و هو كذلك؛ لانّ قضيّة العدالة الّتي هي من أعلى الصفات الاختياريّة الفعليّة، و يستحقّ باعتبارها الحمد و المدح لا تظهر ظهورا تامّا إلا في يوم الجزاء بالفرق بين المحسن و المسيء، و المطيع و العاصي، و الموافق و المخالف لتجزى كلّ نفس بما سعى؛ «يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النّٰاسُ أَشْتٰاتاً لِيُرَوْا أَعْمٰالَهُمْ » (2).بل الملكية و المالكيّة في مقام الامكان و الظهور العينيّ في الكون من الصفات الجميلة الاختيارية بل هو محمود بكلّ صفة و فعل، و كلّ جهة و اعتبار.

ثمّ إنّ في ذكر هذه الصفات بعد اسم الجلالة الدالّ على استجماع جميع صفات الكمال على ما مرّ بيانه إشعار بانحصار جهات الحمد فيه سبحانه؛ لأنّ من يحمده الناس و يعظّمونه إنّما يكون حمدهم و تعظيمهم لأحد أمور أربعة، إمّا لكونه كاملا في ذاته و صفاته؛ و إمّا لكونه محسنا إليهم و منعما عليهم؛ و إمّا لأنّهم لا يرجون الفوز في الاستقبال و الحال بجزيل إحسانه و جليل امتناعه عاجلا أو آجلا؛ و إمّا لانّهم يخافون من قهره و كمال قدرته و سطوته، فكأنّه جلّ و علا يقول: يا أيّها الناس إن كنتم تحمدون و تعظّمون للكمال الذاتي و الصفاتي فانّي أنا اللّه، و إن كان للإحسان و التربية فانّي أنا ربّ العالمين، و إن كان للرجاء و الطمع

ص: 297


1- ق/ 22.
2- الزلزلة/ 6.

في العاجل فأنا الرحمن، أو في الآجل فأنا الرحيم، و إن كان للخوف من كمال القدرة و السطوة فأنا مالك يوم الدين.

فبملاحظة الصفات الخمسة و التوحيد فيها كما أشرنا إليه في كلّ منها يظهر السرّ في انحصار استحقاق الحمد باللّه جلّ و علا، و أنه لا ينبغي الاشتغال بحمد من سواه.

و هذه الامور هي جهات المعبوديّة الّتي دلّت عليها كلمة الجلالة على ما سبق.

فالصفات الاربعة بمنزلة التفصيل لذلك الاجمال، و بذلك يظهر وجه ارتباط هذه الآيات بالآية الآتية. و كما أنّ قارئ السورة يقرأ هذه الآيات أوّلا ثمّ آية العبادة و الاستعانة، كذلك قارئها بعقله و قلبه يتصور هذه المعاني و يصدّق بها، و يحدث في قلبه حالات بحسبها. ثمّ يصير موحّدا في العبادة و الاستعانة، منقطعا إليه سبحانه فانّ هذه الامور مجامع الايمان باللّه و اليوم الآخر، الّتي يبتني عليها العبادة و الدين ابتناء الفروع على الاصول، و بقدر قوّة هذه المعارف و قوّة حضورها عند النفس يحصل العبوديّة بالمعرفة، و يحدث في القلب آثارها من الخضوع و الخشوع و الانقطاع و الاخلاص، و الرجاء و الخوف و الحياء و المحبّة و الانس و غيرها، و يتفرّع عليها الطاعة بالجوارح على الوجه الكامل تفرّع الثمرة على الشجرة، فانّ كلّ عمل نبات، و كلّ نبات لا غنى به عن الماء، فما طاب سقيه و غرسه طاب ثمره على [ما] ورد - ما تقرب من هذه الالفاظ - عن أمير المؤمنين عليه السّلام(1).

ص: 298


1- راجع نهج البلاغة، خطبة 154، ص 216، و قد قال - عليه السلام - فيها: «... و اعلم أن لكل عمل نباتا، و كل نبات لا غنى به عن الماء، و المياه مختلفة، فما طاب سقيه طاب غرسه و حلت ثمرته، و ما خبث سقيه خبث غرسه و أمرت ثمرته.»

[تأثير التفكّر في معاني هذه الآية في النّفس]

ثمّ إنّ لكثرة التأمّل و التفكّر و التدبّر و الغور في معاني هذه الالفاظ تأثيرا قويا في الترقّيّات المعنويّة، و الانتقال في الاحوال و المقامات، و ما يتفرّع على الغور في الصفة الاخيرة استشعار الخوف و الرجاء، و ارتفاع الغرور باعتبار كونه يوم الدين لا يوم الجزاف و العبث، و انزعاج القلب عن الدنيا باحضار النشأة الاخرى في النفس، و ارتفاع الإخلاد إلى الارض و المألوفات و عالم الظلمة، و كسر النفس و الهوى، و قمع مادّة العجب و الغرور بملاحظة المتفكّر كونه في معرض وقوع يوم الدين بعظمته عليه، و لا يدري على أيّ وجه من وجوهه يتّفق بالنسبة إليه، و بملاحظة عظمة من هو مالك هذا اليوم و ملكه فيصغر في نفسه نفسه و غيره كما قال عليه السّلام في صفة المتّقين: «عظم الخالق في أنفسهم، فصغر ما دونه في أعينهم.»(1) و قلع شجرة الرياء و السمعة بنحو ما ذكر، و قطع مادّة الظلم بتذكر يوم المجازاة إلى غير ذلك ممّا يعرف بالمقايسة إلى ما ذكر. هذا لأرباب الاحوال.

و أمّا العارفون، فلهم في مثل ذلك ترقّيات إيقانيّة من علم اليقين إلى عين اليقين إلى حقّ اليقين، و صيرورة العلم عيانا، و ينكشف لقلبه حقيقة هذا الاسم و غيره مجملا، ثمّ مفصّلا إلى مراتب لا تتناهى، فهو كالمتفرّج في عالم الآخرة بقلبه و السائر في بساتينه، و الناظر إلى حال العصاة في نيرانه.

و لعلّ من ذلك أو ما هو أعلى منه ما رواه في الكافي باسناده عن الزهري في حديث قال:

«كان عليّ بن الحسين عليهما السّلام إذا قرأ «ملك(2) يوم الدين»

ص: 299


1- راجع المآخذ المذكورة في تعليقة 2 ص 197، و تعليقة 1 ص 198.
2- خ. ل: «مالك».

يكرّرها حتّى يكاد أن يموت.»(1)

و عن العيّاشي: «أنّه قرأه الصادق عليه السّلام ما لا يحصى.»(2)

[محاسبة النّفس و توزين الاعمال]

و عن تفسير الامام عليه السّلام عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

«أكيس الكيّسين(3) من حاسب نفسه و عمل لما بعد الموت، و إنّ أحمق الحمقاء من اتّبع نفسه هواها، و تمنّى على اللّه تعالى الامانيّ.»(4)

و قد ورد من ألفاظه من غير هذا الطريق أيضا.(5)

و في حديث آخر:

«حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، و زنوها قبل أن توزنوا.»(6)

ص: 300


1- الكافي، ج 2، كتاب فضل القرآن، ص 602، ح 13؛ و رواه أيضا العياشي (ره) في تفسيره، ج 1، ص 23، ح 23، بنفس الاسناد عنه - عليه السلام -؛ و هكذا في الوسائل، ج 4، باب 68 من أبواب القراءة في الصلاة، ص 813، ح 1؛ و نور الثقلين، ج 1، ص 19، ح 78.
2- العياشي، ج 1، ص 22، ح 22، عن داود بن فرقد؛ و الصافي، ج 1، ص 53؛ و نور الثقلين، ج 1، ص 19، ح 80.
3- في المخطوطة: «الاكيسين».
4- تفسير الامام - عليه السلام -، ص 13؛ و البحار، ج 92، باب فضائل سورة الفاتحة و تفسيرها، ص 250، ح 48.
5- كطرق العامة، فراجع سنن ابن ماجة، كتاب الزهد، باب 31، ح 4260؛ و المستدرك للحاكم، ج 4، ص 251.
6- رواه سيد بن طاوس (رض) في محاسبة النفس، الباب الثاني عن النبي - صلى اللّه عليه و آله -؛ و المجلسي (ره) فى البحار، ج 70؛ باب مراتب النفس و عدم الاعتماد عليها، ص 73، ح 26.

قال في الصافي بعد إيراد الروايتين:

«و فيهما دلالة على أن لكلّ إنسان أن يفرغ من حسابه، و وزن عمله في دار الدنيا بحيث لا يحتاج إليهما في الآخرة، و هو كذلك عند اولى الالباب.»(1)

أقول:

إن أراد بذلك أنّ كل إنسان يقدر أن يفرغ من مجموع حسابه و وزن عمله بحيث لا يبقى موضع يتأخّر حسابه للآخرة، ففيه أنّه موقوف على الاطلاع على كلّ عمل من أعماله بجميع ما له دخل فيه، شرطا كان أو مانعا للصحّة أو الكمال أو القبول، ابتداء و استدامة، و انّه علي أيّ وجه من هذه الوجوه وقع، و على كلّيّات كلّ عمل من الاعمال بأجزائها و شرائطها و موانعها و مفسداتها الباطنيّة و شرائط قبولها و موانعه، و ما يحبطها و ما يكملها و ينميها، و على الاطلاع على كل عمل قبيح صدر عنه بجميع الخصوصيّات الّتي لها مدخل في زيادة قبحه و نقصانه، و على مقدار كلّ عمل حسن أو قبيح في ميزان القسط و غير ذلك؛ إذ لو لا هذه المعلوم لم يمكن للانسان وزن نفسه، و التفرّغ عن حسابه، و أنّى يحصل هذه الامور كلّها للانسان إلا من خرج عن عالم الغرور، و أعطي نورا يمشى به في الظلمات، فشاهد بذلك هذه العلوم أو حقيقة الميزان العقليّ لنفسه، فوزن به نفسه، و تفرّغ عن المحاسبة.

لكنّه مقام لا يستأهل له كلّ أحد إلا أن يراد محض الشأنيّة الّتي كانت في أصل الفطرة؛ إذ ربّما يدّعى ثبوتها للجميع.

و إن أراد به أنّ له السعي بقدر ما يتيسّر له، فهو حقّ يشهد بصحّته الاعتبار و الاخبار، و لكنّه لا ينفي الاحتياج إلى الميزان في الآخرة.

و على كلّ حال، فلو أريد به أنّه لا يقع على المحاسب في الدنيا حساب و ميزان

ص: 301


1- الصافي، ج 1، ص 53.

في الآخرة، فليس في الخبرين دلالة عليه؛ إذ إثبات الشيء لا ينفي ما عداه، و القبليّة لا تنفي وقوع شيء بعده لو لم يقتضه، و لا نجد في اعتبار الالباب شاهدا عليه لو لم يشهد بخلافه، و اللّه العالم و هو المستعان.

[في دلالة الآيات الثّلاث بالتّرتيب على المبدا و المعاد و ما بينهما]

ثمّ إنّ المستفاد من الكلمات الخمسة أنّ منه المبدا و به البقاء و إليه المعاد.

و يندرج فيها عالم البدو و الوسط و المعاد، فكأنّ الآيات الثلاث محيطة بعوالم الاكوان، جاذبة للقلب المشتغل بشيء منها إليه سبحانه، حتّى يتحقّق له حقيقة الاسلام المطلق بأخذها بمجامع القلب؛ إذ لا ملجأ و لا منجى في ذلك إلا إليه سبحانه.

و به يظهر كون الترتيب اللّفظيّ مطابقا للترتيب المعنويّ إذ مقام الالوهيّة مقدّمة على الربوبيّة المطلقة، كما يظهر ممّا سبق (1) ،و هي بعنوان الوحدة مقدّمة على كلّ من القسمين؛ إذ التفصيل هنا فرع الاجمال، و الكثرة فرع الوحدة، فمرتبة الرحمانيّة و الرحيميّة بعد الربوبيّة المطلقة.

ثمّ المقصود الاصليّ من إنشاء القيامة هو ايصال الرحمة لأهله، و منها الانتقام من أعدائهم، فانّه من الرحمة لهم و يتبعه الغضب؛ إذ الاصل في الغاية هو الرحمة دون الغضب.

و لمّا اندرج الاصل في اسم الرحيم بقي سائر ما اقتضته الحكمة تبعا أو ضمنا، فدلّ عليه بالاسم الاخير في مرتبته الّتي هي آخر المراتب، فالناظر إلى الآيات الثلاثة بعين البصيرة ناظر إلى بدو الموجودات و نزولها و صعودها و ختمها من حيث ظهور أسماء اللّه سبحانه عليها، فهو في نظره إلى ربّه جلّ و علا بأسمائه سائر في الموجودات بدوا و توسّطا و ختما. و هذا نظر صاحب مقام الوحدة في عين الكثرة.

ص: 302


1- راجع ص 287.

[تحقيق حول العبادة و الاستعانة]

إِيّٰاكَ نَعْبُدُ

عن تفسير الامام عليه السّلام:

«قال اللّه تعالى: قولوا يا أيّها الخلق المنعم عليهم: إيّاك نعبد أيّها المنعم علينا، نطيعك مخلصين موحّدين(1) مع التذلّل و الخضوع بلا رياء و لا سمعة.»(2)

و عن رواية عامّية عن الصادق عليه السّلام:

«يعني: لا نريد منك غيرك، لا نعبدك بالعوض و البدل كما يعبدك الجاهلون بك، المغيّبون عنك.»(3)

[معنى العبادة و علّة تقديم المفعول على الفعل]

أقول: العبادة أقصى غاية الخضوع، و أعلى مراتب التذلّل؛ يقال: طريق معبّد، أي: مذلّل، و ثوب ذو عبدة في غاية الصفاقة و قوّة النسج. و لذلك لا يليق بها إلا من هو مولى لأعلى النعم و أعظمها من الوجود و الحياة و توابعها. كذا ذكروه(4).

ص: 303


1- سقطت هذه الكلمة عن بعض النسخ.
2- تفسير الامام - عليه السلام -، ص 14؛ و الصافي، ج 1، ص 53؛ و البحار، ج 92، باب فضائل سورة الفاتحة و تفسيرها، ص 251، ح 48.
3- نقله الفيض (ره) في الصافي، ج 1، ص 53.
4- راجع الكشاف، ج 1، ص 11؛ و أنوار التنزيل، ج 1، ص 3.

و قد سبق في كلمة الجلالة تفسيره بمطلق التذلّل و الخضوع، و أنّ التخصيص لعلّه باعتبار الانصراف إلى الفرد الكامل، و لا يليق بالعبادة إلا من كان منعما بالحقيقة، فليس غيره سبحانه أهلا لها؛ إذ لا منعم سواه على ما عرفت. و حينئذ فيقرب من التفسير المتقدّم بالاطاعة المقترنة بالتذلّل و الخضوع.

و أمّا اعتبار التوحيد و الاخلاص و نفي الرياء و السمعة، فالظاهر أنّه باعتبار تقدّم المفعول على الفعل، مع أنّ حقّه التأخير عنه، خصوصا مع كونه ضميرا لا ينبغي الاتيان به منفصلا مع إمكان الاتيان به متّصلا. و هذا يكشف عن وجود نكتة، و أظهرها في مثل المقام الحصر، بمعنى: نخصّك بالعبادة و نجعلها مختصّة بك، فلا نعبد غيرك و لا نشركه في عبادتك. و هو معنى الاخلاص و التوحيد في العبادة، و نفي الرياء و السمعة الاستقلاليّين و الانضماميّين إلى داعي القربة؛ إذ الاوّل عبادة غيره سبحانه، إذ هو المقصود بالعبادة في الفرض، و الثاني شرك في العبادة حيث قصد بها الخالق و المخلوق معا.

و لمّا كان للعبادة من حيث الغاية درجات أشرنا إليها في كلمة الجلالة مع كثير ممّا يتعلّق بالمقام؛ إذ العابد إمّا يجعل الحقّ وسيلة و واسطة لنيل مطلوب، أو دفع مكروه، صوريّ أو معنويّ، دنيويّ أو أخرويّ، و هذه درجة الخائفين و الراجين، و إمّا يجعل الحقّ غاية عبادته فلا يريد منه بعبادته غيره سبحانه، و هو العابد بالحقيقة، و ما قبله عبادة تلك الغاية في المعنى، فكأنّ حقيقة الحصر لم يتحقّق إلا في الثاني، مضافا إلى ما عساه يشعر به تقدّم الضمير على الفعل من الايماء إلى أنّ العابد ينبغي أن يكون مطمح نظره أوّلا و بالذّات هو الحقّ سبحانه على وتيرة: «ما رأيت شيئا إلا رأيت اللّه قبله.»(1) ثمّ منه إلى أنفسهم لا من حيث ذواتها، بل من حيث أنّها ملاحظة له عزّ و جلّ و منتسبة إليه، ثمّ إلى أعمالهم من

ص: 304


1- إشارة إلى قول أمير المؤمنين - عليه السلام - المعروف.

العبادة و نحوها، لا من حيث صدورها عنهم، بل من حيث أنّها نسبة شريفة و وصلة لطيفة بينه جلّ شأنه و بينهم.

و هذه نكتة أخرى لتقدّم المفعول مع ما في تقديم ذكر اللّه سبحانه من إيراث الخشية و المهابة حتّى لا يلتفت في العبادة يمنة و يسرة، و إيراث العبد قوّة يسهل بها عليه ثقل العبوديّة، و من المطابقة للوجود العيني بتقدّم ما هو مقدّم في الوجود.

مضافا إلى أن «اَلَّذِينَ اتَّقَوْا إِذٰا مَسَّهُمْ طٰائِفٌ مِنَ الشَّيْطٰانِ تَذَكَّرُوا فَإِذٰا هُمْ مُبْصِرُونَ.» (1)

فالنفس إذا مسّها طائف الشيطان من الكسل و الغفلة و البطالة طلع له جلال اللّه من مشرق «إيّاك» فتصير مبصرة مستعدّة لأداء حقّ العبوديّة إلى غير ذلك.

[علّة إيراد الفعل بصيغة الجمع]

ثمّ إنّه يشبه أن يكون في إيراد الفعل بصيغة المتكلّم مع الغير إرشادا إلى ملاحظة القارئ دخول الحفظة، أو حضّار صلاة الجماعة، أو جميع حواسّه و قواه الظاهرة و الباطنة، بل و جميع جوارحه و شعره و بشره - كما ربّما يومي إليه دعاء الركوع - أو جميع ما حوته دائرة الامكان؛ كما قال سبحانه: «وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّٰ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ » (2).و ايذانا إلى أنّ المناسب للعبد أن يرى نفسه حقيرا غير قابل لعرض عبادته منفردا من دون الانضمام إلى جماعة يشاركونه في العرض، كما يظهر من دأب الرعايا مع الملوك، مع ما فيه من الفرار عن أنّه لا يليق بنا مع ما نحن عليه من تعظيم الدنيا و أهلها، و الخضوع التامّ لأربابها من الملوك و غيرهم أن نخاطبه سبحانه بما يدلّ على حصر العبادة فيه سبحانه؛ إذ على تقدير العدول إلى الجمع يمكن أن

ص: 305


1- الاعراف/ 201.
2- الاسراء/ 44.

يقصد حينئذ تغليب الاصفياء الخلّص على غيرهم، فيحترز بذلك عن الكذب الظاهر عند من يعلم الضمائر.

مضافا إلى أنّ المناسب للعبد الحامد للّه الواقف بين يديه بحقيقة الحمد و الحضور أن لا يقصر همّه على إصلاح حال نفسه، بل يسعى في إصلاح حال إخوانه في اللّه سبحانه أيضا، فيدخل نفسه في جملتهم و يتكلّم عن المجموع.

[سبب الالتفات من الغيبة إلى الخطاب]

ثمّ إنّ الالتفات في هذه الآية من الغيبة إلى الخطاب لعلّه إشارة إلى أنّ القراءة ينبغي أن يكون عن قلب حاضر و توجّه كامل، بحيث كلّما أجرى القارئ اسما من تلك الاسماء العليا و النعوت العظمى على لسانه، و نقشه على صفحة جنانه حصل للمطلوب مزيد انكشاف و انجلاء، و أحسّ هو بتزايد قرب و اعتلاء. و هكذا شيئا فشيئا إلى أن يصير الخبر له عيانا، و الغيبة حضورا، و البرهان مشاهدة، فيستدعي المقام العدول إلى الخطاب، و إلى علوّ مرتبة هذه الآيات القرآنيّة حيث انّها تصيّر قارئها و تاليها بلسانه و قلبه أهلا لمجلس الخطاب، فائزا بسعادة الحضور و الاقتراب. فكيف لو لازم وظائف الاذكار، و واظب على تلاوته و تدبّر معانيه باللّيل و النهار، مع ما فيه من جبر كلفة العبادة بلذّة الحضور و المخاطبة و ان عرض الهديّة الحقيرة حضورا أقرب إلى القبول من عرضه بدون المواجهة عند الاكابر و الملوك، و هو آية لكون هدايا الحاضرين لديه سبحانه على ما ورد في الحديث القدسي: «أنا جليس من ذكرني»(1) أقرب إلى القبول.

فعلى التالي صرف الهمّ على تحصيل الحضور بين يدي من هو حاضر لا يغيب،

ص: 306


1- رواه الصدوق (ره) في العيون، ج 2، ص 46، ح 175، عن الرضا - عليه السلام -... عن النبي - صلّى اللّه عليه و آله -؛ و نقله المجلسي (ره) في البحار، ج 93، باب ذكر اللّه تعالى، ص 156، ح 25.

و هو أقرب من حبل الوريد(1).

[حقيقة العبوديّة و الخضوع و مقاماتها]

مضافا إلى أنّ القارئ لمّا ذكر الحقيق بالحمد و أجرى عليه الصفات العظام تعلّق قلبه بمعلوم عظيم الشأن حقيق بغاية الخضوع و الاستعانة في المهام، فخوطب(2)

ذلك المعلوم الّذي لا يحقّ العبادة إلا له، و قد قدّمنا بعض الكلام في العبوديّة في كلمة الجلالة، و على ما سبق من أنّ أصل(3) الخضوع له مقام في المعرفة، و الملاحظة بأن يعرف نفسه متّسما بسمات لا يليق بها سوى الخضوع و الاستكانة للحقّ و يرى نفسه كذلك، و هو مستفاد من حصر الحمد في الحقّ، و من كلمة الجلالة كما سبق، و من إضافة الربّ إلى العالمين؛ لأنّ كلّ شيء وجد في المربوب فهو من ربّه لا من نفسه، فليس له من نفسه سوى ما يصحّ كونه مربوبا، و هو الحاجة و الفقر، و من إضافة الرحمة إليه سبحانه، فالعباد مرحومون، و المرحوم هو الخاضع؛ «أنا عند المنكسرة قلوبهم.»(4) و خصوصا بالنسبة إلى الرحمة المترقّبة؛ لأنّ الخضوع مفتاح لتحصيل ما ليس له بحاصل، و من إضافة الملك أو المالك إلى يوم الدين كما أشرنا إليه، فانّ من كان معرضا لوقوعه عليه و هو لا يدري على أيّ وجه يكون حريّ بنهاية التذلّل، و كلّ من كان اطّلاعه على جهات فقره عاجلا و آجلا، ابتداء و استدامة من الجهات الغير المتناهية، كما أنّ النعم الّتي تجبر تلك الحاجات غير متناهية، و كان نظره إلى هذه الجهات، كان أعبد في هذا المقام، خصوصا بعد

ص: 307


1- مأخوذ من آية 16 من سورة ق.
2- كذا في الاصل و لكن الظاهر أن يكون الصحيح: «فخاطب».
3- في المخطوطة: «أصله».
4- هذا من حديث قدسي، نقله الفيض (ره) في المحجة البيضاء، ج 7، كتاب الفقر و الزهد، ص 325. و فيه: «أوحى اللّه تعالى إلى اسماعيل - عليه السلام -: اطلبني عند المنكسرة قلوبهم.»

تكميل النظر في الاوصاف الخمسة لربّه المذكورة في الآيات الثلاث و غيرها من أسمائه و صفاته سبحانه، و تقابل تلك الصفات إلى هذه الصفات.

فمن شاهد صفات نفسه بما ذكروه من خواص الامكان و غيرها ممّا لم يذكروه يرى كلّ واحد من صفاته كافيا لذلّته و خضوعه، كما أنّ كلّ صفة من صفات اللّه سبحانه ممّا عدّ من خواصّ الوجوب و غيرها كافية في استحقاق وقوع الخضوع له. فقايس و تدبّر لعلّك تستفيد منه ما لا مطمع لك فيه قبله.

و كمال هذا المقام توحيده، و هو سلب الكمال عن جميع الممكنات و إضافتها إلى الحقّ سبحانه، و سلب الفقر و النقص عن الحقّ و تعميمهما على جميع دائرة الحق (1) ،حتّى يظهر أنّه لا ينبغي مسمّى الخضوع إلا له سبحانه، أو بأمره، أو من جهته.

و هذا هو الّذي ينتج التوحيد في الدعاء و الاستعانة. كيف يسأل محتاج محتاجا؟ و أنّى يرغب معدم إلى معدم؟

و له مقام في القلب يسمّى حالة الخضوع و الخشوع، و يظهر آثاره في العين بترك رفع الطرف و خفضه، و في الرأس بإطراقه و طأطئته (2) ،و في المنكبين بالقاء جناح الذلّة، و في الصوت بغضّه، و في الصلب بانحنائه إلى حالة الركوع، و في الجبهة و سائر المساجد عند السجدة. و كلّ هذه خضوعات و تذلّلات ظاهريّة، و روحها و مبدئها الامر القلبيّ.

و له مقام في مقام الانقياد لما يرد عليه من طرف المعبود، فمن كان قلبه خاضعا قبل أحكامه، و امتثلها على ما أراد منه، و من كان مستكبرا أبي و لم يقبله.

و يعبّر عنه بالطاعة.

و له مقام في عمله مع كلامه معبوده، و في حضور أوليائه، و كلّ شيء له

ص: 308


1- كذا في الاصل، لكن الظاهر: «الخلق».
2- أطرق رأسه أي: أماله و أسكنه، و طأطأ الرأس و غيره أي: خفضه.

نسبة إليه كبيته، فمن كان خاشعا عند تلاوته و استماعه، و عند أولياء اللّه سبحانه كان خاضعا للّه؛ «إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوٰاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللّٰهِ أُولٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللّٰهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوىٰ » .(1)

و له مقام صور جعلت خضوعا و عبوديّة كالصلاة، و تسمّى عبادات بالمعنى الاخصّ، و هي أمور مخصوصة و ماهيّات مجعولة، جعلت لأن يعبد به اللّه سبحانه.

و لكلّ من هذه المقامات فروع و أغصان و مكتنفات و آثار. و قد ورد في حديث «عنوان البصري» عن الصادق عليه السّلام بعض ما أشرنا إليه. قال في مجمع البحرين على ما في النسخة: و حقيقة العبوديّة كما في حديث «عنوان» ثلاثة أشياء:

«أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله اللّه ملكا؛ لأنّ العبيد لا يكون لهم ملك، بل يرون المال مال اللّه يضعونه حيث أمرهم اللّه، و لا يدبّر العبد لنفسه تدبيرا، و جملة اشتغاله فيما أمره اللّه تعالى و نهاه عنه. فاذا لم ير العبد فيما خوّله اللّه ملكا هان عليه الانفاق، و إذا فوّض العبد تدبير نفسه إلى مدبّرها هانت عليه مصائب الدنيا، و إذا اشتغل العبد فيما أمره اللّه و نهاه لا يتفرّغ منهما إلى المراء و المباهات مع الناس.

فاذا أكرم اللّه العبد بهذه الثلاث هانت عليه الدنيا و المسيس و الخلق، و لا يطلب الدنيا تفاخرا و تكاثرا، و لا يطلب عند الناس عزّا و علوّا، و لا يدع أيّامه باطلة. فهذا أوّل درجة المتّقين.»(2)

ص: 309


1- الحجرات/ 3.
2- مجمع البحرين، ج 3 ص 96؛ و روى شيخنا البهائي - نوّر اللّه مضجعه - بتمامه في الكشكول، ج 2، ص 184؛ و نقله المجلسي (قده) في البحار، ج 1، باب آداب طلب العلم و أحكامه، ص 224، ح 17، من خطه (الشيخ البهائي)، عن الشيخ شمس الدين محمد بن مكي، و قد نقله من خط الشيخ أحمد الفراهانى (ره)، عن عنوان البصري.

فرؤية المال ملكا للحقّ من شئون المعرفة به سبحانه، و أنّه المالك لجميع الاشياء. و أمّا هوان الانفاق عليه، فهو بمنزلة غصن لبذر المعرفة السابقة. و أمّا وضعه المال حيث أمرهم اللّه، فهو ثمرة هذا الغصن، و أمّا تفويض تدبير نفسه إلى مدبّرها، فهو غصن أصلها المعرفة بأنّه الربّ المطلق، و له الربوبيّة كيف يشاء، و ليس له من صفات الربوبيّة شيء لا يقدر لنفسه ضرّا و لا نفعا، و لا موتا و لا حياة و لا نشورا. و أمّا الاشتغال بما أمره اللّه و نهاه، فهو مقام الانقياد لما يرد عليه من المعبود.

هذا ما سنح بالبال في شئون العبادة و العبوديّة، و اللّه العالم بحقيقة الحال.

و في كلّ هذه المقامات المتصوّرة يتصوّر توحيد و شرك، و قلّ من توحّد في جميعها بحيث لم يدخل فيه شرك في شيء منها حتّى جنس الخضوع بأن لا يخضع لغيره سبحانه، أو لأجله، أو لأمره سبحانه. نسأل اللّه التوفيق و السداد و العصمة، و هو المستعان.

وَ إِيّٰاكَ نَسْتَعِينُ

«على طاعتك و عبادتك، و على دفع شرور أعدائك و ردّ مكائدهم، و المقام على ما أمرت» كذا عن تفسير الامام عليه السّلام(1).

[معنى الاستعانة]

و أصل الاستعانة طلب المعونة على الفعل، و الظاهر منه في المقام إمّا طلب

ص: 310


1- تفسير الامام - عليه السلام -، ص 15، عن أمير المؤمنين - عليه السلام -، عن النبي - صلّى اللّه عليه و آله -؛ و الصافي، ج 1، ص 3؛ و البحار، ج 92، باب فضائل سورة الفاتحة و تفسيرها، ص 252، ح 48.

المعونة في المهمّات أو مطلق الافعال الّتي تتعلّق القصد بها بأسرها، و منها: التحرّز عمّا ينبغي التحرّز منها، تعويلا على إفادة حذف المتعلّق العموم حيث لا معين.

و إمّا بالنسبة إلى خصوص أداء العبادة و القيام بوظائفها الظاهريّة و الباطنيّة من الاخلاص و حضور القلب و غيرهما باعتبار رجحان هذا القسم على سائر الافراد بورود اللّفظ عقيب ذكر العبادة و لعلّ الاوّل أولى.

[حصر العبادة و الاستعانة للّه تعالى]

و هذه الفقرة في إفادة الحصر كسابقه، و حصر الاستعانة به سبحانه نتيجة التوحيد في اسم الربّ بالمعنى المتقدّم الشامل لاسمي الضارّ و النافع؛ إذ من يعلم أنّه لا ضارّ و لا نافع سوى الواحد القهار كيف يستعين بغيره و لم يجد معطيا سواه، و لا مغيث و لا مفزع و لا مهرب، و لا ملجأ و لا منجى منه إلا إليه؟ و هذا توحيد غامض بحسب العلم، صعب المنال حالا و عملا، و بدونه لا تكمل حصر الاستعانة، فيكون القائل كاذبا؛ إذ ما دام في النفس اعتقاد أو احتمال أنّ شيئا يمكن الاستعانة منه، و يقدر على إعطاء معونة له، و إيجاد عون عليه لا يكمل الانقطاع إليه سبحانه بتوحيد الاستعانة.

و هذا التوحيد من جزئيّات التوحيد في اسم المنعم المندرج تحت اسم الربّ، فانّ الاعانة و بذل المعونة من أعظم أنواع النعمة، و الانعام بإطلاقه من شئون الربوبيّة و إلى ما ذكرنا من صعوبة هذا الحصر ينظر ما ذكره شيخنا البهائي في جملة علل تقدّم العبادة على الاستعانة بقوله:

«إنّ التخصيص بالعبادة أوّل ما يحصل به الاسلام، و أمّا التخصيص بالاستعانة فانّما يحصل بعد الرسوخ التامّ في الدين، فهو أحقّ بالتأخير.»(1)

ص: 311


1- العروة الوثقى (المخطوط).

و ملاحظة الربط بين أجزاء الكلام يغني عن هذا التوجيه و أمثاله؛ إذ المناسب لذكر الصفات المتقدّمة و خصوصا الصفة الاخيرة هو التخصيص بالعبادة و هو الاهمّ، و بمنزلة النتيجة لما قبله لظهور أن لا مستحقّ للعبادة إلا إيّاه من الآيات الثلاث.

و أمّا التخصيص بالاستعانة، فهو و إن كان من شئون الربوبيّة و غيرها إلا أنّها في مرتبة سائر الشئون من دون ظهور جهة يظهر خصوصيّتها، بل هو بطلب الهداية أشدّ ربطا و أظهر تعلّقا، مع أنّه لو عمّم متعلّق الاستعانة كانت العبادة لكونها أهمّ و أعظم أولى بالتقدّم. و إن خصّصت بالعبادة فالاستعانة مقصودة لغيره، و المطلوب لذاته أشرف و أولى بالتقديم و إن تأخّر ذو المقدّمة في الوجود عن المقدّمة.

و لعلّ في تذييل حصر العبادة بحصر الاستعانة دفعا لما يعرض القارئ حال دعوى العبادة من مبادي العجب، أو لما يوهمه الكلام من كونه مستقلا في إيجاد العبادة، كما أنّ الحقّ مستقلّ في الربوبيّة و غيرهما من الصفات المتقدّمة.

[في دلالة الآية على بطلان الجبر و التّفويض]

و من هنا يظهر أنّ هذه الآية تبطل الجبر بالشطر الاوّل، و التفويض بالشطر الثاني، و أنّ تمسّك كلّ منهما على بطلان الآخر به صحيح، و على صحّة مذهبه باطل بل هو نصّ في نسبة فعل العبادة و الاستعانة إلى العبد، و في كون المعونة من اللّه سبحانه، و إنّما يطلبها العبد منه سبحانه، فليست في يده و تحت قدرته و إلا لما طلبه من غيره. فالعبد عابد بعون اللّه سبحانه، و فاعل كذلك، و اللّه سبحانه معين له، لا موجد الفعل عليه قهرا بالمعنى. فالشطر الآخر نفى الجبر أيضا، كما أنّ باقي السورة نفي لهما معا، بل كلمة الجلالة بالمعنى المتقدّم تدلّ على نفيهما، إذ المعبود لا يكون معبودا بالفعل ما لم يكن عابد يعبده باختياره. و من يستقلّ العباد عنه و يستغنون عنه في أفعالهم ليس معبودا بعنوان مطلق، و كذلك ربّ

ص: 312

العالمين ينفي التفويض؛ إذ المربوب بقول مطلق لا يستقلّ عن ربّه و ربوبيّته في جهة من الجهات، و باعتبار أن إعطاء الاختيار للمربوب من الشئون الداخلة تحت الربوبيّة ينتفي الجبر، كما أنّها من الرحمة الرحمانيّة، فلو لم يعط نقصت الرحمة، و لو استقلّ العبد بها لم يكن كلّ رحمة منه حدوثا و بقاء و كمالا. و فعل الخيرات من آثار الرحمة الرحيميّة أو موجباتها، و لو لا الاختيار لاستوت العباد كلّها في استحقاق الرحمة الاخرويّة. و لم يكن للدين و الحساب و الجزاء معنى حتّى يوصف الحقّ بكونه مالكا أو ملكا له، فتبصّر.

[في شرائط الاستعانة و لوازمها]

ثمّ إنّ الاستعانة إنّما يستحسن في مقام يكون المستعين محتاجا لا يقوي على أمره بنفسه، و يضعف عن تحمّله بنفسه، و المستعان عالما بحاله و استعانته، و قادرا على إعطاء المعونة و العون له، و جودا لا يبخل بما يقدر عليه، و مجيبا لطلب الطالبين و سؤال السائلين؛ إذ لو لم يعلم بحاله أو باستعانته منه، أو كان عاجزا عنه، أو قادرا بخيلا لا يبذل على المحتاجين، أو كان غير معتن بسؤال السائلين لا يجيبهم إذا سألوه كانت الاستعانة لغوا لا يترتّب عليه المقصود. و إذا علم المستعين استجماع هذه الشرائط انبعث في قلبه حالة استدعاء هو حقيقة الدعاء و الطلب، و تصير سببا لاظهار الطلب و السؤال باللّسان و غيره، و بقدر قوّة هذا العلوم و حضورها عند نفس السائل يقوي حالة السؤال، و يتأكّد همّه فيه و في الالحاح به، و بقدر زيادة الحاجة في السائل يكون لزوم السؤال عليه أشدّ، و بقدر استجماع المسئول الشرائط كمالا و نقصا يكون عرض السؤال عليه أليق، و بقدر علم السائل كمال الشرائط في المسئول يكون انصراف قلب السائل نحو الاستدعاء. و هذه هي القاعدة في الدعاء بعنوان مطلق.

ص: 313

[شدّة فقر العبد إلى اللّه و ارتباط حصول الاستعانة مع درجات الفقر]

ثمّ إنّ الممكن لمّا كان من لوازم ذاته الفقر، بحيث يمتنع امتناعا عقليّا ارتفاع الحاجة منه في مرتبة ذاته في ذاته و وجوده و بقائه و صفاته، و ممّا يتوقّف عليه شيء من ذلك من الامور الداخليّة و الخارجيّة، و في أفعاله و مقدّمات أفعاله من حوله و قوّته و توفيقه، و تهيّئ الاسباب الخارجيّة و غيرها، و بالجملة هو فقير مطلق في كلّ شأن من شئونه، و كلّ حيثيّة من حيثيّاته من كلّ جهة من الجهات، فكلّ فعل عبادة و غيرها أراد صدوره كان محتاجا إلى جميع ما أشرنا إلى جملة حتّى يستتمّ له ذلك، و ليس وجوده قبل زمان الفعل رافعا لاحتياجه، بل هو محتاج إلى الوجود حال الفعل من دون فرق بين أن يكون قبله موجودا أو لا، و ليس حال الممكن في بقائه إلا كحاله حين الحدوث من جهة الافتقار إلى المؤثّر.

فكلّ آن فرض للممكن فهو مفتقر إلى علّة وجودها في ذلك الآن من دون فرق بين وجوده سابقا و عدمه؛ إذ لا ربط لوجوده سابقا في وجوده لاحقا. و حينئذ فما أعطي من النعم و المقدّمات ليس مغنيا للممكن بحيث يرفع حاجته، بل هو في كلّ آن محتاج مطلق، و كلّ آن رفع حاجته باغناء الغنيّ له صورة في مرتبة متأخّرة عن ذاته بقي بالنسبة إلى الحال اللاحق فقيرا مطلقا، و هكذا يمتدّ الفقر منه و العطاء من الحق بقدر ما شاء من إغنائه.

فاذا عرف العبد حاله بالنسبة إلى جميع شئونه و أموره من عبادة و غيرها على ما وصفنا تحقّق الشرط الاوّل إذا كان متذكّرا لحاله، و إذا تذكّر الاوصاف الاربعة للحقّ من الالوهيّة و الربوبيّة و الرحمانيّة و الرحيميّة علم أنّ الحقّ عالم به و باستعانته، و قادر على إعانته، و جواد لا يبخل، و أنّ من شأنه إجابة دعاء المحتاجين؛ إذ الجميع صفات كماليّة يندرج تحت كلمة الجلالة، و لو لا العلم بالحال و القدر على الاعانة و الجود المطلق لم يستحقّ له إثبات ربوبيّة العالمين،

ص: 314

و إجابة الدعاء ظاهر من صفة الرحمة، بل و من الربوبيّة أيضا. و إذا لاحظ مع ذلك وقوع يوم الدين ظهرت شدّة فاقته إلى أمور دينه، و تمّ ظهور فقره و اضطراره إلى تحصيله. و إذا لاحظ أنّ مالكه هو اللّه سبحانه يقيم على كلّ أحد على ما يشاء ظهر أنّ السعادة و الشقاوة تحت حكمه و ملكه، فلا بدّ من الاستعانة به لتحصيل السعادة و دفع الشقاوة عن نفسه. و إذا لاحظ شدّة خطر طريق الآخرة و دقّة صراطه و أسرار دينه و نكاته علم أنّه لا ينجو من مهالكه أحد إلا باعانة الحقّ سبحانه؛ «لا الّذي أحسن استغنى عن عونك و رحمتك.»(1)

و بقدر ظهور هذه المعارف في القلب يكون كمال الاستعانة و ضعفها و عمومها للأحوال و الشئون كلّها، و اختصارها و انصراف قلب المستعين نحو المستعان منه.

و في هذا المقام يتفاوت درجات العابد تفاوتا لا تحدّ، فأعلاها درجة الفقر المطلق، الّذي اتّصف بصفة الالتجاء و الاعتصام الكلّيّ بربّه، الّذي لا يخرج منه فرد، و شأن الداعي ربّه أن لا يكله إلى نفسه طرفة عين أبدا في شأن من شئونه.

و ممّا ذكرنا ظهر وجه ارتباط هذه الآية بالآيات السابقة مفصّلا، و أنّ القارئ بقلبه الآيات الثلاث يصل إلى مقام العبادة مع التوحيد و الاستعانة المطلقة منه سبحانه، و نفي الاستعانة بغيره. و ظهر إجمالا أنّ غير الحقّ لا يليق الاستعانة، و لو فرض تحقّق هذه الشرائط في غير الحقّ فلم يترك الاستعانة بربّه الموسوم بتلك الاسماء العظام، و يستعين بمن فيه هو مثله في صفات الامكان و الجهل و العجز و قلّة الجود الصوريّ المشغول همّه بنفسه عن غيره. فقايس بين الحالين، و انظر فيه قبائح الاستعانة بغيره سبحانه.

ص: 315


1- هذه فقرة من مناجات علي بن الحسين - عليهما السلام - في أسحار شهر رمضان، المروية عن أبي حمزة الثمالي، نقله الشيخ (ره) في مصباح المتهجد، الجزء الثاني، ص 524.

[تحقيق حول الهداية و الصراط]

اِهْدِنَا الصِّرٰاطَ الْمُسْتَقِيمَ

عن المعاني و تفسير الامام عليه السّلام عن الصّادق عليه السّلام: يعني:

«أرشدنا للزوم الطريق المؤدّي إلى محبّتك، و المبلغ إلى جنّتك (1) ،و المانع من أن نتّبع أهوائنا فنعطب، أو أن نأخذ بآرائنا فنهلك.»(2)

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: يعني:

«أدم لنا توفيقك، الّذي أطعناك به فيما مضى من أيّامنا(3)

حتّى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا.»(4)

[معنى الهداية]

أقول: الهداية مطلق الارشاد و الدلالة بلطف سواء كان معها وصول إلى البغية أم لا، و سواء تعدّت إلى ثاني المفعولين بنفسها أو بالحرف، بل لا يبعد أن يكون التقييد باللّطف أيضا زائدا، فيكون مطلق الارشاد و إراءة الطريق هداية؛ لكنّ الارشاد و الدلالة إذا لم يقبله المهديّ، و لم يعمل بحسبه لما لم يظهر أثره

ص: 316


1- في المعاني: «دينك».
2- المعاني، باب معنى الصراط، ص 33؛ و تفسير الامام - عليه السلام -، ص 15 و 16؛ و الصافي، ج 1، ص 53.
3- في المعاني و الصافي: «في ماضي أيامنا».
4- راجع المصادر المذكورة في تعليقة 2 من هذه الصفحة.

في الخارج، فربّما يفرض كأن لم يكن، لا أنّ الايصال إلى المطلوب معنى آخر للهداية مستقلا، بل هو ظهور إراءة الطريق في آثاره و غايته المقصودة منه، كما أنّ كلّ شيء لا يترتّب عليه غايته المقصودة منه ربّما نزّل منزلة عدمه.

قال الجوهري: «هديته البيت هداية أي: عرّفته؛ هذه لغة أهل الحجاز، و غيرهم يقول: هديته إلى الطريق و إلى الدار، حكاها الاخفش.»

و الصراط جادّة، لأنّه يسترط السابلة؛ أي: يبتلع أبناء السبيل المختلفين، و قيل: «لأنّهم يسترطون الطريق.»

و المستقيم ما لا عوج فيه.

و ربّما ظهر من الروايتين أنّ المراد بالهداية هنا هو إعطاء الهداية و الرشاد على وجه يترتّب عليه لزوم الطريق، و يعبّر عنه بالتوفيق، فانّ الهداية من شأنها التأثير في العمل على حسبها، فان لم يؤثّر فإمّا لنقصان فيها لعدم كمالها، أو لمانع يمنع من تأثيره. و لمّا كان المقصود بالدعاء هو الهداية الكاملة المؤثّرة فسّرت بالتوفيق تارة، و الارشاد للزوم الطريق أخرى؛ إذ الهداية الّتي لا تؤثّر في العمل و لا يتبعها صاحبها ربّما كان ضررها أكثر من منفعتها، لأنّه أشدّ تقصيرا من الجاهل؛ «يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد.» كما في الحديث(1).

و أمّا تفسير الهداية بإدامتها فليس مجازا؛ إذ العبد في كلّ وقت و حال محتاج إلى الهداية، و لو كان مجازا فلعلّه باعتبار مقامه صلّى اللّه عليه و آله حيث اجتمع له جميع أنواع الهداية إلى الصراط فعلا.

ص: 317


1- رواه الكليني (ره) في الكافي، ج 1، باب لزوم الحجة على العالم و تشديد الامر عليه، ص 47، ح 1، عن حفص بن غياث، عن أبي عبد اللّه - عليه السلام.

[معنى الصّراط و صفاته]

و أمّا الصراط، فعنه عليه السّلام أنّ:

«الصراط المستقيم في الدنيا ما قصر عن الغلوّ، و ارتفع عن التقصير و استقام، و في الآخرة طريق المؤمنين إلى الجنّة.»(1)

و في المعاني عن الصادق عليه السّلام:

«هو الطريق إلى معرفة اللّه، و هما صراطان: صراط في الدنيا، و صراط في الآخرة. فأمّا الصراط في الدنيا فهو الامام المفترض الطاعة؛ من عرفه في الدنيا و اقتدى بهداه مرّ على الصراط الّذي هو جسر جهنّم في الآخرة. و من لم يعرفه في الدنيا زلّت قدمه عن الصراط في الآخرة، فتردى في نار جهنم.»(2)

و عنه عليه السّلام أنّ:

«الصراط أمير المؤمنين عليه السّلام.»(3)

و في أخرى أنّه:

«معرفة الامام عليه السّلام.»(4)

و في أخرى:

ص: 318


1- راجع المآخذ المذكورة في تعليقة 2 ص 316.
2- المعاني، باب معنى الصراط، ص 32، ح 1، عن المفضّل بن عمر، عنه - عليه السلام -؛ و الصافي، ج 1، ص 54؛ و البحار، ج 8، باب الصراط، ص 66، ح 3.
3- المعاني، باب معنى الصراط، ص 32، ح 2، عن عبيد اللّه الحلبي، عنه - عليه السلام -؛ و الصافي، ج 1، ص 54؛ و نور الثقلين، ج 1، ص 21؛ و رواه أيضا العياشي (ره) في تفسيره، ج 1، ص 24، ح 25، عن داود بن فرقد، عنه - عليه السلام -.
4- القمي، ج 1، ص 28، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه - عليه السلام -؛ و الصافي، ج 1 ص 54؛ و نور الثقلين، ج 1، ص 21.

«نحن اَلصِّرٰاطَ الْمُسْتَقِيمَ .»(1)

و روى القميّ باسناد معتبر عن الصادق عليه السّلام في قوله: «اَلصِّرٰاطَ الْمُسْتَقِيمَ »قال:

«هو أمير المؤمنين عليه السّلام و معرفته، و الدليل على أنّه أمير المؤمنين عليه السّلام قوله: «وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتٰابِ لَدَيْنٰا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ » (2) ،و هو أمير المؤمنين في أمّ الكتاب في قوله: «اَلصِّرٰاطَ الْمُسْتَقِيمَ.» (3)

ثمّ روى باسناده عن حفص أنّه قال:

«وصف أبو عبد اللّه عليه السّلام الصراط، فقال: ألف سنة صعود، و ألف سنة هبوط، و ألف سنة حدال.»(4)

و باسناده عن سعدان بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«سألته عن الصراط، فقال: هو أدقّ من الشعر، و أحدّ من السيف، فمنهم من يمرّ عليه مثل البرق، و منهم من يمرّ عليه مثل عدو الفرس، و منهم من يمرّ عليه ماشيا، و منهم من

ص: 319


1- المعاني، باب معنى الصراط، ص 35، ح 5، عن ثابت الثمالي، عن علي ابن الحسين - عليهما السلام -؛ و الصافي، ج 1، ص 54؛ و نور الثقلين، ج 1، ص 22.
2- الزخرف/ 4.
3- القمي، ج 1، ص 28، عن حماد، عنه - عليه السلام -؛ و رواه أيضا الصدوق (ره) بهذا الاسناد في المعاني، باب معنى الصراط ص 32، ح 3؛ و نور الثقلين، ج 1، ص 21؛ و أورده أيضا السيد هاشم البحراني (رض) مع الاحاديث المتقدمة في هذه الآية في معالم الزلفى، الباب الثاني و الثلاثون من الجملة الاولى، ص 26 و 27.
4- الحدال بضم الحاء المهملة: الاملس كما في القاموس و في المخطوطة: «خذال»، و في نور الثقلين: «حذال». و الحديث: نفس المصادر غير المعاني؛ و هكذا أورده محمد ابن على بن إبراهيم في كتاب «العلل» كما في البحار، ج 85، باب القراءة و آدابها من كتاب الصلاة، ص 52، ح 43.

يمرّ عليه حبوا، و منهم من يمرّ عليه متعلّقا، فتأخذ النار منه شيئا و تترك منه شيئا.»(1)

و في رواية أخرى: «أنّه مظلم يسعى الناس عليه على قدر أنوارهم.»

أقول:

و تحقيق الكلام في الصراط بحيث يجتمع به هذه الاخبار يقتضي بسطا ما في الكلام لا بأس بايراده هنا؛ لأنّه من المهمّات، و يتفرّع عليه كثير من المطالب، فنقول - و باللّه التوفيق، و منه الاستعانة إلى سواء الطريق -:

إن لكلّ من أمثال هذه الكلمة معنى ظاهريّا و حقيقة بمنزلة الصورة و المعنى، و كلاهما حقّ صحيح.

[الصّراط في الدّنيا هو الدّين]

أمّا المعنى الظاهري للصراط، فهو أنّ لكلّ مقصد من مقاصد الانسان وسائل و مقدّمات لا يصل إليه إلا بها، و يعبّر عنها بالطريق و ما يرادفه لها، فيقال:

طريق تحصيل الغنى هو التجارة، و طريق حصول الصحّة للمريض شرب الدواء، و طريق قرب السلطان خدمته، و وجه المناسبة واضح، فانّ الانسان كما لا يصل إلى المكان الذي قصده إلا بطيّ طريقه و مسافته، كذلك لا يصل إلى تلك المقاصد إلا بطيّ تلك الوسائل و المقدّمات، فهي واسطة بين الانسان و مقصوده، و كلّ جزء من أجزاء هذه الواسطة حصل قرب حصول المقصود له، كما يقرب الغاية المكانيّة بطيّ جزء المسافة.

و حينئذ فنقول: لا شكّ أنّ الوصول إلى نعيم البرزخ و الآخرة بأقسامها

ص: 320


1- راجع المصادر المذكورة في تعليقة 3 ص 319؛ و أيضا رواه الصدوق (ره) في الامالي، المجلس الثالث و الثلاثون، ح 4.

و أنواعها موقوفة على معارف و إخلاق و أعمال هي الموصلة إليها، و يعبّر عن مجموعها بالدين و الشريعة؛ كما قال صلّى اللّه عليه و آله:

«ما من شيء يقرّبكم إلى الجنّة و يباعدكم من النار إلا و قد أمرتكم به، و ما من شيء يقرّبكم إلى النار و يباعدكم من الجنّة إلا و قد نهيتكم عنه.»(1)

على ما يخطر ببالي من ألفاظ الحديث. أو قريبا من ذلك.

و حينئذ فصراط نعيم الآخرة و صراط الذين أنعم اللّه عليهم هو الدين و العبادة؛ «وَ أَنِ اعْبُدُونِي هٰذٰا صِرٰاطٌ مُسْتَقِيمٌ.» (2)

و وصفه بالاستقامة إمّا باعتبار التوسّط و ترك الافراط و التفريط فيه، و إمّا باعتبار كون سلوكه كسلوك الطريق المستقيم في سرعة الوصول إلى المقصود و قربه، إذ بين كلّ مكانين خط مستقيم واحد هو أقصر الخطوط المتصوّرة، و خطوط معوّجة هي أطول منه على حسب بعده من الاستقامة و قربه إليها، و سالك المستقيم أسرع وصولا من سالك كلّ منها، و كذلك بين الانسان و الوصول إلى المقصد طريقة هي أقرب الطرق إليه فهو المستقيم، و طرق بعيدة لعدم تمحّضها من المقرب، بل هو بين تقريب و تبعيد، كما أنّ الطريق المنحرف مشتمل على توجّه نحو المقصود و انحراف عنه، و كأنّه مركّب من المستقيم و غيره و بقدر ما فيه من المستقيم يوصل إلى المقصود. و حينئذ فسالك طريق العبوديّة و الطاعة المحضة هو السالك للصراط المستقيم، و الآخرون الّذين خلطوا بينه و بين غيره سالكون طرقا منحرفة، لكن

ص: 321


1- أورده ابن شعبة الحرّاني (رض) فى تحف العقول، فى جملة مواعظه - صلى اللّه عليه و آله -، ص 28، لفظه هو: «انه و اللّه ما من عمل يقربكم من النار الا و قد نبأتكم به و نهيتكم عنه، و ما من عمل يقربكم من الجنة الا و قد نبأتكم به و أمرتكم به.»
2- يس/ 61.

بقدر ما فيه من الطريق المستقيم يقربون إلى المقصود. فان كان غالبا أدّاه بالآخرة إلى المطلوب، و إلا فهالك أو مرجي لأمر اللّه، إمّا يعذّبهم، و إمّا يتوب عليهم(1).

ثمّ إنّك إذا مثّلت الاعمال القلبيّة و الجوارحيّة الصادرة من عباد اللّه مدّة أعمارهم في نفسك مع دخولهم الجنّة بعد وفاتهم، رأيت تلك الامور الاختياريّة كأنّها طيّ مسافة كانت واقعة بين هؤلاء و الجنّة، فلمّا سلكوها و قطعوها وصلوا إلى مقصودهم، كما أنّ أعمال الكفّار و الفجّار طريق لهم إلى النار كذلك، فلمّا قطعوه وقعوا فيها. فهذا صراط المغضوب عليهم و الضالّين، و هو صراط الّذين أنعمت عليهم و صراط العبوديّة و العبادة.

[الصّراط في الآخرة هو جسر معهود و بيان ارتباطه مع صراط الدّنيا]

هذا كلّه في المعنى الظاهريّ في عالم الدنيا، و أمّا في عالم الآخرة، فهو جسر ممدود على متن جهنّم لا بدّ في الوصول إلى الجنّة من المرور عليها على ما ورد في الشرع من صفاتها و ما يتعلّق بها. و الاعتبار يقتضي أن يكون سلوك ذلك الصراط مطابقا لسلوك الصراط المتقدّم في دار الدنيا، فهو يمرّ غدا على ذلك الصراط على نحو ما يسلكه اليوم، إلا أن يتدارك حاله برحمة خاصّة يغيّر حاله.

و هو أدقّ من الشعر و أحدّ من السيف، كما أنّ لكلّ شأن من شئون العبوديّة حدّا و معيارا يكون الخروج منه غلوّا أو تقصيرا خارجا عن الاستقامة.

ففي مقام المعرفة تنتهي الدقّة إلى حدّ لا يوصف خصوصا في معرفة الحقّ، فقلّ ما يكون معرفته مطابقة لما عليه الواقع من جميع الوجوه؛ و في مقام الاخلاق حدّه التوسّط بين الافراط و التفريط و العدالة؛ و في مقام العمل الاتيان بالاعمال مستجمعا لجميع الحدود و الشرائط الظاهريّة و الباطنيّة للصحّة و الكمال و القبول

ص: 322


1- كما يشهد له قوله تعالى في آية 106 من سورة التوبة و هي: «وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّٰهِ إِمّٰا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمّٰا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ.»

و يختلف الناس في المرور عليه، كما يختلفون في القيام بوظائف الدين اليوم.

و هو مظلم يسعى الناس فيه على قدر أنوارهم، كما أنّ أمر الدين في الدنيا كان مشتبها مظلما، و لا يعمل أحد إلا بمقدار نور إيمانه و معرفته.

[الأئمّة - عليهم السّلام - هم الصّراط و معرفتهم معرفته]

ثمّ إنّ للدّين أصولا و فروعا و أخلاقا و أعمالا لو كان شخصا حسيّا و قالبا مرئيّا لكان أمير المؤمنين و الائمّة عليهم السّلام؛ لأنّهم عليهم السّلام في كلّ مقام منه كلّه قد استجمعوا جميع أنحائه، ففي مقام الايمان و المعرفة هم كلّ الايمان و المعرفة، و في مقام كلّ خلق حسن هم الكاملون فيه، بحيث لا يخرج عن صفاتهم شيء من ذلك الخلق، بل كلّ ما كان زائدا على ما وجد فيهم فهو خارج عن العدالة، و ليس جزء من الدين، و كذلك في مقام الاعمال، فعملهم هو العمل المطلوب في الدين. و لو لم يكونوا كذلك لم يؤمر بالاقتداء بهم، و الاخذ بسنّتهم، و التأسّي بهم.

فاذا كان الدين صراطا في الدنيا كان حقيقته و صورته الخارجيّة صراطا من عرفه و اقتدى بهداه نجى؛ لأنّ معرفته على هذا الوجه و الاقتداء به هو الدين، و لا يعرف الدين إلا من جهتها، فالامام صراط باعتبار كونه صورة الدين و حقيقته الخارجيّة، و معرفته صراط؛ لان معرفته كذلك معرفة الدين، و معرفة الدين هو الصراط، و العمل به سلوك الصراط، و هو الاقتداء بهم و الاستنان بسنّتهم و الاخذ بطريقتهم في كلّ مقام؛ إذ كلّ شأن من شئونهم داخل في الدين، و ليس للدين شأن خارج عن شئونهم، فهم أرباب الدين بقول مطلق.

ثمّ إنّ للانسان سيرا معنويّا إلى اللّه سبحانه يعبّر عنه بالسلوك إلى الحقّ، يوصل الانسان إلى مقام الحقيقة، و هو مشتمل على طيّ مسافة و منازل معنويّة

ص: 323

حتّى يصل العبد إلى مقصوده. و ربّما يظهر لسالكه هذا الطريق في خلسة أو رؤيا، فيراه على ما هو عليه من الصورة، و يرى نفسه سالكا فيه، و هو صراط مستقيم إلى معرفة اللّه سبحانه، و مشتمل على عبادات جسمانيّة و روحانيّة، و تقوى ظاهريّة و باطنيّة، و تحصيل حقيقة الاقتداء بالامام عليه السّلام حالا و عملا و علما، و تشبّه به عليه السّلام، و به يظهر معرفة الامام؛ إذ من لم يكن عنده حظّ ما من شيء لا يعرف حال من له الحظّ الاوفر منه، فمن لم يذق شيئا لم يدر ما حال الذائقين. فكلّ مقام ليس للعبد فيه نصيب فهو محروم من معرفة أهله من هذه الصفة، على أنّ معرفة الائمّة عليهم السّلام على نحو حقّ اليقين موقوف على حصول الارتباط المعنويّ بهم، و ظهور مقامات ولايتهم الباطنيّة على النفس المتّصلة بهم، حتّى يكون تصديقه بامامتهم عن عيان، لا عن خبر و سماع.

و لعلّه إليه يشير ما ورد في صفات الشيعة و حصر الشيعة فيمن اتّصف بصفات على ما ذكره المحدّثون في أخبار كثيرة، فراجع(1).

[للعلوم و العقل مدخليّة في السّير إلى اللّه]

ثمّ إنّ للعلوم و الادراكات جوهرة نورانيّة، و للجهل المركّب و الكفر و الشرك جوهرة ظلمانيّة في عالم وراء هذا العالم، و للأخلاق الحسنة و السيّئة تشكّلات بهيّة و قبيحة، و للاعمال الحسنة و السيّئة تجسّمات حسنة و قبيحة، فتصير العلوم و المعارف و الاخلاق و الاعمال جواهر مجرّدات عن المادّة العنصريّة في غيب هذا العالم، إمّا في طرف علّيّين الّذي يشهده المقربون فيصعد بصاحبه إلى ذلك العالم، و إمّا في طرف سجّين الذي يقابله فيهبط به إليه، كما كان كلّيّات هذه

ص: 324


1- راجع كتاب «صفات الشيعة» للصدوق (رض)، و قد جمع فيه أحاديث كثيرة فى هذا المعنى.

الامور الثلاثة جواهر قبل ظهورها في هذا العالم. فكلّ خير منها بمنزلة خطوة يقرّب الانسان إلى علّيّين، فهو سلوك صراط مستقيم، و كلّ شرّ منها بمنزلة قدم يقرّب إلى أسفل السافلين، فهو سلوك بالنسبة إليه، بل هاهنا سماوات سبعة و أرضين سبعة، لكلّ منها سكّان و اقتضائات و أهل، و كلّ إنسان بحسب مقام باطنه ساكن في واحد منها إن كان واقفا، و مقيم فيه مسافر إلى غيره إن كان متبدّلا، فالانسان و إن كان ببدنه في الدنيا لكنّه بباطنه في أحد تلك الاماكن فسالك السماء و ما فوقها سالك الصراط المستقيم.

ثمّ إنّ للعقل الكلّيّ المجرّد جنودا من الملكات و الاعمال و العلوم في عالم المجرّدات، و للجهل الكلّي البسيط الظلماني جنودا كلّيّة تقابل تلك الجنود على تفصيل مذكور في الاخبار (1).و هي بمنزلة الاصل بالنسبة إلى ما يظهر فينا منها.

و العقل نازل عند العرش في مقام القرب إلى اللّه سبحانه، و الجهل ساكن في مقابله، فبقدر ظهور كلّ من الجندين في الانسان يقرب الانسان من منزل سلطانه و مأواه، فهو سلوك صراط بالنسبة إليه.

ثمّ إنّ للانسان كان مقاما خاطبه ربّه ب «أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ »،فقال: بلى(2).

ثمّ نزل بعد ذلك حتّى وصل إلى هذا العالم المشحون بأسباب الغفلة و البعد عن الحضور عند المعبود. و له عروج عنها يصل به إلى ذلك المقام الّذي كان له أوّلا.

و لعلّ إليه يشير ما ورد من أنّ: «الصلاة معراج المؤمن.»(3)

ص: 325


1- كرواية رواها الكليني (ره) في الكافي، ج 1، كتاب العقل و الجهل، ص 20، ح 14؛ و الصدوق (ره) في الخصال و العلل، و البرقي (ره) في المحاسن كما في البحار، ج 1، باب علامات العقل و جنوده، ص 109، ح 7. و كلهم رووها عن سماعة بن مهران، عن أبي عبد اللّه - عليه السلام -.
2- ناظر إلى قوله تعالى: «... وَ أَشْهَدَهُمْ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قٰالُوا بَلىٰ شَهِدْنٰا...» (الاعراف/ 172).
3- حديث نبويّ مشهور.

فهو سلوك صراط مستقيم يوصله إلى ربّه، كما كان واصلا قبل ذلك، حتّى يقابل القوس الصعودي القوس النزولي. و لعلّ إليه الاشارة بقوله تعالى:

«لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسٰانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنٰاهُ أَسْفَلَ سٰافِلِينَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا - الخ.»(1)

فتدبّر و تأمّل.

[طلب الهداية من أهمّ أفراد الاستعانة]

ثمّ إنّ العبد لمّا كان في كلّ حركة و سكون و كلام و سكوت و حال من أحواله ينقسم إلى أقسام ثلاثة: مقرّب له إلى ربّه، و إلى رضوانه و كرامته، و إلى مقام أوليائه عنده، و إلى إفاضاته المعنويّة و البركات الباطنيّة، و إلى ثوابه و نعمته في البرزخ و القيامة الكبرى و الجنّة؛ و مبعد له عنه سبحانه، و عن رضوانه، و عن مقام أوليائه، و عن الكرامة و النعيم؛ مقرب له عن الهوان و الغضب، و عن مواطن أعدائه من شياطين الانس و الجنّ، و إلى الشقاوة المعنويّة و الزجر المعنويّ و العقاب في البرزخ و القيامة و النار، و متوسّط لا خير فيه و لا شرّ، و كان الامر ملتبسا في هذه الدار الظلمانيّة البعيدة عن عالم النور، مع شدّة الحاجة إلى معرفة ذلك في جميع أنحائه و شئونه و تنقّلاته و اجتماعاته و افتراقاته و أفكاره و أنظاره و لحظاته، كان أهمّ الامور بعد الالتزام بالعبوديّة و الاستعانة بالحقّ بعنوان مطلق طلب الهداية إلى صراط الحقّ المؤدّي للانسان إلى نيل كلّ مطلوب؛ كما يشير إليه لفظ «أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» بقول مطلق. و كان هذا من أعظم أفراد الاستعانة المطلقة، كما أنّ الاستعانة الحقيقيّة من معظم أقسام العبوديّة و العبادة، و به يظهر ارتباط هذه الآية بما قبلها؛ مع أنّ بعد الحضور بين يدي السلطان المطلق و عرض العبوديّة له و تخصيص الاستعانة به، الدالّ على العجز و النقص ناسب عرض الحاجة المهمّة

ص: 326


1- التين/ 4-6.

الّتي لا أهمّ منها للعبد، و هو طلب الهداية.

[أنحاء سلوك الصّراط في يوم القيامة]

و لهداية اللّه سبحانه عبده و استجابته هذا الدعاء أنحاء، أظهرها في هذا العالم، و سببه العادي الشائع هو الهداية بتوسّط هاد من جنسه، و هو النبيّ و الامام بعد تعريف العبد إيّاه؛ إذ هو الواسطة بين الحقّ في مقام الهداية، و المبيّن للحقّ بكلامه و علمه و خلقه و عمله، و كلّ من كان علمه به أكثر كان أعلم بالحقّ؛ إذ هو مع الحقّ و الحقّ معه، فمعرفته معرفة الصراط، و هو الصراط، حيث انّ المقتدي به في الجنّة و تاركه المعاند له في النار. فمن كان ثابتا معه نجى، كالثابت على الصراط، و المتخلّف عنه هالك، كالّذي زلّ عن الصراط. و الثابت معه في طريقته إمّا ثابت باستقامة و قوّة بلا كلفة، فهو مارّ على الصراط راكبا أو كالبرق؛ و إمّا مع كلفة يسيرة فهو كالماشي على الصراط؛ و إمّا مع تكلّف شديد بلا قوّة فهو كمن يمرّ حبوا؛ و منهم: من يثبت تارة و ينحرف أخرى، أو من جهة دون جهة، فهو كمن يمرّ عليه متعلّقا فتأخذ النار منه شيئا و تترك شيئا.

و ليس الغرض الاصليّ من معرفة الامام معرفة شكله و أوصافه البشريّة؛ إذ الكفّار و الفجّار المشاهدون له يعرفون ذلك كلّه، و لا يعرف شيئا منها الموالي له الغائب عن خدمته، بل معرفة إمامته و ما يتعلّق بامامته، و هو حقيقة مصداق الدين و الصراط المستقيم، فالمقتدي به هو السالك للصراط المستقيم.

و على هذا فيتّحد طلب الهداية إلى الصراط و طلب معرفة أمير المؤمنين عليه السّلام على الوجه المتقدّم، فهو مذكور في أمّ الكتاب على ما مرّ. و لعلّ وصفه حينئذ بالعلوّ لوصوله إلى المقصود و تكميله السير على الصراط، و لإتقانه العلم و العمل و هما الجزءان للصراط، أو لسلوكه على ما مرّ.

ص: 327

و يمكن أخذ الاسم الاوّل علما في هذا النحو من التأويل، و الحكم خبر مبتدأ هو ضمير له، و يكون الغرض الاخبار عن حكمته و صلاحيّته للامامة العامّة، و التعبير ب «لدينا» إشارة إلى نهاية قربه من اللّه سبحانه، أو ثبوت كونه كذلك عند الحقّ مصونا عن التغيير و التبدّل.

[معرفة الامام هي معرفة اللّه و معرفة النّبيّ و الدّين و العبوديّة و الرّبوبيّة]

ثمّ إنّ الّذي يظهر من التأمّل في صفة الامام أنّه مظهر للحقّ بآيتيّته له، و ظهور أسمائه سبحانه فيه، و صيرورته عين المعرفة بالحقّ، فمعرفته معرفة الحقّ، و هو الطريق إلى معرفة اللّه سبحانه بفنائه عن نفسه و بقائه بربّه، و فناء صفات نفسه و ظهور انعكاس صفات الحقّ فيه، و فنائه عن إراداته و تبعيّته المطلقة لارادة ربّه بظهور إرادة اللّه سبحانه فيه، و فنائه عن أفعاله و ظهور أفعال الحقّ فيه، فهو مرآة لمعرفة اللّه بعنوان مطلق و لمعرفة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله؛ لأنّه مماثل له نائب عنه و خليفة له، قائم مقامه في جميع الشئون سوى خصائص النبيّ.

و هو مظهر صفة العدل، لكونه عادلا في شئون نفسه و في شئون العباد كلّها، و هو حاك عن المعاد بجامعيّته حيث إنّ الّذي يظهر من صفة المعاد هو الجمع بين العوالم المتضادّة، و توافق العوالم و ظهور البعض في الآخر، و هذا ظاهر صفة الامام.

و باستشرافه على عالم الآخرة فالعارف بالامام هو العارف بأصول الدين على التفصيل.

ثمّ إنّه مع ذلك عبد مطلق ظهر فيه العبوديّة بكمالها و تحقّق فيه، فمعرفته معرفة العبوديّة، كما أنّها معرفة الربوبيّة، و متابعته خلقا و إرادة و عملا هو العبوديّة و العبادة، فهو في صورة الصراط و حقيقته في الخارج.

ص: 328

ثمّ إنّ هاهنا لحاظا آخر، و هو لحاظ أنّه إن ذكر الخير كانوا أوّله و أصله و فرعه و معدنه و مأواه و منتهاه، و الصراط المستقيم صراط اكتساب بالخيرات إلى أن يصل إلى المقصود، فهم عليهم السّلام أصل الصراط المشتمل على جميع ما يقرّب العبد إلى اللّه سبحانه بهذا الاعتبار، و يحصل في غيرهم رشحات منه بقدر مرتبة تشيّعهم، كما أنّهم الاصل للطينة الطيّبة الّتي هي أصل الخيرات، و طين المؤمنين تبع في الخيريّة لطينتهم عليهم السّلام.

و ربّما يرشد إلى ما ذكرنا أنّ فواتح السور بعد حذف المكرّرات يتركّب منها جملة: «عليّ صراط حقّ نمسكه.»(1)

ثمّ إنّ هداية الحقّ سبحانه لا تنحصر في الهداية الظاهريّة الّتي يحصل بتعلّم العلم صورة من النبي صلّى اللّه عليه و آله و الائمّة عليهم السّلام بالمشافهة، أو بمطالعة أخبارهم الحاكية عمّا صدر عنهم من قول أو عمل، أو بالاخذ عن تعلّم منهم عليهم السّلام، و إن كان هو الطريق الظاهر العامّ العاديّ و كونهم مظاهر لاسم الهادي، بل هاهنا هداية من طرف العقل الذي هو حجّة داخليّ ابتداء، أو بملاحظة آيات الآفاق و الانفس و هداية من طرف إلقاء الملك الموكّل بالقلب و روح الايمان، و هداية من طرف ما يجري اللّه سبحانه على ألسن العباد من الحكم، و هداية من طرف اتصال النفس المتصف بصفات التشيّع بالامام عليه السّلام فيستمدّ منه، و هداية من طرف صحّة الحواسّ الباطنيّة المدركة لأمور غائبة عن مشاعر هذا العالم، و هداية بالنور الّذي يقذف في القلب، كما ورد في الحديث على ما ببالي:

«ليس العلم بكثرة التعلّم، بل هو نور يقذفه اللّه تعالى في قلب من يريد أن يهديه.»(2)

ص: 329


1- و قد أشار إليه الفيض (ره) في الصافي، ج 1، ص 58.
2- هذا كلام الامام الصادق - عليه السلام - في حديث عنوان البصري حيث قال عليه السلام: «ليس العلم بكثرة التعلم، انما هو نور يقع في قلب من يريد اللّه تبارك و تعالى أن يهديه.» أورده الشهيد الثاني - رفع اللّه درجاته - في منية المريد، الباب الاول، ص 38؛ و قد علمت موضعه في الكشكول و البحار في تعليقة 2 ص 329.

و الظاهر تبعيّته في كلّ ذلك للامام، كما كان تبعا في الهداية السابقة، فلا تغفل.

[أنحاء الهداية على ما ذكرها الشّيخ البهائيّ (ره)]

و قال شيخنا البهائي - قدّس اللّه نفسه -:

«و اعلم! أنّ أصناف هدايته جلّ شأنه و إن كانت ممّا لا يحصر مقداره و لا يقدّر انحصاره إلا أنّها على أربعة أنحاء:

أولها: الهداية إلى جلب المنافع و دفع المضارّ، باضافة المشاعر الظاهرة و المدارك الباطنة و القوّة العاقلة، و إليه يشير قوله تعالى: «أَعْطىٰ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىٰ » .(1)

و ثانيها: نصب الدلائل العقليّة الفارقة بين الحقّ و الباطل، و الصلاح و الفساد، و إليه يشير قوله عزّ و علا: «وَ هَدَيْنٰاهُ النَّجْدَيْنِ.» (2)

و ثالثها: الهداية بارسال الرسل و إنزال الكتب، و إليه يومي قوله تعالى:

«وَ أَمّٰا ثَمُودُ فَهَدَيْنٰاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمىٰ عَلَى الْهُدىٰ.» (3)

و رابعها: الهداية إلى طريق السير إلى حضائر القدس، و السلوك إلى مقامات الانس بانطماس آثار التعلّقات البدنية، و اندراس أكدار الجلابيب الجسميّة، و الاستغراق في ملاحظة أسرار الكمال، و مطالعة أنوار الجمال. و هذا النوع من

ص: 330


1- طه/ 50.
2- البلد/ 10.
3- فصلت/ 17.

الهداية يختصّ به الاولياء و من يحذو حذوهم - ثمّ قال: -

فاذا تلا هذه الآية أصحاب المرتبة الثالثة أرادوا بالهداية المرتبة الرابعة، و إذا تلاها أصحاب المرتبة الرابعة أرادوا الثبات على ما هم عليه من الهدى، كما روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام(1) من تفسير «اهدنا» ب «ثبّتنا»، أو زيادته.»(2)

ص: 331


1- نقله أيضا الطبرسي (ره) في جوامع الجامع، ص 4.
2- العروة الوثقى (المخطوط).

[تحقيق حول النعمة و المنعم عليهم و المغضوب] [عليهم و الضالين]

صِرٰاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ

عن المعاني و تفسير الامام عليه السّلام، عن أمير المؤمنين عليه السّلام:

«أي: قولوا: اهدنا صراط الّذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك و طاعتك، لا بالمال و الصحّة، فانّهم قد يكونون كفّارا أو فسّاقا. قال (1):و هم الّذين قال اللّه تعالى:

وَ مَنْ يُطِعِ اللّٰهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّٰهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَدٰاءِ وَ الصّٰالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولٰئِكَ رَفِيقاً.» (2)

[الوسائط في إيصال النّعمة ليسوا منعمين]

أقول: حدّ النعمة بأنّها المنفعة المفعولة على جهة الاحسان إلى الغير، فلو قصد الفاعل منفعة نفسه أوّلا لا على جهة الاحسان إلى الغير لم يكن نعمة، فلا يستحقّ الشكر، و قد نبّهنا سابقا على التوحيد في اسم المنعم، و أنّ ما بنا من

ص: 332


1- من قوله: «لا بالمال» إني هنا في الصافي فقط.
2- المعاني، باب معنى الصراط، ص 36، ح 9؛ و تفسير الامام - عليه السلام -، ص 17؛ و الصافي، ج 1، ص 55؛ و البحار، ج 92، باب فضائل سورة الفاتحة و تفسيرها ص 255، ح 48.

نعمة فمن اللّه (1) ،و كلّ نعمة وصلت إلينا بتوسّط أحد من المخلوقين، فخالقها و خالق الواسطة و جاعله واسطة فيه هو الحقّ، فمثال الواسطة مثال العبد الّذي سخّره مولاه و أمره بأن يوصل إلينا طعاما من أطعمته، فهو ليس بمنعم علينا أصلا، و لا يستحقّ الشكر؛ لأنّ الطعام و العبد و التسخير كلّها من المولى، و ليس العبد محسنا إلينا، و إنّما متسخّر لما سخّره مولاه. و كذلك لا يستحقّ الواسطة بيننا و بين النعم اسم المنعم و لا الشكر عليها، فانّه مسخّر تحت راعيه سخّرها مسبّب الاسباب ليوصل إليك ما قدّره لك، و لا يقصد بفعله ابتداء إلا نفع نفسه.

و حيث رأى منفعة نفسه في الانعام الصوري صيّر نفسه واسطة في وصول النعمة الّتي خلقها خالقها و هو باقية على ملك مالكها (2) ؛كالعبد في المثال المتقدّم، و كالبهيمة الّتي يحمل عليها النعم، مع أنّ البهائم مختارون في أفعالهم، فكما ليست منعمة بل واسطة فكذلك الانسان المتوسّط بينك و بين النعمة، بل و الملائكة الموكّلون باصلاح النعمة و ما يتعلّق بها أيضا ليسوا منعمين، و لا يستحقّون علينا شكرا، فانّهم عبيد مأمورون للحقّ بأمور لا يسعهم إلا الاتيان بها؛ كالعبد في المثال المتقدّم ليس غرضهم أوّلا و بالذات الاحسان إلينا لأجل أنفسنا، بل إطاعة أمر مولاهم؛ «لاٰ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ » .(3)

[بيان أصناف النّعمة]

ثمّ إنّ أصناف نعم اللّه سبحانه على عباده كثيرة غير محصورة، كما قال سبحانه:

«وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللّٰهِ لاٰ تُحْصُوهٰا » (4) .

ص: 333


1- إشارة إلى قوله تعالى: «وَ مٰا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللّٰهِ...» (النحل/ 53).
2- في المخطوطة: «مالكها إليك»، و يحتمل أن يكون «سالكها إليك»، فيصحّ المعنى حينئذ.
3- الانبياء/ 27.
4- إبراهيم/ 34؛ و النحل/ 18.

لكن ضبطها شيخنا البهائي في ثمانية أنواع؛ لأنّها إمّا دنيويّة أو أخرويّة، و كلّ منهما إمّا موهبيّ أو كسبيّ، و كلّ منهما إمّا روحانيّ أو جسمانيّ، ثمّ قال:

«و هذه تفصيلها: دنيوي موهبي، إمّا روحانيّ كافاضة العقل و الفهم، أو جسمانيّ كخلق الاعضاء. دنيوي كسبي، إمّا روحانيّ كتحلية النفس بالاخلاق الزكيّة، أو جسمانيّ كتزيين البدن بالهيئات المطبوعة. أخروى موهبي، إمّا روحانيّ كغفران ذنوبنا من غير سبق توبة، أو جسمانيّ كالانهار من اللّبن و العسل في الجنّة. أخروي كسبي، إمّا روحانيّ كغفران الذنوب بعد التوبة، أو جسمانيّ، كالملذّ ذات الجسمانيّة المستجلبة بفعل الطاعات.

قال: و المراد هنا الاربعة الاخيرة، و ما يكون وسيلة إلى نيلها من الاربعة الاول.»(1)

أقول:

و يندرج في تلك التوفيق للدين و الطاعة المذكورين في الرواية المتقدّمة، فانّهما أيضا موهبيّ تارة و كسبيّ بالدعاء و التضرّع و غيرهما أخرى، و هما نعمتان ابتداء و توصّلا بهما إلى جميع نعم الآخرة، و ليس من شرط النعمة أن يكون بنفسها منفعة، بل تعمّ المنفعة بنفسها و ما يوصل إليها لحصولها؛ كالدرهم و الدينار و العقار، فانّها ليست منافع بأنفسها، و إنّما هي موصلات إلى المنافع المقصودة لانفسها.

و حينئذ فيمكن أن يكون الغرض من الرواية أنّ المراد بالنعمة هي النعمة بالقياس إلى حال الآخرة، و يكون ذكر التوفيق للدين و الطاعة على وجه المثال، و ذلك لأنّ أصل النعمة هو ما يكون نعمة بالمآل لا في الحال مع انقطاعه عن المآل

ص: 334


1- العروة الوثقى، المخطوط.

أو ضرره فيه، فكأنّ ما سواها لا ينبغي أن يعدّ نعمة بقول مطلق و إن كان في أنظارنا معاشر أهل الدنيا بالعكس، حيث لا نعدّ لأنفسنا نعمة إلا في المأكل و المشرب و ما بحكمهما، إلا أنّه من جهة الخطاء في النظر المصداقي لا من حيث [هو] و إلا إذا تعمّقنا النظر في النعم الباطنيّة و الباقية و الاخرويّة علمنا أنّ هذه النعم الدنيويّة لا قدر لها عندها، و لا ينبغي أن يسمّى نعمة؛ أو ما سمعت ما روي عن الامام المطلق عليه السّلام من قوله:

«و اللّه ما دنياكم عندي إلا كسفر على منهل(1) حلّوا إذ صاح بهم سائقهم فارتحلوا، و لا لذاذتها في عيني إلا كحميم أشربه غسّاقا، و سمّ أفعاه أتجرّعه ذعاقا (2) ،و قلادة من نار أوهقها(3) خناقا »(4) ؟

على ما يخطر ببالي من ألفاظه. بل جعله كعراقة خنزير في يد مجذوم أو أهون منه.(5)

نعم، من حيث التوصّل بها إلى الآخرة هي نعم مقدّميّة لا نفسيّة، لكنّ الكافر محروم من هذه الحيثيّة و إن كان هو منشأ حرمانه بسوء اختياره. فتخصيص

ص: 335


1- المنهل: موضع شرب الماء على الطريق.
2- في الامالي و البحار: «دهاقا».
3- الوهق بفتحتين: حبل يلقى في عنق الشخص يؤخذ به و يوثق (المصباح).
4- رواه الصدوق (ره) في الامالي، المجلس التسعون، ح 7، عن المفضل بن عمر، عن الصادق، عن أبيه، عن جده، عن أبيه - عليهم السلام -، عنه - عليه السلام -؛ و نقله المجلسي (ره) في البحار، ج 77، باب مواعظ أمير المؤمنين - عليه السلام - و خطبه، ص 392، ح 13.
5- راجع نهج البلاغة، ح 236، ص 510. و أصل كلامه - عليه السلام - هو: «و اللّه لدنياكم هذه أهون في عيني من عراق خنزير في يد مجذوم.»

الانعام هنا بالانعام الحقيقيّ ليس بعيدا عن لفظ الآية في الواقع و إن ظننّاه بعيدا لخطائنا في المصداق.

و يمكن أن يراد من الرواية حصر النعمة في الآية بما ذكر، و له أيضا وجه حيث إنّ قرينة ذكر «اَلصِّرٰاطَ الْمُسْتَقِيمَ» قبل هذا الّذي هو صراط الدين و الطاعة بناء على ما سبق يقوّي احتمال إرادة ذلك بخصوصه من الانعام.

و لعلّ في إبقاء اللّفظ حينئذ مطلقا بناء على هذا إشارة إلى أنّ ذلك موصل إلى كلّ النعم و بمنزلة الاصل لجميع النعم، و هو كذلك عند الخبير. و كلا الوجهان آتيان في قوله تعالى: «وَ مَنْ يُطِعِ اللّٰهَ وَ الرَّسُولَ - الخ »(1).

و يحتمل فيهما وجه ثالث، و هو إرادة المنعم عليهم بعموم النعم، الّذين يصدق عليهم ذلك بقول مطلق، فالكفّار و إن شاركوهم في القليل، لكنّهم محرومون عن العموم. و أمّا إبقاء الانعام في الآية على إطلاقه و إخراج الكفّار و نحوهم عنه بقوله: «غَيْرِ الْمَغْضُوبِ - الخ» كما ربّما يظهر من بعضهم فبعيد بالنظر القاصر.

غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ الضّٰالِّينَ

في ذيل الرواية المتقدّمة أنّه قال في «اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ » :

«هم اليهود الّذين قال اللّه فيهم: مَنْ لَعَنَهُ اللّٰهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ (2)».

و في الضالّين قال:

«هم النصارى، الّذين قال اللّه فيهم: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً » (3).

ص: 336


1- قد مرّ آنفا.
2- المائدة/ 60.
3- الآية: المائدة/ 77؛ و الحديث في تفسير الامام - عليه السلام -، ص 18؛ و الصافي، ج 1، ص 55؛ و البحار، ج 92، باب فضائل سورة الفاتحة و تفسيرها، ص 256، ح 48.

و زاد في تفسير الامام عليه السّلام:

«ثمّ قال أمير المؤمنين عليه السّلام: كلّ من كفر باللّه فهو مغضوب عليه، و ضالّ عن سبيل اللّه.»

و عن المعاني، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

«اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ شيعة عليّ عليه السّلام؛ يعني: أنعمت عليهم بولاية عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، لم تغضب عليهم، و لم يضلّوا.»(1)

و عن الصادق عليه السّلام:

«يعني: محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و ذرّيّته - صلوات اللّه عليهم -.»(2)

و الظاهر التعميم له صلّى اللّه عليه و آله، و ذرّيّته الائمّة - صلوات اللّه عليهم -، و شيعة أمير المؤمنين، الّذين شايعوه و سائر النبيّين و الصدّيقين، كما يدلّ ظاهر اللّفظ و الرواية السابقة، و يوافقه الآية الاخرى المتقدّمة.

و في الكافي في الصحيح عن معاوية بن وهب قال:

«قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أقول آمين إذا قال الامام:

«غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ الضّٰالِّينَ » ؟

قال: هم اليهود و النصارى. و لم يجب في هذا.»(3)

ص: 337


1- المعاني، باب معنى الصراط، ص 36؛ و الصافي، ج 1، ص 55؛ و نور الثقلين، ج 1، ص 23.
2- نفس المصادر.
3- لم نظفر عليه في الكافي، و لعله لا يكون فيه، و قد يدل عليه بعض الشواهد؛ كعدم نقله عنه في كتب الجامعين و الشارحين، و قد نقله الفيض (ره) في الوافي عن التهذيب، و العروسي الحويزي (ره) في نور الثقلين عن الاستبصار، و الحر العاملي (ره) في الوسائل عنهما. و يحتمل أن المؤلف (قده) أخذه عن الوسائل، و خلط في اسناد هذا الحديث و ما قبله و استظهر أنه في الكافي، و اللّه العالم. فراجع التهذيب، ج 2، باب في كيفية الصلاة، ص 75، ح 46؛ و الاستبصار، ج 1، باب النهي عن قول «آمين» بعد الحمد، ص 319، ح 4؛ و الوسائل، ج 4، باب 17 من أبواب القراءة في الصلاة، ص 752، ح 2؛ و نور الثقلين، ج 1، ص 25، ح 111.

و روى القميّ على ما في النسخة بسند معتبر عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قرأ:

«اِهْدِنَا الصِّرٰاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرٰاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ * غير المغضوب عليهم و غير(1)

الضالين» قال:

«اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ :النصّاب، و اَلضّٰالِّينَ :اليهود و النصارى »(2).

و بسند معتبر آخر عنه عليه السّلام في قوله: «غير المغضوب عليهم و غير الضالين»

قال:

«المغضوب عليهم: النصّاب، و الضالّين: الشكّاك الّذين لا يعرفون الامام.»(3)

[في معنى الغضب و الضّلال]

أقول: أصل الغضب ثوران النفس لارادة الانتقام، و إذا أسند إلى الحقّ فهو باعتبار الغاية، كالرحمة، عندهم. و الظاهر عندنا تحقّق مبدإ الغاية في حقائق الاسماء المخلوقة.

ص: 338


1- في بعض نسخ القمي: «و لا الضالين».
2- القمي، ج 1، ص 29؛ و البحار، ج 92، باب فضائل سورة الفاتحة و تفسيرها ص 230؛ و نور الثقلين، ج 1، ص 24.
3- نفس المصادر، و هكذا رواه العياشي (ره) في تفسيره، ج 1، ص 24، ح 28؛ و نقله الفيض (ره) في الصافي، ج 1، ص 55.

و «الضلال» هو العدول عن الصراط السويّ و لو خطأ، و أصله على ما قيل الغيبوبة، ضلّ الماء في اللّبن إذا غاب فيه، و ضلّ الكافر غاب عنه؛ قال اللّه تعالى:

«أَ إِذٰا ضَلَلْنٰا فِي الْأَرْضِ.» (1)

فيدخل في «اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ» كلّ تفريط و تقصير موجب للغضب؛ إذا المفرط هو المعرض المدبر، فهو البعيد، كما فعلت اليهود بموسى و عيسى و محمّد - صلّى اللّه عليه و آله و عليهما -، و في «الضالّين» كلّ إفراط و غلوّ؛ إذ المفرط هو المجاوز الّذي غاب عنه المطلوب؛ كالنصارى بالنسبة إلى عيسى عليه السّلام؛ يدخل في صراط المنعم عليهم كلّ وسط و استقامة في عمل أو اعتقاد. كذا قيل(2).

و لعلّ الاولى أن يعدّ الجاحد للحقّ، و المعاند له، و العاصي له عن علم و ما بحكمه من المقصّر الّذي تهيّأ له أسباب الهداية و الرشاد، و أعرض عنه و عاند، و أمر على خلافه مغضوبا عليهم، و المريد للحقّ و الطاعة المقبل عليه الّذي أخطأه و اعتقد خلافه، أو بقي حيرانا ضالا، فانّ الضالّ مريد للمقصود و لكنّه أخطأ، و لو عرض له تقصير ما في طلب الهداية فالمتوجّه إلى الصراط المستقيم المخطئ عنه، و لو بسبب عدم بذل الجهد بكماله في تحصيل المقصود ضالّ عنه، و المدبر عنه دالّ لاستكبار أو عناد أو عصبيّة هو المغضوب عليهم بقرينة المقابلة، و لأنّهم المستكملون لاستحقاق الغضب.

و هذا هو الظاهر من حال اليهود، كما يظهر من تصفّح أحوالهم المذكورة في الآيات و الاخبار و الآثار. و الاوّل هو الظاهر من حال النصارى، كما أنّ الظاهر من حال النصّاب هو الثاني، و من الشكّاك الّذين لا يعرفون الامام هو الاوّل، فينطبق بما ذكر الروايات المذكورة كلّها سوى عدّ اليهود من الضالّين

ص: 339


1- السجدة/ 10.
2- الكلام للفيض (ره)، فراجع الصافي، ج 1، ص 56

في الرواية التالية للأخيرة.

و يمكن أن يكون ذلك باعتبار عدم قبولهم الولاية عن جهلهم بها، و إن كانوا معاندين في جحد النبوّة لكنّهم ضالّون عن الامامة؛ إذ من لم يدخل تحت الدين كيف يظهر له صحة الولاية، بل لعلّ كثيرا منهم لم يتصوروا الولاية نفيا و إثباتا لبعدهم عن الاصل. و يقرّب التقييد لسبق النصّاب، و به يجمع بينها و بين الرواية الاولى.

[علّة عدوله سبحانه عن إسناد الغضب إلى نفسه]

هذا، و لعلّ في عدوله سبحانه عن إسناد الغضب إلى نفسه جلّ شأنه مع التصريح باسناد مقابله و هو الانعام إليه سبحانه تشييدا لمعالم العفو و الرحمة، و تأسيسا لمباني الجود و الكرم، حتّى كأنّ الصادر عنه هو الانعام لا غير، مع أنّ قضيّة المقابلة أن يقول غير الّذين غضبت عليهم كجملة من المواضع الّتي جمع فيها الخير و الشرّ مع التفكيك بينهما.

و أيضا نسبة الخير إلى اللّه سبحانه ابتدائيّ؛ لأنّه مقصود لنفسه، و نسبة خلق الشرّ إليه باعتبار صدور سبب اقتضى خلقه و هو تبعيّ، فالموجب لوقوع الشرّ هو سوء حال العبد، و الموجب للخير هو صفات الربّ و عنايته و رحمته، كما ورد في دعاء التوجّه على ما ببالي:

«و الخير في يديك، و الشرّ ليس إليك »(1).

و لعلّك تعرف التفصيل في المواضع المناسبة - إن شاء اللّه تعالى -.

ص: 340


1- رواه الكليني (ره) في الكافي، ج 3، باب افتتاح الصلاة، ص 310، ح 7؛ و الشيخ (ره) في التهذيب، ج 2، باب كيفية الصلاة، ص 67، ح 12؛ و هكذا في الوسائل، ج 4، باب 8 من أبواب تكبيرة الاحرام، ص 723، ح 1.

[السّبب في اتباع الصّراط المستقيم بصراط الّذين أنعمت عليهم]

و لعلّ النكتة في اتباع الصراط المستقيم بصراط الّذين أنعمت عليه هي:

أنّ الصراط المستقيم لمّا كان أمرا معنويّا دقيقا لا يكاد يظهر في هذا العالم إلا باعتبار حال سالكيه المتحقّقين بحقائقه و اتّبع(1) بصراطهم، كما أنّ سائر السبل المنحرفة غير ظاهرة إلا في أصحابها، فناسب اتباع ذكر المنعم عليهم الّذين هم أهل الحقّ بالمغايرة للطائفتين الأخريين، الّذين هم سالكوا السبل المنحرفة حتّى يتّضح حال الصراط المطلوب و الطرق المبغوضة.

و لعلّ فيه إشارة إلى طلب الاقتداء بأئمّة الهداية و الهرب عن مخالفيهم، فيشتمل الآية على متابعة أوليائه، و مخالفة أعدائه، و تولّي أوليائه سبحانه، و التبرّي عن أعدائهم، و بهما يكمل الهداية المطلوبة؛ إذ لا يتمّ الايمان إلا بالتولّي و التبرّي.

و فيه أيضا تقوية للطلب الّذي هو روح الدعاء، فانّ العبد إذا لاحظ حال الاصناف الثلاثة مفصّلا قوي شوقه إلى دخوله في «المنعم عليهم» و خوفه من لحوقه بالآخرين، فيشتدّ في قلبه طلب الهداية المحصّلة للأوّل و خوف الفوات الموقع إيّاه في المحذور. و بذلك يتمّ حقيقة الدعاء، الّذي هو موجب للاجابة لما فيه من التصريح بفائدة الهداية، و غاية فواتها في حقّ أهلها.

ص: 341


1- كذا في المخطوطة، لكن الظاهر أن يكون: «التابعين» أو «المتبعين».

[في فضائل سورة الحمد]

بقي الكلام في نبذة ممّا ورد في فضيلة هذه السورة المباركة، و ما يتعلّق بها بعنوان كلّيّ.

[في أنّ سورة الحمد هي شفاء كلّ داء و علّة تكرارها]

فعن العيّاشي، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّ: «أمّ الكتاب أفضل سورة أنزلها اللّه في كتابه، و هي شفاء من كلّ داء إلا السام يعني: الموت.»(1)

و في الكافي عن الباقر عليه السّلام:

«من لم يبرأه الحمد لم يبرأه شيء.»(2)

و عن الصادق عليه السّلام باسناد معتبر:

«لو قرئت الحمد على ميّت سبعين مرّة، ثمّ ردّت فيه الروح

ص: 342


1- رواه العياشي (ره) في تفسيره، ج 1، ص 20، ح 9، عن إسماعيل بن أبان يرفعه إلى النبيّ - صلّى اللّه عليه و آله -، و فيه: أنه - صلّى اللّه عليه و آله - قال لجابر ابن عبد اللّه: «يا جابر، أ لا أعلمك أفضل سورة أنزلها اللّه في كتابه؟ - إلى أن قال: - هي شفاء من كل داء - الخ.» و هكذا في الصافى، ج 1، ص 56؛ و الوسائل، ج 4، باب 37 من أبواب قراءة القرآن، ص 874، ح 8.
2- الكافي، ج 2، باب فضل القرآن من كتاب فضل القرآن، ص 626، ح 22، عن سلمة بن محرز، عنه - عليه السلام -؛ و رواه أيضا العياشي (ره) في تفسيره، ج 1، ص 20، ح 10، بهذا الاسناد، عن الصادق - عليه السلام -؛ و هكذا في الصافي، ج 1 ص 56؛ و الوسائل، ج 4، باب 37 من أبواب قراءة القرآن، ص 874، ح 3.

ما كان عجبا.»(1)

و عن عبد اللّه بن الفضل النوفلي رفعه قال:

«ما قرئت الحمد(2) على وجع سبعين مرّة إلا أسكن.»(3)

و عن الحسين [بن] بسطام في «طبّ الائمّة» عن أحدهم عليهم السّلام قال:

«ما قرئت الحمد على وجع سبعين مرّة إلا سكن باذن اللّه، و إن شئتم فجرّبوا و لا تشكّوا.»(4)

و في الامالي باسناده عن الامام علي بن محمّد عن آبائه عليهم السّلام قال: قال الصادق عليه السّلام:

«من نالته علّة فليقرأ في جيبه الحمد سبع مرّات، فان ذهبت العلّة، و إلا فليقرأها سبعين مرّة، و أنا الضامن له العافية.»(5)

ص: 343


1- الكافي، ج 2، باب فضل القرآن من كتاب فضل القرآن، ص 623، ح 16، عن معاوية بن عمار، عنه - عليه السلام -؛ و الصافي، ج 1، ص 56؛ و الوسائل، ج 4، باب 37 من أبواب قراءة القرآن، ص 873، ح 1؛ و هكذا في مكارم الاخلاق و دعوات الراوندي كما في البحار، ج 92، باب فضائل سورة الفاتحة و تفسيرها، ص 257، ح 50.
2- في الوسائل «الفاتحة».
3- خ. ل: «سكن»، و الحديث في الكافي، ج 2، باب فضل القرآن، ص 623، ح 15؛ و الوسائل، ج 4، باب 37 من أبواب قراءة القرآن، ص 873، ح 2؛ و نور الثقلين، ج 1، ص 4.
4- كما في البحار، ج 92، باب فضائل سورة الفاتحة و تفسيرها، ص 235، ح 21؛ و الوسائل، ج 4، باب 37 من أبواب قراءة القرآن، ص 874، ح 6.
5- أمالى الشيخ (ره) ج 1، الجزء العاشر، ص 290؛ و الوسائل، ج 4، باب 37 من أبواب قراءة القرآن، ص 874، ح 7؛ و هكذا في دعوات الراوندي كما في البحار، ج 92، باب فضائل سورة الفاتحة و تفسيرها، ص 231، ح 13.

و لعلّ الوجه في كونه شفاء من الامراض ما ذكر فيه من أسماء اللّه سبحانه المحيطة بعالم الدنيا و الآخرة، مع الاستعانة باسمه سبحانه، و الحمد له، و حصر العبادة و الاستعانة به سبحانه، و طلبه الهداية إلى الصراط المستقيم، مع تذكّره لأهله الّذي هم أصل الخير و فرعه و معدنه من حيث كونهم منعما عليهم، و التحرّز عن صراط مخالفيهم الّذين هم أصل الشرّ و فرعه.

ففي ذكر أسماء اللّه سبحانه مع الاستعانة استمداد على المقصود، و فتح لمفاتح الغيب، و في الحمد الكامل استيجاب للمزيد من النعم، و قد كان قصد القارئ خصوص زيادة نعمة الشفاء على سائر النعم، فينبغي حصوله.

و حصر العبادة إقرار بالعبوديّة الّتي هي معدن الخيرات، و الاستعانة المطلقة شاملة للمهمّ المفروض، و الطلب و الدعاء سبب الاجابة، و طلب الهداية موجب لحصولها، و حصولها بمنزلة الاصل فيما يقرب إلى مبدإ الخيرات. و الصراط مؤدّي إلى النعمة المطلقة، و تذكّر المنعم عليهم، و طلب الدخول في صراطهم، و الكون معهم كأنّه استمداد منهم في قضاء الحاجة، كما أنّ التبرّي عن صراط المخالفين كأنّه تحرّز عن أصل الشرّ و فرعه.

ثمّ إنّ كلام اللّه سبحانه عموما و خصوص الفاتحة على ما عليه من الفضيلة و الشرافة بالنسبة إلى جلّ أجزاء القرآن أو كلّه، و كونه أمّ الكتاب محيطا بما فيه، لا بدّ و أن يكون فيه من البركات و الخيرات ما لا تحصى، فلا تعجب في كونه شافيا لمرض ظاهريّ، مع أنّه كلام مالك الشفاء كلّه، و وصفه القرآن أو البعض منه بأنّه شفاء للمؤمنين، و أيّ وسيلة بين العبد و الشافي أقرب من هذا الكلام من كلماته؟

و لعلّ السرّ في التكرار سبعا كون السبع عددا كاملا، أو موافقته للسماوات السبع المعنويّة، فيتجاوز بكلّ مرتبة مقام سماء منها إلى أن يصل إلى الملأ الاعلى،

ص: 344

الّذي هو مبدأ الخير و الجود. و السبعين لكونه كاملا في الكثرة، أو أخذ كلّ عشرة واحدا كما هو المعهود.

و يؤيّد كون قراءتها شفاء للأمراض الظاهريّة شفائه للأمراض الباطنيّة إذا تليت حقّ تلاوتها. و يظهر تفصيل ذلك ممّا قدّمناه هنا و في أوّل الكتاب، فراجع.(1)

[اسم اللّه الأعظم مقطع في أمّ الكتاب]

و في ثواب الاعمال باسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال:

«اسم اللّه الاعظم مقطّع في أمّ الكتاب.»(2)

و ربّما يظهر الوجه فيه ممّا قدّمناه في البسملة و الآيات الثلاثة الاول بمنزلة التفصيل للاسم الاعظم و الحروف المقطعة بالنسبة إلى الكلمة، فكما أنّ الكلمة بوحدتها جامعة للحروف و هي أجزاء لها، كذلك الاسماء الخمسة بمنزلة الاجزاء للاسم الاعظم الّذي هو الكلمة التامّة و الاركان لها، و قول «إِيّٰاكَ نَعْبُدُ»

بمنزلة البيان لكلمة الجلالة على ما سبق من معناها، و «إِيّٰاكَ نَسْتَعِينُ» بمنزلة البيان لربّ العالمين و قيام بموجبه، و طلب الهداية قيام بموجب الاقرار بالرحمة، و ذكر الطوائف الثلاثة بمنزلة التفصيل لمالك يوم الدين أو ملكه.

و من هذا البيان يظهر شدّة ارتباط الآيات و اتّصال بعضها ببعض، و كلّ ذلك من آثار ذلك الاسم الاعظم و شئونه، فهو مقطّع فيها.

ص: 345


1- المقدمة الاولى، ص 26.
2- ثواب الاعمال، ص 130، عن الحسن بن علي بن أبي حمزة البطائني، عن أبيه، عنه - عليه السلام -؛ و أيضا رواه العياشي (ره) بهذا الاسناد في تفسيره، ج 1، ص 19، ح 1؛ و هكذا في البحار، ج 92، باب فضائل سورة الفاتحة و تفسيرها، ص 234، ح 16.

[ما من شيء في القرآن إلاّ و هو في سورة الحمد]

و عن العلل باسناده عن الرضا عليه السّلام(1):

«فان قال قائل: فلم بدء بالحمد في كلّ قراءة دون سائر السور؟ قيل: لانّه ليس شيء من القرآن و الكلام جمع فيه من جوامع الخير و الحكمة ما جمع في سورة الحمد، و ذلك أنّ قوله: «اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ» إنّما هو أداء لما أوجب اللّه على خلقه من الشكر، و شكر(2) لما وفّق له عبده للخير.

«رَبِّ الْعٰالَمِينَ» تمجيد له و تحميد، و إقرار بأنّه هو الخالق المالك لا غير.

«اَلرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ» استعطاف و ذكر لربّه(3) و نعمائه على جميع خلقه(4).

«مٰالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» إقرار له بالبعث و الحساب و المجازات، و إيجاب له ملك الآخرة، كما أوجب له ملك الدنيا.

«إِيّٰاكَ نَعْبُدُ» رغبة و تقرّبا إلى اللّه، و إخلاصا له بالعمل دون غيره.

«وَ إِيّٰاكَ نَسْتَعِينُ» استزادة من توفيقه و عبادته، و استدامة لما أنعم اللّه عليه و نصره.

ص: 346


1- قال المؤلف (ره) في الهامش: «لا يبعد كون ألفاظ هذه الرواية من الفضل بن شاذان و المعنى مأخوذ من كلام الامام - عليه السلام -.»
2- في العيون: «شكره».
3- في العيون و البحار: «لآلائه».
4- خ. ل: «صفته».

«اِهْدِنَا الصِّرٰاطَ الْمُسْتَقِيمَ» استرشادا لأدبه و معتصما بحبله، و استزادة في المغفرة لربّه(1) و لعظمته على أوليائه، و رغبة في مثل ذلك النعم.

[ «صِرٰاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» توكيدا في السؤال و الرغبة، و ذكر لما قد تقدّم من نعمه على أوليائه، و رغبة في مثل ذلك النعم.](2)

«غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ» استعاذة من أن يكون من المعاندين الكافرين المستخفّين [به و] بأمره و نهيه.

«وَ لاَ الضّٰالِّينَ» اعتصاما من أن يكون من الّذين ضلّوا عن سبيله من غير معرفة و هم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا.

فقد اجتمع فيه من جوامع الخير و الحكمة في أمر الآخرة و الدنيا ما لا يجمعه شيء من الاشياء.»(3)

انتهى ما نقلته من النسخة، و فيه تأييد لجملة ما قدّمناه.

و روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال:

«كلّما في القرآن في الحمد، و كلّما في الحمد في البسملة، و كلّما في البسملة في الباء، و كلّما في الباء في النقطة، و أنا النقطة تحت الباء .»(4).

ص: 347


1- في المصادر: «في المعرفة بربه».
2- سقط عن المخطوطة.
3- العلل، ج 1، باب 182، ص 260، ح 9، عن الفضل بن شاذان؛ و أيضا رواه بهذا الاسناد في العيون، ج 2، باب 34، ص 105، ح 1؛ و هكذا في البحار، ج 85، باب القراءة و آدابها من كتاب الصلاة، ص 54، ح 46.
4- راجع ينابيع المودة، ص 69، و قد نقل فيه فقرته الاخيرة.

و يؤيّد الجزء الاوّل منه التعبير عن السورة ب «أمّ الكتاب» و «أمّ القرآن» في روايات عديدة، و الظاهر من كونها أمّا له اشتمالها عليها كاشتمال الأمّ على ولدها، و حينئذ يكون السورة جامعا لجميع القرآن المحيط على ما في التوراة و الانجيل و الزبور، بل و جميع الكتب السماويّة على ما يظهر من وصفه بأنّ: «فيه تبيان كلّ شيء».

و يشبه أن يكون السرّ في ذلك أنّ المقصود من البيان إمّا بيان الحقّ و صفاته و أسمائه و توحيده، و [إمّا] بيان أحوال الخلق و صفاتهم و حقائقهم و ذواتهم، و بيان ما هم عليه في الواقع، و بيان النسبة الواقعة بين الحقّ سبحانه بأسمائه و الخلق، و هذه السورة اشتملت من أوّلها إلى «يَوْمِ الدِّينِ» على المقصد الاوّل بالاصالة، و من قوله «اهدنا» إلى آخر السورة على المقصد الثاني بالاصالة، و قوله «إِيّٰاكَ نَعْبُدُ - الخ» على الثالث.

و كذلك قيل: «إنّ في الحمد ثلاث مقامات: مقام حقّ لا خلق فيه، و مقام خلق لا حقّ فيه، و مقام حقّ و خلق.» و إنّما قلنا بالاصالة لأنّ الاسماء الالهيّة تدلّ على حال المخلوقات بالتبع لظهورها بها، و دلالة الثاني على صفات الحقّ في المعاملة معهم بالانعام و غيره. و يظهر من هذه الاشارة وجه لاندراج علوم الفاتحة في البسملة بضميمة ما أشرنا في بيان الارتباط بين آيات الفاتحة و ما قدّمناه في تفسير البسملة مشروحا و ما يتعلّق بها؛ إذ لا يخلو شيء عن كونه متعلّقا بأجزاء مدلولها، و هي محيطة بجميع عوالم البدو و المعاد، فانّ اسم الرحيم ظهوره في عالم الآخرة بنفسه للمؤمنين، و بظلّه الّذي هو اسم المنتقم على غيرهم، و هو مفهوم من اسم الرحيم بالتبع، و قد مرّ بيان ما يوضح ذلك.

و أما اندراج البسملة في الباء، فلأنه إن أخذ بمعنى البهاء على ما قدّمناه فهو محيط بهذه الاسماء المتأخر ذكرها و مقدم في المرتبة عليها على ما بيناه

ص: 348

سابقا، فهو بمنزلة الاصل لها يدلّ عليها دلالة السبب الصوري على مسبّبه. و إن جعلنا الباء لمحض الربط بين اسم الحق و الخلق، فمن الظاهر أنّ أصل كلّ الاشياء المخلوقة هو الربط الحاصل بينها و بين اسم الحق، إذ لو لم يكن ذلك الربط تمّ لكانت معدومات صرفة لا خبر عنها، و لا شيئية و لا ذات و لا صفة، فذلك الربط هو الاصل الحافظ لها المحيط عليها.

و لعلّ من ذلك يظهر الوجه فيما يروى من أنّه: «ظهرت الموجودات من باء بسم اللّه الرحمن الرحيم »(1).

و أمّا اشتمال النقطة على ما في الباء، فيمكن أن يراد به محلّ ظهور الباء و حامله و معيّنه و مظهره، كما أنّ النقطة الكتبيّة يظهر الباء و يعيّنه من بين مشاركاته، و هو محلّ لظهوره و حامل لظهوره. و حينئذ فهو حقيقة الامام عليه السّلام الحامل لذلك الاسم و مظهره، و مظهره في العالم و معيّنه فيه.

و يمكن أن يراد بالنقطة النقطة الّتي هي أصل الالف و سائر الحروف، و هو حكاية عن الاسم البسيط على الالف فضلا عن الباء، و هو على بساطته محيط بالباقي.

و حينئذ فيصحّ إطلاق كونه تحت الباء كاطلاق كون المعنى تحت اللّفظ؛ إذ هو باطن يحكي عنه الباء، و مكنون مكتوم تحته بذاته و إن كان ظاهرا بقالبه الّذي هو الباء و لو بالواسطة. و على هذا فكونه عليه السّلام نقطة باعتبار كون النقطة مقامه و رتبته عند الحقّ و اتّحاده معها باعتباره و مظهريّته لها باعتبار آخر.

و يصحّ أن يجعل تحت الباء من صفات المبتدأ لا الخبر، فيكون مفاد الكلام أنّه حينئذ عين النقطة مع كونه تحت الباء باعتبار نزوله عن مقام الحقيقة المحمّديّة صلّى اللّه عليه و آله.

و بما مرّ في شأن هذه السورة يظهر وجه لكون «قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ» ثلث

ص: 349


1- نقله الشيخ رجب البرسي (ره) في مشارق أنوار اليقين، ص 38.

القرآن (1) ،فانّه مشتمل على مقصد واحد من المقاصد الثلاثة، و هو وصف الحقّ و نعته الّذي هو أشرف المقاصد الثلاثة، هذا.

[الفاتحة أشرف ما في كنوز العرش]

و في بعض الروايات عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّ:

«فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز العرش.»(2)

و في الصافي في رواية أنّها: «من كنوز العرش.»(3)

و يحتمل أن يراد بالعرش هنا عرش العلم، كما هو أحد إطلاقاته، فيستقيم المعنى بلا كلفة؛ و أن يراد العرش المعهود، و حينئذ فكونها من كنوزه باعتبار بعض مقامات حقيقة القرآن.

ص: 350


1- هذا المعنى قد ورد في روايات كثيرة؛ منها: ما أورده الكليني (ره) في الكافي، ج 2، باب فضل القرآن من كتاب القرآن، ص 621، ح 7، عن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد اللّه - عليه السلام -، قال: «كان أبي - صلوات اللّه عليه - يقول: «قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ»ثلث القرآن.» و منها: ما رواه الصدوق (ره) في الاكمال، عن أمير المؤمنين - عليه السلام - كما في الصافي، ج 2، ص 866، قال - عليه السلام -: «من قرأ «قُلْ هُوَ اللّٰهُ أَحَدٌ» مرة فكأنما قرأ ثلث القرآن، و من قرأها مرّتين فكأنما قرأ ثلثي القرآن، و من قرأها ثلاث مرات فكأنما قرأ القرآن كله.»
2- رواه الصدوق (ره) في الامالي، المجلس الثالث و الثلاثون، ح 2؛ و العيون، ج 1، باب 28، ص 235، ح 60؛ و هكذا في مجمع البيان، ج 1، ص 18؛ و البحار، ج 92، باب فضائل سورة الفاتحة و تفسيرها، ص 227، ح 5.
3- الصافي ج 1، ص 56.

[في أنّ سورة الفاتحة مقسم قسمين بين اللّه و بين عباده]

و عن العيون و تفسير الامام عليه السّلام عن الصادق عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليهم السّلام قال:

«لقد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: قال اللّه عزّ و جلّ:

قسّمت فاتحة الكتاب بيني و بين عبدي، فنصفها لي و نصفها لعبدي، و لعبدى ما سأل، إذا(1) قال العبد: «بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ» قال اللّه جلّ جلاله: بدأ عبدي باسمي و حقّ عليّ أن أتمّم له أموره و أبارك له في أحواله.

و إذا قال: «اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ الْعٰالَمِينَ» قال جلّ جلاله:

حمدني عبدي، و علم أنّ النعم الّتي له من عندي، و أنّ البلايا الّتي اندفعت(2) عنه فبتطوّلي (3) ؛اشهدكم أنّي(4)

أضيف له إلى نعم الدنيا نعم الآخرة، و أدفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا.

و إذا قال: «اَلرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ» قال اللّه جلّ جلاله: شهد لي بأنّي الرحمن الرحيم؛ أشهدكم لأوفّرنّ من رحمتي(5)

حظّه، و لأجزلنّ من عطائي نصيبه.

فاذا قال: «مٰالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» قال اللّه تعالى: أشهدكم كما

ص: 351


1- في المخطوطة: «فاذا».
2- في العيون و الامالي و البحار: «دفعت».
3- في العيون و الامالي و البحار: «فبطولي».
4- في المخطوطة: «فأني».
5- في المخطوطة: «نعمته»

اعترف بأنّي أنا المالك(1) يوم الدين لأسهّلنّ يوم الحساب حسابه، و لاثقلنّ حسناته، و لأتجاوزنّ عن سيّئاته.

فاذا قال العبد: «إِيّٰاكَ نَعْبُدُ» قال اللّه عز و جلّ: صدق عبدي، إيّاي يعبد؛ اشهدكم لأثيبنّه على عبادته ثوابا يغبطه كلّ من خالفه في عبادته لي.

فاذا قال: «وَ إِيّٰاكَ نَسْتَعِينُ » ،قال اللّه تعالى: بي استعان [عبدي] و إليّ التجأ؛ أشهدكم لأعيننّه على أمره، و لأغيثنّه في شدائده، و لآخذنّ بيده يوم نوائبه.

فاذا قال: «اِهْدِنَا الصِّرٰاطَ الْمُسْتَقِيمَ - إلى آخر السورة» قال اللّه جلّ جلاله: هذا لعبدي و لعبدي ما سأل، فقد استجبت لعبدي، و أعطيته ما أملّ، و آمنته ممّا منه وجل.»(2)

و روي من طريق العامّة عنه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال:

«يقول اللّه سبحانه: قسّمت الصلاة بيني و بين عبدي نصفين، فاذا قال العبد: «بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ» قال اللّه: مجّدني عبدي. و إذا قال العبد: «اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ رَبِّ الْعٰالَمِينَ» قال اللّه:

حمدني عبدي. و إذا قال: «اَلرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ» قال اللّه: أثنى عليّ عبدي. و إذا قال: «مٰالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» قال اللّه:

فوّض إلىّ عبدي. و إذا قال: «إِيّٰاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّٰاكَ نَسْتَعِينُ»

قال اللّه: هذا بيني و بين عبدي. و إذا قال: «اِهْدِنَا الصِّرٰاطَ

ص: 352


1- في المخطوطة: «الملك».
2- تفسير الامام - عليه السلام -، ص 21؛ و العيون، ج 1، باب 28، ص 234، ح 59؛ و هكذا رواه (ره) في الامالي، المجلس الثالث و الثلاثون، ح 1؛ و أيضا في البحار، ج 92، باب فضائل سورة الفاتحة و تفسيرها، ص 226، ح 3.

اَلْمُسْتَقِيمَ» قال اللّه: هذا لعبدي و لعبدي ما سأل.»(1)

و فيهما تأييد لجملة ما قدّمناه، و فيما قدّمنا شرح لكثير من هذه الفقرات لمن تدبّر و تبصّر.

و روى القميّ باسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«إنّ إبليس رنّ رنينا(2) لمّا بعث اللّه نبيّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله على حين فترة من الرسل، و حين نزلت أمّ الكتاب.»(3)

و فيه دلالة على عظم شأن هذه السورة.

ص: 353


1- أخرجه مسلم في صحيحه، ج 1، باب قراءة الفاتحة في كل ركعة، ص 296، ح 38: و أبو داود في سننه، ج 1، باب من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب، ص 216، ح 821؛ و النسائي في سننه ج 1، باب ترك قراءة البسملة في فاتحة الكتاب، ص 136؛ و هكذا في مجمع البيان، ج 1، ص 17.
2- في القمي: «أنّ أنينا». قال المؤلف (ره) في الهامش: «يقال: رنت المرأة ترن رنينا من باب ضرب: صوتت».
3- القمي، ج 1، ص 29؛ و البحار، ج 92، باب فضائل سورة الفاتحة و تفسيرها، ص 230، ح 8؛ و البرهان، ج 1، ص 41، ح 11.

ص: 354

سورة البقرة

اشارة

ص: 355

ص: 356

[تحقيق حول «الم» و سائر الحروف المقطعات]

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

«الم»

عن المعاني، عن الصادق عليه السّلام:

«الم هو حرف من حروف اسم اللّه الاعظم المقطّع في القرآن، الّذي يؤلّفه النبيّ أو الامام، فاذا دعا به أجيب.»(1)

و في تفسير القميّ ذلك بتفاوت ما في الالفاظ بعد لفظ «قال »(2) ،و الاقرب رجوع الضمير إلى الصادق عليه السّلام.

و في مجمع البيان و غيره، عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال:

«إنّ لكلّ كتاب صفوة، و صفوة هذا الكتاب حروف التهجّي.»(3)

و قد اضطرب آراء المفسّرين و غيرهم من الناظرين في معنى إيراد هذه الحروف

ص: 357


1- المعاني، باب معنى الحروف المقطعة، ص 23، ح 2، عن أبي بصير، عنه - عليه السلام -؛ و الصافي، ج 1، ص 57؛ و البرهان، ج 1، ص 53، ح 3؛ و نور الثقلين، ج 1، ص 26. و اعلم أن في خبر الصدوق في ثواب الاعمال، ص 130، ح 1، عن أبي عبد اللّه - عليه السلام - إذ قال: «اسم اللّه الاعظم مقطع في أم الكتاب» تأكيد لما مرّ في رواية المعاني، و لما سيجيء فيما بعد من أن فواتح السور حروف اسم اللّه الاعظم، فتبصّر.
2- القمي، ج 1، ص 30.
3- مجمع البيان، ج 1، ص 32؛ و الصافي ج 1، ص 58، و نور الثقلين، ج 1، ص 30، ح 8.

المقطّعة في أوائل السورة، فذهب كلّ إلى مذهب، و تشتّت الآراء فيه بحيث لا يجمعها جامع، و أكثرها تخريجات لا يظهر لها دليل يسكن إليه.

و قال المحدّث الكاشاني بعد نقل الرواية الاولى:

«فيه دلالة على أنّ الحروف المقطّعات أسرار بين اللّه و بين حبيبه(1) لم يقصد بها إفهام غيره، و غير الراسخين في العلم من رسوله و ذريّته (2).و التخاطب بالحروف المفردة سنّة الاحباب في سنن المحابّ، فهو سرّ الحبيب مع الحبيب بحيث لا يطّلع عليه الرقيب؛ شعر:

بين المحبّين سرّ ليس يفشيه *** قول و لا قلم للخلق يحكيه»(3)

و استدلّ عليه بقوله تعالى: «وَ مٰا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّٰهُ» (4) و رواية أبي لبيد(5)

المخزومي الآتية.

[روايات في تفسير فواتح السّور و ما يتعلّق بها]

و الاولى أن نورد أوّلا جميع ما عثرنا عليه من الروايات الواردة في كلّ من هذه الفواتح، فانّ الظاهر تقارب الكلام في بعضها ببعض، ثمّ نتبعها بذكر ما يخطر بالبال في حلّها على حسب مبلغ النظر القاصر، حتّى تكون في غنى عن التعرّض لها في محالّها إلا من جهة بعض الخصوصيّات حسب ما يقتضيه المقام، و اللّه العالم بحقيقة الحال.

ص: 358


1- في بعض النسخ: «بين اللّه و رسوله و رموز».
2- في بعض النسخ: «و من ذريته».
3- الصافي، ج 1 ص 57.
4- آل عمران/ 7.
5- في المخطوطة: «لبيدة».

فعن تفسير الامام عليه السّلام أنّ معنى «الم»:

«هذا الكتاب الّذي أنزلته [عليك] هو الحروف المقطّعة الّتي منها: ألف، لام، ميم، و هو بلغتكم و حروف هجائكم، فأتوا بمثله إن كنتم صادقين.»(1)

قال في الصافي:

«هذا أيضا يدلّ على أنّها من جملة الرموز المفتقرة إلى البيان.»(2)

و فيه نظر ظاهر، بل الظاهر منه هو الوجه الّذي اختاره جماعة من المفسّرين من أنّ: «ورودها مسرودة هكذا على نمط التعديد، ليكون كالايقاظ و قرع العصاء لمن تحدّى بالقرآن؛ أي: أنّ هذا المتلوّ عليهم و قد عجزوا عنه عن آخرهم كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم، فلو لا أنّه من كلام خالق القدر لم يعجز معشر البشر عن الاتيان بمثل الكوثر.»(3)

و عن العياشي، عن أبي لبيد المخزومي قال: قال أبو جعفر عليه السّلام:

«يا بالبيد، إنه يملك من ولد العباس اثنا عشر، يقتل بعد الثامن منهم أربعة، تصيب أحدهم الذبحة(4) فتذبحه. هم فئة قصيرة

ص: 359


1- تفسير الامام - عليه السلام -، ص 22؛ و الصافي، ج 1، ص 58؛ و هكذا رواه الصدوق (ره) في المعاني، باب معنى الحروف المقطعة، ص 24، ح 4؛ و نقله عنه البحراني (ره) في البرهان، ج 1، ص 54، ح 9؛ و العروسي الحويزي (ره) في نور الثقلين، ج 1، ص 27، ح 7.
2- الصافى، ج 1، ص 58.
3- هذا الوجه مذكور في الكشاف، ج 1، ص 16؛ و تفسير النيشابورى، ج 1، ص 44
4- قال الفيض (ره): «الذبحة بالضم و الكسر كهمزة و عنبة: «الخناق.» و قال بعض في هامش العياشي: «الذبحة كهمزة: وجع في الحلق من الدم. و قيل: قرحة تظهر فيه فتنسد معها و ينقطع النفس و يسمى بالخناق».

أعمارهم [قليلة مدّتهم] خبيثة سيرتهم. منهم: الفويسق الملقّب بالهادي و الناطق و الغاوي.

يا بالبيد، إنّ لي في حروف القرآن المقطّعة لعلما جمّا، إنّ اللّه تبارك و تعالى أنزل «الم ذٰلِكَ الْكِتٰابُ » ،فقام محمّد صلّى اللّه عليه و آله حتّى ظهر نوره، و ثبتت كلمته، و ولد يوم ولد، و قد مضى من الالف السابع مائة سنة و ثلاث سنين.

ثمّ قال: و تبيانه في كتاب اللّه في الحروف المقطّعة إذا عددتها من غير تكرار، و ليس من حروف مقطّعة حرف تنقضي أيّامه إلا و قائم من بني هاشم عند انقضائه.

ثمّ قال: الالف واحد، و اللام ثلاثون، و الميم أربعون، و الصاد تسعون، فذلك مائة و إحد [ى] و ستّون، ثمّ كان بدو خروج الحسين بن عليّ عليهما السّلام «الم اللّه» فلمّا بلغت مدّته قام قائم ولد العباس عند «المص»، و يقوم قائمنا عند انقضائها ب «المر». فافهم ذلك و عه(1) و اكتمه.»(2)

و عن المعاني عن الصادق عليه السّلام في حديث:

«و أمّا «الم» في آل عمران، فمعناه: أنا اللّه المجيد.»(3)

و عنه عليه السّلام:

ص: 360


1- في المخطوطة و الصافي: «عد».
2- العياشي، ج 2، ص 3، ح 3، و الصافي، ج 1، ص 57؛ و البحار، ج 92، باب متشابهات القرآن و تفسير المقطعات، ص 383، ح 23.
3- راجع المصادر المذكورة في تعليقة 4 ص 222.

«و «المص» معناه: أنا اللّه المقتدر الصادق.»(1)

و عن المعاني و العيّاشي عنه عليه السّلام أنّه أتاه رجل من بني أميّة و كان زنديقا، فقال له:

«قول اللّه عزّ و جلّ في كتابه «المص» أيّ شيء أراد بهذا؟ و أيّ شيء فيه من الحلال و الحرام؟ و أيّ شيء فيه ممّا ينتفع به الناس؟

قال: فاغتاظ من ذلك، فقال: أمسك ويحك! الالف واحد، و اللام ثلاثون، و الميم أربعون، و الصاد تسعون، كم معك:

فقال الرجل مائة و إحد [ى] و ستّون.

فقال: إذا انقضت سنة إحدى و ستّين و مائة ينقضي ملك أصحابك.

قال: فنظر [نا] فلمّا انقضت إحدى و ستون و مائة يوم عاشورا دخلت المسوّدة(2) الكوفة و ذهب ملكهم.»(3)

و عن المعاني، عنه عليه السّلام:

ص: 361


1- نفس المصادر.
2- قال الطريحي (ره) في مجمع البحرين: «المسودة بكسر الواو أي: لابسي السواد، و منه الحديث: «فدخلت علينا المسودة» يعني: أصحاب الدعوة العباسية؛ لأنهم كانوا يلبسون ثيابا سودا. و «عيسى بن موسى» أول من لبس لباس العباسيين من العلويين؛ استحوذ عليهم الشياطين، و أغمرهم لباس الجاهلية».
3- المعاني، باب معنى الحروف المقطعة، ص 28، ح 5، عن أبي جمعة رحمة بن صدقة، عنه - عليه السلام -؛ و العياشي، ج 2، ص 2، ح 2، بهذا الاسناد؛ و الصافي، ج 1 ص 563؛ و البحار، ج 92؛ باب متشابهات القرآن و تفسير المقطعات، ص 376، ح 7.

«و الر معناه: أنا اللّه الرءوف.»(1)

و عنه عليه السّلام في «المر»:

«معناه: أنا اللّه المحيي المميت الرزّاق.»(2)

و عنه عليه السّلام في «كهيعص » :

«معناه أنا الكافي الهادي الوليّ العالم الصادق الوعد.»(3)

و عنه عليه السّلام:

«كاف لشيعتنا، هاد لهم، وليّ لهم، عالم بأهل طاعتنا، صادق لهم وعده، حتّى يبلغ بهم المنزلة الّتي وعدهم إيّاها في بطن القرآن.»(4)

و في تفسير القميّ باسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله «كهيعص» قال:

«هذه أسماء اللّه مقطّعة، و أمّا قوله «كهيعص » ،قال: «اللّه هو الكافي الهادي العالم الصادق ذو الايادي العظام.» و هو قوله كما وصف نفسه تبارك و تعالى»(5)

و الظاهر أنّ مرجع اسم الاشارة في صدره هو مطلق الحروف المقطّعة، و يكون «و أمّا - الخ» بمنزلة التفصيل لذلك الاجمال.

ص: 362


1- راجع المآخذ المذكورة في تعليقة 4 ص 222.
2- نفس المصادر.
3- نفس المصادر.
4- المعاني، باب معنى الحروف المقطعة: ص 28، ح 6، عن جعفر بن محمد بن عمارة، عن أبيه عنه - عليه السلام -؛ و الصافي، ج 2، ص 37؛ و البحار، ج 92، باب متشابهات القرآن و تفسير المقطعات، ص 377، ح 8.
5- القمي، ج 2، ص 48، عن أبي بصير، عنه - عليه السلام -؛ و البحار؛ باب متشابهات القرآن و تفسير المقطعات، ص 376، ح 4.

و لعلّه ترك تتمّة الحديث، و اقتصر على ما هو بصدد تفسيره.

و في الاكمال عن الحجّة القائم - عجّل اللّه تعالى فرجه - في حديث أنّه سئل عن تاويلها، قال:

«هذه الحروف من أنباء الغيب، اطّلع اللّه عبده زكريّا عليها، ثمّ قصّها على محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و ذلك أنّ زكريّا سأل ربّه أن يعلّمه أسماء الخمسة، فأهبط اللّه عليه جبرئيل، فعلّمه إيّاها. فكان زكريّا إذا ذكر محمّدا و عليّا و فاطمة و الحسن عليهم السّلام سرى عنه همّه، و انجلى كربه (1) ،و إذا ذكر الحسين عليه السّلام خنقته العبرة (2) ،و وقعت عليه البهرة(3).

فقال ذات يوم: إلهي، ما بالي إذا ذكرت أربعا منهم تسلّيت بأسمائهم من همومي، و إذا ذكرت الحسين عليه السّلام تدمع عيني، و تثور زفرتي(4) ؟

فأنبأه تبارك و تعالى عن قصّته، فقال: «كهيعص » ،فالكاف اسم كربلاء، و الهاء هلاك العترة، و الياء يزيد - لعنه اللّه - و هو ظالم الحسين عليه السّلام، و العين عطشه، و الصاد صبره.

فلمّا سمع بذلك زكريّا لم يفارق مسجده ثلاثة أيّام، و منع فيها الناس من الدخول عليه، و أقبل على البكاء و النحيب، و كانت ندبته:

ص: 363


1- في المخطوطة: «انجلى عنه كربه».
2- العبرة بالفتح: الدمعة قبل أن تفيض، أو تردد البكاء في الصدر.
3- تتابع النفس و انقطاعه كما يحصل بعد الاعياء و العدو الشديد.
4- زفر زفيرا: أخرج نفسه بعد مدة أيام، و الاسم: الزفرة.

إلهي، أ تفجع خير خلقك بولده؟ [إلهي] أتنزل بلوى هذه الرزيّة بفنائه، إلهي أ تلبس عليّا و فاطمة ثياب هذه المصيبة؟ إلهي، أ تحلّ كرب هذه الفجيعة بساحتهما؟

ثمّ كان يقول: إلهي، ارزقني ولدا تقرّبه عيني عند الكبر، و اجعله وارثا وصيّا، و اجعله محلّه منّي محلّ الحسين عليه السّلام. فاذا رزقتنيه فافتنّي بحبّه، ثمّ أفجعني به كما تفجع محمّدا صلّى اللّه عليه و آله حبيبك بولده.

فرزقه اللّه يحيى و فجّعه به، و كان حمل يحيى ستّة أشهر و حمل الحسين عليه السّلام كذلك.»(1)

و عن المناقب عنه عليه السّلام مثله.(2)

و عن المعاني عن الصادق عليه السّلام:

«و أمّا «طه» فاسم من أسماء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و معناه: يا طالب الحقّ الهادي إليه.»(3)

و عن المجمع عن النبي صلّى اللّه عليه و آله(4) لما أنزلت «طسم» قال:

ص: 364


1- الاكمال، ج 2، الباب الثالث و الاربعون، ص 461، عن سعد بن عبد اللّه القمي، عنه - عليه السلام -؛ و الصافي، ج 2، ص 36؛ و البرهان، ج 3، ص 3؛ و هكذا رواه الطبرسي (ره) بهذا الاسناد في الاحتجاج، ج 2، ص 272؛ و نقله المجلسي (ره) عنه في البحار، ج 44، باب إخبار اللّه تعالى أنبيائه بشهادته - عليه السلام -، ص 223، ح 1.
2- المناقب، ج 4، باب إمامة أبي عبد اللّه الحسين - عليه السلام -، ص 84.
3- راجع المصادر المذكورة في تعليقة 4 ص 222؛ و هكذا في الصافي، ج 2، ص 59؛ و البرهان، ج 3، ص 39.
4- مجمع البيان، ج 4، ص 184، عن ابن الحنفية، عن عليّ - عليه السلام -، عنه - صلّى اللّه عليه و آله -؛ و الصافي، ج 2، ص 207؛ و نور الثقلين، ج 4، ص 45.

«الطاء طور سيناء، و السين الإسكندرية، و الميم مكّة.» و قال: «الطاء شجرة طوبى، و السين سدرة المنتهى، و الميم محمّد المصطفى صلّى اللّه عليه و آله.»

و القمّي قال:

«هو حرف من حروف اسم اللّه الاعظم المرموز في القرآن.»(1)

و عن المعاني عنه عليه السّلام.

«و أمّا «طسم» فمعناه: أنا الطالب السميع المبدا المعيد.»(2)

و عن المعاني عنه عليه السّلام:

«و أمّا «طس» فمعناه: أنا الطالب السميع.»(3)

و عنه عنه عليه السّلام:

«و أمّا «يس» فاسم من أسماء النبيّ، فمعناه: يا أيّها السامع الوحي.»(4)

و عن الخصال عن الباقر عليه السّلام قال:

«إنّ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عشرة أسماء: خمسة [منها] في القرآن و خمسة ليست في القرآن، فأمّا التي في القرآن فمحمد صلّى اللّه عليه و آله و أحمد، و عبد اللّه، و يس، و ن.»(5)

ص: 365


1- القمي، ج 2، ص 118؛ و الصافي، ج 2، ص 208؛ و البرهان، ج 3، ص 179.
2- راجع المصادر المذكورة في تعليقة 4 ص 222؛ و هكذا في الصافي، ج 2، ص 208؛ و البرهان، ج 3، ص 179.
3- نفس المصادر.
4- نفس المصادر.
5- الخصال، ج 2، باب العشرة، ص 426؛ و الصافي، ج 2، ص 403؛ و البحار، ج 16، باب أسمائه - صلّى اللّه عليه و آله - و عللها، ص 96، ح 31.

و عن الكافي عنهما عليهما السّلام:

«هذا محمّد صلّى اللّه عليه و آله اذن لهم في التسمية به، فمن اذن لهم في «يس» يعني التسمية و هو اسم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله؟»(1)

و عن العيون عن الرضا عليه السّلام في حديث له في مجلس المأمون، قال:

«أخبرونى عن قول اللّه تعالى: «يس * وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ» (2) من عني بقول «يس» قالت العلماء: يس محمّد صلّى اللّه عليه و آله لم يشكّ فيه أحد.»(3)

و عن المجالس عن أمير المؤمنين عليه السّلام في قوله: «سَلاٰمٌ عَلىٰ إِلْ يٰاسِينَ» (4) قال:

«يس محمّد صلّى اللّه عليه و آله»(5)

و القمّي عن الصادق عليه السّلام:

ص: 366


1- الكافي، ج 6، باب الاسماء و الكنى من كتاب العقيقة، ص 20، ح 13، عن صفوان رفعه اليهما - عليهما السلام -؛ و الصافي، ج 2، ص 403؛ و البحار، ج 16، باب أسمائه - صلّى اللّه عليه و آله - و عللها، ص 86، ح 8.
2- يس - صلّى اللّه عليه و آله - / 1-4.
3- العيون ج 1، باب 23، ص 185، عن الريان بن الصلت، عنه - عليه السلام -؛ و الصافي، ج 2، ص 403؛ و البحار، ج 16، باب أسمائه - صلّى اللّه عليه و آله - و عللها، ص 87، ح 9.
4- الصافات/ 130.
5- مجالس (أمالي) الصدوق (ره)، المجلس الثاني و السبعون، ح 1، عن كادح، عن الصادق، عن أبيه، عن آبائه، عنه - عليهم السلام -؛ و الصافي، ج 2، ص 403؛ و رواه (ره) بهذا الاسناد أيضا في المعاني، باب معنى آل ياسين، ص 122، ح 2، و كذا روى الفرات (ره) في تفسيره، ص 131، عن سليم بن قيس (ره) عنه - عليه السلام -؛ و نقله المجلسي (ره) عنه في البحار، ج 16، باب أسمائه - صلّى اللّه عليه و آله - و عللها، ص 86، ح 7.

«يس اسم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله .(1)»

و عن المجمع عن الصادق عليه السّلام:

«إنّ «صاد» اسم من أسماء اللّه تعالى أقسم به.»(2)

و في المعاني عنه عليه السّلام:

«و أمّا «ص» فعين تنبع من تحت العرش. و هي الّتي توضّأ منها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لمّا عرج به، و يدخلها جبرئيل عليه السّلام كلّ يوم دخلة فينغمس فيها، ثم يخرج منها فينفض أجنحته، فليس من قطرة تقطر من أجنحته إلا خلق اللّه تبارك و تعالى منها ملكا يسبّح اللّه و يقدّسه و يكبّره و يمجّده إلى يوم القيامة.»(3)

و عن الكافي عنه عليه السّلام في حديث المعراج:

«ثم أوحى اللّه إليّ: يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله، ادن من «صاد» فاغسل مساجدك و طهّرها و صلّ لربّك. فدنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من «صاد» و هو ماء يسيل من ساق العرش الايمن - الحديث.»(4)

ص: 367


1- القمي، ج 2 ص 211؛ و البحار، ج 16، باب أسمائه - صلّى اللّه عليه و آله - و عللها، ص 86، ح 6؛ و نور الثقلين، ج 4، ص 375، ح 15.
2- مجمع البيان، ج 4، ص 465؛ و الصافي، ج 2، ص 438؛ و نور الثقلين، ج 4، ص 442، ح 6.
3- راجع المصادر المذكورة في تعليقة 4 ص 222؛ و هكذا في الصافي، ج 2، ص 438؛ و نور الثقلين، ج 4، ص 442، ح 5.
4- الكافي، ج 3، باب النوادر من كتاب الصلاة، ص 485، عن ابن اذينة، عنه - عليه السلام -؛ و الصافي، ج 2 ص 438.

و عن العلل عن الكاظم عليه السّلام في حديث أنّه سئل:

«و ما صاد الذي أمر أن يغتسل منه - يعني: النبيّ صلّى اللّه عليه و آله - لمّا أسري به؟

فقال: عين تنفجر من ركن من أركان العرش يقال لها ماء الحياة، و هو ما قال اللّه عزّ و جلّ: «ص(1) وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ » .(2)

و في المعاني عن الصادق عليه السّلام:

«و أمّا «حم» فمعناه: الحميد المجيد.»(3)

و عنه عليه السّلام في «حم * عسق » :(4)

«معناه الحكيم المثيب العالم السميع القادر القويّ.»(5)

و عن القميّ عن الباقر عليه السّلام:(6)

«هو حروف من اسم اللّه الاعظم المقطوع يؤلفه الرسول أو

ص: 368


1- كذا في النسخ، و مكانه في المخطوطة بياض.
2- الآية: ص/ 1؛ و الحديث في العلل، ج 2، باب 32، ص 335، ح 1، عن اسحاق بن عمار، عنه - عليه السلام -؛ و الصافي، ج 2، ص 438؛ و البحار، ج 18، باب إثبات المعراج و معناه، ص 368، ح 72؛ و نور الثقلين، ج 4 ص 442، ح 4.
3- راجع المصادر المذكورة في تعليقه 4 ص 222؛ و أيضا في الصافي، ج 2، ص 477؛ و نور الثقلين، ج 4، ص 510، ح 7.
4- الشورى/ 1-2.
5- المصادر المتقدمة في تعليقة 4 ص 222، و أما موضعه في الصافي: ج 2، ص 506؛ و فى نور الثقلين، ج 4، ص 556، ح 3.
6- اعلم أن اسناده عن الباقر - عليه السلام - لم يصرح به فيما بأيدينا من نسخ القمي و البحار و نور الثقلين، بل التصريح به في الصافي فقط.

الامام عليهما السّلام، فيكون الاسم الاعظم الذي إذا دعي اللّه به أجاب.»(1)

و عنه عليه السّلام:

«عسق عدد سني القائم - عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف - و قاف جبل محيط بالدنيا من زمردة خضراء، فخضرة السماء من ذلك الجبل، و علم كلّ شيء في «عسق».»(2)

و في رواية عن الكاظم عليه السّلام أنّه سأله نصراني عن تفسير «حم * وَ الْكِتٰابِ الْمُبِينِ» (3)

في الباطن، فقال:

«أمّا «حم» فهو محمّد صلّى اللّه عليه و آله - الحديث.»(4)

و عن المعاني عن الصادق عليه السّلام:

«و أما «ق» فهو الجبل المحيط بالارض، خضرة السماء منه، و به يمسك اللّه الارض أن تميد بأهلها »(5).

ص: 369


1- القمي، ج 2، ص 267؛ و الصافي، ج 2، ص 506؛ و البحار، ج 92، باب متشابهات القرآن و تفسير المقطعات، ص 376؛ و نور الثقلين، ج 4، ص 557، ح 4.
2- في بعض النسخ: «و علم علي - عليه السلام - كله في عسق» و الحديث: المصادر السابقة، عن يحيى بن ميسرة الخثعمي، عنه - عليه السلام -.
3- الزخرف/ 1-2؛ و الدخان/ 1-2.
4- رواه الكليني (ره) في الكافي، ج 1، باب مولد أبي الحسن موسى بن جعفر - عليهما السلام - من كتاب الحجة، ص 479، ح 4، عن يعقوب بن جعفر بن ابراهيم، عنه - عليه السلام -؛ و نقله المجلسي (ره) في البحار، ج 16، باب اسمائه - صلّى اللّه عليه و آله - و عللها، ص 87، ح 12.
5- راجع المآخذ المذكورة في تعليقة 4 ص 222؛ و هكذا في الصافي، ج 2 ص 597 و نور الثقلين ج 5، ص 104، ح 3.

و عنه، عن سفيان، عنه عليه السّلام قال:

«و أمّا «ن» فهو نهر في الجنّة، قال اللّه عزّ و جلّ: اجمد، فجمد، فصار مدادا، ثمّ قال عز و جلّ للقلم: اكتب. فسطر القلم في اللّوح المحفوظ ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة فالمداد مداد من نور، و القلم قلم من نور، و اللّوح لوح من نور.

قال سفيان: فقلت له: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، بين لي أمر اللّوح و القلم و المداد فضل(1) بيان، و علّمني ممّا علّمك اللّه.

فقال: يا ابن سعيد لو لا أنّك أهل للجواب ما أجبتك. فنون ملك يؤدي إلى القلم [و هو ملك]، و القلم يؤدي إلى اللّوح و هو ملك، و اللّوح يؤدي إلى إسرافيل، و إسرافيل يؤدّي إلى ميكائيل، و ميكائيل يؤدي إلى جبرئيل، و جبرئيل يؤدي إلى الانبياء و الرسل - صلوات اللّه عليهم -.

قال: ثمّ قال لي: قم يا سفيان فلا أمن عليك.»(2)

و عن العلل عنه عليه السّلام:

«و أمّا «ن» فكان نهرا في الجنّة أشدّ بياضا من الثلج، و أحلى من العسل؛ قال اللّه عزّ و جلّ له: كن مدادا [فكان مدادا]، ثمّ أخذ شجرة فغرسها بيده، ثمّ. قال: و اليد القوة،

ص: 370


1- في المخطوطة: «أفضل».
2- راجع المآخذ المذكورة في تعليقة 4 ص 222؛ و أيضا في الصافي، ج 2، ص 727؛ و نور الثقلين، ج 5، ص 388، ح 6.

و ليس بحيث يذهب إليه المشبّهة، ثمّ قال لها: كوني قلما ثم قال له: اكتب. فقال له: يا ربّ، و ما أكتب؟ قال: ما هو كائن إلى يوم القيامة. ففعل ذلك. ثمّ ختم عليه و قال: لا تنطقنّ إلى يوم الوقت المعلوم.»(1)

و عن القمّي عنه عليه السّلام:

«أول ما خلق اللّه القلم، فقال له: اكتب. فكتب ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة. فكتب القلم في رقّ أشدّ بياضا من الفضّة، و أصفى من الياقوت، ثمّ طواه فجعله في ركن رأس العرش، ثمّ ختم على فم القلم، فلم ينطق بعد و لا ينطق أبدا، فهو الكتاب المكنون(2) الذي منه النسخ كلّها؛ أو لستم عربا؟ فكيف لا تعرفون معنى الكلام و أحدكم يقول لصاحبه: انسخ ذلك الكتاب؟ أو ليس إنّما ينسخ من كتاب أخذ(3) من الاصل و هو قوله: إِنّٰا كُنّٰا نَسْتَنْسِخُ مٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؟» (4)

و عن المجمع عن الباقر عليه السّلام:

ص: 371


1- العلل، ج 2، باب 142، ص 402، ح 2، عن يحيى بن أبي العلاء الرازي، عنه - عليه السلام -؛ و البحار، ج 57، باب القلم و اللوح المحفوظ من كتاب السماء و العالم، ص 367، ح 4؛ و نور الثقلين، ج 5، ص 387، ح 5.
2- في المخطوطة: «المكتوب».
3- في المخطوطة و نور الثقلين و البحار: «آخر».
4- الآية: الجاثية/ 29؛ و الحديث في القمي، ج 2، ص 379؛ و البحار، ج 57، باب القلم و اللوح المحفوظ من كتاب السماء و العالم، ص 366، ح 1 و 3؛ و نور الثقلين، ج 5، ص 388 و 389، ح 7 و 9؛ و لكن جملة: «اول ما خلق اللّه القلم» ليست في نسخ القمي.

«ن [هو] نهر في الجنّة، قال له اللّه: كن مدادا، فجمد، و كان أبيض من اللّبن، و أحلى من الشهد. ثمّ قال للقلم:

اكتب. فكتب القلم ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة.»(1)

و روى ابن بابويه باسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«الم هو حرف من حروف اسم اللّه الاعظم، المقطع في القرآن الذي يؤلفه النبي صلّى اللّه عليه و آله و الامام، فاذا دعا به أجيب.»(2)

و باسناده عن محمّد بن قيس قال:

«سمعت أبا جعفر عليه السّلام يحدث أن حييا و أبا ياسر ابني أحطب و نفرا من اليهود و أهل [نجران](3) أتوا رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله -، فقالوا له: أ ليس فيما تذكر فيما أنزل عليك «الم»؟ قال: بلى.

قالوا: أتاك بها جبرائيل من عند اللّه؟ قال: نعم.

قالوا: لقد بعثت أنبياء قبلك و ما نعلم نبيّا منهم أخبر ما(4)

مدة ملكه، و ما به أكل مدته(5) غيرك!؟

ص: 372


1- مجمع البيان، ج 5، ص 332؛ و الصافي، ج 2، ص 728؛ و البحار، ج 57، باب القلم و اللوح المحفوظ من كتاب السماء و العالم، ص 361؛ و نور الثقلين، ج 5 ص 389، ح 11.
2- قد مر في أول هذا الفصل، فراجع.
3- في القمي و البحار: «من أهل نجران».
4- في المعانى: «أخبرنا».
5- كذا في المخطوطة، و في المعاني: «و ما أجل امته»، و في القمي و البحار و نور الثقلين: «و ما أكل امته».

قال: فأقبل حيّي بن أحطب على أصحابه، فقال: الالف واحد، و اللام ثلاثون، و الميم أربعون، فهذه إحدى و سبعون [سنة]، فعجب ممّن يدخل في دين مدة ملكه و أكل(1) أمته إحدى و سبعون سنة.

قال: ثمّ أقبل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله، هل مع هذا غيره؟ قال: نعم.

قال: فهاته. قال: «المص».

قال: هذه أثقل و أطول؛ الالف واحد، و اللام ثلاثون، و الميم أربعون، و الصاد تسعون، فهذه مائة و إحدى و ستّون [سنة] ثم قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: فهل مع هذا غيره؟ قال: نعم.

قال: هاته (2).قال: «الر».

قال: هذه أثقل و أطول، الالف واحد، و اللام ثلاثون، و الراء مائتان. [ثم قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:] فهل مع هذا غيره؟ قال: نعم.

[قال: هاته. قال: «المر». قال: هذه أثقل و أطول، الالف واحد، و اللام ثلاثون، و الميم أربعون، و الراء مائتان. ثمّ قال له: هل مع هذا غيره؟ قال: نعم.]

قال: قد التبس علينا أمرك، فما ندري ما أعطيت. ثم قاموا عنه.

ثم قال أبو ياسر لحيي أخيه: ما يدريك لعل محمّدا صلّى اللّه عليه و آله قد جمع

ص: 373


1- في المعاني: «أجل».
2- خ. ل: «هذه».

له هذا كلّه و أكثر منه.

قال: فذكر أبو جعفر عليه السّلام أن هذه الآيات أنزلت فيهم:

«مِنْهُ آيٰاتٌ مُحْكَمٰاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتٰابِ، وَ أُخَرُ مُتَشٰابِهٰاتٌ.» (1)

قال: و هي تجري في وجه آخر على غير تأويل حيي و أبي ياسر و أصحابهما.»(2)

و باسناده عن سفيان بن سعيد الثورى، قال: قلت لجعفر بن محمّد بن علي [بن] الحسين [بن] علي بن أبي طالب عليهم السّلام:

«يا بن رسول اللّه، ما معنى قول اللّه عز و جلّ «الم»،...؟ قال عليه السّلام أما الم فى أول البقرة، فمعناه: أنا اللّه الملك »(3).

و باسناده عن العسكرى في حديث أنه قال الصادق عليه السّلام:

«الالف حرف من حروف قولك «اللّه» و دل باللام على قولك:

«الملك العظيم القاهر للخلق أجمعين»، و دل بالميم على أنه المجيد المحمود في كل أفعاله - الحديث »(4).

ص: 374


1- آل عمران/ 7.
2- المعاني، باب معنى الحروف المقطعة، ص 23؛ و هكذا رواه القمي (ره) فى تفسيره، ج 1، ص 223؛ و المجلسي (ره) في البحار، ج 92، باب متشابهات القرآن و تفسير المقطعات، ص 374، ح 2؛ و العروسي الحويزي (ره) في نور الثقلين، ج 1، ص 26، ح 6، و ج 2 ص 3، ح 6.
3- راجع تعليقة 4 ص 222، و هكذا في نور الثقلين، ج 1، ص 26، ح 4.
4- المعاني، باب معنى الحروف المقطعة، ص 24، ح 4؛ و البحار، ج 92، باب متشابهات القرآن و تفسير المقطعات، ص 377، ح 10؛ و البرهان، ج 1، ص 54؛ و نور الثقلين، ج 1، ص 27، ح 7؛ و كذا في تفسير الامام - عليه السلام - ص 22.

و عن البرقى باسناده عن أبي لبيد(1) البحراني المراء الهجرين، قال:

«جاء رجل إلى أبي جعفر عليه السّلام بمكة فسأله عن مسائل فأجابه فيها - و ذكر الحديث إلى أن قال: - فقال له: فما «المص»؟ فقال أبو(2) لبيد: فأجابه بجواب نسيته. فخرج الرجل فقال [لي] أبو جعفر عليه السّلام: هذا تفسيرها في ظهر القرآن، أ فلا أخبرك بتفسيرها في بطن القرآن؟

قلت: و للقرآن بطن و ظهر؟

فقال: نعم، إن لكتاب اللّه ظاهرا و باطنا و معانيا، و ناسخا و منسوخا، و محكما و متشابها، و سننا و أمثالا، و فصلا و وصلا و أحرفا و تصريفا. فمن زعم أن كتاب اللّه(3) مبهم فقد هلك و أهلك. ثم قال: أمسك، الالف واحد، و اللام ثلاثون، و الميم أربعون و الصاد تسعون.

قلت: فهذه مائة و إحدى و ستون.

فقال: يا بالبيد، إذا دخلت إحدى و ستون و مائة سلب اللّه قوما سلطانهم.»(4)

ص: 375


1- في المخطوطة: «الوليد».
2- في المخطوطة: «ابن».
3- في المخطوطة: «الكتاب».
4- المحاسن، ج 1، باب 36 من كتاب مصابيح الظلم، ص 270، ح 360؛ و البحار، ج 92، باب أن للقرآن ظهرا و بطنا، ص 90، ح 34؛ و البرهان، ج 2 ص 3، ح 3.

و في تفسير القمي في «ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ» (1) قال:

«ق جبل محيط بالدنيا من وراء يأجوج و مأجوج، و هو قسم »(2).

و هذه جملة ما وجدته مستخرجا من أماكن متعددة في تفسير هذه الحروف و ما يتعلّق بها، و تركت غيرها. و ينبغى إردافها بما ورد في ترجمة هذه الحروف الاربعة عشر، التي ورد في أوائل السور في ضمن الروايات الواردة فى بيان معاني الحروف المفردة، موردا لها بتمامها لما فيها من الفوائد.

فنقول:

[أحاديث في معاني الحروف المقطعة]

روى ابن بابويه في كتاب التوحيد، عن الرضا عليه السّلام أنه قال:

إن أول ما خلق اللّه عز و جلّ ليعرف به خلقه الكتابة حروف المعجم، و إن الرجل إذا ضرب على رأسه بعصا، فزعم أنه لا يفصح ببعض الكلام، فالحكم فيه أن يعرض عليه حروف المعجم، ثم تعطى الدية بقدر ما لم يفصح منها.

و لقد حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن أمير المؤمنين عليه السّلام فى «ا، ب، ت، ث» أنه قال: «الالف آلاء اللّه، و الباء بهجة اللّه، و التاء تمام الامر بقائم آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و الثاء ثواب للمؤمنين على أعمالهم الصالحة.

«ج، ح، خ» فالجيم جمال اللّه و جلال اللّه، و الحاء حلم

ص: 376


1- ق/ 1-2.
2- القمي، ج 2، ص 323؛ و الصافي، ج 2، ص 597؛ و نور الثقلين، ج 5، ص 104، ح 4.

اللّه حكيم حي حق حليم عن المذنبين، و الخاء خمول ذكر أهل المعاصي عند اللّه عز و جلّ، و خبير.

«د، ذ» فالدال دين اللّه الذي ارتضاه لعباده، و الذال من ذي الجلال و الاكرام.

«ر، ز» فالراء من الرءوف الرحيم، و الزاء زلازل القيامة.

«س، ش» فالسين سناء اللّه، و الشين شاء اللّه ما شاء(1) و أراد ما أراد «وَ مٰا تَشٰاؤُنَ إِلاّٰ أَنْ يَشٰاءَ اللّٰهُ » (2).

«ص، ض» فالصاد من صادق الوعد في حمل الناس على الصراط، و حبس الظالمين عند المرصاد، و الضاد ضلّ من خالف محمّدا و آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

«ط، ظ» فالطاء طوبى للمؤمنين و حسن مآب، و الظاء ظن المؤمنين باللّه خيرا، و ظن الكافرين [به] شرا(3).

«ع، غ» فالعين من العالم، و الغين من الغني الذى لا يجوز عليه الحاجة على الاطلاق.

«ف، ق» فالفاء فالق الحب و النوى، و فوج من أفواج النار، و القاف قرآن، على اللّه جمعه و قرآنه.

«ك، ل» فالكاف من الكافي، و اللام لغو الكافرين في افترائهم على اللّه الكذب.

ص: 377


1- في المخطوطة: «الشين ما شاء اللّه».
2- الانسان/ 30؛ و التكوير/ 29.
3- خ. ل: «سوءا».

«م، ن» فالميم(1) ملك يوم الدين، يوم لا مالك غيره، و يقول عز و جلّ: لمن الملك اليوم؟ ثم تنطق أرواح أنبيائه و رسله و حججه، فيقولون: للّه الواحد القهار، فيقول جلّ جلاله:

اَلْيَوْمَ تُجْزىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمٰا كَسَبَتْ لاٰ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللّٰهَ سَرِيعُ الْحِسٰابِ (2)

و النون نوال اللّه للمؤمنين، و نكاله بالكافرين.

«و، ه» فالواو ويل لمن عصى اللّه من عذاب يوم عظيم، و الهاء هان على اللّه من عصاه.

«لا» فلام ألف «لا إله إلا اللّه»، و هي كلمة الاخلاص؛ ما من عبد قالها مخلصا إلا وجبت له الجنة.

«ى» يد اللّه فوق خلقه باسطة بالرزق، سبحانه و تعالى عما يشركون.

ثم قال عليه السّلام: ان اللّه تبارك و تعالى أنزل هذا القرآن بهذه الحروف التي يتداولها جميع العرب ثم قال: [قُلْ] لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هٰذَا الْقُرْآنِ لاٰ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كٰانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (3).

و باسناده عن الكاظم، عن آبائه - عليهم السلام -، عن الحسين بن علي - عليهما السلام - قال:

«جاء يهودي إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و عنده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام، فقال [له]: ما الفائدة فى حروف الهجاء؟

ص: 378


1- في المخطوطة: «فالملك».
2- الغافر/ 16-17.
3- الآية: الاسراء/ 88؛ و الحديث، فقد مر بعض فقراته في تفسير «بسم اللّه»، فراجع تعليقة 1 ص 221.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعلي عليه السّلام: أجبه. و قال: اللهم وفقه و سدده. فقال علي بن أبي طالب عليه السّلام: ما من حرف إلا و هو اسم من أسماء اللّه عز و جلّ. ثم قال: أما «الالف» فاللّه لا إله إلا هو الحيّ القيوم، و أما «الباء» فالباقى(1) بعد فناء خلقه، و أما «التاء» فالتواب يقبل التوبة عن عباده، و اما «الثاء» فالثابت الكائن، يُثَبِّتُ اللّٰهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثّٰابِتِ فِي الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا - الآية(2) و أما «الجيم» فجلّ ثنائه و تقدست أسمائه، و أما «الحاء» فحق حيّ حليم، و أما «الخاء» فخبير بما يعمل العباد، و أما «الدال» فديّان يوم الدين، و أما «الذال» فذو الجلال و الاكرام، و أما «الراء» فرءوف بعباده، و أمّا «الزاي» فزين المعبودين، و أما «السين» فالسميع البصير، و أما «الشين» فالشاكر لعباده المؤمنين، و أما الصاد، فصادق في وعده و وعيده، و أما الضاد، فالضار النافع، و أما الطاء، فالطاهر المطهر، و أما الظاء، فالظاهر المظهر لآياته، و أما العين، فعالم بعباده، و أما الغين، فغياث المستغيثين من جميع خلقه [و أما الفاء، ففالق الحب و النوى و أما القاف، فقادر على جميع خلقه] و أما الكاف، فالكافي الذي لم يكن له كفوا أحد، و لم يلد يولد، و أما اللام، فلطيف بعباده، و أما الميم، فمالك الملك، و أما النون، فنور

ص: 379


1- في المخطوطة: «فباقي».
2- إبراهيم/ 27.

السموات من نور عرشه، و أما الواو، فواحد [أحد] صمد لم يلد و لم يولد، و أما الهاء، فهاد لخلقه، و أما لام ألف، فلا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، و أما الياء، فيد اللّه باسطة على خلقه.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: هذا هو القول الذي رضي اللّه عز و جلّ لنفسه من جميع خلقه »(1).

و باسناده عن الباقر عليه السّلام قال:

«لما ولد عيسى بن مريم عليه السّلام كان ابن يوم كأنه ابن شهرين فلما كان ابن سبعة أشهر أخذت والدته بيده و جاءت به إلى الكتاب و أقعدته بين يدي المؤدب.

فقال له المؤدب: قل: «بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ » .

فقال عيسى عليه السّلام: «بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ » .

فقال له المؤدب: قل أبجد.

فرفع عيسى عليه السّلام رأسه و قال: هل تدرى ما أبجد؟ فعلاه بالدرة ليضربه، فقال: يا مؤدب، لا تضربني، إن كنت تدرى و إلا فسلني حتى أفسّر لك.

قال: فسّره لي.

فقال عيسى عليه السّلام: الالف آلاء اللّه، و الباء بهجة اللّه، و الجيم جلال(2) اللّه، و الدال دين اللّه.

«هوز» الهاء هول جهنم، و الواو ويل لاهل النار، و الزاء

ص: 380


1- راجع تعليقة 2 ص 221 و قد ذكرنا مصادره فيها.
2- خ. ل: «جمال».

زفير جهنم.

«حطى» حطت الخطايا عن المستغفرين.

«كلمن» كلام اللّه لا مبدل لكلماته.

«سعفص»، صاع بصاع، و الجزاء بالجزاء.

«قرشت» قرشهم فحشرهم.

فقال المؤدب: أيتها المرأة، خذى بيد ابنك، فقد علم و لا حاجة له في المؤدب(1).

و باسناده عن الاصبغ بن نباتة أنه قال أمير المؤمنين عليه السّلام:

«سأل عثمان بن عفان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن تفسير «أبجد» فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: تعلّموا تفسير أبجد، فان فيه الاعاجيب كلّها؛ ويل لعالم جهل تفسيره.

فقيل: يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما تفسير «أبجد»؟

فقال: أما الالف، فآلاء اللّه حرف من أسمائه، و أما الباء، فبهجة اللّه، و أما الجيم، فجنة اللّه و جلال اللّه و جماله، و أما الدال، فدين اللّه.

و أما «هوز» فالهاء هاء الهاوية، فويل لمن هوى في النار، و أما الواو، فويل لأهل النار، و أما الزاء، فزاوية في النار، فنعوذ باللّه مما في الزاوية؛ يعنى: زوايا جهنم.

ص: 381


1- التوحيد، باب تفسير حروف الجمل، ص 236، ح 1؛ و المعاني، باب معنى حروف الجمل، ص 45، ح 1؛ و البحار، ج 2، باب غرائب العلوم من تفسير أبجد و حروف المعجم، ص 316، ح 1.

و أما «حطى»، فالحاء حطوط الخطايا عن المستغفرين في ليلة القدر، و ما نزل به جبرئيل مع الملائكة إلى مطلع الفجر و أما الطاء، فطوبى لهم و حسن مآب، و هي شجرة غرسها اللّه عز و جلّ و نفخ فيها من روحه، و إن أغصانها لترى من وراء سور الجنة تنبت بالحليّ و الحلل متدلية على أفواههم و أما الياء، فيد اللّه فوق خلقه؛ سبحانه و تعالى عما يشركون و أما «كلمن» فالكاف كلام اللّه «لاٰ تَبْدِيلَ لِكَلِمٰاتِ اللّٰهِ وَ لَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً» (1) و أما اللام، فالمام أهل الجنة بينهم في الزيارة و التحية و السلام، [و] تلاوم أهل النار فيما بينهم و أما الميم، فملك اللّه الذي لا يزول، و دوام اللّه الذي لا يفنى و أما النون ف «ن وَ الْقَلَمِ وَ مٰا يَسْطُرُونَ» (2) فالقلم قلم من نور، و كتاب من نور في لوح محفوظ يشهده المقربون، و كفى باللّه شهيدا.

و أما «سعفص»، فالصاد صاع بصاع، و فص بفص، يعني: الجزاء بالجزاء، و كما تدين تدان، إنّ اللّه لا يريد ظلما للعباد.

و أما «قرشت»، يعنى قرشهم اللّه فحشرهم و نشرهم إلى يوم القيامة، فقضى بينهم بالحق و هم لا يظلمون(3).

ص: 382


1- ناظر إلى قوله تعالى في سورة الكهف، آية 27، و هو: «لاٰ مُبَدِّلَ لِكَلِمٰاتِهِ وَ لَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً ».
2- القلم/ 1.
3- قد مضى بعض فقراته في تفسير البسملة في مواضع شتى، فراجع المآخذ المذكورة في تعليقة 1 ص 222.

[في بيان دلالة الحروف المقطعة على حقائق أسماء اللّه سبحانه و استبصارات فيها]

أقول: الذى يظهر لي في المقام بملاحظة تلك الاخبار المترائى منها الاختلاف و ملاحظة بعض الاستبصارات، هو أنه كما أن الحروف المفردة اللفظية أصل للكلمات المركبة منها، و المفهوم من المركبة أمور غير بسيطة بحسب الاستقراء في الغالب أو الكل، فالظاهر أن يكون تلك الحروف المفردة بازاء أصول للعالم هي بسائط بالقياس إلى أجزاء العالم؛ كما أن النفس الانساني أول ما يحصل فيها الحروف على حسب مراتبها، فالظاهر ان يكون النفس الرحماني أيضا محصلا لبسائط هي الاصول للعوالم المقيدة المركبة، و يكون كل حرف من الحروف الصادرة عن الانسان بازاء حقيقة من تلك الحقائق البسيطة حتى يطابق الآية التي هى الانسان مع ذي الآية، و يطابق مع مقام اللّفظ مقام المعنى حتى يصلح لكونه مرآة له.

و إذا لاحظت بعقلك نسبة البسيط إلى المركب المفروض وجوده، فاحدس أنه لم يتحقق المركب في الكون إلا و قد سبقه فيها البسائط التي هي أصول هذا المركب، فان البسيط مقدم على المركب، و أولى بالتقدم في الايجاد و قبول الفيض، فيشبه أن يكون مقتضى النظام الاكمل تقديم إيجاد البسائط على بساطتها على خلق المركبات، حتى تكون بمنزلة الخزائن للحصص التي عرضها التركيب في عالم التركيب و لعل إليها ينظر قوله سبحانه: «وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّٰ عِنْدَنٰا خَزٰائِنُهُ وَ مٰا نُنَزِّلُهُ إِلاّٰ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ» (1)

و الذي يناسبها في عالم الالفاظ بحيث يدل عليها بذاته أن جعلنا دلالة الالفاظ ذاتية، أو يوضع لها واضع حكيم يضع الاشياء مواضعه، و لا يرجح المرجوح على الراجح هو الحروف البسيطة المفردة، فيشبه أن يكون تلك دالة على تلك الحقائق

ص: 383


1- الحجر/ 21.

بالذات أو الوضع.

و الظاهر أن تلك الحقائق هي حقائق هى أسماء اللّه سبحانه ملأت أركان كل شيء بأشعتها و آثارها و ستعرف - إن شاء اللّه تعالى - تمام البحث عن تلك الحقائق المخلوقة.

فالظاهر أن يكون كل حرف من تلك الحروف المفردة دالّة على حقيقة اسم من الاسماء الالهية العينية. و ربما يدل عليه قوله عليه السّلام فيما تقدم: «إن اول ما خلق اللّه عز و جلّ - الخ (1) ،و قوله: ما من حرف إلا و هو اسم من اسماء اللّه - الخ (2) ،و ما ذكر من تفاصيل معاني الحروف و إن كان بعضها مما يتراءى منه أنه ليس اسما للحق سبحانه، لكن إذا لاحظته منتسبا إلى الرب سبحانه، فربما ظهر لك المشتق الذى يصح أن يوصف به الحق سبحانه، و لا يلزم أن يكون مدلول تلك الاخبار أن يكون الحروف المفردة دالّة على المركبات، كما ربما يسبق إلى الوهم، بل يصح أن يكون كل من الطائفتين دالة على تلك الحقائق العينية، و على اللّه سبحانه باعتبارها.

و ربما يدل على ذلك ما سبق من أن «صفوة هذا الكتاب حروف التهجى»(3)

و كثير ممّا سبق في بيان فواتح السور المفسرة لها بأسماء اللّه سبحانه، أو بما يستشم منه ذلك؛ كتفسير نون بالمداد من النور الذي كتب به ما كان و ما يكون فان الظاهر منه كونه من البسائط الاولية، و لا ينافيه وصفه بكونه نهرا في الجنة، فانّ الجنة ينقسم إلى روحاني محض و جسماني محض، و متوسط بينهما، كما لعلك ستعرف

ص: 384


1- راجع كلام علي بن موسى الرضا - عليهما السلام - في تفسير حروف المعجم، الذي مر آنفا.
2- إشارة إلى الكلام الاخير عن مولى الموحدين علي بن أبي طالب - عليه السلام - في الفائدة في حروف الهجاء.
3- قد تقدم في أول هذه السورة، فراجع.

تفصيلها - إن شاء اللّه تعالى -.

فلو حمل على الروحاني المحض كان كونه نهرا روحانيا في عالم الاسماء الالهية مناسبا لما ذكرنا. و يؤيده وصفه بالنورية و بأنه ملك، فانّ تلك الحقائق ربما يصح أن يطلق عليها لفظ «الملك» أو يستعار لها اسم الملك الموكل عليها الواقع تحتها، كما يصح أن يجعل لفظ «الجنة» مستعملا في مبدإ الجنة و أصلها الذي بتنزلها ظهرت الجنة، كما أن في تتمة رواية القمي ما ربما يؤكد ما ذكرنا للبصير.

و ما ورد في «صاد» من أنه عين أو ماء عند العرش، فان جعل العرش عبارة عن عالم العلم الكلّي فهو يوافق ما قررناه، و إن جعل عبارة عن بعض الموجودات المقيدة فلعلّه باعتبار كونه مظهرا لتلك الحقيقة، و حصة متنزله منها على عالم السفلى يظهر بتوسطها تلك الحقيقة في هذا العالم.

و بمثل ذلك يمكن أن يحمل ما ورد من تفسير بعض الفواتح بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و شجرة طوبى، و سدرة المنتهى، و طور سيناء و غيرها، إذ لعل ذلك كله باعتبار كونها قوالب و مظاهر لتلك الحقيقة لكون العوالم السافلة حاكية عن العالية، و تنزلات لها. و قريب منه الكلام في تفسير «قاف» بالجبل إن أخذنا الجبل بالمعنى العرفي الشائع و إن جعلناه عبارة عن أمر باطن بالنسبة إلى هذا العالم محيط به، فهو إما اسم من تلك الاسماء، أو مظهر له بناء على ما ذكر.

و أما ما ورد من تفسير «كهيعص» بكربلا و هلاك العترة و يزيد و العطش و الصبر، فلعلّه باعتبار أخذ آثار تلك الاسماء الالهية و مظاهرها و محالها مكانها مثلا إذا جعل الكاف عبارة عن الكافي فيصح أن يجعل عبارة عن كربلاء باعتبار استجابة الدعاء فيه من دون ظهور تقييد المدعو به ببعض الحاجات، فهو مظهر اسم الكافي؛ إذ هو يكفي كل محتاج، و ممدّ له من الفيوضات ما يكفيه لاصلاح جميع شئونه مثلا. و إذا جعلنا الهاء عبارة عن الهادي، فبملاحظة ما ترتب على واقعه الطف

ص: 385

من ظهور أمر الدين و الهداية، و أن المقصود من الاقدام على تلك الوقعة هو هداية الناس مثلا يصح جعله عبارة عن هلاك العترة.

و أما إطلاق الياء على يزيد، فلعلّه باعتبار كونه مظهرا لاسامي القهر و الانتقام، و يكون الياء عبارة عن أحدها.

و أما جعل العين بمعنى العطش، فلعلّه باعتبار كون عطش هذا العالم ريا من ذلك العالم، و يكون العين عبارة عن العلم الذى هو موجب للري، أو باعتبار كونه من آثار بعض الاسماء الذي يقتضي نزول البلاء على الاولياء.

و أما الصاد، فان جعل عبارة عن الصادق و ما يترتب على الصدق، فمن أوضح مظاهر الصدق هو الصبر في تلك الشدة العظيمة.

و يمكن أن يجعل تلك الواقعة الهائلة مثالا و مظهرا عينيا لما يتوقف عليه ظهور تلك المعاني في الانسان، فان ظهور الكفاية و الهداية و العلم و الصدق و الايادي العظام على ظاهر الرواية الاخرى في تفسير هذه الحروف فرع الشهادة المعنوية، التي هي الموت قبل الموت الذي هو الحياة و الهلاك الصوري، الذي هو الحياة المعنوية في مقام الشهادة المعنوية، الذي هو كربلاء معنوي و تحقق الفناء عن الانانية التي بها صار يزيد يزيدا، و قطع التعلّقات عن جميع الاشياء مع كونه عطشانا ورد إلى حياض ربه، و صابرا لا يجزع عمّا أصابه. فظهور تلك الاسماء في مظهر كان مماثلا لكربلاء فيصح جعله بيانا لمثال المظهر.

و لقائل أن يدعي انه كما يكون ظهورها في العالم الصغير عند وجود تلك المعاني فكذلك ظهرت في كربلاء او في مطلق العالم الكبير بواسطة ظهور تلك الوقعة فيها، و لذلك صار تلك البلدة و البقعة و الوقعة مبادئ لظهور بركات و خيرات لا تحصى لمن انتسب إليها من ذاكر و باك و متباك و مؤسس لعزاء أو خادم في مجلس تعزية، أو زائر أو مجاور أو خادم أو متوسل أو غيرهم، فحينئذ فتلك الوقعة ظهور كلي لتلك

ص: 386

الاسماء في العالم، فاطلق عليها الاسم إطلاق اسم الظاهر على المظهر له، فتأمل.

ثم اعلم أن ظهور آثار كل من تلك الحقائق في هذا العالم مختلفة بحسب الدهور و الازمان فتارة يقوى ظهور بعضها ظهورا بينا و يخفى مقابله، و أخرى ينعكس، و ثالثة يتوسط فيكون لهما الظهور، و لدولة كل منها و استيلائه زمانا معينا و عصرا خاصا محدودا على حسب ما حكم اللّه سبحانه له فاذا جاء زمانه كان الملك و التسلّط و الاستيلاء لأهل ذلك الاسم، و إذا انقضى ارتفعت عنهم، و ذلك كالشمس إذا طلعت ظهر آثار طلوعها من الإضاءة و التسخين و التجفيف و غيرها في العالم، و كلما ارتفعت ازدادت الآثار إلى نصف النهار على عكس حال الظلمة و البرودة و الرطوبة، فانها تضعف كذلك، و عند وسط السماء يبتدأ النزول و الانتقاص إلى غروب الشمس. و حينئذ فتستولي الظلمة و البرودة و الرطوبة متزايدة إلى نصف اللّيل، ثم ينقض بحسب المقتضى إلى طلوع الشمس.

و هكذا الحال في أكثر موجودات هذا العالم، فانها تبتدأ و تأخذ في الكمال إلى حين ثم تقف و ترجع متناقصة إلى ما يماثل الحال الاول. فالانسان يوجد ابتداء ضعيفا من كل وجه، و يأخذ في القوة و الاستكمال إلى حد الشباب، ثم يشرع في الانتقاص و وهن القوى إلى أن يصل إليه الموت، الذى هو مساو لحاله قبل الحياة و كما أن حال أشخاص الموجودات على ما وصفنا فكذلك حال الاصناف و الانواع فحال العلماء مثلا تارة في القوة و الاقبال إلى حين، و تارة يأخذ في الضعف إلى نهايته.

و كذلك كل صنف من الاصناف كأهل الباطل و أهل الحق، فتارة يستولي أهل الحق و يكمل استيلائهم إلى حين، و ينعكس تارة أخرى، فيكون الاستيلاء لأهل الباطل.

ثم إن الباطل ذو شئون كثيرة، كما أن الحق أيضا له اركان و شعب كثيرة، فيجري الكلام في كل جهة من كل منها، و استيلاء كل واحد من تلك الاصناف تابع لقوة ظهور ذلك الاسم الخاص المنسوب ذلك الصنف إليه في ذلك و كونه وقتا

ص: 387

مجعولا له؛ إذ لكل من تلك الاسماء المتقابلة طلوعا يظهر عنده آثاره و استواء في الكمال، و غروبا يختفي عنده أهله، و يكونون مغلوبين مقهورين.

و من هنا يظهر أن لكل طائفة خاصّة زمان ملك و سلطنة و استيلاء هو زمان طلوع الاسم المنتسب إليهم؛ إذ الناس على دين ملوكهم و طريقتهم.

ثم إن الاعتبار يقضي بكون زمان كل اسم من الاسماء في كل مرتبة بعدد الحرف الدال عليه؛ إذ الحرف قالب المعنى و الاصل مطابقتها في صفات المعنى، فاذا كان الحرف له عدد خاص كان الظاهر ثبوت ذلك العدد للمعنى، بل كون الحرف تابعا للمعنى في العدد.

ثم إن الجمع بين عدة من تلك الحروف في الكلام الذي ليس في الامكان أكمل منه من كل وجه لا بدّ و أن يكون لحكم و مناسبة و توافق وقع بين تلك الحقائق بحيث وقعت الالفة بينهما، و تحقق اجتماع تلك المعاني في موضع واحد حتى يوافق الكتاب التكويني الكتاب اللّفظي، و يكون إظهار ذلك لفظا بالوحي دليلا على ظهور مظهر تلك المعاني المجتمعة في العين في مدة مجموع أعداد آحادها؛ إذ بعد الاجتماع فى المحل يكون ظهور ذلك المظهر الجامع و استيلائه بقدر زمان كل منها مع رعاية موافقة اللّفظ و العين في العدد و حينئذ فكل فاتحة من فواتح السور يدل على استيلاء مظهر تلك الفاتحة، و ملكه في المدة المدلول عليها بحروف تلك الفاتحة.

و لعلّه لما ظن اليهودي المتقدم أن «الم» متعلّق بأصل النبوة و الشريعة حكم بأنه مدة ملك الدين و أكل امته(1) و ذلك لأنه ظن أجزاء زمان الشريعة متشابها متوافقا فجعله زمانا له و لم يعلم أنه قرون و أعصار مختلفة.

و فواتح السور المتعلّقة بها كثيرة؛ فمنها: ما يتعلّق بقيام بني العباس و انقضاء دولة بنى أمية «المص» على ما سبق و لا إشكال فيه بأن الظاهر من التواريخ و تصفح الاخبار ان ظهور دولة العباسيين قبل ذلك بسنين كثيرة يمكن دفعه بأن المناسب لمبدإ العدد ليس هو الهجرة، بل هو زمان البعثة، فانه أول زمان النبوة.

ص: 388


1- راجع الرواية المنقولة عن ابن بابويه (ره)، عن الباقر - عليه السلام - في ص 368.

و نزول الكتاب. و يشهد له أنّ بدو خروج الحسين عليه السّلام كان بحسب الظاهر في آخر الستّين، مع أنّ عدد «الم» واحد و سبعين.

و الظاهر من ظهور دولة العباسيّين و إن كان قبل هذا العدد من هذا المبدا أيضا، إلا أنّ كمال استقلالهم و شوكتهم، و ارتفاع الاستيلاء من بني أميّة لعلّه يوافق ذلك.

و يحتمل الحمل على البداء أيضا و إن كان ذيل بعض الاخبار ينافيه(1).

و أمّا ما ذكره في ذيل الخبر الاخير من أنّها تجري في وجه آخر على غير تأويل «حييّ» و «أبي ياسر» و أصحابهما (2) ،فلعلّه ناظر إلى أنّ كلّ فاتحة إشارة إلى دولة خاصة، لا أنّ الفواتح لأجل مدة الشريعة و الدين، أو أنّها تجري في وجه آخر غير هذا النمط أيضا. هذا.

و أمّا أنّ «عسق» عدد سني القائم - عجّل اللّه تعالى فرجه -، فهو موافق لكون علم كلّ شيء في «عسق»؛ إذ ذلك السنين هو زمان ظهور العلم و المعرفة و الحقيقة، و اضمحلال الباطل و الجهل. و لما ورد من ترجمته بالعالم السميع القادر القويّ؛ إذ فيها يظهر حكم العلم و السمع مجتمعين مع القوّة و القدرة مؤتلفين معهما؛ إذ القدرة و القوّة حينئذ بيد مظهر العالم السميع و أرباب العلم و السمع.

و يؤيّد ذلك كلّه أنّ لقراءة هذه الحروف أعني: «حم عسق» تأثيرا عظيما في انكشاف العلوم و المعارف، بل و في ظهور دولة الحقّ في العالم الصغير على ما هو الظاهر ممّا جرّ به المجرّبون.

ص: 389


1- و مراده على حسب الظاهر هو الرواية المتقدمة التي نقلها عن المعاني و العياشي، عن الصادق - عليه السلام -، فراجع ص 361.
2- راجع ص 372، رواية الصدوق (ره) عن أبي جعفر - عليه السلام -.

و قد ورد هذه اللّفظة و «كهيعص» في الدعاء مكرّرا (1) ،إما مقسما بهما، أو جعلهما مدخولي حرف النداء. و الظاهر أنّ لهما شأنا و مكانا لمن كان من أهله.

و هذا ممّا يؤيّد كون مدلولهما من حقائق الاسماء الالهيّة.

و ممّا أشرنا إليه في «عسق» من اجتماع القدرة و العلم يمكن استخراج وجه آخر لدلالة فواتح السور على زمان الملك في الجملة، و هو: أنّ كلّ موضع كان بعض الحروف دالّة على الملك أو القدرة أو القوّة أو ما شاكلها، فهو يقتضي ظهور معانيها في مظاهر باقي الحروف المجتمعة معه. فهاهنا يدلّ على ملكية العالم السميع، و في سائرها على هذا القياس. و حينئذ لا يلزم أن يكون كلّ فاتحة بل خصوص ما كان بعض تلك الحروف دالّة على أشباه الملك و القدرة، و لكن ربّما يتراءى من خبر «أبي لبيد»(2) عموم الحكم لجميع فواتح السور.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ ما ذكرناه من كون حروف التهجّي دالّة على حقائق الاسماء هو مبنى علم الحروف و أحكامه و آثاره الّتي يرتّبونها؛ إذ لو لا ذلك لكان ترتّب تلك الآثار و الخواصّ و الاحكام بعيدا.

و ربّما يظهر للناظر في تفصيل ذلك العلم ما يشهد لما ذكرنا و يوضحه.

ثمّ إنّ تلك الاسماء الالهيّة تنقسم إلى اسم أعظم هو بمنزلة الكلّ في وحدة، و إلى أسماء جمال و رحمة و كرم، و أسماء جلال و قهر و انتقام، و إلى أسماء متعلّقة بالابداء كاسم المبدا، و إلى [أسماء] متعلّقة بأحكام الاعادة كالمعيد، و إلى أسماء

ص: 390


1- كدعاء «اللهم يا شاهد كل نجوى» نقله المحدث القمي (ره) في مفاتيح الجنان عن الاقبال و المصباح، و فيه: «و أسألك باسمك الذي شققت به البحار و... و بحق طه و يس و كهيعص و حمعسق و...».
2- إشارة إلى خبر العياشى المتقدم عنه، عن أبي جعفر - عليه السلام - لقوله - عليه السلام -: «و ليس من حروف مقطعة حرف تنقضى أيامه إلا و قائم من بني هاشم عند انقضائه.» فراجع ص 359 و 360.

كلّيّات و أسماء جزئيّات بالاضافة إلى تلك الكلّيّات، كما يشهد لذلك ما سبق في تفسير آحاد حروف التهجّي.

و ممّا قدّمنا هنا مضافا إلى بعض ما سبق يظهر وجه ما روي أنّ فواتح السور حروف اسم اللّه الاعظم (1) ،فانّ الظاهر أنّ تلك الفواتح دالة على ما عداه من الاسماء، فانّ الظاهر أنّ الدالّ عليه إمّا الالف المعبّر عنه بلام الف لا، أو خارج عن الحروف، و نسبتها إليه نسبة التفصيل و الاجزاء بالنسبة إلى الكلّ، كما نبّهنا عليه سابقا، فهي بمنزلة الحروف للكلمة، و مجموع تلك الحروف المفردة لو أخذت مؤلّفة مرتبطة كانت دالّة على ذلك الاسم الاعظم؛ لأنّ الالف و اللام و الميم و عدّة من الحروف الدوالّ على الاجزاء إذا اجتمعت دلّت على الكلّ. و قد سبق شطر من الكلام في لفظ «بسم» و لفظ «الجلالة» فراجع، و قس عليها غيرها.

و لعلّ في الاقتصار في هذه الفواتح على أربعة عشر حرفا دلالة على أنّ أصول الحروف المنسوبة إلى الجمال و الرحمة الّتي هي المقصود الاوّل هو بهذا العدد.

و بحكم أصالة تشابه العوالم يثبت أنّ الانسان الاكمل المقصود ابتداء بقول مطلق منحصر في الاربعة عشر المعصومين - صلوات اللّه عليهم أجمعين - فافهم.

هذه جملة ممّا خطر بالبال في هذا المقال، و لعلّ ما فات منّا أو أخطأنا في ذلك أكثر ممّا أصبنا فيه الحقّ و الحقيقة، و اللّه العالم بحقيقة الحال.

ص: 391


1- قد مضى بعض الاخبار الواردة في هذا المعنى و رواية الصدوق (ره) المؤيدة له فيما سبق، فراجع تعليقة 1 ص 357.

[في حقيقة الكتاب و المتّقين و الارتباط بينهما]

ذٰلِكَ الْكِتٰابُ لاٰ رَيْبَ فِيهِ

عن تفسير الامام عليه السّلام يعني:

«القرآن الّذي افتتح ب «الم» هو «ذٰلِكَ الْكِتٰابُ» الّذي أخبرت به موسى فمن(1) بعده من الانبياء، و هم أخبروا بني إسرائيل: أنّي سأنزل(2) عليك يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله كتابا عربيّا عزيزا لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.

«لاٰ رَيْبَ فِيهِ » ،لا شكّ فيه لظهوره عندهم، كما أخبرهم أنبيائهم أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله ينزل عليه كتاب لا يمحوه الباطل يقرؤه هو و أمّته على سائر أحوالهم.»(3)

و روى القمّي باسناد لا يخلو عن قوّة، عن الصادق عليه السّلام أنّه قال:

«الكتاب عليّ عليه السّلام لا شكّ فيه: «هُدىً لِلْمُتَّقِينَ » ،قال: تبيان لشيعتنا .»(4).

و روى العيّاشي في المرسل عنه عليه السّلام في قوله: «الم * ذٰلِكَ الْكِتٰابُ لاٰ رَيْبَ فِيهِ»

قال:

ص: 392


1- خ. ل: «و من».
2- في المخطوطة و الصافي و البرهان و نور الثقلين: «سأنزله».
3- راجع المصادر المذكورة في تعليقة 1 ص 359.
4- تقدم في المقدمة الاولى، فراجع ص 20.

«كتاب عليّ لا ريب فيه - الحديث.»(1)

و الظاهر كما ذكره بعضهم أنّ: «إضافة الكتاب إلى عليّ بيانيّة، يعني:

أن ذلك إشارة إليه عليه السّلام، و الكتاب عبارة عنه، و المعنى: أنّ ذلك الكتاب الّذي هو عليّ لا مرية فيه.»(2) فيوافق رواية القمّي، بل لا يبعد اتّحاد الروايتين، كما يشهد له بعض القرائن. و على كلّ حال فهذا تأويل و الاوّل تفسير، و قد سبق وجه التطبيق بين الكتاب و الامام في المقدّمات(3).

و نقول هنا: إنّ القرآن إذا استولى على مملكة القلب بأمره و نهيه، و وعده و وعيده، و معارفه و أحكامه، و ترغيبه و ترهيبه بحيث صار هو المتصرّف في الانسان، و كان مصداقا للوصف الّذي وصف أمير المؤمنين عليه السّلام «العبد الّذي هو من أحبّ عباد اللّه عليه من أنّه أمكن الكتاب من زمامه، فهو قائده و إمامه يحلّ حيث حلّ ثقله، و ينزل حيث كان منزله» على ما ببالي من لفظه، فالانسان حينئذ قرآن بنفسه لفناء كلّ شيء كان من نفسه فيما جاء من طرف القرآن، فليس هناك إلا القرآن و أحكامه و آثاره و ما جاء من طرفه. و حينئذ فكلّ وصف وصف به القرآن من أنّه حقّ لا باطل معه، و أنّه لا ريب فيه، و أنّه هدى للمتّقين و غير ذلك، فهو وصف لذلك العبد الموصوف، فلاحظ و تدبّر.

هذا مع أنّ الكتاب غير مخصوص باللّفظيّ و التدويني، بل هاهنا كتاب تكوينيّ، بل كتب تكوينيّة يطابقه الكتاب التدويني، كما نقل عن أمير المؤمنين

ص: 393


1- العياشي، ج 1، ص 25، مرسلا عن سعدان بن مسلم، عن بعض أصحابه، عنه - عليه السلام -؛ و الصافي، ج 1، ص 58؛ و البرهان، ج 1، ص 53، ح 2.
2- الكلام للفيض (ره)، فراجع الصافي، ج 1، ص 58.
3- راجع المقدمة الاولى، ص 18-21.

عليه السّلام (شعر )(1):

دوائك فيك و ما تشعر *** و دائك منك و ما تبصر(2)

و أنت الكتاب المبين الّذي بأحرفه(3) يظهر المضمر

و عن الصادق عليه السّلام:

«الصورة الانسانيّة هي أكبر حجّة اللّه على خلقه و هي الكتاب الّذي كتبه اللّه بيده.»(4)

و قيل: إنّ «إطلاق الكتاب على الانسان شائع في عرف أهل اللّه و خواصّ أوليائه.»(5)

و بيان ذلك في خصوص الانسان: أنّ الانسان بعد التصفية الكاملة و التحقّق بحقيقة التقوى يجد في لوح نفسه معارف و علوما، فكأنّ نفسه لوح و تلك العلوم و المعارف نقوش مكتوبة عليها. و لعلّه المراد من الصورة الانسانيّة الموصوفة بأنّه أكبر حجّة اللّه، و ذلك لأنّ مثل ذلك العلم الثابت في لوح النفس أقوى من جميع الحجج على ذلك الانسان؛ إذ ليس سائر العلوم مثله في القوّة و الاستيلاء و الثبات عليه، فالحجّة به أتمّ و ألزم من غيرها، و لا تكليف إلا بعد البيان، و مثل ذلك الانسان المتحقّق بذلك المقام مقيم للحجّة على سائر عباد اللّه الّذين ليس لهم ذلك و ذلك الكتاب ما كتبه اللّه بقدرته ليس ما كتبه الناس، و هو المبين الّذي يبيّن المضمرات الغائبة عن هذا العالم، و لذلك المقام عندنا آية و هو العقل بالنسبة إلى أحكامه الغير الاكتسابيّة. فانّه لو لاحظته حقّ الملاحظة وجدت هذه العلوم

ص: 394


1- ديوان الامام علي - عليه السلام -، ص 57.
2- في المخطوطة: «لا تبصر».
3- خ. ل: «بآياته».
4- نقله الفيض (ره) في الصافي، ج 1، ص 58.
5- هو كلام الفيض (ره)، تجده في الصافي، ج 1، ص 58.

راسخة في جوهر العقل ثابتة فيه، كأنّه لوح، و هذه الادراكات منقوشة عليه.

و كما أنّ كلّما حكم به العقل حكم به الشرع و بالعكس على ما أثبته أهل الاصول كذلك الكتاب المذكور مطابق للقرآن لا يخالف أحدهما صاحبه. و كما أنّ العقل لا يقبل الريب في أحكامه كذلك ذلك الكتاب لا يدخله ريب و لا شكّ، و هو ظاهر لصاحبه بنفسه، أو هو الصاحب لنفسه و ظاهر لغيره بآياته و دلائله.

و حينئذ فاطلاق الكتاب على عليّ عليه السّلام المطابق للقرآن مطابقة تامّة، لا افتراق بينهما كما يظهر من أخبار الثقلين و غيرها، و لا ريب فيه له و لا لغيره من أولى الالباب، الّذين ينظرون بألبابهم في شأنه و كمالاته و صفاته المظهر لكونه كذلك صحيح و أولى بالصحّة من كلّ شيء.

و لعلّ وجه استخراج حال ذلك الكتاب العلويّ من لفظ الكتاب المراد منه القرآن أنّ هذا الكتاب في مقامه الظاهريّ بمنزلة صورة ظاهريّة لذلك الكتاب المعنويّ، الّذي «هُوَ آيٰاتٌ بَيِّنٰاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ» (1) و هم الائمّة عليهم السّلام.

فالاحكام المترتّبة على تلك الصورة يسري إلى حقيقته بالتأويل، فيكون مفاد التأويل هو ما ذكر في الرواية.

أو يقال: إنّ للكتاب مقامات. أحدها نفس أمير المؤمنين عليه السّلام، فاذا ثبت الحكم للكتاب بعنوان مطلق ثبت لجميع مواطنه و مواقعه و عوالمه، فيكون من جملة مفاد الكلام أنّ «كتاب عليّ عليه السّلام لا ريب فيه - الخ.» و ذلك الكتاب هو أمير المؤمنين عليه السّلام لم يدخل قلبه ريب و لا شكّ أبدا، و ليس في شأنه شكّ و لا ريب لأولى الالباب مع ما ظهر منه.

و «هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» و إمام لهم يأتمّون به و يهتدون به، بل صدق هذه الجمل عليه في هذا المقام أوضح من مقام الكتاب الظاهر للناس.

ص: 395


1- العنكبوت/ 49.

فلعلّ في ذلك إشارة إلى التأويل المذكور لأولى الالباب.

[في معنى الرّيب]

ثمّ إنّ الريب هو الشكّ و أصله: قلق النفس و اضطرابها، كما روى الزمخشري عن المجتبى عليه السّلام أنّه قال:

«سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله [يقول]: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فانّ الشكّ ريبة، و الصدق طمأنينة.»(1)

قال الزمخشري: «أي: فانّ كون الامر مشكوكا فيه ممّا تقلق له النفس و لا تستقرّ به، و كونه صحيحا صادقا ممّا تطمئنّ له و تسكن.»(2)

و ظاهره أن المراد كون الاعتقاد سببا لسكون النفس، و الشك سبب للقلق.

و لعلّ الاظهر أن يفسّر بأنّ الطمأنينة إذا حصلت في النفس من الخبر دلّت على كونه صادقا في إخباره، و إن ارتفعت عنه و حدث الريب فهو موضع ريبة و تهمة، كما يؤيّده ما روي في المشهور عندهم أنّ الصدق طمأنينة و الكذب ريبة. و كان مفاد الخبر حينئذ أنّ سكون النفس و طمأنينته على الخبر علامة صدقه. و لعلّ مرجعه الاحالة إلى ذوق النفس و طبعه، فشرط ظهور العلامة سلامته من الامراض المغيّرة لمزاجه و طبعه.

و كيف كان، فنفي جنس الشكّ في الكتاب لا ينافي ما ظهر من الاشقياء المرتابين؛ لأنّ المنفيّ كون الريب فيه لا في النفس المائلة عن الاستقامة؛ إذ الكلام الّذي يشهد بلفظه و معناه من جهات كثيرة بأنّه الحقّ الثابت كيف يكون الشكّ، أو ما يوجب التهمة مستقرّا فيه، و قد استقرّ فيه من كلّ وجه ما ينفي الشكّ

ص: 396


1- الكشاف، ج 1، ص 19؛ و هكذا في أنوار التنزيل، ص 8.
2- الكشاف، ج 1، ص 19.

و التهمة عنه؟ بل الكلام الّذي استقرّ فيه الريب هو ما يكون متّصفا بأضداد صفاته.

و كذا إذا لوحظ في المريب معنى اضطراب النفس إذ الكلام المشتمل على ما يسكن به النفس بحقيقته، و يوجب الاطمينان و رفع القلق عن النفس في جميع الشئون عند استقراره في القلب، كيف يتأمّل في نفي استقرار الريب فيه؟ و إنّما الّذي أوجب الريب في المرتابين ما استقرّ في نفوسهم الخبيثة من العوج و الانحراف و ما غشي أعينهم من أغشية الهوى و العصبيّة، و الميل إلى الباطل، و الاعراض عن التأمّل في الكتاب.

و كيف يصحّ التأمّل في نفي الريب في الشمس الطالعة، مع أنّ العميان و المسجونين في السجن المظلم، لا يرونه و يتردّدون فيه، مع ظهور أمر القرآن ما أقوى منها لأولي البصائر؟

و ربّما نذكر جملة من وجوه ذلك فيما سيأتي - إن شاء اللّه تعالى -.

[في معنى الهداية و أنّ المتّقين هم المهتدون و هم الشّيعة] هُدىً لِلْمُتَّقِينَ

عن الصدوق باسناده عن الصادق عليه السّلام أنّه قال في الآية: «بيان لشيعتنا.»(1)

و روى العيّاشي عنه عليه السّلام فيه أنّه قال: «المتّقون شيعتنا.»(2) و قد تقدّم صدره.

و الاوّل أيضا باسناده عن يحيى بن أبي القاسم قال:

«سألت الصادق عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ «الم» إلى قوله

ص: 397


1- راجع تعليقة 1 من ص 357.
2- راجع مصادر روايته الاخيرة المذكورة في ص 393، تعليقه 1.

«يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ » ،فقال: المتّقون شيعة علي عليه السّلام - الحديث.»(1)

و في تفسير الامام عليه السّلام:

«هدى بيان من الضلالة للمتّقين الّذين يتّقون الموبقات، و يتّقون تسليط السفه على أنفسهم، حتّى إذا علموا ما يجب عليهم عمله(2) عملوا بما يوجب لهم رضا ربّهم.»(3)

و عنه عليه السّلام أيضا:

«ثمّ قال: «هدى» بيان و شفاء «للمتّقين» من شيعة محمّد و عليّ - عليهما و آلهما السلام -. إنّهم اتّقوا أنواع الكفر فتركوها، و اتّقوا الذنوب الموبقات فرفضوها، و اتّقوا إظهار أسرار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أسرار أزكياء عباده الاوصياء بعد محمّد صلّى اللّه عليه و آله فكتموها، و اتّقوا ستر العلوم عن أهلها المستحقّين لها، و فيهم نشروها.»(4)

و قال القميّ:

«الهداية في كتاب اللّه على وجوه، فهذا هو البيان.»(5)

ص: 398


1- الاكمال، ج 2، باب ما روي عن الصادق - عليه السلام - من النص على القائم - عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف -، ص 340؛ و البرهان، ج 1، ص 53؛ و نور الثقلين، ج 1، ص 33.
2- في المخطوطة و المعاني و البرهان: «علمه».
3- خ. ل: «بما يجب لهم رضا ربكم»، و الحديث فراجع تفسير الامام - عليه السلام -، ص 22-24؛ و المعاني، باب معنى الحروف المقطعة، ص 24، ح 4؛ و البرهان، ج 1، ص 54، ح 9.
4- نفس المصادر.
5- القمي، ج 1، ص 30؛ و البرهان، ج 1، ص 56.

أقول: الظاهر أنّ الهدى مصدر على فعل كالسرى، بمعنى الدلالة و البيان، سواء أوصل إلى البغية أو لا، على ما يظهر من تلك الاخبار: قال الجوهري:

«الهدى: الرشاد و الدلالة.»

و يعضده قوله تعالى: «شَهْرُ رَمَضٰانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنّٰاسِ.» (1)

و ذهب بعضهم إلى الاختصاص بالموصل إليها بقرينة وقوع الضلالة في مقابلته؛ قال اللّه تعالى: «أُولٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلاٰلَةَ بِالْهُدىٰ.» (2) و قال: «إِنّٰا أَوْ إِيّٰاكُمْ لَعَلىٰ هُدىً أَوْ فِي ضَلاٰلٍ مُبِينٍ.» (3)

و يقال: مهدي في موضع المدح كمهتد، و لانّ اهتدى مطاوع هدى، و لن يكون المطاوع في خلاف معنى اصله.»(4)

و فيه أنّ لفظ الاشتراء في الاولى و لفظة «لعلى» في الثانية اقتضى الدلالة على قبول الدلالة و حملها، و القبول القلبي هو مقابل للضلالة في الاعتقاد، و القبول العمليّ للضلالة العمليّة، فالوصول الاعتقاديّ لازم للاول و العملي للثاني.

و أمّا كون مهديّ مدحا، فدلالته على الهداية العلميّة باعتبار ظهور حصول الهداية له و اعتقاده بمتعلّقها، و على العمليّة لو كانت، فهو لاجل كون الظاهر منه هو القبول الكامل، فيترتّب عليه العمل.

و أمّا كون «اهتدى» مطاوع «هدى»، فهو صحيح على ما ذكرنا؛ لأنّ قبول الدلالة هو حصول الدلالة له، فيكون موصلا في مقام العلم فقط، أو مع العمل أيضا؛ أ لا ترى أنّ الائتمار مطاوع لأمر، مع أنّه لا يشترط في كونه أمرا حصول

ص: 399


1- البقرة/ 185.
2- البقرة/ 16 و 175.
3- سبأ/ 24.
4- راجع الكشاف، ج 1، ص 20.

الائتمار؟ مضافا إلى ما قيل من أنّ مقابل الضلالة الاهتداء لا الهدى، و أنّ إفادة المهديّ المدح لأنّه من المعلوم أنّ الوسيلة إذا لم يفض إلى المقصود كانت كالعدم، و أنّ لزوم اهتدى لهدى كليّة ممنوع؛ إذ يصحّ في العرف أن يقال هدى، فلم يهتد؛ قال عزّ من قائل:

«وَ أَمّٰا ثَمُودُ فَهَدَيْنٰاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمىٰ عَلَى الْهُدىٰ.» (1)

و حينئذ فالظاهر عدم اختصاصه بالموصل، بل هو البيان و الدلالة الّتي من شأنها أن يتوصّل بها إلى البغية، سواء استجمع من له الهداية شرائط القبول و قبل و سلك على منواله أم لا.

ثمّ المتّقي اسم فاعل من وقاه فاتّقى، و الوقاية فرط الصيانة و منه فرس واق و هذه الدابّة تقي من وجاها إذا أصابه ضلع من غلظ الارض و رقّة الحافر، فهو يقي حافره أن يصيبه أدنى شيء يؤلمه.(2)

قال الجوهري: «لمّا كثر استعماله على لفظ الافتعال توهّموا أنّ التاء من نفس الحرف، فجعلوه اتّقى يتّقي بفتح التاء فيهما مخفّفة، ثم لم يجدوا له مثالا في كلامهم يلحقونه [به]، فقالوا: تقى يتقي، مثل قضى يقضي - إلى أن قال: - و التقيّ: المتّقي، و قد قالوا ما أتقاه للّه سبحانه.»

و حينئذ فالتقوى و التقى و التقي و غيرها كلّها من الوقاية الّتي بمعنى فرط الصيانة و الحفظ، فلا بدّ من كونه متعلّقا بأمر ضارّ، فيختلف باعتبار المواطن و المواضع، فاذا استعمل في مقام الدين و الشريعة و ملاحظة الغاية كان معناه أصل المادّة بجميع تصريفاتها فرط الصيانة عمّا يضرّ من تلك الحيثيّة، و لمّا كان للمضرات درجات من الكفر، و الكبيرة و الصغيرة، و التوسّع في أسباب الدنيا الموجب للثقل

ص: 400


1- فصلت/ 17.
2- الكشاف، ج 1، ص 20.

في العقبى، و للصيانة درجات من التحرّز عن المعلوم و المظنون و المشكوك و الموهوم و ما يقرب من حمى المضرّات حذرا من الوقوع فيها انقسمت التقوى إلى درجات كثيرة، حتّى وصف المتّقون في خطبة نهج البلاغة(1) بصفات كثيرة ربّما يعزّ المتصف بها وجودا.

و لا يبعد أن يكون أوّل درجات التقوى في لسان الشرع هو اجتناب الكفر و الكبائر، و الاصرار على الصغائر، و آخره ما يتلو مرتبة المعصومين عليهم السّلام، أو نفس مرتبتهم عليهم السّلام، فانّهم أصل التقوى.

ثمّ لمّا كانوا عليهم السّلام أصول شجرة التقوى و حقيقة التقوى الظاهرة في العالم في صورة الانسان، و مشتملين على جميع شئون التقوى، بحيث لا يخرج عن مقامهم شيء من شعب التقوى، و كانوا هم الدعاة إلى التقوى، كان التابع لهم المشايع لهم في ذلك، المجيب لهذه الدعوة الّتي صدرت منهم عليهم السّلام متّقيا على حسب مشايعته و متابعته و استجابته.

و لعلّه لذلك فسّر المتّقون بالشيعة في تلك الرواية خصوصا مع توصيفهم في تفسير الامام عليه السّلام بالتقويات الاربع، المشعر بأنّها العلّة في كونهم المتّقين، و جميع المراتب الاربع مندرجة تحت الجامع الّذي ذكرناه.

و أما ما ذكر في الفقرة الاولى من أخذ التقوى من تسليط السفه على أنفسهم فلعلّه بيان لوجه إدخال الاتيان بالواجبات في التقوى، مع أنّ التقوى منحصر بالوقاية عمّا يضرّ، فلا يشمل تحصيل ما ينبغي تحصيله من أخذ رفع مانعها، الّذي هو السبب في تركها في التقوى، فيلازم وجودها بعد انحصار السبب للترك في التسليط المذكور غالبا أو دائما، و بيان لأنّ التقوى لا ينحصر بمقام العمل، بل تقوى القلب عن تسلّط السفاهة عليه أيضا داخل في التقوى، بل تقوى القلب هو

ص: 401


1- إشارة إلى خطبة الهمام (ره) و غيرها من كلامه عليه السلام.

الاصل في تقوى الجوارح؛ إذ أعمال الجوارح تابعة لأحوال القلب؛ قال سبحانه:

«وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعٰائِرَ اللّٰهِ فَإِنَّهٰا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ.» (1)

ثم إنّهم ذكروا(2) في وجه اختصاص الهدى بالمتّقين مع أن المتقين مهتدون:

إرادة الزيادة إلى ما هو ثابت فيهم، أو تسميتهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى متّقين من باب مجاز المشارفة. و لم يقل للضالّين، لأنّهم فريقان: فريق علم بقائهم على الضلالة، و هم المطبوع على قلوبهم، و فريق علم مصيرهم إلى الهدى، فلو جيء بالعبارة المفصحة عن ذلك لقيل هدى للصابرين إلى الهدى بعد الضلال، فاختصر الكلام بإجرائه على الطريقة الّتي ذكرناه، فقيل: هدى للمتّقين.

و هذا مبنيّ على كون الايصال إلى البغية معتبر [ا] في الهدى، كما هو مذهب الموجّه.(3)

و قيل: إنّ التخصيص لأنّهم المنتفعون به بالهداية، فخصّوا بالذكر مدحا لهم، و لكلّ وجه بحسب النظر الظاهري في تفسير اللّفظ.

و لعلّ الاولى أن يجعل ذلك إشارة إلى الهداية الحاصلة من القرآن للمتقين عقيب تحصيل التقوى، و السعي في تكميلها، إذ هو مقتضى تعليق الحكم على الوصف المشعر بكونه علّة لذلك الحكم، و سلامته عن جملة ممّا مرّ و نظائرها، و لدلالة جعل الوصف متعلّقا للحكم على نفيه عند انتفائه على مذهب جماعة من الاصوليين و إشعاره به، و دلالته عليه بمعونة الخصوصيّات كما هو المختار.

و حينئذ فالمناسب أن يكون هدايته الحقيقية الباطنيّة بقدر مراتب التقوي

ص: 402


1- الحج/ 32.
2- الكشاف، ج 1، ص 20.
3- راجع الصافي، ج 1، ص 58؛ و مجمع البيان، ج 1، ص 36؛ و أنوار التنزيل ص 8.

كلّما ازداد التقوى ازداد كونه هدى، و هو الظاهر من حال القرآن بالنسبة إلى أهل التقوى الحقيقيّ. و لعلّهم المرادون بالشيعة في تلك الاخبار المفسّرة كما يقوّيه ملاحظة ما ورد من الاخبار في صفات الشيعة، و أنّه ليس عامّا لكلّ من أظهر كلمة الولاية كما يظنّه الناس، فراجع.

و ربّما يستفاد هذا المعنى من آيات عديدة؛ كقوله سبحانه: «هُدىً وَ بُشْرىٰ لِلْمُحْسِنِينَ.» (1) و قوله تعالى: «قَدْ جٰاءَكُمْ مِنَ اللّٰهِ نُورٌ وَ كِتٰابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّٰهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوٰانَهُ سُبُلَ السَّلاٰمِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمٰاتِ إِلَى النُّورِ.» (2)

إلى غير ذلك من الآيات الّتي يأتي في مواضعها - إن شاء اللّه تعالى -.

و قد مرّ سابقا بيان إجمال بعض مراتب الهدايات القرآنيّة للمتّقين على درجاتهم في أوّل الكتاب فراجع.

و أمّا وصف القرآن بأنّه هدى للناس في الآية الاخرى، فلعلّه باعتبار المعنى الظاهريّ من الهداية الصوريّة الشأنيّة، أو باعتبار شأنيّتهم للاهتداء به بتحصيل التقوى أوّلا.

ص: 403


1- كذا في المخطوطة، و كتب فوقه «ظ». و ليس هذه الفقرة بعينها موجودة في القرآن، و لعلّ الصحيح: «هُدىً وَ بُشْرىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ» (البقرة/ 97 و النمل/ 2) أو: «هُدىً وَ بُشْرىٰ لِلْمُسْلِمِينَ» (النحل/ 102) أو: «بُشْرىٰ لِلْمُحْسِنِينَ» (الاحقاف/ 12).
2- المائدة/ 15-16.

[بحوث حول الايمان و الغيب]

اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ

عن تفسير الامام عليه السّلام:

«وصف هؤلاء المؤمنين الّذين هذا الكتاب(1) هدى لهم، فقال: «اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ » ،يعني: ما غاب عن حواسّهم من الامور الّتي يلزمهم الايمان بها؛ كالبعث و الحساب، و الجنة و النار، و توحيد اللّه، و سائر ما لا يعرف بالمشاهدة و إنّما يعرف بدلائل قد نصبها اللّه تعالى دلائل عليها؛ كآدم و حوّا و إدريس و نوح و إبراهيم، و الانبياء الّذين يلزمهم الايمان بهم بحجج اللّه تعالى و إن لم يشاهدوهم و يؤمنون بالغيب، و هم من الساعة مشفقون.»(2)

و في تفسير القمّي قال:

«يصدّقون بالبعث و النشور، و الوعد و الوعيد.»(3)

و عن ابن بابويه باسناده عن الصادق عليه السّلام في قوله عزّ و جلّ: «اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ» قال:

«من آمن بقيام القائم - عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف -

ص: 404


1- في المخطوطة: «القرآن».
2- تفسير الامام - عليه السلام -، ص 24؛ و البرهان، ج 1، ص 56، ح 11.
3- القمى، ج 1، ص 30؛ و البرهان، ج 1، ص 56؛ و نور الثقلين، ج 1، ص 31، ح 10.

أنّه حقّ.»(1)

و عن نسخة: «من أقرّ بقيام...»

و عنه عليه السّلام في الرواية المتقدّم صدرها عن يحيى بن أبي القاسم:

«و الغيب فهو الحجّة الغائب، و شاهد ذلك قوله تعالى:

وَ يَقُولُونَ لَوْ لاٰ أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّٰهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ.» (2)

و عنه باسناده عن جابر بن عبد اللّه الانصاري، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في حديث يذكر فيه الائمّة الاثنى عشر و فيهم القائم - عجّل اللّه تعالى فرجه - قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

«طوبى للصابرين في غيبته، طوبى للمقيمين على محبّته(3) ، اولئك من وصفهم اللّه في كتابه، فقال: «اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ»

ثمّ قال: «أُولٰئِكَ حِزْبُ اللّٰهِ أَلاٰ إِنَّ حِزْبَ اللّٰهِ هُمُ الغالبون.»(4)

أقول: الايمان إفعال من الامن، و هو يتعدّى بنفسه إلى مفعول واحد، فاذا عدّي بالهمزة عدّي إلى مفعولين، تقول: أمنته غيري بمعنى: جعلته ذا أمن منه. ثمّ تعدّى فقيل: آمنه إذا صدّقه، و حقيقته أمنه التكذيب و المخالفة، و هو

ص: 405


1- راجع المصادر المذكورة في تعليقة 1، ص 398.
2- نفس المصادر؛ و الآية: يونس/ 20.
3- في كفاية الاثر و البحار: «محجتهم»، و في البرهان: «محبتهم».
4- كما في البرهان، ج 1، ص 54، ح 6؛ و هكذا رواه الخزاز القمي (ره) في كفاية الاثر، باب ما جاء عن جابر، ص 60؛ و المجلسي (ره) في البحار، ج 36، باب نصوص الرسول - صلّى اللّه عليه و آله - عليهم - صلوات اللّه عليهم -، ص 304، ح 144، و ج 52، باب فضل انتظار الفرج، ص 143، ح 60.

فيه حقيقة لغويّة و إن كان أصله مأخوذا من غيره، و تعديته بالباء لتضمينه معنى أقرّ و اعترف. و ربّما يمكن إطلاق ما آمنت على معنى ما وثقت، و حقيقته صرت ذا أمن به، أي: ذا سكون و طمأنينة، كذا ذكروه.

و قد سبق أنّ الشكّ موجب لقلق النفس و اضطرابه، و اليقين باعث لسكونه فيمكن كون الايمان بمعنى التصديق باعتبار أنّه سكن نفسه و صيّره ذا طمأنينة و أمن من طرف المؤمن به، فارتفع به القلق و الاضطراب عن النفس، كما يؤيّده إطلاق الريب على الشك كما قدمنا. و يوافقه المعنى الاخير إلا في التعدية و اللزوم بل يصحّ جعله متعدّيا؛ إذ الاصل فيه حكاية أبي زيد عن العرب: ما آمنت أن أجد صحابة؛ أي: أصحابا أسافر معهم، و يصحّ أن يؤخذ متعدّيا إلى المفعولين بمعنى:

إنّي ما آمنت نفسي من طرف وجدان الصحابة من دون حاجة إلى إرجاع باب الافعال إلى صيرورته ذا أمن.

و حينئذ فالايمان الدالّ على الامن مقابل الريب الّذي هو قلق النفس و اضطرابها في إطلاقهما على التصديق و الشكّ الشائعين على معناهما الاصليّ.

و ربّما يؤيّد ما ذكرنا ما نقل من حديث «رفاعة»:

«أ تدري يا رفاعة لم سمّي المؤمن مؤمنا؟ قال: لا أدري، قال: لأنّه يؤمن على اللّه فيجيز أمانه.»(1)

ص: 406


1- لم نعثر عليه بهذا الاسناد، و لكن نقله الصدوق (ره) في العلل، ج 2، باب 300 ص 523، عن المفضل بن عمر، عن أبي عبد اللّه - عليه السلام -؛ و البرقي (ره) في المحاسن، باب 56 من كتاب الصفوة و النور و الرحمة، ص 185، ح 193، عن أبي جعفر - عليه السلام -؛ و كتاب العلل، ص 329، عن أبي عبد اللّه - عليه السلام -؛ و الطوسي (ره) في الامالي، ج 1، ص 46، عنه - عليه السلام -؛ و المجلسي (ره) في البحار، ج 67، باب فضل الايمان و جمل شرائطه، عن مشكاة الانوار و قضاء الحقوق عن أبي عبد اللّه - عليه السلام -.

و ببالي أنّه ورد في روايات أخر قريبة منه أيضا، و ذلك باعتبار أخذ الايمان من جعل الامن للغير، و لعلّه للمؤمن الكامل باعتبار إكماله إيمانه نفسه حتّى صار يؤمن غيره، و يصيرون ذا أمن به.

فالظاهر حينئذ أخذ الايمان في لسان أهل الشرع بهذا المعنى، و أن يكون هذا هو الاصل في الّذي نقل الاتّفاق من الكلّ عليه من أنّ الايمان لغة عبارة عن التصديق المطلق، و ما اشتهر بينهم ظاهرا من جعل الايمان في الشرع عبارة عن تصديق بأمور مخصوصة على الاختلاف الشديد الواقع فيه بين طوائف المسلمين، كما أنّه اختلف إطلاق اللّفظ في الكتاب و السنّة بحسب الظاهر، و أثبت بعض المحدّثين له معان و إطلاقات متعدّدة.

[أقسام الايمان على ما في تفسير القميّ]

و ذكره القميّ هاهنا أنّ:

«الايمان في كتاب اللّه على أربعة وجوه (1) ،فمنه: إقرار باللسان قد سمّاه اللّه إيمانا. و منه: تصديق بالقلب، و منه: الاداء، و منه: التأييد... - و أورد للأوّل - قوله تعالى:

«يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبٰاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً * وَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصٰابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قٰالَ قَدْ أَنْعَمَ اللّٰهُ عَلَيَّ - إلى قوله: - فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً.» (2)

قال: فقال الصادق عليه السّلام: «لو أنّ هذه الكلمة قالها أهل المشرق و أهل المغرب لكانوا بها خارجين من الايمان، و لكن قد سمّاهم اللّه مؤمنين باقرارهم.»(3)

ص: 407


1- خ. ل: «أوجه».
2- النساء/ 71-73.
3- رواه أيضا العياشي (ره) في كتابه كما في الصافي، ج 1، ص 370.

و قوله: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ .» (1).

- و أورد للثاني - قوله تعالى:

«اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كٰانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرىٰ فِي الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَ فِي الْآخِرَةِ.» (2)

يعني: صدّقوا.

و قوله: «وَ قٰالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّٰى» (3) أي: لا نصدّقك.

و قوله: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» أي: يا أيّها الّذين أقرّوا و صدّقوا. - ثمّ قال: -

فالايمان الخفيّ (4) هو التصديق، و للتصديق شروط لا يتمّ التصديق إلا بها.

و قوله: «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلاٰئِكَةِ وَ الْكِتٰابِ وَ النَّبِيِّينَ وَ آتَى الْمٰالَ عَلىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبىٰ وَ الْيَتٰامىٰ وَ الْمَسٰاكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ السّٰائِلِينَ وَ فِي الرِّقٰابِ وَ أَقٰامَ الصَّلاٰةَ وَ آتَى الزَّكٰاةَ وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذٰا عٰاهَدُوا وَ الصّٰابِرِينَ فِي الْبَأْسٰاءِ وَ الضَّرّٰاءِ وَ حِينَ الْبَأْسِ أُولٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.» (5) - ثمّ قال: - فمن أقام بهذه الشروط فهو مؤمن مصدّق - ثمّ قال: -

و أمّا الايمان الّذي هو الاداء، فهو قوله تعالى لمّا حوّل اللّه قبلة رسوله إلى الكعبة قال أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «يا رسول اللّه، فصلاتنا إلى بيت المقدس بطلت؟» فأنزل اللّه تبارك و تعالى: «وَ مٰا كٰانَ اللّٰهُ لِيُضِيعَ إِيمٰانَكُمْ» (6) فسمّى الصلاة

ص: 408


1- النساء/ 136.
2- يونس/ 63-64.
3- البقرة/ 55، و فيها: «وَ إِذْ قُلْتُمْ يٰا مُوسىٰ لَنْ نُؤْمِنَ ...».
4- خ. ل: «الحق».
5- البقرة/ 177.
6- البقرة/ 143.

إيمانا. - ثمّ قال: -

و الوجه الرابع من الايمان و هو التأييد الّذي جعله اللّه في قلوب المؤمنين من روح الايمان، فقال: «لاٰ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوٰادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كٰانُوا آبٰاءَهُمْ أَوْ أَبْنٰاءَهُمْ أَوْ إِخْوٰانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمٰانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ.» (1) - ثمّ قال: -

و الدليل على ذلك قوله عليه السّلام: «لا يزني الزاني و هو مؤمن، و لا يسرق السارق و هو مؤمن، يفارقه روح الايمان ما دام على بطنها، فاذا قام عاد [إليه].

قيل: و ما الّذي يفارقه؟ قال: الّذي يدعه في قلبه - ثمّ قال عليه السّلام: - ما من قلب إلا و له أذنان علي أحدهما ملك مرشد، و على الآخر شيطان مفتن، هذا يأمره و هذا يزجره.»(2) - ثم قال: -

و من الايمان ما قد ذكره اللّه في القرآن «خبيث» و «طيب»، فقال: «مٰا كٰانَ اللّٰهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلىٰ مٰا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّٰى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ » .(3) فمنهم من يكون مؤمنا مصدّقا، و لكنّه يلبس ايمانه بظلم، و هو قوله: «اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمٰانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ.» (4) فمن كان مؤمنا ثمّ دخل في المعاصي الّتي نهى اللّه عنها فقد لبس إيمانه بظلم، فلا ينفعه الايمان حتّى يتوب إلى اللّه من الظلم الّذي لبس إيمانه، حتّى يخلص للّه إيمانه - ثمّ قال: - فهذه وجوه الايمان

ص: 409


1- المجادلة/ 22.
2- قد أورد المجلسي (ره) كثيرا من الروايات التي يقرب من هذه الحديث و فقراته في باب السكينة و روح الايمان من مجلد 69، و باب القلب و صلاحه و فساده من مجلد 70 من كتابه، فراجع.
3- آل عمران/ 179.
4- الانعام/ 82.

في كتاب اللّه.»(1) انتهى.

و الظاهر من حاله أنّه أخذه من الروايات المتفرّقة، أو هو رواية واحدة، و ربّما ينسب أصل كتاب تفسيره إلى الصادق عليه السّلام، كما أورد هذه النسبة السيّد البحراني في تفسير البرهان.(2)

و الذي يظهر لي في المقام أنّ الايمان ليس له معان متعدّدة متباينة على سبيل الاشتراك اللّفظي، كما ربّما يلوح من بعض، و لا هو أمر واحد لا يقبل التفاوت و التشكيك و الكمال و النقص، كما ربّما يظهر من بعض، و لا هو ذو شأن واحد لا يتعدّاه إلى غيره، كما هو ظاهر كثير، و لا هو عبارة عن مجموع عدة أمور مختلفة متباينة في محالّ مختلفة، يسمّى ذلك المجموع من حيث المجموع إيمانا، بحيث ينتفي اسم الكلّ بانتفاء البعض، كما ربّما يظهر من جماعة، بل الظاهر الّذي يجمع به بين الاطلاقات المختلفة، و الاخبار المترائى بينها التعارض أنّ لفظ الايمان باق على معناه الاصلي، لكنّه اختصّ باعتبار متعلّقه، فهو عبارة عن إيمان الانسان نفسه من طرف الحقّ سبحانه، و إزالة القلق و الاضطراب بحصول السكون و الثقة و الامن له من طرف الحقّ بقبوله الحقّ، و أمنه التكذيب و المخالفة. و حينئذ فلشجرة الايمان أصل هو المعرفة و الاعتقاد بدرجاتها المقابل للشكّ، و قبوله ذلك المعرفة في مقابل الجحود القلبي و الإباء النفساني على درجات القبول في تماميّة الرسوخ في النفس و عدمه؛ و لها أغصان باعتبار التأثّر بمقتضى ذلك المعرفة،

ص: 410


1- القمي، ج 1، ص 30؛ و البحار، ج 68، باب الفرق بين الايمان و الاسلام، ص 273، ح 30؛ و البرهان، ج 1، ص 56.
2- قال (ره) في أول تفسيره: «ثم إن لم أعثر في تفسير الآية من صريح رواية مسندة عن أهل البيت - عليهم السلام - ذكرت ما ذكره الشيخ أبو الحسن علي بن ابراهيم، الثقة في تفسيره؛ إذ هو منسوب إلى مولانا و إمامنا الصادق - عليه السلام -...».

و ظهور آثارها في القلب بحدوث الحالات النفسانية الّتي تقتضيها تلك المعرفة و ارتفاع أضدادها على درجاتها الغير المتناهية، و لها ثمرات و فروع يترتّب عليها من فعل ما تقتضي تلك المعرفة فعله، و ترك ما تقتضي تركه على اختلاف الافعال و التروك في قوّة الاقتضاء و ضعفه بحسب مرتبتها.

فهذه مراتب أربعة، فله شأن في مقام الاعتقاد، و شأن في مقام القبول، و شأن في مقام الحالات و الاخلاق و الملكات، و شأن في مقام العمل، و نسبة كلّ سابق إلى لاحقه كنسبة الاصل للفرع، و البذر للزرع؛ إذ الاعتقاد هو المؤثّر في القبول فما بعده، و القبول فرع الاعتقاد الّذي هو المقبول، و سبب لانبعاث الحالات النفسانيّة الموافقة لتلك المعرفة عنه، و تلك الحالات هي مبدأ الافعال و التروك الخارجيّة.

و مثاله مثال من أخبر بمجىء أسد في مكانه، فايمانه بالمخبر و الخبر اعتقاد صدقه و قبول كلامه. فاذا اعتقد و قبل أثرا في حقّه خوفا من الاسد، و طلب هرب من المكان الّذي تعرض له الاسد، و لو لا الاعتقاد و القبول لم يخف و لم يطلب الهرب، و إذا خاف و اشتاق إلى الهرب هرب بارادته المنبعثة عنهما. و حينئذ فقد كمل إيمانه بالمخبر حيث أمنه التكذيب و المخالفة، و جعل نفسه ذا أمن من الشك و الاضطراب في الصدق و الكذب بقبوله خبره اعتقادا و حالا و عملا.

فمثل هذا المؤمن في المقام مؤمن حقيقة، و بقدر الكمال في تلك الشئون يكون كمال الايمان و ضعفه، و إذا انتفت أحدها فان كان المنتفي هو الاول و الثاني انتفت الايمان، كما ينتفي الشجرة بانعدام أصله، أو ساقه الكبير المتصل بالاصل.

و إن كان الثالث أو الرابع فلا ينتفي أصل الشجرة، و إنما ينعدم كماله فهو شجرة ناقصة؛ إذ كان بلا غصن، أو بلا ثمرة. و سقوط كل واحد من الاغصان و الثمرات ينتقص شجرة الايمان، و بكماله يكمل، و لا ينفع الاغصان و الفروع لو فرض وجودهما

ص: 411

أو شيئا منها صورة بدون الاصل؛ إذ ليس هو شجرة بل هو يشبه الشجرة و ليس منها فهو نفاق، أو تكلّف، أو تصنّع، أو رياء و سمعة، بل ليس غصنا و فرعا بعد انتفاء الاصل و الساق، و إن اشتبه بهما للتشاكل و التشابه.

و حينئذ يترتب عليه أحكام المؤمن في الدنيا ما لم يظهر الحال لقيام الدنيا بالصور، و يضمحلّ في الآخرة لظهور الحقائق فيها.

ثم إن للّسان خصوصية التعبير اللّفظي عن الاعتقاد و القبول الباطنيين و هو الاقرار بالحق، و هو الايمان اللّفظي، فالايمان مبثوث على أجزاء الانسان و جوارحه كما ورد في الاخبار (1) ،و هو بمنزلة الانسان المشتملة على الاعضاء الرئيسة و غيرها من الاصول و الفروع و المكملات و المحسنات و المزينات. و كما أن شيئا من تلك الامور لا يخرج عن الانسان و إن كان لا ينتفي الانسان بانتفاء أكثره، و ينتفي بانتفاء الاعضاء الرئيسة، كذلك لا يخرج شيء من المراتب عن الايمان و إن لم ينتف إلا بانتفاء البعض، و لكنّه ناقص بنقصان البعض؛ كالانسان المقطوع الاعضاء.

و يشبه أن يكون عبادة كلّ جارحة بازاء نفس ذلك العضو من الايمان، فيكون عبادة القلب من المعرفة و القبول الّذي هو عقد القلب قلبا للايمان، و عبادة الدماغ دماغا للايمان، و العين عينا له، و هكذا؛ إذ الاصل في عبادة كل جارحة أن يكون تابعة لتلك الجارحة شرفا و خساسة. فالايمان المبثوث على كل جارحة هو تلك الجارحة بعينها من جوارح الايمان، و هذه المراتب كلّها أجزاء لبدن الايمان كالاجزاء المحسوسة من الايمان، و له روح يسمّى روح الايمان، و قد تكرر في

ص: 412


1- كالرواية الطويلة التي أورده الكليني (ره) في الكافي، ج 2، باب في أن الايمان مبثوث لجوارح البدن كلها، ص 33، ح 1، عن أبي عبد اللّه - عليه السلام -؛ و النعماني (ره) في تفسيره عن الصادق، عن أمير المؤمنين - عليهما السلام - كما في البحار، ج 92، باب ما ورد في أصناف آيات القرآن، ص 49، فراجع.

الاخبار ذكره، و قد مرّ في عبارة القمي ذكر بعضها على الظاهر المنساق من العبارة من كونه رواية.

و حينئذ فيشبه أن يكون نسبته إلى ذلك الجسد المفروض نسبة روح الانسان إلى جسده، و هو من أعظم مواهب اللّه سبحانه لمن يشاء من عباده، كما أن إعطاء الروح لجسد الانسان أعظم مواهب الانسان.

و يشبه أن يكون طريق تحصيله تكميل الجسد، فيكون معدا لحصول الروح فيه من طرح الحق، كما أنّ كمال الجسد في الحيوان معدّ لنفخ الروح فيه، و كما يكون الحيّ حيّا بالروح، كذلك المؤمن حياة إيمانه بذلك الروح. و لعلّ تلك الحياة الايمانية المعنوية هو المراد بالحياة الطيبة في قوله سبحانه: «فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيٰاةً طَيِّبَةً » (1).

و هذا كلام إجمالي في الايمان بقول مطلق، و لعل كثيرا من التفاصيل تذكر متفرقة في المواضع المناسبة - إن شاء اللّه تعالى -.

[في أنّ الغيب هو الامام الغائب - عجّل اللّه تعالى فرجه الشّريف -]

ثم الظاهر أن قوله تعالى: «بالغيب» صلة للايمان، فيكون هو المؤمن به، و إن أمكن كونه في موضع الحال، أي يؤمنون ملتبسين بالغيب، أي: غائبين عن المؤمن به، أو عن الناس خلاف المنافقين، المظهرين للايمان في حضور المسلمين فقط، فيكون نظير قوله تعالى: «يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ» (2) و قوله: «لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ» (3) على الظاهر فيهما. و على الاول فالظاهر أن المراد بالغيب كلّما غاب عن الحواس، و خفي عن المدارك البشرية مما يتعلّق به الايمان من معرفة المبدا و المعاد

ص: 413


1- النحل/ 97.
2- الانبياء/ 49؛ و فاطر/ 18؛ و الملك/ 12.
3- يوسف/ 52.

و تفاصيلهما، و نبوة الانبياء، و إمامة الائمة عليهم السّلام إلى غير ذلك من الامور الغائبة عن الحواس، كما يشهد له ما في تفسير الامام عليه السّلام (1) ،و يندرج فيه ما في تفسير القمي (2) ،و ما ورد في الاخبار الاخيرة من إرادة الايمان بالقائم - عجل اللّه تعالى فرجه - أو بقيامه(3).

و لعلّ وجه التخصيص في تلك الاخبار أنه أكمل أفراد الايمان بالغيب، الّذي هو صفة جيء في مقام المدح على أحد الوجوه في تركيب الموصول. و حينئذ فهو يشعر بكون عنوان الايمان بالغيب من حيث أنه ايمان بالغيب مدحا، فكلّما ازداد الايمان أو جهات الغيبوبة في المؤمن به كان أكمل. و لا ريب أنّ الايمان بامامة الامام الغائب و قيامه مع سائر الغيوب المتعلّقة للايمان أولى بصدق الايمان بالغيب من المؤمن بالامام الحاضر، فهو المستحق للمدح الكامل، و لان يقال له: طوبى، كما في الخبر الاخير، فهو أكمل أفراد الموصوفين بالآية.

و لك أن تقول: إنّ الامام لما كان مرآة للمعارف الايمانية كلّها، فحضوره كأنه حضور جميع ما يتعلّق به الايمان، و غيبته غيبتها، فالايمان بالامام الغائب هو الايمان بالغيب.

و يمكن أن يقال: إن الظاهر من الغيب هو الامر الموجود الخفي، الّذي يمكن له فرض الحضور، و من شأنه ذلك، فلا ينصرف إلى الحق؛ إذ ليس من شأنه الحضور بالمعنى العرفي، و لا أمور القيامة؛ إذ ليست هي موجودة الآن في هذا العالم و إن وجدت الجنة و النار، و لا النبوة و إمامة الامام الحاضر لانتفاء شأنية الحضور للوصفين، و المفروض مشاهدة الموصوف أو ارتحاله إلى عالم آخر ليس له شأنية الحضور عند الناس. فالفرد الظاهر من الايمان بالغيب هو الايمان بالنبيّ

ص: 414


1- تقدم كلها في أول هذا الفصل، فراجع.
2- تقدم كلها في أول هذا الفصل، فراجع.
3- تقدم كلها في أول هذا الفصل، فراجع.

و الامام الغائب عن أمته و عن رعيته. و لمّا لم يغب النبي صلّى اللّه عليه و آله عن أمته مدة حياته صلّى اللّه عليه و آله، و لا يعدّ الموت غيبة عند العرف الشائع، انحصر في الايمان بالامام الغائب فيكون الآية بهذه الملاحظات ناظرة بأحد جهات معناها إلى ذلك، و يكون الغرض من تلك الاخبار بيان ذلك الجهة.

و أما الاستدلال بالآية الاخرى على ذلك، فلعلّه باعتبار دلالته على أنّ الغيب زمان ظهور الآيات، و الامر بانتظاره، و ظهور الآيات الغيبية المنتظرة هو زمان قيام القائم - عجل اللّه تعالى فرجه -، بل هو زمان ظهور الغيب الّذي هو للّه في عالم الشهادة، و صيرورة عالم الشهادة تابعة لعالم الغيب، فتبصّر.

[في معنى إقامة الصّلاة]

وَ يُقِيمُونَ الصَّلاٰةَ

إقامة الصلاة على ما ذكره جماعة: «تعديل أركانها، و حفظها من أن يقع زيغ في فرائضها و سننها و آدابها، من أقام العود إذا قومه؛ أو الدوام عليها و المحافظة، كما ورد في قوله تعالى: «اَلَّذِينَ هُمْ عَلىٰ صَلاٰتِهِمْ دٰائِمُونَ » (1) ،و قوله تعالى: «وَ الَّذِينَ هُمْ عَلىٰ صَلاٰتِهِمْ يُحٰافِظُونَ» (2) من قامت السوق إذا نفقت، و أقامها لأنّها إذا حوفظ عليها كان كالشيء النافق الّذي تتوجه إليه الرغبات، و يتنافس فيه المحصّلون، و إذا عطلت و أضيعت كانت كالشيء الكاسد الذي لا يرغب فيه؛ أو التجلّد و التشمّر لأدائها، و أن لا يكون في مؤديها فتور عنها و لا توان، من قولهم: قام بالامر و قامت الحرب على ساق، و في ضده قعد عن الامر إذا تثبّط؛ أو أدائها، فعبر عن الاداء بالاقامة لأنّ القيام بعض أركانها، كما عبر عنه بالقنوت بمعنى القيام و الركوع و السجود

ص: 415


1- المعارج/ 23.
2- المعارج/ 34.

و التسبيح عنها.»(1)

و قال بعضهم: إنّ المفهوم من إقامة الصلاة ليس إلا أدائها و إيقاعها في الخارج من غير إشعار بما اعتبر فيه من التقوّم على الوجه المذكور، فضلا عمّا ذكر في الوجه الثاني من التشبيه الغريب، الذي قلّما يخطر بالبال، و لا يظهر وجهه إلا بعد تأمل وافر.

و أما الثالث، فلا يشعر الكلام بوجه التجوز و العلاقة فيه، مع أن التجلّد و التشمّر من غير فتور و تقاعد إنما هو القيام بالامر، لا إقامته و جعله قائما غير قاعد.

و أما الرابع، ففيه أنّ الجزء للصلاة هو القيام لا الاقامة، فلا معنى للقول بأنه عبر عن الاداء بالاقامة؛ لأنّ القيام بعض أركانها، و أمّا أن الاقامة فعل القيام و هو ركن في الصّلاة، فلا يصحح الكلام، لأنّ الركن فعل القيام بمعنى تحصيل الهيئة التي هي القيام في نفس الفاعل، لا بمعنى إيجاد القيام في شيء آخر سيّما في الصلاة.

فالاحسن أنّ معناها جعل الصلاة قائمة حاصلة في الخارج من قولهم: «قام هذا بنفسه و ذاك بغيره».

و ربما يذكر في تفسير إقامة الصلاة إتمام ركوعها و سجودها، و حفظ مواقيتها و حدودها، و صيانتها ممّا يفسدها و ينقصها، و هو قريب من الاول.

و عن التوحيد باسناده عن الكاظم عليه السّلام عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث طويل يذكر فيه معاني فصول الاذان، و في آخره:

«و معنى «قد قامت الصلاة» في الاقامة أي: حان وقت الزيارة و المناجاة، و قضاء الحوائج و درك المنى (2) ،و الوصول إلى اللّه

ص: 416


1- راجع الكشاف، ج 1، ص 22؛ و أنوار التنزيل، ص 9.
2- المنى: جمع «منية» بضمّ الميم و كسرها، و هي ما يتمناه الانسان.

عزّ و جلّ، و إلى كرامته و غفرانه، و عفوه و رضوانه »(1).

و هذه كلّها أرباح تكتسب في سوق اللّه سبحانه، فكأن الاشتغال بالصلاة دخول في السوق لأجل اكتساب هذه الذخائر النفيسة. فاطلاق الاقامة على الاتيان بالصلاة لعلّه لكونه إقامة لهذا السوق، و جعلها نافقة غير كاسدة مرغوبا فيها بخلاف المعرض عن هذا السوق، حيث جعلها كاسدا لا ينفق، مرغوبا عنها؛ إذ لم يشتغل بالاكتساب و ضيّع السوق. و حينئذ فإقامتها إنما يتم إذا أتيت بها على وجه يكون محصّلا لتلك الذخائر، فيعتبر فيه استجماع الاجزاء و الشرائط، و ارتفاع الموانع الصوريّة و المعنويّة في الصحّة و الكمال، فيكون على هذا أخصّ من التفسير المتقدم، مشتملا عليه؛ إذ الظاهر أنّ ترتّب تلك الغايات المذكورة على الصلاة منوط بأمور كثيرة قلّما يحصل للمصلّين.

[في معنى الرزق و الانفاق]

وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ

عن العيّاشي و المجمع عن الصادق عليه السّلام:

«فيه: و ممّا علّمناهم يبثّون »(2).

و روى ابن بابويه باسناده عنه عليه السّلام مثله، و زاد فيه:

«و ممّا علّمناهم من القرآن يتلون »(3).

ص: 417


1- التوحيد، باب تفسير حروف الاذان و الاقامة، ص 241: و المعاني، باب معنى حروف الاذان و الاقامة، ص 41؛ و البحار، ج 84، باب الاذان و الاقامة، ص 134، ح 24.
2- في بعض النسخ: «ينبئون» و الحديث في العياشي، ج 1، ص 25، ح 1؛ و مجمع البيان، ج 1، ص 39؛ و الصافي، ج 1، ص 59؛ و البرهان، ج 1، ص 53، ح 2.
3- المعاني، باب معنى الحروف المقطعة، ص 23، ح 2، عن أبي بصير، عنه - عليه السلام -؛ و البرهان، ج 1، ص 53، ح 3.

و في تفسير القمي في ظاهر عبارته عنه عليه السّلام نحوا منه مع الزيادة(1).

أقول:

قيل: الرزق لغة هو ما ينتفع به (2) ،فيشمل الحرام و الحلال و المأكول و غيره.

و زاد المعتزلة، و من يجري مجراهم، قيدا آخر، و هو أن لا يكون ممنوعا من الانتفاع به، فلا يكون الحرام رزقا عندهم. و ربما يقال: رزق كل مخلوق ما به قوام وجوده و كماله اللائق به، و على كل حال فالعلم رزق متعلّق بالروح، به كماله اللائق به، كما أنه داخل تحت عموم ما ينتفع به، و إنفاقه التعليم. و علم القرآن أيضا كذلك، و انفاقه تلاوته للناس تعليما لهم و تنبيها، و قراءته لنفسه؛ لأنه صرف له في سبيل اللّه. و أصل الانفاق و إن كان في أصل معناه على ما ذكروه كالانفاد، بل قيل: «إن كل ما فائه نون و عينه فاء فدال علي معنى الخروج و الذهاب»(3)

فيكون الظاهر منه هو ذهاب المنفق من يد المنفق، و العلم ليس كذلك، بل يزداد بالانفاق، إلا أنه لم يعلم أن ذلك من لوازم معناه في الموجودات العينية من حيث امتناع كونها في مكانين، أو لأجل اعتبار ذلك في نفس مفهومه، مع أنّ الظاهر أنّ العلم الحقيقي الباطني الذي هو أصل العلم، و أظهر أفراده استنادا إلى الحق سبحانه ينفد بالانفاق، و يخلو القلب منه ببذله.

و ربما يدلّ عليه ما ورد عنهم عليهم السّلام على ما ببالي من أنّه: «لو لا أنا نزداد لنفد ما عندنا .(4)»و إن كان ذلك معدّا لإعطاء العوض، كما هو الحال في إنفاق الاموال

ص: 418


1- القمي، ج 1، ص 30؛ و البرهان، ج 1، ص 53، ح 1.
2- راجع الصحاح.
3- الكشاف، ج 1، ص 23؛ و أنوار التنزيل، ص 9.
4- الروايات الواردة في هذا المعنى كثيرة، فراجع الكافي، ج 2، باب في أن الائمة - عليهم السلام - يزدادون في ليلة الجمعة، و باب لو لا أن الائمة - عليهم السلام - يزدادون لنفد ما عندهم، ص 253-255؛ و البحار، ج 26، باب أنهم - عليهم السلام - يزدادون و لو لا ذلك لنفد ما عندهم.

أيضا؛ «وَ مٰا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ» (1) و سائر العلوم بمنزلة التوابع له.

ثم إن الظاهر أن كلمة «من» تبعيضيّة، فيكون المنفق هو بعض ما رزقهم اللّه سبحانه، و وجهه في الاموال واضح؛ إذ التبذير و البسط التامّ غير مطلوب؛ «وَ لاٰ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلىٰ عُنُقِكَ وَ لاٰ تَبْسُطْهٰا كُلَّ الْبَسْطِ » (2) ، «وَ الَّذِينَ إِذٰا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كٰانَ بَيْنَ ذٰلِكَ قَوٰاماً » (3).

و أما في العلم الّذي هو الرزق الروحاني، فربما يظنّ أنه لا حدّ له و لا إسراف، بل كلّما أكثر بذله كان أحسن، و ليس كذلك.

أما في علم الباطن، فلأنه لو بالغ في البذل و التكلّم، و لم يكن له حالة سكوت و توجه ليرد عليه العلم فيه، يلزمه أن يقعد ملوما محسورا، و قد نفد ما عنده، مع أنه ليس كلّما يعلم يقال. كما قال أمير المؤمنين عليه السّلام فيما نقل من خطبة له عليه السّلام: «و اعلموا أنّ عباد اللّه المستحفظين علمه يصونون مصونه، و يفجّرون عيونه - إلى آخره »(4) ،و لا كلّما يقال قد حضر وقته، و لا كلّما حضر وقته حضر أهله.

و أما في العلم الظاهر، فلأنه لا بدّ للعالم من زمان فكر و تحصيل له، و زمان توجه إلى اللّه سبحانه و فراغ لعباداته و عاداته، فلا يسع له إلا بذل البعض، ثمّ البعض، على أنّ البذل في كل مقام مشروط بشرائط و آداب و مكملات لا تتيسّر في جميع المواضع، مع أنّ الّذي ينبغي للعالم أن يقتصر في بذل علمه على المقدار الذي

ص: 419


1- السبأ/ 39.
2- الاسراء/ 29.
3- الفرقان/ 67.
4- نهج البلاغة، خ 214، ص 331.

أتقنه و أحكمه مشروحا، لا ما لم يتمّ بعد نضجه و كماله، أو لم يحضره بيان كاف له.

ثم إنّ في نسبة الرزق إليه سبحانه دلالة على إرادة المال الحلال و لو قلنا بشمول الرزق للحرام أيضا، و اعتباره في المقام ظاهر؛ إذ إنفاق المال الحرام على غير الوجه الشرعي حرام آخر، فلا يستحق فاعله مدحا، و لا يعدّ فعله من صفات المتقين، و اعتبار النسبة إليه سبحانه في العلم يخصّه بالهدايات الالهية، أو مع كل علم حق خالص عن شوب الوهم و الخيال و الاباطيل و القضايا الكاذبة.

ثمّ إن الرزق على المعنى الاول لا يختصّ بالمال و العلم، بل يشمل القوى و الابدان و الجاه، و الانفاق منها إسعاف الحاجات و الاخذ بأيدي الضعفاء، و قود الضرائر و إنجائهم من المهالك، و حمل المتاع عنهم، و إغاثة الملهوف و غير ذلك.

و ببالي أني سمعت أنّ واحدا من الاتقياء رأى في النوم مجلسا اجتمع فيه علمائنا إلا «ابن فهد الحلّي». فسأل عنه، فقيل له: إنه دخل في مقام الانبياء أو مجلسهم. فسأل عنه بنفسه بعد لقائه في المنام، فأجيب بأنّ السبب أني كنت فقيرا لا مال لي أتصدّق بها، فكنت أتصدق بجاهي، و لذلك صرت هكذا.

و قد ورد في الاخبار على ما ببالي أنّ: «لكلّ شيء زكاة، و زكاة الابدان الصيام.»(1)

و لعلّ في تفسير الكلام بتعليم العلم و تلاوة القرآن إشارة إلى عدم الوقوف على ما يفهمه العوام من الرزق و الانفاق، و أنه ينبغي التعدي إلى كل رزق و كلّ إنفاق، أو خصوص الروحاني منهما.

ص: 420


1- بهذا المعنى ورد روايات كثيرة، كرواية الصدوق (ره) في الامالي، المجلس الخامس عشر، ح 1، عن الصادق، عن آبائه - عليهم السلام -، عن رسول اللّه - صلى اللّه عليه و آله -؛ و قد ذكرها المجلسي (رض) في البحار، ج 96، باب فضل الصيام، ص 246، ح 1، فراجع.

[في معنى الآخرة و اليقين بها و من هم الموقنون]

وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مٰا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ

في تفسير القمي، قال:

«بما أنزل من القرآن إليك، و بما أنزل على الانبياء من قبلك من الكتب.»(1)

و يحتمل التعميم لكل ما نزل من شريعة أو وحي أو غيرهما.

وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ

الآخرة تأنيث الآخر، الذي هو نقيض الاول، و هي صفة الدار، كما قال سبحانه: «تِلْكَ الدّٰارُ الْآخِرَةُ » (2).و هي و الدنيا من الصفات الغالبة التي تستعمل كثيرا بلا موصوف كالصالحات.

و الايقان إتقان العلم بانتفاء الشك و الشبهة عنه. و لعلّ في تقديم «الآخرة» و بناء «يوقنون» على «هم» تعريضا بأهل الكتاب، و بما كانوا من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته، و أنّ قولهم ليس بصادر عن إيقان، و أنّ اليقين ما عليه من آمن بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك.

ثم إنّ المراد بهؤلاء المؤمنين إمّا مؤمني أهل الكتاب، الذين اشتمل إيمانهم على كل وحي نزل من عند اللّه سالفا و مترقبا، سبيله سبيل السالف لكونه معقودا

ص: 421


1- القمي، ج 1، ص 32؛ و البرهان، ج 1، ص 57.
2- القصص/ 83.

بعضه ببعض، و مربوطا آتيه بماضيه، و أيقنوا بالآخرة إيقانا زال عنهم ما كانوا عليه من الاعتقادات الفاسدة في النشأة الآخرة، فكأنّهم لم يكونوا معتقدين بالآخرة حقيقة، و إنما كانوا معتقدين آخرة موصوفة بصفات لا تحقق لها أصلا. و حينئذ فلا يبعد اختصاص الطائفة الأولى بالكفار الذين آمنوا ابتداء من غير أهل الكتاب.

أو تترك على إطلاقه، و يكون عطف الخاص على العام تشريفا لهم، و ترغيبا لأمثالهم في الدين.

و على الوجهين فالظاهر كون الموصول عطفا على الموصول، و يكون كلمة المتّقين في الآية الاولى شاملة للطائفتين معا و إن احتمل غير ذلك أيضا.

و لعلّ الاقرب كون الموصولين معا من توابع تلك الكلمة وصفت المتّقون بهما، لا أنّ الموصول الاوّل مبتدأ و الثاني كالمبتدإ معنى لكونه معطوفا عليه، و جملة «اولئك» خبر للمبتدإ، و إن اختاره بعضهم.

و الوجه الثاني أن لا يكون مختصا بأهل الكتاب، فيكون وصفا آخر للمتقين كما هو الظاهر فيما عطف عقيب قوله سبحانه: «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * اَلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاٰتِهِمْ خٰاشِعُونَ - إلى آخر الآيات العديدة.»(1)

و كلا الوجهين(2) قويّان هنا.

ص: 422


1- المؤمنون/ 1-9.
2- في المخطوطة: «الوجهان».

[في معنى الهداية و الفلاح و أن المهتدين] [و المفلحين هم المتقون]

أُولٰئِكَ عَلىٰ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ

منحوه من عنده و أوتوه من قبله. و هو إما اللّطف و التوفيق، الّذي اعتضدوا به على أعمال الخير، و الترقي من الافضل إلى الافضل، و إما الارشاد إلى الدليل الموجب للثبات على ما اعتقدوه، و الدوام على ما عملوه، و إما الهداية الباطنية الموهوبة مجازاة على الايمان و الاعمال، أو تفضلا منه سبحانه، كما مرّت الاشارة إليه.

قيل: «معنى الاستعلاء في قوله: «على هدى» مثل لتمكّنهم من الهدى، و استقرارهم عليه، و تمسّكهم به؛ شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء و ركبه، و نحوه هو على الحق و على الباطل، و قد صرّحوا بذلك في قولهم (1):جعل الغواية مركبا و امتطى الجهل أي: اتخذ الجهل مطية.

وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ

الفائزون بالبغية.

و في الرواية المتقدم ذيلها سابقا الواردة في ترجمة الاذان عن التوحيد:

«و أما قوله: «حي على الفلاح»، فانّه يقول: أقبلوا إلى بقاء لا فناء معه، و نجاة لا هلاك معها، و تعالوا إلى حياة لا -

ص: 423


1- راجع الكشاف، ج 1، ص 24؛ و أنوار التنزيل، ص 10.

ممات(1) معها، و إلى نعيم لا نفاد له، و إلى ملك لا زوال عنه و إلى سرور لا حزن معه و إلى أنس لا وحشة معه، و إلى نور لا ظلمة معه، و إلى سعة لا ضيق فيها (2) ،و إلى بهجة لا انقطاع لها، و إلى غنى لا فاقة معه، و إلى صحة لا سقم معها، و إلى عز لا ذل معه، و إلى قوة لا ضعف معها، و إلى كرامة يا لها من كرامة، و عجلوا إلى سرور الدنيا و العقبى، و نجاة الآخرة و الاولى.

و في المرّة الثانية «حيّ على الفلاح»، فانّه يقول: سابقوا إلى ما دعوتكم إليه، و إلى جزيل الكرامة و عظيم المنّة، و سني النعمة و الفوز العظيم، و نعيم الابد في جوار محمّد صلّى اللّه عليه و آله في مقعد صدق عند مليك مقتدر.»(3)

ثم إنه بناء على الوجه الثاني من الوجهين المتقدّمين، فالمراد ب «اولئك» في الموضعين هو المتّقون، الذين وصفهم بالصفات الخمسة، بل الستة، و بناء على الوجه الاوّل بواحد من الثلاثة الاول و الاخيرة.

هذا إذا لم نجعل الموصول الاوّل أو الثاني مبتداء و إلا فالمراد بهما هم(4)

الذين يؤمنون بالغيب إن كان هو المبتدأ، أو «اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمٰا أُنْزِلَ - الخ» إن جعل مبتداء على بعد فيه.

و على الاول، فبعد أن وصف سبحانه المتقين الذين لهم القرآن هدى بصفات

ص: 424


1- خ. ل: «موت».
2- خ. ل: «معها».
3- راجع المصادر المذكورة في تعليقة 1 ص 417.
4- في المخطوطة: «هو».

خمسة: إيمانهم بالغيب، و إقامتهم الصلاة التي هي عمود الدين، و بمنزلة الفسطاط للخيمة، و رأس العبادات الجوارحية (1) ،و إنفاقهم بعض ما رزقهم اللّه و هو العبادة المالية بل الاعم كما مرّ (2) ،و ايمانهم بجميع ما أنزل إليه صلّى اللّه عليه و آله، و ما أنزل من قبله و إيقانهم بالآخرة أخبر عنهم بأنهم: «عَلىٰ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ» و بأنهم «اَلْمُفْلِحُونَ » .

و ظهور الهدى في الدنيا و ظهور الفلاح الغالب في الآخرة.

و ربما يستخرج منه انحصار المحمولين أعني: «الهدى من الرب» و «الفلاح» فيهم و أنّه ليس لغيرهم شيء منهما باعتبار اسم الاشارة، الذي هو بمنزلة الوصف هنا، و تكريره و تعريف المفلحين، و توسيط الفصل بينه و بين اولئك.

و حينئذ ففيه قطع الاماني الفاسدة و الرجاءات الكاذبة و التمنيات التي يتمناها أمثالنا من الوصول إلى تلك الغايات، من دون الاتصاف بشيء من حقائق تلك الاوصاف، تنشيط للسامعين لدرك ما قدموا، و ترغيب في طلب ما طلبوا، و تبصير لمراتبهم.

[غايات التّقوى على ما في نهج البلاغة]

و قد وردت في الاخبار صفات كثيرة للمتقين ربّما يرد عليك شيء منها فيما بعد، و غايات عديدة للتقوى نقله السيد [ره] في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السّلام في ضمن خطبة له:

«فإنّ تقوى اللّه دواء داء قلوبكم، و بصر عمى أفئدتكم، و شفاء مرض أجسادكم، و صلاح فساد صدوركم، و طهور دنس

ص: 425


1- روى المجلسي (ره) في البحار، ج 82، باب فضل الصلاة و عقاب تاركها، أحاديث كثيرة تشتمل بهذه الاوصاف للصلاة، فراجع.
2- راجع كلامه (ره) في تفسير آية «وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ ».

أنفسكم، و جلاء غشاء أبصاركم، و أمن فزع جأشكم، و ضياء سواد ظلمتكم - إلى أن قال عليه السّلام: - فمن أخذ بالتقوى عزبت عنه الشدائد بعد دنوّها، و احلولت له الامور بعد مرارتها، و انفرجت عنه الامواج بعد تراكمها، و أسهلت له الصعاب بعد إنصابها (1) ،و هطلت عليه الكرامة بعد قحوطها و تحدّبت عليه الرحمة بعد نفورها، و تفجّرت عليه النعم بعد نضوبها، و وبلت عليه البركة بعد إرذاذها - إلى آخر الحديث.»(2)

و «النصب» بالتحريك: التعب، و الانصاب: الاتعاب. و «الهطل» بالفتح:

تتابع المطر المتفرّق العظيم القطر، و المطر الضعيف الدائم، و تتابع الدمع. و «القحوط» بالضم: احتباس المطر كالقحط بالفتح. و «تحدبت عليه» أي: تعطفت. و «الوبل» بالفتح و الوابل: المطر الشديد، و «وبلت السماء» أي: أمطرت. و «الرذاذ»:

المطر الضعيف، و قيل: هو كالغبار، على ما وجدناه في بعض الحواشي.

و لا يخفى عليك أنه يمكن إدراجها جميعا تحت الهداية و الفلاح المذكورين في الآية، فانّ كونه «بصرا لعمى الافئدة» و «جلاء لغشاء الابصار» و «ضياء لسواد الظلمة» و غيرها مندرجة تحت عنوان الهداية الّتي يعطيها اللّه سبحانه، أو الاولين من أسبابها، و الاخير عين تلك الهداية. و أكثر ما بقي من تلك الخصال تحت عنوان «الفلاح»؛ إذ هو فوز بالبغية العاجلة و الباقية، و بعضها ذات وجهين يصلح للدخول تحت كل منها؛ كتفجر النعم و هطل البركة؛ إذ لو أخذا من المعارف

ص: 426


1- خ. ل: «انصبابها».
2- نهج البلاغة، خ 198، ص 312؛ و البحار، ج 70، باب الطاعة و التقوى و الورع، ص 283، ح 6.

الواردة في القلب دخلا تحت الهداية، و إلا صحّ إدخالهما تحت الفلاح. و حينئذ فربما يصح أن يجعل هذا الكلام بمنزلة تفصيل ما أجمل في الآية و تفسيرها. و لنشر إلى بعض ما ربما يصلح بيانا لها، فنقول:

لعلّ المراد من كون التقوى دواء داء القلب أن الامراض القلبية الباطنيّة كالبخل و الكبر و الحسد و الحقد و الرياء و غيرها ممّا هو مقرّر في علم الاخلاق كلّها ترتفع بتحصيل التقوى، و تسليط التقوي عليها، باعتبار أن الانسان المتحرز عمّا يضرّ بدينه يتحرّز عن إعمال تلك الملكات، و يسعى لنفي شوائب الاغراض عن أعماله ليكون العمل خالصا له سبحانه، و كل ملكة و حال و خلق إذا تركت إعمالها، و أهملت و لم يلتفت إلى شأنها في مقام العمل، و ارتفع عنها التأثير في العمل أصلا، و كان العمل على حسب داعي التقوى المخالف له في الصورة كثيرا، و في المعنى دائما إذا اعتبر الخلوص فيها ضعفت تلك القوة و الحالة و الملكة إلى أن يرجع إلى التوسط المطلوب منه.

و أيضا إذا قوي باعث التقوى في القلب من الخوف و الرجاء و المحبة و الحياء منه سبحانه بحيث أعطي الانسان صفة التقوى، و ألبسه لباسها، انقهرت تلك الملكات و الاحوال و القوى تحت حكمها لمكان مضادّتها، و كلّما أثر باعث التقوى في العمل ازداد قوة تأثيره، و ضعف به تأثير غيرها.

و أيضا الاخذ بالتقوى في مكان وصول المدد و الجذبة من عالم القدس و الشفاء الروحاني من عند اللّه سبحانه، كما ورد على ما ببالي: أن «من كان للّه كان اللّه له».

و أما كونها بصر عمى الفؤاد، فلعلّه باعتبار أنّ عمى الفؤاد إما من غطاء المحبّة و العصبيّة و أمثالهما، المانع عن إدراك الشيء بصفته الواقعيّة؛ كما قال شعر:

و عين الرضا عن كل عيب كليلة *** كما أن عين السخط تبدي المساويا

ص: 427

و إما باعتبار رين الواقع على القلب من متابعة الشهوات و ارتكاب المعاصي، فاستولى بها الظلمة على الفؤاد. و إمّا باعتبار مجازات واقعيّة وقعت على معاصي العبد. و جميع ذلك ترتفع بالتقوى؛ إذ بواعث التقوى تمنع من تلك الاغطية، بل المتّقي يزن بميزان الحق و القسط خوفا من ميزان القيامة، الموضوع على القسط، و لا يبقى له معاصي تصير سببا للرين، و وقوع المجازات بتركها فعلا، و تداركها ما فرط منها سابقا بالتوبة و التلافي.

و أيضا فاعطاء اللّه سبحانه بصرا للمتقي به يكون فؤاده بصيرا ليس ببعيد من مواهب اللّه و عطاياه، و لا من المتّقي لمكان القابليّة الحاصلة له، و من ذا يكون أقرب إلى عطاياه سبحانه من المتقي. و التقوى تقرب صاحبها إلى معطي الابصار و مالكها، و مانع كل الخيرات.

و أما كونها شفاء لمرض الاجساد، فلعلّه باعتبار كون الامراض ناشئة من المعاصي؛ قال سبحانه:

«مٰا أَصٰابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمٰا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ.» (1)

و التقوى مانعة عن فعل المعصية، و موجبة لتدارك ما وقع و محوه، و مقربة لصاحبها من الدخول تحت قوله تعالى: «وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ » (2).

و إما باعتبار إرادة الاجساد المثالية الّتي هي في باطن الجسم العنصري، و صحّتها تكون بالتقوى.

و إما باعتبار أن تلك الامراض الظاهرية بمنزلة الصور و الكلال للأمراض الباطنية في كثير من الاحيان للمناسبة الواقعة بين عالم الملك و الملكوت، فبارتفاع تلك الامراض ترتفع هذه.

ص: 428


1- الشورى/ 30.
2- الشورى/ 30؛ و المائدة/ 15.

و أما كونها صلاحا لفساد الصدر، فلعلّه لما تقدم، أو لأن فساده من طرف استيلاء الشيطان الّذي يوسوس في صدور الناس، و المتقي بعيد عن تسلّط الشيطان عليه؛ «إِنَّمٰا سُلْطٰانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ » (1) ؛ «إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذٰا مَسَّهُمْ طٰائِفٌ مِنَ الشَّيْطٰانِ تَذَكَّرُوا فَإِذٰا هُمْ مُبْصِرُونَ » (2).

و أما كونها طهور دنس النفس، فلعلّه لأجل أن الدنس إنما يحصل في النفس لمزاولة المعاصي، أو الانهماك في الشهوات، أو لمجاورة عالم الطبيعة و الخلود إليها، و التقوى تمنع عنها و تزعجها إلى عالم القدس و الطهارة، و مقربة لها إلى المياه المعنوية المطهرة عن تلك الادناس.

و أما كونها جلاء غشاء البصر، فلعلّه لمثل ما مرّ في ذكر كونها بصر عمى الفؤاد؛ إذ الظاهر هنا إرادة بصر القلب أو بصر القالب المثالي.

و أما كونها أمن فزع الجأش، فلعلّه باعتبار كونها موجبة لغمض العين عن المفاسد الدنيويّة، فلا يكون للقلب اهتمام بشأنها حتّى يوجب حصول الفزع له لمكان صبره على مكاره الدنيا و تحمله لها، و لصيرورة نظر صاحب التقوى أعلى من تلك المخاوف اليسيرة باستيلاء خوف المهالك العظيمة الباقية، الّتي لا نسبة لجزء من أجزائها إلى مجموع مخاوف الدنيا بأسرها، و علو رجائه فيما يرجوه من الامور الباقية، أو لاتّصال صاحبها و قربه إلى محل السكينة الّتي تنزل على قلوب المؤمنين، أو لاتّصاله إلى عالم القدس المعرّى عن شوائب التغيير و النقصان، و خروجه عن عالم الكون و الفساد.

و أما كونها ضياء لسواد الظلمة، فلعلّه لمثل ما تقدم، أو كونها سببا لظهور النور من جانب الحق في القلب.

ص: 429


1- النحل/ 100.
2- الاعراف/ 201.

و أما عزوب الشدائد عمّن أخذ بالتقوى و احليلاء الامور، فلعلّه لأن كلّ أمر تحمّله و صبر عليه يصير ملكة له و يسهل عليه، فيصير الشديد سهلا، و المرّ حلوا، أو لان شدة الامور صعوبتها و مرارتها إنما جاء من طرف استيلاء تلك الحالات المخالفة لها في النفس، فاذا ارتفعت أو ضعفت أو أسكنت بوجود المزاحم القوى الّذي هو باعث التقوى صارت سهلة حلوة، أو لأن شغل النفس بالشاغل القوي يمنعها عن الانفعال التام عن تلك الامور، أو لأن الحق سبحانه يفرغ عليه صبرا و يثبّت قدمه.

و أما انفراج الامواج بعد تراكمها، فلعلّ المراد منه انفراج أمواج الهموم الدنيوية، أو انفراج أمواج الهوى المسلّط عليه. و ظاهر أنّ بعد الصبر على تحملها و مخالفة الهوى تنفرج عنه تلك الاهوال، و يخلص النفس عن أسرها، و تصير حرا بعد أن كان عبدا لها.

و أما سهولة الصعاب، فلعلّه لما ذكر، و إن أراد به الطاعات و المجاهدات الصعبة، فمن الظاهر أنها جميعا بعد التمرّن و التعوّد تصير سهلة كما هو الحال في كل عمل صعب بعد الاعتياد.

و أما هطل الكرامة و تحدب الرحمة و تفجر النعم و وبل البركة، فالظاهر أنها هي الفيوضات الباطنيّة الواردة لأهل التقوى من خزائنها الغيبية من المعارف و العلوم و الارزاق المعنوية و الصورية المثالية و غيرها مما يعلمه أهله، أو مع البركات الظاهرية في ماله و عمره و غيرهما، و سائر الخيرات الصورية و المعنوية، الّتي منها أن يجعل له مخرجا، يرزق من حيث لا يحتسب على ظاهر الآية الشريفة(1).

و هذا كلام اجمالي عسى أن تطلع على كثير من التفاصيل فيما بعد ذلك - إن شاء اللّه تعالى -.

ص: 430


1- المراد منها آية 2-3 من سورة الطلاق.

ثم إنه ربما يستفاد من نسبة الهدى في صفة القرآن إلى المتقين، و من قوله:

«أُولٰئِكَ عَلىٰ هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ» على ما مرّ من دلالته على الحصر، انحصار الهدى الالهية في المتقين و المؤمنين الموصوفين بتلك الصفات، و أن القرآن هدى لهم لا - لغيرهم. فالظاهر من ذلك أنّ طريق تحصيل تلك الهداية و الاهتداء بالقرآن هو تحصيل تلك الصفات، كما أن حصول الفلاح مما يترتب عليها، و طريق تحصيله هو اكتسابها، فربما يتحصل من ذلك أن كلا من تلك الصفات و الهدى أخوان متلازمان و صاحبان مصطحبان لا يفارق أحدهما صاحبه، فمن اتصف بتلك الصفات على ما ينبغي أن يكون عليها، فهو على تلك الهدى الخاص، و القرآن هدى له بمقتضى منطوق الآية، و من لم يتّصف بها لم يكن له ذلك.

فربما يستخرج من ذلك أن كلا منهما علامة للآخر فمن وجد في نفسه هدى ربانية، و صار القرآن هدى له على غير الوجه الذي يشاركه فيه الكفار و المخالفين و المستغرقين أعمارهم بالفسق و الفجور، كان ذلك علامة لكونه مستجمعا لتلك الصفات و لكونه مفلحا في الآخرة؛ لأن وجود الموضوع يستتبع وجود كل محمول له فرض.

و من لم يجد ذلك في نفسه، و ظهر له أنه لم يدرك غير ما يشاركه فيه الطوائف الآخر، كان علامة عدم كونه مستجمعا لتلك الصفات على الوجه الّذي ينبغي أن تكون عليه، و لخروجه عن تحت المفلحين بناء على استفادة الحصر كما تقدم ذكره.

و كذا كل من وجد ما صورته الهداية، فان ظهر منه تفرّعها على تلك الصفات كان إمارة كونها هداية حقّة إلهية، سواء كان في آيات القرآن أو غيرها، و إن ظهر منه عدم تفرعها عليه لم يلزم أن يكون كذلك، بل لعلّها وسوسة شيطانية باطلة، ظهرت له في صورة الحق.

و ربما يلزم من ذلك أنّ غير التقوى و الايمان و الاتصاف بتلك الصفات ليس من طرق الهداية، سواء كان رياضة باطلة، أو تعلّم العلوم العقلية من الفلاسفة، أو

ص: 431

غير ذلك.

و هذا كلام سنح بالبال، فلاحظ فيه، عسى أن تجده صحيحا باطلاقه، أو بحسب المقتضى فقط بحسب بعض المراتب، و تثبّت على طلب الهداية من هذا الطريق إن وجدت الامر على ذلك المنوال المذكور.

ص: 432

[في معنى الكفر و أقسامه و مراتبه]

[إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ] ثم إنه لما ظهر بيان صفة الكتاب و هدايته للمتقين، و وصف المؤمنين بصفاتهم و ما يترتّب على الاتّصاف بتلك الاوصاف في هذه الآيات الكريمة، فصارت صفاتهم و جزائهم العاجل و الآجل ظاهرا منها على ما مرّ، و كانت هذه الآيات في شأنهم، و الآية الاولى في شأن الكتاب بالنسبة إليهم، ناسب ذكر نبذة الكتاب و المخالفين لهم في تلك الخلال، و ما يترتب على تلك المخالفة من الكفار و المنافقين، و لعلّ لذلك و أمثاله عقبها بقوله سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ...» .

روى القمّي في ذيل هذه الآية باسناده عن أبي عمر الزبيري، عن الصادق عليه السّلام على ما في النسخة أنه قال:

«الكفر في كتاب اللّه على خمسة وجوه (1):فمنه: كفر الجحود و هو على وجهين: جحود بعلم، و جحود بغير علم. فأمّا الّذين جحدوا بغير علم، فهم الّذين حكى اللّه عنهم في قوله:

«وَ قٰالُوا مٰا هِيَ إِلاّٰ حَيٰاتُنَا الدُّنْيٰا نَمُوتُ وَ نَحْيٰا وَ مٰا يُهْلِكُنٰا إِلاَّ الدَّهْرُ وَ مٰا لَهُمْ بِذٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّٰ يَظُنُّونَ.» (2)

و قوله: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ

ص: 433


1- خ. ل: «أوجه».
2- الجاثية/ 24.

لاٰ يُؤْمِنُونَ.» فهؤلاء كفروا [و جحدوا] بغير علم. و أما الّذين كفروا و جحدوا بعلم، فهم الّذين قال اللّه تبارك و تعالى:

«وَ كٰانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّٰا جٰاءَهُمْ مٰا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ.» (1) فهؤلاء الّذين كفروا و جحدوا بعلم.

- قال: - و حدثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن حريز، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «نزلت هذه الآية في اليهود و النصارى؛ يقول اللّه تبارك و تعالى: اَلَّذِينَ آتَيْنٰاهُمُ الْكِتٰابَ يَعْرِفُونَهُ

يعني: رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كَمٰا يَعْرِفُونَ أَبْنٰاءَهُمْ » (2) ؛لأن اللّه عزّ و جلّ قد أنزل عليهم في التوراة و الانجيل و الزبور صفة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و صفة أصحابه بنعته و منهاجه (3) ،و هو قوله: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللّٰهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّٰاءُ عَلَى الْكُفّٰارِ رُحَمٰاءُ بَيْنَهُمْ تَرٰاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّٰهِ وَ رِضْوٰاناً . ..ذٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرٰاةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ.» (4) فهذه صفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في التوراة و الانجيل و صفة أصحابه. فلما بعثه اللّه عزّ و جلّ عرفه أهل الكتاب، كما قال جلّ جلاله: «فَلَمّٰا جٰاءَهُمْ مٰا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ»

فكانت اليهود يقولون للعرب قبل مخرج(5) النبي: أيها العرب هذا أوان نبي يخرج بمكة، و يكون مهاجره(6) إلى المدينة

ص: 434


1- البقرة/ 89.
2- البقرة/ 146.
3- في بعض النسخ: «و مبعثه و هجرته»، و في بعضها: «و مبعثه و مهاجره».
4- الفتح/ 29.
5- خ. ل: «مجيء».
6- في بعض النسخ: «هجرته»، و في المخطوطة: «مهاجرته».

و هو آخر الانبياء و أفضلهم؛ في عينيه حمرة، و بين كتفيه خاتم النبوة؛ يلبس الشملة و يجتزي بالكسر و التميرات، و يركب الحمار العري،(1) و هو الضحوك القتّال يضع سيفه على عاتقه، لا يبالي من لاقى، يبلغ سلطانه منقطع الخفّ و الحافر، ليقتلنّكم [اللّه] به يا معشر العرب قتل عار.

فلما بعث اللّه نبيه صلّى اللّه عليه و آله بهذه الصفة حسدوه و كفروا به؛ كما قال اللّه عزّ و جلّ: «وَ كٰانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّٰا جٰاءَهُمْ مٰا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ»

و منه: كفر البراءة، و هو قوله: «ثُمَّ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ » (2) ؛أي: يتبرأ بعضكم من بعض.

و منه: كفر ترك، الترك لما أمرهم اللّه تعالى، و هو قوله تعالى:

«وَ لِلّٰهِ عَلَى النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ» (3)

أي: ترك الحج و هو مستطيع فقد كفر.

و منه: كفر النعم، و هو قوله تعالى: «لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّمٰا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ » (4) ،أي: و من لم يشكر نعمة اللّه فقد كفر.

فهذه وجوه الكفر في كتاب اللّه.»(5)

ص: 435


1- في القمي: «عرية»، و في البحار: «العرية».
2- العنكبوت/ 25.
3- آل عمران/ 97.
4- النمل/ 40.
5- القمي، ج 1، ص 32؛ و البحار، ج 72، باب الكفر و لوازمه و آثاره، ص 92، ح 2.

و عن الكليني باسناده عن أبي عمرو الزبيري، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت له: أخبرني عن وجوه الكفر في كتاب اللّه عزّ و جلّ، قال:

«الكفر في كتاب اللّه على خمسة أوجه، فمنها: كفر الجحود و الجحود على وجهين، و الكفر بترك ما أمر اللّه، و كفر البراءة، و كفر النعم.

فأما كفر الجحود [فهو الجحود] بالربوبية، و هو قول من يقول: «لا ربّ و لا جنّة و لا نار»، و هو قول صنفين من الزنادقة يقال لهم «الدهرية»، و هم الّذين يقولون: «وَ مٰا يُهْلِكُنٰا إِلاَّ الدَّهْرُ » ،و هو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان منهم على غير تثبت(1) منهم، و لا تحقيق شيء مما يقولون؛ قال اللّه عزّ و جلّ: «إِنْ هُمْ إِلاّٰ يَظُنُّونَ » ،و ذلك كما يقولون. و قال:

«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ»

يعني: بتوحيد اللّه. فهذا أحد وجوه الكفر.

و أمّا الوجه الآخر من الجحود على معرفة، و هو أن يجحد الجاحد و هو يعلم أنه حق قد استقرّ عنده، و قد قال اللّه عزّ و جلّ: «وَ جَحَدُوا بِهٰا وَ اسْتَيْقَنَتْهٰا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا» (2)

و قال اللّه عز و جلّ: «وَ كٰانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّٰا جٰاءَهُمْ مٰا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّٰهِ عَلَى الْكٰافِرِينَ » .فهذا تفسير وجهي الجحود.

الوجه الثالث من الكفر كفر النعم، و ذلك قوله تعالى يحكي

ص: 436


1- في المخطوطة: «تثبيت».
2- النمل/ 14.

قول سليمان: «هٰذٰا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّمٰا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ» و قال: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذٰابِي لَشَدِيدٌ » .(1) و قال:

«فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي وَ لاٰ تَكْفُرُونِ » .(2)

و الوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر اللّه عز و جلّ به، و هو قول اللّه عز و جلّ: «وَ إِذْ أَخَذْنٰا مِيثٰاقَكُمْ لاٰ تَسْفِكُونَ دِمٰاءَكُمْ وَ لاٰ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ * ثُمَّ أَنْتُمْ هٰؤُلاٰءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيٰارِهِمْ تَظٰاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسٰارىٰ تُفٰادُوهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرٰاجُهُمْ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتٰابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمٰا جَزٰاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنْكُمْ» (3) فكفّرهم بترك ما أمر اللّه عز و جلّ به، و نسبهم إلى الايمان، و لم يقبله منهم، و لم ينفعهم عنده، فقال:

«فَمٰا جَزٰاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنْكُمْ إِلاّٰ خِزْيٌ فِي الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ يُرَدُّونَ إِلىٰ أَشَدِّ الْعَذٰابِ وَ مَا اللّٰهُ بِغٰافِلٍ عَمّٰا تَعْمَلُونَ.» (4)

و الوجه الخامس من الكفر كفر البراءة، و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ يحكي قول إبراهيم - على نبينا و آله و عليه السلام -:

«كَفَرْنٰا بِكُمْ وَ بَدٰا بَيْنَنٰا وَ بَيْنَكُمُ الْعَدٰاوَةُ وَ الْبَغْضٰاءُ أَبَداً حَتّٰى تُؤْمِنُوا بِاللّٰهِ وَحْدَهُ » (5) ؛يعني: تبرّأنا منكم. و قال (6):يذكر إبليس

ص: 437


1- ابراهيم/ 7.
2- البقرة/ 152.
3- البقرة/ 84-85.
4- نفس الآية.
5- الممتحنة/ 4.
6- في المخطوطة: «قد».

[و] تبرّيه من أوليائه من الانس يوم القيامة: «إِنِّي كَفَرْتُ بِمٰا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ » (1) ؛ «وَ قٰالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللّٰهِ أَوْثٰاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً » (2) ،يعني: يتبرأ بعضكم من بعض.»(3)

انتهى.

و في الصحاح: «الكفر: ضدّ الايمان، و قد كفر باللّه كفرا - إلى أن قال: - و الكفر أيضا: جحود النعمة، و هو ضد الشكر، و قد كفره كفورا و كفرانا. و قوله تعالى: «إِنّٰا بِكُلٍّ كٰافِرُونَ» (4) أي: جاحدون. و قوله تعالى: «فَأَبَى الظّٰالِمُونَ إِلاّٰ كُفُوراً» (5)

قال الاخفش: هو جمع الكفر؛ مثل: برد و برود. و الكفر بالفتح: التغطية، و قد كفرت الشيء أكفره بالكسر كفرا أي: سترته. و رماد مكفور إذا سفت(6) الريح التراب عليه حتى غطّته - إلى أن قال: - و الكفر أيضا: ظلمة اللّيل و سواده، و قد يكسر الكاف؛ قال حميد [شعرا]:

فوردت قبل انبلاج الفجر *** و ابن ذكا كامن في كفر

أي: فيما يواريه من سواد اللّيل. و الكافر: اللّيل المظلم؛ لأنّه يستر بظلمته كلّ

ص: 438


1- إبراهيم/ 22.
2- العنكبوت/ 25.
3- الكافي، ج 2، باب وجوه الكفر، ص 389، ح 1؛ و البرهان، ج 1 ص 57؛ و كذا رواه النعماني (ره) فى تفسيره عن إسماعيل بن جابر، عن الصادق، عن أمير المؤمنين - عليهما السلام -، فراجع البحار، ج 93، باب ما ورد في أصناف آيات القرآن، ص 60-61، و ج 72، باب الكفر و لوازمه و آثاره، ص 100، ح 30.
4- القصص/ 18.
5- الاسراء/ 99.
6- في المخطوطة: «سلقت».

شيء و الكافر: الّذي كفر درعه بثوب؛ أي: غطاه و لبسه فوقه، و كل شيء غطّى شيئا فقد كفره. قال ابن السكيت: و منه سمّي الكافر؛ لأنه يستر نعم اللّه عليه - إلى أن قال: - و الكافر: الزارع؛ لأنه يغطي البذر بالتراب، و الكفار: الزراع.»

أقول: الظاهر على ما صرّح به بعضهم أو جماعة منهم(1) أن أصل الكفر:

الستر و التغطية، كما يشهد له ملاحظة المعاني المذكورة، فانّ الجامع بينها المشترك بين عناوينها هو ذلك، بل و غيرها كالكفارة، فانه يستر الذنب و يغطيه، كنسبته العفو إليه، الظاهر كونه من الاندراس و البلى، و التكفير في مقابل الاحباط فانّه ستر للمعاصي بفعل طاعة و محوها، كما أنّ الاقسام الخمسة المذكورة في الحديث كلّها مشتركة في ذلك المعنى؛ إذ الجحود مع علم و بدونه ستر للحقّ، و كفر النعم ستر لها، و تغطية عن نسبتها إلى المنعم بها بترك إظهار بقول أو عمل أو حال أو جحود لها كذلك، أو ستر المنعم بالنعم و احتجاب عن المنعم بنعمه، فلا يلاحظها منسوبة إليه، و لا يعامله معاملة المعطي المنعم، بل يكون منقطعا إلى النعمة معرضا عن موليها و معطيها.

و أما الكفر بترك ما أمر اللّه عزّ و جلّ، فيمكن إدراجه تحت كفر النعم لترك استعماله النعمة المتعلّقة بذلك المأمور به فيما أراده المنعم منه؛ كالزاد، و الراحلة، و صحة البدن، و تخلية السرب، و الفراغ من الاعذار، و نعمة الهداية، و الايمان بالامر و غير ذلك في مثال الحج. و كنعمة سعة الدار و القدرة و غيرهما في مثال إخراج المجامعين لهم في المذهب من الديار.

و يمكن أن يجعل سترا للتكليف و الامر، حيث انّ الاعراض عن الامتثال و عن الامر ستر له في مقام العمل، كأنّه ممّن لم يؤمر و لم يرد منه ذلك، أو سترا عن الامر المكلّف حيث إنه أعرض عن إطاعة مولاه، كأن مولاه مستور عنه، أو

ص: 439


1- راجع مجمع البيان، ج 1، ص 41؛ و أنوار التنزيل، ص 10.

سترا عن الايمان حيث لم يعمل بمقتضاه.

و أما كفر البراءة، فلان البراءة تقتضي إعراضا و إدبارا من المتبري عن المتبرّئ عنه، و هو في معنى ستره أو التستر عنه؛ إذ لم يتوجه بقلبه إليه، بل نفر عنه و أدبر و القلب مع محبوبه، و المرء مع من أحب معنى و إن لم يكن معه مجتمعا في الصورة.

و حينئذ فيشبه أن يكون الكافر المقابل للمؤمن هو من يكون ساترا للحق، أو متسترا عنه لكونه شاكّا أو جاحدا له لا يقبله، بل يعاند و يدفعه باطنا أو ظاهرا أو معتقدا خلافه بالجهل المركب، فان الشاك و الجاهل المركب غائبان عن الامر المشكوك فيه، مستوران عنه، كما أنّ المؤمن بالشيء كالمشاهد له الحاضر عنده و الجاحد ساتر للحقّ الّذي يجحده عن قلبه أو ظاهره، أو عن أعين المخالطين له؛ إذ ربما يصحّ أن يقال: إنّ الستر و الانكشاف في الحق سبحانه لما لم يمكن من جهة ظهوره و خفائه في نفسه، بل من حيث ظهوره على القلب و استتاره عنه، فالمؤمن قد ظهر الحق لقلبه و قبله، و الكافر ساتر له عن قلبه بشكّه أو جهله المركب، أو بجحوده و إبائه و عناده. أو يقال: إن الحق سبحانه لمّا كان ظاهرا بأدلّته و آياته و بيناته بحيث يظهر لكل من لم يكن متسترا عنه بساتر، و محتجبا عنه بحجاب صوري أو معنوي، كان الكافر الشاك، أو الجاحد، أو المعتقد خلافه هو المتستر عن الحق بشكّه، أو سبب شكّه و خطائه من عصبية أو تقليد أو هوى أو غير ذلك، أو بجحوده و عناده، فكأنه يدفع ظهور الحق له بستره. أو يقال: إن من شأن القلب الانساني أن يكون مصدقا للحق عند سلامته ابتداء، أو بعد قرع سمعه بالادلة المنصوبة عليه، أو ورودها عليه من سائر طرق الادراك. فمن لم يحصل في قلبه العلم إنما منعه عنه مانع هو حجاب و ستر بينه و بين الحق. و كذا من شأنه قبول الحق عند وروده عليه، فالجاحد يجحد لتحقق مانع حجبه عن التسليم

ص: 440

و الانقياد.

و حينئذ فيكون أصل الكفر هو الاستتار و التغطية عن الحق بجهل مركب أو بسيط أو جحود و عناد، و يترتب عليه أغصان من الاخلاق الرذيلة و الحالات و الملكات المنافية لحالة الايمان و التسليم، و فروع هي ثمرة ذلك الاصل، و هي المعاصي و السيئات.

فالكفر شجرة خبيثة اجتثّت من فوق الارض ما لها من قرار في مقابلة الشجرة الطيبة الايمانية المستقرة أصلها ثابت و فرعها في السماء تؤتي أكلها كلّ حين باذن ربّها(1).

و المقابلة واقعة بينهما في جميع المقامات من مقام العلم و القبول و الاخلاق و الملكات و النيات و الاعمال، و في النتائج و الآثار المترتبة على كل منها.

و كما أنّ الكفران بالنعم من أغصان الكفر كذلك الشكر من شعب الايمان و كما أنّ المعصية كفر فرعي كذلك الطاعة إيمان فرعي، و كما أن البراءة من اللّه و أوليائه كفر كذلك التولّي لأولياء اللّه سبحانه ايمان، و كما أن هناك إيمان لساني و هو نفاق فهاهنا كفر لساني من دون موافقة القلب له، و هو ليس كفرا عند التقية:

«مَنْ كَفَرَ بِاللّٰهِ مِنْ بَعْدِ إِيمٰانِهِ إِلاّٰ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ » (2) .و كما أنّ هناك أمرا آخر هو روح الايمان فالظاهر أن هاهنا أيضا أمر هو روح الكفر، و هو مظلم كما أنّ الاول منور، أو نور بنفسه.

و بهذا البيان ينطبق أقسام الكفر المذكور في كلامه عليه السّلام، و به يمكن الجمع بين معظم الاخبار التي ربما يتراءى منها التعارض.

و هذا ذكر إجمالي وقع هنا بالمناسبة، و لعل التفصيل يظهر لك فيما بعد

ص: 441


1- إشارة إلى قوله تعالى في سورة إبراهيم، آية 24-26.
2- النحل\ 106.

متفرقا - إن شاء اللّه تعالى -.

[معنى الانذار]

سَوٰاءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاٰ يُؤْمِنُونَ

الانذار: التخويف من عقاب اللّه بالزجر عن المعاصي، كما ذكره جماعة (1).و الحكم بالاستواء بين الانذار و عدمه يفيد قطع حسم احتمال الايمان منهم بالمرة؛ إذ الانذار أقوى تأثيرا من البشارة و غيرها من بواعث الافعال، فإنّ دفع الضرر أهمّ من جلب المنفعة.

و يحتمل إطلاق الانذار على مطلق الدعوة بأنحائه، أو بالقرآن تغليبا للانذار و التخويف على غيره.

و المراد بالموصول هنا يجوز أن يكون أناسا معهودين بأعيانهم؛ ك «أبي جهل» و «أبي لهب» و «الوليد بن المغيرة» و أضرابهم من رؤساء الضلال الثابتين فيه؛ و يجوز أن يكون الجنس المتناول لكل من صمم على الكفر تصميما لا يرعوي بعده دون غيرهم من الّذين لم يبلغوا ذلك الحال بقرينة الاخبار عنهم بالاستواء بين الانذار و عدمه، و هو من خصائص الاوّلين، فغيرهم خارج عن المراد بالموصول ابتداء، أو مستثنى منه بعد العموم.

ص: 442


1- راجع الكشاف، ح 1، ص 26؛ و أنوار التنزيل، ص 11.

[بحوث حول الختم و الغشاوة]

خَتَمَ اللّٰهُ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ وَ عَلىٰ سَمْعِهِمْ وَ عَلىٰ أَبْصٰارِهِمْ غِشٰاوَةٌ

[معنى الختم و الغشاوة]

الختم و الكتم أخوان؛ لأنّ في الاستيثاق من الشيء بضرب الخاتم عليه كتما له و تغطية لئلا يتوصل إليه، و لا يطلع عليه، كما ذكره جماعة (1).و ربّما يفسّر بالشدّ و الطبع حتى لا يوصل إلى الشيء المختوم عليه، و منه ختم الباب و الكتاب.

و الغشاوة: الغطاء فعالة من غشاه إذا غطّاه، و هذا البناء لما يشتمل على الشيء؛ كالعصابة و العمامة (2).و قرئ عشاوة بالعين المهملة و الرفع من العشاء.

و عن ابن بابويه باسناده عن الرضا عليه السّلام، قال الراوي: سألته عن قول اللّه عزّ و جلّ: «خَتَمَ اللّٰهُ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ وَ عَلىٰ سَمْعِهِمْ» قال:

«الختم هو الطبع على قلوب الكفّار عقوبة على كفرهم؛ كما قال اللّه عزّ و جلّ: [بل] طَبَعَ اللّٰهُ عَلَيْهٰا بِكُفْرِهِمْ فَلاٰ يُؤْمِنُونَ إِلاّٰ قَلِيلاً.» (3)

ص: 443


1- راجع الكشاف، ج 1، ص 26؛ و أنوار التنزيل، ص 11.
2- راجع نفس المصادر، و هكذا مجمع البيان، ج 1، ص 44.
3- الآية الاخيرة: النساء\ 155؛ و الحديث: العيون، ج 1، باب 11، ص 100، ح 16 عن إبراهيم بن أبي محمود، عنه - عليه السلام -؛ و الصافي، ج 1، ص 59؛ و البحار، ج 5، باب الهداية و الاضلال، ص 201، ح 26؛ و هكذا في البرهان و نور الثقلين.

و روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام:

«سبق في علمه أنّهم لا يؤمنون، فختم على قلوبهم و سمعهم ليوافق قضائه عليهم علمه فيهم؛ أ لا تسمع إلى قوله:

وَ لَوْ عَلِمَ اللّٰهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ؟» (1)

و ربّما ينسب إلى الامام عليه السّلام تفسير الاوّل بأنّه: «وسمها بسمته يعرفها من يشاء من ملائكته و أوليائه إذا نظروا إليها بأنّهم الذين لا يؤمنون.» و الثاني بأنّ: «ذلك أنّهم لمّا أعرضوا عن النظر فيما كلّفوه، و قصّروا فيما أريد منهم، جهلوا ما لزمهم الايمان [به]، فصاروا كمن على عينيه غطاء لا يبصر ما أمامه، فانّ اللّه يتعالى عن العبث و الفساد، و عن مطالبة العباد بما قد منعهم بالقهر منه »(2).

و عن تفسير الامام عليه السّلام؛ ذكر قصّة طويلة مشتملة على أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام شاهد رجالا من المنافقين دفع واحد منهم «ثابت [بن] قيس الانصاري» في بئر عميقة، فأوقع نفسه في البئر و سبقه إلى قرار البئر، و جاء ثابت فانحدر، فوقع عليه، و قد بسطها إليه، و كان كباقة ريحان تناولها بيده. قال عليه السّلام:

«ثمّ نظرت فاذا ذلك المنافق و من معه آخران على شفير البئر و هو يقول: أردنا واحدا. فصار اثنين. فجاءوا بصخرة فيها مائة منّ فأرسلوها، فخشيت أن تصيب ثابتا. فاحتضنته و جعلت رأسه إلى صدري و انحنيت عليه، فوقعت الصخرة على مؤخّر رأسي، قما كانت إلا كترويحة بمروحة(3) تروحت

ص: 444


1- الآية: الانفال\ 23، و الحديث لم نعثر عليه.
2- تفسير الامام - عليه السلام -، ص 36؛ و البحار، ج 5، باب الهداية و الاضلال، ص 200، ح 24، و ج 9، باب ما ورد من المعصومين - عليهم السلام - في تفسير الآيات، ص 174، ح 2؛ و هكذا في الاحتجاج ج 2، ص 260؛ و نور الثقلين نقلا عنه.
3- روح عليه بالمروحة، حرّك يده بها يستجلب له الريح، و المروحة آلة تحرك بها الريح عند اشتداد الحر.

بها في حمارة القيظ. ثمّ جاءوا بصخرة أخرى فيها قدر ثلاث مائة منّ، فأرسلوها علينا، فانحنيت على ثابت، فأصابت مؤخّر رأسي [فكانت كماء صببته على رأسي و بدني في يوم شديد الحرّ. ثمّ جاءوا بصخرة ثالثة فيها قدر خمسمائة منّ، يديرونها على الارض لا يمكنهم أن يقلبوها، فأرسلوها علينا، فانحنيت على ثابت، فأصابت مؤخّر رأسي] و ظهري، فكانت كثوب ناعم صببته(1) على بدني و لبسته، فتنعّمت به، ثمّ سمعتهم(2) يقولون: لو أنّ لابن أبي طالب و ابن قيس مائة ألف روح ما نجت منها واحدة من بلاء هذه الصخور.

ثمّ انصرفوا، فدفع اللّه عنّا شرّهم، فأذن اللّه لشفير البئر فانحطّ و لقرار البئر قد ارتفع، فاستوى القرار و الشفير بعد بالارض، فخطونا و خرجنا.» - و ساق الحديث إلى أن قال: -

ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام: «انظر»، فنظر إلى «عبد اللّه بن أبيّ» و إلى سبعة من اليهود، قال: «[قد] شاهدت ختم اللّه على قلوبهم و أسماعهم و أبصارهم.»

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أنت يا عليّ عليه السّلام أفضل شهداء اللّه في الارض بعد محمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.»

قال: فذلك قوله: «خَتَمَ اللّٰهُ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ وَ عَلىٰ سَمْعِهِمْ وَ عَلىٰ أَبْصٰارِهِمْ غِشٰاوَةٌ » ،تبصرها الملائكة فيعرفونهم بها، و يبصرها

ص: 445


1- أي: لبسته.
2- في البرهان: «فسمعتهم»، و في المخطوطة: «فاستمعتهم».

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و يبصرها خير خلق اللّه بعده عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.»(1) انتهى.

[اعتقاد المجبرة في الختم]

* و ذكر بعض المجبرة: «أنّ أهل السنّة يعني: الاشاعرة احتجّوا بالآيتين و نظائرهما على تكليف ما لا يطاق، و على أنّ اللّه هو الّذي خلق فيهم الداعية الموجبة للكفر، و ختم على قلوبهم، و منعهم عن قبول الحق و الصدق، و كل بتقديره تعالى، لاٰ يُسْئَلُ عَمّٰا يَفْعَلُ (2)».

و هذا كما ترى انهماك في الغيّ و الضلال.

و ذكر بعض العدليّة (3)* في الآية ما محصّله أنّه: لا ختم و لا تغشية هناك على الحقيقة، و إنّما هو من باب الاستعارة أو التمثيل.

أمّا الاوّل، فأن نجعل قلوبهم؛ لأنّ الحقّ لا ينفذ فيها و لا يخلص إلى ضمائرها من قبل إعراضهم عنه و استكبارهم عن قبوله و اعتقاده، و أسماعهم؛ لأنها تمجّه و تنبو عن الاصغاء إليه و تعاف استماعه، كأنّها مستوثق منها بالختم، و أبصارهم؛ لا تجتلي آيات اللّه المعروضة و دلائله المنصوبة، كأنّما غطّي عليها،

ص: 446


1- تفسير الامام - عليه السلام -، ص 40؛ و البحار، ج 42، باب جوامع معجزاته - عليه السلام - و نوادرها، ص 27، ح 7؛ و البرهان، ج 1، ص 58.
2- الانبياء\ 23.
3- بين النجمتين سقط عن المطبوعة، و مكانه فيها: «و أيضا و معنى الختم على قلوبهم أنها لا تؤمن لما علم من إصرارهم على الكفر. و يمكن أن المراد بالختم: العلامة، و إذا انتهى الكافر من كفره و المنافق من نفاقه إلى حالة ثابتة في اعوجاجه يعلم اللّه أنه لا يؤمن، فانه يعلم على قلبه علامة. و قيل: هي نكتة سوداء تشاهدها الملائكة فيعلمون بها أنه لا يؤمن بعدها فيذمّونه، و يدعون عليه. ثم اعلم أفاد بعض أهل الفضل».

و حيل بينها و بين الادراك.

و أمّا التمثيل، فأن نمثّل حيث لم يستنفعوا بها في الاغراض الدينيّة، التي خلقوا من أجلها بأشياء ضرب حجاب بينها و بين الاستنفاع بها بالختم و التغطية.

و قد جعل بعض الماديين الحبسة في اللّسان و العيّ ختما عليه في شعره، و ذكر في توجيه إسناد الختم إليه سبحانه ما حاصله بأنّ القصد إلى صفة القلوب بأنّها كالمختوم عليها.

[ردّ قول المجبرة و بيان حقيقة الختم و إسناده إلى اللّه سبحانه]

و أمّا إسناد الختم سبحانه فللتنبيه على أن هذه الصفة في فرط تمكّنها و ثبات قدمها كالشيء الخلقيّ غير العرضي؛ كقولهم: فلان مجبول على كذا و مفطور عليه، يريدون المبالغة في الثبات عليه. و كيف يصحّ تخيّل ما خيل و قد وردت الآية ناعية على الكفّار شناعة صفتهم و سماجة حالهم، و نيط بذلك الوعيد بعذاب شديد؟

و يجوز أن تضرب جملة «خَتَمَ اللّٰهُ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ» كما هي مثلا؛ كقولهم:

سال به الوادي إذا هلك، و طارت به العنقاء إذا أطال الغيبة، و ليس للوادي و لا للعنقاء عمل في هلاكه و طول غيبته، و إنّما هو تمثيل لحال الشخص بحال من فعلا به، فكذلك مثّلت حال قلوبهم فيما هم عليه من التجافي عن الحقّ بحال قلوب ختم اللّه عليها نحو قلوب الاغنام التي تشبه قلوب البهائم في الخلوّ عن الفطنة، أو بحال قلوب البهائم أنفسها، أو قلوب فرض ختم اللّه عليها حتّى لا تعي شيئا و لا تفقه من دون أن يكون للّه فعل في تجافيها عن الحقّ، و نبوها عن قبوله.

و يجوز أن يكون الاسناد إلى اللّه سبحانه مجازا من باب إسناد الفعل إلى أحد الملابسات كما هو شائع في كلامهم، فهاهنا و إن كان الخاتم هو الشيطان أو

ص: 447

الكافر، لكن لمّا كان اللّه سبحانه هو الذي أقدره عليه و مكّنه أسند إليه الختم، كما يسند الفعل إلى المسبب في قولهم: «بنى الامير المدينة» و «ناقة حلوب».

و وجه رابع، و هو أنهم لمّا كانوا على البتّ و القطع ممّن لا يؤمن و لا تنفع الآيات فيهم و لا يجدي فيهم الالطاف المقربة و المحصلة إن اعطوها، لم يبق طريق إلى إيمانهم إلا القسر و الالجاء، فاذا لم يقسرهم و الحال هذه لمنافاته الغرض من التكليف عبّر عن ذلك الترك ب «الختم» إشعارا بأنهم على صفة لا طريق إلى ردعهم إلا الالجاء، و هي الغاية القصوى في وصف لجاجهم في الغيّ، و استشرائهم في الضلال و البغي.

و وجه خامس، و هو أن يكون حكاية لما كانت الكفرة يقولونه تهكّما بهم من قولهم «قُلُوبُنٰا فِي أَكِنَّةٍ مِمّٰا تَدْعُونٰا إِلَيْهِ وَ فِي آذٰانِنٰا وَقْرٌ وَ مِنْ بَيْنِنٰا وَ بَيْنِكَ حِجٰابٌ » (1).

هذا غاية ما أمكنه من الجواب عن الاشكال المورد في الآية بملاحظة قواعد العدل. و لعلّه هو أقصى ما يمكن من الوجوه الظاهريّة مع عدم خلوّ بعضها من التكلّف و الخروج عن الظاهر.

و الذي يقتضيه النظر الدقيق هو ما دلّت عليه الرواية السابقة من أن الختم و الطبع إنّما وجد جزاء لكفرهم و عصيانهم، و هو سمة يعرفها كلّ من له عين، يبصرها أنّ صاحبه لا يؤمن استدلالا بالملزوم على اللازم، فيوافقه التفسير الآخر.

و لعلّه المراد من مشاهدة أمير المؤمنين عليه السّلام الختم على هؤلاء المنافقين، فانّ ذلك الختم و الغشاوة تدركان بالنظر الباطني و النور المشرق عن عالم النبوة و الولاية.

فينطبق التفاسير كلّها على ظاهر الآية و نظائرها من أخبار و آيات عديدة ممّا مرّ ذكرها هنا و غيرها؛ كقوله سبحانه:

ص: 448


1- فصلت\ 5.

«فَمَنْ يُرِدِ اللّٰهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاٰمِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمٰا يَصَّعَّدُ فِي السَّمٰاءِ.» (1)

و في التوحيد باسناد معتبر عن الصادق عليه السّلام قال:

«إنّ اللّه تعالى إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة من نور، و فتح مسامع قلبه، و وكّل به ملكا يسدّده؛ و إذا أراد بعبد سوء نكت في قلبه نكتة سوداء، و سدّ مسامع قلبه، و وكّل به شيطانا يضلّه.» ثمّ تلا هذه الآية.

قال الصدوق - رحمه اللّه - بعد ذكر الآية و الرواية:

«إنّ اللّه إنما يريد بعبد سوء لذنب يرتكبه، فيستوجب به أن يطبع على قلبه، و يوكّل به شيطانا يضلّه، و لا يفعل ذلك به إلا باستحقاق، و قد يوكل عزّ و جلّ بعبده ملكا يسدّده باستحقاق، أو تفضّل، و يختصّ برحمته من يشاء؛ و قال اللّه تعالى:

«وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطٰاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ.» (2)

انتهى.

و روي فيه باسناده عن السجاد عليه السّلام أنّه قال في حديث:

«ألا إنّ للعبد أربعة أعين: عينان يبصر بهما أمر آخرته،

ص: 449


1- الانعام\ 125.
2- الآية: الزخرف\ 36؛ و الحديث في التوحيد، باب التعريف و البيان و الحجة و الهداية، ص 415، ح 14، عن سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه - عليه السلام -؛ و هكذا رواه الكليني (ره) في الكافي، ج 1، باب الهداية أنها من اللّه عز و جلّ ص 166، ح 2، بهذا الاسناد؛ و العياشي (رض) في تفسيره، ج 1، ص 376، ح 94، مرسلا عن سليمان بن خالد، عنه - عليه السلام -، و نقله الفيض (ره) في الصافي، ج 1، ص 545، و البحراني (ره) في البرهان، ج 1، ص 552، ح 1.

و عينان يبصر بهما أمر دنياه، فاذا أراد اللّه عزّ و جلّ بعبد خيرا فتح له العينين اللّتين في قلبه، فأبصر بهما الغيب(1) ، و إذا أراد غير ذلك ترك القلب بما فيه. ثمّ التفت إلى السائل عن القدر فقال: هذا منه .»(2).

و الذي يظهر لي في تفصيل المقام أنّ للانسان بصرا باطنيا به يبصر الامور الغيبية بالنسبة إلى هذا المقام، و سمعا به يسمع الكلمات الخارجة عن كلمات هذا العالم، و قلبا ينشرح للاسلام و يضيق حرجا كأنّما يصّعّد في السماء؛ و كما أن لهذا البدن العنصريّ هذه الجوارح الثلاثة، كذلك في باطنه روح كلّ منها و حقيقته بحيث لا تفاوت بين تلك الجوارح و هذه المحسوسة إلا اللّطافة و الكثافة، و الخفّة و الثقل. و يشبه أن يكون تلك الجوارح هي للبدن الذي تعيش به في عالم البرزخ، و أنّ معظم الثواب و العقاب البرزخيين واقع باعتبار ذلك الجسد و القوى، و أنّ البدن و الاعضاء المذكورة ليست ممّا تحدث عقيب الموت حتّى تكون تناسخا ينتقل الروح من بدن إلى آخر، بل هي ثابتة في باطن هذا العالم، و واسطة بين الروح اللّطيف غاية اللّطف و البدن العنصريّ الكثيف، كما يشهد له شواهد كثيرة من السمع و الاعتبار، ليس المقام مقام استقصائها. و ملاحظة حال الرؤيا الصادقة التي يتفق للكاملين في التقوى أعدل شاهد على ذلك. فانك ترى في الرؤيا الصادقة عالما آخر، و تسمع فيها كلمات، و لك قلب في ذلك العالم، و ليس بالتخيّل و تعملات المتخيلة، و إلا لما كانت مطابقة للواقع و صادقة؛ إذ الخيال لا حكاية فيها عن

ص: 450


1- خ. ل: «العيب».
2- رواه (ره) في التوحيد، باب القضاء و القدر، ص 366، ح 4؛ و الخصال، ج 1، ص 240، ح 90، عن الزهري، عنه - عليه السلام -، و نقله المجلسي في البحار، ج 5، باب القضاء و القدر، ص 112، ح 39.

الخارج و إن أمكن اتفاق الموافقة، لكن فرق ظاهر بين ذلك و بين حال الرؤيا الصادقة، فانها تحكي عن الواقع إما بصورها، أو بمعانيها، كما سيرد عليك شيء من التفصيل و البيان فيما يناسبه - إن شاء اللّه تعالى -. و تلك العين و السمع و القلب آلات الايمان الحقيقي بالغيب؛ كما وصف أمير المؤمنين عليه السّلام فيما أورده في نهج البلاغة عنه من قوله عليه السّلام:

«إنّ اللّه سبحانه جعل الذكر جلاء للقلوب تسمع به بعد الوقرة، و تبصر به بعد العشوة، و تنقاد به بعد المعاندة، و ما برح للّه - عزّت آلاءه - في البرهة بعد البرهة، و في أزمان الفترات؛ عباد ناجاهم في فكرهم، و كلّمهم في ذات عقولهم، فاستصبحوا بنور يقظة في الابصار و الاسماع و الافئدة؛ يذكّرون بأيّام اللّه - إلى أن قال عليه السّلام: -

و إنّ للذّكر لأهلا أخذوه من الدنيا بدلا، فلم تشغلهم تجارة و لا بيع عنه؛ يقطعون به أيّام الحياة، و يهتفون بالزواجر عن محارم اللّه في أسماع الغافلين، و يأمرون بالقسط، و يأتمرون به، و ينهون عن المنكر، و يتناهون عنه، فكأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة و هم فيها، فشاهدوا ما وراء ذلك، فكأنما اطلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الاقامة فيه (1) ،و حققت القيامة عليهم عداتها، فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا، حتى كأنهم يرون ما لا يرى الناس، و يسمعون ما لا يسمعون - إلى آخر الكلام الشريف.»(2)

ص: 451


1- في المخطوطة: «عليهم».
2- نهج البلاغة، خ 222، ص 342؛ و هكذا أورد الآمدي (ره) صدره في غرر الحكم، الفصل التاسع في حرف الالف بلفظ «ان»، ص 238.

فانظر كيف أثبت أوّلا بصرا و سمعا و انقيادا بعد الوقرة و العشوة و المعاندة بعد الذكر، و الظاهر أنّه جزاء المواظبة على ذكره سبحانه، و أثبت بعده عبادا يناجيهم الحقّ، و يكلّمهم في ذات عقولهم، و هل يدرك الكلام و النجوى إلا بالسمع؟ ثمّ أثبت لهم نور يقظة في الاسماع و الابصار و الافئدة، ثمّ وصف أهل الذكر بقوله: «فكأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة و هم فيها، فشاهدوا ما وراء ذلك»، و هل يكون مشاهدة إلا بعين بصيرة؟ و كيف عطف على الاطلاع تحقيق القيامة عداتها بدون غطاء حتى كشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا؟

و أمّا التعبير بلفظ «كأنّما» بعد ذلك و قبله، فلعلّه لمشابهة الرؤية و السماع الحسيّين الواقعين في عالم الشهادة، و هما اللّذان يفهمهما الناس و المخاطبون؛ إذ لم يتصوّروا غيرهما، فلا ينافي ذلك كون الابصار و السماع حقيقتين واقعتين على طبق ما في هذا العالم، أو توسّع منه عليه السّلام في التعبير باعتبار ملاحظة قصور المخاطبين أو بعضهم عن إلقاء ذلك المطلب الغريب عن الاذهان عليه، فإنّهم يكلّمون الناس على قدر عقولهم، فأورد الكلام على وجه يفهم القابل و الناقص ما يناسب مقامه و مرتبته.

و روى العياشي كما نقل عنه عن عمرو بن أبي المقدام، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال: سمعته يقول:

«أنتم و اللّه الذين قال [اللّه] فيهم «وَ نَزَعْنٰا مٰا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوٰاناً عَلىٰ سُرُرٍ مُتَقٰابِلِينَ » (1) ؛إنّما شيعتنا أصحاب الاربعة الاعين: عين في الرأس، و عين في القلب، ألا و الخلائق كلّهم كذلك إلا أنّ اللّه فتح أبصاركم و أعمى أبصارهم.»(2)

ص: 452


1- الحجر/ 47.
2- العياشي، ج 2، ص 244، ح 23؛ و رواه بهذا الاسناد أيضا الكليني (رض) في ذيل حديث فى فضائل الشيعة في الكافي، ج 8، ص 214، ح 260؛ و نقله المجلسي (ره) في البحار، ج 68، باب فضائل الشيعة، ص 36، ح 77، و ج 82، باب فضائل الشيعة، ص 81، ح 142، نقلا عنهما؛ و البحراني (ره) فى البرهان، ج 2، ص 347، ح 7، عن الاول.

إلى غير ذلك من الاخبار الواردة في السمع و البصر(1).

و قد ورد أخبار في صفة القلوب (2) ،و أنّ منها: «قلب أزهر أجرد، فيه كهيئة المصباح، و قلب منكوس (3)»على ما ببالي.

[في أنّ الختم و التّغشية مرتبة من مراتب العقاب]

و حينئذ فنقول: إنّ مراتب العقاب كثيرة، أدناها و أوّلها: المصيبات الدنيويّة من الهموم، و إصابة الشوكة إلى أشدّها، و آخرها ظهورا هو: النار، و سائر ما أعدّ اللّه سبحانه للعصاة في جهنم - نعوذ باللّه منها -، و بينهما مؤاخذات و عقوبات؛ كشدائد يوم القيامة قبل دخول النار، و العقاب الواقع في عالم البرزخ بأقسامه، و العقاب المعنويّ الواقع على أهل المعاصي في باطن الدنيا؛ كنزع حلاوة المناجاة، و استيلاء الشيطان عليه، و ظلمة قلبه، و تسلّط الدواعي الفاسدة من الهوى و العصبية و التقليد و غيرها عليه.

و منها: عمى البصر و الغشاوة الطارية عليه، و الختم على قلبه و سمعه بحيث لا يسمع ما كان ينبغي له أن يسمع، و لا يبصر ما كان ينبغي أن يبصر، و لا يدخل في قلبه ما كان ينبغي أن يدخل فيه.

ص: 453


1- يوجد بعضها في البحار، ج 70، باب القلب و صلاحه و فساده.
2- راجع نفس المصدر.
3- رواه الكليني و الصدوق (ره) في الكافي و المعاني و سيأتي بتمامه - إن شاء اللّه تعالى - فيما يأتي.

و بالجملة: فكما أنّ ذلك الابصار و الاسماع كانتا لأهل الطاعة و الشيعة و أهل الذكر، أو أيّ اسم سمّيتهم به، و كان حال قلبهم مشروحا للاسلام واعيا بصفات مطلوبة، كذلك عمى ذلك البصر، و صمم ذلك السمع، و صيرورة القلب مختوما عليه ضيّقا حرجا لا يدخله المواهب، و لا يخرج منه إلى الجوارح ما يفيدها للمقابلين لهم في الصفات و الاعمال و الاحوال. فكأنّ الاوّل من أعظم الثواب العاجل لهم، و الثاني من أعظم النكال و العقاب المعنويّ العاجل الواقع عليهم عدلا منه سبحانه و قسطا؛ «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئٰاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ سَوٰاءً مَحْيٰاهُمْ وَ مَمٰاتُهُمْ سٰاءَ مٰا يَحْكُمُونَ.» (1)

و يصحّ في هذه المرتبة من تفسير المعنى جعل المفردات و المركبات و النسبة باقية كلّها على معانيها الحقيقة من دون لزوم مجاز أو غيره؛ سوى أنّه لا يبعد أن يقال: إنّ الظاهر من إطلاق الالفاظ و نسبتها و المتبادر العرفيّ منها هو المعاني الموجودة في ظاهر هذا العالم الذي شاهده المخاطبون و غيرهم من أهل العرف، دون تلك الحقائق عند وجودها في عالم آخر بنحو آخر، لكن ذلك إنّما يتبع إذا لم يكن هناك قرينة صارفة في الكلام، و أمّا بعد وجودها فهو أقرب من سائر المراتب إلى ظاهر اللّفظ؛ إذ هو أقرب إلى الحقيقة العرفيّة، و المقام منه؛ إذ من الواضح عند المخاطبين و غيرهم أنّه على قلوبهم و سمعهم المحسوسة ختم حسي، و لا على بصرهم المحسوس غشاوة حسّيّة. و أعلى(2) من هذه المرتبة من التفسير يظهر بملاحظة النور العقليّ الذي يظهر به حقيقة كلّ محسوس و مسموع، و مقابله من الظلمة التي «إِذٰا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرٰاهٰا » (3).و لعلّ إليهما ينظر قوله سبحانه على

ص: 454


1- الجاثية/ 21.
2- كذا في المخطوطة.
3- النور/ 40.

ما ببالي:

«أَ وَ مَنْ كٰانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنٰاهُ وَ جَعَلْنٰا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النّٰاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمٰاتِ لَيْسَ بِخٰارِجٍ مِنْهٰا.» (1)

و سيأتي بيانه في محلّه - إن شاء اللّه سبحانه -.

و في هذين المقامين يصحّ المقابلة بين صفة الكفّار و المتقين حيث أورد سبحانه في صفتهم تارة أنّ: «القرآن هدى لهم»، و أخرى ب «إيمانهم بالغيب»، و ثالثة ب «أنّهم على هدى من ربهم» و هذان المشار إليهما من أعظم أنواع الهدايات الباطنية التي تقدمت إليها الاشارة، و أعظم أنواع الايمان بالغيب إن أخذ الغيب على إطلاقه، فانّ المدرك بها غيب من هذا العالم؛ كما أن تلك الصفات المقابلة لها من الختم و الغشاوة من أنواع الضلالة المقابلة لها.

و الكفر بالغيب بمعنى «الستر»؛ إذ الموصوف بتلك الصفة غير مؤمن بحقيقة الايمان العياني، فهو كافر بحسب هذا المقام و هذه المرتبة و إن كان مؤمنا باعتبار المراتب الأخر.

و المناسب اعتباره في هذا المقام من المعنى أن يكون المراد بالكفر في صلة الجملة في الآية هو الكفر المعنويّ الموجب لعروض هذه البلايا، كما أنّ التقوى و الايمان في الآيات السابقة في مرتبة إرادة الهدايات الباطنية الحقيقة هو الفرد الكامل، و لا يلزم من ذلك قصر معنى اللّفظ في المقامين على البعض مطلقا، بحيث يخرج ما عداهم عن الكلام بالمرّة، بل بحسب بعض المراتب فقط؛ إذ الكلام بنفسه صالح لمقامات ينبغي مراعات الموضوع و المحمول في كلّ منها بحسبه، ليكون القرآن معطيا حكم كل مقام لأهله بحسبه؛ فانّه مائدة اللّه سبحانه لجميع عباده، لا يختصّ ببعض دون بعض، كما ربما يظهر ممّا قدّمناه في المقدّمات.

ص: 455


1- الانعام/ 122.

[ارتباط درجات الختم بمراتب الحجاب في الانسان]

و حينئذ فنقول: إنّ دون المرتبتين المتقدّمتين مقاما آخر، و بيانه: إنّ الانسان تارة يكون بحيث يتأثّر بورود الانذار الصحيح عليه مطلقا، خصوصا بعد استجماع الانذار شرائط كماله؛ و تارة يكون بحيث لا تتأثّر بالانذار بوجه من الوجوه، و كيفية من الكيفيات، و بأيّ نحو وقع، بحيث خرج عن القابلية رأسا؛ و بينهما متوسطات، فيتأثّر صاحبها تارة دون أخرى، أو بوجه دون وجه، أو من شخص دون آخر، أو من بعض الانذارات دون آخر.

و لا ريب أنّ هذا الاختلاف ينشأ عن اختلاف في أمر باطنيّ هو الموجب لهذا الاختلاف؛ إذ الاختلاف في الآثار يكشف عن الاختلاف في المؤثرات أو المتأثرات، و حيث فرض عدم الاختلاف في المؤثّرات بين الطوائف الثلاثة كشف عن كون اختلاف الحال من طرف المتأثّر. و لمّا فرض المؤثّر، و هو الانذار الواقع من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، مستجمعا لشرائط المؤثّريّة تامّ الاقتضاء، و كان القلب الانسانيّ بحسب الفطرة الاصلية قابلا للتأثّر، فيعلم أنّ عدم التأثير لأجل عروض أمر مانع عنه، و أقرب مانع يتصوّر في المقام هو وجود الحجاب بين المؤثّر و المتأثّر، بحيث لا يصل المؤثّر إليه، و هو غشاء واقع على وجهة القلب التي بها يتوجّه نحو الاشياء أو ختم على سمعه التي بها يدرك معاني المسموعات، أو ختم على أصل القلب الذي من شأنه أن يدرك المعاني و الحقائق، فلا يتعقّل الامر الذي ينبغي له تعقّله، و لا يصل إليه الامر المعقول، فالقلب الذي من شأنه أن يكون وعاء للحقائق و المعاني إذا ختم عليه فلم يدخله المعنى المعقول، أو ختم على سمعه فلم يدرك المسموع، أو جعل على بصره غشاوة فلم يبصر المعنى الذي يبصره، فقد وقع الحجاب و المانع عن وصول المؤثّر إلى المتأثّر؛ إذ محض الابصار أو السماع

ص: 456

الصوريّين لا يترتب عليه الحذر و العمل إلا بعد ادّائهما المعنى بحقيقته إلى القلب، و تعقله ذلك الحقيقة على الوجه الذي ينبغي أن يعقل، و كون القلب واعيا له.

فاذا خرج الحال عن هذه الصفة استوى الانذار و عدمه، و ذلك الحجاب المعنويّ قد يكون هوى عارض للقلب يحول بينه و بين إدراكه مضارّ متعلّقه، أو تقليد مخالف للمنذر به، أو حميّة و عصبية مخالفة له، أو عادة تمنع من رسوخ داعي خلافه، أو أفكار متشتّتة استولت على القلب فلم يبق خاليا ساذجا، أو وساوس شيطانية أحاطت هواجسه، أو نحو ذلك. و هي ربّما تتصور و تتشكل في باطن هذا العالم، و تصير سدّا غاشيا للقلب، مانعا عن إدراكه المعاني و وصول المعاني إليه على الوجه الذي ينبغي أن يكون عليه، بل الظاهر أنّ المعاصي بعد تجسّمها أيضا من أعظم أنواع الحجاب للقلب، و لا تستبعد من تجسّم الاعمال و المعاني الباطنيّة و قد دلّت عليه استبصارات معتضدة بآيات و أخبار كثيرة تأتي كثير منها - إن شاء اللّه تعالى - مشروحا.

فحينئذ فنسبة الختم إلى اللّه سبحانه باعتبار أنّ تحقّق تلك المعاني و الاعمال و * تشكلها و تمثّلها في عالمها من فعل اللّه سبحانه، و بذره عمل العبد؛ كالبذور الخارجية، فانّ الدنيا مزرعة الآخرة، و من يزرع شرّا يحصد شرّا و إن كان الخالق هو اللّه سبحانه.

فهذه الخطايا الباطنية و الظاهرية إذا أحاطت بالقلب، و استولت عليه بحيث لم يبق له مجال لغيره، و استحكمت و صارت كأنّ مقتضياتها طبيعة ثانوية له، فصاحبه لا يؤول إلى خير أبدا، و * (1) استوى عليه الانذار و عدمه. فهذه أيضا مرتبة

ص: 457


1- ما بين النجمتين سقط من المطبوعة، و مكانه فيها: «الافعال لهم حاضرة عنده تعالى بحيث «لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماء و لا في الارض.» - ناظر إلى قوله تعالى في سورة يونس آية 61، و سورة السبأ آية 3 - و يؤيد ما ذكرنا ما قيل في معنى الآية بأن المراد بالختم على القلوب أن اللّه شهد عليها، و حكم بأنها لا تقبل الحق. ثم اعلم أن معنى الختم على قلوبهم و على سمعهم، و الغشاوة على أبصارهم: أنهم لما أعرضوا عن النظر فيما كلفوه، و تهاونوا بل تعاندوا فيها أمروا به، و بلغ جهلهم في أعلى مراتب بحيث تجسم لهم أعمالهم السيئة».

من البيان في الختم و الغشاوة.

و دون تلك المرتبة مرتبة أخرى ظاهرة، و بيانها أنّه لا شكّ أنّ للقلب حالات و ملكات، من جملتها: حالة تمنع من التأثّر و الاتّعاظ، و هي قد تتقوى إلى حيثية تصير لازمة للقلب كسائر الملكات عند البلوغ إلى أقاصيها، و هذه الحالة ربما يعبّر عنها بالقساوة و الشقاوة.

و القلب الموصوف به لا ينفعل بما سمع أو أبصر مما يخالفه، بل من مطلق جهات الادراك المتعلّق بما يخالفه، فهو كالمختوم عليه و على سمعه، و كمن على بصره غشاوة؛ إذ لا يعي و لا يدرك شيئا من المسموع و المبصر، و لمّا كان هذه الصفة و الحالة تحدث في النفس تدريجا إلى أن يكون بحيث لا يمكن ارتفاعها؛ كسائر القوى و الملكات النفسانيّة التي تتقوّى بالاعمال و الممارسة شيئا فشيئا، و هي من مكتسبات العبد؛ لكنّ الموجد له ليس هو العبد، بل العبد غير شاعر بذلك نوعا و إن كان باختياره ما يترتب ذلك عليه.

فالظاهر أن يكون حدوث تلك الصفة من الطينة السجينيّة المخلوقة اكتسبها العبد بفعله، فينسب إلى اللّه سبحانه الفعل باعتبار ايجاد مبدئه، و جعله بحيث يتّصف به القلب المكتسب له جزاء لعمله و اكتسابه، و إعطاء له ما يطلبه من حيث لا يشعر بطلبه.

ثمّ إنّ وقوع ذلك الامر على المكلّف داخل تحت قضاء اللّه و قدره و مشيّته لما تحقّق عندنا من عدم خروج شيء عن تحتها، و أنّه لا يدخل في ملك الحقّ

ص: 458

إلا ما يشاء و إن كان بعضها أوّليّا مقصودا بذاته، و بعضها ثانويّا مقصودا بالعرض و التبع، كما يبيّن في محلّه - إن شاء اللّه تعالى -، و به يتحقق نفي التفويض.

فمن هذه الوجوه يصحّ إسناد الفعل إلى اللّه سبحانه من دون حاجة إلى التكلّفات التي ذكرها الفاضل المتقدّم. و اللّه العالم بحقيقة الحال، و هو المستعان.

بقي هاهنا شيء و هو: أنّ من قرأ عشاوة بالمهملة، فظاهر المعنى حينئذ أنّ أبصارهم موصوفة بالعشاء و عدم الرؤية باللّيل دون النهار. و فيه نكتة مليحة و هو:

أنّ الدنيا بأسرها مظلمة النور بمنزلة اللّيل الاليل، لا يرى فيها نور إلا ما ورد فيها من عالم آخر. و الكافر أعشى لا يبصر فيها شيئا من المعارف و الحقائق، فاذا انتقل منها إلى الآخر علم و رأى حين لا ينفعه إلا مزيد الندم؛ «لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هٰذٰا فَكَشَفْنٰا عَنْكَ غِطٰاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ.» (1)

و قال أمير المؤمنين عليه السّلام في ضمن كلام له على ما ببالي روايته(2):

فعند الصباح يحمد القوم السرى *** و تنجلى عنهم غلالات الكرى

[في معنى العذاب و أقسامه]

وَ لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ

عن تفسير الامام عليه السّلام بعد ما تقدّم:

«ثمّ قال: «وَ لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ» في الآخر [ة] بما كان من كفرهم باللّه، و كفرهم بمحمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.»(3)

و ربّما يحكى عنه أيضا فيه:

ص: 459


1- ق/ 22.
2- توجد أول مصراعه في نهج البلاغة، خ 160، ص 229.
3- راجع المصادر المذكورة في تعليقة 1 ص 446.

«يعني: في الآخرة العذاب المعدّ للكافرين، و في الدنيا أيضا لمن يريد أن يستصلحه بما ينزل به من عذاب الاستصلاح لينبّهه على طاعته (1) ،أو من عذاب الاصطلام ليصيره إلى عدله و حكمته.»(2)

و فسّر الاصطلام بالاستيصال، و هو يرشد إلى عدم انحصار الآية بمن يمتنع عليه الرجوع، و لشموله لمن يمكن منه الايمان. و لا ينافي ذلك الحكم باستواء الانذار و عدمه؛ لأنّ عدم تأثير إنذار أمر غير تأثير عذاب الاستصلاح؛ إذ ربّ شخص لا يمكن اتّعاظه بالموعظة و الالطاف المقرّبة، و لكن بالعذاب يستصلح، إمّا بتبديل العذاب حالته الباطنية ابتداء، أو لقوّة استيلاء العذاب عليه بحيث لا يبقى لقلبه مجال للإباء. و مثاله في مقام تأديب الاطفال و العصاة ظاهر لا يخفى.

و أمّا وقوع ذلك تنبيها من اللّه سبحانه له و إتماما للحجّة و إن لم ينتفع به، فهو بعيد عن مساق الكلام حيث ذكر فيه إرادة الاستصلاح بما ينزل به.

و العذاب على ما في الصحاح هو: «العقوبة».

و ذكر جماعة(3) أنّه: «كالنكال بناء و معنى؛ لأنك تقول: أعذب عن الشيء إذا أمسك عنه، كما تقول: تكل عنه. و منه «العذب» لأنه يقمع العطش، و يردعه بخلاف الملح، فانه يزيده، ثمّ اتّسع فيه فسمّي كلّ ألم قادح عذابا و إن لم يكن نكالا؛ أي: عقابا، يرتدع به الجاني عن المعاودة» و أيّد وجه المناسبة المذكورة في العذب ب «تسميتهم إيّاه نقاخا، لأنه ينقخ العطش أي: يكسره، و فراتا لانّه يرفته على القلب.» و ذكر في معنى التنكير هنا و في غشاوة: «أنّ على أبصارهم

ص: 460


1- خ. ل: «لينبهه لطاعته».
2- راجع المصادر المذكورة فى تعليقة 2 ص 444.
3- راجع الكشاف، ج 1، ص 29؛ و أنوار التنزيل، ص 13.

نوعا من الاغطية غير ما يتعارفه الناس، و هو غطاء التعامي عن آيات اللّه، و لهم من بين الآلام العظيم نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا اللّه.»

هذا، و لعلّ في ايراد الجملة خبرية ظاهرة في الحال دلالة على ثبوت العذاب لهم فعلا و إن لم يشعروا به. و ذلك إمّا باعتبار العذاب الاخروي، فباعتبار مخلوقية ما يعذب به فعلا على ما نطقت به الادلة الكثيرة و إن لم يقع التعذيب بعد، إلا أنّه ثابت لهم. و إمّا باعتبار العذاب المعنوي، فهو الآن موجود، و أهله معذّبون بها، و لكن لا يشعرون بعذابهم و آلامهم، فاذا خرج عن جلابيب أبدانهم، و كشف لهم عن حالهم، و ارتفعت عنهم موانع الادراك، شاهدوا أنفسهم معذّبين بأنواع العذاب الروحاني، مضافا إلى سائر أنواع عذاب عالم البرزخ و القيامة، و لو ارتفعت في حال حياته الموانع عنه من تخديرات الطبيعة، و شغل النفس الانسانية بأسباب هذه الدار الفانية و خيالاتها، و الظلمة التي اكتسبته حتّى صار ناسيا لنفسه، و العلائق الشاغلة له عن نفسه و غير ذلك، لشاهد نفسه اليوم معذّبا بالعذاب الروحاني.

[شرائط إدراك العذاب الباطنيّ و كيفيّته]

فإن قلت: فهل يمكن مشاهدة ذلك في حال الحياة بارتفاع الموانع مع بقاء الحياة؟

قلت: أمّا للمتجرّدين عن جلابيب الطبيعة الذين صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالملاء الاعلى، فهو ممكن واقع على قدر مراتبهم. و لعلّ في ظاهر الكلام المتقدّم عن أمير المؤمنين عليه السّلام(1) و غيره دلالة و إشارة اليه. و إثبات ذلك بالادلة، و لو أمكن لا ينفع لنا في مقام اليقين بعد أن لم تكن من أهله و إن ترتب عليه

ص: 461


1- تقدم في ص 451.

منافع أخر من تكميل المعرفة بحالهم و طلب مقاماتهم و درجاتهم.

و أمّا في حقّ غيرهم، فربما للمتوسّم المتفرّس منها أشياء باماراتها إذا دقق النظر فيها، و تخلّى عن الشواغل الملهية للنفس عن ذاتها، و أمعن الفكر في حالها، و تحقق له خلوة مع نفسه و ذاته، فربما يظهر له آلام أو لذّات لا سبب له من الخارج أصلا، و لا في أعضائه و قواه ما يقتضيه، بل لا يبعد أن يكون من أعظم أسباب الميل إلى الملهيات و الشواغل و مجالس البطالة و غيرها هو استشعار النفس آلامها الباطنيّة، فتطلب ما يلهيه، و يرفع إدراكها لئلا يتألّم بها تألّما فعليّا، كما لا يبعد أن يكون من أسباب سوء الحال الواقع عند القيام من النوم المشاهد في حقّ كثير من الناس هو إدراك النفس حالها عند تفرّغها عن الشواغل الظاهريّة، و رجوعها عن الخارج إلى الداخل من جهة النوم. نعوذ باللّه من شرور أنفسنا و سيّئات أعمالنا.

ص: 462

[تحقيق حول النّفاق و المنافقين]

وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ مٰا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ

في تفسير القميّ:

«إنها نزلت في قوم منافقين أظهروا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الاسلام، فكانوا إذا رأوا الكفّار قالوا: «إِنّٰا مَعَكُمْ » ،و إذا لقوا المؤمنين قالوا: «نحن مؤمنون»، و كانوا يقولون للكفّار:

إِنّٰا مَعَكُمْ إِنَّمٰا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ » (1) .

و عن محمّد بن الحسن الصفار و الكليني باسنادهما عن الصادق عليه السّلام(2) أنّه قال:

ص: 463


1- القمى، ج 1، ص 34؛ و البرهان، ج 1، ص 59، ح 2. و الآية: البقرة/ 14.
2- لا يخفى أن الصفار (ره) رواه باسناده عن الصادق - عليه السلام -؛ و رواه الكلينى (ره) قائلا عنه - عليه السلام -، و لم يصرّح باسم المعصوم - عليه السلام - المنقول عنه، و يظهر منه أن المراد من الضمير هو: الصادق - عليه السلام -. و يؤيده ما ذكره البحراني (ره) في تفسيره بعد نقل الحديث عن الصفار باسناده عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه - عليه السلام - حيث قال: «و روى هذا الحديث محمد بن يعقوب؛ عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، بباقي السند و المتن.» لكن المجلسي (ره) حمل الضمير في شرحه لهذا الحديث في المرآة على أبي جعفر الباقر - عليه السلام - و قال: «و ضمير «قال» لأبي جعفر - عليه السلام - لما رواه الكشي عن أبي بصير، قال: سمعت أبا جعفر - عليه صلوات اللّه و السلام - يقول: ان الحكم بن عتيبة و كثير النواء و أبا المقدام و التمار يعني سالما أضلّوا كثيرا ممّن ضل هؤلاء و انهم ممّن قال اللّه عز و جلّ: و من النّاس من يقول...»

«إنّ «الحكم بن عيينة»(1) ممّن قال اللّه: «وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ مٰا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ » .فليشرّق الحكم و ليغرّب؛ أما و اللّه لا يصيب العلم إلا من أهل بيت نزل عليهم جبرئيل عليه السّلام.»(2)

و عن تفسير الامام عليه السّلام: قال الامام موسى بن جعفر عليهما السّلام:

«إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا وقّف(3) أمير المؤمنين عليه السّلام في يوم الغدير موقفه المشهور المعروف، ثمّ قال: يا عباد اللّه، أنسبوني.

فقالوا: أنت محمّد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف.

ثمّ قال: أيّها الناس، أ لست أولى بكم منكم بأنفسكم، فأنا مولاكم أولى بكم من أنفسكم؟

قالوا: بلى يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

ص: 464


1- خ. ل: «عتيبة». قال في هامش نور الثقلين: «الحكم بن عتيبة كقتيبة الكوفي الكندي كان من فقهاء العامة، و قيل: «انه كان زيديا بتريا.» و حكي عن ابن فضال انه قال: «كان الحكم من فقهاء العامة، و كان استاد زرارة و حمران و الطيار قبل أن يروا هذا الامر.» و قيل: كان مرجئا. مات حدود سنة 115، و قد ورد في ذمّه روايات كثيرة، منها هذه الروايات، و إن شئت تفصيل الحال فراجع تنقيح المقال و غيره من كتب الرجال.»
2- البصائر، باب 6 من الجزء الاول، ص 9، ح 2؛ و الكافي، ج 1، باب أنه ليس شيء من الحق في يد الناس إلا ما خرج من عند الائمة - عليهم السلام -، ص 399، ح 4؛ و البرهان، ج 1، ص 59، ح 3؛ و نور الثقلين، ج 1، ص 34، ح 18.
3- خ. ل: «أوقف».

فنظر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى السماء فقال: اللهم إني أشهدك.

يقول هو ذلك و يقولون ذلك ثلاثا. ثمّ قال: ألا فمن كنت مولاه و أولى به فهذا [عليّ] مولاه و أولى به؛ اللّهم وال من والاه، و عاد من عاداه، و انصر من نصره، و اخذل من خذله.

ثمّ قال: قم يا أبا بكر فبايع له بامرة المؤمنين، فقام ففعل ذلك فبايع.

ثمّ قال: قم يا عمر فبايع له بإمرة المؤمنين، فقام فبايع.

ثمّ قال بعد ذلك لتمام التسعة، ثم لرؤساء المهاجرين و الانصار، فبايعوا كلّهم.

فقام من بين جماعتهم عمر بن الخطاب، فقال: بخ بخ [لك] يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي و مولا كلّ مؤمن و مؤمنة.

ثمّ تفرّقوا عن ذلك.

و قال: وكّدت عليهم العهود و المواثيق. ثمّ إنّ قوما من متمردي جبابرتهم تواطئوا بينهم لئن(1) كانت لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله كائنة لندفعنّ (2) هذا الامر عن عليّ عليه السّلام، و لا نتركنّه(3)

[له]، فعرف اللّه ذلك في(4) قلوبهم، و كانوا يأتون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يقولون له: لقد أقمت عليّا(5) أحبّ خلق اللّه إلى

ص: 465


1- خ. ل: «إن».
2- خ. ل: «ليدفعن».
3- خ. ل: «يتركونه».
4- خ. ل: «من».
5- خ. ل: «علينا».

اللّه و إليك و إلينا، [و] كفيتنا به مئونة الظلمة و الجبابرة و سياستنا، و علم اللّه في قلوبهم خلاف ذلك [من] مواطاة بعضهم لبعض أنهم على العداوة مقيمون، و لدفع الامر عن مؤثره(1)

مؤثرون. فأخبر اللّه عزّ و جلّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله عنهم، فقال: يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله! «وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّٰا بِاللّٰهِ الذي أمرك بنصب عليّ عليه السّلام إماما و سائسا لأمتك و مدبّرا، و ما هم بمؤمنين بذلك، و لكنّهم مواطئون على هلاكك و هلاكه، يوطئون أنفسهم على التمرد على عليّ عليه السّلام إن كانت به كائنة.»(2)

و أقول:

فالظاهر بملاحظة هذه الروايات أن يكون شأن نزول هذه الآيات جماعة من المنافقين؛ كابن أبيّ و أصحابه، أو كالاوّل و الثاني و غيرهما من المنافقين، الذين زادوا على الكفر الباطني النفاق و إظهار ما ليس فيهم، و بعد إلغاء الخصوصيات النزولية و الاخذ بأصل المعنى فالظاهر اندراج كلّ منافق ممّن كان في زمانه صلّى اللّه عليه و آله إلى يوم القيامة تحت الآية، و منهم: الحكم بن عيينة بناء على الرواية السابقة.

[في أنّ النّفاق أقبح من الكفر]

ثمّ إنّ في ذكر قصة المنافقين في ضمن ثلاث عشر آية، و الاقتصار في صفة الكفّار على الآيتين لعلّه ايماء إلى كثرة الاهتمام بردع المنافقين. فربما يستشعر من ذلك أن النفاق أقبح من الكفر لزيادته الكذب و الخديعة و الاستهزاء على

ص: 466


1- خ. ل: «مستحقه» أو «محقه».
2- تفسير الامام - عليه السلام -، ص 41؛ و البحار، ج 37، باب في اخبار الغدير، ص 141، ح 36، و البرهان، ج 1، ص 59، ح 1.

الكفر و إن كان الكافر قبيح الظاهر و الباطن بخلاف المنافق، الّذي يري كلامه و ظاهره حسنا، لكن لا يبعد أن يكون ظاهره في صورة الحسن لا أنّه حسن واقعي؛ إذ الاقوال و الافعال تابعة للنيات و الباطن في حسنها و قبحها، فهم ذئاب لابسون لباس المسوك، و أنّ المنافقين ما كانوا جمعا قليلا ممّن كان ظاهره الاسلام؛ إذ لو كان منحصرا في ذلك القليل لما ناسب حالهم شدّة الاهتمام بردعهم و توبيخهم و غير ذلك في هذه الآيات و غيرها من الآيات الكثيرة الواردة في حالهم.

و حينئذ فلا ينبغي الوثوق التامّ بأحوال كلّ من دخل في الصحابة ظاهرا و إن كان عمله في الظاهر حسنا، كما هو ظاهر ديدن العامّة العمياء و مقتضى طريقتهم، بل لعلّه مبنى مذهبهم، و يأتي مثل ذلك في كلّ زمان، فلا ينبغي كثرة الوثوق بأحوال الاشخاص الذين ظاهر [هم] الصلاح بمحض قولهم أو فعلهم في محضر الناس.

ثمّ إنّ الاقتصار هنا بالايمان باللّه و باليوم الآخر، الذي هو من وقت الحشر إلى استقرار الجنّة و النار بأهلها، أو مطلق زمان المعاد الذي لا يتناهى، أو الاعمّ منه و من عالم البرزخ الواقع بينه و بين الموت لعلّه مشعر بأنّ أهمّ أركان الايمان هو هذان الامران الراجعان إلى الايمان بالمبدإ و المعاد.

[في بيان حقيقة النّفاق]

ثمّ إنّه بناء على ما سبق في معنى الكفر و الايمان و المقابلة بينهما ربّما يتّجه أن يكون حقيقة النفاق هو ظهور صورة فرع الايمان دون(1) أصله، و إظهار إيمان بفعل أو قول ليس بمتحقّق.

و حينئذ فقد يكون التصديق أو القبول الباطني معدوما، و القول أو الفعل

ص: 467


1- في المخطوطة: «بدون».

بالجوارح موجودا؛ كأداء الشهادتين، أو الاتيان بالعبادة الدالة على الايمان كالصلاة، و ذكر اللّه، و قد يكون الامران موجودين في الجملة، و لكن يظهر المقدار الذي [يكون] موجودا بقول أو عمل، أو يكون مقام الاخلاق و الاحوال و غيرهما ممّا سبق كونه في مقام الاغصان معدومة بأسرها أو ببعضها، و يظهر المفقود بالقول أو العمل، أو يكون نيّة الخلوص و القربة مفقودة، و يأتي بالعبادة مظهرا أنها للّه.

و بالجملة فلا يبعد إلحاق كلّ من أظهر شأنا من شئون الدين و مرتبة من المراتب، و لم يكن متحققا به في الواقع بحقيقة النفاق، فالنفاق يشارك الكفر في الباطن، و يشابه الايمان في الصورة الظاهرية، فهو إظهار إيمان و صورة إيمان لا حقيقة له، بل حقيقة من شجرة الكفر إن جعلناهما ضدين لا ثالث لهما في كلّ مقام و كلّ شأن، و إلا جاز خلوّ الباطن عن الحقيقتين، و كان النفاق في الباطن أعمّ من الكفر في بعض المراتب.

و ربّما يرشد إلى ما ذكرنا ما ورد على ما ببالى من أن:

«كلّما زاد(1) خشوع الجسد على خشوع القلب(2) فهو عندنا نفاق.»(3)

ص: 468


1- في المصادر: «ما زاد».
2- في المصادر: «على ما في القلب».
3- رواه الكليني (رض) في الكافي، ج 2، باب صفة النفاق و المنافق، ص 396، ح 6، عن مسمع بن عبد الملك، عن أبي عبد اللّه - عليه السلام -، عن رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله -؛ و هكذا في الصافي، ج 2، ص 136؛ و نور الثقلين، ج 3، ص 528، ح 9. و قريب من هذا المضمون موعظة عن النبي - صلّى اللّه عليه و آله - أوردها ابن شعبة الحراني (ره) في تحف العقول، ص 42، و هي: «إياكم و تخشع النفاق، و هو أن يرى الجسد خاشعا، و القلب ليس بخاشع.» قال المجلسي (ره) في المرآة، ج 11، ص 173، في شرح حديث الكليني (رض): «كلمة «ما» شرطية زمانية، نحو: «فَمَا اسْتَقٰامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ» (التوبة/ 7) و كذا لم يحتج إلى العائد، و يدل على أن زيادة خشوع البدن على خشوع القلب من الرياء، و هو من النفاق. و فى قوله: «عندنا» إيماء إلى أنه ليس بنفاق حقيقي، بل هو خصلة مذمومة شبيهة بالنفاق.»

و ما ورد على ما ببالي من أن: «آيات النفاق فيمن ينتحل مودّتنا أهل البيت.» أو ما يقرب من ذلك.

و ما عن كتاب صفات الشيعة باسناده عن المفضل، قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

«إن اللّه تبارك و تعالى خلق المؤمنين من أصل واحد، لا يدخل فيهم داخل، و لا يخرج منهم خارج، مثلهم و اللّه مثل الرأس في الجسد، و مثل الاصابع في الكف، فمن رأيتم يخالف ذلك فاشهدوا عليه بتاتا أنّه منافق.»(1)

قيل: بتاتا أي: بتّا و قطعا. و على هذا فالمنافق هو من يظهر شأنا و مقاما من شئون الدين و مقاماته، مع أنّه ليس بواجد له في الواقع، فهو يقول بلسانه أو عمله إنّه آمن باللّه و اليوم الآخر في مقام و شأن من الايمان و ما هو بمؤمن فيه، كما أنّه يظهر ممّا سيأتي في صفتهم في جميع ذلك المراتب النفاقية، كما ننبّه عليه - إن شاء اللّه -.

[في اندراج الرّياء تحت النّفاق]

و حينئذ فيندرج تحت النفاق بالمعنى الاعمّ العبادة الريائية، و كل عمل أظهر صاحبه أنه للّه و ليس له، و كلّ ملكة أو خلق أظهر صاحبها أنه واجد لها من حيث كونه مستحسنا في الدين و ليس فيه؛ كإظهار الزهد و الخوف و المحبّة للّه

ص: 469


1- صفات الشيعة، الحديث الثامن و الاربعون.

سبحانه و غير ذلك، و كلّ مقام ادّعى تحقّقه بينه و بين اللّه سبحانه و هو خال عنه.

فيكون النفاق إظهار صورة الايمان و الدين من دون حقيقة.

و هذا الحصر ما سنح بالبال في باب النفاق عند تجريده عن الخصوصيات، و لعلّه ورائه أمر أحقّ بالتصديق منه؛ إذ النظر لا يستلزم الاصابة، و اللّه العالم.

[وجه المناسبة بين هذه الآية و الآيات السابقة]

ثمّ إنّ وجه الاتصال بين هذه الآيات و ما قبلها ظاهرة؛ إذ المنافقون داخلون تحت الكفّار إن أخذ الكفر على إطلاقه الشامل له، فهم طائفة من هؤلاء يناسب تذييل حال الجنس بصفة الطائفة الخاصة منهم، حتّى يتّضح الصفة المشتركة بين الطائفتين و المختصة بإحداهما، و مقابلون لهم إن خصّصت الكفار بالكافرين من حيث الصورة و المعنى معا، فيناسب بيان حال هذه الطائفة بعد بيان صفة الطائفتين الأخريين المقابلين لها. و لها ارتباط مع قصة المؤمنين من حيث بيان الموضوع لدلالته على أن ليس كل من يقول آمنّا بمؤمن واقعا.

و لعلّ إليه يشير كيفيّة التعبير في الآية حيث جعل صفتهم قوله:

«آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ» و ردّه «مٰا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ» لا بأنّهم لم يؤمنوا، الذي هو أنسب بالمقابلة و إن كان ملاحظة التأكيد و غيره أيضا مناسبا للنحو الذي ورد عليه الآية لدلالته على إخراج ذواتهم عن عداد المؤمنين.

ص: 470

[تحقيق حول المخادعة مع اللّه و المؤمنين] [و الآثار المترتبة عليها]

يُخٰادِعُونَ اللّٰهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا

[في معنى الخدعة]

و «الخدع» كما صرّح به بعضهم: «أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه من قولهم: «ضبّ خادع». و خدع إذا أمرّ الحارش يده على باب جحره أوهمه إقباله عليه، ثمّ خرج من باب آخر.»(1)

و قال آخر: «أصل المخادعة الاخفاء، و منه سمّيت الخزانة المخدع، و الاخدعان عرقان في العنق خفيّان، و خدع الضبّ خدعا إذا توارى في حجره، فلم يظهر إلا قليلا».

و ذكر أنّ «الخديعة إظهار ما يوهم السداد و السلامة، و إبطان ما يقتضي الاضرار بالغير أو التخليص منه». و لعلّه يرجع إليه التفسير الاول و ما ذكره الطريحي بقوله: «خدعه يخدعه خدعا و خداعا أيضا بالكسر: ختله و أراد به المكروه من حيث لا يعلم، و الاسم الخديعة». هذا، و عن تفسير الامام عليه السّلام عن الكاظم عليه السّلام بعد ما تقدم:

«فاتصل ذلك من مواطاتهم و قيلهم في عليّ عليه السّلام، و سوء تدبيرهم عليه برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فدعاهم فعاتبهم فاجتهدوا

ص: 471


1- الكشاف، ج 1، ص 30.

في الأيمان، و قال أوّلهم: «يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ما اعتددت بشيء كاعتدادي بهذه البيعة! و لقد رجوت أن يفتح(1) اللّه بها لي في قصور الجنان، و يجعلني فيها من أفضل النزّال و السكان!»

و قال ثانيهم: «بأبي أنت [و امي] يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله! ما وثقت بدخول الجنة و النجاة من النار إلا بهذه البيعة! و اللّه ما يسرّني إن نقضتها أو نكث بها ما اعطيت من نفسي ما أعطيت، و إن لي طلاع ما بين الثرى إلى العرش لآلى رطبة و جواهر فاخرة».

و قال ثالثهم: «و اللّه يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لقد صرت من الفرح بهذه البيعة من السرور و الفسح من الآمال في رضوان اللّه ما أيقنت أنه لو كان علي ذنوب أهل الارض كلّها لمحصت عنّي بهذه البيعة!» و خلف على ما قال من ذلك!! و لعن من بلّغ عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خلاف ما حلف عليه!! ثمّ تتابع بمثل هذا الاعتذار بعدهم من الجبابرة المتمرّدين.

فقال اللّه عزّ و جلّ لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله: يخادعون اللّه يعنى:

يخادعون رسول اللّه بأيمانهم بخلاف ما في جوانحهم، و الذين آمنوا، كذلك أيضا الذين سيدهم و فاضلهم عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.»(2)

ص: 472


1- فى البحار: «يفسح».
2- راجع المصادر المذكورة في تعليقة 2 ص 466.

[في معنى المخادعة مع اللّه]

أقول: ذيل كلام يدلّ على أنّ المراد من مخادعة اللّه مخادعة رسول اللّه، و أن إسناد المخادعة إليه سبحانه باعتبار إسناده إلى رسوله. و لعلّه إشارة إلى جواب سؤال مشهور، و هو أنّه: كيف يتصور الخدعة بالنسبة إليه سبحانه و هو عالم السرّ و الخفيات، لا يخفى عليه شيء في الارض و لا في السماء، و هو عليم بذات الصدور؟ فيكون الجواب صرف الاسناد عن ظاهره كما مثّل له بأنه يقال: قال الملك كذا و رسم كذا، و إنما القائل و الراسم وزيره أو بعض خاصّته، الذين رسمهم رسمه و قولهم قوله، مصداقه قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُبٰايِعُونَكَ إِنَّمٰا يُبٰايِعُونَ اللّٰهَ يَدُ اللّٰهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» (1) و «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطٰاعَ اللّٰهَ.» (2)

و هذا بيان ظاهريّ و تحته معنى دقيق يظهر بمعرفة حقيقة الفناء و البقاء بعد الفناء، و معنى كون العبد خليفة الحقّ و يدا له باسطة، و عينا له ناظرة، و أذنا له واعية، و لعلّه نشير إلى بيان ما لتلك المعاني فيما يأتي - إن شاء اللّه تعالى -.

و مخادعة الرسول [و] إن امتنع بالنسبة إلى ذلك الشأن، لكن لم يظهر امتناعه في شأن البشرية، و لو بحسب ظنّهم الفاسد الكاسد لجهلهم بمقامه صلّى اللّه عليه و آله، و لا يلزم في إطلاق الخدعة أزيد من حسبان المخادع إخفاء الامر على من يريد خداعه، و إظهار ما يخالف باطنه باعتقاده.

و حينئذ فربما يصحّ دفع الاشكال من أصله و هو التزام أنهم قصدوا مخادعة اللّه سبحانه لجهلهم بصفاته سبحانه، كما يصحّ دفعه أيضا بارادة صورة المخادعة، و أنهم يعاملون اللّه معاملة المخادع. و بمثله يصحّ الجواب عن إشكال آخر و هو: أنّ باب

ص: 473


1- الفتح/ 10.
2- النساء/ 80.

المفاعلة بين اثنين فيلزم أن يكون اللّه سبحانه خادعا لهم؛ كما ذكر في قوله سبحانه «وَ هُوَ خٰادِعُهُمْ » (1) ،مع أنّ الخدعة ممّا لا يستحسن صدوره عنه سبحانه؛ إذ يصحّ حينئذ أن يقال: إنّه سبحانه يعاملهم معاملة الخادع بايجاد ما في صورة الخدعة بأن يفعل بهم ما يظنون أنه خير لهم و هو في الواقع شرّ لهم، كما أنّه ينسب إليه سبحانه لفظ المكر إن لم نجعل بناء المفاعلة هنا مصروفا عن ظاهره حتى يكون مرادفا ليخدعون مع المبالغة.

[في أنّ المرائي يخادع اللّه]

و بمثل ذلك ربّما يصحّ بيان ما عن ابن بابويه باسناده عن الصادق عليه السّلام، عن أبيه عليه السّلام، سئل(2) فيما النجاة غدا؟ فقال:

«إنّما النجاة في أن لا تخادعوا اللّه فيخدعكم، فانه من يخادع اللّه يخدعه، و يخلع منه الايمان، و نفسه يخدع لو يشعر.

فقيل له: كيف يخادع اللّه؟

فقال: يعمل بما أمر اللّه عزّ و جلّ به ثمّ يريد به غيره؛ فاتقوا الرياء فانّه شرك باللّه عزّ و جلّ؛ إنّ المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر، يا فاجر، يا غادر، يا خاسر! حبط عملك و بطل أجرك، و لا خلاق(3) لك اليوم، فالتمس أجرك ممّن كنت تعمل له.»(4)

ص: 474


1- النساء/ 142.
2- في المعاني و البحار و نور الثقلين: «أن رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله - سئل».
3- خ. ل: «خلاص».
4- رواه رحمه اللّه في المعاني، باب معنى مخادعة اللّه عزّ و جلّ، ص 340، عن مسعدة بن صدقة بن زياد؛ و الامالي و ثواب الاعمال؛ و هكذا في البرهان، ج 1، ص 60، ح 2؛ و البحار و نور الثقلين.

و عن العياشي، عن الصادق عليه السّلام أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله سئل فيما النجاة غدا؟ فقال مثله إلى قوله: «شرك باللّه» بتفاوت ما في النسختين في الالفاظ (1).

و فيه دلالة على أنّ مخادعة اللّه لا يختص بالمنافق المعروف، بل يعمّ المرائي الآخذ ببعض شعب النفاق أيضا. و فيه تأييد للتعميم المذكور في معنى النفاق، و بيان مخادعة المرائي إن حمل لفظه، ثمّ على التراخي عن تمام الفعل، فينحصر بالرياء المتأخر عن العمل، [ف] إنه عقد العمل على أنه للّه سبحانه، و فعله على هذا الوجه الخالص، ثم إنه أراد به غيره، و جعله للناس طلبا للجاه و غيره من بواعث الرياء، فصيّره للناس ثانيا بعد كونه للّه سبحانه، فهو كأجير عمل عملا لشخص، ثم عارض ذلك العمل مع غيره بأجرة يطلبها منه و سلّمه إليه. فهذا صورة الخدعة، فان لم يلتفت بأنّ اللّه سبحانه مطلع على حال قلبه و نيّته فربما يتخيل إليه أن جزاء العمل ثابت بحاله، و يريد منه سبحانه الجزاء، و يحاسب في نفسه أنه قد فاز بالجزاءين، كما أنّ المعاملة الثانية مما لم يطلع عليها الحق سبحانه، و أن رجوعه عمّا عقد عليه العمل لم يكن بمحضر الحق سبحانه، فيكون بذلك مخادعا للّه سبحانه، و غادرا و خاسرا لحبط عمله، و فاجرا لكونه عاصيا به، و كافرا لحسبانه عدم اطلاع الحق عليه، إما في مقام الاعتقاد إن كان معتقدا لذلك، أو في مقام التذكر و التصور إن كان ذلك فيه. و هو أيضا من شعب الكفر و أغصانه على المعنى المتقدم. و هذا شرك في العبادة للّه سبحانه حيث أراد بعبادته غيره و لو حمل لفظه.

ثمّ على التأخر من ابتداء النية أو العمل فيكون الخبر في الرياء المقارن لجزء العمل أو لكلّه بعد انعقاد العزم على وجه الخلوص، و يجري فيه نحو البيان

ص: 475


1- العياشي، ج 1، ص 283، ح 295.

المتقدم و لو ألغي التّرتيب الخارجي بين العمل و إرادته الغير به كان هو الرياء الاصلي، و كونه خدعة للّه سبحانه باعتبار أنّه يوقعه على أنّه عبادة للّه سبحانه فيما بينه و بين ربّه في صورة خياله و حسبانه، مع أنه ليس عبادة له، بل هو مأتيّ به لغيره، فهو كمن يظهر إيقاع عمل لشخص و هو في الواقع ليس يريده به، بل يريد غيره به، كمن يظهر للملك إيقاع تعظيمه له و هو في الواقع معظّم لغيره راكع و ساجد له، و هو محض الخداع. و هو أيضا خدعة في حد نفسه من حيث أنّ الصورة صورة عبادة و الحقيقة حقيقة المعصية، و هو خدعة للناس حيث أنه يظهر لهم أنّي عابد للّه سبحانه، مع أنّه عامل لهم لا عابد له عزّ و جلّ، و لو ظهر لهم كونه مرائيا لكان ذلك مناقضا لغرضه، فهو إظهار الطاعة من دون واقعية.

و إطلاق الشرك عليه فيما لو انضمّ الداعيان ظاهر، و أمّا في صورة انحصار الداعي في الرياء من دون انضمام القربة، فلعلّه لكونه مشركا في عبادة اللّه سبحانه حيث أنّه يفعل العبادة لغيره كما يفعله له سبحانه، أو لكونه في الظاهر للّه سبحانه و في الباطن لغيره. و تجري هذه الوجوه في القسم الثاني أيضا بأدنى تأمّل. و قريب من هذه البيانات يأتي في سائر شعب النفاق بالمعنى المتقدّم.

فكلّ شعبة من شعب النفاق مخادعة للّه و الّذين آمنوا بنحو من الانحاء، و اعتبار من الاعتبارات، كما يظهر بالتأمّل فيما سبق.

[في أنّ الأوّل و الثّاني و أضرابهما هم أصل الخدعة و النّفاق]

و من أوضح أفراد المخادعة ما كان يصنعه الاوّل و الثاني و أضرابهما، بل هم أصل الخدعة و النفاق في كلّ مقام من مقاماته حيث يظهرون التسليم للرسالة و الدين و هم جاحدون، و خصوصا لأمر الخلافة و هم معاندون، و لكمال الايمان و الاخلاق الحسنة و هم عنه خلاء، و للأعمال و العبادات مع أنّهم مراءون، بل

ص: 476

الظاهر أنهم ما كانوا يدعون شأنا من شئون الايمان و غصنا من أغصانه بالمعنى المتقدم، إلا أظهروا تحققهم به، مع أنّهم في الباطن كاملون في الكفر مستجمعون لأصله و أغصانه و فرعه، فهم إن ذكر النفاق كانوا أصله و فرعه و معدنه و مأواه و منتهاه، و أتباعهم في مقام الفعل و الحقيقة، لا في مقام اللّفظ و الدعوى؛ من اتصف بتلك الصفات النفاقيّة، و وافق صفتهم في الصورة و المعنى على دركات كثيرة بمقدار تخلّقه و اتصافه بصفتهم و شأنهم، فلا تغترّ بمن ينتحل التشيع و هو على هذه الصفة، كما ربما يدلّ [عليه] ما سبق من الرواية، بل لعلّ هذا الانتحال الصوري أيضا متابعة و مشايعة لأعدائهم حيث كانوا يقولون عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما سبق عن التفسير من دعاويهم بالنسبة إلى قبول الولاية، فيشبه حالهم حال من يدّعي التشيع و هو في صفة أعدائهم و أخلاقهم و أعمالهم و جهالتهم، الّتي كلّها نفاق أو كفر بالمعنى الاعمّ.

و لعلّ من ذلك يظهر لك الوجه في الاخبار الواردة في صفات الشيعة، و انحصار الشيعة بالمتصفين بصفات ربّما يعزّ وجودها، و نفي هذا الاسم عن غير المتصف بصفات كماليّة، كما لا يخفى على من تصفّح تلك الاخبار في مظانها من «بحار الانوار»(1) و غيرها.

نسأل اللّه سبحانه أن يخلّصنا من شئون تلك الشجرة الخبيثة، و يجعلنا من المؤمنين المخلصين، و الشيعة الحقيقيين بحق الائمة الطاهرين - صلوات اللّه عليهم أجمعين -.

ص: 477


1- راجع بحار الانوار، ج 68، باب صفات الشيعة.

[في رجوع الخدعة إلى الخادع]

وَ مٰا يَخْدَعُونَ إِلاّٰ أَنْفُسَهُمْ [وَ مٰا يَشْعُرُونَ]

عن تفسير الامام عليه السّلام بعد ما سبق:

«ثمّ قال: «وَ مٰا يَخْدَعُونَ إِلاّٰ أَنْفُسَهُمْ» ما يضرّون بتلك الخديعة إلا أنفسهم، فانّ اللّه غنيّ عنهم و عن نصرتهم، لو لا إمهاله لهم لما قدروا على شيء من فجورهم و طغيانهم «وَ مٰا يَشْعُرُونَ»

أنّ الامر كذلك، و أن اللّه يطلع نبيّه على نفاقهم و كذبهم و كفرهم، و يأمره بلعنهم في لعنة الظالمين الناكثين، و ذلك اللّعن لا يفارقهم في الدنيا يلعنهم خيار عباد اللّه، و في الآخرة يبتلون بشدائد عذاب اللّه .»(1).

أقول:

ظاهره أنّ المراد من الخديعة هنا هو غاية الخديعة، و هو الضرر؛ إذ الخادع إنّما يخادع لايصال ضرر إلى المخادع غالبا، و لسائر الاغراض المترتبة على إظهار ما ليس ثابتا، و إخفاء ما هو ثابت، و لما لم يخف الحال على اللّه و رسوله و جملة من المؤمنين لم يترتب تك المقاصد المترتبة على الاخفاء عليه، و لم يبق للخداع غاية إلا الضرر الذي ورد عليهم بخداعهم في الدنيا و الآخرة، فكأنهم كانوا يخادعون أنفسهم إذ أوردوا أنفسهم في ضرر من حيث لا تشعر به أنفسهم.

و أمّا المنافع الّتي كانت تصل إليهم في الدنيا من معاملة الاسلام معهم، و مشاركتهم للمسلمين، فهي ليست من نتائج خداعهم، و إنّما هي من آثار كلمة الاسلام و التسليم الظاهري حيث بني أمر الدين في الظاهر على نفس ذلك الامر

ص: 478


1- راجع المصادر المذكورة فى تعليقة 2 ص 466.

الظاهري، و عدم التكشّف عن أحوال الباطن في ترتيب آثار الاسلام و أحكامه.

و ربما يتصور هنا حقيقة المخادعة باعتبار أنهم يخدعون أنفسهم حيث يمنّونها الاباطيل و أنفسهم أيضا تمنيهم و تحدّثهم بالاكاذيب.

هذا، و ربما يستفاد من الآية منضما إلى الرواية السابقة أنّ من خادع اللّه فهو يخدع نفسه لو شعر في كل مقام من مقامات الخداع و النفاق و هو كذلك، فانه لا يخفي على الحق شيئا من أمره، و إنّما يخفي على نفسه علم الحق به، و لا يظهر السداد و الصلاح عند الحق البصير بعدم حقيقته، و إنّما يظهر عند نفسه صورة الصلاح زاعما أنه مما يترتب عليه آثار الصلاح عند الحق، فهو قد خدع نفسه حيث أظهر لنفسه كونه نافعا لها لما يترتب عليه من الثواب و المجازات من عند الحق و هو ليس كذلك، فهو يوهم نفسه النصح و الرشاد و طلب الخير، و هو مريد لما لا يترتب عليه إلا الضرر على نفسه، فهو يظهر لنفسه ما يوهم السداد و الصلاح، و قد خفي على نفسه الشرّ و الفساد الواقع عليه، و حينئذ فهو المخادع نفسه.

[في بيان حقيقة إسناد الخداع إلى اللّه]

و أمّا نسبة الخداع إلى اللّه سبحانه في الرواية، و ربما تدلّ عليه الآية باعتبار بناء المفاعلة، و صرّح به في الآية الاخرى (1) ،فربما يتصوّر هنا باعتبار أنّ الحقّ لمّا خذله، و خلّى بينه و بين نفسه و الشيطان، ترتّب عليه المخادعة بحيث خفي عليه أمر نفسه و ما هو عليه، و وقع في حسبان الرشاد مع أنه ليس إلا الفساد.

و هذا نظير نسبة الاضلال إليه سبحانه كما سيأتي - إن شاء اللّه تعالى -.

و لمّا كان من شأن حال المخادع المذكور أن لا يشتبه عليه حال نفسه لأنه أوضح الاشياء عنده و قد فرض اشتباهه، فيصحّ حينئذ سلب الشعور عنه، الذي

ص: 479


1- يعني قوله سبحانه: «و هو خادعهم».

هو علم الشيء علم حسّ، و صورة معاملته مع نفسه و حاله في حد ذاته من أحق الاشياء بأن يكون عالما به علما وجدانيا. و على هذا المعنى لا حاجة إلى توسع في الشعور بأن يقال: إنّ لحوق ضرر ذلك بهم لما كان كالمحسوس، و هم لتمادي غفلتهم كالذي لا حسّ له و إن كان حسّيا باعتبار المعنى المذكور سابقا.

ثم لا يخفى عليك أن مخادعة النفس الامّارة للحق سبحانه ليس أمرا نادرا، بل هي في كثير من مقامات العبودية تبنى على الخداع مع اللّه سبحانه، و لا يلتزم بالصدق في المواطن، فتدّعي عند الحق ما ليس فيها، و تظهر في حضور الحق ما ليس بواقع من دعوى الثبات في مقام العبودية و الاخلاص و التوكل و التفويض و الرضاء و المحبة و سائر المقامات، فتأتي بكلام كاذب كحصر العبادة و الاستعانة بالحق سبحانه، و طلب الهداية، مع أنه لا يهمّها و لها معبودون و مستعان بهم غير الحق، و يستغفر اللّه سبحانه و هو مصرّ على الذنب، الذي ورد في حقه على ما ببالي:

«إنّه كالمستهزئ بربه »(1) ،و تظهر حالا ليس لها واقعيّة، كالخشوع الظاهري الزائد على خشوع القلب الذي سبق كونه نفاقا، فضلا عن أن يكون القلب خاليا عن الخشوع رأسا، و كإظهار الرضاء عند الحق سبحانه و الحق يراها كارها لقضائه و كإظهار حبّ اللّه و غيره من سائر المقامات، و تظهر مقاما من مقامات الايمان و ليس فيها، و تعد الحق بشيء و لا تفي به، و تجادل عند الحق في تصحيح أعمالها القبيحة و تطلب لها المعاذير، فتعدّ لنفسه لكل قبيح عذرا يتغطى به حذرا عن حدو انكسار لها و ذلّة، كما أنه ربما يظهر من قوله سبحانه: «يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجٰادِلُ عَنْ نَفْسِهٰا » (2) ،أنها لا تترك المجادلة في القيامة فضلا عن الدنيا، و لا تعترف بالقصور

ص: 480


1- روى الكليني (رض) في الكافي، ج 2، باب التوبة، ص 435، ح 10، عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام - أنه قال: «المقيم على الذنب و هو مستغفر منه كالمستهزئ.»
2- النحل/ 111.

و التقصير، بل تعدّ نفسه كاملة في حضور الحق، كأنها قد وفت بجميع حدود العبودية من دون نقص في شيء منها، إلى غير ذلك من خداعها بالنسبة إلى ربّه و في حدّ نفسه، فضلا عن خداع المؤمنين باظهار شيء من ذلك و أمثاله عندهم، أو سائر أنواع الخداع الكثيرة. و كلّها من شئون النفاق بالمعنى المتقدّم.

و لعلّ الجامع لأفراد المخادعة هو المخالفة بين الظاهر و الباطن، و كون الاول أرجح من الثاني، الذي ورد في شأن من كان كذلك الحكم بخفّة ميزانه على ما ببالي.

و حينئذ فقد يلاحظ ذلك فيما بين العبد و ربّه بالنسبة إلى ربّه، و قد يلاحظ كذلك بالنسبة إلى إظهار ذلك للعباد، و قد يلاحظ ذلك بالنسبة إلى حال العباد بعضهم مع بعض؛ كاظهار المحبة و الصداقة و الالفة و الموافقة، مع استبطان أضدادها بلسان أو عمل أو حال. فمنها: أن يمشي الانسان بين الناس بوجهين و لسانين، و منها غير ذلك، و لها أفراد كثيرة لا يسع المقام لذكرها.

و لعلّ بعض الكلام فيما يأتى متفرّقا - إن شاء اللّه سبحانه - في المواضع المناسبة.

و يقابل هذه الاصناف من الخداع و النفاق الصدق في جميع المواطن و التحقق بالصديقيّة، فانّ مرجع الخداع إلى كذب لفظي أو عملي أو حالي، و يقابله الصدق في كل مقام مقام بحسبه.

[المخادع لا يضرّ المؤمنين بالخدعة بل يضرّ نفسه]

ثمّ إنّ جميع أفراد الخداع بالنسبة إلى المؤمنين لا يقع إلا على نفسه لو يشعر أيضا، فإنّ الخدعة بإظهار الايمان عند الناس لو خفي عليهم فعاملوه معاملة المؤمن الكامل، فهم في ذلك معذورون مأجورون مثابون لمكان نيّاتهم، و صحة

ص: 481

دواعيهم، و إرادتهم وجه اللّه سبحانه فيه، فلم يقع عليهم ضرر في ذلك، حتى لو وقعوا في أمر غير مشروع؛ كالصلاة خلفه، أو قبول شهادته بناء عن ترتّب الحكم على الموضوع الواقعي؛ إذ هم معذورون بامتثال الحكم الظاهري، و العمل على الطريق المشروع، فلم يوقعهم في مكروه، و لم يتخلّص من ضررهم أيضا؛ إذ الضرر في المقام هو نهيهم إيّاه عمّا لا ينبغي ارتكابه من باب الامر بالمعروف و النهي عن المنكر و النصيحة لعباد اللّه، و هذا عين نفعه لو كان شاعرا لمصالحه، فهو دفع عن نفسه خيرا كان في مظانّ الوقوع عليه، لا أنه تخلّص عن شرّ.

و الخدعة بإظهار المحبة و الصداقة و ما شاكلهما أيضا لا يرد ضرره عليهم؛ إذ هم ينتفعون بهذا الاظهار عاجلا، و لا يضرهم آجلا، و لو فرض إيراد المخادع عليهم ضررا دنيويّا في ضمن إظهار ما أظهره لم يكن ضررا حقيقيا بعد ملاحظة عدل اللّه سبحانه، و أن اللّه يأخذ بحقوق الناس، و الضرر كل الضرر في جميع ذلك على المخادع في دنياه بالافتضاح عند الناس، و في الآخرة بالوبال و النكال، فان «من أسرّ سريرة رداه اللّه رداءها، إن خيرا فخير، و إن شرّا فشرّ»(1) كما ورد في الاخبار على ما ببالي. فهو مضرّ نفسه و مخادع نفسه أوقع نفسه في صورة خير و صلاح، و باطن فساد و ضرار، ديني و دنيويّ و أخروي، و أظهر لنفسه إيراد الخير عليها، و أورد

ص: 482


1- رواه الكليني (رض) في الكافي، ج 2، باب الرياء، ص 294، ح 6، عن عمر بن يزيد، عن الصادق - عليه السلام - في تفسير قوله تعالى: «بَلِ الْإِنْسٰانُ عَلىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ» (القيامة/ 14) قال: «ان رسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله - كان يقول: من أسر...» و هكذا في مجمع البيان، ج 5، ص 396؛ و البحار، ج 72، باب الرياء، ص 285، ح 6؛ و نور الثقلين، ج 5، ص 462، ح 8. قال المجلسى (ره) في شرحه: «استعير الرداء للحالة التي تظهر على الانسان، و تكون علامة لصلاحه أو فساده.»

عليها الشرّ العظيم. و لو لم يكن في الخداع إلا ما يترتب عليه في الدنيا من الافتضاح لكفى به رادعا لأولى الالباب عن استعماله، و لو فرض خفاءه في الدنيا ففي ظهوره يوم تبلى السرائر كفاية للتحرّز عنه؛ قال أمير المؤمنين عليه السّلام على ما ببالي من لفظ الحديث:

«قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة و دونها حاجز من تقوى اللّه، فيدعها رأي عين، و ينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين.»(1)

و اللّه المستعان على جميع الاحوال.

ص: 483


1- لم نعثر عليه.

[أمراض قلوب المنافقين و عللها و آثارها]

فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزٰادَهُمُ اللّٰهُ مَرَضاً

عن الكاظم عليه السّلام:

«إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا اعتذر إليه هؤلاء بما اعتذروا به، و تكرم عليهم بأن قبل ظواهرهم و و كلّ بواطنهم إلى ربّهم، لكن جبرئيل أتاه فقال: يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله، العلي الاعلى يقرئك السلام (1) ،و يقول [لك]: أخرج هؤلاء المردة الذين اتصل بك عنهم في عليّ عليه السّلام، و نكثهم لبيعته، و توطينهم نفوسهم على مخالفتهم أن يظهر من العجائب ما أكرمه اللّه به من طاعة الارض و [الجبال و] السماء له، و سائر خلق اللّه بما أوقفه موقفك، و أقامه مقامك، ليعلموا أنّ ولي اللّه علي عليه السّلام غنى عنهم، و أنه لا يكفّ عنهم انتقامه إلا بأمر اللّه الذي له فيه و فيهم التدبير الّذي بالغه، و الحكمة التي هو عامل بها و ممض لما يوجبها.

فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الجماعة الذين اتصل منهم(2) ما اتصل في أمر عليّ عليه السّلام، و المواطاة على مخالفته بالخروج، فقال لعلي عليه السّلام لمّا استقر عند سفح بعض جبال المدينة: يا علي،

ص: 484


1- في المخطوطة و البرهان: «يقرأ عليك السلام».
2- في المخطوطة: «اتصله منهم» و في التفسير و البحار: «اتصل به عنهم».

إنّ اللّه أمر هؤلاء بنصرتك و مساعدتك، و المواظبة على خدمتك، و الجدّ في طاعتك، فإن أطاعوك فهو خير لهم يصيرون في جنان اللّه ملوكا خالدين ناعمين، و إن خالفوك فهو شرّ لهم يصيرون في جهنم خالدين معذبين.

ثم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لتلك الجماعة: اعلموا أنكم إن أطعتم عليا عليه السّلام سعدتم، و إن خالفتم شقيتم، و أغناه اللّه عنكم بمن سيريكموه و بما سيريكموه.

[ثمّ] قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا علي، سل ربك بجاه محمّد و آله الطيبين، الذين أنت بعد محمّد صلّى اللّه عليه و آله سيدهم أن يقلب لك هذه الجبال ما شئت. فسأل ربه ذلك، فانقلبت فضّة، ثمّ نادته الجبال: يا علي، يا وصي رسول رب العالمين، إن اللّه قد أعدّنا لك، إن أردت إنفاقنا في أمرك، فمتى دعوتنا أجبناك، يقضي فينا حكمك، و تنفذ فينا قضائك. ثمّ انقلبت ذهبا كلّها، و قالت مقال الفضة، ثمّ انقلبت مسكا و عنبرا و عبيرا و جواهر و يواقيت، و كلّ شيء منها ينقلب إليه فيناديه:

يا أبا الحسن، يا أخا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، نحن مسخرات لك، ادعنا متى شئت.

ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا عليّ، سل اللّه بمحمد و آله الطيبين الذين أنت سيدهم بعد محمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يقلّب إليك أشجارها رجالا شاكين السلاح، و صخورها أسودا و نمورا و أفاعي. فدعا اللّه على ذلك، فامتثلت تلك الجبال و الارضون و الهضبات و قرار الارض من الرجال الشاكين

ص: 485

السلاح، الذين يفي(1) واحد منهم بعشرة آلاف من الناس المعدودين(2) من الاسود و النمور و الافاعي. حتى طبقت تلك الجبال و الارضون و الهضبات بذلك كل ينادي، يا علي، يا يا وصيّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ها نحن قد سخّرنا اللّه لك، و أمرنا باجابتك كلّما دعوتنا إلى اصطلام كلّ من سلّطنا عليه، فمتى شئت فادعنا نجبك بما شئت، و تأمرنا به نطيعك.

يا علي، يا وصيّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، إن لك عند اللّه من الشأن العظيم ما لو سألت اللّه أن يصير لك أطراف الارض و جوانبها هيئة واحدة كضوة كيس لفعل، أو يحط لك السماء إلى الارض لفعل، أو ينقل لك الارض إلى السماء لفعل، أو يقلب لك ماء بحارها الاجاج ماء عذبا أو زيبقا أو بانا(3) أو ما شئت من أنواع الاشربة و الادهان لفعل، و لو شئت أن يجمد البحار أو يجعل سائر الارض هي البحار لفعل؛ لا يحزنك تمرّد هؤلاء المتمردين، و خلاف هؤلاء المخالفين، فكأنهم بالدنيا قد انقضت بهم كأن لم يكونوا فيها، و كأنّهم بالآخرة إذ وردت عليهم كأن لم يزالوا فيها.

يا علي، إن الذي أمهلهم مع كفرهم و فسوقهم و تمرّدهم عن طاعتك، هو الذي أمهل فرعون ذا الاوتاد، و نمرود بن

ص: 486


1- في المخطوطة: «بقى».
2- خ. ل: «المعهودين».
3- الزئبق: سيال معدني لا يجمد إلا في درجة 40 من الصفر، و العامة تقول له الزيبق؛ و البان: شجر معتدل القوام ليّن ورقه كورق الصفصاف، يؤخذ من حبه دهن طيب.

كنعان، و من ادعى الالهية(1) من ذوي الطغيان، و أطغى الطغاة إبليس رأس الضلالات، ما خلقت أنت ولاهم لدار الفناء، بل خلقهم لدار البقاء، و لكنهم ينقلون من دار إلى دار، و لا حاجة بربك إلى من يسومهم و يرعاهم، لكنه أراد تشريفك عليهم، و إبانتك بالفضل فيهم، و لو شاء لهداهم.

قال: فمرضت قلوب القوم لمّا شاهدوا من ذلك مضافا إلى ما كان من مرض أجسامهم له و لعليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فقال اللّه تعالى عند ذلك: «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» أي: قلوب هؤلاء المتمرّدين الشاكّين الناكثين [لمّا] اخذت عليهم من بيعة عليّ عليه السّلام «فَزٰادَهُمُ اللّٰهُ مَرَضاً» بحيث تاهت له قلوبهم جزاء بما أريتهم من هذه الآيات و المعجزات.»(2)

أقول:

لا يخفى أنهم كما اعتذروا بما اعتذروا، كذلك يعتذر سائر المخادعين و المخالفين ظواهرهم لبواطنهم عند اللّه سبحانه و عند الامام إن كان حاضرا، و عند خواص المؤمنين الذين اطلعوا على قبائح أعمالهم من طرف التوسم و الباطن، أو من جهة ظهور حالهم عندهم بالعلامات الظاهرية، و كما أنّه يكرم عليهم فقبل ظواهرهم على ما سبق. كذلك يجري الحق عليهم بعض الاحكام الظاهرية في الدنيا، و يعاملهم خواص المؤمنين معاملة من وافق باطنه ما أظهروه في الجملة، و يقبلون معذرتهم صورة و تكرّما، و كما أنهم أعطوا البيعة على أنفسهم و لم يوطنوا أنفسهم

ص: 487


1- في المخطوطة: «الآلهة».
2- تفسير الامام - عليه السلام -، ص 43 و 44؛ و البحار، ج 37، باب فى أخبار الغدير، ص 144-147، ح 36؛ و البرهان، ج 1، ص 60 و 61.

على الموافقة بل وطنوها على مخالفته عليه السّلام، كذلك هؤلاء يقرون بكلمة الولاية و يذعنون به، و يظهرون كمال التسليم لأمير المؤمنين عليه السّلام، لكنهم لم يوطنوا أنفسهم على إطاعته في أوامره و نواهيه، و الائتمام به عليه السّلام علما و خلقا و حالا و نيّة و عملا، بل وطنوا أنفسهم على مخالفته عليه السّلام في ذلك كلّه إلا في أشياء قليلة لو وافقت، و هو النكث لذلك الانقياد الذي أظهر بالقول، و كما أنّه أمر اللّه سبحانه باخراج هؤلاء لظهور عجائب ما أكرم عليه السّلام به من طاعة الاشياء له بما أوقف موقف الرسول كذلك أمر كل مكلّف بمعرفة شأن الامام و خروجه لطلب معرفته بالادلة الموصلة له إلى ذلك المطلوب، خصوصا لو قلنا بوجوب تكميل المعرفة بهم على كلّ أحد بالقدر الذي يتيسر له و له أهليته، كما هو أحد الوجوه - و تحقيقه في محلّه -.

و هذا القدر من المعرفة يعني: طاعة جميع الاشياء للامام شأنا بحيث لو أمرهم أطاعوه أمر يسعه كل ذهن و صدر، و كذا قدرته على الانتقام، و أن المانع عن ذلك هو أمر اللّه و حكمته، و ملاحظة المعجزات الصادرة عنهم عليهم السّلام المنقولة يشهد لذلك.

و كما أنه صلّى اللّه عليه و آله ذكر له عليه السّلام: «أن اللّه أمر هؤلاء بنصرتك و مساعدتك، و المواظبة على خدمتك، و الجد في طاعتك»، كذلك وصل إلى هؤلاء المخادعين أنّ عليهم أن ينصروا أمير المؤمنين عليه السّلام في أنفسهم بأن يصيروا أتباعا و شيعة له في جميع المراتب، و يساعدوه فيما دعاهم إليه، و يواظبوا على خدمته عليه السّلام و يجدوا في طاعته بامتثال أوامره و نواهيه و مواعظه و تعليمه و إرشاده و تأديبه، المأثورة عنه عليه السّلام و عن القائمين مقامه في طي الاخبار و الآثار، و أنهم إن فعلوا ما أمرهم الائمة عليهم السّلام في طى ذكر صفات المؤمن و الشيعة و غيره كانوا ملوكا خالدين ناعمين، و إن خالفوا ما وعظوا به و عصوهم كان عليهم العقاب و التعذيب، و أنهم إن أطاعوا الائمة عليهم السّلام في جميع أقوالهم و أحوالهم و شئونهم سعدوا، و إن خالفوهم و سلكوا

ص: 488

سبيل الخداع و النفاق شقوا بقدر المخالفة، و الائمة أغنياء عنهم.

و كما أنّه عليه السّلام سأل ربه في استحالة الجبال فضة و ذهبا و مسكا و عنبرا و عبيرا و جواهر و غيرها، و نادوها عليه السّلام بالتسليم و الانقياد و التسخير، كذلك لا يبعد أن جبال الانانية في الانسان لو وقع عليها نظرهم استحالت جواهر باقية، و عطريات أبدية مذعنة له بالاطاعة و التسليم الكامل له، و أنهم شيعة له ظاهرا و باطنا بمحضر هؤلاء المخادعين و المخالفين بواطنهم ظواهرهم و أقوالهم، و هم إن لم يشاهدوا ذلك الانقلاب لكن ربما ظهر لهم آثار كراماتهم و أطوارهم الخارجة عن أطوار هؤلاء، و سمعوا قصص خواص الشيعة و الكرامات الصادرة عنهم حيا و ميتا من أولاد الائمة عليهم السّلام و غيرهم، كما نقل عن «سلمان» و «جابر الجعفي» و «الفضيل بن يسار» و «أبي حمزة الثمالي» و «ابن مهزيار» و غيرهم على ما هو مسطور في محالّه.

و كما أن جملة الاشجار و الجمادات أمروا فصاروا جنودا له عليه السّلام مذعنين بالطاعة له، كذلك وقع القلب على قلوب جماعة من الناس حتى صاروا مخلصين في الموافقة للامام عليه السّلام، و مطيعين له ظاهرا و باطنا، ثابتين في ذلك، طالبين للمجاهدة في خدمته، فمنهم من تنبّه على أن مجاهدة النفس الامّارة خدمة له عليه السّلام فواظب على ذلك و منهم من بقي منتظرا لزمان إظهار الحق في قلبه و باطنه و ظاهره؛ و اعتقدوا أن الامام لو سأل اللّه سبحانه في أيّ شيء من إجراء العالم أجيب، و أن هؤلاء المخادعين الذين لم يتحققوا بحقيقة الصدق في المواطن لا يضرّ اللّه و الامام و المؤمنين شيئا، و أن الدنيا يوشك أن ينقضي بهم كأنهم لم يكونوا للدنيا عمارا، و لم تزل الآخرة لهم دارا، و علم هؤلاء أيضا أن الحق سبحانه أمهل هؤلاء مع ما في باطنهم من الجهل و الاخلاق السيئة و النيات الفاسدة و الاحوال القبيحة، كما أمهل مدعي الربوبية و الشيطان، و أنهم خلقوا للبقاء لا للفناء، و كما أن القوم مرضت قلوبهم عند مشاهدة تلك الاحوال، كذلك مرضت قلوب المخادعين حين رأوا خلوص

ص: 489

المخلصين، و ظهر لهم شئونهم و مقاماتهم و طاعتهم و ثباتهم، و حين ظهر عليهم شأن إمامهم فيهم مضافا إلى أمراضهم السابقة فزادهم اللّه مرضا جزاء بما كان منهم.

فاعتبروا في تلك القصة و غيرها، و استخرج المناط في كل منها، و انتقل منها إلى نظائرها و أشباهها و كل ما فيه شيء مما ثبت فيها. فهذا إشارة إلى الاعتبار السانح لي، و عسى أن يكون لك اعتبار أحسن منها، أو أن يكون خطاء مني في بعضها تنبّه له.

[في بيان معنى القلب و المراد منه]

فلنرجع إلى ألفاظ الآية فنقول:

القلب قد يطلق على لحم صنوبري الشكل، مودع في وسط الصدر، مائلا إلى الجانب الايسر منه، و هو لحم مخصوص و في باطنه تجويف، و في ذلك التجويف دم، و هو منبع الروح البخاري الذي ينتشر منه إلى البدن بتوسط الشرائين، و هذا المعنى للقلب موجود للبهائم و الموتى، و هذا المعنى ظاهر. و ربما يطلق على أمر آخر أيضا؛ فقال بعض المحققين:

«إنه يطلق على لطيفة ربانية و روحانية، لها بهذا القلب تعلّق، و تلك اللطيفة هي المعبّر عنها بالقلب تارة، و بالنفس أخرى، و بالروح أخرى، و بالانسان أيضا.

و هو المدرك العالم العارف، و هو المخاطب و المطالب و المعاقب، و له علاقة مع القلب الجسداني، و قد تحيّر أكثر الخلق في إدراك وجه علاقته، و أن تعلّقه يضاهي تعلّق الاعراض بالاجسام أو الاوصاف بالموصوفات، أو تعلّق المستعمل للآلة بالآلة، أو تعلّق المتمكّن بالمكان، و شبه ذلك.»(1) انتهى.

ص: 490


1- نقله الفيض (ره) في المحجة، ج 5، ص 4؛ و المجلسي (ره) فى البحار، ج 70، ص 34؛ و الطريحي (رض) في مجمع البحرين، ج 2، ص 148.

و في الصحاح: «القلب: الفؤاد، و قد يعبّر به عن العقل؛ قال الفراء في قوله تعالى: «إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَذِكْرىٰ لِمَنْ كٰانَ لَهُ قَلْبٌ» (1) أي: عقل.» انتهى.

و الذي يظهر لى في المقام أنّ للقلب الصنوبري الحسي باطن هو غيب بالنسبة إلى العالم المادي، و هو مشكّل، كما أن اللحم مشكّل و هو الذي يدخله الامور المعنوية و يخرج منه، و هو محلّ الاحوالات النفسانية من الخوف و الرجاء، و الحب و الحياء و الخجل، و الغم و الفرح و غيرها، و يظهر آثاره في هذا القلب الظاهري؛ كحصول الاضطراب للقلب الجسماني عند حدوث الخوف في ذلك القلب لما بينهما من المناسبة التامة، كما يظهر آثاره في الروح الحيواني من الانبساط و الانتشار في حال الفرح، و الانقباض في حالة الغم و نحوها أيضا، و أن هذا ليس هو اللطيفة الربانية الروحانية التي يعبر عنها بالروح و النفس أحيانا و بالانسان أيضا، و هو المخاطب و المكلّف بالحقيقة و الاصالة، بل هذا القلب المعنوي واقع بين الامر المذكور و القلب المادّي الكثيف، و واسطة و برزخ بينهما، و ليس له مرتبة تجرد ذلك اللّطيفة، و لا دناءة كثافة اللّحم الصنوبري، بل هو من حيث قبول التشكل و الصورة موافق للثاني، و من حيث تجرده عن المادة الكثيفة يخالفه و يوافق الاول.

و الظاهر أنه المراد بما نقل عن الحديث من أنّ:

«القلوب أربعة: قلب فيه نفاق و ايمان، إذا أدرك الموت صاحبه على نفاقه هلك، و إن أدركه على ايمانه نجا. و قلب منكوس، و هو قلب المشرك. و قلب مطبوع، و هو قلب المنافق. و قلب أزهر أجرد. و هو قلب المؤمن فيه كهيئة السراج، إن أعطاه اللّه شكر، و إن ابتلاه صبر.»(2)

ص: 491


1- ق/ 37.
2- هو مضمون كلام الامام الباقر - عليه السلام -، و قد رواه الكليني (ره) في الكافي، ج 2، باب في ظلمة قلب المنافق، ص 422، ح 2، عن سعد، عنه - عليه السلام؛ و الصدوق (ره) في المعاني، باب النوادر، ص 395، ح 51، بهذا الاسناد عنه - عليه السلام -. و أصل كلامه - عليه السلام - هو: «إن القلوب أربعة، قلب فيه نفاق و ايمان، و قلب منكوس، و قلب مطبوع، و قلب أزهر أجرد. فقلت - يعني الراوي -: ما الازهر؟ قال: فيه كهيئة السراج. فأما المطبوع فقلب المنافق، و أما الازهر فقلب المؤمن، إن أعطاه شكر و إن ابتلاه صبر، و أما المنكوس فقلب المشرك، ثم قرأ هذه الآية: «أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلىٰ وَجْهِهِ أَهْدىٰ أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ.» (الملك/ 22) فأما القلب الذى فيه إيمان و نفاق فهم قوم كانوا بالطائف، فان أدرك أحدهم أجله على نفاقه هلك، و إن أدركه على إيمانه نجا.» و نقله أيضا المجلسي (رض) في البحار، ج 70، باب القلب و صلاحه و فساده، ص 51، ح 10، و قال فى شرحه في المرآة: «يمكن أن يكون المراد هنا بالنفاق: التزلزل فى الايمان، أو الرياء، أو عدم العمل بمقتضى الايمان، فيشمل ارادة المعاصى و الاصرار عليها.»

و المراد ممّا نقل عن الحديث من أنه: «أمير الجوارح و لا تصدر إلا عن رأيه »(1) ،فإنّ أمير مجموع أجزاء الانسان و إن كان هو الروح القدسي، لكن أحكامه في الجوارح يظهر بتوسط القلب المذكور، و هو محل ظهور الارادات و غيرها من الاحوال و ما ورد في الحديث من إطلاق الآنية على القلب(2).

و لا يبعد أن يطلق القلب أيضا على الروح المجرد بملاحظة اتصاله المعنوي و ارتباطه إلى القلب المذكور و كون القلب مظهرا لآثاره و أحكامه.

ص: 492


1- نقله الطريحي (ره) في مجمع البحرين، ج 2، ص 147.
2- لم نعثر عليه بهذا اللفظ، و لكن يشهد له ما قاله أمير المؤمنين - عليه السلام - لكميل بن زياد النخعي، قال - عليه السلام -: «يا كميل بن زياد، إنّ هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها...» راجع نهج البلاغة، ص 495، ح 147.

[معنى المرض و حقيقته]

و أمّا المرض، فهو حالة توجب وقوع الخلل في الافعال الصادرة عن موضوعها كما ذكره بعضهم (1) ،و هو فرع خروجه عما ينبغي أن يكون عليه بحيث لا يتأتّى منه ما كان من شأنه أن يتأتي منه، و لعلّ الاولى تعميم الخلل بالنسبة إلى الافعال و سائر الآثار المقصودة منه، فيحدّ المرض حينئذ بأنه حالة توجب الخلل في الآثار التي من شأن موضوعه ترتبها عليه، أو بأنه آفة توجب خروج العضو عما ينبغي أن يكون عليه. و على كل حال فمرض كل جزء بحسبه؛ فمرض العين حدوث حالة تمنع من جودة الابصار، أو توجب ألم صاحبه و إن بقى إدراكه على حاله، و مرض المعدة بحدوث خلل في هاضمته أو دافعته أو ماسكته، أو بحدوث ألم فيها أو غير ذلك.

فكل جزء من أجزاء الانسان إذا لوحظ باعتبار سلامته و مبدئيته لما ينبغي أن يكون مبدأ له، و يترتب عليه من أثر أو فعل، إمّا أن يكون باقيا على ما يقتضيه بحسب طبيعته و جبلّته، و إما أن يكون خارجا عنه بفقدان سلامته، أو عدم ترتب ما يترتب عليه بمقتضى طبعه. فالاول هو الصحة، و الثاني الذي هي الحالة الخارجة عن مقتضى طبعه هو المرض.

و أنت إذا لاحظت حقيقة المرض بما ذكر علمت أنه لا تختص بالاعضاء الحسية، بل يجري فيها و في سائر أجزاء الانسان بحسب ارتفاع سلامتها و خروجها عما كان ينبغى أن يكون عليها، و عدم صدور آثارها عنها على الوجه اللائق به؛ و يشهد له ما عن «ابن فارس» من أن: «المرض كل ما خرج به الانسان عن الصحة من علّة أو نفاق أو تقصير في أمر »(2) ،و ما يقال من أن: «المرض في القلب الفتور عن الحق، و في الابدان فتور في الاعضاء، و في العيون فتور في النظر»(3) و إن لم يكن هذا

ص: 493


1- راجع أنوار التنزيل و غيره من كتب التفسير. (2و3) راجع مجمع البحرين.

الكلام محيطا بأطراف الامراض.

[أنواع أمراض القلب و آفاته]

و حينئذ فنقول: مرض القلب هو الحالة الّتي توجب وقوع الخلل في الافعال الصادرة عنه، أو في مطلق الآثار المترتّبة عليه، و الآفة الّتي توجب خروجه عن الوجه الّذي ينبغي أن يكون عليه بحسب طبيعته و غريزته و جبلّته في حاله أو فعله أو انفعاله أو تأثيره أو في شأن من شئونه المقصودة منه. فمن جملة تلك الاحوال و الآفات حالة تمنع من إدراك ما من شأنه إدراكه، و عدم التصديق عند قيام الحجّة و تمام الدليل، فهو حينئذ لا يرى ببصيرته ما من شأنه إبصاره؛ كالعين الّتي لا يبصر ما من شأنه إبصاره بسبب العمى، فهو عمى القلب، و لعلّه المعبّر عنه بالشكّ و النفاق حيث فسّر بهما المرض في قوله تعالى: «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ » ؛إذ المرض هو الشكّ و فقدان الاعتقاد في الموضع الّذي كان مقتضى فطرة القلب و سجيّته التصديق بقيام البرهان و الحجّة، أو مشاهدة الآثار، أو كونه من الفطرة الّتي فطر القلب عليه و أمثال ذلك، فهذا أحد الامراض.

و منها: حالة تمنع من الانفعالات الّتي من شأنها أن ينفعل عنها و يتأثّر بها؛ كالقساوة المانعة عن تأثير المواعظ الّتي يليق به تأثيرها فيه، و هو كخروج آلة السمع الحسّيّ عن الانفعال بالاصوات الّتي تقرعها الّذي هو صمم ظاهريّ، فالاوّل صمم قلبي.

و منها: حالة الختم الّتي باعتبارها لا يدخل فيه ما كان يرد عليه و يخرج عنه؛ كالمعدة المريضة بالمرض المانع عن دخول الغذاء فيه و صرفه، و دفع ما ينبغى دفعه.

و منها: الآلام القلبيّة الواردة عليه باعتبار عروض حالات غير طبيعيّة

ص: 494

بحيث لو بقي على طبيعته الاصليّة لما ورد تلك الآلام عليه؛ كالغلّ و الحسد و الحقد على عباد اللّه من دون وجود سبب صحيح بحسب العقل لذلك، بل لعروض حالات رديّة فاسدة أوجبت ورود تلك الهموم؛ بل مطلق هموم الدنيا و عمومها من هذا القبيل؛ إذ ليس من شأن القلب بحسب فطرته الاصليّة أن يكون قويّ التعلّق بها بحيث يورد عليه تلك الهموم. فمثاله في الجسد وجود الاخلاط الفاسدة، و انصباب الموادّ الرديّة على العضو بحيث يوجب حدوث ألم فيها.

و منها: أن يخرج في غضبه أو خوفه أو خجله عن حدّ الوسط، و يقع في الافراط فيه أو التفريط، مع أنّ من شأن القلب الصحيح التوسّط في ذلك. و مثاله في الجسد خروج الانسان في جوعه و عطشه عن حدّ الاعتدال إلى الافراط و التفريط لفساد مزاجه، فهو فساد مزاج القلب.

و منها: أن يشتهي ما لا ينبغي له شهوته و محبّته كفضول الدنيا، و الامور الاعتباريّة كالجاه لفساد مزاجه الباطني. و مثاله في الجسد مثال خروج شهوة الاكل عن ميزانه بميله إلى ما لا ينبغي له طبعا؛ كشهوة أكل الطين و الفحم و الافيون و سمّ الفأر و غيرها؛ و كما أنّ هذا المريض كلّما ازداد أكلا منها ازداد ميله و مرضه، كذلك المريض القلبيّ كلّما ازداد في تحصيل الفضول و صرفه ازداد شهوته و مرضه القلبي.

و منها: تغيّر ذائقته، فلا يجد الحلو حلوا، بل يجده مرّا؛ كالقلب الّذي نزع عنه حلاوة مناجاة الحقّ سبحانه. و مثاله الذائقة الّتي غلب عليها الصّفراء حتّى صار يدرك الحلويّات مرّيّات.

و منها: عدم أنسه باللّه سبحانه و خواصّ عباده، و استيحاشه من الخلوة به سبحانه و المجالسة معهم. و مثاله: بعض أنواع أمراض الدماغ الّذي يوحشه من مجاورة أبناء نوع الانسان، و يؤدّي إلى فراره منهم، مع أنّ من مقتضى طباع

ص: 495

البشريّة الاستيناس بهم، كما أنّ مقتضى طبع القلب السليم الصحيح هو الانس باللّه سبحانه و أوليائه.

و منها: ارتفاع صفة الرشد و السداد عنه و صيرورته بحيث لا يتبع ما فيه مصلحته، و لا يجتنب ما فيه مفسدته مع علمه بأنّه كذلك؛ كالاعمال و التروك الغير المرضيّة بحسب الشرع الصادرة عمّن يعتقد بالدين و الشريعة، بل و ممّن يظنّ بصحّته أيضا، فانّ من مقتضى الطبيعة الصحيحة طلب المنفعة المظنونة. و الهرب من الضرر المظنون، كما يشاهد ذلك في حال البهائم في طلبها الكلاء من مظانّها و الهرب عن مظانّ وجود السباع و غيرها من المضرّات. و هذا حالة السفه الباطني، كما أنّ فقدان عقل المعاش و إصلاح المال هو السفه الظاهري، بل لعلّ الاوّل أشدّ و أقوى باعتبار أنّه عالم، أو ظانّ لا يعمل بعلمه و ظنّه، و هذا جاهل في كثير من موارده. و لعلّ إلى ما ذكر يشير ما ورد على ما ببالي من أنّ: «شارب الخمر سفيه »(1).

و منها: خوفه ممّا لا ينبغي الخوف منه، و رجائه ممّن لا ينبغي رجائه؛ كالمعتقد بأنّه لا معطي و لا مانع إلا اللّه، أو الظانّ بذلك و هو يرجوا غيره و يخاف سواه. و مثاله بعض أقسام الجنون الّذي يعترض فيه الخوف ممّا لا ينبغي الخوف منه، كمن عضّه الكلب الّذي يخاف من الماء خوفا شديدا، و كبعض أفراد الماليخوليا الّذي يعرض فيه الخوف من أمور لا يصحّ الخوف منه.

ص: 496


1- الاخبار المؤيدة لهذا المعنى كثيرة، فانظر رواية علي بن إبراهيم (ره) في تفسيره، ج 1، ص 131، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه - عليه السلام -، عن رسول اللّه - صلى اللّه عليه و آله -، و هي: «أي سفيه أسفه من شارب الخمر» و رواية العياشي (ره) عن عبد اللّه بن سنان، عنه - عليه السلام -، في تفسير آية: «لاٰ تُؤْتُوا السُّفَهٰاءَ» (النساء/ 5) و هي: «لا تؤتوا شراب الخمر و النساء» و سائر الروايات التي جمع بعضها البحراني (ره) في البرهان، ذيل الآية الاخيرة.

و منها: أن لا يخاف من يستحقّ الخوف منه؛ كحالة التهوّر و ملكتها المقابلة للجبن و الشجاعة، و كحال من يعتقد بربّه أو يظنّ به أو يشكّ فيه على ما قرع سمعه من صفات القهر و الانتقام و الجلال و الكبرياء، و هو لا يخاف منه خوفه من الشكّ في طروق السارق عليه ليلا لأخذ أمواله منه، كما إذا سمع حسّا و شكّ أو ظنّ ليلا أنّه سارق لا يقوى على مقاومته. فانّ مقتضى سلامة القلب و بقائه على الفطرة الصحيحة أن يكون خوف ذلك المسلم من ربّه أكثر من هذا الخوف بدرجات كثيرة بل غير متناهية، كما يظهر وجهه من ملاحظة جهات الخوف في المقامين، و الحال أنّه ليس فيه خوف صادقا أصلا. و مثاله في الحالات الظاهرة السكران في بعض حالاته الّتي يشتدّ له التهوّر بحيث يقدم على المهالك من دون خوف و دهشة على ما ينقل عنهم، و بعض أقسام الجنون السبعيّ الّذي يعرض لصاحبه سبعيّة و جرأة يقدم بسببها على المهالك و المضرّات و لا يتجنّبها.

و منها: أن لا يرجو من يستحق رجائه من المنعم الحقيقي الّذي اتّصلت نعمه عليه و على سائر عباده، و ملأ عالم الكون من نعمه و إحسانه، فمن ليس فيه حقيقة الرجاء له فقلبه مريض. و مثاله في الظاهر: المبهوت و الحيران الّذي كلّما يعرض عليه الانعام و الاحسان، و دفع الآلام و الاسقام لا يحصل فيه طلب و رجاء أصلا. مع أنّ البهائم المعلوفة ترجو من يواظب على علفها، و يعطيها شعيرها إذا شاهدته ظهرت فيها آثار الرجاء. و نحن لم نفقد حسن صنيع ربّنا و نعمه المتواترة الواردة علينا مدّة أعمارنا الّتي عمرناها، بل لم نفقدها في آن من الآنات و حين من الاحيان، و أخذنا مدّة العمر من مائدة إنعامه مأكولنا و مشروبنا و ملبوسنا، و مع ذلك لا يظهر فينا رجاء صادق لربّنا، فالقلوب كما قال أمير المؤمنين عليه السّلام على ما ببالي روايته: «قاسية عن حظّها، لاهية عن رشدها، سالكة في غير مضمارها »(1).

ص: 497


1- نهج البلاغة، خ 83، ص 111.

و منها انصراف محبّته و بغضه عمّا ينبغي حبّه و بغضه بحسب المزاج الصحيح، و حبّه و بغضه من لا ينبغي حبّه و بغضه بحسب الفطرة الاصليّة. و ذلك بأن لا يحبّ من به بقاء نفسه و كماله، و كلّ شيء يتعلّق به، و المحسن إليه بأنواع غير متناهية، و المحسن إلى جميع من سواه، و من كان حسن الفعل بعنوان مطلق و الجميل بقول مطلق، و الّذي يحبّه من دون حاجة إليه الرءوف الرحيم به، و هو اللّه سبحانه؛ و يحبّ من سواه ممّن ليس فيه شيء منها على الحقيقة، و لا يبغض الشيطان المضرّ له بقول مطلق، العدوّ له القبيح، فيتولاه بقلبه و يتبعه بأعماله. و كذا حبّ الكمالات المعنويّة و الافعال المستحسنة عقلا، و من كان متّصفا بتلك الكمالات، فانّ فقدانه دليل على آفة القلب خصوصا بعد صرفه إلى أضدادها، مع أنّه ينبغي له بغضها.

و مثاله في الجسد: مثال من لا يحبّ الطعام اللّذيذ الملائم، و يحبّ الغذاء المرّ الغير الملائم، إلى غير ذلك.

و هذا ذكر إجماليّ على طريقة علم الاخلاق، و التفصيل موكول إلى ذلك الفنّ.

فنرجع إلى ما نحن فيه و نقول:

إنّ المرض الّذي استقرّ في قلوب هؤلاء المنافقين يمكن أن يكون هو السبب الموجب لفقدان الايمان عنهم من الحالة المخرجة لقلوبهم عن التصديق بعد قيام السبب القويّ الظاهر، أو الباعثة لها على الجحود الباطنيّ و العناد و اللّجاج في موضع يقتضي الفطرة الاصليّة التسليم و الانقياد و القبول، و ذلك كالغلّ و الحسد و البغضاء، كما حكي (1): «أنّ صدورهم كانت تغلي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين غلاّ و خنقا، و يبغضونهم البغضاء الّتي وصفها اللّه سبحانه في كتابه:

«قَدْ بَدَتِ الْبَغْضٰاءُ مِنْ أَفْوٰاهِهِمْ وَ مٰا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ » (2) ،و يتحرّقون عليهم

ص: 498


1- راجع الكشاف، ج 1، ص 32.
2- آل عمران/ 118.

حسدا، أو الضعف و الجبن و الخور الّتي دخلت قلوبهم، أو الهوى الّذي ملك قلوبهم. و العصبيّة و الحميّة الجاهليّة، و الكبر و العجب و الخيلاء الّتي منعتهم من قبول نبوّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.» و تلك الامور كما تمنع عن قبول الحقّ بعد ظهوره على القلب، كذلك قد تمنع من ظهور الحقّ عليه أيضا، فانّ حبّ الشيء يعمي و يصمّ، و مثل الحبّ غيره، و هو واضح بعد دقّة النظر فيما نجده من أنفسنا و غيرنا و كون الهوى شريك العمى على بعض وجوهه يشهد له.

و على ما ذكر فزيادة اللّه أمراضهم يصحّ أن يؤخذ باعتبار إيجاد الاسباب الموجبة لشدّته؛ كاعطاء ما أعطى سبحانه نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله من الملك و الحشمة و قوّة الاسلام الموجبة لشدّة ظهور الحسد و الغلّ و البغضاء و فعليّتها، و ظهور آثار ما في قلوبهم من الحميّة و الكبر و غيرهما، و أن يؤخذ باعتبار ما جعل اللّه سبحانه في جميع القوى و الحالات من أنّها تزداد بالاعمال و تنقض بالاهمال كما سبق. و مرّ أيضا ما يمكن استخراج غير هذين الوجهين في المقام أيضا.

[في أنّ مرض القلب يوجب النفاق]

ثمّ إن سائر أقسام النفاق بمعنى مخالفة الظاهر للباطن على ما سبق أيضا ملازم لوجود المرض في القلب يوجب فقدان الايمان و إحداث النفاق، و يزيد اللّه في مرضهم، إمّا بالامتحانات المظهرة له و المخرجة له من القوّة إلى الفعل و من الباطن إلى الظاهر، أو غيره ممّا يظهر بالمقايسة إلى ما مرّ. و قد اجتمع فيهم صنفان من المرض: صنف يمنع من تحقّق حقيقة شئون الايمان فيهم - و قد مرّت الاشارة إليه - و صنف يبعثهم على إظهار شئون الايمان من حبّ الجاه و الطمع في أموال الناس، و حبّ المدح و خوف الذمّ و مهانة النفس و إظهار ما ظهر في المخلصين، و أزيد منه حسدا على ممدوحيّتهم دون هؤلاء، أو إرادة إظهار

ص: 499

نقصانهم، و أنّهم أعلى منهم. و كما أنّ هؤلاء المنافقين كانت تغلي قلوبهم حسدا على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كذلك هؤلاء يحسدون الصادقين فيما أعطاهم اللّه و منحهم.

[في معنى الاليم و وجوه توصيف العذاب به]

وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ بِمٰا كٰانُوا يَكْذِبُونَ

«في قولهم (1):إنّا على البيعة و العهد مقيمون» كذا عن الكاظم عليه السّلام في ذيل ما تقدّم سابقا(2).

و «الاليم» هنا إمّا بمعنى: المولم الموجع، أو بمعناه الاصليّ، و يكون التوصيف توسّعا كما في جدّ جدّه. و الالم بالحقيقة للمولم بالفتح، كما أنّ الجدّ للجادّ و في كلا الوجهين دلالة على المبالغة؛ إذ العذاب يلزمه الايلام و الايجاع، فوصفه بكونه مولما يدلّ على مبالغة في إيلامه و إيجاعه، كما يظهر من نظائره، و كذا وصفه بأنّه أليم فكأنّه لشدّة إيلامه متألّم بنفسه؛ كوصف الجاهليّة بالجهلاء. و لعلّه تنبيه على كون عذاب المنافقين أشدّ من الكفار، كما يوافقه قوله سبحانه: «إِنَّ الْمُنٰافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النّٰارِ » (3).

و ذلك لأنّهم زادوا على الكفر الباطنيّ المشترك بين الطائفتين كذبا، فثبوت ذلك العذاب الاليم للمنافقين من جهة كذبهم في دعوى الايمان، و هذا على قراءة التخفيف ظاهر، و أمّا على قراءة التشديد فالظاهر إرادة تكذيبهم ما ينبغي الايمان به؛ كآيات اللّه، و كلمة التوحيد و الرسالة، و إن احتمل فيه أن يكون من «كذّب» الّذي هو مبالغة في كذب؛ كصدّق و صدق، و بان و بيّن، أو بمعنى

ص: 500


1- في المخطوطة: «قلوبهم».
2- راجع المصادر المذكورة في تعليقة 2 ص 487.
3- النساء/ 145.

الكثرة نحو: موّتت البهائم. و عليهما يطابق قراءة التخفيف، فيدلّ الآية على تعليل ثبوت العذاب الاليم بالكذب الصادر منهم بعد اشتراكهم في مرض القلب و الكفر. و فيه دلالة على قبح الكذب و سماجته حيث علّل به ثبوت العذاب الاليم، مع ما هم عليه من الكفر في الباطن. و نظيره قوله سبحانه: «مِمّٰا خَطِيئٰاتِهِمْ أُغْرِقُوا» (1)

حيث علّل الغرق بالخطيئات إن أريد بها ما سوى الكفر.

و كما أنّ هؤلاء المنافقين زادوا على الكفر و المرض المانع للايمان كذبا استحقّوا به عذابا أليما على ما سبق، كذلك سائر أقسام المخادعين و المنافقين زادوا على انتفاء أغصان الايمان و التشبّث بأغصان الكفر المقابل لتلك الاغصان كذبا قوليّا أو عمليّا، فصار سببا لاستحقاق زيادة العذاب و الالم بذلك.

[في مراتب قبح الكذب]

و الكذب و إن كان عبارة عن الاخبار بالشيء على خلاف ما هو به، و الحكاية المخالفة للواقع لفظا، إلاّ أنّه لا يبعد سراية القبح الموجود فيه إلى سائر أفراد الاظهار المخالف للواقع، و إغراء الناس بالجهل، و الاتيان بما يدلّ على أمر يخالف الواقع بأيّ دلالة كانت، و أيّ آلة أظهرت، و إن كان في الاظهار بالكلام أقوى لقوّة دلالته، و كون الترجمان الاصليّ هو اللّسان. و لا يبعد وصوله في بعض المراتب إلى حدّ الحزازة بحيث يخرج عن صدق اسم القبح عليه، فيكون القبح قويّا في بعض الاظهارات، و ضعيفا في بعضها، و منتفيا صدقه في آخر و إن بقي الحزازة و شائبة ما منه، فتأمّل.

ص: 501


1- نوح/ 25.

[تحقيق حول الفساد و جواب المنافقين في منعهم عن الافساد]

وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمْ لاٰ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ [قٰالُوا إِنَّمٰا نَحْنُ مُصْلِحُونَ]

عن الامام عليه السّلام أنّه قال العالم موسى عليه السّلام أنه:

«إذا قيل لهؤلاء الناكثين البيعة في يوم الغدير: «لاٰ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ» باظهار نكث البيعة لعباد اللّه المستضعفين، فتشوّشوا عليهم دينهم، و تحيرونهم في دينهم و مذاهبهم.

«قٰالُوا إِنَّمٰا نَحْنُ مُصْلِحُونَ » ؛لأنّا لا نعتقد دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و لا غير دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و نحن في الدين متحيّرون، فنحن نرضى في الظاهر محمّدا باظهار قبول دينه و شريعته، و نقضي في الباطن على شهواتنا فنتمتّع و نتركه و نعتق أنفسنا من دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و نكفّها من طاعة عليّ عليه السّلام لكي لا نذلّ في الدنيا، كما قد توجّهنا عنده، و إن اضمحلّ أمره كنّا قد سلّمناه على أعدائه »(1).

أقول:

يحتمل كون جملة: «إذا قيل - الخ» معطوفا على «يكذبون»؛ أي: و لهم عذاب أليم بما كانوا إذا قيل لهم كذا قالوا كذا، و أن يكون معطوفا على «يقول» أي: و من الناس من إذا قيل لهم، و أن يكون الواو للاستيناف، و استوجه الاوّل

ص: 502


1- راجع المصادر المذكورة فى تعليقة 2 ص 487.

بعضهم، و يضعّفه أنّه على تقديره لا يكون الآيات على سنن تعديد قبائحهم، و إفادة اتّصافهم بكلّ من الاوصاف المذكورة قصدا و استقلالا، و هو الاوّل بحسب ملاحظة مساق الآيات.

[في معنى الفساد]

و «الفساد»: خروج الشيء عن حال استقامته و كونه منتفعا به، و نقيضه:

الصلاح، و هو الحصول على الحالة المستقيمة النافعة، كما يظهر من جماعة(1).

و ذكر بعضهم أنّ: «الفساد في الارض هيج الحروب و الفتن؛ لأنّ في ذلك فساد ما في الارض، و انتفاء الاستقامة عن أحوال الناس و الزروع و المنافع الدينيّة و الدنيويّة... و كان فساد المنافقين في الارض أنّهم كانوا يماثلون الكفّار، و يمالئونهم على المسلمين بافشاء أسرارهم إليهم و إغرائهم عليهم، و ذلك ممّا يؤدّي إلى هيج الفتن بينهم »(2).

و قيل: «هو مداراة المنافقين الكافرين و مخالطتهم إيّاهم حيث يوهم ذلك منهم - مع كون ظاهرهم الايمان - ضعف أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه، فيصير سببا لطمع الكفّار في المؤمنين، فتهيج الفتن و الحروب».

و قيل: كانوا يدعون في السرّ إلى تكذيبه، و يلقون الشبه».

و عن ابن عبّاس و الحسن و قتادة و السدّي: «أنّ المراد بالافساد المنهيّ عنه إظهار معصية اللّه تعالى، فانّ الشرائع سنن موضوعة بين العباد، فاذا تمسّك الخلق بها زال العدوان و لزم كلّ أحد شأنه، فحقنت الدماء و ضبطت الاموال و

ص: 503


1- كالطبرسي (ره) و الزمخشري و البيضاوي، فراجع مجمع البيان، ج 1، ص 49؛ و الكشاف، ج 1، ص 33؛ و أنوار التنزيل، ص 13.
2- راجع الكشاف، ج 1، ص 33.

حفظت الفروج، فكان ذلك صلاح الارض و أهلها؛ أما إذا أهملت الشريعة، و أقدم كلّ أحد على ما يهواه اشتعلت نوائر الفتن من كلّ جانب، و حدثت المفاسد».

و الحمل على المجموع أيضا ممكن؛ إذ لم يعلم من الآية إرادة فساد خاصّ منهم، بل لا يبعد من حالهم أن لا يتركوا ممّا يوجب الفساد عند قدرتهم و تيسّره لهم، فلعلّ من جملتها ما ذكرتها، و من جملتها ما سبق في الرواية من إظهار نكث البيعة، و من جملتها ما تعاهدوا عليه من غصب الخلافة، و أن لا يتركوا الحقّ لأهله إلى غير ذلك.

ثمّ الظاهر من جوابهم للناصحين دعوى تمحّضهم لصفة الصلاح بحيث لم يبق فهيم من الفساد شيء، و ذلك يمكن أن يكون لأجل أنّهم لا يرون ما يضرّ بالاسلام و أهله فسادا، و يمكن أن يكون خداعا منهم لإخفاء فسادهم عن الناصحين، و إنكار صدور الفساد منهم.

[كيفية إفساد المنافقين]

ثمّ لا يخفى عليك أنّ الفساد في الارض، و عدم قبول نصح الناهي عنه، و دعوى انحصار شأنهم في الاصلاح ليس مقصورا على هؤلاء المنافقين، بل هو صفة سائر المنافقين المظهرين لخلاف بواطنهم أيضا، فانّ المتكلّفين لاظهار شئون الايمان من دون حقيقة يفسدون في الارض حيث يراهم الناس كاملين في الايمان، فاذا صدر منهم أمور غير لائقة بحال الايمان لكون المتكلّف لا يقدر على ملازمة تكلّفه في جميع الامور و الاحوال، ظنّ الناس أنّها أمور دينيّة أو غير مضرّة بالدين، أو صار سببا لوهن قبحها العقليّ أو الشرعيّ في أنظار العامّة، و تجرّيهم عليها و على نظائرها.

ثمّ إنهم ليصدر منهم فتاوى و أحكام و مواعظ و آداب باطلة مخالفة للشريعة، و يقبله

ص: 504

الناس منهم لما رأوا من ظواهرهم، فيفسدون عليهم امور دينهم، و فيه فساد الارض كما سبق، بل الظاهر تأثير جملة منها في منع السماء قطرها، و الارض بركتها، كما ربّما يستفاد من الاخبار (1).و كذا حسدهم على المخلصين يؤدّيهم إلى ايذائهم و إهانتهم، و ردّ كلامهم، و المنع من قبول الناس قولهم و غير ذلك، فيؤدّي إلى الفساد؛ بل لا يبعد استناد معظم المفاسد الّتي وقعت في الاسلام إلى هؤلاء المتصنعون المظهرون للعلم أو العمل من دون حقيقة، كما لا يخفى على من مارس أخبارهم(2).

و هؤلاء إذا نصحهم ناصح أنكروا نسبة الفساد إلى أنفسهم أشدّ إنكار، بل إذا قيل لأحدهم: اتّق اللّه، أخذته العزّة بالاثم (3) ،و يبالغون في دعوى الاصلاح و سائر الكمالات.

[في أنّ قلب المفسد لا يتأثّر بالنّصيحة]

ثمّ لا يخفى عليك أنّ أرض القلب أيضا من الاراضي الّتي لا ينبغي إفسادها، بل هي أوسع من هذه الاراضي. و أعظم أسباب فسادها هو اتّباع الدواعي الّتي

ص: 505


1- كقول الصادق - عليه السلام - حيث أفتى أبو حنيفة فيما جرى بين أبي ولاد الحناط و صاحب البغل و قضى بينهما بالجور و الظلم، قال - عليه السلام -: «في هذا القضاء و شبهه تحبس السماء ماءها، و تمنع الارض بركتها...» و قد نقل بتمامه الشيخ حر العاملي (ره) في الوسائل، ج 13، باب 17 من أبواب الاجارة، ص 255 عن الكليني و الشيخ (ره)، فراجع.
2- راجع كتب التراجم و التواريخ، و قد توجد فيها كثير من المفاسد و البدع التي أظهروا في الدين بعد وفاة النبي - صلّى اللّه عليه و آله - و خصوصا في زمان غصب الخلافة.
3- مأخوذ من آية 206 من سورة البقرة، و هي: «وَ إِذٰا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّٰهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ...»

توجب إظهار مقامات دينيّة ليست متحقّقة بها بقول أو عمل ظاهري، أو تكلّف حال لا يوافقه القلب مظهرا له على صورة الواقعيّة، تلبيسا على نفسه أو على النّاس.

و هذا القسم من المفسدين لأراضي قلوبهم إذا ورد عليهم نصيحة ناصح يردعهم عن إفساد قلوبهم، و يبعثهم على إصلاحها، أنكروا ذلك أشدّ إنكار، و أظهروا انحصار شأنهم في إصلاح بواطنهم، بخلاف الّذين لا يظهرون مقامات دينيّة، فانّهم ربّما يتأثّرون باستماع المواعظ و يقبلونها إن لم يكن المرض قويّا متمكّنا في قلبهم، و إن لم يقبلوا لم يدعوا حموضة شأن الاصلاح لهم؛ إذ ليسوا بصدد إظهار مقامات الدين بالخداع و التلبيس. فنظير الجواب و السؤال المذكور عن المنافقين جار فيهم كما لا يخفى.

[عدم العمل بمقتضى الولاية موجب للفساد]

ثمّ لا يخفى أنّ نظير حال هؤلاء الناكثين لبيعة أمير المؤمنين عليه السّلام من إظهار نكث البيعة للضعفاء، و صيرورتهم سببا لتشويش أمر دينهم، و تحيّرهم في مذاهبهم، و عدم اعتقادهم صحّة الدين، و اقتصارهم في إظهار الدين، و قضائهم في الباطن شهواتهم، و إرادتهم عتق أنفسهم من الدين، و الفرار من ذلّ الطاعة، يجري في هؤلاء المظهرين لقبول الولاية، و التاركين للتحقّق بها في بواطنهم و ظواهرهم، حيث أنّ ما يظهر منهم ممّا يخالف مقتضى المتابعة و الائتمام الحقيقي، يصير سببا لتشويش أمر الدين، و تحيّر المستضعفين حيث يحسبون أنّه لو لم يكن خيرا ما فعله هؤلاء الشيعة، و الطبيعة مجبولة على التقليد و ملاحظة أفعال أبناء نوعه و صنفه، و من حيث أنّهم لا يعتقدون صحّة الدين اعتقادا باتّا مؤثّرا في أحوال القلب و تغيير صفاته و أحواله و أفعاله، بل يقتصرون على أمور ظاهرها عبادات و باطنها عادات، و أمثال ذلك من الأعمال الظاهريّة، و لا يطلبون في بواطنهم حقائق الأخلاق و

ص: 506

الاحوال و الاخلاص، و التوجّه التامّ، و الاعمال الخفيّة الّتي لا يطّلع عليها إلاّ اللّه سبحانه، و تكميل المعرفة، فهم يقضون في الباطن شهواتهم، و لا يدعون أهوية أنفسهم، فليسوا أسراء إيمان في بواطنهم، بل يفرّون عن ذلّ حقيقة العبوديّة في الباطن.

فتدبّر هذه الاحوال في نفسك و حاسبه، و اترك حال غيرك، و راقب أمر نفسك، فان لم تجد شيئا من هذه الخلال فيها، فكرّر النظر، و أنعم الفكر، فانّ النفس خدّاعة غرّارة، و إن كان فيها، فبادر الحذر و التخلّص؛ و اللّه المستعان.

ص: 507

[تأكيد لافساد المنافقين]

[أَلاٰ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لٰكِنْ لاٰ يَشْعُرُونَ ] أَلاٰ إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ بما يفعلون [من] أمور أنفسهم؛ إنّ اللّه تعالى يعرّف نبيّه صلّى اللّه عليه و آله نفاقهم، فهو يلعنهم، و يأمر المسلمين بلعنهم أيضا، و لا يثق بهم أعداء المؤمنين؛ لأنّهم يظنّون أنهم ينافقونهم أيضا كما ينافقون أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله، فلا يرتفع لهم(1) عندهم منزلة، و لا يحلّون عندهم بمحل الثقة (2).كذا عنه عليه السّلام في تتمّة ما سبق.

و يحتمل أن يكون ذكر خصوص فساد أمور أنفسهم من باب ذكر أحد الافراد، و يكون المعنى أنّهم هم المفسدون بقول مطلق، فيعمّ إفساد أمرهم و أمر سائر الناس عليه، فهو ردّ و تكذيب لما ذكروه من حصر حال أنفسهم في الاصلاح أبلغ ردّ، و أحسن و آكد تكذيب حيث قوبل ذلك الدعوى باثبات الافساد المطلق لهم، مع ما ذكر من وجود أسباب المبالغة فيه من جهة الاستيناف، و ما في كلتا الكلمتين ألا و إنّ من التأكيدين، و تعريف الخبر، و توسيط الفصل، و قوله سبحانه: «وَ لٰكِنْ لاٰ يَشْعُرُونَ » .بل ربّما يستفاد منها انحصار المفسدين فيهم، و أيضا لا ينحصر إفساد أمر أنفسهم بالوجه المذكور، بل صلاح أمرهم في العاجل و الآجل في الايمان و التسليم و الوفاء بالبيعة لو كانوا يشعرون بمصالح أمورهم.

و إجراء نظير هذا الكلام في غيرهم يظهر بالنظر فيما سبق من البيان.

ص: 508


1- في المخطوطة: «عليهم».
2- راجع المصادر المذكورة في تعليقة 2 ص 487.

[تحقيق حول الايمان و النّاس و السّفاهة]

وَ إِذٰا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمٰا آمَنَ النّٰاسُ [قٰالُوا أَ نُؤْمِنُ كَمٰا آمَنَ السُّفَهٰاءُ أَلاٰ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهٰاءُ وَ لٰكِنْ لاٰ يَعْلَمُونَ ] عن الكاظم عليه السّلام:

«و إذا قيل لهؤلاء الناكثين البيعة - قال لهم خيار المؤمنين؛ كسلمان و المقداد و أبي ذرّ و عمّار -: آمنوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بعليّ عليه السّلام، الّذي أوقفه(1) موقفه، و أقامه مقامه، و أناط مصالح الدين و الدنيا كلّها به، فآمنوا بهذا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و سلّموا لهذا الامام، و سلّموا لظاهره و باطنه كما آمن الناس المؤمنون؛ كسلمان و المقداد و أبي ذرّ و عمّار، قالوا في الجواب لمن يفضون إليه لا لهؤلاء المؤمنين، لأنّهم لا يجسرون على مكاشفتهم بهذا الجواب، و لكنّهم يذكرون لمن يفضون إليه من أهليهم الّذين يثقون بهم [من المنافقين و من المستضعفين و من المؤمنين الذين هم بالستر عليهم واثقون بهم] يقولون لهم: «أَ نُؤْمِنُ كَمٰا آمَنَ السُّفَهٰاءُ» يعنون: سلمان و أصحابه لمّا اعطوا عليّا خالص ودّهم و محض طاعتهم، و كشفوا رءوسهم لموالاة أوليائه و معاداة أعدائه، حتّى إذا

ص: 509


1- في المخطوطة: «وقفه».

اضمحلّ أمر محمّد صلّى اللّه عليه و آله طحطحهم(1) أعدائه، و أهلكهم سائر الملوك و المخالفين لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله؛ أي: فهم بهذا التعرّض لأعداء محمّد صلّى اللّه عليه و آله جاهلون سفهاء؛ قال اللّه عزّ و جلّ:

«أَلاٰ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهٰاءُ وَ لٰكِنْ لاٰ يَعْلَمُونَ» الاخفاء العقول و الآراء، الّذين لم ينظروا في أمر محمّد صلّى اللّه عليه و آله حقّ النظر فيعرفوا نبوّته و يعرفوا به صحّة ما ناطه بعليّ عليه السّلام من أمر الدين و الدنيا، حتّى بقوا لتركهم تأمّل حجج اللّه جاهلين، و صاروا خائفين وجلين من محمّد صلّى اللّه عليه و آله و ذويه(2) و من مخالفيهم، لا يؤمنون أنّه ينقلب فيهلكون معه، فهم السفهاء [حيث] لم يسلم بنفاقهم هذا لا محبّة المؤمنين و لا محبّة اليهود و سائر الكافرين، و هم يظهرون لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله موالاته و موالاة أخيه عليّ عليه السّلام، و معاداة أعدائهم اليهود و النواصب، كما يظهرون لهم من معاداة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و علي عليه السّلام »(3).

[من المخاطب في الآية و من المراد من النّاس؟]

أقول: يحتمل أن يكون ذكر خصوص الناكثين في تفسير هذه الآية و عدّة من الآيات السابقة و اللاحقة بيانا لتنزيلها، و أنها نزلت في شأنهم بالخصوص و إن جرت في غيرهم ممّن يشاركهم على القاعدة المتقدّم إليها الاشارة في المقدّمات(4) ،

ص: 510


1- طحطح: كسر و فرق و بدد إهلاكا (قاموس).
2- خ. ل: و أصحابه.
3- تفسير الامام - عليه السلام -، ص 44 و 45؛ و البحار، ج 37، باب في أخبار الغدير، ص 147 و 148، ح 36؛ و البرهان، ج 1، ص 62.
4- ص 64-72.

و أن يكون ذكرا لتأويلها و بيانا لاجرائها عليهم في مقدّمة البيعة و قبول الولاية، و إجراء للآيات بتمام ما فيها فيما فعلوه، و إثباتا لمساواتهم للمنافقين الّذين وردت في شأنهم الآيات في جهات الشناعة و القباحة، و تطبيقا بينهم و بين هؤلاء في مدلول الآيات.

و الاوّل و إن كان أقرب بظاهر لفظ الرواية على ما يتراءى منها، لكنّ الثاني أقرب بملاحظة بعض القرائن الخارجيّة، و ملاحظة كثرة ذكر التأويل في مقام يتراءى منه كونه تنزيلا و تفسيرا و بيانا للنزول على الظاهر فيها، و إن جرى مثل الاحتمال الاوّل في جملة منها أيضا.

و حينئذ فنقول: كأنّ القائلين الناصحين لهم نصحوهم تارة بنهيهم عن المنكر، و ردعهم عن الفساد بتقبيحهم ما كانوا يفعلون، فأنكروا ذلك في شأنهم و بالغوا في دعوى خلافه، و أخرى أمرهم بالمعروف، و تبصيرهم طريق الخير، و دعوتهم إلى الطريقة المثلى من متابعة هؤلاء المؤمنين في الايمان، فرموهم بالسفاهة لفرط سفههم، و في ذلك تسلية للعلماء و المؤمنين و أهل الكمال مما يلقى من الجهلة و الفجّار و فاقدي الكمال.

و «ما» في «كما» إمّا مصدريّة كما في قوله: «بِمٰا رَحُبَتْ » (1) ،أو كافّة تصحّح دخول الجارّ على الفعل، فيكون مفاد الكلام تشبيه الجملة بالجملة. و على الوجهين فلا يبعد أن يكون مراد الناصحين بعثهم على إيمان مشابه لايمان الناس و مماثل لهم لا التشبيه في أصل الايمان. و حينئذ فالمراد بالناس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و من معه، و هم ناس معهودون أو الكاملون في الانسانيّة، الّذين آمنوا بألسنتهم و قلوبهم، فيطابق الاوّل مصداقا، بل ربّما يكون أخصّ منه، كما ورد في الحديث على ما ببالي:

ص: 511


1- التوبة/ 25 و 118.

«نحن الناس، و شيعتنا أشباه الناس، و سائر الناس نسناس »(1).

و قد فسّر «الناس» في بعض الآيات - أيضا بهم عليهم السّلام(2) على ما ببالي.

و حينئذ فلعلّ في الآية إشارة إلى قبول الولاية و متابعة الاولياء، و التشبّه بهم و الاقتداء بطريقتهم.

و أمّا احتمال إرادة «عبد اللّه بن سلام» و أضرابه ممّن كانوا على طريقة أهل الكتاب فآمنوا، فهو غير ظاهر الوجه؛ و حينئذ فيندرج في الآية جميع مراتب الايمان من قبول التوحيد و الرسالة و الولاية و غيرها اعتقادا و التزاما و تخلّقا بموجبها، و إخلاصا و عملا على ما سبق في بيان الايمان لاندراج جميع تلك الشئون في المشبّه

ص: 512


1- فانظر رواية حسين بن علوان، عن جعفر، عن أبيه، عن جده، عن عليّ - عليهم السلام - رواه الفرات (ره) فى تفسيره، ص 8، و هي: «قال: قام رجل إلى علي عليه السلام - فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن الناس و أشباه الناس و النسناس. قال: فقال علي - عليه السلام -: أجبه يا حسن. فقال له الحسن - عليه السلام -: سألت عن الناس فرسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله - الناس: لأن اللّه يقول: «ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفٰاضَ النّٰاسُ» (البقرة/ 199) و نحن منه. و سألت عن أشباه الناس، فهم شيعتنا، و هم منا و هم أشباهنا. و سألت عن النسناس، فهم هذا السواد الاعظم.» و السواد من الناس كما قال الفيروزآبادي عامتهم. و كذا روايات رواها أساطين المشايخ كالكليني، و الصفار، و الشيخ، و العياشي و غيرهم - رحمهم اللّه تعالى أجمعين - في الكافي، و البصائر، و الامالي، و تفسير العياشي و غيرها، عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه - عليهما السلام - في تفسير آية: «فَإِذاً لاٰ يُؤْتُونَ النّٰاسَ نَقِيراً * أَمْ يَحْسُدُونَ النّٰاسَ عَلىٰ مٰا آتٰاهُمُ اللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ...» (النساء/ 53 و 54) قالا: «نحن الناس». فراجع البرهان، ج 1 ص 375-379 و أيضا رواية رواها ابن المغازلي في المناقب، ص 267، ح 314، عن جابر، عن أبي جعفر - عليه السلام - في تفسير الآية المتقدمة؛ و ابن حجر الهيثمي في الصواعق، ص 150؛ و الشيخ سليمان القندوزي في ينابيع المودة، ص 121، كلاهما عن طريقه، قال - عليه السلام -: «نحن الناس».
2- فانظر رواية حسين بن علوان، عن جعفر، عن أبيه، عن جده، عن عليّ - عليهم السلام - رواه الفرات (ره) فى تفسيره، ص 8، و هي: «قال: قام رجل إلى علي عليه السلام - فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن الناس و أشباه الناس و النسناس. قال: فقال علي - عليه السلام -: أجبه يا حسن. فقال له الحسن - عليه السلام -: سألت عن الناس فرسول اللّه - صلّى اللّه عليه و آله - الناس: لأن اللّه يقول: «ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفٰاضَ النّٰاسُ» (البقرة/ 199) و نحن منه. و سألت عن أشباه الناس، فهم شيعتنا، و هم منا و هم أشباهنا. و سألت عن النسناس، فهم هذا السواد الاعظم.» و السواد من الناس كما قال الفيروزآبادي عامتهم. و كذا روايات رواها أساطين المشايخ كالكليني، و الصفار، و الشيخ، و العياشي و غيرهم - رحمهم اللّه تعالى أجمعين - في الكافي، و البصائر، و الامالي، و تفسير العياشي و غيرها، عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه - عليهما السلام - في تفسير آية: «فَإِذاً لاٰ يُؤْتُونَ النّٰاسَ نَقِيراً * أَمْ يَحْسُدُونَ النّٰاسَ عَلىٰ مٰا آتٰاهُمُ اللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ...» (النساء/ 53 و 54) قالا: «نحن الناس». فراجع البرهان، ج 1 ص 375-379 و أيضا رواية رواها ابن المغازلي في المناقب، ص 267، ح 314، عن جابر، عن أبي جعفر - عليه السلام - في تفسير الآية المتقدمة؛ و ابن حجر الهيثمي في الصواعق، ص 150؛ و الشيخ سليمان القندوزي في ينابيع المودة، ص 121، كلاهما عن طريقه، قال - عليه السلام -: «نحن الناس».

به، و تعلّق الدعوة بخصوص الايمان المشابه لايمانهم و المماثل له، فيجري هذا القول في كلّ ناصح يدعوا إلى شأن من شئون الايمان، خصوصا في الاقتداء بالائمّة عليهم السّلام و التأسّي بهم كما أشرنا إليه، بل يندرج سائر الافراد فيه؛ لأنّ الاقتداء بهم ظاهرا و باطنا و التسليم لهم في جميع المراتب و المقامات مشتمل على جميع شعب الايمان، و لا يخرج منها شيء أبدا؛ إذ لو خرج منه شيء لكان إمّا لنقصان في المقتدى به من حيث الدين و الايمان. و هم عليهم السّلام أرفع شأنا من أن ينسب إليهم ما يوهم النقص، أو لوقوع المخالفة بين المأموم و الامام بفقدان المأموم و إهماله ما تحقّق في الامام، فهو غير مقتدى به في ذلك، و مخالف للأمر بالاقتداء المطلق.

و ربّما يومي إلى ذلك ما ذكر في الرواية السابقة من قوله: «و سلّموا لهذا الامام، و سلّموا لظاهره و باطنه كما آمن الناس المؤمنون».

و حينئذ فكلّ ناصح في أمر الدين إنّما ينصح و يدعو إلى الولاية و الائتمام بهم عليهم السّلام، و هو الايمان كلّه.

[في معنى السّفاهة و من هم السّفهاء؟]

ثمّ إنّ هؤلاء المنصوحون قالوا لأصحابهم لا لهؤلاء الناصحين على ما في الرواية، أو قالوا للناصحين سرّا عند أمنهم على ما هو أقرب إلى ظاهر لفظ الآية على وجه الانكار: «أَ نُؤْمِنُ كَمٰا آمَنَ السُّفَهٰاءُ ؟» .

و السفاهة سخافة العقل و خفّة الحلم، فنسبوهم إلى السفاهة، و استنكفوا عن متابعتهم و موافقتهم. و هذا شأن كلّ من خالف المؤمنين في كلّ مرتبة من المراتب، فالمنكرون للاسلام رأسا يعدّون المسلمين سفهاء خصوصا في ذلك العصر الاوّل حيث يظنّون أنّ أمر الاسلام لا يثبت، و ينقلب الامر على المسلمين، و يرد على المتشمّرين لاقامة الدين و الثابتين فيه المكروهات كلّها من طرف أعدائهم،

ص: 513

كما ربّما يظهر من الرواية، و لغير ذلك من حيث إعراضهم عن النعم التي كانوا فيها، و إقدامهم على المهالك، و إنفاقهم الاموال، و صبرهم على ما كان ينالهم من الشدائد و المكروهات، و نهاية التذلّل و الانقياد للاسلام و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ظاهرا و باطنا بعد كون ذلك لغير داع صحيح في نظر هؤلاء المنكرين المنافقين، و إنكارهم أن يكون للدين أصل و حقيقة، فيكون كلّ ذلك بحسب طريقتهم و حسبانهم خاليا عن فائدة و عائدة إن كانوا منكرين اعتقادا، و إن كانوا جاحدين عن علم.

فيمكن أن يكون نسبة السفاهة لأجل تحمّلهم شدائد الدنيا و غيرها للآخرة، مع أنّ الدنيا أرجح في نظرهم، أو لأجل كون ذلك جحودا لكمال عقلهم و مرتبتهم، كما جحدوا أصل الايمان.

و مثله الكلام في منكري الولاية اعتقادا و جحودا، كما يظهر من الرواية السابقة، و يعرف التفصيل بالمقايسة، و يجري نظيره في الفسّاق المنهمكين في فسقهم بالنسبة إلى المتّقين، فانّهم يرونهم سفهاء في إعراضهم عن الشهوات المحرّمة و المشتبهة و المكروهة و المباحة على حسب درجاتهم، و إقدامهم على العبادات الواجبة و المندوبة، و ترك الحيل المحرّمة و غيرها على حسب درجاتهم في التقوى، كما يصدر منهم كثيرا كلمات تدلّ على أذاهم و تحقير شأنهم و الاستهزاء بهم. و هذا طريقة أهل الدنيا مع أهل الآخرة؛ كأنّهم يزعمون أنّ هؤلاء لم يفهموا و لم يدركوا لذّات ما هم منهمكين فيه، أو لم يهتدوا إلى تحصيلها سبيلا.

ثمّ يجري نظيره في أهل الآخرة في كلّ مرتبة بالنسبة إلى ما فوقها، فالعابد بالجوارح يرى العابد بالمجاهدة و الرياضة الباطنيّة سفيها؛ إذ لم يصل إلى ذلك المقام، و لم يدرك منافعها و مصالحها، و كذا حال العابدين بالنسبة إلى العارفين.

و بالجملة فكلّ ناقص عن نيل مقام و عن إدراك ذلك المقام يرى عمل أهل

ص: 514

ذلك المقام خارجا عن ميزان السداد و الاستقامة، إلاّ إذا لم يكن واقفا على حدّ علمه و معرفته، مذعنا بأنّ فوقه مقامات لم يصل إليه، أو كان مدركا لذلك المقام علما و إن نقص عنه بالحال و العمل.

و يشهد لبعض ذلك ما ذكره أمير المؤمنين عليه السّلام في صفة المتّقين على ما في النهج من قوله عليه السّلام على ما ببالي:

«و يقولون: قد خولطوا، و لقد خالطهم أمر عظيم »(1).

و غير ذلك.

ثمّ إنّ اللّه سبحانه ردّ عليهم قولهم بقوله: «أَلاٰ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهٰاءُ » ،المشتملة على تأكيدات على ما يظهر بالمقايسة إلى ما ذكر في الآية السابقة.

ثمّ إنّ إدراك الناقصين و الفاقدين ما لأجله كان عمل هؤلاء صحيحا مطابقا للعقل و الرشاد موقوف على حصول العلم بحقيقة ما هم عليه من الايمان، فكأنّ التعبير ب «لاٰ يَعْلَمُونَ» أولى من «لاٰ يَشْعُرُونَ» بخلاف الآية السابقة؛ إذ الفساد الصادر منهم في الارض أمر قريب من الاحساس و الشعور، فكأنّ التعبير بالشعور أولى.

ثمّ إنّه يجري نظير الآية في العلماء بالاكتساب بالنسبة إلى أهل المعرفة و الدراية، فيعدّونهم سفهاء لخروج كلماتهم عن ميزان أدلّتهم و قياساتهم، و بالنسبة إلى ناقصي العلم بالنسبة إلى الكاملين فيه إذا تجاوز كلامهم عن مرتبة أفهامهم و تصوّراتهم، و وقوع البينونة التامّة بينهم، و كذا العارفين بعضهم مع بعض.

فطريقة السداد و الرشاد أن يلازم الانسان مقامه و حدّه، و لا ينكر على من

ص: 515


1- راجع نهج البلاغة، خ 193، ص 304، و فيها: «و يقول: لقد خولطوا، و لقد خالطهم أمر عظيم».

تجاوز ذلك المقام، و يكل أمره إلى ربّه، و يشتغل بأمر نفسه؛ إذ حسابه ليس عليه، سواء كانت التفاوت بحسب العمل أو الحال أو العلم و المعرفة، و لا يسلك مع غيره سبيل التسفيه و التضليل و التجهيل و الاستهزاء و نحوها، و إلا فلا يأمن أن يكون له مرتبة أعلى من مقامه في الايمان و الدين، فربّما يتوجّه عليه من ربّه سبحانه نظير الردّ الواقع في شأن المنافقين هنا؛ إذ من صفات المتّقي أنّه إذا بغي عليه صبر، حتّى يكون اللّه هو الّذي ينتقم له، و ليس من البعيد منه سبحانه أن يجازي الطاغين لعباده المخلصين و لو بعد وفاتهم بالانتقام أو العتاب الشديد.

و حينئذ فالمناسب لحال المؤمن و في كلّ مرتبة أن يرى فوق إيمانه إيمانا، و فوق مرتبته مرتبة، و فوق علمه علما؛ كما قال سبحانه: «وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ » (1).

و يكون سبيله التوقّف و ردّ علم حال سائر المؤمنين إلى اللّه سبحانه؛ كما قال بعض الانبياء: «وَ مٰا عِلْمِي بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسٰابُهُمْ إِلاّٰ عَلىٰ رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ » (2).

ثمّ إنّ لهذا المقام تفريطا ينبغي التحرّز عنه، و ملازمة حدّ الوسط و الاستقامة و الاعتدال، و ذلك كما إذا اقتضى ضرورة حفظ الشرع مثلا أو ردع البدعة و إبطال الباطل على التعرّض لحال شخص، فربّما يكون مراعات ذلك أهمّ، و كما إذا أدّى السكوت عن حال الاشخاص على تزلزله في مقام علومه و معارفه، فكلّما سمع من أحد كلاما مخالفا لما عنده احتمل أن يكون حقّا، فيزول بذلك اعتقاده؛ إذ لا يجامع الاعتقاد الجزمي الاحتمال، بل ينبغي له ملازمة علمه و معرفته و دفع التزلزل عنه مع السكوت عن حال السائرين، و احتمال أن يكون مطلبهم ما فهمه، أو لا يكون منافيا لما عنده كما يتّفق كثيرا في كلمات الكاملين

ص: 516


1- يوسف/ 76.
2- الشعراء/ 112-113.

[بحوث في كيفيّة ملاقات المنافقين مع المؤمنين و مباحثتهم]

وَ إِذٰا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قٰالُوا آمَنّٰا وَ إِذٰا خَلَوْا إِلىٰ شَيٰاطِينِهِمْ قٰالُوا إِنّٰا مَعَكُمْ إِنَّمٰا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ

في غاية المرام عن موفّق بن أحمد قال: روى أبو صالح عن ابن عباس - رضي اللّه عنه -:

«انّ عبد اللّه بن أبيّ و أصحابه خرجوا، فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال عبد اللّه بن أبيّ لأصحابه:

انظروا كيف أردّ(1) ابن عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سيّد بني هاشم خلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

فقال عليّ - كرّم اللّه وجهه -: يا عبد اللّه، اتّق اللّه و لا تنافق، فانّ المنافق شرّ خلق اللّه تعالى.

فقال: يا أبا الحسن، و اللّه إن إيماننا كايمانكم. ثم تفرقوا فقال عبد اللّه بن ابيّ لاصحابه: كيف رأيتم ما فعلت؟ فأثنوا عليه خيرا، فأنزل اللّه على رسوله صلّى اللّه عليه و آله: «إِذٰا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا - الآية »(2).

ص: 517


1- قال المؤلف (ره) في الهامش: «كذا وجد، و الظاهر وقوع السقط. و يحتمل أن يكون كذا: أرده، ثم قال: يا ابن عم...» و في المناقب: «أراد».
2- غاية المرام، الباب الحادي عشر و مائة من المقصد الثاني، ص 395؛ و قد أخرجه الخوارزمي في المناقب، الفصل السابع عشر، ص 196؛ و كذا رواه ابن شهرآشوب (ره) في المناقب، ج 3، ص 94، بهذا الاسناد عن تفسير الثعلبي.

ص: 518

قال موفّق بن أحمد عقيب ذلك:

«فدلّت الآية على إيمان علي - كرّم اللّه وجهه - ظاهرا و باطنا، و على قطعه موالاة المنافقين و إظهار عداوتهم. و المراد من الشياطين رؤساء الكفّار».

هكذا وجدناه، و إنّما أوردناه من طريق العامّة على ما ذكره لما فيه من ذكر الفضيلة.

و عن ابن شهرآشوب، عن الباقر عليه السّلام:

«أنّها نزلت في ثلاثة لمّا قام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالولاية لأمير - المؤمنين عليه السّلام أظهروا الايمان و الرضاء بذلك، فلمّا خلوا بأعداء أمير المؤمنين عليه السّلام قالوا إنّا معكم إنّما نحن مستهزءون»(1)

و عن تفسير الهذيل و مقاتل، عن محمّد بن الحنفيّة، في خبر طويل:

«إِنَّمٰا نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ بعليّ بن أبي طالب، فقال اللّه تعالى:

«اَللّٰهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ » ؛يعني: يجازيهم في الآخرة جزاء استهزائهم بأمير المؤمنين عليه السّلام »(2).

و عن تفسير الامام عليه السّلام في معنى الآية، قال موسى بن جعفر عليه السّلام:

«و إذا لقى هؤلاء الناكثون للبيعة المواطئون على مخالفة عليّ عليه السّلام و دفع الامر عنه الّذين آمنوا قالوا: آمنّا كايمانكم، و إذا لقوا سلمان و المقداد و أبا ذرّ و عمّار قالوا

ص: 519


1- البرهان، ج 1، ص 64.
2- أورده ابن شهرآشوب (ره) في المناقب، ج 3، ص 94؛ و نقله المجلسي (ره) في البحار، ج 8 باب النار، ص 301، ح 56؛ و البحراني (ره) في البرهان، ج 1، ص 64.

لهم: آمنّا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، و سلّمنا له بيعة عليّ عليه السّلام و فضله، و أنفذنا لأمره كما آمنتم. إنّ أوّلهم و ثانيهم و ثالثهم إلى تاسعهم ربّما كانوا يلتقون في بعض طرقهم مع سلمان و أصحابه، فاذا لقوهم اشمأزّوا منهم قالوا: هؤلاء أصحاب الساحر و الاعوج (1) ؛يعنون محمّدا و عليّا عليهما السّلام، ثمّ يقول بعضهم لبعض: احترزوا منهم، لا يقفون من فلتات(2) كلامكم على كفر محمّد صلّى اللّه عليه و آله فيما قاله في عليّ عليه السّلام، فيقعوا عليكم، فيكون فيه هلاككم.

فيقول أوّلهم: انظروا إليّ كيف أسخر منهم، و أكفّ عاديتهم عنكم. فاذا التقوا قال أوّلهم: مرحبا بسلمان بن الاسلام، الّذي قال فيه محمّد صلّى اللّه عليه و آله سيّد الانام: «لو كان الدين معلّقا بالثريّا لتناوله رجال من أبناء فارس، هذا أفضلهم» يعنيك، و قال فيه: «سلمان منّا أهل البيت»، فقرنه بجبرائيل(3) عليه السّلام الّذي قال له يوم العباء لمّا قال لرسول اللّه(4)

صلّى اللّه عليه و آله: و أنا منكم؟ فقال: و أنت منّا، حتّى ارتقى جبرائيل إلى الملكوت الاعلى يفتخر على أهله و يقول: بخ بخ و أنا من أهل بيت محمّد صلّى اللّه عليه و آله.

ثمّ يقول للمقداد: و مرحبا بك يا مقداد! أنت الّذي قال

ص: 520


1- في المصادر: «الاهوج»، قيل: «الهوج محركة طول في حمق و طيش و تسرع».
2- الفلتات: الزلات، جمع فلتة، و هي الزلة (مجمع).
3- في المخطوطة: «فقرب جبرائيل»، و في البرهان: «فقرنه جبرئيل».
4- في المخطوطة: «قاله رسول» و في البرهان: «قاله لرسول».

فيك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام: يا عليّ، المقداد أخوك في الدين و قد قدّمتك، فكأنّه يعينك حبّا لك، و بغضا على أعدائك و موالاة أوليائك. لكن ملائكة السموات و الحجب أشدّ حبا لك منك لعلي عليه السّلام و أشدّ بغضا على أعدائك منك على أعداء عليّ عليه السّلام فطوباك، ثمّ طوباك.

ثمّ يقول لأبي ذرّ: مرحبا بك يا أبا ذر! أنت فيك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ما أقلّت الغبراء و لا أظلّت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ» قيل: بما ذا فضّله اللّه بهذا و شرّفه؟ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إنّه كان يفضّل عليّا عليه السّلام أخا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قوّالا، و له في كلّ الاحوال مدّاحا و لشانيه و أعاديه شانيا، و لأوليائه و أحبّائه مواليا؛ سوف يجعله اللّه عزّ و جلّ في الجنان من أفضل سكّانها، و يخدمه من لا يعرف عدده إلاّ اللّه من وصائفها و غلمانها و ولدانها».

ثمّ يقول لعمّار بن ياسر: أهلا و سهلا يا عمّار! نلت موالاة أخي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من وادع رأفة لا تزيد على المكتوبات و المسنونات من سائر العبادات ما لا يناله الكادّ(1)

بدنه ليله و نهاره؛ يعني: اللّيل قياما، و النهار صياما، و الباذل أمواله و إن كانت جميع أموال الدنيا له. مرحبا بك! فقد رضيك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعليّ عليه السّلام أخيه مصافيا، و عنه مناويا حتّى أخبر أنّك ستقتل في محبّته، و تحشر يوم القيامة في خيار زمرته؛ وفّقني اللّه لمثل عملك و عمل أصحابك ممّن

ص: 521


1- الكاد: المشقة (قاموس).

توفّر على خدمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخي محمّد صلّى اللّه عليه و آله عليّ عليه السّلام، و معاداة أعدائهما بالعداوة، و مصافاة أوليائهما بالموالاة و المشايعة؛ سوف يسعدنا يومنا هذا إذا التقينا بكم.

فيقول سلمان و أصحابه: ظاهرهم كما أمر اللّه تعالى و يجوزون عنهم.

فيقول الاوّل لأصحابه: كيف رأيتم سخري بهؤلاء؟ و كيف [أكفّ](1) عاديتهم عنّي و عنكم؟

فيقولون له: لا تزال بخير ما عشت لنا، فيقول لهم: فكهذا فلتكن معاملتكم لهم إلى أن تنتهزوا الفرصة فيهم مثل هذا، فانّ اللّبيب العاقل من تجرّع على الغصة حتّى ينال الفرصة.

ثمّ يعودون إلى أخدانهم المنافقين المتمرّدين المشاركين لهم في تكذيب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيما أدّاه إليهم عن اللّه عزّ و جلّ من ذكر تفضيل أمير المؤمنين عليه السّلام و نصبه إماما على كافّة المكلّفين، قالوا لهم: إنّا معكم على ما وطّأتكم عليه أنفسكم من دفع عليّ عن هذا الامر إن كانت لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله كائنة، فلا يغرّنّكم و لا يهولنّكم ما تسمعونه منّا من تفريطهم، و تروننا نجترئ(2) عليه من مداراتهم، فانّما نحن مستهزءون بهم »(3).

ص: 522


1- في البحار: «كففت».
2- في المخطوطة و البرهان: «مني... تروني أجترئ».
3- تفسير الامام - عليه السلام -، ص 45-47؛ و البحار، ج 8 (ط كمبانى)، باب كفر الثلاثة و نفاقهم و فضائح أعمالهم، ص 219؛ و البرهان، ج 1، ص 62-63.

[في شأن نزول الآية]

أقول: لا منافاة بين كون «عبد اللّه بن ابيّ [بن] سلول» مورد النزول، كما سبق في الرواية الاولى و تكرّرت في تفاسير العامّة ذكره، و بين كون الثلاثة الّذين أظهروا الايمان و الرضا بالولاية، أو مطلق الناكثين للبيعة، أو خصوص التسعة، أو القائل منهم ما سبق موردا لنزول الآية؛ إذ يحتمل أن يكون الآية واردة لبيان حال المنافقين بأسرهم و معاملتهم مع المؤمنين من تكلّف الكذب لهم و الاستهزاء بهم، و لقائهم بوجوه المصادقين، و إيهامهم أنّهم معهم. فاذا فارقوهم إلى شطار دينهم صدّقوهم بما في قلوبهم، و هذا من شأن مطلق المنافقين يمشي مع كلّ من الطائفتين بلسان مغاير للسانه مع الآخر سواء كانوا معاندين لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كابن ابي، أو لأمير المؤمنين عليه السّلام بالاصالة كهؤلاء الناكثين؛ مع أنّه لا يبعد من أحوالهم أن يكونوا جامعين بين عداوته عليه السّلام و عداوة الرسول صلّى اللّه عليه و آله استقلالا؛ كابن أبيّ و أصحابه و إن كانوا في إظهار خلافه و الموافقة مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و متابعته في ظاهر الحال جادّين مجتهدين.

و بالجملة فلا يبعد من ملاحظة الآيات شمولها لمطلق المنافقين، الّذين لم يؤمنوا سواء المانع لايمانهم إبائهم عن الولاية بعد ظهور الحجّة و انقطاع المعذرة، أو غيره بعد أن كانوا ثابتين على النفاق مع الرسول و المؤمنين.

و عليه فيصحّ أن يكون المراد بالقائلين مطلق من صدر منه القولان، و يشمل كلا الفريقين، بل لعلّه أقرب إلى مفاد اللّفظ من إرادة شخص خاصّ. و ربّما يجري نظيره في حقّ سائر أقسام النفاق الّتي أشرنا إليها سابقا، فانّ كثيرا منهم يمشون بين الناس بلسانين مختلفين و كيفيّتين متضادّين، بل ربّما يعاشرون مع كلّ فرقة و أهل طريقة بمذاقهم، و يظهرون موافقتهم في ذلك، بحيث يظنّ

ص: 523

بهم أنّهم من هؤلاء ليروّج بذلك أمرهم.

[في معنى اللّقاء و الخلوّ و الشّيطان و أنّ الثاني هو الشّيطان الاكبر]

و حينئذ فنقول: يقال: لقيته و لاقيته إذا استقبلته قريبا منه؛ و خلوت بفلان و إليه، إذا انفردت معه. و احتمل في الآية أن يكون من «خلا» بمعنى:

مضى، كما في «و خلاك ذمّ» أي: عداك و مضى عنك، و من خلوت به إذا سخرت به، و هو من قولك: خلا فلان بعرض فلان يعبث به، و معناه حينئذ: و إذا أنهوا السخريّة بالمؤمنين إلى شياطينهم و حدّثوهم بها. و لعلّ الاوّل أظهر.

و فسّر الشياطين هنا بالّذين ماثلوا الشياطين في تمرّدهم، و هو بظاهره أعمّ من الرؤساء و غيرهم، و خصّه بعضهم بالرؤساء و الأكابر من المنافقين، فيكون القائلون بأنّا مصاحبوكم و موافقوكم على أمر دينكم أصاغرهم أو من الكافرين، فيحتمل كون القائلين مجموع المنافقين.

و ذكر في وجه التخصيص بالرؤساء أنّهم القادرون على الافساد في الارض.

و يحتمل إرادة الناس الّذين يوسوسون في صدور غيرهم، و يلقون إليهم ما يضرّ بدينهم و آخرتهم و صلاح أمورهم، الّذين يضلّون غيرهم بغير علم سواء كانوا أكابر أو أصاغر، فانّ الاصاغر ربّما يغوون جماعة من أهاليهم و أولادهم و أمثالهم، فيكون مماثلتهم للشيطان باعتبار إضلالهم الناس كالشياطين، أو باعتبار أنّ الشياطين اتّخذهم أشراكا، فباض و فرّخ في صدورهم، و تكلّم بألسنتهم، و أغوى النّاس بهم؛ و قد ورد قريبا من ذلك في كلام أمير المؤمنين عليه السّلام في نهج البلاغة في صفة جماعة، فراجع(1).

ص: 524


1- و هو كلامه - عليه السلام - يذم فيه أتباع الشيطان، قال - عليه السلام -: «اتخذوا الشيطان لأمرهم ملاكا، و اتخذهم له أشراكا، فباض و فرخ في صدورهم، و دبّ و درج في حجورهم، فنظر بأعينهم، و نطق بألسنتهم، فركب بهم الزلل، و زين لهم الخطل، فعل من قد شركه الشيطان فى سلطانه، و نطق بالباطل على لسانه.» فراجع نهج البلاغة، خ 7، ص 53.

و يحتمل أن يؤخذ وجه المماثلة هو التشبّه بصفات الشيطان في مرتبة نفسه من حيث عناده و تمرّده و ثباته في الكفر.

و فوق هذه الانظار نظر آخر، و هو أنّه قد ورد في بعض الاخبار أنّ الثاني - لعنه اللّه تعالى - كان شيطانا (1) ،و ربّما يحكى رواية: أنّه كلّما ذكر الشيطان في القرآن فهو الثاني(2).

و لعلّ دقّة النظر في المقام تؤدّي إلى أنّ الانسان بحسب الصورة قد ينسلخ من معنى الانسانيّة، و يتحقّق بالحقيقة الشيطانيّة في باطنه، و يكون مسوخا بالشيطان في الباطن، كما يتحقّق المسخ الباطني للانسان بصورة الحيوانات على ما سنذكره - إن شاء اللّه تعالى - فيما بعد، فيكون خارجا عن حدود الانسانيّة و داخلا تحت حقيقة الشيطانيّة و إن غايره صورة و شكلا.

و الظاهر أنّ الثاني - لعنه اللّه - من أقوى أفراد هذا العنوان، و كذا نظائره من كثير من المتوغّلين في الكفر و النفاق، الّذين صاروا أئمّة يدعون إلى النار، هذا.

ص: 525


1- كخبر العياشي (ره) في تفسيره، ج 2، ص 223، ح 8، عن حريز، عمن ذكره، عن أبى جعفر - عليه السلام - في قول اللّه تعالى: «وَ قٰالَ الشَّيْطٰانُ لَمّٰا قُضِيَ الْأَمْرُ ...» (ابراهيم/ 22) قال: «هو الثاني، و ليس في القرآن شيء «و قال الشيطان» إلا و هو الثاني.» و الروايات في هذا المعنى كثيرة، قد جمعها المجلسي (رض) في البحار، ج 8 (ط كمباني)، باب كفر الثلاثة و نفاقهم و فضائح أعمالهم، فراجع.
2- قد مضى في التعليقة السابقة.

[في معنى الاستهزاء و أنّه ملازم للنّفاق]

و أصل الاستهزاء هو السخريّة و الاستخفاف، و أصله على ما قيل: «الخفّة من الهزء، و هو قتل السريع.»(1) و لعلّ إيرادهم الجملتين معا مع شياطينهم بالجملة الاسميّة مؤكّدة ب «إنّ» و أداة الحصر و اقتصارهم مع المؤمنين بالجملة الواحدة الفعليّة لأنّ نفوسهم لا تساعدهم في الثاني على أزيد من ذلك، أو لأنّه لا يروح عنهم لو قالوه على لفظ التأكيد و المبالغة، و الجملة الثانية مؤكّدة للاولى معنى، و كأنّه دفع اعتراض متوهّم، و هو أنّه ما بالكم إن صحّ أنّكم معنا توافقون أهل الاسلام، هذا.

و ربّما يجري نظير مفاد الآية في كلّ منافق بالمعنى المتقدّم، و ذلك لأنّ النفاق على ما ذكر هو كون الظاهر راجحا على الباطن، و الفرع أزيد من الاصل، سواء كان الاصل فاسدا رأسا أو ناقصا، و من كان على هذه الصفة فهو في الظاهر الذي هو موضع الملاقاة مع الناس و المعاشرة مع المؤمنين مظهر لشئون الايمان بقوله أو فعله أو حاله و صفته، و في باطنه الّذي هو موضع ملاقاته للشياطين، و اتّصاله بهم مظهر للثبات على ما كان عليه، و الموافقة معهم باعتقاده أو جحوده أو خلقه و ملكته السبعة، فهو ثابت الباطن مع الشياطين لم يتحوّل منه إلى غيرهم، و له معهم خلوة باطنيّة، و مضيّ و تجاوز إليهم. و في ذلك المقام يظهر أنّ ما ظهر منه في الظاهر هو استهزاء لا حقيقة له، و لا ثقل له لكونه فرعا بلا أصل، و صورة بلا روح، بل سخريّة لنفسه لو انكشف حاله لعارف بصير لضحك منه ضحك من اطّلع على أفعال أهل السخريّة، و سخريّة لمن أظهر عنده ذلك لو كان لأجل الناس، بل لعلّه يندرج تحت من اتّخذ آيات اللّه هزوا على ما ببالي من ورود رواية في شأن

ص: 526


1- الكشاف، ح 1، ص 35؛ و أنوار التنزيل، ص 14.

من قرأ القرآن و لم يحجزه عن مخالفة اللّه سبحانه، الّتي يترتّب عليها العقاب أنّه ممّن اتّخذ آيات اللّه هزوا، أو قريبا من هذا المضمون(1).

و هذا بخلاف صفة المؤمنين المخلصين، فانّهم لا خلوة لهم مع الشياطين، بل يدفعونهم و يجاهدونهم و يخرجونهم إن اجتازوا عليهم و لا لهم مضيّ و تجاوز إليهم، و أعمالهم ليست استهزاء و سخريّة، بل من عين الحقيقة، و هي ثقيلة متّصلة بأصولها.

و لعلّ في التعبير هنا بلفظ «إِذٰا خَلَوْا إِلىٰ شَيٰاطِينِهِمْ» إشارة إلى البيان المذكور، فانّ لهم شياطينا يخلون إليهم بالبيان المتقدّم، فتدبّر.

ثمّ إنّه ما أشبه صنيع الناكثين بيعة أمير المؤمنين عليه السّلام بالتفصيل المتقدّم بحال كثير من الناقصين في الايمان، المقتصرين على الايمان الظاهري أو قليل من الباطني، حيث إنّهم إذا لقوا أهل الصلاح و السداد و الكمال في الايمان أثنوا عليهم بكلّ وجدوا، و أظهروا نهاية الموافقة معهم في طريقتهم و عقائدهم، و إذا خلوا إلى شياطينهم كان صفتهم على ما تقدّم، و كثيرا ما يصرّحون بنظير ما قالوه مع المشاركين لهم في النقصان، كما مرّت الاشارة إلى نظائره.

ص: 527


1- قال أمير المؤمنين - عليه السلام -: «من قرأ القرآن فمات فدخل النار، فهو ممن كان يتخذ آيات اللّه هزوا.» فراجع نهج البلاغة، ح 228، ص 508؛ و هكذا رواه العياشى (ره) فى تفسيره، ج 1، ص 120، ح 379، عن عمرو بن جميع رفعه اليه - عليه السلام -.

[بحوث حول استهزاء اللّه بالمنافقين] [و إمهاله و مدده على طغيانهم]

اَللّٰهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ

«يجازيهم جزاء استهزائهم في الدنيا و الآخرة» كذا في ذيل الرواية السابقة الطويلة »(1).

و عن ابن شهرآشوب بعد نقل ما سبق عن التفسير عن محمّد بن الحنفيّة أنّه قال ابن عباس:

«و ذلك أنّه إذا كان يوم القيامة أمر اللّه الخلق بالجواز على الصراط، فيجوز المؤمنون إلى الجنّة، و يسقط المنافقون في جهنّم [فيقول اللّه: يا مالك، استهزئ بالمنافقين في جهنّم] فيفتح مالك بابا من جهنّم إلى الجنّة و يناديهم:

معاشر المنافقين، هاهنا هاهنا، فاصعدوا من جهنّم إلى الجنّة، فيسبح المنافقون في بحار جهنّم سبعين خريفا حتّى إذا بلغوا إلى ذلك الباب، و همّوا بالخروج أغلقه دونهم، و فتح لهم بابا إلى الجنّة من موضع آخر، فيناديهم من هذا الباب: فاخرجوا إلى الجنّة، فيسبحون مثل الاوّل، فاذا وصلوا إليه أغلق دونهم من موضع آخر، و هكذا أبد

ص: 528


1- راجع المصادر المذكورة في تعليقة 3 ص 522.

الآبدين »(1).

و عن تفسير الامام عليه السّلام أنّه قال العالم عليه السّلام:

«فأمّا استهزاء اللّه بهم في الدنيا، فهو أنّه مع إجرائه إياهم على ظاهر أحكام المسلمين لاظهارهم ما يظهرونه من السمع و الطاعة و الموافقة لأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالتعريض لهم، حتّى لا يخفى على المخلصين من المراد بذلك التعريض و يأمر بلعنهم.

و أمّا استهزاؤه بهم في الآخرة، فهو أنّه عزّ و جلّ إذا أقرّهم في دار اللّعنة و الهوان أو عذّبهم بتلك الالوان العجيبة من العذاب، و أقرّ هؤلاء المؤمنين في الجنان بحضرة محمّد صلّى اللّه عليه و آله صفيّ الملك الديّان اطّلعهم على هؤلاء المستهزئين بهم(2) في الدنيا حتّى يروا ما [هم] فيه من عجائب اللّعائن و بدائع النقمات، فتكون لذّتهم و سرورهم بشماتتهم بهم كما [كان] لذّتهم و سرورهم بنعيمهم في جنّات ربّهم. فالمؤمنون يعرفون أولئك الكافرين المنافقين بأسمائهم و صفاتهم، و هم على أصناف:

منهم: من هو بين أنياب أفاعيها تمضغه.

و منهم: من هو بين مخاليب سباعها تعبث به و تفترسه.

و منهم: من هو تحت سياط زبانيتها و أعمدتها و مرزباتها(3)

ص: 529


1- راجع المصادر المذكورة في تعليقة 2 ص 519.
2- في المخطوطة: «كانوا بهم».
3- الارزبة بالكسر و التثقيل عصاة كبيرة من حديد يتخذ لتكسر المدر، و في لغة «مرزبة» بكسر الميم مع التخفيف و العامة تنقل مع الميم (مجمع).

يقع من أيديها عليه يشدّد في عذابه، و يعظم حزنه و نكاله.

و منهم: من هو في بحار جحيمها(1) يغرق، و يسحب فيها.

و منهم: من هو في غسلينها و غسّاقها تزجره فيها زبانيتها.

و منهم: من هو في سائر أصناف عذابها.

و الكافرون و المنافقون ينظرون فيرون هؤلاء المؤمنين الذين كانوا بهم في الدنيا يسخرون لما كانوا من موالاة محمّد و عليّ و آلهما - صلوات اللّه عليهم - يعتقدون، فيرونهم:

منهم: من هو على فرشها يتقلّب.

و منهم: من هو على فواكها يرتع.

و منهم: من هو في غرفها أو في بساتينها و متنزّهاتها يتبحبح(2)

و الحور العين و الوصفاء و الولدان و الجواري و الغلمان قائمون بحضرتهم، و طائفون بالخدمة حواليهم، و ملائكة اللّه عزّ و جلّ يأتونهم من عند ربّهم بالحباء(3) و الكرامات و عجائب التحف و الهدايا و المبرّات، يقولون: «سَلاٰمٌ عَلَيْكُمْ بِمٰا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدّٰارِ.» (4) فيقول هؤلاء المؤمنون المشرفون على هؤلاء الكافرين المنافقين: يا فلان و يا فلان و يا فلان، حتّى ينادوهم بأسمائهم: ما بالكم في مواقف خزيكم ماكثون؟ هلمّوا إلينا نفتح لكم أبواب الجنان

ص: 530


1- في المصادر: «حميمها».
2- البحح: الفرح و التبحبح، و هو التمكن في الحلول و المقام (مجمع).
3- الحباء: العطية، يقال: حباه حبوة و حباء أي: أعطاه.
4- الرعد/ 24.

لتتخلّصوا من عذابكم و تلحقوا بنا في نعيمها. فيقولون يا ويلنا أنّى لنا هذا؟! فيقول المؤمنون: انظروا لهذه الابواب.

فينظرون إلى أبواب من الجنان مفتّحة تخيّل إليهم أنّها إلى جهنّم التي فيها يعذّبون. و يقدرون أنّهم يتمكّنون أن يتخلّصوا إليها، فيأخذون في السباحة في بحار جحيمها(1) ، وعدوا من بين أيدي زبانيتها، و هم يلحقونهم [و] يضربونهم بأعمدتهم و مرزباتهم و سياطهم فلا يزالون كذلك يسيرون هناك.

و هذه الاصناف من العذاب تمسّهم حتّى إذا قدروا أن يبلغوا تلك الابواب وجدوها مردومة عنهم، و تتهدّدهم(2)

الزبانية بأعمدتها، فتنكّسهم إلى سواء الجحيم، و يستلقي اولئك المنعّمون على فرشهم في مجالسهم يضحكون منهم مستهزءين بهم، فذلك قول اللّه عزّ و جلّ: اَللّٰهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ

و قوله عزّ و جلّ: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفّٰارِ يَضْحَكُونَ.» (3)

و عن الصدوق باسناده عن ابن فضّال، عن الرضا عليه السّلام قال:

«سألته عن قول اللّه: «اَللّٰهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ » ؟

فقال: إنّ اللّه لا يستهزئ و لكن يجازيهم جزاء الاستهزاء.»(4)

ص: 531


1- في المصادر: «حميمها».
2- في المصادر: «تدهدههم» و التدهده: التدحرج.
3- راجع المصادر المذكورة في تعليقة 3 ص 522.
4- رواه رحمه اللّه في العيون، ج 1، باب 11، ص 103، ح 19؛ و البرهان، ج 1، ص 64، ح 5؛ و نور الثقلين، ج 1، ص 35، ح 23.

[في بيان حقيقة استهزاء اللّه سبحانه و المراد منه]

أقول: لمّا كان الاستهزاء و السخريّة من قبيل الباطل و الجهل و العبث، كما يشهد له ما حكاه سبحانه: «قٰالُوا أَ تَتَّخِذُنٰا هُزُواً قٰالَ أَعُوذُ بِاللّٰهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجٰاهِلِينَ» (1)

و كان اللّه سبحانه منزّها عن مثل ذلك، لزم أن يتصرّف في اللّفظ بما يخرجه عن الدخول تحت هذه العناوين، إمّا بأن يراد منه جزاء الاستهزاء، فيكون إطلاقا للفظ الاستهزاء على جزائه كما في قوله تعالى: «وَ جَزٰاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهٰا » (2) ،و قوله سبحانه: «فَمَنِ اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ » (3) ،كما هو المترائى من جملة من الروايات (4) ؛و إمّا بأن يراد منه إنزال الهوان و الحقارة بهم؛ لأنّ غرض المستهزئ هو الخفّة و الزراية بمن يهزأ به، و إدخال الهوان و الحقارة عليه، و يؤيّده الاشتقاق كما مرّ.

و قال بعضهم إنّه: «قد كثر التهكّم في كلام اللّه سبحانه بالكفرة، و المراد به تحقير شأنهم و ازدراء أمرهم، و الدلالة على أنّ مذاهبهم حقيقة بأن يسخر منها الساخرون، و يضحك الضاحكون»(5) و أن يكون المراد منه معاملة مشابهة في الصورة لما يفعله المستهزئ، و ذلك باجراء أحكام المسلمين عليهم ظاهرا مع التعريض بهم حتّى لا يخفى أمرهم على المخلصين في الدنيا، و إظهار صورة النجاة لهم بحيث يتخيّلون أنّ به نجاتهم، و حصول اليأس بعد الطلب و التعب في الآخرة بالتفصيل المتقدّم.

ص: 532


1- البقرة/ 67.
2- الشورى/ 40.
3- البقرة/ 194.
4- كالروايات المتقدمة في بيان حقيقة مخادعة اللّه مع المنافقين، و أنها ليست إلاّ جزاء لمخادعتهم اليه، فراجع.
5- الكشاف، ج 1، ص 35.

و لعلّ الذي يقتضيه دقيق النظر أنّ حقيقة الاستهزاء و روح معناه هو:

إظهار ما يوجب خفّة المستهزئ به، و ركاكة حالته، و كونه على حالة يصحّ أن يصير مضحكة للناس؛ و كشف هذه الحالة عنه استهانة بشأنه و ازدراء بقدره و تحقيرا لأمره. و هذا المعنى لا يلزم أن يكون في صورة لفظ خاصّ لظهور تحقّقه بالافعال أيضا، بل هي أقوى منه، و لا كونه في صورة الباطل و اللّعب و إن كان المتحقّق في الخارج عند العرف نوعا منه.

و هذا المعنى قد تحقّق على المستهزئين من المنافقين حال نفاقهم و استهزائهم؛ لأنّه ظهر(1) منهم أمر يوجب خفّتهم و ركاكة [حالتهم]، و كونهم على صفة يليق بأن يضحك منه.

و كشف هذه الحالة عنهم استهانة بشأنهم للّه و لرسوله و للمؤمنين، الّذين يرون أعمال العباد، و للملائكة الّذين يحفظون أعمالهم، و لسائر شهداء اللّه على خلقه من المكان و الزمان و الجوارح و غيرها. و هذا الاظهار و الكشف و الاستهانة مستمرّة، و يتجدّد حدوث ظهوره أحيانا لسائر الناس بالتعريضات الّتي ترد عليهم كما قال سبحانه:

«يَحْذَرُ الْمُنٰافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمٰا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللّٰهَ مُخْرِجٌ مٰا تَحْذَرُونَ.» (2)

و ظهور هذه الحالة يكمل بعد الموت، فيظهر باطن أمره لنفسه و لغيره من مجاوريه هناك، و يتمّ كمالا يوم يقوم الاشهاد و تبلى السرائر، يوم تشهد عليهم أرجلهم و أيديهم و جوارحهم، و يرد عليهم الهوان و الحقارة و الزراية باطنا في المقام المعنويّ الثابت لكلّ أحد على حسب حاله في الدنيا عاجلا. و ربّما يظهر أثره

ص: 533


1- في المخطوطة: «أظهر».
2- التوبة/ 64.

بضرب الذلّة و المسكنة في الدنيا عليهم، و يتمّ ظهوره عند الموت إلى نفخة الصور، و يتمّ كمال ظهوره في القيامة الكبرى.

و كلّ هذه ممّا أورده الحقّ عليهم من الاظهار و إدخال الهوان العينيّ الخارجي، كما يدخل المستهزئ من العباد الهوان الصوريّ الاعتباري، و يظهره بلفظه، بل حدوث هذه الحالة الاستهزائيّة لهم مستندة إلى الاسباب الالهيّة استنادا به يتمّ الامر بين الامرين: الجبر و التفويض. فهم المستهزءون بأنفسهم، و اللّه قاض به عليهم على وجه يليق بجنابه، و هو جاعل فعلهم الّذي هو الاستهزاء أمرا حقيقيّا لازما لهم في الباطن، ظاهرا عليهم في البرزخ و القيامة كسائر أعمال العباد، و حامله عليهم، و ملزمه على عنقهم.

و لمّا كان الجزاء مناسبا للجرم و موافقا له بحسب المعنى، أو ظهورا لنفس العمل بالحقيقة العينيّة البرزخيّة في البرزخ، و الحقيقة الكاملة في المعاد الاكبر و ظهور وقوعه على عامله بعد ما كان ثابتا معناه في غيب الدنيا عليه، على تفصيل ربّما نذكر هنا في خلال التفسير - إن شاء اللّه سبحانه - كان اللازم أن يظهر سورة عملهم في مقام الجزاء واقعا عليهم؛ «هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّٰ مٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ» (1)«مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاٰ يُجْزىٰ إِلاّٰ مِثْلَهٰا » .(2)

فالمناسب أن يقع جزاء الاستهزاء هو نحو ممّن ذكر تفصيله في الرواية، و عن ابن عباس، الّذي لا يبعد من حاله أخذه أمثال هذه المعاني عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أو أمير المؤمنين عليه السّلام لمكان شدّة اختصاصه به، و ملازمته له على ما يظهر ممّا يحكى عن حاله.

ص: 534


1- الاعراف/ 147؛ و السباء/ 33.
2- الغافر/ 40.

[كيفيّة استهزاء اللّه سبحانه بالمنافقين في الآخرة]

و لمّا كانوا في الدنيا يرون أبواب الجنّة الّتي منها يتمكّن الانسان من دخول الجنّة، و هو الايمان بأغصانه و شئونه المتقدّمة؛ إذ به يدخل العبد الجنّة بحسب المعنى، و كانوا متقرّبين إلى صورها و ساعين في تحصيلها بحسب الصورة، و يطلبون بذلك النجاة الدنيويّ الصوري و هم في تلك الاحوال مستغرقون في بحار الكفر و الذنوب منهمكون فيها، و كان المناسب أن يرى هؤلاء المنافقون أبواب الجنّة هناك مفتوحة، كما كانت مفتوحة في نظرهم في الدنيا، و أن يتقرّبوا إليها و يسعوا في تحصيلها، و يطلبوا النجاة بسببها و هم في النار معذبون، و في عذابها مستغرقون على حسب أحوالهم المختلفة حسب اختلاف حالاتهم في الدنيا.

و لمّا لم يكن ما يرونه في الدنيا بابا واقعيّا لعماء أبصارهم عن معاينة الواقع و إنّما الذي يدركونه صورة الباب، أو كان و لم يدخلوها بالحقيقة، و كان الدخول الحقيقي هو الموصل إلى المقصود و المنجي من المحذور، و إنّما تشبّثوا بصورة الداخل فيها، لزم أن يكون ما شاهدوه هناك صورة أبواب الجنان أو حقيقتها، و لكن غير مفتوحة إليهم، و ليسوا ممّن يدخلها حقيقة، فلم يتمكّنوا من حقيقة الدخول فيها، و لا من حقيقة الخروج من النار، كما كانوا مستقرّين في معنى النيران في الدنيا، كما أنقذ المؤمنون منها في قوله سبحانه: «وَ كُنْتُمْ عَلىٰ شَفٰا حُفْرَةٍ مِنَ النّٰارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهٰا.» (1) فيبقون في النار، و لا يحصل لهم محيص واقعي، كما لم يحصل في الدنيا، و عند الوصول إلى المواضع التي قدّروها أبواب منجية يجدونها مردومة كما كانت أبواب الخيرات مردومة عليهم في الدنيا في الحقيقة و إن كانت مفتوحة بحسب الصورة.

ص: 535


1- آل عمران/ 103.

و هذه الحالة يتجدّد حدوثه لهم حينا بعد حين، كما كانت أعمالهم في الدنيا يتجدّد حينا بعد حين على هذه الصفة، بل يستمرّ عليهم للزوم أعمالهم لهم في الدار الباقية.

و لعلّه لذلك عبّر عن استهزاء اللّه سبحانه بهم على صيغة المضارع، مع أنّ حكاية قولهم كانت بصيغة الجملة الاسميّة.

ثمّ لمّا كانت انفتاح أبواب الصور في الدنيا لهم بتوسّط المؤمنين، إذ هم الذين يبلّغونهم الدين و يظهرونه لهم قولا و فعلا، مع استغراقهم في باطن النيران كانت مناسبة الجزاء قاضية بأن يكون انفتاح تلك الابواب هناك من نحو طرف المؤمنين أيضا.

و أيضا لمّا كان من العدل أن يجزى كلّ سيئة بمثلها و الاعتداء بمثل ذلك الاعتداء، و كانوا مسيئين معتدين على المعتدين بالاستهزاء، صحّ في عدله سبحانه أن يوقع عليهم مماثل فعلهم، الذي ارتكبوها بالنسبة إلى المؤمنين، حتّى يظهر حكم العدل منه سبحانه. و في هذا تسلية للمؤمنين في تحمّل استهزائهم؛ إذ لا قدر له بالقياس إلى ما يرد على أنفسهم، بل في نفس كون الحقّ في مقام المقابلة و المجازاة كفاية في السلوة عند العارفين.

و لعلّ بالتأمّل فيما ذكر تقدر على استخراج سائر الخصوصيّات، فلاحظ و تدبّر، و عسى أن تجد فيه ما أخطأ فيه النظر القاصر، و اللّه الهادي.

وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيٰانِهِمْ يَعْمَهُونَ

«يمهلهم فيأتي بهم برفق، و يدعوهم إلى التوبة، و يعدهم إذا تابوا(1) المغفرة.

يعمهون، و هم يعمهون لا يرعوون عن قبيح، و لا يتركون أذى لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و عليّ

ص: 536


1- خ. ل: «أنابوا».

عليه السّلام [ما] يمكنهم ايصاله إليهما إلا بلغوه.» كذا في ذيل الرواية السابقة من قبل(1).

[في معاني المدّ و الطّغيان و العمه]

و قال القميّ فيه: «أي: يدعهم»(2) كأنّه فسّر المد بالدعة، و أصله إمّا «من مدّ الجيش و أمدّه إذا زاده، و ألحق به ما يقوّيه و يكثره، و كذلك مدّ الدواة و أمدّها زادها ما يصلحها، و مددت السراج و الارض إذا استصلحتهما بالزيت و السماد، و مدّه الشيطان في الغي إذا واصله بالوساوس حتّى يتلاحق غيّه، و يزداد انهماكا فيه.»، أو من «مدّ اللّه في عمره، و مدّه في غيّه؛ أي: أمهله و طوّل له» على ما نصّ عليه الجوهري و إن أنكر في الكشّاف(3) ذلك، و ذكر: «أنّ الذي بمعنى أمهله إنّما هو مدّ له مع اللام كأملى له» بعد أن استدلّ على تعيين الاوّل بقراءة «ابن كثير» و «ابن محيص» و يمدّهم من الامداد، و قراءة «نافع» و اخوانهم يمدّونهم، مع أنّه لم يستعمل أمدّ من المدّ، بل من المدد على ما ذكره بعض المحشّين عليه في تعميم وجه الاستدلال و الاخير غير تامّ الدلالة بعد كون الظاهر وحدة القراءة الواقعيّة و أنّ الاختلاف من قبل الرواة، فلا يثبت ببعض القراءات حال البعض الآخر.

و ما ذكره من عدم كونه متعدّيا بنفسه بعد مخالفته لظاهر كلام الجوهري غير ثابت على أنّ الحمل على الحذف و الايصال أيضا ممكن و إن كان خلاف الظاهر.

و منه يظهر النظر في السؤال و الجواب الّذين أوردهما(4) بقوله: «فما حملهم

ص: 537


1- راجع المصادر المذكورة في تعليقة 3 ص 522.
2- القمي، ج 1، ص 34؛ و البرهان، ج 1، ص 35.
3- الكشاف، ج 1، ص 35.
4- نفس المصدر، ص 36.

على تفسير المدّ في الطغيان بالامهال، و موضوع اللّغة كما ذكرت لا يطاوع عليه» فأجاب بأنّه: «استجرّهم إلى ذلك خوف الاقدام على أن يسندوا إلى اللّه ما أسند إلى الشياطين، و لكنّ المعنى الصحيح ما طابقه اللّفظ و يشهد لصحّته، و إلا كان منه بمنزلة الاروى من النعام. و من حقّ مفسّر كلام اللّه الباهر و كلامه المعجز أن يتعاهد في مذاهبه بقاء النظم على حسنه و البلاغة على كمالها، و ما وقع به التحدّي سليما عن القادح، فاذا لم يتعاهد أوضاع اللّغة، فهو من تعاهد النظم و البلاغة على مراحل.»

و بالجملة فالظاهر عدم خروج شيء من المعنيين عن قانون اللّغة على ما عرفت و يؤيّده ظاهر الثاني منهما ما تقدّم عن تفسير الامام عليه السّلام و تفسير القميّ و إن أمكن تطبيقهما علي أخذه من المدد بتصرّف في معنى المدد، و لعلّ المعنى الاوّل أقرب إلى ظاهر الآية.

و الطغيان أصله: التجاوز عن الحدّ على ما قال الجوهري: «طغا يطغى و يطغو طغيانا أي: جاوز الحدّ، و كلّ مجاوز حدّه في العصيان طاغ، و طغي بالكسر يطغى مثله. و أطغاه المال أي: جعله طاغيا، و طغى البحر: هاجت أمواجه.»

و فسّر الطغيان في الآية جماعة ب «الغلوّ في الكفر، و مجاوزة الحدّ في العتوّ.»(1)

و لعلّ ما فسّره بعضهم به من الغيّ و الكفر أولى منه؛ إذ كلّ كفر و عتوّ طغيان و تجاوز عن الحدّ، سواء غلى فيه و تجاوز عن الحدّ فيه أم لا. و لعلّهم لم يريدوا التقييد أيضا، أو جعلوه منصرفا إلى الفرد الكامل، و فيه تأمّل أيضا.

و «العمه» على ما في الصحاح «التحيّر و التردّد»، و قال: «أرض عمهاء:

لا أعلام بها. و ذهبت ابله العمّهى إذا لم يدر أين ذهبت.»

ص: 538


1- راجع نفس المصدر.

و ذكر جماعة أنّ: «العمه مثل العمي إلا أنّ العمي عامّ في البصر و الرأي، و العمه في الرأي خاصّة و هو التحيّر و التردّد، لا يدري أين يتوجّه.»(1)

[في بيان حقيقة إمهال اللّه المنافقين و مدده على طغيانهم]

ثمّ إنّه إن أخذ يمدّ في الآية من المدّ بمعنى الامهال و الاملاء فلا إشكال في نسبة ذلك إلى اللّه سبحانه؛ إذ لو [لا] إمهاله و أناته و تمكينه إيّاهم ما قدروا على الطغيان و الكفر و الغي، و لم يقع منهم ذلك.

و لعلّ السرّ في إعطاء المهلة لهم في هذه الحالة إتمام الحجّة عليهم، خصوصا مع انضمام ما مرّ من دعوتهم إلى التوبة و وعد المغفرة على تقدير الانابة و التوبة.

و إن أخذ من المدد فربّما يتوجّه سؤال، و هو أنّه: كيف يعطيهم المدد في الطغيان و هو من فعل الشياطين، كما يظهر من قوله سبحانه: «وَ إِخْوٰانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لاٰ يُقْصِرُونَ .» (2) ؟

و أجيب بالحمل على أنّهم لمّا منعهم الالطاف الّتي يمنحها المؤمنين، و خذلهم بسبب كفرهم و إصرارهم عليه، بقيت قلوبهم يتزايد الرين و الظلمة فيها تزايد الانشراح و النور في قلوب المؤمنين، فسمّي ذلك التزايد مددا، و أسند إلى اللّه سبحانه لأنّه مسبّب عن فعله بهم بسبب كفرهم، و على منع القسر و الالجاء، و على إسناد فعل الشيطان إلى اللّه سبحانه؛ لأنّه بتمكينه و إقداره و التخلية بينه و بين إغواء عباده، و قد سبق في البحث عن الختم على القلوب و الاسماع ما يظهر منه الحال في الجواب عن الاشكال.(3)

ص: 539


1- نفس المصدر.
2- الاعراف/ 202.
3- ص 446-453.

و نقول:

إنّ الّذي يظهر من حال الممكن أنّه لا يستغني في حال من حالاته عن ربه من دون فرق بين حالتي حدوثه و بقائه، و أنّه في الحالين محتاج إلى إقامته إيّاه في الاعيان من دون تفاوت، و العبد إنّما يطغى بعد فرض وجوده و اتّصافه بالقدرة و العلم و الشعور و غير ذلك من صفاته، و بعد فرض وجود الاسباب المطغية له، و كلّ هذا من مدد الحقّ سبحانه عليه حدوثا و بقاء، و ليس من شرط المدد أن لا يصلح إلا لخصوص ما يمدّه بحيث لا يكون مددا لغيره، بل يجوز أن يكون صالحا لأمرين متضادّين، فاذا صرف الممدّ له المدد في أحدهما صحّ أن يقال:

إنّ الممدّ أمدّه في ذلك و إن لم يعين عليه، و لم يكن متعيّنا الامر الّذي صرفه فيه.

و لمّا كان كل ما في الكون ممّا يتعلّق بالانسان من نفسه و قواه و أعضائه و سائر الاسباب المهيّئة له صالحة لفعل الطاعة و المعصية، و مجموع ذلك مدد للمكلّف في طاعته و معصيته، فاذا صرف العبد ذلك في المعصية، و جعله وسيلة إلى العصيان، فقد أمدّه الحقّ في معصيته و طغيانه.

ثمّ إنّه إنّما يفعل باللّه و بحوله و قوّته، و هو مفتقر في فاعليّته إلى ربّه، و هذا أيضا مدد له. و الطغيان الذي يصدر منه أيضا موجود من الموجودات، محتاج في تحقّقه إلى وصول المدد إليه، و له أصل كلّيّ تحت الجهل الكلّيّ منفصلا عن هذا العالم بأسرها؛ كسائر جنود الجهل إن لم نعمّم الطغيان لجميعها، و إلا فأصله نفس الجهل الكلّيّ و جنوده بأسرها، و الطغيان الحادث في كلّ نفس يستمدّ من ذلك الطغيان الكلّيّ و يتحقّق بسببه. و الجهل و جنوده كلّها ممّا خلقه اللّه سبحانه و أبقاه في عالمه(1) بناء على إثبات ذلك العالم، كما لعلّه سيجيء بيانه في مطاوي

ص: 540


1- راجع رواية الكليني (ره) في الكافي باسناده عن سماعة بن مهران، عن أبي عبد اللّه - عليه السلام - في بيان العقل و الجهل و جنودهما و ما يتعلق بهما؛ تجده في المجلد الاول من المصدر كتاب العقل و الجهل، ح 14.

الابحاث - إن شاء اللّه تعالى -.

ثمّ إنّه غير خارج عن مشيّة اللّه و قضائه و قدره بناء على ما أشرنا إليه من عدم خروج المعاصي عنه، و لعلّه ستعرف التفصيل.

[وجه اضافة الطغيان الى المنافقين]

ثمّ إنّ في إضافة الطغيان إليهم كأنّه إشارة إلى ما ذكره في الكشّاف من «أنّ الطغيان و التمادي في الضلالة ممّا اقترفته أنفسهم، و اجترحته أيديهم، و أنّ اللّه بريء منه ردّا لاعتقاد الكفرة القائلين: لو شاء اللّه ما أشركنا، و نفيا لوهم من من عسى يتوهّم عند إسناد المدّ إلى ذاته لو لم يضف الطغيان إليهم أنّ الطغيان فعله. فلمّا أسند المدّ إليه على الطريق الذي ذكر أضاف الطغيان إليهم ليميط الشبهة و يقلعها، و يدفع في صدر من يلحد في صفاته.»(1) و أكّد ذلك بترك إضافته الغيّ حيث أسند إلى الشياطين في قوله: «وَ إِخْوٰانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ » .و غرضه الردّ على المجبّرة و إن كان هو بنفسه أيضا خارجا عن الميزان المستقيم، مائلا إلى التفويض على ما يظهر من جملة كلماته، و فيه إشارة إلى تكفير جمهور أهل مذهبه.

[في أنواع الطغيان و أن النفاق هو الطغيان]

ثمّ إنّ سائر أقسام النفاق أيضا ممّا يجري عليهم المهلة و المدد في الطغيان مستندا إلى اللّه سبحانه بالوجوه المتقدّمة على ما سبق، فانّ الطغيان على ما سبق ضدّ العبوديّة الّتي هي حدّ العبد الّذي من تجاوزه تجاوز حدّه و عتى و غلا، و هي غاية

ص: 541


1- الكشاف، ج 1، ص 36.

الخضوع، أو الخضوع مطلقا على ما سبق، و هو مقام المؤمنين المخلصين لا المخالفين ظواهرهم لبواطنهم، فانّهم خارجون عن تحت الخضوع بقدر ما يصدر منهم من ذلك؛ إذ ليس هذا من شئون الخضوع و العبوديّة و الطاعة، بل من شأن أنانيّة النفس و استعلائها، و طلبها الجاه و الكبرياء، بل كلّ غصن من أغصان النفاق بالمعنى المتقدّم تجاوز عن الحدّ و كفر، و تجاوز فيه على بعض الوجوه المتقدم إليها الاشارة، بل لا يبعد أن يندرج كلّ ما خرج عن الايمان و أغصانه و شئونه تحت الطغيان لكونه تجاوزا عن الحدّ الّذي هو العبوديّة المطلقة، كما يظهر من تطبيق صفات نفسه مع صفات ربّه، و سائر الوجوه المتقدّم إليها الاشارة في شرح كلمة الجلالة.

ثمّ إنّهم في ذلك عامهون متحيّرون متردّدون لانسلاب نور المعرفة و اليقين منهم، و استيلاء الظلمة الموجبة لذلك عليهم، سالكون أرضا عمهاء لا أعلام لها، و ذهبت إبل نفوسهم العمهى؛ إذ لا يدرون أين ذهبت، بل إذا أخرجوا أيديهم لم يكد يروها، و من لم يجعل اللّه له نورا فما له من نور (1).و أصل ذلك كلّه هو حالة الطغيان، كما أنّ أصل حالة البصيرة و السكينة و الثبات هو العبوديّة على ما ظهر و يظهر لك - إن شاء اللّه سبحانه -.

ثمّ إنّ لأنواع من الطغيان بالمعنى الاعمّ خصوصيّة في تحقّق العمى في القلب؛ كالكبر و العجب و الفخر و أمثالها، فانّها توجب أحوالا مضادّة للهداية و البصيرة، بل تمنع البصيرة عن الادراك، و هي العمدة في أسباب النّفاق بالمعنى المتقدّم.

ثمّ إنّ مدّهم في طغيانهم و هم يعمهون نوع من الاستهزاء بالمعنى المتقدّم

ص: 542


1- إشارة إلى قوله تعالى في سورة النور، آية 40، و هو: «... إِذٰا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرٰاهٰا وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللّٰهُ لَهُ نُوراً فَمٰا لَهُ مِنْ نُورٍ.»

كما يظهر وجهه بالمراجعة. و به يظهر وجه اتّصال و ارتباط معنويّ بين الجملتين بل بين المجموع و سابقته. و هذا العمه الحاصل لهم مقابل للهدى الثابت للمؤمنين في بعض الوجوه، و مضاه للختم و الغشاوة اللّتين أثبتتا للكافرين، و ربّما يؤكّد ذلك اتّباع تلك بقوله سبحانه: «أُولٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلاٰلَةَ بِالْهُدىٰ فَمٰا رَبِحَتْ تِجٰارَتُهُمْ وَ مٰا كٰانُوا مُهْتَدِينَ»

ص: 543

[بحوث حول الضّلالة و الهداية] [و تجارة المنافقين باشتراء الاولى بالاخرى]

[أُولٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلاٰلَةَ بِالْهُدىٰ فَمٰا رَبِحَتْ تِجٰارَتُهُمْ وَ مٰا كٰانُوا مُهْتَدِينَ ] «أُولٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلاٰلَةَ بِالْهُدىٰ ،باعوا دين اللّه، و اعتاضوا منه الكفر باللّه فَمٰا رَبِحَتْ تِجٰارَتُهُمْ ؛أي: ما ربحوا في تجارتهم في الآخرة لأنّهم اشتروا النار و أصناف عذابها بالجنّة الّتي كانت معدّة لهم لو آمنوا، وَ مٰا كٰانُوا مُهْتَدِينَ إلى الحقّ و الصواب.»(1) كذا عن العالم عليه السّلام فيما ربّما يحكى من تفسير الامام عليه السّلام.

و في تفسير القميّ:

«الضلالة هاهنا: الحيرة، و الهدى: [هو] البيان، فاختاروا الحيرة و الضلالة على الهدى و البيان.»(2)

[كيفيّة اشتراء الضّلالة بالهدى]

أقول: اشتراء الضلالة التي هي ضدّ الرشاد، و فقد الاهتداء، و الجور عن القصد؛ اختيارها عليه، و استبدالها به؛ إذ حقيقة الاشتراء إعطاء شيء و أخذ شيء مكانه، فهؤلاء تركوا الهدى و أخذوا الضلالة مكانه بعد تمكّنهم من الهدى، و قدرتهم عليه، فكأنّهم كانوا مالكين له مسلّطين عليه، فأعرضوا عنها و تركوها،

ص: 544


1- تفسير الامام - عليه السلام -، ص 47-48؛ و الصافي، ج 1، ص 63؛ و البرهان، ج 1، ص 64.
2- القمي، ج 1، ص 34؛ و البرهان، ج 1، ص 64.

و جعلوا مكانه الضلالة. فهذه صورة معاملتهم في متجر الدنيا و سوقها المعدّ لتحصيل الربح الدائم و الثواب العظيم. و لمّا كان الهدى هو الاصل في كلّ خير باق لكون الملكات و الاحوال و النيّات، و الاعمال كلّها من توابع الهداية، و الضلالة المقابلة له هي أصل كلّ شرّ حقيقي، كان هؤلاء المستبدلين خاسرين في تجارتهم، و ما كانوا مهتدين إلى طريق التجارة؛ لأنّهم أضاعوا الربح الذي هو فضل التجارة، و رأس المال الذي هو الهداية الّتي هي مال التجارة، الّتي لم يبق لهم مع الضلالة، و لم يحصل لهم سوى الضلالة التي هي أصل كلّ شرّ و مقصود التاجر هو بقاء رأس المال و الربح، و عدم حصول الضرر عليه، و هؤلاء ذهب عنهم الأوّلان، و لزم عليهم الامر الثالث مضافا إلى ضرره السابق.

ثمّ إنّ مراتب الهداية و الضلالة متقابلة، فالهداية الموهوبة الالهيّة عقيب سعي العبد في مقام العبوديّة في مقابلة الضلالة الحقيقيّة تقابل النور و الظلمة، و المعرفة الفطريّة التي فطر الناس عليها، التي هي أولى بصدق الاشتراء عليه في مقابل الضلالة الحاصلة من الاحتجاب عنه، و اليقين الاكتسابيّ البرهاني في مقابلة الشكّ و الجهل المركّب، و العلوم الاكتسابيّة في مقابلة الجهل بها بسيطا أو مركّبا، و كذا الامور المترتّبة على تلك الهدايات من السداد و الاستقامة و الرشاد و الاحوال و الملكات الحسنة، و النيّات الخالصة، و الافعال الصالحة في مقابلة أضدادها.

و الانسان في الدنيا كأنّه مجبول بالتجارة و اكتساب مصالحه بما عنده من العمر و الاعضاء و الادوات الخارجيّة، و القوى الداخليّة، و الادراكات الحاصلة له، فيستعملها في أخذ شيء و تحصيله، و ترك شيء و دفعه، كأنّه يحسّ من نفسه أنّه خلق لأجل الاكتساب و التجارة، لكنّ التجارات و الاكتسابات مختلفة، فتجارة المؤمنين رابحة يسّرها لهم ربّهم؛ كما وصف المتّقون بها في كلام أمير المؤمنين عليه السّلام(1)

ص: 545


1- قال عليه السلام في وصفهم: «تجارة مربحة، يسرها لهم ربهم.» راجع نهج البلاغة، خ 193، ص 304.

[في تشبيه المنافقين بالمستوقد] [النّار الّذى أذهب اللّه نوره و تركه في الظّلمة] [في بيان معنى المثل و وقود النار]

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نٰاراً

«المثل في أصل كلامهم بمعنى المثل، و هو: النظير؛ يقال: مثل و مثل و مثيل؛ كشبه و شبه و شبيه. ثمّ قيل للقول السائر الممثّل مضربه بمورده: مثل. و لا يخلو من غرابة، و من ثمّ حوفظ عن التغيير... و قد استعير المثل للحال أو الصفة أو القصة إذا كان لها شأن و فيها غرابة كأنّه قيل: حالهم العجيبة الشأن كحال الذي استوقد نارا، و كذلك قوله: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ » ... (1)«وَ لِلّٰهِ الْمَثَلُ الْأَعْلىٰ» (2)

أي: الوصف الذي له شأن من العظمة و الجلالة، و قوله: «مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرٰاةِ» (3)

أي: صفتهم و شأنهم المتعجب منه.»(4) كذا ذكره بعضهم.

و في الصحاح: «مثل كلمة تسوية؛ يقال: هذا مثله و مثله، كما يقال: شبهه و شبهه بمعنى - إلى أن قال: - و المثل ما يضرب به من الامثال، و مثل الشيء صفته أيضا.» انتهى.

و كأنّ إطلاق لفظ المثل على القول من قبيل توصيف اللّفظ بما هو من صفات

ص: 546


1- الرعد/ 35؛ و محمد - صلّى اللّه عليه و آله - / 15.
2- النحل/ 60.
3- الفتح/ 29.
4- راجع الكشاف، ج 1، ص 38.

ثمّ إنّ أقسام النفاق بالمعنى المتقدّم كلّها مشتركة في اشتراء الضلالة بالهداية؛ إذ الهداية الموهوبة و ظهور الهداية الفطريّة و كمالها إنّما يحصلان للعبد بالتحقق بالايمان الحقيقي بشئونه و أغصانه، لا بالاتّصاف بصفات المنافقين و الاتيان بأفعالهم.

و كذا يجري نظير ذلك في سائر المراتب بالنسبة إلى كثير من أقسام النفاق، و يظهر التفصيل بالتأمّل فيما سبق.

ثمّ إنّ المعاملة الواقعة بين الهدى و الضلالة الذين هما الاصلان في المقامين تجري في جميع آثارها، فقد اشتروا الاسلام بالكفر، و السعادة بالشقاوة، و الآجلة بالعاجلة، و الآخرة بالاولى، و الامر الحقيقيّ بالامر الوهمي، و الجنّة بالنار إلى غير ذلك، بل و في مبدأ الهداية و الضلالة في النفس، فانّ النفس لها صلاحيّة لقبول الهداية و طلبها، و ميل شأنيّ نحوها من طرف العقل و الفطرة، و لها صلاحية للاتّصاف بالضلالة، و طلب ما يترتّب عليه الضلالة و إن لم يشعر به، و ميل شأني نحوه من طرف النفس و أسباب الحجاب الطاري على الفطرة، فلا تغفل.

ص: 547

ص: 548

المعنى؛ كالكلّيّة و الجزئيّة و غيرهما لما بينهما من العلاقة و الربط معنى؛ إذ مدلول المثل أمر هو مماثل للممثّل له و نظيره، و إطلاقه على الصفة و الحال باعتبار كون الصورة و الحال الظاهر في الكلام الذي هو المعنى المتصوّر عند النفس مماثلا لما حلّ في الممثّل، كما يقال للصورة التمثال، و يقال: مثّلت له تمثيلا إذا صوّرت له مثاله بالكتابة و غيرها.

و احتمل في الموصول هنا أن يكون موضوعا موضع «الذين»؛ كقوله:

«وَ خُضْتُمْ كَالَّذِي خٰاضُوا» (1) باعتبار أنّ «الذي» وصلة إلى وصف كلّ معرفة بجملة و تكاثر وقوعه في كلامهم، و كونه مستطالا بصلته، فصار خفيفا بالتخفيف، و أنّ جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو و النون، إنّما ذلك علامة لزيادة الدلالة، كما يشهد له وحدة لفظ سائر الموصولات في الجمع و الواحد، و أن يكون المراد جنس المستوقدين و إن يراد الجمع أو الفوج الذي استوقد نارا.

و هذه الوجوه إنّما يوجّه لأجل إرجاع ضمير بنورهم و ما بعدها إلى الموصول، و إلا فتشبيه مثل جماعة المنافقين بمثل الشخص الذي استوقد ممّا لا ضير فيه أصلا. فعلى تقدير عدم إرجاع ضمائر الجمع إلى لفظ الموصول يتعيّن إبقاء اللّفظ على ظاهره.

و لعلّ أولى الوجوه إرادة الجنس من الموصول بحيث يشمل الواحد و المتعدّد بعد النظر إلى المعنى و اللّفظ معا، كما يظهر وجهه بالتأمّل.

و وقود النار: سطوعها و ارتفاع لهبها، و النار: جوهر لطيف مضيء حارّ محرق، و النور: ضوئها، و هو نقيض الظلمة.

ص: 549


1- التوبة/ 69.

[في معنى الاضاءة]

فَلَمّٰا أَضٰاءَتْ مٰا حَوْلَهُ

الاضاءة: فرط الانارة، كما يؤيّده قوله سبحانه: «جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيٰاءً وَ الْقَمَرَ نُوراً.» (1)

و الظاهر كون «ما» موصولة، و هو مفعول أضاءت، و إن احتمل أن يكون الفعل لازما، و الموصولة فاعله، و التأنيث باعتبار المعنى؛ لأنّ ما حول المستوقد أماكن و أشياء، و أن يستتر في الفعل فاعله، و يكون «ما» مزيدة أو موصولة بمعنى الامكنة. و على كلّ حال ف «حوله» منصوب على الظرف، و تأليفه للدوران و الاطافة، و لاجله قيل للعام حول؛ لانّه يدور. كذا ذكروه(2).

ذَهَبَ اللّٰهُ بِنُورِهِمْ [وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُمٰاتٍ لاٰ يُبْصِرُونَ ] يحتمل أن يكون جواب «لمّا»، فيكون الضمير راجعا إلى الّذي استوقد باعتبار المعنى بناء على كونه جمعا في المعنى، و يكون إفراد الضمير سابقا باعتبار اللّفظ. كذا ذكروه.

و لعلّ الاولى منه ما ذكر من إرادة الجنس، و يكون توحيد الضمير أولا باعتبار ملاحظة الجنس أمرا واحدا بالوحدة الصنفيّة، و جمعه ثانيا باعتبار ملاحظة تحقّقه في ضمن الجماعة، و وجوده في ضمن عدّة أشخاص فرضوا مستوقدين، و ليس هذا من الاستخدام في شيء، كما هو ظاهر، و كذا الكلام في قوله سبحانه:

«وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُمٰاتٍ لاٰ يُبْصِرُونَ » .

و ترك بمعنى: طرح و خلى إذا علّق بواحد، فاذا علّق بشيئين كان مضمّنا

ص: 550


1- يونس/ 5.
2- الكشاف، ج 1، ص 38.

معنى صيّر، و يجري مجرى أفعال القلوب، و منه المقام بحسب الظاهر و إن احتمل فيه كونه هنا بمعنى طرح. و يكون في ظلمات لا يبصرون حالين مترادفين أو متداخلين.

و الظلمة: عدم النور على ما ذكره في الكشّاف (1) ،و الصواب زيادة قيد، و هو كونه عمّا من شأنه النور، كما عن الحكماء. و قيل: «عرض ينافي النور. و اشتقاقها من قولهم: «ما ظلمك أن تفعل كذا؛ أي: ما منعك و شغلك، لأنّها تسدّ البصر، و تمنع الرؤية.» على ما ذكر بعضهم(2).

و في جمع الظلمة و تنكيرها و اتباعها بما يدلّ على نفي الابصار مطلقا، و هو قوله: «لا يبصرون»، و إسقاط المفعول منه بمنزلة المتروك المطرح الذي لا يخطر بالبال على ما قيل، دلالة على أنّ الظلمة بلغت مبلغا يبهت معها الواصفون.

و في تعليق الذهاب بالنور لا الضوء الذي كان يناسبه المقابلة، و نسبة الذهاب به إلى اللّه سبحانه تأييد لذلك.

و الاحتمال الثاني في قوله: ذَهَبَ اللّٰهُ بِنُورِهِمْ» أن لا يكون جواب «لمّا»، فيكون جواب «لمّا» محذوفا بقرينة ما بعده، و هو مثل طفئت النار الموقدة و خمدت، و بقي خابطا متحيّرا في الظلمات.

و حينئذ يكون الجملة المذكورة بمنزلة بيان لوجه المشابهة بين حال المنافقين و المستوقدين، و مرجع الضميرين إلى المنافقين، و هو أنسب بايرادها جمعا على خلاف الضمائر السّابقة، كما أنّ ذهاب النور أقلّ مناسبة لحال مستوقد النّار من حال المنافقين، كما أنّ لفظ النور و الظلمات و نفي الابصار ربّما يتراءى من ظواهرها تأييد الوجه الاول نظرا إلى بقائها على معانيها العرفيّة الشائعة.

ص: 551


1- نفس المصدر، ص 39.
2- نفس المصدر.

[في بيان وجه تشبيه المنافقين بالمستوقدين]

و على كلّ حال فالتشبيه الواقع بين مثلي المنافقين و مستوقد النار تارة يؤخذ تشبيها مركّبا، و المراد به أن ينتزع كيفيّة أمور متعدّدة فيشبّه بكيفيّة أخرى كذلك، فيقع في كلّ من الطرفين عدّة أمور ربّما يكون التشبيه فيما بينهما ظاهرا، لكن لا يلتفت إليه، بل إلى الهيئة الحاصلة من المجموع، كما في قوله(1):

و كأنّ أجرام النجوم لوامعا *** درر نثرن على بساط أزرق

و يكون التشبيه مركّبا.

و أخرى يؤخذ مفرّقا، فيكون التشبيه واقعا بين عدّه أمور مفردة و أخرى كذلك، و ينحلّ إلى تشبيهات عديدة بين أمور كذلك.

و منهم من قال: هذا التشبيه ليس مفرّقا و لا مركّبا، و إنّما يكون كذلك لو كان نسبة أشياء إلى أشياء و ليس كذلك، بل هو تشبيه شيء هو حال المنافقين بشيء هو حال المستوقد، و وجه الشبه اسم الإضاءة و الظلمة؛ أي: كما في حال المستوقد ما يسمّى إضاءة و ظلمة، فكذا في حال المنافقين. و وقوع الاسم في أحدهما بالحقيقة و في الآخر بالمجاز لا يقدح في اشتراك الاسم، و كأنّه مناقشة لفظيّة، و إلا فمعنى التشبيه المركب موجود فيما ذكره كما يظهر بالتأمل فيما قدّمناه.

و حينئذ فالامر دائر بين الامرين المذكورين. و على تقدير كونه مركّبا فوجود المشابهة بين المفردات و إن لم يكن لازما و لا ملحوظا من حيث هي، لكن وجو [د] ها بين المفردات بأسرها ممّا يقوّي المقصود من التشبيه و يؤكّده، بل يصير غالبا سببا لقوّة المشابهة بين المركّبين، لأنّ المركّب في الخارج ليس إلا الاجزاء و الهيئة التركيبيّة القائمة بها.

ص: 552


1- هو من قصيدة لأبي طالب الرقي، نقله التفتازاني (ره) في المطول في باب التشبيه فراجع.

و على تقدير أخذ التشبيه بين المفردات وجود المشابهة بين الهيئتين أيضا كذلك، بل لا ضير في اعتبار الهيئة أيضا من الامور المفرّقة التي يوقع التشبيه بينها.

و الظاهر في المقام كون التشبيه مركّبا، كما هو الشأن في مطلق التمثيل بالمعنى المصطلح عليه، و إيراد الامثال الغير البسيطة ممّا هو شائع عند العرب، بل ربّما صنّف في شأنها الكتب.

[في تطبيق مفاد الآية على حال المنافقين]

و حينئذ فلنشرع في تطبيق الاجزاء المذكورة في الآية على حال المنافقين مفردات، ثمّ نتمّمه ببيان المشابهة بين الجملتين من حيث التركيب على حسب ما نتصوّره من المشابهة، و العلم عند اللّه سبحانه. فنقول:

المفروض في المثال «اِسْتَوْقَدَ نٰاراً »،و أضاءت النار ما حول المستوقد، و «ذَهَبَ اللّٰهُ بِنُورِهِمْ » ،و «تَرَكَهُمْ فِي ظُلُمٰاتٍ لاٰ يُبْصِرُونَ» بناء على كون الجميع مثالا.

و المنافق أيضا أمّا استيقاده النار، فهو مشابه لحال المنافقين من حيث إظهارهم الاسلام، و تديّنهم به ظاهرا، و الالتزام بما يظهر منه في توجّه طمعهم و طلبهم إلى شيء مطلوب بسبب مباشرة أسبابه القريبة؛ و إضاءة ما حوله لحالهم من حيث احتقان دمائهم و أموالهم بها، و مشاركتهم المسلمين في الغنائم و العزّة الظاهريّة، و سائر منافع الاسلام من الامور الدنيويّة الظاهريّة التي وصل إليهم؛ و ذهاب اللّه بنورهم و تركهم في ظلمات لحالهم من حيث تعقّب الحرمان و الخيبة لانقلاب الاسباب قليلا في الدنيا بقدر ما ظهر من آثار نفاقهم فيها، و كمالا عند الموت إلى الابد؛ إذ ذهب نور صورة إسلامهم عند إخراج اللّه إيّاهم عن عالم الصورة بالاماتة، و بطل عنده المنافع التي كانت تترتّب على الصورة المجرّدة، و تركوا في ظلمات نفاقهم و كفرهم و معاصيهم لا يبصرون فيها أصلا، و ادّائهم تلك الظلمة إلى ظلمة العقاب

ص: 553

السرمد. و يؤكّد وجه المشابهة بين إضاءة النار ما حوله و بين المنافع القليلة التي ظهرت في الخارج أنّ الخارج هو محلّ استيقادهم النار؛ إذ ليس لهم من الاسلام إلا الظواهر الخارجيّة، و هي ممّا تضيء ما حوله من الآثار الظاهريّة، و لا تمتدّ إلى سائر الاطراف.

و حينئذ فيصحّ أن يجعل ذهاب نورهم أنّ وراء استضاءتهم بنور هذه الكلمة ظلمة النفاق الباطنيّ المؤدية إلى ظلمات البرزخ و القيامة و العقاب، فيكون بين الحالين في المنافقين باعتبار عالم الظاهر و الباطن، و في المستوقد زمانيّا.

و إذهاب اللّه نورهم عن الباطن مع أنّه لم يكن قطّ مستنيرا، يمكن أن يكون باعتبار منع الحقّ من تأثير هذه الصور الاسلاميّة الصادرة منهم من دون حقيقة عن نفوذه في الباطن، و تنويره إيّاه بنور الايمان، أو باعتبار الطبع و الختم الواقعين على بواطنهم و غيرهما من سائر أسباب الظلمة الباطنيّة.

و ربّما يذكر في هنا وجه مشابهة آخر يكون به مطابقا لما سبق من اشترائهم الضلالة بالهدى، و ذلك بأن يمثّل هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد و الضلالة التي اشتروها، و الطبع الواقع على قلوبهم بذهاب اللّه بنورهم، و تركهم في الظلمات.

[وجوه المشابهة بين النّار و الدّين]

ثمّ إنّ التأمّل التامّ في حال مستوقد النار يؤدّي إلى أنّه يطلب أمرا يظهر به نور، و يترتّب عليه منافع من دفع البرودة، و إنضاج ما ليس بمنضج، و تلطيف ما ليس بلطيف، و تأليف ما ليس بمؤتلف، و إحالة ما يتشبّث به، و تصعيد أجزائه إلى السماء.

و إذا تأمّلت في حال دين الاسلام بتمام شئونه الظاهريّة و الباطنيّة، فربّما

ص: 554

أدّاك إلى أنّه ممّا استجمع فيه هذه الصفات بأسرها باعتبار ظهور النور و الهداية على ما سبق، و اندفاع برودة الطبع به بحصول الشوق و الرغبة و المحبّة و غيرها به، و انضاجه النفس الحيوانيّة التي ليست بمنضجة، و تلطيفه الطبع الكثيف، و تأليفه بين الاشخاص المتباينة بجامع المشاركة في الدين، و بين الاعمال المختلفة المتضادّة المرتبطة كلّ منها إلى جزء من مصالح الدّنيا و الآخرة بجامع الاخلاص و وحدة الغاية و الداعي، و بين العقل و النفس و القوى و الاعضاء بالعدل بينها و سلوكها كلاّ إلى الصراط المستقيم، و إحالته النفس التي يتشبّث بها من مقام الامّارة إلى اللّوّامة و المطمئنّة، و تصعيده الارواح التي تتشبّث بها إلى العالم الاعلى؛ كما ورد في صفة طائفة: «أنّهم صحبوا الدّنيا بأبدان أرواحها معلّقة بالملإ(1) الاعلى» في كلام أمير المؤمنين عليه السّلام(2) على ما ببالي.

و إن شئت مزيد بيان للمشابهة بين الدين و النار فانظر إلى كلامه عليه السّلام في صفة من يصفه نفسه على ما حكي عن نهج البلاغة:

«قد أحيا عقله و أمات نفسه، حتّى دقّ جليله و لطف غليظه و برق له لامع كثير البرق، فأبان له الطريق، و سلك به السبيل، و تدافعته الابواب إلى باب السلامة و دار الاقامة، و ثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الامن و الراحة، بما استعمل قلبه، و أرضى ربّه.»(3)

فانظر إلى هذه الصفات، و قايسه إلى صفات النار، أو ليست النار تميث

ص: 555


1- خ. ل: «بالمحل».
2- فقرة من كلامه - عليه السلام - لكميل بن زياد النخعي (قده)، راجع نهج البلاغة ح 147، ص 497.
3- نهج البلاغة، خ 220، ص 337.

الحطب الذي توقد بها، و تحيي الشعلة التي تقوم بها، و تدقّ جليل الحطب، و تلطف غليظه حتّى يصير الحطب الكثيف دخانا لطيفا، و يظهر بسببها لمعان النور الذي يبين المساكن بطرقها، و يتمكن السالك من سلوك السبيل في ضوئه حتى يصل إلى مقصده و مقامه، و به يثبت رجلا السالك، و يطمئنّ بدنه؛ إذ لولاه لم يتمكن من وضع رجليه في موضع الطمأنينة و الاجتناب عن المزلق و المدحض، و به يحصل الامن و الراحة باستعمال البدن و إرضاء النفس، كما أنّ موقد نار الدين يستعمل قلبه و يرضى ربه؟

و أنت [إذا] تدبرت صفات النار وجدت المشابهة بينه و بين الايمان و الدين من وجوه أخر أيضا: ككونها مخلّصة للذهب من بين الاجناس التي يغشّ بها محرقة للامور الغير الثابتة الباقية، و ككونها مؤلمة للبدن الغريب و يعيش فيها(1)

السمندر على المشهور، و كذا الدين و الايمان مخلص للخلّصين الممتحنين محرق لغيرهم بالنار الباقية، و مؤلمة للمبتدئ بحيث يفرّ منه فرار الجبان من الاسد الشاكي، و يعيش فيها أهله عيشا هنيئا، و يحيون به حياة طيّبة بعد موتهم بالموت الاختياريّ، كما أنّ النّار تفني الصورة الاولى و تحدث صورة أخرى، و هذا حقيقة الموت بالمعنى الشامل للمعادن و غيرها، إلى غير ذلك ممّا يظهر بالتأمّل.

و لعلّه لما ذكر و أشباهه ظهر الدين بصورة النار في العالم الاوّل حيث عرض على النّاس الدخول فيها. و في القيامة حين يعرض جماعة ممّن لم يتمّ عليهم الحجّة على نار، و يؤمرون بالدخول فيها، فمن دخل كان عليه سلاما على ما يظهر من الاخبار المذكورة في محلّه. و الاعتبار يقضي بكونه صورة الدين في كلا العالمين.

و ربّما يظهر في صورة النار في المنامات الصحيحة الواقعة من أهل التقوى الباطنيّة.

ص: 556


1- في المخطوطة: «فيه».

[في ظهور آثار النّور و الظّلمة في الدّنيا و الآخرة]

ثمّ إنّ هذه النار المعنويّة مشتمل على نور يضيء ما حولها، فان كان مستوقدها في باطن العالم و ظاهره ظهرت آثار النور فيهما معا، و بقي النور في الباطن بعد خراب البدن لبقاء محلّه، و إن كان مستوقده الظاهر فقط، كما هو شأن المنافق يشرق نوره على الظاهر، و يحصل به المنافع الدنيويّة الظاهريّة، و لم يرتفع نوره إلى الباطن، بل يبطل النور الفطريّ بتلك الاعمال النفاقيّة، و يرتفع ظلمتها إلى القلب، و يستولى الظلمة عليه شيئا و شيئا من أثر تلك المعاصي الواقعيّة الظاهر بصورة الطاعات، إلى أن يحيط الظلمة بعالم القلب، فيصمّ و يعمي و يبكم، و لا يرجع إلى خير أبدا.

و ربّما يظهر أثر الظلمة الباطنيّة في عالم البدن لما بينهما من المناسبة و الارتباط، كما يشاهده الفطن في حال بعض الكفّار و المنهمكين في الفسق. و ربّما يظهر عند الموت حسّا للحاضرين، كما يحكى عن بعض المحتضرين، و بعد الموت ينكشف ظلمته لنفسه و أهل ذلك العالم من كان حاضرا عنده تمام الانكشاف، و يبقى الظلمة أبدا و ينتهي إلى ظلمة جهنّم خالدا فيها.

فاذهاب اللّه نور فطرتهم بمعاصيهم، و ردعه عن تأثير الصور الظاهريّة في تنوير الباطن، و إعدام النور بالمرّة عند فراق الدنيا كلّها مماثلة لحال المستوقد المذكور، و المبالغات المذكورة في الظلمة المتروكة فيها كلّها آتية هنا على النهج الاتمّ و الاكمل.

ثمّ إنّ التشبيه في الهيئة قد ظهر من تضاعيف ما ذكرنا، و نقول أيضا:

إنّ الحالين اشتركا في أنّهم غبّ الإضاءة خبطوا في ظلمة، و تورّطوا في حيرة، و وقعوا في ظلمات لا يبصرون أصلا، و خاب سعيهم، و بطل كدحهم، و لم يدم ما قصدوه بعد بروز و ظهور.

ص: 557

[في بيان وجه التّمثيل]

و ممّا فصّلنا يظهر بعض شأن هذا التمثيل الالهيّ بحسب مبلغ أفهامنا و مدرك بصائرنا، و ما يترتّب على ضربه من زيادة الكشف، و تتميم البيان، و تصوير المعقول صورة المحسوس، و تطبيق العوالم بعضها مع بعض، و إظهار حال بعضها لمن ليس من أهل ذلك العالم بايراد مثاله المطابق له من العالم الّذي هو فيه. و لمثل ذلك كثر ضرب الامثال في كلام الحكماء و العلماء و العرب على حسب مراتبهم و مقاصدهم في ضربها، و ليس يخفى شأنها في إبراز خبيّات المعاني، و رفع الاستار عن الحقائق، حتّى تريك المتخيّل في صورة المحقّق، و المتوهّم في معرض المتيقّن، و الغائب في صورة الشاهد. و فيه تبكيت للخصم، و قمع سورته.

و لعلّه لمثل ذلك كثر في كلامه سبحانه ضرب الامثال؛ كما قال سبحانه:

«وَ تِلْكَ الْأَمْثٰالُ نَضْرِبُهٰا لِلنّٰاسِ وَ مٰا يَعْقِلُهٰا إِلاَّ الْعٰالِمُونَ » (1) .

و قد سبق في الاخبار على ما ببالي: «أن القرآن أمثال لقوم يعلمون »(2).

و الظاهر أنّ كمال المثال في اتّحاده مع الممثّل مع تغاير العالمين؛ إذ العوالم متطابقة، فكلّ شيء يرى هاهنا فله حقيقة في سائر العوالم، بل كلّ ما هاهنا مثال لما هناك، فتفهّم إن كنت من أهله.

ثمّ إنّ هاهنا نكته و هو: أنّهم فرّقوا بين «أذهبه» و «ذهب به» بأنّ معنى أذهبه: جعله ذاهبا و أزاله، و معنى ذهب به: استصحبه و مضى به معه. و حينئذ فلعلّ في التعبير على الوجه الثاني هاهنا دلالة على أن ما يفنى من هذا العالم لا ينعدم انعداما مطلقا، بل هو موجود في عالم آخر من عوالمه سبحانه،

ص: 558


1- العنكبوت/ 43.
2- المقدمة الثانية، ص 39.

و لعلّك تطّلع على تفصيله في سائر المواضع - إن شاء اللّه سبحانه -، هذا.

[روايات حول تفسير الآية]

و يؤيّد بعض ما ذكرنا هنا ما روي عن الكاظم عليه السّلام أنّه قال:

«مثل هؤلاء المنافقون كمثل الّذي استوقد نارا أبصر بها ما حوله، فلمّا أبصر ما حوله ذهب اللّه بنورهم بريح أرسلها فأطفأها، أو مطر، كذلك مثل هؤلاء المنافقين لمّا أخذ اللّه عليهم من البيعة لعليّ بن أبي طالب عليه السّلام أعطوا ظاهرها شهادة أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له، و أن محمّدا صلّى اللّه عليه و آله عبده و رسوله، و أنّ عليّا وليّه و وصيّه و وارثه، و خليفته في أمّته، و قاضي دينه، و منجز عداته و القائم بسياسة عباد اللّه مقامه. فورث مواريث المسلمين بها، و نكح في المسلمين بها، فوالوه من أجلها، و أحسنوا عنه(1) الدفاع بسببها، و اتّخذوه أخا يصونونه ممّا يصونون عنه أنفسهم بسماعهم منه لها. فلمّا جاءه الموت وقع في حكم ربّ العالمين، العالم بالاسرار الّذي لا تخفى عليه خافية، فأخذهم بعذاب باطن كفرهم، فذلك حين ذهب نورهم، و صاروا في ظلمات عذاب اللّه، ظلمات أحكام الآخرة، لا يرون منها خروجا، و لا يجدون عنها محيصا »(2).

و إذا دقّقت النظر في هذه الرواية وجدت مساقها جارية على سائر مراتب النفاق

ص: 559


1- في المخطوطة و البرهان: «عنها».
2- تفسير الامام - عليه السلام - ص 50؛ و البرهان، ج 1، ص 64-65.

المشار إليها بعد ملاحظة ما ذكرناه في الآيات السابقة، فلا نطيل بذكر التفصيل، كما أنّه يجري نظير جملة ممّا تقدّم في شرح نظير الرواية هنا بأدنى تأمّل.

و عن الكافي باسناده عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله: «كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نٰاراً فَلَمّٰا أَضٰاءَتْ مٰا حَوْلَهُ » :

«يقول: أضاءت الارض بنور محمّد صلّى اللّه عليه و آله كما تضيء الشمس، فضرب اللّه مثل محمّد صلّى اللّه عليه و آله الشمس، و مثل عليّ الوصيّ عليه السّلام القمر، و هو قوله عزّ و جلّ: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيٰاءً وَ الْقَمَرَ نُوراً» و قوله: «وَ آيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهٰارَ فَإِذٰا هُمْ مُظْلِمُونَ » (1) ،و قوله عزّ و جلّ: «ذَهَبَ اللّٰهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُمٰاتٍ لاٰ يُبْصِرُونَ » ؛يعني قبض محمّد صلّى اللّه عليه و آله فظهرت الظلمة، فلم يبصروا فضل أهل بيته، و هو قوله عزّ و جلّ:

وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدىٰ لاٰ يَسْمَعُوا وَ تَرٰاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَ هُمْ لاٰ يُبْصِرُونَ » (2) .

أقول:

كأنّه إشارة إلى تطبيق حال المنافق في عالمه الصغير بحال العالم الكبير بالقياس إلى النوع، و ذلك أنّه كما كان صفة المنافق هنا أنّه كان في حكم الاسلام مدّة تضيء نار الاسلام عليه، و عقّب باذهاب اللّه نورهم و تركهم في ظلمات لا يبصرون، كذلك نار الاسلام في العالم الكبير كانت يستوقدها محمّد صلّى اللّه عليه و آله حتّى شيّد أمر الدين، و نصر الاسلام و أعلى كلمته، كما تضيء الشمس في النهار في ظاهر العالم. كما

ص: 560


1- يس/ 37.
2- الآية الاخيرة: الاعراف/ 198، و فيها: «إن تدعوهم»؛ و الحديث في الكافي ج 8، ص 380، ح 574، عن جابر، عنه - عليه السلام -؛ و كذا في البرهان، ج 1، ص 65، ح 3؛ و نور الثقلين، ج 1، ص 36، ح 25.

أنّ إشراق الاسلام كان في ظاهر الناس قويّا، ثمّ سلخ اللّه من اللّيل النهار، فاذا هم مظلمون، و ذهب اللّه بنورهم عند قبضه صلّى اللّه عليه و آله فصاروا في ظلمات لا يبصرون نورهم الّذي هو أهل البيت، فأظلمت الدنيا، و بقي أهلها في ظلمة اللّيل لا يبصرون النور الّذي هو الامام.

و يناسبه إطلاق الإضاءة أوّلا الّذي هو صفة الشمس، و ذكر النور في الذهاب به، الّذي هو صفة القمر، فالمضيء الشمس ما لم يسلخ، و المذهب به هو القمر، و ليس الذهاب به إلا استصحاب الحقّ إيّاه، و المضيء به معه لا الانعدام على ما سبق، و هو مقام توجّهه إلى اللّه سبحانه، و تفرّده عن الخلق.

و يمكن أن يكون الرواية ناظرة إلى تطبيق المثال الخارجيّ المذكور في الآية إلى عالم المعنى، فيكون مستوقد النار هو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و إضاءته إشراق نور الاسلام و ظهور كلمته، و النور نور الامام، و إذهاب اللّه بالضياء هو ارتحال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بقائهم في الفتنة العمياء الحادثة بعده.

و يناسبه عدم التعبير بضمير المفرد المطابق للمستوقد؛ إذ لم يذهب اللّه بنور النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في حدّ نفسه، و لم يتركه في الظلمات، بل أذهب بما أشرق عليهم من نوره عنهم، و ترك هؤلاء في ظلمات لا يبصرون.

و كما أنّ نور القمر مأخوذ من الشمس، كذلك علم الامام من علم الرسول، فالشمس هي المنيرة أوّلا، كما أنّ النبيّ هو المنير الاوّل في عالم المعنى، و هو الضياء المشرق في النهار الّذي هو عالم الظاهر، و القمر هو المنير ثانيا خلافة عن الشمس و وساطة بينها و بين العالم، كما أنّ الامام هو الثاني في مقام المعنى و إشراقه في الباطن، و الخفاء الّذي يساوقه اللّيل في الظاهر. و كما أنّ لعالم الظاهر نهارا و ليلا، كذلك لنور الهداية زمان ظهور و إشراق، و زمان انسلاخ نهار عن اللّيل و خفاء تامّ له.

ص: 561

و عن ابن بابويه باسناده عن إبراهيم بن أبي محمود، قال:

سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن قول اللّه تعالى: «وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُمٰاتٍ لاٰ يُبْصِرُونَ» فقال: «إنّ اللّه لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه، و لكنّه متى علم أنّهم لا يرجعون عن الكفر و الضلالة فمنعهم المعاونة و اللّطف خلاّ بينهم و بين اختيارهم »(1).

و كأنّه عليه السّلام أراد به أنّ اللّه لا يوصف بترك المخلوق بحاله؛ إذ لو ترك و قطع عنه المدد و الفيض لم يبق له وجود، و صار معدوما محضا لم يبق له شيئيّة بخلاف المخلوق الذي يوصف بترك الشيء بحاله، و دفع التصرف عنه بوجه من الوجوه، و يصير خارجا عن قبضته و تقليبه و تصرّفه و جريان حكمه عليه. و أمّا الحقّ القيّوم، فلا يمكن أن يخرج شيء من قبضته و تصرّفه و ملكه و قضائه و قدره و فيضه، لكنّه بعد تمام الحجّة عليه و ظهور عدم رجوعه يمنعه المعاونة على الخير و اللّطف المقرب إليه، أو مطلق اللّطف بالمعنى العرفي، و خلّى بينه و بين اختياره، و ولاه ما تولّى، و أبقى عليه وجوده و اختياره، و ما يتوقّف عليه أحدهما في حال كفره أو عصيانه حتّى صار عاصيا بما أمدّه به و أعطاه و جاريا عليه في ذلك قضاؤه و قدره، و محفوظا في حاله و مقامه.

و يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ ترك ما من شأنه أن يفعل لا يصدر منه سبحانه كما يصدر من الخلق، بل علمه بعدم الرجوع أخرجهم عن شأنيّة الاعطاء فمنعوا و تركوا على حالهم، فهم الموجبون للترك على أنفسهم، و حرموها عن

ص: 562


1- أورده - رحمه اللّه - في العيون، ج 1، باب 11، ص 101، ح 16؛ و كذا في الصافي، ج 1، ص 63؛ و البرهان، ج 1، ص 65، ح 4؛ و نور الثقلين، ج 1، ص 36، ح 26.

[في بيان معنى الصّمم و العمى و البكم] [و ظهورها في الدنيا و الآخرة]

صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ

يعني: يصمّون في الآخرة في عذابها. «بكم»: يبكمون هنا بين أطباق نيرانها. «عمي» يعني: يعمون هناك، و ذلك نظير قوله عزّ و جلّ:

«وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ أَعْمىٰ» (1) «وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ عَلىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَ بُكْماً وَ صُمًّا مَأْوٰاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمٰا خَبَتْ زِدْنٰاهُمْ سَعِيراً» (2) كذا عن تفسير الامام عليه السّلام في ذيل ما تقدّم ظاهرا.

أقول:

كونهم أصمّ و أعمى و أبكم في الآخرة يشهد عند أولى الالباب أنّ لهم صمما و عميا و بكما باطنيا غيبيا في الدنيا لم تظهر فيها لأهل الدنيا، و إنّما ظهرت في الآخرة الّتي هي يوم تبلى السرائر و تبدى الضمائر، فانّ الدنيا مزرعة الآخرة بنوالها و نكالها، و ثوابها و عقابها. و كيف يوجد في الزرع وقت حصاده ما ليس في البذر وقت زراعته؟ و لعلّ في ذيل الآية المتقدّمة إشارة إليه، و هو قوله عزّ و جلّ:

«قٰالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمىٰ وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قٰالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيٰاتُنٰا فَنَسِيتَهٰا وَ كَذٰلِكَ الْيَوْمَ تُنْسىٰ » (3) .

ص: 563


1- طه/ 124.
2- الآية الاخيرة: الاسراء/ 97؛ و الحديث: راجع المصادر المذكورة في تعليقة 2 ص 559.
3- طه/ 125-126.

بمعدن طيّب .»(1).

ثمّ إنّ نظير هذا المعنى المنتزع من المثال المذكور في الآية يحصل لأهل المجاهدة و إصلاح القلب، فانّه كثيرا ما يحدث لهم مواهب و أحوال حسنة، و إشراقات أنوار غيبيّة و غير ذلك، ثمّ يتعقبه الخمود و انقلاب الحال إلى ما كان قبله أو أسوإ منه، و ذلك لكونه عارضا ليس له في قلبه أصله، و لم يتمكّن من باطن الغيب، و هو أيضا من النفاق بالقياس إلى مقام حقيقته، و إن كان من مقام الايمان بالقياس إلى ما نزل عليه، فانّ للايمان درجات و مراتب، كما يظهر من أخبار عديدة مذكورة في محالّها(2).

و ربّما يرى هؤلاء في مبادئ أحوالهم رؤيا مطابقة لما ذكر في الآية، و يكشف ذلك عن وجود النفاق بالمعنى الاعمّ في نفس من رأى تلك الرؤيا إن كان ما يراه في منامه ناظرا إلى أحوال نفسه و باطن حاله. و حينئذ فلا بدّ له من السعي و المجاهدة إلى أن يصل إلى حقيقة ذلك الامر الصوري، و اللّه الهادي.

ص: 564


1- رواه علي بن عيسى (ره) في كشف الغمة، ج 2، باب في فضائل الامام أبي عبد اللّه الصادق - عليه السلام -، ص 158؛ و نقله المجلسي (رض) في البحار، ج 78، باب مواعظ الصادق - عليه السلام -، ص 202، ح 33.
2- راجع مبحث الايمان ذيل آية: «اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ »،و قد أورد المصنف - رحمه اللّه - فيه أخبارا في هذا المعنى.

ص: 565

و كذا قوله: «كَمٰا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ » (1).

إلى غير ذلك و قد تكرّر في الآيات و الاخبار الوصف بالعمى و الصمم و البكم و ما في معناها على وجه ظاهره تحقّقها فعلا؛ كما نقل عن مواعظ المسيح - على نبيّنا و آله و عليه السلام - أنّه قال:

«أ لم تكونوا عميا فبصّركم فلما بصّركم عميتم؟ ويلكم! أ لم تكونوا صمّا فأسمعكم، فلمّا أسمعكم صممتم؟ ويلكم! أ لم تكونوا بكما فانطقكم فلما أنطقكم بكمتم »(2).

و من تلك المواعظ أنّه قال:

«بحقّ أقول لكم: إنّ الدنيا خلقت مزرعة يزرع فيها العباد الحلو و المرّ و الشرّ و الخير؛ الخير له مغبّة(3) نافعة يوم الحساب، و الشرّ له عناء و شقاء يوم الحصاد »(4).

و قد سبق منّا مراتب من البيان في شرح الختم على القلب و السمع، و غشاوة البصر، و السمع المختوم عليها أصمّ عمّا ختم عليه، و العين المغشيّ عليها أعمى، و اللّسان الّذي من شأنه الحكاية عمّا في القلب إذا كان القلب مختوما عليها فليس له حكاية عمّا ختم عليه؛ إذ الختم مانع عن الدخول باعتبار، و من الخروج و الاظهار باعتبار آخر، و الاصل في الاظهار اللّسان، و المانع عن الدخول رافع للموضوع

ص: 566


1- الاعراف/ 29.
2- رواه الحراني (ره) في تحف العقول، باب مواعظ المسيح - عليه السلام -، ص 386-387؛ و نقله المجلسي (ره) في البحار، ج 14، باب مواعظ عيسى - عليه السلام -، ص 312-314، ح 17.
3- «المغبة»: عاقبة الشيء.
4- راجع المآخذ المذكورة في تعليقة 2 من هذه الصفحة.

بالنسبة إلى الاظهار؛ إذ الاظهار فرع الوجود في القلب. و كما أنّ في الباطن عينا و بصرا كذلك للانسان لسان باطنيّ غيبيّ به يذكر صاحبه الحقّ سبحانه ذكرا باطنيّا، و يقرأ القرآن كذلك. و كما أنّ للقلب نورا معنويّا به يظهر حقيقة المسموع و المبصر و المعقول، كذلك للانسان مقام إظهار المعنى بالاشراق من دون كلام لفظيّ. و كما أنّ في القلب و السمع و البصر موانع عن التأثير و الادراك الواقعيّ للحقّ كذلك للّسان مرض يمنعه عن الاقرار بالحقّ و الاذعان به، كما أنّ البكم مرض صوريّ يمنعه عن التنطّق.

و حينئذ فيظهر جملة ممّا يتعلّق بالمقام ممّا قدّمناه في الآية السالفة من الوجوه الظاهرية و المعنويّة، فراجع و تأمّل. و لعلّه يأتي تتمّة البيان في طيّ شرح سائر الآيات المشتملة على نحو من ذلك - إن شاء اللّه تعالى -، هذا.

و في تفسير القميّ هنا أنّ:

«الصمّ: الّذي لا يسمع، و البكم: الّذي يولد من أمّه أعمى، و العمي: الّذي يكون بصيرا ثمّ يعمى »(1).

و هو بظاهره غريب إلاّ أن يؤول إلى ما قيل من أنّ: «الاخرس: الّذي خلق و لا نطق له، و الابكم: الّذي له نطق و لا يعقل الجواب».(2) و ذلك بأن يريد من العمى عمى الباطن و عدم تعقّل الكلام، و مع ذلك فهو أيضا لا يخلو عن بعد.

أ لا ترى إلى أنّ جماعة من أهل العربيّة ذكروا هنا أنّه لمّا سدّوا عن الاصاخة إلى الحقّ مسامعهم، و أبوا أن ينطقوا به ألسنتهم، و أن ينظروا بعيونهم جعلوا كأنّما ألغيت مشاعرهم؟ و يحتمل في المقام وقوع اشتباه في التعبير، و أنّه كان في الاصل أنّ الابكم هو الّذي يولد من أمّه غير سميع، و الاصمّ الّذي يولد سميعا

ص: 567


1- القمي، ج 1، ص 34؛ و البرهان، ج 1، ص 65.
2- راجع مجمع البحرين.

ثمّ يصمّ، و ذلك غير خال عن الوجه؛ إذ الاصمّ بحسب الخلقة أبكم، إذ ما لم يسمع الالفاظ و يتعلّمها كيف ينتطق بها؟ و يكون قصر الاصمّ على غيره لقضيّة المقابلة له. و اللّه العالم.

[فَهُمْ لاٰ يَرْجِعُونَ ]

«فهم لا يرجعون إلى الهدى بعد أن باغوا، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها، أو أراد أنّهم بمنزلة المتحيّرين الّذين بقوا جامدين في مكافاتهم، و لا يدرون أ يتقدّمون أو يتأخّرون، و كيف يرجعون إلى حيث ابتدءوا منه.» كذا ذكروه(1).

و لعلّ الاولى إرادة أنّهم لا يرجعون عمّا هم فيه إلى الاستقامة على الصراط المستقيم بعد فقدان أسباب الاهتداء.

و قال بعض المفسّرين في ذيل شرح الآية: «مثله مثل مريد الطريقة، الّذي له بداية، و لازم خلوة و صحبة، حتّى شرقت له من صفحات القلب شوارق الشوق، و برقت له من أنوار الروح بوارق الذوق، فطرقته الهواجس و أزعجته الوساوس، و يرجع قهقري إلى ما كان من حضيض عالم الطبيعة، فغابت شمسه و أظلمت نفسه و فضل يومه أمسه.»

ص: 568


1- الكشاف، ج 1، ص 40.

[بيان أحوال المنافقين] [و امتناعهم عن استماع الحقّ في تشبيه آخر]

[أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمٰاءِ ]

[في معنى الصيّب و ما يراد منه]

أو كصيّب فيعل من الصوب؛ يقال: صاب أي: نزل، كما في الصحاح. و هو المطر لأنّه يصوب أي: ينزل و يقع، كما ذكره جماعة (1) ،و فسّره به القميّ (2) ،و الظاهر من الرواية الآتية - إن شاء اللّه -؛ أو السحاب ذو الصوب، كما ذكره الجوهري و غيره. قال (3): «الشماخ و أسحم دان: صادق الرعد صيب.» أي: هطل غير خلب لا عبث فيه، و الاحتمالان متقاربان في المقصود من المثال.

من السماء، يطلق السماء على هذه المظلّة، و على كلّ ما علاك فأظلّك كما صرّح به الجوهري؛ قال: «و منه قيل لسقف البيت سماء و على المطر يقال: ما زلنا نطأ السماء حتّى أتيناكم.» و كأنّه من إطلاق مبدإ الشيء عليه.

و ذكر(4) في وجه تقييد الصيّب بكونه من السماء مع أنّ كل صيّب كذلك أنّه يفيد حينئذ أنّه غمام مطبق آخذ بجميع الآفاق على ما يفيده تعريف الجنس من غير قرينة التبعيضيّة، و لو لم يذكر لم يحصل هذه الفائدة لجواز أن يكون الصيّب من بعض الآفاق؛ إذ كلّ ناحية من السماء و أفق من آفاقها سماء، ففي

ص: 569


1- كالزمخشري، فراجع الكشاف، ج 1، ص 41.
2- القمي، ج 1، ص 34؛ و البرهان، ج 1، ص 66.
3- الكشاف، ج 1، ص 41.
4- نفس المصدر.

الكلام حينئذ مبالغات من جهة مادّة الصيّب؛ الاولى، لأنّ الصاد من المستعلية و الياء مشدّدة؛ و المادّة الثانية، لأنّ الصوب فرط الانسكاب و الوقوع؛ و من جهة الصورة، لأنّ فيعلا صفة مشبّهة دالّة على الثبوت؛ و من جهة العارض، لأنّ التنكير للتعظيم و التهويل، و أمدّ ذلك بقوله: «من السماء» دلالة على أنّه مطبق لا يختصّ بسماء دون سماء.

و قال بعضهم (1): «إنّ في ذكر السماء هنا دلالة على أنّ السحاب من السماء ينحدر، و منها يأخذ ماءه، لا كزعم من يزعم أنّه يأخذه من البحر.» و أيّده قوله سبحانه: «وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّمٰاءِ مِنْ جِبٰالٍ فِيهٰا مِنْ بَرَدٍ .» (2).

و فيه أنّه مبنيّ على حمل السماء على الجوهر المحيط بالارض دون مطلق ما علا و أظلّ، على أنّ المراد من كونه من السماء كون انحداره منه بأن يكون الماء نازلا من السماء نزولا ظاهريّا كنزول المطر من السحاب، لا مطلق كون السماء مبدأ له بأن يكون دورانه أو إلقاء شعاع ما فيه على الاجسام الرطبة معدّا لتكوّنه و نزوله، و لا أن يكون النزول معنويّا بأن يكون له نحو وجود و ثبوت في ملكوت السماء و باطنه مقدّما على ظهوره و تحقّقه عندنا، فينزل منه إلينا، كما لعلّه المراد من قوله سبحانه: «وَ فِي السَّمٰاءِ رِزْقُكُمْ وَ مٰا تُوعَدُونَ» (3) و من قوله سبحانه:

«يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمٰاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ » (4) .

و ستعرف الحال في ذلك المطلب ممّا سيمرّ عليك في خلال التفسير - إن شاء اللّه تعالى -.

ص: 570


1- نفس المصدر.
2- النور/ 43.
3- الذاريات/ 22.
4- السجدة/ 5.

فِيهِ ظُلُمٰاتٌ

أي: في الصيّب على الظاهر، و لعلّ ظلمته على تقدير إرادة السحاب لكونه أسحم مطبقا منضمّة ظلمته لسحمته، و تطبيقه إلى ظلمة اللّيل المستفاد من قوله سبحانه: «كُلَّمٰا أَضٰاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ - الخ»(1) و إن لم يكن ظلمة اللّيل في المطر حقيقة، إلا أنّها باعتبار انضمامها إليهما يصحّ جعله في السحاب بتبعيّتهما؛ و على تقدير إرادة المطر ظلمة تكاثفه و انتساجه بتتابع القطر و ظلمة أطلال غمامه مع ظلمة اللّيل.

وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ

[في بيان حقيقة الرّعد و البرق و كيفيّة ظهورهما]

الرعد: الصوت الّذي يسمع من السحاب كما في الصحاح و غيره (2) ،بل قال بعضهم إنّ: «في كلام أهل اللّغة الرعد: صوت السحاب »(3).

و البرق الّذي يلمع من السحاب من النور و الضياء من برق الشيء بريقا إذا لمع، أو يكون هو الاصل المأخوذ منه ذلك، و ما ذكر هو الظاهر من العرف و اللّغة.

و قيل: «إنّ الرعد صوت ملك يزجر السحاب»(4) و كأنّه يريد بيان مبدإ ذلك الصوت المسموع من السحاب، لا بيان معنى اللّفظ.

و روي عن ابن عباس و مجاهد أنّ: «الرعد هو ملك موكل بالسحاب

ص: 571


1- البقرة/ 20.
2- راجع الكشاف، ج 1، ص 41.
3- راجع مجمع البحرين.
4- مجمع البيان، ج 1، ص 57.

يسبح »(1).

و ذكر الطبرسي في المجمع أنّه المرويّ عن أئمّتنا عليهم السّلام.

و عن الاوّل أنّ: «الملك الذى اسمه الرعد هو الذي يسمع صوته »(2).

و روي عنه أيضا أنّه قال: «انه ريح تختنق تحت السماء »(3).

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام:

«انّه مخاريق الملائكة من حديد تضرب بها السحاب، فينقدح منه النار »(4).

و في مجمع البحرين في الحديث:

«البرق مخاريق الملائكة تضرب السحاب، فتسوقه إلى الموضع الّذي قدّر اللّه فيه المطر »(5).

و في حديث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله:

«إن اللّه ينشئ السحاب، فينطق أحسن النطق، و يضحك

ص: 572


1- راجع التفسير الكبير، ج 5، ص 280؛ و التبيان، ج 1، ص 92؛ و مجمع البيان، ج 1، ص 57؛ و كذا في نور الثقلين، ج 1، ص 37.
2- نقله الطريحي (ره) في المجمع.
3- أورده الشيخ (ره) في التبيان، ج 1، ص 92؛ و الطبرسي (ره) في المجمع، ج 1، ص 57.
4- نفس المصادر.
5- رواه العياشي (ره) في تفسيره، ج 2، ص 207، ح 23، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه - عليه السلام - إلا فيه «قضى» بدل «قدر»؛ و أورده الصدوق (ره) فى الفقيه، ج 1، باب صلاة الاستسقاء، ج 1، ص 334، ح 9، بهذا الاسناد عنه - عليه السلام -؛ و كذا نقله المجلسي (ره) فى البحار، ج 59، باب السحاب و المطر و الشهاب، ص 379، ح 20.

أحسن الضحك، فمنطقه الرعد، و ضحكه البرق »(1).

و عن ابن عباس:

«أنّه سوط (2) من نور يزجر به الملك السحاب »(3).

و عن مجاهد، «أنّه مصع ملك »(4).و فسّر المصاع بالمجادلة بالسيوف و غيرها.

و قيل (5):إنّه نار تنقدح من اصطكاك الاجرام.

و عن الفقيه أنّه روي:

«أنّ الرعد صوت ملك أكبر من الذباب، و أصغر من الزنبور »(6).

و عنه و العيّاشي، عن الصادق عليه السّلام:

«أنّه بمنزلة الرجل يكون في الابل فيزجرها هاي هاي

ص: 573


1- مجمع البحرين؛ و كذا أخرجه الرازي في التفسير الكبير، ج 5، ص 280؛ و نقله أيضا المجلسي (رض) في البحار، ج 59، باب السحاب و المطر و الشهاب، ص 357.
2- في المخطوطة: «صوت».
3- التبيان، ج 1، ص 92؛ و المجمع، ج 1، ص 57؛ و مجمع البحرين.
4- التبيان، ج 1، ص 93؛ و المجمع، ج 1 ص 57
5- مجمع البيان، ج 1، ص 57.
6- الفقيه، ج 1، باب صلاة الاستسقاء، ص 334، ح 11؛ و نقله الفيض (ره) في الصافي، ج 1، ص 867؛ و المجلسي (رض) في البحار، ج 59، باب السحاب و المطر و الشهاب، ص 380، ح 21؛ و العروسي الحويزي (ره) في نور الثقلين، ج 1، ص 37، ح 30.

كهيئة ذلك »(1).

و لقائل أن يقول: إنّ ظهور البرق و الرعد لاجتماع الاجزاء الناريّة و الدخانيّة في باطن السحاب المتراكم الحاصل من الابخرة الّتي اشتمل على تلك الاجزاء النارية و الدخانيّة قبل تراكمه، فاذا اجتمع تلك الاجزاء في باطن السحاب بعد تراكمه ببرودة الهواء العالي أو الزمهرير، و تكاثفه من جهة البرودة و انعصاره، و كان أعلى السحاب أشدّ تراكما من أسفله لكون أعلى الهواء أبرد من أسفله، اندفعت تلك الاجزاء، و تخلّصت من الطرف الاسفل و شقّته و ظهرت بصورة نار ذا بريق و لمعان، و حصل من ذلك الانشقاق صوت هائل، فيكون البرق و الرعد؛ لكنّ البرق يدرك بالبصر، و هو لا يظهر لادراكه زمان، فهو مقارن للحالة المبصرة حقيقة أو عرفا، و الرعد يدرك بالسمع، فيلزمه تأخّر الادراك إلى وصول الصوت من السحاب إلى الارض، كما يشاهد نظيره في آلات النار المصنوعة للحرب، فان إدراك البصر ضوء نيرانها مقدّم للبعيد على سماع صوتها.

و يشهد لما ذكرنا من المنشأ للرعد و البرق أنّ الاكثر تصاحبهما معا و تأخّر الرعد عن البرق على حسب اختلاف السحاب قربا و بعدا إذا لم يكن السحاب بعيدا جدّا، و إلا ظهر البرق دون الرعد؛ لأنّ في إدراك البصر الضوء في الظلمة امتدادا يزيد على قرع الصوت الهواء المقابل له، و أنّ الاكثر حدوثهما في السحاب المتراكم جدّا، و في الربيع و ما يقرب منه من حيث الحرارة دون أصل الشتاء

ص: 574


1- الفقيه، ج 1، باب صلاة الاستسقاء، ص 334، ح 9؛ و العياشي، ج 2، ص 207، ح 23؛ و نقله أيضا الفيض (ره) في الصافي، ج 1 ص 867؛ و المجلسي (ره) في البحار، ج 59 باب السحاب و المطر و الشهاب، ص 379، ح 20؛ و البحراني في البرهان ج 2 ص 285، ح 7؛ و العروسي الحويزي (ره) في نور الثقلين، ج 1، ص 37، ح 31.

البارد جدّا لكثرة الاجزاء الناريّة و الحرارة فى مادّة السحاب حينئذ الموجبة لكثرة تصاعدها و وصولها إلى الهواء القويّ البرودة الموجب لشدّة عقد السحاب، و احتباس تلك الاجزاء في باطنه؛ و لذا لا يظهر دائما أو غالبا شيء منها في سحاب الثلج؛ إلى غير ذلك من الشواهد و الامارات.

لكنّ هذا إنّما هو في عالم الاسباب الطبيعيّة الظاهريّة الكائنة في ظاهر عالم الكون و الفساد، فلا ينافي ذلك وقوع ذلك بسبب الملائكة الموكلين بتلك الاجرام و الطبائع؛ و أن يكونوا هم الفاعلين لتلك الافاعيل واقعا بتلك الاسباب الظاهريّة و القوى و الاستعدادات؛ و أن يجري على ذلك الملك الزاجر للسحاب بتلك الاجزاء النارية حيث إنها السبب في تحرّك السحاب و صعوده و انتقاله في حدّ نفسه دون ما يعرضه من جهة الريح، و نحوه اسم الرعد، و يقال ذلك الاسم على الملك الموكل بهذا الشأن الذي يستند إليه ظهور هذه الاسباب الظاهريّة في ظاهر عالم الشهادة، و توصيفه بأنّه الزاجر للسحاب؛ و أن يقال: إنّه الملك الموكّل بالسحاب، و أنّه يسبّح لكونه من جملة الملائكة المسبحين؛ و أنّ الرعد صوته لكونه المبدا في ظهوره، كما أنّ الانسان مبدأ لظهور كلامه في الهواء في قالب فمه، مع أنّ حقيقة الانسان مغاير للقالب؛ و أنّه ريح تختنق تحت السماء إن أراد به الهواء المركّب مع تلك الاجزاء الناريّة، و اختناقه في داخل السحاب الواقع في جهة العلوّ، أو تحت جوهر السماء؛ و أنّه مخاريق الملائكة من حديد تضرب به السحاب فينقدح منه النار لما ذكرنا من كون تلك الاجزاء الناريّة حاصلة من أفاعيل الملائكة دالّة لفعلها و عندهم أصلها و معدنها.

فان شئت جعلت المخاريق نفس تلك الاجزاء الناريّة، و كونها من حديد لمشابهتها له جوهرا، أو كونها عند الاستحالة حديدا أو قريبا به، و ضرب السحاب به شقّ السحاب الملك به، و انقداح النار منه ظهور لمعانه بعد انشقاقه.

ص: 575

و إن شئت جعلت المخاريق عبارة عن الاصول الحاصلة عندهم، و ضرب السحاب به عبارة من إلقائها عليه، و انقداح النار عن ظهور النار منه.

و كذا يمكن وصفه بأنّه يسوقه الملائكة بتلك المخاريق إلى الموضع المقدّر إمطاره لما ذكر من أنّ تلك الاجزاء هي المحرّكة الداخلية، و الحركة المفروضة هي المستندة إلى ذلك الملك استقلالا دون الحركة الحاصلة من جهة الريح مثلا؛ لاستنادها أصالة إلى الملك الموكّل بالريح المحرّك.

ثمّ إذا لوحظ السحاب مبدأ لظهور البرق و الرعد بمنزلة انسان كان نطقه و الكلام الصادر منه الرعد و ضحكه البرق، و يصحّ التعبير عن البرق بأنّه صوت من نور يزجر به السحاب، و أنّه مصع ملك إذا شبّه ذلك الامر المعنويّ بالمقاتلة بآلات الحرب، و ذلك الملك الّذي هو المنشأ للرعد يصحّ التعبير عنه بالرعد، في عالم الملائكة، كما أنّ الصوت رعد في عالم الشهادة، او لكونه فعله و صفته و معلوله، فيطلق عليه اسمه؛ إذ ليس هنا لفظ من الالفاظ اللّغويّة أقرب إليه من ذلك اللّفظ.

و لعلّه لكون ذلك الموكّل من أصاغر الملائكة دون أكابرهم يوصف بأنّه أصغر من الزنبور، و لأنّه ليس في المرتبة القصوى من الصغر بأنّه أكبر من الذباب حيث إنّه أصغر الحيوانات و الزنبور أكبر منه و مندرج تحت الصغار.

و يصحّ وصف ذلك الملك بأنّه كالرجل يكون فى الابل يزجرها بكلامه؛ إذ هو ملك موكّل بالسحاب كائن فيه بفعله، و زاجر له بما يصدر منه.

و لقائل أن ينكر ذلك كلّه، و يبقي ألفاظ الاخبار على ما يفهمه العرف أوّلا قبل تدقيق النظر، و لا يلتفت إلى شيء ممّا يخالفه أخذا بحجزتها على حسب معانيها العرفيّة، أو رادّا لها إلى الائمّة - صلوات اللّه عليهم - موكلا لعلمها إليهم مسلّما. و هو الاقرب إلى الاحتياط و إن كان الظاهر هو ما ذكر.

ص: 576

و قريب من هذا المبحث كثير من المباحث، فعليك بالمقايسة و استخراج العناوين الكلّيّة من البيانات الخاصّة، لكن بشرط أن لا يطّرد الكلام إلى ما يتعلّق بالديانات و أصول الشرائع و فروعها، و ما يتعلّق بأغصانها و شئونها. و إيّاك و أن تفتح باب التأويل فيها! و هذا كلام وقع في البين، فلنرجع إلى ما كنّا فيه، فنقول:

إنّه إن جعلنا الصيّب عبارة عن السحاب فكونه مكانا للبرق و الرعد ظاهر لخروجهما منه و إن لم يتسمّيا قبل الخروج باسميهما بعد أن يكون هو محلّ خروجهما. و أمّا إن جعل عبارة عن المطر، فلعلّ جعلها فيه لوقوعهما في أعلاه و مبدئه، و ملابستهما له في الجملة، و كون ظهورهما و امتداد الصوت و الضوء مجاورا له في الهواء الفاصل بين السحاب و الارض. و لعلّ توحيدهما مع جمع الظلمات لكونهما في الاصل مصدرين، أو لارادة المعنى المصدريّ؛ أعني: الرعد و البرق المصدرين لرعدت السماء رعدا و برقت برقا، و تنكيرهما لأنّ المراد أنواع منها كأنّه قيل: ظلمات داجية، و رعد قاصف، و برق خاطف.

يَجْعَلُونَ أَصٰابِعَهُمْ فِي آذٰانِهِمْ

و الجاعلون هم أصحاب الصيّب الّذين وقعوا فيه، و ذلك بأن يقدّر للصيّب المدخول لأداة التشبيه مضافا، فيكون المشبّه به هو ذو الصيّب حتّى يوافق المشبّه و المثال الاوّل بحسب المساق، و يكون المضاف حينئذ هو المرجع لهذا الضمير و ما بعده.

و يحتمل ترك إضمار المضاف فيه؛ إذ لا يلزم في هذا النحو من التشبيه أن يكون المفرد المدخول لأداة التشبيه بنفسه مطابقا للمشبّه، و لا موافقا لما ابتدئ به في المثال الاوّل، و يكون هذه الضمائر راجعة إلى القوم الّذين وقع عليهم المطر

ص: 577

الّذي كالمذكور حكما أو مقدّر قبلها.

ثمّ إنّ هذه الجملة إمّا حاليّة من أصحاب الصيّب، كما ذهب إليه بعضهم(1) ، أو مستأنفة كأنّها وقعت جوابا للسؤال عن أنه كيف حالهم مع هذا الرعد، فقيل:

«يَجْعَلُونَ أَصٰابِعَهُمْ » ،ثمّ قيل: فكيف حالهم مع مثل ذلك البرق، فقيل: «يَكٰادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصٰارَهُمْ » ،كما ذكره جماعة (2).و لعلّ الاوّل أقرب.

ثمّ إنّ في نسبة الجعل إلى الاصابع مع عدم وقوعه إلاّ على رءوسها مبالغة حسنة، و لها نظائر كثيرة ينسب المنسوب إلى الجزء حقيقة إلى كلّه، كما يقال:

طلعت الشمس في وقت ظهور قرنه.

مِنَ الصَّوٰاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ

[معنى الصّاعقة]

الصاعقة قصفة رعد تنقض معها شقّة من نار، و البحث في حقيقتها قريب ممّا تقدّم في الرعد و البرق. فعلى ما ذكر تلك الاجزاء الناريّة إمّا أن تكون لطيفة تنطفي بسرعة، أو تكون قويّة شديدة غليظة المادّة، فتصل إلى الارض.

و ربّما دخلت في باطنها لقوّة وقوعها، فتسمّى صاعقة. و يقال الصاعقة لصيحة العذاب أيضا على ما ذكره بعضهم(3).

و كون جعل الاصابع في الاذان من الصواعق بمعنى كونه من أجلها، و أنّها الباعثة على ذلك؛ قيل: إنّ من هاهنا يغني غناء اللام في المفعول له، فقد يكون غاية يقصد حصوله، و قد يكون غاية يتقدّم وجوده.

و الحذر هو طلب السلامة ممّا يخاف، و هو منصوب على أنّه مفعول له.

ص: 578


1- راجع أنوار التنزيل، ص 16.
2- الكشاف، ج 1، ص 43؛ و الآية الاخيرة: البقرة/ 20.
3- راجع الصحاح؛ و التبيان، ج 1، ص 93؛ و مجمع البيان، ج 1، ص 57.

وَ اللّٰهُ مُحِيطٌ بِالْكٰافِرِينَ

[معنى إحاطة اللّه سبحانه]

ذكر جماعة أنّ: «إحاطة اللّه بالكافرين مجاز، و المعنى أنّهم لا يفو [تو] نه كما لا يفوت المحاط به المحيط حقيقة »(1).و قريب منه تفسيرها بأنّه قادر عليهم لا يستطيعون الخروج عن قدرته.

و عن الاصم: «أنّه عالم بهم فيعلم سرائرهم، و يطلع نبيّه على ضمائرهم »(2).

و عن مجاهد: «أنّه جامعهم يوم القيامة، يقال أحاط بكذا إذا لم يشذّ منه شيء »(3).

و احتمل بعضهم(4) أن يراد بالاحاطة: الاهلاك، كما في قوله سبحانه: «وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ» (5) أي: أصابه ما أهلكه. و أقرب هذه الوجوه هو الوجه الاوّل، و ورائها معنى يعسر بيانه و إدراكها، و يظهر بملاحظة ما ورد: «أنّه سبحانه مع كلّ شيء لا بمقارنة، و دون كلّ شيء لا بمزايلة »(6).و ما يقرب من ذلك البيان. و لعلّه يأتي بيان ما له - إن شاء اللّه تعالى -.

و قالوا: إنّ هذه الجملة اعتراضيّة، و ذكروا في نكتة إيراد تلك الجملة الاعتراضيّة: أنّه تنبيه على أنّ الحذر من الموت لا يفيد، و في فائدة وضع الكافرين موضع الضمير دلالة على أنّ أصحاب الصيّب كفّار، ليظهر استحقاقهم شدّة

ص: 579


1- التفسير الكبير، ج 1، ص 300؛ و الكشاف، ج 1، ص 42.
2- راجع مجمع البيان، ج 1 ص 58.
3- نفس المصدر.
4- نفس المصدر.
5- الكهف/ 42.
6- هو كلام أمير المؤمنين - عليه السلام - في خطبته، و فيه «غير» بدل «دون»، راجع نهج البلاغة، خ 1، ص 40.

الامر عليهم، ليكون أبلغ؛ كما في قوله تعالى: «كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهٰا صِرٌّ أَصٰابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ » (1).

و قيل: هذا الاعتراض من جملة أحوال المشبّه على أنّ المراد بالكافرين المنافقين، و أنّهم من عذاب اللّه في الآخرة و قدرته على إهلاكه إيّاهم في الدنيا بحيث لا مدفع له، و وسّط بين أحوال المشبّه به تنبيها على شدّة الاتّصال و فرط التناسب.

[وجوه تشبيه المنافقين بما أصابه الصيب]

ثمّ إنّ الكلام في هذا التشبيه نظير ما قدّمناه في التشبيه الاوّل، و أنّ المناسب بيان تطبيق المفردات و الهيئة التركيبيّة معا. فنقول في المقام الاوّل:

قد يقال: شبّه دين الاسلام بالصيّب؛ لأنّ القلوب تحيى به حياة الارض بالمطر، و ما يتعلّق به من شبه الكفّار بالظلمات، و ما فيه من الوعد و الوعيد بالرعد و البرق، و ما يصيب الكفرة من الافزاع و البلايا و الفتن من جهة أهل الاسلام بالصواعق؛ أو الظلمات بما في إسلامهم من إبطان الكفر، و ما فيه من الرعد بما في الاسلام من فرض الجهاد و خوف القتل، و بما يخافونه من وعيد الآخرة لشكّهم في دينهم، و ما فيه من البرق بما في إظهار الاسلام من حقن دمائهم و مناكحتهم و موارثتهم، و ما فيه من الصواعق بما في الاسلام من الزواجر بالعقاب في الآجل و العاجل؛ و قوّى ذلك بما روي عن الحسن أنّه: «مثل إسلام المنافق كصيّب هذا وصفه»؛ أو أنّه شبّه المطر المنزل من السماء بالقرآن، و ما فيه من الظلمات بما في القرآن من الابتلاء، و ما فيه من الرعد بما في القرآن من الزجر، و ما فيه من البرق بما فيه من البيان، و ما فيه من الصواعق بما في القرآن من الوعيد آجلا و الدعاء

ص: 580


1- آل عمران/ 117.

إلى الجهاد عاجلا، كما عن ابن عباس(1).

و قيل: «إنّه مثل للدنيا شبّه ما فيها من الشدّة و الرخاء بالصيّب الّذي يجمع ضرّا و نفعا، و أنّ المنافق يدفع عاجل الضرر و لا يطلب آجل النفع »(2).

[في تشبيه الحقّ بالمطر و بيان حقيقة متعلّقاته من الرّعد و غيره]

و لعلّ الاولى في وجه التطبيق بين المشبّه و المشبّه به أن يجعل المطر النازل من السماء إلى الهدى و الحقّ و الدين الّذي نزل من عند اللّه سبحانه، و من عالم الامر إلى هذا العالم لاحياء النفوس القابلة له المطيعة المنقادة؛ كما قال سبحانه:

«اِسْتَجِيبُوا لِلّٰهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذٰا دَعٰاكُمْ لِمٰا يُحْيِيكُمْ » (3) .

و هو ماء الحياة الروحانيّة الّذي من شرب منه لم يمت، و حيي حياة طيّبة في أدوم السرور و أسبغ الكرامة و أتمّ العيش؛ لكنّه إنّما يحيي الارض الساكنة تحته، القابلة له، الشاربة منه، الخاشعة القابلة للحياة الّتي ليست صلبة كالحجر، و لا مستعلية كالجبال، و لا سبخة لا تخرج النبات، و هي المحياة به المنتفعة به، و لا تستقرّ بما فيه من الرعد و البرق و الظلمات و الصواعق، بل هي عطشانة لا تطلب إلا الماء، و ليست لها التفات إلى تلك الامور، و لا لها ضرر بالنسبة إليها؛ لكن الّذين لم يتّصفوا بالصفات المذكورة للأرض خارجون(4) عن ذلك الحكم بقدر بعدهم عن تلك الصفات و ما يقتضيه طبيعة الارض. و ذلك الهدى و العلم إذا صوّر بصورة حسيّة كان صورته ماء، و لذا يرى في المنام بصورة الماء لو كان المرئيّ فيه هو

ص: 581


1- قد ترى هذه الوجوه من التطبيق في مجمع البيان، ج 1، ص 57؛ و التفسير الكبير، ج 1، ص 298؛ و الكشاف، ج 1، ص 40، و غيرها من كتب التفسير.
2- مجمع البيان، ج 1، ص 57،
3- الانفال/ 24.
4- في المخطوطة: «خارجين».

نفس الهدى و العلم من حيث هو، و بصورة المطر النازل من السحاب إن كان المرئيّ، في النوم هو الرشحات النازلة منه الواردة على القلب.

ثمّ إنّ ذلك الحقّ و الهدى لمّا نزل من عالم القدس، و ظهر في هذا العالم الظلماني لانقاذ أهله(1) ممّا هم فيه من الضلالة بصورة ألفاظ القرآن و ألفاظ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الامام عليه السّلام، و سائر أنواع ما أظهر به الحقّ للناس من فعل واقع موقع بيانه، أو تقرير أو غيرهما، عرضه الظلمة الثابتة لهذا العالم، كما أنّ الظلمات الّتي كانت في السحاب و المطر إنّما نشأت من نفس ظلمة هذا العالم الّتي كانت ثابتة له لو لا إشراق أنوار الكواكب عليه. فمن كان قلبه مظلما بظلمة باطن الدنيا ظهر له ذلك الحقّ في الظلمات الّتي هي مأواه و مستقرّه؛ كالمنافق، فتعلّق به منه شبهات و تخييلات و تمويهات أوجبت عدم إيمانه بها، و من كان خارجا بقلبه عن حكم ظلمة عالم المادّة و الطبيعة و ما يتفرّع عليها من الهوى و الكفر و الفسوق و العصيان، الّتي رأسها الدنيا و حبّها، و كان متّصفا بصفات الارض المتقدّمة، منقادا لأمر اللّه سبحانه، خاشعا له، متّبعا للذكر، قابلا للحقّ، ساكنا تحت الامر و الحكم، شاربا، و ليس قلبه قاسيا، و لا نفسه متكبّرة، و لا فاسد الطينة، خبيث المنشأ، عطشانا لا يطلب إلا الحقّ، لا همّ له إلا فيه، فهو خارج عن حكم الظلمة، و لا يضرّه ما يضرّ هؤلاء الواقعين فيها.

و تلك الشبهات الظلمانيّة تستولي على أهله على حسب مراتبهم، فمنهم من يمنعه عن إدراك الحقّ أصلا، و منهم من لا يمنعه إلا عن فهم المتشابهات الّتي عرضها التشابه في هذا العالم في الانظار الواقعة بحسبه، لا للراسخين في العلم و بينهما مراتب متوسّطة.

و في ذلك الحقّ النازل من سماء عالم القدس رعد و صوت قويّ يقرع أسماع

ص: 582


1- في المخطوطة: «أهلها».

الغافلين و النائمين في مراقد الغفلة و الطبيعة و الدنيا قرعا قويّا، و يزعجها إزعاجا شديدا مهولا مخوفا؛ كالتخويفات و الانذارات الواقعة فيه بالمخوفات العاجلة و الآجلة، و ذكر أسماء الغضب و الجلال و وصف القدرة و بيان الوقائع الماضية المشتملة على ورود النقمة على الطوائف السالفة و غير ذلك، و هي تقرع أسماعهم قرعا قويّا، و يوقظهم لو كانوا أحياء سامعين، و يزعجها لطلب النجاة من تلك الاهوال و المخاوف، و طلب دار السلام، و برق و بشارات، و منافع عاجلة و آجلة، و بيان رحمة و لطف، و بيان ألطاف سابقة وضعت على الماضين و ما يشمل ذلك، و هدايات تظهر في عين الظلمات، و تردع الظلمة عن اولئك المنافقين الواقعين فيها؛ لكنّها لا تدوم و لا تثبت فيها، و ليسوا قابلين لها قبول تأثّر و انفعال، فكأنّما برق تألق بالحمى ثمّ انثنى، فكأنّما لم يرجع، كما أنّ الرعد الواقع على تلك القلوب القاسية لم يسكن فيها، و لم يحلّ بها، بخلاف المؤمنين الّذين رسخت فيهم الانذار و التخويف و البشارة و الهداية، فخرج الحال لهم عن حال الرعد و البرق في انتفاء الثبات و غيره.

و كذا فيه صواعق و إنذارات قويّة يكاد يهلك بصوتها و نارها هؤلاء المنافقون من التخويفات البليغة الاخرويّة و الدنيويّة الّتي هي أشدّ الصواعق عليهم؛ إذ الدنيا هي معبودهم و مقصودهم و قبلة قلوبهم، و هم يسدّون أسماعهم عن الاصاخة إلى الحقّ و الهدى بأعمالهم الّتي يعملونها و يكتسبونها بأيديهم حتى لا يتأثر بتلك الانذارات القويّة، و يحذرون أن يميتهم إمّا صورة لشدّة استيلاء الخوف عليهم المهلك لهم ظاهرا، أو يميت نفوسهم المنافقة عن حياتها الخبيثة الشهوانيّة، الّذي هو الموت الاراديّ قبل الموت الطبيعي، الّذى يشير إليه ما ربّما يروى عنهم عليهم السّلام من قولهم عليهم السّلام: «موتوا قبل أن تموتوا»، أو يقعوا في القتل بسبب الاطاعة الصوريّة؛ كأوامر الجهاد و غيرها ممّا فيه تعريض النفس للموت، فهم يمنعون

ص: 583

أنفسهم عن استماع الحقّ المشتمل عليه استماع قبول و ائتمار حذرا عن ترتّب الموت عليه.

و هذا بخلاف المؤمنين الّذين قبلوا تلك الانذارات، و خافوا خوفا أمات نفوسهم، و عرضوا أنفسهم للمهالك في سبيله، بل صاروا بحيث لو لا الاجل الّذي كتب اللّه عليهم لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقا إلى الثواب و خوفا من العقاب كما وصف به أمير المؤمنين عليه السّلام المتّقين بذلك فيما ببالي من كلامه المذكور في النهج (1) ،بل أمات بعضهم كما صنع ذلك الخطبة ب «همّام» المصغي لها، الّذي قال عليه السّلام عند موته به أنّه: «هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها» على ما ببالي.

«وَ اللّٰهُ مُحِيطٌ بِالْكٰافِرِينَ» المستترين عن الحقّ بأغشيتهم، لا يخرجون عن تحت حكم قضائه و قدره و مشيّته و إرادته و قدرته بحيلة من حيلهم، و لا في حال من أحوالهم.

و أنت بعد التأمل فيما قدمناه في سائر الآيات تقدر على إجراء هذا المثال في سائر مراتب النفاق، فتدبّر في ذلك.

و أمّا الهيئة التركيبيّة و الكيفيّة الحاصلة من مجموع تلك المفردات المنضامّة المتلاصقة، فربّما يقال: إنّه لمّا وصف وقوع المنافقين في ضلالتهم، و ما خبطوا فيه من الحيرة و الدهشة شبّهت حيرتهم و شدّة الامر عليهم بمن أخذته السماء في اللّيلة المظلمة مع رعد و برق و خوف من الصواعق. و هذا في مقابلة الامن و السلامة و الهدى و الاستقامة و الفلاح الحاصلة للمؤمنين، هذا.

و عن تفسير الامام عليه السّلام أنّه قال العالم عليه السّلام:

«ثمّ ضرب اللّه عزّ و جلّ مثلا آخر للمنافقين، فقال: مثل

ص: 584


1- راجع النهج، خ 193، ص 303.

ما خوطبوا به من هذا القرآن الّذي أنزل عليك يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله مشتملا على بيان توحيدي، و إيضاح حجّة نبوّتك، و الدليل الباهر على استحقاق أخيك عليّ عليه السّلام الموقف الذي وقّفته، و المحلّ الّذي أحللته، و الرتبة الّتي رفعته إليها، و السياسة الّتي قلّدته إيّاها، فهي كالصيّب فيه ظلمات و رعد و برق.

قال: يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله، كما أنّ في هذا المطر هذه الاشياء و من ابتلي به خاف، فكذلك هؤلاء في ردّهم لبيعة عليّ عليه السّلام و خوفهم أن تعثر أنت يا محمّد على نفاقهم، كمثل من هو في هذا المطر و الرعد و البرق يخاف أن يخلع الرعد فؤاده، أو ينزل البرق بالصاعقة عليه. و كذلك هؤلاء يخافون أن تعثر على كفرهم فتوجب قتلهم و استيصالهم؛ يجعلون أصابعهم في آذانهم لئلا يخلع [قلوبهم من الصواعق حذر الموت، كما يجعل هؤلاء المبتلون بهذا الرعد أصابعهم في آذانهم لئلا يخلع] صوت الرعد أفئدتهم. و كذلك يجعلون أصابعهم في آذانهم إذا سمعوا لعنك لمن نكث البيعة، و وعيدك لهم إذا علمت أحوالهم؛ «يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت» لئلا يسمعوا لعنك و لا وعيدك، فيتغيّر ألوانهم، فيستدلّ أصحابك أنّهم المعنيّون باللّعن و الوعيد لما قد ظهر من التغيير و الاضطراب عليهم، فتقوى التهمة عليهم، و لا يأمنون هلاكهم بذلك على يدك و في حكمك.

ثمّ قال: «وَ اللّٰهُ مُحِيطٌ بِالْكٰافِرِينَ» مقتدر عليهم، و لو شاء

ص: 585

أظهر لك نفاق منافقيهم، و أبدى لك أسرارهم، و أمرك بقتلهم »(1).

و فيه تأييد لجملة ممّا قدّمناه بعد تذكّر جملة ممّا ذكرناه سابقا في تفسيره للآيات السابقة و بعض القواعد المتقدّمة، فلا تغفل عن ذلك.

ص: 586


1- تفسير الامام - عليه السلام -، ص 50-52؛ و البرهان، ج 1، ص 66.

[تحقيق حول الخطف و الشيء و بيان قدرة اللّه سبحانه]

يَكٰادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصٰارَهُمْ

[في معنى الخطف و وجه خطف أبصار المنافقين]

«الخطاف» على ما في الصحاح هو: الاستلاب، و فسّر بالاخذ باستلاب، و بالاخذ بسرعة، و هما قريبان من التفسير الاوّل.

و في تتمّة الرواية السابقة:

«و هذا مثل قوم ابتلوا ببرق فلم يغضّوا عنه(1) أبصارهم، و لم يستتروا(2) منه وجوههم لتسلم عيونهم من تلألئه، و لم ينظروا إلى الطريق الّذي يريدون أن يتخلّصوا فيه بضوء البرق، و لكنّهم نظروا إلى نفس البرق يكاد يخطف أبصارهم، فكذلك هؤلاء المنافقون يكاد ما في القرآن من الآيات المحكمة الدالّة على نبوّتك، الموضحة عن صدقك في نصب عليّ عليه السّلام إماما، و يكاد ما يشاهدونه منك يا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و من أخيك عليّ عليه السّلام من المعجزات الدالات على أنّ أمرك و أمره هو الحقّ [الّذي] لا ريب [فيه]، ثمّ هم مع ذلك لا ينظرون في دلائل ما يشاهدون من آيات القرآن و آياتك و آيات أخيك عليّ بن أبي طالب عليه السّلام؛ يكاد ذهابهم عن الحقّ في

ص: 587


1- في المخطوطة و البرهان: «عنها».
2- في التفسير: «لم يستروا»، استظهره المصنف (ره) في الهامش.

حججك، فيبطل عليهم سائر ما قد علموه من الاشياء الّتي يعرفونها؛ لأنّ من جحد حقا واحدا أدّاه ذلك الجحود [إلى] أن يجحد كلّ حقّ، فصار جاحده في بطلان سائر الحقوق عليه كالناظر إلى جرم الشمس في ذهاب نور بصره »(1).

و كأنّه يدلّ على أنّ المشبّه بالبرق هو الوجه الثاني من الوجهين المتقدّمين أعني: الهدايات الظاهرة في ألفاظ القرآن و النبي و الامام عليهما السّلام، و في أفعالهما و سيرتهما و ما أشبه ذلك، و أنّ اختطاف ذلك البرق بصائرهم لأنّهم لم يكونوا ناظرين إليها نظر المستهدي الطالب للحقّ و السلوك فيه، بل هم معرضون عن طلب النجاة و الفلاح لأنفسهم، و سلوك الصراط المستقيم المؤدّي إلى كلّ خير، و النجاة من كلّ شرّ؛ و إنّما ينظرون إلى نفس تلك العلامات ملتزمين بتركها متأبّين عن قبولها؛ كالمسافر المعرض عن طلب الطريق الفاتح بصره نحو البرق، فانّه في معرض ذهاب البصر، كذلك المنافقون الجاحدون للنبوّة أو الولاية أو الشاكّون فيها نظروا إلى تلك الآيات من حيث هي مع إعراضهم عن قبولها، فتكاد تلك الآيات أن يخطف بصائرهم بالكلّيّة و تسلبهم عقولهم و ألبابهم. و ذلك لأجل خروجهم بذلك عن مقتضى الفطرة الصحيحة القاضية بتطلّب الفلاح و النجاة لصاحبها، الّذي هو أعزّ النفوس عنده، و قبوله بعقله و التزامه إيّاه. فاذا وقع إدراكه على طريقه و أبى و جحد و أقدم على الحرمان من جميع الخيرات، و الوقوع في كلّ شرّ استكبارا و عنادا، و تكرّر ذلك في حقّه بترادف ظهور الآيات، و تواتر الاصرار على الجحود و الانكار، أدّى ذلك إلى تغيّر الفطرة الاولى في الطلب و القبول و الالتزام بمقتضى تعوّد مخالفتها في أهمّ مقتضياتها، فصار عدوّا لنفسه لا يطلب خيرها و لا دفع شرّها

ص: 588


1- راجع المصادر المذكورة فى تعليقة 1 ص 586.

إذا كانا من الامور الحقيقيّة الباقية لا الداثرة الفانية، و لا يقبل ذلك عند ورود موجب العلم و الادراك، و لا يلتزم به، فصار منسلخا عن البصيرة الّتي من شأنها القبول و الاتّصاف بالعلم، و داعية الطلب قبل ورود الموجب، و داعية الالتزام بعد القبول، كما هو الشأن في جميع القوى الانسانيّة و الحيوانيّة، فانّها تقوى بالاعمال، و تضعف أو تنعدم بالاهمال، خصوصا عند العمل على خلاف مقتضياتها و أضدادها، فانّ العادة كالطبيعة الثانية قاهرة على الطبيعة الاولى واردة عليها؛ أ لا ترى إلى أنّ بعض المشتغلين لوعظ الناس و ذكر المصائب لأجل التكسّب بهما و طلب المال و الجاه، إذا كان بناء أمره من أوّله إلى محض الحفظ و الذكر و ترك التأثّر، إذا داوم على ذلك يصير بحيث لا يمكن له تأثّر بوعظ و لا ذكر مصيبة و لو أجهد نفسه؟ لأنّه كلّما يرد على نفسه منهما شيء كان مسبوقا بورود نظائر كثيرة له مقترنة بعدم التأثّر، فلا يكون له وقع و تأثير في النفس أصلا، حتّى كأنّه منسلخ عن مقتضى التأثّر رأسا.

و أيضا فانّه إذا جحد النبوّة أو الولاية بعد ظهور الآية فقد أقدم على الاعراض عن الآخرة و الواقع رأسا، و الامور الراجعة إليهما هي الاصل في مدركات البصائر، فلم يبق لبصائرهم مجال نظر و تأمّل فيما من شأنها، فكأنّهم انسلخوا عنها، بل وقع ذلك بورود الغطاء و ضرب حجاب الجحود عليه و إن بقيت الشأنيّة، و قد عرضوا تلك النعمة الجسمية بالكفران و ترك صرفها فيما خلقت لأجلها، لأخذ اللّه سبحانه إيّاها عنهم بعد إتمام الحجّة بظهور الآيات و البيّنات. فمن طرفها صاروا في معرض خطف البصائر، و كاد أن يقع ذلك عليهم.

ثمّ من بعد التمادي في ذلك الحال ينجرّ الامر إلى الختم و الطبع و الغشاوة الخاطفة للبصائر، و قد سبق بيان أحوالها. و يجري نظير هذا البيان في جميع مراتب الجحود الواقع باختلاف العلم مع الحال، أو أحدهما مع العمل، كما يشهد له

ص: 589

في الجملة ما ورد من أنّ:

«العلم يهتف بالعمل فان أجابه و إلا ارتحل [عنه ]»(1).

و قوله سبحانه:

«وَ مٰا كٰانَ اللّٰهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدٰاهُمْ حَتّٰى يُبَيِّنَ لَهُمْ مٰا يَتَّقُونَ » (2) .

و غير ذلك، و التفصيل موكول إلى محلّه.

و أيضا فانّه إذا عاند الآيات و البيّنات بعد ظهورها و وضوحها استحقّ بذلك اللّعن و الخذلان، و التخلية بينه و بين الشيطان الغويّ، و تركه في الظلمة، و سلب نور البصيرة عنه، هذا.

و لو شبّه البرق بالبشارات الواردة عليهم فلعلّ مقاربتها لخطف أبصارهم لاجل أنّها من البشارات المتعلّقة بالعاجلة الّتي هي بأنفسها كالبرق أيضا في عدم الثبات و البقاء، و المنافقون لكونهم معرضين عن الآخرة، و توحّد همّهم في الدنيا، إذا سمعوا بشرى عاجلة تطلّعت نفوسهم إليها شوقا بحيث كاد أن تطير عقولهم لأجلها؛ كالكاملون في الايمان بالقياس إلى ذكر أوصاف المبدا و المعاد بخلاف المؤمنين الّذين لا يأسون على ما فاتهم منها، و لا يفرحون بما آتاهم.

ص: 590


1- هو من حكم أمير المؤمنين - عليه السلام -، فراجع نهج البلاغة، ح 366، ص 539؛ و كذا رواه المجلسي (ره) في البحار، ج 2، باب استعمال العلم و الاخلاص في طلبه، ص 33، ح 29، و ص 40، ح 71، عن عوالي اللئالي، عن النبي - صلّى اللّه عليه و آله -، و عن منية المريد، عن أبى عبد اللّه - عليه السلام -؛ و قال في ذيله: «يهتف بالعمل أي: العلم طالب للعمل، و يدعو الشخص إليه، فان لم يعمل الشخص بما هو مطلوب العلم و مقتضاه فارقه».
2- التوبة/ 115.

[في إيمان المنافقين عند الرّاحة و كفرهم عند الشّدائد]

كُلَّمٰا أَضٰاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ

إمّا متعدّ فيكون المعنى: كلّما نوّر لهم ممشى و مسلكا مشوا فيه، أو لازم بمعنى: كلّما لمع لهم مشوا في مطرح نوره. فينبغي عليه حذف مضاف أو التزام توسّع في نسبة، كما أنّ المفعول على الاوّل محذوف من الكلام. و المشي: جنس الحركة المخصوصة.

وَ إِذٰا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ

يحتمل فيه اللّزوم و التعدية كالإضاءة، و اللّزوم هو الظاهر لكثرة استعماله على ما ذكر، و استغنائه عن الحذف.

قٰامُوا

وقفوا و ثبتوا في مكانهم. و في تتمّة الرواية السابقة عند الجملة الاولى:

«إذا ظهر ما اعتقدوه أنّه الحجّة مشوا فيه ثبتوا عليه، و هؤلاء كانوا إذا أنتجت خيولهم الاناث و نساؤهم [الذكور]، و حملت نخليهم، و زكت زروعهم، و نمت تجاراتهم، و كثرت الالبان في ضروعهم قالوا: يوشك أن يكون هذا ببركة بيعتنا لعليّ عليه السّلام، إنّه مبخوت بذلك ينبغي أن نعطيه ظاهر الطاعة لنعيش في دولته. «وَ إِذٰا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قٰامُوا » ؛ أي: إذا أنتجت خيولهم الذكور و نساؤهم الاناث، و لم يربحوا في تجارتهم، و لا حملت نخيلهم، و لا زكت زروعهم وقفوا و قالوا: هذا بشؤم هذه البيعة الّتي بايعناها عليّا عليه السّلام، و التصديق الّذي صدّقنا محمّدا صلّى اللّه عليه و آله. و هو نظير ما

ص: 591

قال اللّه عزّ و جلّ: يا محمّد «إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هٰذِهِ مِنْ عِنْدِ اللّٰهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هٰذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قال اللّه تعالى قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللّٰهِ» (1) بحكمه النافذ و قضائه، ليس ذلك لشؤمي و لا ليمني »(2).

و أقول:

لمّا كان من جملة تلك الآيات المشبّهة بالبرق البركات و الخيرات المترتّبة على الهدى و الحقّ و دين الاسلام كما يشهد به ملاحظة حال أهل المدينة و غيرهم قبل الهجرة، و ملاحظة أحوالهم المتأخّرة عنها حيث أرخت الدنيا عليهم عراسيها، و أقبلت عليهم بجميع شئونها من كثرة المال، و بسط الجاه و الرخاء و السعة، و ارتفاع أسباب الفساد الّتي كانت قبله، و سائر البركات و الخيرات، مضافا إلى المعجزات الخاصّة، التي ظهر في نصر الاسلام و إصلاح أمور المسلمين المتعلّقة بدنياهم، و إلى سبق الاخبار بوقوعها من القرآن أو كلام الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فيكون وقوع المخبر به على حسب الاخبار السابق دليلا على صحّة النبوّة.

و لمّا كان المنافقون معرضين عن الآخرة مقصوري الهمم على أمور الدنيا فلا تضيء لهم الحجج إلا ما كان من هذا القبيل، و إضاءته لهم ظهور تلك الآثار الدنيويّة عليهم، و هم يمشون في ضوئه، و يسيرون في ظاهر أحكام الاسلام متمسّكين به طلبا لتلك الخيرات العاجلة، الّتي ظهرت لهم أنّ وصولها إليهم ببركة إظهارهم الاسلام، و التزامهم بأحكامه، الّتي من جملة عظامها قبول الولاية ظاهرا و الاقرار اللّسانيّ بها، و كذا ما ظهر لهم كونه من طرف كلّ حكم من أحكام الاسلام، و كلّ شأن من شئونه، كما يشاهد كثيرا من ترتّب الخيرات على الصدقات، و إقامة

ص: 592


1- النساء/ 78.
2- راجع المصادر المذكورة في تعليقة 1 ص 586.

المراثي على سيّد شباب أهل الجنّة و غيرهما.

و تلك الآثار الدنيويّة المترتّبة على آحاد أحكام الدين في طرفي الموافقة و المخالفة من أعظم البراهين على صحّة الدين بعد الاطلاع على مجاريها، و تدقيق النظر فيها؛ إذ ينكشف للعاقل عند ذلك أنّه لو لم يكن أمرا حقّا ثابتا في الواقع، لم يكن ليترتّب عليها شيء من ذلك؛ مضافا إلى شهادة الآثار الباطنيّة الظاهرة لأهل البصيرة الباطنيّة عليها، و إلى ما مرّ من انقلاب حال المسلمين بحسب دنياهم انقلابا فاحشا؛ لكن تلك البيّنات لا تؤثّر في قلوب المنافقين و باطنهم، و إنّما تؤثّر في مشيهم على طبقها، و ثباتهم على الالتزام الظاهريّ بما ترتّب عليه تلك الآثار المطلوبة من أصل الاسلام، أو قبول كلمة الولاية، أو سائر أحكام الحقّ و الدين، فلم توجب تحقّق الايمان لهم كما أوجب في حقّ المؤمنين، بل أوجب سلوكهم على حسبها ظاهرا.

و لمّا كانوا ناظرين إلى تلك الآيات بأنفسها طالبين لتلك الآثار من حيث ذواتها، لكونها من مصالح دنياهم لا من جهة كونها دلائل على أنّه الحقّ و و الصدق؛ لأنّهم غير طالبين له كما مرّ مثل ذلك في وصفهم، لزمه انقلاب حالهم إذا لم يظهر لهم تلك الآثار، أو ظهر لهم ما يضادّ مقاصدهم الدنيويّة، و تثاقلهم عن قبول أحكام الدين و الثبات عليه لفتور دواعيهم، و انتفاض أغراضهم، و عروض الشبهة لهم في كون الاسلام بأحكامه موجبا لترتّب المنافع الدنيويّة، و دفع المضارّ العاجلة الذين هما الغايتان لفعلهم.

ثمّ المناسب لحال المنافقين في الاصل أن يحملوا ما شاهدوا ترتّبها على الاسلام و أحكامه على أنّه من قبيل البخت و اليمن و البركة، الّتي يعتقدون أمثالها في كثير من الافعال و الاشخاص و غيرها، كما يشاهد في اعتقاد الناس نحو ذلك في الاعصار و الامصار، فلا يجعلونها حجّة و برهانا لكونه الحقّ النازل من عند اللّه

ص: 593

سبحانه لجحودهم ذلك، بل يجعلون المقامين من البخت و الشؤم، فيلزمهم المشي عند ظهور آثار ما يرونه بختا، و الوقوف و التثاقل عند خلافه.

و هذا يجري نظيره في حقّ كلّ عامل يعمل بالدين لأجل المنافع الدنيويّة في كلّ مقام، و لا ينظر إلى كونه وصلة إلى الآخرة سواء اعتقد كونه حقّا في الواقع موصلا إلى الجزاء الاخرويّ أم لا؛ كالمجاهد لأجل الغنيمة، و الحاجّ للتجارة، و معطي الزكاة و الخمس لأجل بركة المال و عدم تلفه، و الساعي في ترويج الدين للمال و الجاه، و المحصل للعلم لأحدهما و غير ذلك، و مقيم مجلس العزاء للبركة و دفع البليات و قضاء الحاجات. فانّه كلّما ظهر لهم ترتب مقاصدهم على ما فعلوه مشوا على الطريقة التي فعلوها. و إذا افتقدوا تلك الآثار قاموا و ثبتوا عنه، هذا.

و لو جعل البرق مشبها بالبشارات العاجلة كما احتملناه سابقا، فالامر في الجملتين أوضح و أظهر، كما يظهر بملاحظة ما تقدّم.

و لعلّه بهذه الملاحظة ذكر بعضهم في وجه المشابهة هنا أنه: «كلّما دعوا - يعني: المنافقين - إلى خير و غنيمة أسرعوا، و إذا وردت شدّة على المسلمين تحيّروا لكفرهم، و وقفوا كما وقف أولئك في الظلمات متحيرين »(1).

و أمّا ما قيل من: «أنهم اليهود لما نصر المسلمون ببدر قالوا: هذا الذي بشّر به موسى عليه السّلام، فلما نكبوا بأحد وقفوا و شكوا »(2) ،فبعيد جدّا حيث أنّ مساق هذه الجمل في صفة المنافقين و بيان حالهم لا الكفار.

نعم، لو جعلهم المنافقين المتردّدين باطنا، المظهرين للايمان، المصغين إلى كلام اليهود، أو المتخيلين نظير ما صدر منهم، أو القائلين به في خفاياهم، لم يكن

ص: 594


1- راجع مجمع البيان، ج 1، ص 59.
2- نفس المصدر.

خاليا عن وجه.

و أما ما قيل هنا من أنهم: «إذا آمنوا صار الايمان لهم نورا، فاذا ماتوا عادوا إلى ظلمة العقاب »(1) ،فهو أيضا بظاهره بعيد؛ إذ إظهار اسلام مع الكفر الباطني الذي اتصف به المنافق ليس نورا، و لا يضيء لهم شيئا، مع عدم ظهور المناسبة بين قيام أصحاب الصيب، العود إلى ظلمة العقاب.

و لعلّه أراد بذلك إجراء نظير الجملتين في سائر مراتب النفاق، الواقعة برزخا بين الايمان الخالص و الكفر المحض.

فالمناسب حينئذ أن يقول: إنّهم يسيرون تارة في ضوء الايمان، و يمكثون أخرى، كما في المثل المعروف: «أراك تقدم رجلا و تؤخر أخرى»؛ إذ لا ثبات لحالهم و دواعيهم و مقاماتهم، كما مرّ بيانه في ذيل الآيات السابقة.

و ربما يجعل الجملتان تمثيلا لشدة الامر على المنافقين بشدته على أصحاب الصيب، و ما هم فيه من غاية التحيّر و الجهل بما يأتون، و ما يذرون إذا صادفوا من البرق خفقة (2) ،مع خوف أن يخطف أبصارهم انتهزوها فرصة، فخطّوا خطوات يسيرة، فاذا خفي و فتر لمعانه بقوا واقفين متقيدين عن الحركة.

و يجري نظير هذا البيان في سائر أقسام النفاق، بل في غير ما خصّ الايمان الّذي أخلص نفسه للّه فاستخلصه، و صار من معادن دينه و أوتاد أرضه؛ كما ورد هذا الوصف في كلام أمير المؤمنين عليه السّلام على ما ببالي (3).فانّ من عدا ذلك المؤمن لا يخلوا عن تحيّر في أمر دينه، و جهل يرشده، و غيّ (4) و لو في بعض الموارد و

ص: 595


1- نفس المصدر.
2- خفق البرق: لمع (منه ره).
3- راجع نهج البلاغة، خ 87، ص 119؛ و كلامه - عليه السلام - هو: «قد أخلص للّه فاستخلصه، فهو من معادن دينه، و أوتاد أرضه».
4- في المخطوطة: «غيه».

الاحوال، و عن سعي ناقص بخطوات قليلة، و سكون أحيانا عن سلوك الصراط المستقيم، و الوقوف متقيّدا عند تقلّب الاحوال، و اللّه المستعان.

وَ لَوْ شٰاءَ اللّٰهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصٰارِهِمْ

[في أنّ اللّه قادر بإذهاب بصر المنافقين و إظهار كفرهم]

كأنّ المعنى أنّه لو شاء أن يذهب بسمعهم و أبصارهم لذهب بها، و حذف المفعول في «شاء» تعويلا على دلالة الجزاء عليه شائع، حتّى قيل: إنهم «لا يكادون يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب »(1).

و كأن الاولى أن يجعل هذا أيضا من تتمّة أحوال أصحاب الصيب، فيكون الاذهاب بالسمع بقصيف الرعد، و شدّة صوته بالزيادة في شدّته، أو واقعا على وجه يترتب عليه الذهاب، أو جعله مذهبا بمشيّة اللّه سبحانه، أو بسبب آخر، أو بنفس المشية بلا سبب أصلا، و كذا في إذهاب البصر بالبرق أو غيره.

و يشبه أن يكون إيراد هذه الجملة تنبيها على أنّ ما يفعلونه حذار البرق و الرعد ليس مخرجا لهم عن قضاء اللّه سبحانه و قدره و مشيّته و حكمه عليهم، و لا مغنيا لهم عن اللّه شيئا، و أنّ الحكم للّه وحده، فلا ينبغي الاعتماد على الحذر و تدبير العبد لنفسه، و لا طلب مسابقة اللّه في قضائه و الفرار من حكمه، بل ينبغي التوكل عليه سبحانه و الاعتماد عليه و التسليم له.

و في تتمّة الرواية السابقة:

«ثمّ قال اللّه عزّ و جلّ «وَ لَوْ شٰاءَ اللّٰهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصٰارِهِمْ»

حتّى لا يتهيأ لهم الاحتراز من أن تقف على كفرهم أنت و أصحابك المؤمنون، و توجب قتلهم »(2).

ص: 596


1- الكشاف، ج 1، ص 43.
2- راجع المصادر المذكورة في تعليقة 1 ص 586.

و لعلّه بيان لما يفيده هذه الجملة الواقعة في المثال في صفات المشبه أو إثبات لمثله فيه، و أنّه كما أن اللّه سبحانه لو شاء أذهبها عن أصحاب الصيب بما فيه من البرق و الرعد، فيبقون في تلك الاهوال و الشدائد مأخوذين عنهم أسباب التخلّص؛ إذ المبدا للخلاص هو الادراك و العمدة في أسبابه السمع و البصر، كذلك لو شاء لذهب بها عن المنافقين حتّى لا يتمكنوا من الحيلة و التحرز عن وقوع سبب الهلاك عليهم باظهار الاسلام و الالتزام بأحكامه، و سائر ما كانوا يجعلونه وقاية لهم، و جنة لدفع ما كان يعامل الكفار بمثله. و لعلّه مراد من فسره بأنه لو شاء لأظهر على كفرهم، فأهلكهم و دمّر عليهم.

و يحتمل خروج هذه الجملة عن حكم ما قبله، فيكون المراد بها المنافقون ابتداء. و الاول أقرب، و المآل على كلّ منهما واحد لا يتفاوت كثير تفاوت على الظاهر.

إِنَّ اللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ

[حقيقة الشيء و مصاديقه]

«الشيء» ما صحّ أن يعلم و يخبر عنه(1).

و عن سيبويه: «أنّه أول الاسماء و أعمها و أبهمها؛ لأنه يقع على الموجود و المعدوم.»(2) و هذا التعميم منسوب إلى محققي المتكلّمين، بل قال جماعة: «إنّ الشيء أعمّ العامّ، كما أنّ اللّه أخص الخاص، يجري على الجسم و العرض و القديم، و على المعدوم و المحال »(3).

ص: 597


1- راجع مجمع البيان، ج 1، ص 58؛ و الكشاف، ج 1، ص 43.
2- مجمع البيان، ج 1، ص 58.
3- راجع الكشاف، ج 1 ص 43.

و اعترض بأن المحال ليس شيئا اتفاقا، و أجيب بأنّ: ذلك الخلاف في الشيئية بمعنى التقرر و الثبوت في الخارج، لا في إطلاق لفظ الشيء. فانه بحث لغوي، مرجعه إلى النقل و السماع، لا يصلح محلا لاختلاف العقلاء الناظرين في المباحث العلمية. و الظاهر من طريقة الحكماء أنّ الشيئيّة تساوق الوجود، و أن ما ليس بموجود ليس بشيء.

و في المجمع بعد أن اختار الاول أيده بذيل هذه الآية و قال: «فان كل شيء سواه محدث، و كل محدث فله حالتان: حالة عدم، و حالة وجود، و إذا وجد خرج عن أن يكون مقدورا للقادر، لأن من المعلوم ضرورة أن الموجود لا يصح أن يوجد، فعلمنا أنه إنما يقدر عليه في حال عدمه ليخرجه من العدم إلى الوجود - ثمّ قال: - و على هذه المسألة يدور أكثر مسائل التوحيد »(1).و ذكر فى آخر كلامه في تفسير الآية أنّه: «قادر على الاشياء كلّها على ثلاثة وجوه: على المعدومات بأن يوجدها، و على الموجودات بأن يفنيها، و على مقدور غيره بأن يقدر عليه و يمنع منه »(2).

و هذا الكلام لا يلائم ما سبق منه إلا أن يقرر في خصوص القدرة على الايجاد بأن يقال كما أورده بعضهم: من أنّه لو كان الشيء هو الموجود كما يزعمون، لما كان متعلّقا للقدرة، لأنها عبارة عن الصفة المؤثرة على وفق الارادة، و تأثيرها هو الايجاد، و إيجاد الموجود محال.

و هو أيضا فاسد، و كيف يخرج الموجود عن تحت القدرة و الحال أن وجوده قائم بقدرته، و أثر له؟ و كيف ينفك الاثر عن المؤثر؟

بل التحقيق أن الممكن له حالة واحدة افتقارية إلى موجده في حال عدمه

ص: 598


1- مجمع البيان، ج 1، ص 58.
2- نفس المصدر، ص 59.

و حدوثه و بقائه من دون تفرقة في نحو الافتقار. فأنتم الفقراء إلى اللّه بقول مطلق، و بكل اعتبار و في كل حال، و اللّه هو الغني الحميد(1).

و ببالي أن في دعاء الحسين عليه السّلام في يوم عرفة:

«أنا الفقير في غناي، فكيف لا أكون فقيرا في فقري »؟(2).

و أما الشبهة المذكورة، فالجواب عنه ما ذكره بعضهم من أن المحال إيجاد الموجود بوجود سابق. و هو غير لازم، و اللازم إيجاد موجود بوجود هو أثر ذلك الايجاد، و هو ليس بمحال.

و أمّا المقدور، فان أريد به ما تعلّقت به القدرة فهو لا يكون إلا موجودا، و إن أريد ما يصلح أن يتعلّق به القدرة يكون معدوما. و هو المعنيّ بقولهم: «إن اللّه قادر على جميع الممكنات، و أن مقدوراته غير متناهية».

و هذا الكلام قريب من الصواب بعد إرادة الشأنيّة المقابلة للفعلية من صلوح التعلّق في كلامه، فانّ الممكن لا ينعدم عنه صلوح التعلّق بعد وجوده، بل هو بعد على ذلك الصلوح السابق، و أنّما كمل صلوحه بالفعلية ما دام باقيا بابقاء الحق إياه، و إقامته في الاعيان، فاذا انسلخ عنه ذلك ارتفع الكمال و الفعلية، كيف و ذلك الصلوح و القابليّة إنّما ثبت لذات الممكن من حيث ذاته، لا بعلّة أخرى، فكيف يزول عنه في حال الوجود الّذي هو وقت تقوّم الذات و تحققه؟

و قد تقرر في محلّه أن علّة الاحتياج إلى المؤثّر هو الامكان الذاتي، الّذي لم يسلب عنه بالوجود، بل هو موصوف بالامكان حال وجوده، كما كان موصوفا حال حدوثه، و باعتبار ما قبله. و حقيقة الامكان هو صلاحية الوجود؛ لكن الممكن

ص: 599


1- إشارة إلى قوله تعالى: «يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرٰاءُ إِلَى اللّٰهِ وَ اللّٰهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ» (فاطر/ 15).
2- راجع الاقبال و سائر كتب الادعية.

لا يصلح للكون بنفسه و بلا علّة؛ إذ هو ظاهر الامتناع، بل الذي يمكن أن يصير موجودا بايجاد قادر عليه ما دام هو موجدا له، فكيف يخرج عن تحت القدرة حال تأثير ذلك القدرة فيه، و خروجه عن حكم القدرة سبب امتناع وجوده؟

و من هذا البيان ظهر بقاء عموم الآية في الممكن حال الوجود من حيث وجوده و من حيث عدمه، و من حيث تقليبه و تصريفه في كلّ حيثية من حيثياته، و كلّ شأن من شئونه.

ثمّ إنّهم التزموا بعد عدم تخصيصهم الشيء بالموجود بأنّ الآية مخصّصة بالممكنات، و أنّ المراد بالشيء ما سوى الواجب و الممتنع، و كذا مقدور قادر آخر على ما نسب إلى جمهور المعتزلة من إنكار كونه مقدورا للحق سبحانه، و أنه يمتنع أن يكون مقدور واحد بين قادرين.

و التحقيق أنّه لم يرد على الآية تخصيص خارج أصلا، و أنّه باق على مفاده الذي ينساق إلى الذهن منها مع قطع النظر عن الخارج، لا أنّ العقل حكم بورود التخصيص عليه. و بيانه أن الشيء على ما صرحوا به هو ما يصح أن يعلم و يخبر عنه كما تقدم، و اعترف جماعة منهم بذلك صريحا، و هو الظاهر من ملاحظة العرف و اللّغة أيضا؛ لكن من البيّن أنه لو لم يفرض للشيء تميّز في حدّ نفسه في ذهن أو خارج أو في نفس الامر، لم يصح أن يكون معلوما و لا مخبرا عنه، و لا له مفهوم و لا معنى. فالشيئية فرع التميز و التحدد بحدوده، بحيث يمتاز به عمّا عداه و لو بوجه من وجوهه و اعتبار من اعتباراته، حتّى يصحّ وقوع العلم و الادراك به، و الخبر عليه، و يكون متحصلا في مرتبة نفسه، و معنى مغايرا لسائر المعاني، و مفهوما في مقابلة سائر المفاهيم. فلو لم يكن كذلك لما كان لادراجه تحت عنوان الشيء وجه أصلا، و لا يصح أن يشار إليه و يحكم عليه بأنّه شيء، و مندرج تحت الشيء أم لا.

ص: 600

و هذا التميز و التعيين فرع ثبوت ذلك المتميز المتعين، و تقرره إمّا في الذهن، أو في الخارج، أو في نفس الامر، أو مساوق له؛ إذ المراد بالثبوت و التقرر هو كون الشيء في حدّ نفسه متميزا عمّا سواه، و متعينا بحيث يصحّ الحكم عليه بأنّه هو.

و لعل مثل ذلك هو المراد ممّا نسب إلى أهل المعرفة من القول بالاعيان الثابتة في علم الحقّ، فان العلم يقتضي تعين المعلومات و تميزها بحدودها و مقاديرها مع أنّها لم تتصف بعد بالوجود، و لم توجد في الاعيان. و هذا المعنى ظاهر إذا أريد بالعلم هو حقيقة اسم العليم، و العلم المخلوق المنسوب إلى الحقّ نسبة الفعل إلى الفاعل، و الكلام إلى المتكلّم؛ إذ عند ظهور ذلك الاسم لا بدّ و أن يتعيّن المعلومات في ظلاله و بتبعيّته معرّاة عن الوجود، و إلا لم يكن علما بها، و لا صحّ وصفها بأنّها معلومات به.

و المفروض أن ذلك العلم محيط بالاشياء كلّها: «لا يعزب عنه مثقال ذرة في الارض و لا في السماوات »(1) ،و قد «وَسِعَ كُلَّ شَيْ ءٍ » (2) ، «وَ لاٰ يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّٰ بِمٰا شٰاءَ » (3) ،و ذلك العلم متقدّم في الوجود على الاشياء الموجودة مع شمولها لأولها و آخرها، فلا بدّ من أن تكون متعينة متميزة في نفس الامر بتبعيّة ذلك الاسم الحقيقي؛ إذ القدر الثابت من عدم تميز الاعدام هو أنّ الاعدام لا تتميّز بأنفسها، و لكنّها تتميز مقيسا إلى وجود موجود و تبعا له، بحيث يصح الحكم عليه و به، و يتعلّق به الادراك في حدّ نفسه، لا أن التميز يحصل في الذهن عند وجود ذلك العدم الخارجيّ في الذهن و تصوّر الذهن له. فانّ التحقيق أنّ الذهن

ص: 601


1- مأخوذ من آية 61 من سورة «يونس»، و آية 3 من سورة «السبأ».
2- طه/ 98.
3- البقرة/ 255.

في مثل ذلك ليس إلاّ مرآة لنفس الامر و حاكيا له، و لذا يترتب عليه المحمولات، و يحكم عليه بأحكام، و تتصف تلك القضايا بالصدق و الكذب، فلا بدّ أن يكون لها خارج تطابقه أو لا تطابقه، و ليس في دائرة الوجود؛ إذ الفرض عدمه، فلا مناص من إثبات تميز للمعدومات حال عدمها في مرتبة أنفسها في ظلّ الموجودات، حتّى يلاحظها الذهن؛ و يحكم عليها العقل أحكامها التي تثبت لها بالقياس إلى الواقع، لا ما يحمل عليها بلحاظ كونها موجودات في الذهن، كالمحمولات المنطقية مثلا، يتصور العقل عدم الشرط و عدم المعدّ و عدم المقتضي و عدم جزئه و عدم المانع و عدم ما يلازمه و عدم الضد لشيء من الاشياء، ثمّ يحكم عليها بأحكام، و يحكم بصدقها، فيقال في الاعدام الاربعة الاول: إنها أسباب لانعدام الشيء، و أنّه يصح في كلّ منها أن يقال عدم ذلك فانعدم الشيء، و لا يصح العكس، و أنّه مقدم على عدم الشيء مرتبة، و مقارن له زمانا، و أنّ الخامس شرط لوجود الممنوع، و السادس مقارن و ليس بشرط، و عدم الضدّ مقدّمة لوجود الضدّ على القول به.

و هذه القضايا كلّها قضايا صحيحة عقليّة محكومة بأنها صادقة مطابقة للواقع، و نقائض تلك القضايا كاذبة محكومة بأنّها مخالفة للواقع. و ليس اتصافها بالصدق و الكذب في الذهن من حيث هي، مع قطع النظر عمّا سوى الذهن؛ إذ ليس نظر العقل في تلك الاحكام و النسب إلا إلى الواقع، و هو ظرف النسبة كما هو ظاهر بالرجوع إلى الوجدان، و لو كان كذلك لم يتصف بالصدق و الكذب أصلا، فالوجدان الصحيح يحكم بأنّ تلك الاعدام متميزة مترتبة، و محدودة في ظلّ الموجود و بتبعيته، و أنّ العقل يدركها و يدرك مراتبها و أحكامها بما أعطاه الحقّ من المرآتية و شأنيّة الاطلاع على الغيب؛ فتلك المعدومات ثابتة في حدّ نفسها، متقررة في مراتبها على حسب ما نبهنا عليه.

و لو ناقش مناقش في لفظ الثبوت و التقرر، فلا يهمّنا المضائقة من التزام

ص: 602

توسّع في اللّفظ بعد وضوح المقصود. فاجعل المثال مرآة لتصور تعيّن المعدومات و تميزها في حضرة العلم المحيط بكلّ شيء و إن كان الامر فيه على نحو أعلى من ذلك المثال، و لا تبادر إلى إنكار ثبوت الاعيان الثابتة في ذلك العلم المنسوب إلى الحقّ.

و أمّا العلم الذاتي الّذي هو عين الذات المقدّسة، فالكلام في فرض ثبوت للاعيان عنده ممّا لا ينبغي الخوض فيه لأمثالنا لبعد مقامه عن مقام العقل و النظر.

فالاولى الاغماض عنه و الاكتفاء بغيره.

و لعل إلى ذلك وقع نظر عقول جماعة من المتكلّمين، الذين التزموا بثبوت المعدومات فجنحوا إلى الصواب، لكن أخطئوا الطريق فوقعوا في المضيق حيث إنّ الظاهر أنّهم اعتقدوا ثبوتها في حدّ ذاتها مع قطع النظر عن وجود موجود أصلا، فتكون هي في ثبوتها مستغنية عن الحق سبحانه و عن كل موجود. و هذا عين الفساد، بل شرك خفي عند العارف. كما أن المنكرين لثبوتها، المساوقين بين ثبوت الشيء و وجوده لم يصيبوا من كل وجه و إن أصابوا من البعض. فنظر كل من الطائفتين مركب من صواب و خطاء لم يحط بتمام الامر على ما هو عليه؛ كأكثر المسائل العقلية و جملة كثيرة من غيرها.

و منها: قصر الشيئية على الموجود و التعميم لها، و للمعدومات التي كنّا بصدد بيانها. فان الظاهر بملاحظة ما قدمنا أن الشيئية فرع التميز، فما كان متميزا في ظرف و وعاء من الاوعية الثلاثة أعني: الذهن و الخارج و نفس الامر، الذي هو مقام تميز المعدومات الخارجية، كان شيئا باعتباره، و لمّا كان مرتبة نفس الامر شاملا للخارج و الذهن، بمعنى أن كل ما وجد فيهما فهو متعين في نفس الامر أيضا، بل وجوده في كل منهما تابع لتعينه في نفس الامر، كما يظهر مما تقدم كانت الشيئية مساوقة لتميز الشيء و تعينه في الواقع، فما لم يكن متعينا

ص: 603

و متميزا ليس شيئا.

و حينئذ فنقول: إن المحالات الذاتية الاولية ليست أشياء حتى يخصص به عموم الشيء في هذه الآية و نظائرها ممّا دلّ على عموم القدرة من ألفاظ الكتاب و السنة النبوية و الاماميّة؛ كما تقدم في كلام بعض أهل البصيرة بأقوال العلماء من أن المحال ليس شيئا اتفاقا، و ما ذكره جوابا من أن النزاع ليس في الامر اللّفظي، بل في الشيئية بمعنى الثبوت و التقرر قد عرفت أن المدلول اللّغوي هو ذلك المعنى، الذي وقع النزاع فيه بعد إرادة ما تقدم من الثبوت و التقرر. فيكون محل النزاع أن ذلك المعنى الظاهر للفظ الشيء هل هو متحقق في المعدومات حال عدمها أم لا؟ فيكون نزاعا في أمر معنوي لا في أن لفظ الشيء دال على أي معنى.

فان قلت: إنّ المحال الذاتي و إن لم يكن له وجود خارجيّ لكنّه موجود في الذهن قطعا، و لولاه لم يكن متصورا، و لا صحّ الحكم عليه بكونه محالا، و لا كان للمباحث المتعلّقة بالمحالات المذكورة في كتب الحكمة و غيرها معنى أصلا، فيكون شيئا، فلا بد من تخصيص عموم القدرة بغيره.

قلت: نمنع كون المحال الذاتي موجودا في الاذهان بالوجود الذهني، و إنّما الموجود فيه حقيقة هو الممكنات فقط، كيف و قد ذكرنا أنّ الذهن إنّما يتلقّى المفاهيم من طرف الواقع، و هو في ذلك تابع له، فما ليس متميزا فيه لم يتميز في الذهن، و لم يتعلّق به الادراك، سواء قلنا بكون الصورة الذهنيّة تابعة للموجود الخارجي و متفرعة عليه، أو بكونها تابعة لعالم المثال المقدم على الوجود المادي الواقع في سلسلة النزول، فيكون الذهن متلقّية للصورة منه، أو كونها تابعة للمثال البرزخي المتأخر مرتبة عن هذا العالم الواقع في السلسلة الصعودية، أو كونها تابعة لسبب الادراك تبعية المعدّ له للمعد، و يكون النفس منشئا للصورة في عالم ملكوتها الصغرى، أو كونها تابعة للتعين و التميز الثابت للشيء في حدّ

ص: 604

نفسه، أو فصّلنا بين الموارد في ذلك، و جعلنا لكلّ منها موردا خاصّا، كما هو المختار؛ إذ لا يخلو الذهن على كلّ تقدير من كونه تابعا للواقع، فما لا واقع له لا وجود له في الذهن؟ أ لا ترى أنك لا تتصور بذهنك و إن أجهدت نفسك، و بذلت مجهودك أمرا، إلا بالتفاتك إلى شيء رأيته أو سمعته أو أدركته من الامور الواقعية العينية، بحيث لو لا ذلك الالتفات لم يتأت لك ذلك التصور، و لم يحصل لك تلك الصورة؟

نعم، بعد ملاحظة ذلك الامر الواقعي ربما يتصرف المتخيلة في عدّة أمور متصورة بضم و تفريق و غيرهما، فيحضر عندك صورة لها مركبة ليست متحققة في الواقع على هذا التركيب؛ لكنّ الموجود في الذهن ليس إلا نفس البسائط المتحققة في الواقع، و فرض الاجتماع فيها محض تصرف للمتخيلة، و تعمّل لها.

و ليس ذلك التصرف أمرا ممتنعا، بل أمر ممكن موجود في الذهن بنفسه، و ليس في ذلك ناظرا إلى الواقع أصلا. فالمتصور من حيث هو موجود في الذهن ليس أمرا ممتنعا، و لا مصداق له بحسب الواقع، فهو شيء بحسب الذهن فقط، و هو موجود و اللّه قادر على إيجاده فيه، و ليس شيئا بحسب الواقع، و بالنظر إلى الموجود الخارجي حتّى يخصّص به عموم الشيء في نحو الآية.

فان قلت: لو لم يكن للموضوع في تلك القضايا حكاية عن الواقع، فكيف يحكم عليه بتلك الاحكام الّتي يحكم عليه بها بالقياس إلى الواقع، مع أنّك قد ذكرت أنّ الذهن في نحو هذه القضايا مرآة للواقع و حاك عنه؟ و ما المناط في صدق تلك القضايا و كذبها؟

قلت: المحكيّ عنه في تلك القضايا هو محدودية عالم الامكان، و نفي الامكان و الشيئيّة و التقرر عن تلك المفاهيم المخترعة، و أنّه ليست بأشياء و بممكنة، و لا لها تميز و ثبوت، كما أنّ توصيف الحقّ سبحانه بسبب صفات الامكان و الحوادث

ص: 605

مرجعه إلى تحديد عالم الامكان، و أنّه لا محلّ لتلك الصفات الامكانية فيما سوى الممكنات، لا إلى تحديد الحقّ سبحانه عن أن يحدّ بالحدود التي نتعقلها. و عساك تقف على بيانه - إن شاء اللّه تعالى -.

و لنذكر بعض كلمات أهل المعقول تأييدا لما ذكرناه.

قال بعض الافاضل: «المعدوم لا يخلو إمّا أن يكون بسيطا، و إمّا أن يكون مركّبا. فان كان بسيطا مثل عدم ضدّ اللّه و عدم شريكه و عدم مثله و غير ذلك، فذلك إنما يعقل لأجل تشبيهه بأمر موجود؛ مثل أن يقال: ليس له تعالى شيء نسبته إليه نسبة السواد إلى البياض و لا له ما نسبته إليه نسبة المندرج مع آخر تحت نوع أو جنس، فلو لا معرفة المضادّة أو المماثلة أو المجانسة بين أمور وجودية، لا استحال الحكم بأن ليس للّه تعالى ضدّ أو مماثل أو مجانس، أو ما يجري مجراها من المحالات عليه.

و إن كان مركبا؛ مثل: العلم بعدم اجتماع المتقابلين كالمتضادين، فالعلم به إنما يتم بالعلم بأجزائه الوجودية؛ مثل أن يعقل السواد و البياض، ثمّ يعقل الاجتماع حيث يجوز، ثمّ يقال: الاجتماع الذي هو أمر وجودي معقول غير حاصل بين السواد و البياض.

فالحاصل أنّ عدم البسائط إنما يعرف بالمقايسة إلى الامور الوجودية، و عدم المركبات إنما يعرف بمعرفة بسائطها».

و قال صدر الحكماء: «و اعلم أنّ العقل كما لا يقدر أن يتعقل حقيقة الواجب بالذات لغاية مجده و علوه و شدة نوريته و وجوبه و فعليته و عدم تناهي عظمته و كبريائه، كذلك لا يقدر على أن يتصور الممتنع بالذات بما هو ممتنع بالذات لغاية نقصه و محوضة بطلانه و لا شيئيته. فكما لا ينال ذات القيوم الواجب بالذات لأنه محيط بكل شيء فلا يحاط للعقل، فكذلك لا يدرك الممتنع بالذات

ص: 606

لفراره عن صقع الوجود و الشيئية، فلا حظّ له من الهوية حتّى يشار إليه و يحيط به العقل و يدركه الشعور و يصل إليه الوهم. فالحكم بكون شيء ممتنعا بالذات بضرب من البرهان على سبيل العرض و الاستتباع - إلى آخر ما ذكره».

و حينئذ فنقول: إنّ الممتنعات الذاتية إذا لم تكن بحقائقها موجودة في الخارج و لا في الذهن، و لم يكن لها ثبوت و تقرر في الواقع يوجب تميزها في نفس الامر، فمن أين صحّ الحكم بأنّها أشياء، و أنّها داخلة تحت لفظ الآية حتّى يحتاج في إخراجه بالتزام التخصيص؟

و أمّا مفاهيمها، فهو إن وجدت في الاذهان لا تصدق عليها ذلك المفاهيم بالحمل المتعارفي و إن صدقت عليها بالحمل الذاتي، فمفهوم اجتماع النقيضين ليس اجتماعا لهما بالحمل المتعارف و إن كان هو بالحمل الذاتيّ، كما بيّنه صدر الحكماء في كتابه الكبير فالمصداق ليس شيئا، و المفهوم ممكن مندرج تحت العموم. و تتمة الكلام في ذلك موكول إلى محلّه.

و أمّا الالتزام بالتخصيص في لفظ الشيء بما سوى الواجب، فنحن و لو كنّا قائلين بأنّه سبحانه شيء بحقيقة الشيئية بخلاف الاشياء كلّها بالعقل و السمع، لكنّا نقول: المنساق من لفظ الشيء في الآية هو ما سوى الواجب سبحانه. أ لا ترى إلى أنّه إذا قيل: «فلان أمير على الناس» لم يفهم منه انّه أمير على من ورائه منهم، و لم تدخل فيه نفسه، على أنّ في إدخال الحق سبحانه تحت العموم في عرض الممكنات، و البناء على أنّه شيء و سائر الممكنات أشياء في عرضها حتّى يرد عليها لفظ العموم، كلاما غامضا حاصله أنّه: لا ثاني للحقّ سبحانه و لا يعرضه العدد، فيقال: الشيء الاوّل الحقّ سبحانه و الثاني الممكن. و لعلّك تطلع على بيانه - إن شاء اللّه تعالى -.

ص: 607

[في بيان قدرة اللّه تعالى و إعطائه القدرة للنّاس]

و أمّا فعل قادر آخر فقد اختلفوا فيه، فالمنسوب إلى الاشاعرة تجويزه بناء على أنّه لا تأثير لقدرة العبد إيجادا، و أنّ جميع الممكنات مستندة إلى قدرة اللّه سبحانه، فالفعل الاختياري للعبد قد تعلّق به قدرة اللّه تعالى إيجادا و قدرة العبد كسبا، و إنّما الممتنع تعلّق القدرتين إيجادا، كذا أورد بعض أفاضلهم. و اختلف المعتزلة فيه؛ فالمنسوب إلى «أبي الحسن البصري» تجويزه مطلقا، و إلى الجمهور منعه بناء على امتناع قدرة غير مؤثّرة، فلو كان مقدور بين قادرين لزم اجتماع المؤثّرين على أثر واحد. و أيضا لو أراد أحدهما الفعل و الآخر الترك لزم اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما.

و الذي نعتقده في المقام أنّه سبحانه قادر على مقدور العبد، و أنّه إنّما يقدر باقدار اللّه إيّاه، و هو فرع قدرته سبحانه، فلو لا قدرته سبحانه لم يتحقّق للعبد قدرة، بل لو لا كون الفعل مقدورا له سبحانه، و كان عاجزا عنه امتنع إعطاء القدرة لمخلوقه عليه، فانّ عادم الشيء كيف يكون معطيا له، و الوجدان شاهد بأنّ ما لم يدخل تحت سلطنة شيء لا يجوز أن يكون عطاء لغيره منه؟ و أنّ العبد لا حول له عن المعاصي و لا قوة له على الطاعات بل في كلّ شيء إلا باللّه، و أنّه «ما من قبض و لا بسط إلا و للّه فيه المنّ و الابتلاء و المشيّة و القضاء» كما ورد في الاخبار(1) ،

ص: 608


1- مركب من خبرين رواهما الصدوق (ره) في التوحيد، باب الابتلاء و الاختيار، ص 354، ح 1 و 2؛ الاول باسناده عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه - عليه السلام - و هو: «ما من قبض و لا بسط الا و للّه فيه المن و الابتلاء.» و الثاني باسناده عن الطيار، عنه - عليه السلام - و هو: «ما من قبض و لا بسط الا و للّه فيه مشية و قضاء و ابتلاء». و روى الثاني أيضا البرقي (ره) في المحاسن، باب 40 من كتاب مصابيح الظلم، ص 279، ح 403؛ و نقله المجلسي (ره) في البحار، ج 5، باب التمحيص و الاستدراج و الابتلاء و الاختبار، ص 216، ح 4 و 5.

و أنّهم: «لا يكونون آخذين و لا تاركين إلا باذن اللّه». كما ورد في خبر إبراهيم بن عمر اليماني عن الصادق عليه السّلام(1).

و في رواية حفص عنه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّ:

«من زعم أنّ الخير و الشرّ بغير مشيّة اللّه فقد أخرج اللّه عن سلطانه، و من زعم أنّ المعاصي بغير قوّة اللّه فقد كذب على اللّه، و من كذب على اللّه أدخله النار »(2).

و في رواية هشام بن سالم عنه عليه السّلام بعد نفي الجبر:

«و اللّه أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد »(3).

و في رواية سليمان بن جعفر الجعفري عن الرضا عليه السّلام:

«إنّ اللّه عزّ و جلّ لم يطع باكراه، و لم يعص بغلبة، و لم يهمل العباد في ملكه. هو المالك لما ملّكهم، و القادر على

ص: 609


1- رواه الكليني (رض) في الكافي، ج 1 باب الجبر و القدر، ص 158، ح 5؛ و الصدوق (ره) فى التوحيد، باب نفي الجبر و التفويض، ص 359، ح 1؛ و قد يوجد هذا المعنى أيضا فيما رواه رحمه اللّه في التوحيد، باب الاستطاعة، ص 349، ح 8، باسناده عن اسماعيل بن جابر، عنه - عليه السلام -؛ و ما رواه الطبرسي (رض) في الاحتجاج ج 2، ص 158، باسناده عن الحسن بن علي بن محمد العسكري، عن موسى بن جعفر - عليهم السلام -.
2- رواه الصدوق (ره) في التوحيد، باب نفي الجبر و التفويض، ص 359، ح 2؛ و نقله المجلسى (ره) في البحار، ج 5 باب نفي الجبر و التفويض، ص 51، ح 85؛ و كذا روى العياشى (ره) في تفسيره عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللّه - عليه السلام - مثله كما في البحار، ج 5، ص 127، ح 79.
3- راجع التوحيد، باب نفي الجبر و التفويض، ص 360، ح 4؛ و البحار، ج 5 باب نفي الجبر و التفويض، ص 52، ح 87؛ و هكذا رواه البرقي (ره) في المحاسن، باب 49 من كتاب مصابيح الظلم، ص 296، ح 464، بهذا الاسناد عنه - عليه السلام -.

ما أقدرهم عليه؛ فان ائتمر العباد بطاعته لم يكن اللّه عنها صادّا و لا منها مانعا، و إن ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم و بين ذلك، و إن لم يحل و فعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه »(1).

إلى غير ذلك من الاخبار.

و كأن هؤلاء المنكرين لكون فعل العبد مقدورا له سبحانه هم المعنيون بقول الصادق عليه السّلام المرويّة في التوحيد:

«إن القدرية مجوس هذه الامة، و هم الذين أرادوا أن يصفوا اللّه بعدله فأخرجوه عن سلطانه. و فيهم نزلت هذه الآية:

يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النّٰارِ عَلىٰ وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنّٰا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْنٰاهُ بِقَدَرٍ » .(2)

و أمّا ما تشبّثوا به من الوجهين، فهو كنسج العنكبوت الّذي هو من أوهن البيوت، نسجها عليهم أهوائهم و آرائهم و شياطينهم؛ إذ دعوى امتناع قدرة غير مؤثّرة غير بيّنة و لا مبيّنة، و ليس من شرط القدرة فعليّة التأثير، بل صلاحية التأثير و إمكانه. ثمّ لا يشترط أن تكون مؤثّرة ابتداء، لم لا يجوز أن تكون مؤثّرة بتوسط إقدار العبد عليه؟ ثمّ اجتماع المؤثرين على الشيء الواحد لم لا يجوز إذا كان أحدهما في طول الآخر بأن يؤثّر أحدهما في إعطاء التأثير و الايجاد للمؤثّر الآخر،

ص: 610


1- رواه - رحمه اللّه - في التوحيد، باب نفي الجبر و التفويض، ص 361، ح 7؛ و العيون، ج 1، باب 11، ص 119، ح 48؛ و نقله المجلسي (ره) في البحار، ج 5، باب نفي الجبر و التفويض، ص 16، ح 22.
2- الآية: القمر/ 49-48، و الحديث في التوحيد، باب القضاء و القدر، ص 382، ح 29؛ و البرهان، ج 4، ص 261.

بحيث يكون الآخر في ذاته و تأثيره متقوّما بالاوّل، لا مستقلا مفوّضا إليه الامر؟ و أمّا لو اختلفا في إرادة الفعل و الترك، فأيّهما كان أقدر وقع ما أراده دون الآخر؛ كسائر المقتضيات المجتمعة المتنافية؟ ففي المقام لا يكون إلا ما أراده اللّه سبحانه أراد العباد خلافه و كرهوا ما أراده أم لا. و من أين و أنّى للعبد مغالبة اللّه سبحانه في قضائه و قدره؟ إلى غير ذلك من جهات الفساد في الدليلين. و ستعرف - إن شاء اللّه سبحانه - تتمة الكلام في ذلك، و سبق نبذة منه.

ثمّ اعلم أنّه ربّما يعرض للساعين في تكميل الايمان و درجات التقوى و المجاهدة رؤيا على طبق هذا المثال الاخير كلا أو بعضا، بأن يرى الصاعقة أو الرعد أو البرق فقط، و كأنّه إمارة عدم رسوخ الايمان فيه و بقاء عروق الكفر و النفاق بالاعتبار الاعمّ فيه، و هو أيضا علامة كونه متعرضا للترقّي في الايمان.

و ربّما يلوح له المطر بسحابة أو بدونه، و كأنّه دليل نزول الرحمة و البركة عليه. و لعلّ إليه الاشارة في الرواية السابقة في شأن التقوى و ما يترتّب عليه.

و ربّما يرى برقا يكاد يخطف بصره أو بدونه، و هو مبدأ ترقّيه من عالم الظلمة إلى عالم النور.

و ربّما يرى رعدا و صاعقة فيدخل في قلبه خوف و دهشة و هو من أمارات نقصانه و عدم مناسبة نفسه لذلك العالم مناسبة تامّة بعد، و هو من مقدّمات خروجه عن أنانيّة نفسه و فرعونيّتها، و حدوث الخشوع و الاستكانة لنفسه على الحقيقة لا الصورة فقط.

و ربّما يرى الظلمات فقط، و هو دليل على بعده عن عالم النور، و عدم تمكّن النور. و ثباته دليل على نقصان العبد و بقاء شوائب الظلمة و السمع و البصر المدركين لأمثال ذلك لو شاء اللّه أذهب بهما، و لو شاء أبقاهما، و هو نعمة عظيمة

ص: 611

توجب تيقّظ العبد لحاله و اهتمامه بأمر نفسه، و عدم غفلته و مسامحته في السعي و الاجتهاد.

هذا ما خطر بالبال في كيفيّة استخراج الاحوال الباطنيّة و تأويل الرؤيا المتعلّقة بالباطن من هذا المثال، و اللّه العالم بحقيقة الحال.

ص: 612

[تحقيق حول معاني] [النّداء و العبادة و الخلق و التّرجّي]

يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ

«يعني: سائر المكلّفين من ولد آدم عليه السّلام». كما ربّما يحكى عن تفسير الامام عليه السّلام(1).

و فيه ردّ على ما ذكره في الكشّاف(2) و تبعه غيره من أنّه خطاب لمشركي مكّة، تعويلا على رواية «علقمة» أنّ: «كلّ شيء نزل [فيه] «يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ » فهو مكي، و «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» مدني؛ مع أنّه لا يلزم منه ما فرّعه عليه إلا بتكلّف، و الرواية ضعيفة سندا موهونة متنا بالمخالفة لما هو المنقول في محلّ نزول السور إن أريد بها ظاهرها، و إن أريد بها تعلّق الخطاب ب «يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ»

بمشركي مكّة، سواء كان نزولها بمكّة أو بالمدينة، فهو مخالف لظاهر لفظ الكتاب المقتضي للشمول لغيرهم أيضا. فالتعميم هو الاولى.

[حقيقة نداء اللّه سبحانه عباده و كيفيّة تأثير النّداء عليهم]

و «يا» حرف موضوع لنداء البعيد في أصله كما ذكر بعضهم(2) و لعلّه المشهور،

ص: 613


1- تفسير الامام - عليه السلام -، ص 52، عن علي بن الحسين - عليه السلام -؛ و البرهان، ج 1، ص 66.
2- الكشاف، ج 1، ص 44.

أو لنداء ما ليس بقريب حقيقة أو تقديرا، لكونه ساهيا أو غافلا أو نائما، أو لتبعيد المنادى عن ساحة عزّة المنادي هضما و استقصارا؛ كقول الداعي في جواره:

«يا ربّ، يا اللّه»، مع أنّه أقرب إليه من حبل الوريد كما ذكره آخر.

و في الصحاح: «ان «يا» حرف ينادي به العرب القريب و البعيد؛ يقول:

يا زيد أقبل». و هذا لا ينافي ما قبله، بل الاوّل أيضا؛ لانّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة الاصليّة.

و يمكن إرجاع الثاني إلى الاول، فانّه بعد فرض القريب بعيدا، و تقديره و تنزيله منزلته باحدى الجهات المتقدمة يعبّر معه ما كان يعبّر به لو كان بعيدا حقيقة، فيكون نظير الاستعارة على مذهب السكاكي في كونها حقيقة لغوية و إن كان مخالفا للأصل على ما حقّق في محلّه.

و يمكن إرجاع الاول إلى الثاني بتعميم البعد للبعد المكاني و ما بمنزلته؛ ككون المخاطب من وراء حجاب حسيّ أو معنويّ حقيقيّ، أو اعتباريّ تحقيقيّ أو تنزيلي. و نظير هذين الوجهين يجري في أكثر الحروف؛ كدلالة «في» على الظرفيّة، فيجري فيها احتمال اختصاصها بالظرفيّة الحقيقيّة الحسّيّة بحسب الاصل، و تعميمها لها و للظرفيّة المعنويّة و الاعتباريّة و التنزيليّة الفرضيّة، كما هو أكثر مجاري إطلاقها.

و على كلّ حال فكثرة نداء اللّه سبحانه عباده عموما و خصوصا بهذه الكلمة المنبئة عن بعد ما للمنادى على ما تقدّم، يحتمل أن يكون للبعد المعنويّ الواقع بين العبد و الحقّ، و أيّ مناسبة بين الحقّ المطلق المستجمع لجميع الصفات الكماليّة، بحيث لا يشاركه فيها شريك المتوحّد بالتوحيد الذاتيّ و الصفاتيّ و الافعاليّ بالمعاني المقرّرة في محلّه، و الممكن الّذي ليس له في مرتبة ذاته و في حدّ نفسه سوى إمكان الشيئيّة بالامكان العقليّ و فاعليّته، الفقير المطلق في ذاته

ص: 614

و وجوده و أوصافه و تأثيراته لو أثبتناه له بذاته، و ما يتوقّف عليه شيء من أموره، العادم لكلّ كمال و خير من عند نفسه؟

أو للبعد الحاصل للعبد باعتبار نزوله في العوالم إلى هذا العالم الادنى، و ما ترتّب عليه، الّذي لعلّه المراد من قوله سبحانه: «ثُمَّ رَدَدْنٰاهُ أَسْفَلَ سٰافِلِينَ » (1).

أو لاحتجابه عنه سبحانه بغفلته و آماله و أخلاقه و أعماله المظلمة و أنيّة نفسه، و نومه في مرقد الطبيعة، و سهوه عمّا يراد منه، و ما شاكل ذلك من أسباب البعد المكتسب، سوى ما هو من لوازم الكون الدنيوي.

ثمّ إنّه يشبه أن يكون حقيقة النداء و الدعاء الّذي ينوب عنه حروف النداء و يؤدى بها هو: طلب توجّه المنادى - بالفتح - نحو المنادي و إقباله إليه، و تنبّهه و التفاته إلى جانبه، و أن يكون حروف النداء مجعولة آلة لانشاء ذلك الطلب، و سببا لايقاعه، كما هو الانسب بجملة من كلماتهم، أو آلة لحصول نفس المطلوب من التوجّه و الاقبال في ظرف الواقع، كما هو الانسب بجملة من مجاري استعمالاتها؛ كنداء النائم لايقاظه. و بكونها حروفا لا تدلّ على المعاني في أنفسها، و لو كانت آلات لانشاء الطلب، لم يظهر فرق بينها و بين «أدعو» و «أنادي» المستعملين في المعنى الانشائيّ؛ كظهور الفرق بينهما على الوجه الثاني. و نيابتها عنهما باقية بحالها على الوجهين في الجملة و إن كانت على الاول أقوى و أظهر.

و حينئذ فنقول: بناء على ما ذكر يكون حقيقة نداء اللّه سبحانه لعباده طلبه سبحانه توجّهم إليه، و إقبالهم نحوه، و انصرافهم عمّا يلهيهم عن ذكره و يشغلهم عنه إلى جنابه، و دعائهم إليه. و هو عناية عامّة لجميع الناس على اختلافهم في مراتب القابليّات و الاستعدادات.

ص: 615


1- التين/ 5.

و الناس في قبول النداء و الدعاء على مراتب لا تحصى بحسب الصفات الذاتيّة و الكسبيّة و مقاماتهم و درجاتهم. فمنهم: المستغرق في التوجّه، اللاهي عن نفسه فضلا عن غيره؛ و منهم: الناسي لربّه نسيانا أداه ذلك إلى إنساء اللّه إيّاه نفسه، حتّى كأنّه إذا سمع أسمائه سبحانه يكاد لا يلتفت بقلبه إلى أنّ لتلك الالفاظ معنى. و بينهما درجات غير محصورة.

و هذا المعنى إذا ظهر في عالم الالفاظ و أظهر بها كان إنشاء للطلب، كما في لفظ «أدعوا» و حروف النداء على الوجه الاوّل، و إذا ظهر تأثيره بتوسّط الآلات الحرفيّة كان نداء لهم بها على الوجه الثاني. و إذا نقّحت المناط بين تلك الحروف و غيرها و بين سائر ما يكون آلة لحصول التوجّه و الاقبال نحو جنابه إذا أوجدها الحقّ لأجل ذلك، و حينئذ فيصلح جميع صنائع اللّه سبحانه من الجواهر و الاعراض باعتبار دلالتها العقلية على فاعلها و جاعلها و صانعها و مدبّرها، و إنّ من شأنها تنبيه النفوس الطاهرة إلى تذكّر ربّها أن تكون نداء منه سبحانه و دعاء لعباده في الكتاب التكوينيّ المطابق للقرآن، و كذا مناد و داع ينادي و يدعوا إلى اللّه سبحانه بأمره و إرادته جلّ و عزّ، لا بارادة نفسه و ميل ذاته، فتبصّر.

ثمّ إنّ هذا الالتفات و التوجّه في العباد الّذي هو المقصود بالنداء شرط تنجّز التكاليف و توجّه الخطابات اللّبّيّة على المكلّفين كما بيّن في علم الاصول.

فيكون تقديم أداته أو طلبه على الوجهين في لفظ القرآن على ما يدل على تلك التكاليف و الخطابات مطابقا لمرتبة المعنيين عقلا. و كذا هو مقدّم على الائتمار بتلك الاوامر و التكاليف و التأثّر بتلك المخاطبات و حصول ما هو الغرض من إيراد الكلام بل هو مفتاح جميع الفيوضات و الترقيات و الكمالات، كما أنّ الغفلة عن اللّه سبحانه و اللّهو عن ذكره مبدأ كلّ خسارة و حرمان و شقاء.

ثمّ إنّ في ائتلاف حروف النداء بالاسم المنادى مع ما الحرف عليه من

ص: 616

الضعف، و الاسم عليه من القوّة و صيرورة الحرف حينئذ نائبا عن الفعل إشعار بأنّ العبد الضعيف إذا تحقّق في مقام النداء و الدعاء حتّى صار كأنّه كلمة نداء بفنائه عن صفات نفسه و صيرورته محض الاقبال و التوجّه، يحصل له الفة بالحقّ سبحانه و صلاحيّة لحضرة الربّ و قرب إليه، و كان في ذلك المقام العالي نائبا عن مقام الفعل الالهي، و صار مظهرا لافاعيله.

فلا بعد في صدور خوارق العادات و الكرامات حينئذ من صاحب هذا المقام، كما أنّ لما سواه من مراتب الداعين و المتضرعين الفة و اختصاص على حسب كمال المعنى فيهم و ضعفه، و لهم نصيب من مقام الفعل باعتبار تأثير دعائهم المستجاب في تغيير الكائنات و انعدام الموجود و حدوث المعدوم.

ثمّ إنّ «أيّ» وصلة إلى نداء ما فيه الالف و اللاّم، و هو اسم مبهم يفتقر إلى ما يوضحه و يزيل إبهامه، فلا بدّ أن يردفه اسم جنس أو ما يجري مجراه وصفا له حتّى يتّضح المقصود بالنداء.

و «ها» حرف تنبيه، و في هذا التدرج من الابهام إلى التوضيح. و كلمة التنبيه المقحمة بين الصفة و الموصوف الّذي هو و النداء من واد واحد ضروب من التأكيد و التشديد. و لعلّه لأجلها كثر في كتاب اللّه سبحانه النداء على هذه الطريقة، إما لبعدهم عن مقام النداء بالبيان المتقدّم، فلزم التأكيد فيه، أو لأنّ ما نادى اللّه سبحانه عباده من التكاليف و العظات و الوعد و الوعيد و القصص المتلوّة عليهم و غير ذلك ممّا ورد في الكتاب الكريم أمور عظام و خطوب جسام، عليهم أن يتيقّظوا لها كمال التيقظ، و يصرفوا قلوبهم و بصائرهم إليها كمال الصرف، فكأنّ التأكيد هو المقتضي للحال.

ص: 617

ثمّ اعلم أنّ حقيقة نداء الحقّ سبحانه الناس يقع عليهم على حسب درجاتهم في كمال الانسانيّة و ضعفها، فكلّ من كان أكمل في الانسانيّة كان أخصّ بالنداء، و كان أشدّ تأثّرا من النداء، و ظهور أثره عليه أكثر، و اختصاصه بالمخاطبة أشدّ.

و «إنّما يعرف القرآن من خوطب به» كما ورد في الرواية(1) فربّما يصحّ القول بأنّ كلّ ذي مقام من المقامات له مرتبة من مراتب مخاطبات القرآن على قدر ما يسعه بصيرته و إدراكه إلى أن يصل إلى مقام الانسان الكامل من جميع الوجوه، فهو المخاطب بالمجموع العارف به.

و ببالي أنّه ورد في الاخبار أنّه: «ما كان اللّه ليخاطب الناس بما لا يعلمون» أو قريبا من ذلك. و الاعتبار و الاستبصار يشهدان على اختصاص كلّ منهم على مقدار قابليته. و كيف يصحّ مخاطبة من ليس من شأنه إدراك الخطاب بين المتخاطبين؟

و أمّا ما اشتهر بين الاصوليين منّا و ثلة من العامّة من اختصاص الخطابات الشفاهيّة القرآنيّة بالموجودين في ذلك العصر، بل بالحاضرين دون الغائبين عند جماعة منهم، فهو على تقدير تسليمه منزل على اختصاص صوريّ لصورة المخاطبة اللفظيّة الظاهريّة، لا اختصاص الخطاب الواقعيّ و حقيقة القرآن بهم، مع انعدام ما يوجب التفرقة. و يشهد له ما ورد في الاخبار قوله عقيب مواضع من ألفاظ القرآن، كقول: «لبّيك ربّنا» إذا مرّ ب «يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ» و «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» على ما رواه الشيخ عن الصادق عليه السّلام(2) بطريق لا يخلو عن اعتبار و غير ذلك.

ص: 618


1- قد تقدمت فى المقدمات، فراجع.
2- تقدم سابقا.

اُعْبُدُوا رَبَّكُمُ [الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ]

عن تفسير الامام عليه السّلام في الآية عن السجّاد عليه السّلام:

«أطيعوا ربكم من حيث أمركم أن تعتقدوا أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، و لا شبيه له و لا مثل؛ عدل لا يجور، جواد لا يبخل، حليم لا يعجل، حكيم لا يخطل (1) ،و أنّ محمّدا عبده و رسوله - صلّى اللّه عليه و آله الطيبين -، و أنّ آل محمّد أفضل آل النبيين، و أنّ عليّا أفضل آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و أنّ أصحاب محمّد المؤمنين منهم أفضل أصحاب المرسلين، و أنّ أمّة محمّد أفضل أمم المرسلين.

ثمّ قال عزّ و جلّ: «اَلَّذِي خَلَقَكُمْ » ؛اعبدوا الّذي خلقكم من نطفة من ماء مهين فجعله في قرار مكين، إلى قدر معلوم، فقدرنا فنعم القادرون العالمون »(2).

ثمّ عنه أيضا:

«قوله: «اُعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ»

أي: اعبدو [ه] بتعظيم محمّد صلّى اللّه عليه و آله و عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، و الذي خلقكم نسما و سوّاكم من بعد ذلك، و صوّركم أحسن صورة.

ثمّ قال عزّ و جلّ: «وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ » ،قال: و خلق الذين من قبلكم من سائر أصناف الناس »(3).

ص: 619


1- الخطل - بالتحريك -: المنطق الفاسد المضطرب، يقال: خطل في منطقة خطلا: أخطأ. (2و3) تفسير الامام - عليه السلام -، ص 52 و 55؛ و البرهان، ج 1، ص 66-67.

[في أنّ ربوبيّة اللّه توجب العبوديّة]

أقول: قد مرّ ذكر تفاصيل في العبادة و العبوديّة في كلمة الجلالة و في قوله سبحانه: «إِيّٰاكَ نَعْبُدُ » ،و أنّ من جملة أغصانه الاطاعة بمعنى امتثال الامر بالاتيان بالمأمور به على وجهه، و من جملة الوجوه المغيّرة في العبادات في الجملة الاسلام و الايمان المشتمل على الولاية على التفصيل المذكور في محلّه، و الظاهر اعتبار ما زاد على القدر اللازم من الاعتقادات أيضا في كمالها و إن لم يكن معتبرا في صحّتها.

و قد مرّ أنّ أصل العبوديّة هو الخضوع مطلقا أو أقصى مراتبه، و الخضوع للحقّ تعظيم له سبحانه كما أنّ تعظيمه سبحانه خضوع له، و تعظيم الرسول و الامام من حيث كونهما رسولا له سبحانه و إماما من قبله، و من حيث سائر جهات ربطهما إلى الحقّ تعظيم له سبحانه، كما أنّ مطلق تعظيم شعائر اللّه سبحانه تعظيم له جل و عز.

ثمّ إنّه يشبه أن يكون ذكر اسم الربّ مضافا إلى المخاطبين إشارة إلى أن ربوبيّته سبحانه موجبة لعبادته لا شعار تعليق الحكم على الوصف المناسب بعلّيته لذلك الحكم.

و بيانه أنّ الربوبيّة تقتضي مقابلتها بالعبوديّة، و القيام بوظائفه شكرا للنعم الّتي أعطيت، و المضارّ الّتي دفعت سابقا، و خوفا من الحرمان من النعم في المستقبل، و أخذ ما أولاه و هو في الحال واجد له، و من تركه دفع ما يفسده و يضره فيما بعد، و من إيراد البلايا و الآفات عليه، و رجاء لابقاء ما أعطاه، و إعطاء أمثال ما عوده من الاحسان، و للزيادة عليها و تكميل الاحسان إليه، و حبا لربه الذي أحسن إليه من كلّ جهة و لم يخل في طرفة عين من نعمه التي إن

ص: 620

عدّت لا يحصيها العادّون؛ إذ من أعظم أسباب الحب الاحسان، و لأن الرب المتكفل لجميع مصالح المربوب، الكافي له عن كلّ ما سواه، حقيق بأن يعبده المربوب و أهل لذلك، بل ليس من شأنه عند العقل إلا عبادته. فقد جمع هذا الاسم مجامع أسباب العبودية و غاياتها التي لأجلها يعبد العابدون إذا لوحظت الربوبية لكل واحد موجبة لعبادته، و يكون مقابلة الجمع بالجمع على سبيل التوزيع، و إذا لوحظ بالنسبة إلى كلّ منهم عموم ربوبيته للجميع كان مقويا للايجاب السابق، فان من شأنه الاحسان المطلق، و الربوبيّة لكلّ شيء أحقّ بالمحبّة و الخوف و الرجاء، و بأن يعبده واحد من مربوبيه، من المربوب الّذي يفرض له ربّ واحد مقصور الربوبية على ذلك الواحد بحسب العقل إذا لم يكن ربوبيّته لكلّ منهم شاغلا له عن ربوبية الآخر، و مانعا عن كمالها موجبا لنقصانها، كما هو شأن من لا يشغله شأن عن شأن، و لا يزيده كثرة العطاء إلا جودا و كرما، و لا تفني خزائنه المسائل(1).

و يظهر كيفيّة اقتضاء الربوبيّة للمحبّة و الرجاء و الخوف و أهليّة العبادة من ملاحظة حال المربوبين بالقياس إلى مظاهر شئون الربوبيّة، و وسائطها الواقعيّة التي يتراءى منها أنّها المتّصفة بالربوبيّة القائمة بشئونها في أنظار الناقصين.

أ لا ترى حال الخدّام بالنسبة إلى مولاهم المعطي لهم ما يحتاجون إليه، و المرءوسين بالنسبة إلى رئيسهم الّذي ينعم عليهم و يدفع عنهم جملة من المخاوف، و الاولاد الصغير بالنسبة إلى الوالدين، و الزوجة بالنسبة إلى زوجها، و المريض

ص: 621


1- قال - عليه السلام - في دعاء الافتتاح: «الحمد للّه الفاشي فى الخلق أمره - إلى أن قال: - الذي لا تنقص خزائنه، و لا يزيده كثرة العطاء إلا جودا و كرما.» فراجع كتب الادعية.

بالنسبة إلى الطبيب، و الفقير بالنسبة إلى الغني المتكفّل لحاله، و الرعيّة بالنسبة إلى السلطان و الحاكم الشفيقين المحسنين العادلين المتحننين على من تحت حكمهما، و سائر من أحسن إليهم أو دفع عنهم الضر بالنسبة إلى المحسن و الدافع للضرر؟ فانّك تجدهم محبّين لهم، راجين لهم، خائفين منهم، خاضعين لديهم، منقادين لهم، منقطعين إليهم بقلوبهم؛ مع أنّهم ليسوا نافعين و لا دافعين للضرّ، بل اللّه سبحانه المعطي الدافع، و هم وسائط مسخّرة تحت حكم قضائه و قدره في عين اختيارهم كما نبّهنا عليه سابقا. و هم مع ذلك معاوضون على الحقيقة يريدون بفعلهم عوضا من مال أو جاه أو جزاء أو شكور و مدح أو دفع ذمّ أو جالبون به سكون الداعي القلبي الذي يزجرهم عليه.

فانظر الآن إلى معاملتك مع ربّك الواقعي، كيف تعامله و تعبده و تنقاد له، و قايس ذلك بحال المذكورين و غيرهم بالنسبة إلى وسائط الربوبيّة، حتّى يظهر لك حقيقة انحرافك طريقة الصواب و جادّة الانصاف، و أنّه لا يمكن القيام بما يستحقّه سبحانه من حيث الربوبيّة فضلا عن سائر الجهات، و لو بذلت كلّ مجهودك، و صرفت غاية وسعك؛ إذ جميع ما كانوا يفعلونه للوسائط مستند إلى جهالتهم بحقيقة الامر، و التباس مصداق المحسن و الدافع و غيرهما الواقعيّة بالصوريّة. فان كنت موحّدا لا ترى لك إلا ربّا واحدا جامعا لجميع شئون الربوبيّة فجميع ما كان يصدر منهم بالنسبة إلى جميع الوسائط كان ينبغي صدوره منك بالنسبة إلى الحقّ سبحانه فضلا عن سائر الجهات الموجبة للطاعة، فتبصّر، هذا.

[معنى الخلق و كيفيّة اتّصاف الربّ به]

و «الخلق: التقدير؛ يقال: خلقت الاديم إذا قدّرته قبل القطع. و منه

ص: 622

قول زهير:

و لأنت تفري ما خلقت و بع *** ض القوم يخلق ثمّ [لا] يفري

و قال العجاج: ما خلقت إلا فريت، و لا وعدت إلا وفيت.» كذا ذكر الجوهرى.

و صرح جماعة بأنّ الخلق هو التقدير أيضا و هو المعنى المناسب لكثير من إطلاقات هذه المادّة المذكورة في اللّغة؛ كاطلاق الخليقة على الطبيعة و الخلقة على الفطرة، و كأنّه باعتبار ملاحظة وجودها في مقام تقدير ذلك الشيء، و كونه مقدرا بها تقديرا معنويّا. و الخليق و المختلف في مقام التوصيف على تامّ الخلق المعتدل، و كأنّه لكون تقديره على الوجه الذي ينبغي أن يكون عليه، و كونه مقدرا بالمقدار الذي يصلح، كان غيره خارجا عن التقدير، و الحدّ واقع بدونه، و كما يقال: فلان خليق بكذا بمعنى: أنّه جدير به و قد خلق لذلك، كأنّه ممّن يقدر فيه ذلك، و ترى فيه مخاملة. و خلق الافك و اختلفه و تخلّقه أي: افتراه، و منه قوله سبحانه: «وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً» (1) على ما ذكروه (2) ،و كأنّه لأنّ الكاذب هو الّذي قدره الكذب في نفسه، و جعله من دون أن يكون له حقيقة. و كاطلاق الخلاق على النصيب، و كأنّه لأنه المقدار الّذي قدّر له، إلى غير ذلك.

فالظاهر أنّ أصل معنى الخلق هو التقدير، و إطلاقه على ما ذكر و غيرها باعتباره فيها.

و عن بعض الاعلام: «قد يظنّ أنّ الخالق و البارئ و المصور ألفاظ مترادفة، و أنّ الكلّ يرجع إلى الخلق و الاختراع، و ليس كذلك، بل كلّما يخرج من العدم إلى الوجود مفتقر إلى تقديره أولا، و إيجاده على وفق التقدير ثانيا، و إلى

ص: 623


1- العنكبوت/ 17.
2- راجع الصحاح.

التصوير بعد الايجاد ثالثا. فاللّه تعالى خالق من حيث هو مقدر، و بارئ من حيث هو مخترع، و موجد و مصور من حيث أنّه مرتب صور المخترعات أحسن ترتيب »(1).

و قال غيره: «الخالق هو المقدر لما يوجده، و البارئ المميّز بعضه عن بعض بالاشكال المختلفة، و المصور الممثّل »(2).

و أمّا ما ذكره في الكشّاف هنا من أنّ: «الخلق هو إيجاد الشيء على تقدير و استواء؛ يقال: خلق النعل إذا قدرها و سواها بالمقياس »(3) ،فلعلّه أراد بذلك جعل الشيء ذا مقدار و استواء و تصييره كذلك، فيكون في معنى التقدير مرادفا له إن عمّم الوجود بالخارجيّ و الذهني، فانّ جعل المقدار للشيء و تقديره إمّا في مقام التصوير في الوجود الذهني، أو في الاعيان و الخارج في الوجود الخارجي، و سائر أنحاء الوجود بمنزلة أحدهما هنا.

و أمّا ما سبق من إثبات التميّز للأعيان الثابتة قبل وجودها فهو وراء أنظار أهل العربيّة و اللّغة، و أخصّ منه أن خصص بالوجود الخارجى. و لعلّه باعتبار استظهار أنّه المراد من لفظ الخلق في الآية، و يشهد لما ذكر ذيل كلامه؛ إذ ليس في القول المذكور اعتبار الايجاد بل التقدير و التسوية كما ذكره أيضا.

و قال ابن بابويه في توحيده بعد أن ذكر أنّ الخلق في اللّغة تقديرك الشيء مستشهدا بأنّه يقال في مثل: «إنّي [إذا] خلقت فريت لا كمن يخلق و لا يفري، و في قول أئمّتنا عليهم السّلام: إنّ أفعال العباد مخلوقة خلق تقدير لا خلق تكوين، و خلق عيسى من الطين كهيئة الطير هو خلق تقدير أيضا، و مكون الطير و خالقه في

ص: 624


1- راجع مجمع البحرين، ذيل كلمة «خلق».
2- نفس المصدر.
3- الكشاف، ج 1 ص 45.

الحقيقة هو اللّه عزّ و جلّ »(1).انتهى.

و لمّا كان الظاهر من تقدير الشيء و جعل المقدار له هو التقدير في الخارج، و كان ذلك ملازما للوجود لا انفكاك بينهما من الطرفين؛ إذ ما لم يوجد في الخارج لم يكن له مقدار فيه، و كلّ موجود في الخارج ممّا يصلح لعروض المقدار له بالمعنى العرفيّ فهو ذو مقدار في الخارج و لا يوجد بدونه، و كان الايجاد و التقدير أمرا وحدانيّا في الخارج لا تمايز بينهما إلا بحسب الاعتبار، شاع إطلاق لفظ الخلق على الايجاد، بحيث صار كأنّه المتبادر من لفظ الخلق عند الاطلاق. بل لا يبعد صيرورته حقيقة عرفية في ذلك، و كونه منقولا إليه.

و من ذلك البيان يظهر الوجه في تخصيص الخلق بالعالم المقداري، و قصره على ذوات المقادير و الهيئات في مقابلة عالم الامر المجرد عن المقادير و الاشكال، و إن كان ربّما يطلق على غيره كالعقل أيضا اسم الخلق.

و يظهر لك وجه الجمع بين الكلمات المتقدمة و بين العرف و مجاري إطلاقات لفظ الخلق الظاهرة في إرادة الايجاد منه. و لعلّ إلى حاصل ما تقدم يشير عبارة الكشّاف المتقدمة.

ثمّ إنّه ذكر في الكشّاف بعد السؤال عن المراد «بربّكم» أنّه: «كان المشركون معتقدين ربوبيتين؛ ربوبيّة اللّه، و ربوبية آلهتهم، فان خصوا بالخطاب فالمراد به اسم مشترك فيه ربّ السموات و الارض و الآلهة التي كانوا يسمونها أربابا.

و كان قوله: «اَلَّذِي خَلَقَكُمْ» صفة موضحة مميّزة، و إن كان الخطاب للفرق جميعا، فالمراد به ربّكم على الحقيقة، و «اَلَّذِي خَلَقَكُمْ» صفة جرت عليه على طريق المدح و التعظيم، و لا يمتنع هذا الوجه في خطاب الكفرة خاصة إلا أنّ الاول أوضح و أصح »(2).

ص: 625


1- راجع التوحيد، باب أسماء اللّه تعالى، ص 216.
2- الكشاف، ج 1، ص 45.

و قال بعض الافاضل في بيانه: «أنّه لا خفاء في أنّ قولنا للعبيد: «عظّموا سيّدكم» أمر لهم بتعظيم من يعتقدون أنّه سيّدهم، فقوله: «يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ اعْبُدُوا» إن كان خطابا لجميع الفرق فالمراد ب «ربكم» هو اللّه، لأنّه المتفق على ربوبيّته فيما بينهم، فيكون «اَلَّذِي خَلَقَكُمْ» صفة مادحة، و إن كان خطابا للمشركين فيحتمل أن يكون المراد هو اللّه تعالى و يكون الصفة مادحة؛ لأنّهم يعتقدون أنّه ربّ الارباب، و أنّ آلهتهم شفعاء عند اللّه، و أن يكون المراد مالككم و إلهكم، و نحو ذلك ممّا يصدق على الاله الحق و على آلهتهم الباطلة. فيكون الصفة مخصصة، إلا أنّ إطلاق الربّ على غير اللّه كان شائعا متعارفا فيما بينهم، حتّى أنّ السحرة لمّا قالوا: «آمَنّٰا بِرَبِّ الْعٰالَمِينَ» دفعوا الاحتمال بقولهم: «رَبِّ مُوسىٰ وَ هٰارُونَ » .

و التخصيص و التوضيح هو الاصل في الصفة، فلهذا كان هذا الوجه أوضح و أصحّ».

أقول:

قد تقرر في علم الاصول أنّ الالفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة النفس الامريّة، لا ما يعتقده المخاطب أنّه معنى للفظ إذا كان خطائه في المصداق، بل مطلقا و إن كان ربّما يطلق اللّفظ على ما توهمه المخاطب مصداقا للفظ، كما هو الظاهر في قوله سبحانه: «وَ انْظُرْ إِلىٰ إِلٰهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عٰاكِفاً » (1).لكنّه خلاف الاصل لا يصار إليه إلا بدليل، بل مقتضى أصالة الحقيقة و إبقاء الالفاظ على حالها و ترك التصرف فيها أن يراد باللّفظ معناه الواقعيّ بمصاديقه الواقعيّة، سواء كان للمخاطب اعتقاد مطابق للواقع أو مخالف له، أو لم يكن له اعتقاد أصلا.

و أمّا ما ذكره من أنّ «قولنا: عظموا سيدكم، أمر لهم بتعظيم من يعتقدون أنه سيّدهم»، ففيه أنّه لا خفاء في أنّه بنفسه ليس كذلك، بل هو أمر لهم بتعظيم

ص: 626


1- طه/ 97.

السيد الواقعي المنكشف باعتقاد المتكلّم؛ لكن ملاحظة السكوت في مقام بيان الحكم بعد العلم بأنّ المخاطب لا يفهم منه سوى ما اعتقده مصداقا للمعنى، و أنّه لا يتهيّأ للقيام بالمأمور به إلا بحسب اعتقاده، و علم المتكلّم باعتقاد المخاطب و خطائه فيه، و ظهور الامر في كون الغرض منه الامتثال المتعذر في حقّ الجاهل المركب، إلا إذا كان التكليف على معتقده، و ظهور المخاطبة في إرادة البيان، لا الايقاع في مخالفة الواقع، اللازم للاقتصار على الامر المعلّق على العنوان، الذي غلط المخاطب فيه، ربّما توجب صرف اللّفظ عن ظاهره و حمله على خلاف معناه الاصلي؛ لكنّه إنّما يكون إذا لم يبين الخطاء في المصداق أصلا، لا متصلا و لا منفصلا، لا بحال و لا بمقال، مع انضمام الخصوصيات المشار إليها. فلا ربط لذلك بالآية حيث إنّه لم تقم تلك القرينة الصارفة هنا، فلا تصدق اللّفظ على ما ظنوه أربابا و إن شاع إطلاقه فيما بينهم بعد كون الاستعمال مبتنيا على خطأ وقع منهم في المصداق؛ إذ لا يصير ذلك سببا لخروج اللّفظ عن معناه لوقوع تلك الاستعمالات كلّها على تبعيّة الوضع بحسبانهم، فليس اللّفظ مطلقا حتّى يحتاج إلى التخصيص، و لا يكون الصفة مخصّصة كما ذكره الفاضل المذكور، و لا اشتراك في الاسم واقعا كما ذكره في الكشاف حتّى يحتاج إلى المميّز. فلا يصح جعل الصفة هنا مخصّصة و لا مميّزة و إن صحّ جعلها موضحة رافعة لتوهم المخاطبين و بيانا لهم، و دفعا لغلطهم في المراد من اللّفظ. و كما يصحّ ذلك عند خطأ جميع المخاطبين كذا يصحّ عند خطأ بعضهم، بل عند إمكان وقوع الخطأ، فلا فرق بين اختصاص الخطاب بالمشركين و عموم الخطاب كما رجحناه سابقا.

و أمّا ما ذكره الفاضل المذكور من أنّ معناه على الثاني: «الرب المتفق على ربوبيّته فيما بينهم» فهو بظاهره خارج عن مقتضى القواعد اللّفظية رأسا؛ إذ ظاهره دعوى كون الالفاظ دالة على المعنى المجمع عليه بين المخاطبين دون

ص: 627

ما انفرد به طائفة منهم، فيكون معنى: «أَقِيمُوا الصَّلاٰةَ» أقيموا الصلاة المجمع على كونها صلاة صحيحة دون ما اعتقده جماعة كذلك؛ كالقائلين بالاعميّة. و لم يحضرني(1) الآن نظير لهذا الخطأ الظاهر من أحد إلا أن يدعي خصوصيّة للمقام ترك بيانها في كلامه. فلعلّ المتجه حينئذ جعل الصفة موضحة على الوجهين لا جاريا مجرى المدح و التعظيم فقط، مع نكتة أخرى، و هو الاشعار بالحيثية التعليلية، فانّ صفة الخلق بمعنى الايجاد من أعظم العلل الموجبة لعبادة المخلوق لخالقه و عبوديته، و من ذا أحقّ بالعبادة و المعبودية من الخالق الموجد له على مقداره و حدّه، الذي أعطاه نعمة الوجود و التميز و التشخص التي بمنزلة الاصل لسائر النعم و الموضوع لتلك الامور العارضة؟ بل إذا لاحظ العقل عنوان الخالقية و المخلوقية حكم باستحقاق الموصوف بالاولى المعبوديّة، و أنّه ينبغي للموصوف بالثانية عبادته. و إذا جردت مرآة العقل عن الاوهام و الاغشية و دققت النظر، ظهر لك صدق هذه الدعوى و إن قطع النظر عن كون الخلق نعمة موجبة للشكر.

بل الظاهر أنّ هذه القضية أقوى و أثبت عند العقل من وجوب شكر المنعم و إن كانت تلك أظهر لكثرة مصاديقه بحسب الانظار الظاهريّة الموجبة لظهور حالها بخلاف هذه، لتوافق كثير من الانظار على أنّه لا خالق سوى الواحد الحق.

[في المراد من المخلوقين من قبل]

فان قلت: هذا إنّما يجري في اعتبار صفة خلق المخاطبين على سبيل التوزيع عند مقابلة الجمع بالجمع، فما تقول في أخذ خلق الذين من قبلهم هاهنا؟ و هل هو أيضا من جهات المعبوديّة أم لا؟

قلت: إن أخذ القبليّة هاهنا بحسب الرتبة فقط أو مع القبلية الزمانية

ص: 628


1- فى المخطوطة: «يخطرنى».

حتّى يكون السابقين، الآباء و الامّهات بالنسبة إلى الابناء، فالوجه في مدخليّته هنا ظاهرا؛ إذ خلق الاصول من مقدمات خلق الفروع، فهو نعمة على الفروع و لو بالواسطة، بل الانعام على الآباء موجب لشكر الابناء؛ كما ربّما يشير إليه قوله: «أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلىٰ وٰالِدَيَّ» (1) و جملة من المخاطبات الواردة على بني إسرائيل باعتبار الانعام على آبائهم و غير ذلك. و يمكن إدخاله في بيان تفرد الحقّ سبحانه في مقام خلق الابناء حيث أنّه لو لم يكن خالقا للأصول لم ينحصر الشئون المتعلّقة بالخلق فيه سبحانه، بل لخالق الاصول أو لأنفسها نصيب من هذا المقام، فلمّا بيّن خلقه لهم ظهر اختصاص الحقّ سبحانه بهذه الحيثية، و أنّه ليس لغيره نصيب فيها، و لا له شائبة من استحقاق المعبودية من تلك الجهة.

و إن أخذ القبلية زمانية محضة كان ارتباطه بمقام الامر بالعبادة باعتبار أنّ خالق جميع الاشخاص السابقة و اللاحقة أحق بأن يعبده بعض مخلوقيه مما يفرض متفردا بخلق الواحد، كما نبهنا على نظيره في الربوبية.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ حق اللّه سبحانه على المخلوقين من حيث إعطاء الخلق لمّا ظهرت في هذا العالم بتوسط الابوين فصارا واسطتين و مجراءين له، استقر حكم العقلاء باثبات الحق لهما على الولد، و أنه ينبغي له مراعاتهما و الخضوع لهما و التبعية لهما، و لو لم يكن لهما إحسان اختياري إليه أصلا، و كان المتكفل لتربية الولد شخص أجنبيّ لم يكونا سببين في تربيته، مع أنهما لم يتوسطا إلا لقضاء شهوة استولت عليهما وحداهما و بعثهما إلى الافعال التي أجرى اللّه بها خلق الولد من دون أن يكونا قاصدين ليكون الولد في كثير من الاوقات، بل ربما يكونان قاصدين لخلافه، كارهين لتكونه لأسباب وهمية و جهات خيالية، فكيف يكون

ص: 629


1- النمل/ 19؛ و الاحقاف/ 15.

حق من هو الخالق بالحقيقة، الذي ليس له في الخلق حاجة، و لا يعود عليه فيه منفعة أصلا لا عاجلا و لا آجلا، و هو غني عن الخلق و عن جميع ما يرتبط بهم و يصدر منهم، بل كان فعله جودا محضا و مقدمة لإعطاءات أخر؟ لا يزيده كثرة العطاء إلا جودا و كرما.

لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ

في تتمّة ما تقدّم عن تفسير الامام عليه السّلام أنّه قال:

«لها وجهان، أحدهما: [خلقكم] و خلق الذين من قبلكم لعلّكم كلّكم تتّقون؛ أي: لتتّقوا كما قال اللّه عزّ و جلّ:

«وَ مٰا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ» (1) و الوجه الآخر:

«اُعْبُدُوا [رَبَّكُمُ] الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»

أي: اعبدوه لعلّكم تتّقون النار. و لعلّ من اللّه واجب، لأنّه أكرم من أن يعني عبده بلا منفعة (2) ،و يطمعه(3) في فضله ثمّ يخيبه؛ أ لا ترى كيف قبح من عبد من عباده إذا قال لرجل: أخدمني لعلّك تنتفع بي و لعلّي أنفعك، فيخدمه ثمّ يخيبه و لا ينفعه؟ فاللّه عزّ و جلّ أكرم في أفعاله، و أبعد من القبيح في أعماله من عباده »(4).

ص: 630


1- الذاريات/ 56.
2- خ. ل: «الى منفعة».
3- خ. ل: «يطيعه».
4- راجع المصادر المذكورة في تعليقة 2 ص 619.

[في معنى الترجّي و ما يتعلّق به و كيفيّة نسبته إلى اللّه تعالى]

أقول: لعلّ على الاول متعلّق ب «خلق» و يراد بالتقوى الافعال و التروك الاختياريّة بالوجوه المتقدمة، و ربّما يعبّر عنها بالعبادة؛ و على الثاني متعلّق ب «اعبدوا» و يراد بالتقوى التحفظ عن دخول النار و صيانة النفس عنها، و هو غاية لتلك الامور الاختياريّة التي ربّما يعبّر عنها بالعبادة، مقدور بواسطتها لا بنفسها. و بينهما ربط لا يكاد يدرك بالانظار الظاهرية، و قد بيّنّا في المقدمات بيان كيفيّة تعدّد المعاني للكلام الواحد من دون لزوم محذور استعمال اللّفظ في أكثر من معنى، فراجع إليه. فلا يلزم حمل تعدد الوجه على تعدد الاحتمال، حتّى لا يليق صدوره عن المعصوم العالم بواقعيات المرادات المقدس عن الشكوك و الاحتمالات.

و يمكن جعل أحد الوجهين من قبيل تفسير الظاهر و الآخر من تفسير ظاهر الظاهر بالمعنى المتقدم، و أن يجعل أحدهما تفسيرا و الآخر تأويلا و أخذا بلازم الكلام؛ إذ لو كانوا مخلوقين لأجل التقوى كانوا ملتزمين بالاتصاف بها لأجل التحرز عن المضار الباقية؛ إذ المخلوق لأجل غاية يلزم عليه الاتيان بالغاية التي خلق لأجلها و الاتصاف بها، و إلا كان مهملا لنفسه مضيعا لها، و يحقّ لخالقه المؤاخذة على الترك بعد علمه بالغاية.

و إذا كان الغاية التقوى، و التقوى على ما عرفت فرط الصيانة عمّا يضرّ به، فبملاحظة الوصف العنواني و مدخليّته يظهر أنّه ملتزم بملازمة طريقة لا تقع مضرة فيها، حذرا عن الوقوع في تلك المفاسد و المهالك، و هي النيران الباطنية و سائر موجبات الآلام الغيبيّة المنتهية إلى النيران الحسّيّة الجسمانية في القيامة.

فالمخلوقون ملتزمون بالاتيان بالعبادة التي هي طريق النجاة لكي ينجوا من كلّ

ص: 631

هلاك و شرّ.

و من هذا البيان يظهر لك وجه ارتباط جملة «لعلّكم» بالحث و الامر بالعبادة على الوجه الاول كظهوره علي الوجه الثاني؛ إذ صيانة النفس عن المهالك خصوصا مهلكة الوقوع في نار الآخرة من أعظم البواعث على التزام ما ينجي منها و هو العبادة، و من أوضح الجهات العقليّة لوجوب الطاعة و ترك المخالفة، حتّى ربّما ظنّ جماعة ممّن عاصرناهم من مشايخ الاصوليّين أن مناط وجوب طاعة اللّه سبحانه عقلا هو التحرز عن الضرر المخوف، و هو و إن كان عندنا فاسدا، كما يظهر من التأمّل فيما فصّلناه هنا و في كلمة الجلالة و غيرها، لكنّه مؤيّد لكونه من أوضح الجهات العقليّة.

و لك تصوير الملازمة من الطرف الآخر و جعل الوجه الاول مدلولا التزاميا للثاني. و ذلك لأنّهم إذا كانوا مأمورين بالعبادة و الطاعة لخالقهم كانوا مخلوقين له؛ إذ لا يليق أمر المخلوق بغير غاية خلقه التي خلق لأجلها، أو باعتبار أنّهم إذا كانوا مأمورين بالعبادة لتحصيل النجاة و كانوا مخلوقين لذلك؛ إذ لم يخلقوا عبثا و لا لمنفعة تعود إلى خالقهم و لا للهلاك، فتعين كونهم مخلوقين للفلاح و الخير الخالص كما برهن عليها في محلّه. فاذا كان طريق ذلك هو العبادة كانوا مخلوقين لها.

ثمّ لا يخفى عليك أن للتقوى حقيقة واقعيّة يصحّ أن تجعل غاية للأمر بالعبادة، و هي مناط الوقاية الباطنيّة عن المهلكات الباطنيّة، و كأنّها بذر و معنى للنجاة الحسيّة عن النيران المحسوسة في النشأة الآخرة. و لعلّه يتضح لك شرح ذلك فيما بعد - إن شاء اللّه تعالى -.

و يمكن إدراجه في بعض مراتب اللّفظ المتقدم؛ إذ هو تقوى عن نار معنوية، فيصحّ إدراجه تحت باطن اللّفظ و إن خرج عن ظاهر قشره، فلا تغفل.

ص: 632

ثم إنّ في كلمة «لعلّ» و ما شابهها في المقام و نظائره من سائر الآيات الكريمة إشكالا اختلفت الانظار فيه، و هو: أنّ كلمة «لعلّ» مغناه الحقيقي مقصور على الترجي و الاشفاق، كما يظهر من جماعة (1) ،و نسب إلى جمهور أئمّة اللّغة. تقول: لعلّ زيدا يكرمني، و لعلّه يهيننى، و قال اللّه تعالى: «لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشىٰ » (2) ، «لَعَلَّ السّٰاعَةَ قَرِيبٌ » (3).

و في الصحاح: «لعلّ كلمة شكّ». و هو أعمّ منهما؛ إذ الترجّي هو توقع محبوب، و الاشفاق ترقّب مكروه، و ربما يخلوا الشيء المشكوك حصوله من المحبوبيّة و المبغوضيّة. و يمكن حمل التخصيص بهما على ذكر الافراد الغالبة حيث إنّ المذكور بعده غالبا أمر يتعلّق به غرض المخاطب خوفا أو رجاء، و هو قريب جدا في مثل ما وقع من «ابن هشام» هنا حيث انّه ذكر في معناها التوقّع، ثم قال: و هو ترجّي المحبوب و الاشفاق من المكروه »(4) ،و حمل كلام الجوهري على بيان الجنس إجمالا، لا أنّ معناه إظهار مطلق التردد؛ لكنّ الاول أقرب بظاهر النظر في العرف حيث لا نجد فرقا بين تعلّقه بالمبغوض و بما ليس مبغوضا و لا محبوبا و إن كان فرق في مواردها، فهو بالنسبة إلى الترجي و توقّع المحبوب و بين غيره حيث إنّه ربّما ينساق إلى الذهن من كلمة «لعلّ» خصوص الترجّي.

و ذكر بعض الافاضل: «أنّ التوقّع على الوجهين يعني: في المحبوب و المكروه، قد يكون من المتكلّم، و قد يكون من المخاطب، و قد يكون من غيرهما،

ص: 633


1- كالزمخشري و الرازي و السيبويه، فراجع الكشاف، ج 1، ص 45؛ و مجمع البيان، ج 1، ص 60؛ و التفسير الكبير، ج 1، ص 319.
2- طه/ 44.
3- الشورى 17.
4- ذكره في المغني، الباب الاول، كلمة «لعل».

كما يشهد به موارد الاستعمال». و كأنّه نظير كلامه المتقدّم في بيان عبارة الكشاف حيث حمل اللّفظ على حسب معتقد المخاطب.

فان أراد هنا أنّ المحبوبيّة و المكروهيّة قد تكونان من المتكلّم، و قد تكونان من المخاطب، و قد تكونان من غيرهما، فيكون مراده من التوقّع هو الانتظار الملازم لتعلّق همّ المتوقّع به، و إمّا لكونه محبوبا له أو مبغوضا له، فهو غير بعيد، كما لم نستبعد في صورة انتفائهما رأسا إطلاق كلمة «لعلّ».

و إن أراد كون التوقّع بالمعنى الاول المساوي للترديد يكون من كلّ واحد منهم، فان أراد صحّة الاطلاق و لو مع تصرف مخرج للّفظ عن أسلوبه الاصليّ فصحيح في الجملة، و إن أراد كونه بحسب قانونه الاصليّ أعمّ، ففيه ما عرفت نظيره، و أنّ المتبادر من الكلمة هو إنشاء التوقّع أو إظهاره من نفس المتكلّم، لا إيجاد توقّع الغير ابتداء أو الكشف عنه؛ كما أنّ معنى الامر و النهي و الاستفهام و غيرها هو خصوص طلب المتكلّم و استفهامه لا غير.

و يمكن إرجاع كلامه إلى ما سنذكره، و الذبّ عن الاعتراض به. و حينئذ فنقول: إنّ الشكّ و الترجّي و الاشفاق كلّها ممّا يمتنع عليه سبحانه العالم بكلّ شيء أزلا و أبدا بذاته الغنيّ المطلق، الذي لا ينفعه و لا يضره شيء بالضرورة العقليّة، القادر على كلّ شيء لا يخرج عن تحت حكمه و إرادته التكوينيّة شيء من دون توسّط حالة منتظرة. المقدّس عن عروض الحوادث و تغيّر الاحوال عليه، الذي إليه يرجع كلّ خوف و رجاء؛ لأنّه منتهى كل شكوى و منتهى مطلب الحاجات، و من عنده نيل الطلبات، فكيف يكون راجيا أو مشفقا و هما مع الشك و التردد من خواص الافتقار و النقصان اللازمين لدائرة الامكان؟

و أمّا ما ذكره جماعة منهم: «الاخفش» و «الكسائي» و «ابن الانباري» من أنّ: «لعلّ» يجيء للتعليل، و أنّه قد يكون مرادفا لكي، فقد ردّ بأنّ جمهور

ص: 634

أئمّة اللّغة اقتصروا في معناها الحقيقيّ على الترجي و الاشفاق، و بأنّ عدم صلوحها لمجرد معنى العلّيّة و الغرضيّة ممّا وقع عليه الاتفاق. أ لا تراك تقول: دخلت على مريض كي أعوده، و أخذت الماء كي أشربه، و لا يصحّ لعلّ؟

و الّذي يظهر لي في حلّ الاشكال عن المقام و نظائره أنّ كلمة «لعلّ» و ما شابهها تستعمل تارة في الترديد الفعليّ من المتكلّم و انتفاع جزمه بأحد طرفي النقيضين، و أخرى في الترديد من جهة و لحاظ خاصّ دون أخرى، و لا من حيث مجموع الجهات، كما أنّ المستدل إذا أثبت بطلان ما اعتقده الخصم دليلا ربّما يقول: فلعلّ مطلبك باطل، مع أنّه جازم به، لكنّ الاطلاق صحيح بحسب هذه المرتبة من النظر و البحث.

و ببالي ورود مثل هذا الاطلاق في مناظرة الامام عليه السّلام للزنديق المنكر للصانع بابداء الاحتمال ب «لعلّ».

و قريب من ذلك ملاحظة صلاحيّة الشيء في حدّ نفسه لشيء بحيث لا يتعين بحسب ملاحظة وقوع ذلك الشيء و لا عدم وقوعه، سواء كان ذلك الشيء الغير المتعين غاية له، كما يقال: غرست الشجرة لعلّه يثمر، و إن كان جازما لوقوعه سابقا أو لاحقا أو عدمه كذلك، أم لا كما يقال: هذا مريض لعلّه يشفى أو يموت إذا كان المقصود بيان أنّ شأن المريض في حدّ ذاته صالح للأمرين معا، من دون نظر إلى أمر خارج عن ذلك، و أنّه بملاحظة الامور الخارجية هل تعين أحدهما أم لا؟ و أنّ المتكلّم هل هو متردد فعلا أم لا؟

و حينئذ فيكون المستفاد من الكلمة هو نفس صلاحيّة متعلّقة للوقوع، و أنّه في معرض ذلك، و بحيث لو نظر فيه الناظر تردد في وقوعه و عدمه لعدم تعيّن أحدهما في حدّ نفسه.

و لعلّ مراد من أثبت معنى التعليل لكلمة لعلّ مردافة ل «كي» اداء

ص: 635

الغائيّة الصلوحيّة لا الغائيّة الاستلزاميّة الجزميّة؛ إذ لا يساعده العرف.

و حينئذ فنقول: إنّ علم الحقّ سبحانه للأشياء لمّا كان محيطا بمراتب الامكانات الذاتيّة و الاستعداديّة على درجاتها، و الفعليات و ما نسبته إلى آخر بالصلوح و الامكان، و ما نسبته إليه نسبة اللّزوم أو الامتناع. و إلى ما له غاية يصل إليها على وجه التحتم من حيث ملاحظة ذي الغاية، و إلى ما له غاية صلوحيّة من شأنه الوصول إليها على اختلاف درجات الشأنيّة، و كان البيان و اللّفظ تابعا للمعلومات مظهرا لها على حسب حالها، لزم أن يعبّر عمّا عدا الفعليات و اللّزوميات و الغايات المحقّقة بكلمة تدلّ على ذلك الصلوح و الشانيّة و الامكان و الغاية الاحتماليّة ليعلم السامع هذه المرتبة العلميّة. فمن جملتها كلمة «لعلّ» في مقام الغائيّة الاحتماليّة، و في مقام بيان كون الخبر في معرض الوقوع و من شأنه ذلك، بحيث إذا نظر إلى ذلك الصلوح و الشأنيّة الناظر لتردد في الوقوع و عدمه.

و لعلّه إليه يرجع كلام من جعل «لعلّ» في الآية و نظائرها بمعنى: «كي» بارادته كونهم مخلوقين على وجه يصلح لترتب التقوى عليه، و قول من قال هنا:

أنّه عز و جلّ خلق عباده لتعبدهم بالتكليف، و ركب فيهم العقول و الشهوات، و أزاح العلّة في إقدارهم و تمكينهم، و هداهم النجدين، و وضع في أيديهم زمام الاختيار، و أراد منهم الخير و التقوى. فهم في صورة المرجوّ منهم أن يتّقوا لترجّح أمرهم، و هم مختارون بين الطاعة و العصيان، كما ترجّحت حال المرتجي بين أن يفعل و أن لا يفعل.

و يجري نظيره على تقدير جعله متعلّقا ب «اعبدوا»، فانّ عبادة العابدين لا ينبغى أن تكون سببا لجزاهم بالنجاة من النار، أو بحصول التقوى المعنويّة من المهلكات بحيث يتكلّمون على أعمالهم، و يحدث فيهم حالة الامن من مكر اللّه سبحانه و عذابه. و إنّما هي سبب يصلح لترتب التقوى عليه و من شأنه ذلك برحمة اللّه.

ص: 636

فالّذي ينبغي للعابدين محض الرجاء، و هو غاية أعمالهم، لا الجزم بحصول الغاية، فانّه غرور كما يظهر ممّا فصّل في كتب الاخلاق. فغاية الامر بالتقوى هو صلاحيتها لترتّب التقوى عليه، كما يقال: اتّجر لعلّك تربح إذا كان المتكلّم عالما بالمآل.

ثمّ إنّه ربّما يكون في إظهار اللّه سبحانه كون الشيء في معرض الوقوع متعلّقا بايصال نعمة على عباده إطماع لهم، و إرجاء لهم في حصوله، و يكون تعريضا بالوعد، و يجري إطماع الكريم الرحيم مجرى الوعد المحتوم. و من ديدن الملوك أن يقتصروا في مواعيدهم المنجزة بقول «عسى» و «لعلّ» و الاحالة و الرمزة و أشباهها؛ مع أنّه لا يشكّ الطالب ما عندهم عند ظهورها في وصوله إلى مقصوده.

و ربّما يشهد لذلك ما تقدم من أنّ لعلّ من اللّه واجب، و ما في بعض الاخبار على ما ببالي من أنّ «عسى من اللّه موجبة». فانّ الظاهر إرادة ما ورد منها في مقام الاطماع الذي جاءت في مواضع عديدة من القرآن.

و إذا تعلّقت بانزال بلاء كانت تحذيرا و تخويفا، و في هذين المقامين يكون كلمة «لعلّ» آلة لاحداث الرجاء و الخوف في المخاطب، و كاشفا عن حال القضية في نفس الامر، و أنّه بحيث يرجى و يخاف.

و يشبه أن يكون مطابق هذا المعنى في الكتاب التكويني هو إيجاد الامر على وجه الصلوح و الشأنيّة للوقوع، و تعلّق الرجاء و الخوف به، و انبعاثهما عنه، و هو بمنزلة الاصل للحالتين الحادثتين في النفوس الجريئة. و إذا تعلّقت بفعل من أفعال المكلّفين أفادت محبوبيّة ما تعلّق به فعلا و تركا، كما في قوله سبحانه: «لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» عقيب ذكر التفقه و الانذار عند الرجوع إلى قومهم(1).

ص: 637


1- إشارة إلى قوله سبحانه في سورة التوبة، آية 122، و هو: «فَلَوْ لاٰ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ.»

[تحقيق حول الأرض و الفراش و السّماء و البناء]

اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرٰاشاً

[في معنى الفراش و بيان وجه إطلاقه على الأرض و كيفيّة جعلها فراشا] عن ابن بابويه باسناده عن العسكري، عن آبائه، عن السجّاد عليه السّلام في الآية:

«جعلها ملائمة لطبائعكم موافقة لأجسادكم، و لم يجعلها شديدة الحمى و الحرارة فتحرقكم، و لا شديدة البرودة فتجمدكم، و لا شديدة طيب الريح فتصدّع هاماتكم، و لا شديدة النتن فتعطبكم، و لا شديدة اللّين كالماء فتغرقكم، و لا شديدة الصلابة فتمتنع عليكم في دوركم و أبنيتكم و قبور موتاكم؛ و لكنّه عزّ و جلّ جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به و تتماسكون، و تتماسك عليها أبدانكم و بنيانكم، و جعل فيها ما ينقاد به لدوركم و قبوركم و كثير من منافعكم.

فلذلك جعل الارض فراشا لكم.

ثمّ قال عزّ و جلّ: «وَ السَّمٰاءَ بِنٰاءً » ؛ [أي:] سقفا من فوقكم محفوظا يدير فيها شمسها و قمرها و نجومها لمنافعكم.

ثمّ قال تعالى: «وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً» يعني: المطر ينزله من على ليبلغ قلل جبالكم و قلالكم و هضابكم(1) و أوهادكم،

ص: 638


1- الهضبة - بالفتح فالسكون -: الجبل المنبسط على وجه الارض، و الجمع هضب و هضاب.

ثمّ فرقه رذاذا و وابلا و هطلا و طلا لينشفه أرضوكم، و لم يجعل ذلك المطر نازلا عليكم قطعة واحدة، فيفسد أرضيكم و أشجاركم و زروعكم و ثماركم.

ثمّ قال عز و جلّ: «فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرٰاتِ رِزْقاً لَكُمْ » ؛يعنى:

ممّا يخرجه من الارض رزقا لكم.

«فَلاٰ تَجْعَلُوا لِلّٰهِ أَنْدٰاداً» أي: أشباها و أمثالا من الاصنام التي لا تعقل و لا تسمع و لا تبصر و لا تقدر على شيء.

«وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ » ،أنّها لا تقدر على شيء من هذه النعم الجليلة التي أنعمها عليكم ربّكم تبارك و تعالى »(1).

أقول:

«فتصدع هاماتكم» على بناء التفعيل من الصداع، و «أعطبه»: أهلكه، و «الرذاذ» كسحاب: المطر الضعيف أو الساكن المطر الدائم الصغار القطر كالغبار، و «الوابل»: المطر الشديد الضخم القطر، و «الهطل»: المطر الضعيف الدائم، و «الطلّ»: المطر الضعيف، أو أخفّ المطر و أضعفه، أو الندى، أو فوقه و دون المطر. كل ذلك نقل عن الفيروزآبادي(2).

و أصل الفراش اسم لما يفرش؛ كالبساط لما يبسط، و المهاد لما يمهد.

و في شواذ القراءة بدل «فراشا» بساطا كما عن «يزيد الشامي»، و مهادا كما عن طلحة (3).و الثاني قريب من الاول، كما أنّ الاول مرادف للمعروف بحسب

ص: 639


1- العيون، ج 1، باب 11، ص 112، ح 36؛ و تفسير الامام - عليه السلام -، ص 55؛ و الصافى، ج 1، ص 66؛ و البرهان، ج 1، ص 67.
2- راجع القاموس.
3- راجع الكشاف، ج 1، ص 46.

المادة؛ إذ أصل الفرش هو البسط، فيقال: فرشت الشيء أفرشه فراشا بسطته، و يقال: فرشه أمره إذا وسّعه إياه، و الفرش الفضاء الواسع، و الفرش في رجل البعير: اتساع قليل، و افترش الشيء أي: انبسط، و افترش ذراعيه: بسطهما على الارض. و افترش لسانه إذا تكلّم كيف شاء أي: بسطه، و تفرش الطائر: رفرف بجناحيه و بسطهما. كلّ ذلك على ما ذكره الجوهري.

و السعة متقاربة مع البسط مفهوما لتضمن البسط توسيعا، فكأنّ الاصل في معناه هو البسط، و إطلاقه على غيره باعتباره، كما يظهر من ملاحظة جملة أخرى من إطلاقه أيضا لمعنى البسط، كما أنّ ما فيه أيضا من أنّ الفرش المفروش من متاع البيت ظاهر المناسبة لمعنى البسط؛ إذ هو معدّ لأن يبسط، و كأنّ هذا الاعتبار الاخير أعني: المفروش، هو الظاهر من لفظ الفراش في المقام و نظائره، لا مطلق ما يبسط، كما أنّ لفظ البساط أيضا كذلك. و لذلك ذكر بعضهم أنّ: «معنى جعلها فراشا و بساطا و مهادا للناس أنهم يقعدون عليها و ينامون، و يتقلبون كما يتقلّب أحدهما على فراشه و بساطه و مهاده »(1).

و لعلّ إليه الاشارة بالتفسير ب «جعلها ملائمة لطبائعكم موافقة لأجسادكم» فيما تقدم؛ إذ الفراش بهذا المعنى هو المفروشات المعدة لأن يبسط و يتقلّب عليها بالقعود و الاضطجاع و غيرهما، فلا بدّ فيها من تحقّق الملائمة للطبائع و الموافقة للأجساد، و أن لا تكون فيها كيفيّة منافرة أو ضارّة من الحرارة و البرودة المفرطين، و الرائحة الشديدة المنافرة، و أن تكون بحيث يمكن الاستقرار عليها لا كالماء، و أن يكون ليّنة في الجملة لا كالحجر الصلب، و أن تكون بحيث تصلح للتقلّبات المقصودة فيها. و ذلك لأنّه لا يعدّ للافتراش إلا ما له مناسبة و صلاحيّة له من

ص: 640


1- نفس المصدر.

الجهات المتقدمة خالية عن الجهات المنافرة عنه؛ كسائر الامور المعدّة للأغراض الحاصلة بها حيث يعتبر فيها اختصاص بها في كلّ شيء منها بحسبه.

فيصحّ إطلاق الفراش على الارض بالمعنى المتقدم بعد كونها مبسوطة لأجل الاستقرار عليها، و التقلّب فيها، و كونها ملائمة موافقة، كما يظهر من ملاحظة كون الاجساد مخلوقة منها، و أنّ العنصر الغالب فيها هو التراب، و أنّ الاصل في المركب أن يكون تابعا للجزء الغالب فيها، و أنّ الشيء يميل إلى أصله، و خلوها من الافراط في الحرارة و البرودة المؤديتين إلى الاحتراق و الجمود، و توسّطها في اللّين و الصلابة ليتمكن الانسان من الاستقرار و التقلّب من دون تأذي، و خلوها عن الرائحة، حيث أنّ الرائحة الدائمة تؤدي إلى تغيير الكيفيّة الثابتة لمزاج الانسان، و توجب الطيّبة منها الصداع، كما يظهر بالتجربة، و تؤذي الكريهة منها، و إذا دامت ربّما أدت إلى الهلاك في بعض أقسامها، و كونها صالحة لجميع التقلّبات المقصودة منها من بناء الدور و القصور و القبور ذات متانة و تماسك يترتب عليها المقاصد، و لا تزيد على القدر اللائق بها فيتماسك عليها الابدان و البنيان و جميع ما يحمل عليها و ينقاد لكلّ شكل و صورة صبغت عليها، و لسائر وجوه المنافع. فهذه جعلها فراشا على حذو ما سبق في الرواية.

و لعلّ تخصيصها بالذكر توكيل لأشباهها و سائر الخصوصيّات المتحقّقة في كونها فراشا إلى اعتبار المعتبرين و توسّم المتوسمين، و نبّه بتلك أنظار الناظرين ليتخذوها مثلا إلى نظائرها، و سائر وجوه منافعها من جهة كونها فراشا سوى المنافع الخارجة عن تلك الجهة.

ص: 641

[رواية المفضّل في خلق الأرض]

و عن الصادق عليه السّلام في حديث توحيد المفضل أنّه قال:

«فكّر يا مفضّل فيما خلق اللّه عزّ و جلّ عليه هذه الجواهر الاربعة ليتسع ما يحتاج إليه منها. فمن ذلك سعة هذه الارض و امتدادها، فلو لا ذلك كيف كانت تتسع لمساكن الناس و مزارعهم، و منابت أخشابهم و أحطابهم، و العقاقير العظيمة و المعادن الجسيمة غناؤها؟

و لعلّ من ينكر هذه الفلوات الخالية و القفار الموحشة يقول: ما المنفعة فيها؟ فهي مأوى هذه الوحوش و محالها و مرعاها. ثمّ فيها بعد متنفس و مضطرب للناس إذا احتاجوا إلى الاستبدال بأوطانهم، و كم بيداء و كم فدفد حالت قصورا و جنانا بانتقال الناس إليها و حلولهم فيها؟ و لو لا سعة الارض و فسحتها لكان الناس كمن هو في حصار ضيّق لا يجد مندوحة عن وطنه إذا حزنه أمر يضطره إلى الانتقال عنه.

ثمّ فكّر في خلق هذه الارض على ما هي عليه حين خلقت راتبة راكنة، فتكون موطنا مستقرا للأشياء، فيتمكن الناس من السعي عليها في مآربهم، و الجلوس عليها لراحتهم، و النوم لهدوئهم، و الاتقان لأعمالهم. فانّها لو كانت رجراجة متكفئة لم يكونوا يستطيعون أن يتقنوا البناء و التجارة و الصناعة و ما أشبه ذلك، بل كانوا لا يتهنئون بالعيش و الارض ترتج من تحتهم.

ص: 642

و اعتبر ذلك بما يصيب الناس حين الزلازل على قلّة مكثها، حتّى يصيروا إلى ترك منازلهم و الهرب عنها.

فان قال قائل: فلم صارت هذه الارض تزلزل؟ قيل له: إنّ الزلزلة و ما أشبهها موعظة و ترهيب يرهب بها الناس ليرعووا عن المعاصي، و كذلك ما ينزل بهم من البلاء في أبدانهم و أموالهم يجري في التدبير على ما فيه صلاحهم و استقامتهم، و يدّخر لهم إن صلحوا من الثواب و العوض في الآخرة ما لا يعدّ له شيء من أمور الدنيا، و ربّما عجّل ذلك في الدنيا إذا كان ذلك في الدنيا صلاحا للعامّة و الخاصة.

ثم إنّ الارض في طباعها الّذي طبعها اللّه عليه باردة يابسة، و كذلك الحجارة. و إنّما الفرق بينها و بين الحجارة فضل يبس في الحجارة؛ أ فرأيت [لو] أنّ اليبس أفرط على الارض قليلا حتّى تكون حجرا صلدا أ كانت تنبت هذا النبات الّذي به حياة الحيوان؟ و كان يمكن بها حرث أو بناء؟ أ فلا ترى كيف نقصت عن يبس الحجارة و جعلت على ما هو عليه من اللين و الرخاوة ليتهيّأ للاعتماد؟

و من تدبير الحكيم جلّ و علا في خلقة الارض أنّ مهبّ الشمال أرفع من مهبّ الجنوب، فلم جعل اللّه الارض كذلك إلا لتنحدر المياه على وجه الارض، فتسقيها و ترويها، ثمّ تفيض آخر ذلك إلى البحر؟ فكما يرفع أحد جانبي السطح و يخفض الآخر لينحدر الماء عنه و لا يقوم عليه، كذلك جعل مهبّ الشمال أرفع من مهبّ الجنوب لهذه العلّة بعينها،

ص: 643

و لو لا ذلك لبقي الماء متحيرا على وجه الارض، فكان يمنع الناس من إعمالها، و يقطع الطرق و المسالك »(1).

أقول:

«العقاقير»: أصول الادوية، و «العناء» بالفتح: المنفعة، و الخاوية:

الخالية، و «الفدفد»: الفلاة، و المكان الصلب الغليظ و المرتفع و الارض المستوية، و «الفسحة» بالضمّ: السعة، و يقال: لي عن هذا الامر مندوحة و منتدح أي: سعة، و «حزنه أمر» أي: أصابه، و «الراتبة»: الثابتة، و «الراكنة»: الساكنة، و هدء هدأ و هدوا: سكن، و قوله عليه السّلام: «رجراجة» أي: متزلزلة متحركة، و «التكفؤ»: الانقلاب و التمايل و التحريك، و «الارتجاج»: الاضطراب، و «الارعواء»: الرجوع عن الجهل و الكف عن القبيح، و «الصلد» و يكسر: الصلب الاملس، و «الشمال»: الريح تهبّ من ناحية القطب الشماليّ على ما ذكره الجوهري و غيره.

و عن بعض أهل التحقيق: أنّ «الشمال محلّها من الجدي إلى مغرب الشمس في الاعتدال، و الدبور من سهيل إلى المغرب، و الجنوب من مطلع الشمس إليه، و الصباء من بين مطلع الشمس و الجدي في الاعتدال.» و يقرب منه كلام جماعة، منهم:

الشهيد في «الذكرى». و نظم ذلك بعضهم فقال:

مهبّ الصباء من مطلع الشمس واصل *** إلى الجديّ و الشمال حتّى مغيبها

و بين سهيل و الغروب تفردت دبور و مطلعها إليه جنوبها

و على كلّ حال فالظاهر أنّ مهبّ الشمال هو: ما يلي القطب الشماليّ من طرفي الارض أو خصوص الشماليّ الغربيّ؛ أي: ما بينهما منها على اختلاف التفسيرين، أرفع ممّا يلى القطب الجنوبيّ منها من السمت الشرقيّ أو من الطرفين.

ص: 644


1- نقله المجلسي (رض) في البحار، ج 3، باب 4، ص 121.

و ذلك لا ينافي الكرويّة التسامحيّة الّتي أثبت في الارض، و إنّما ينافي الحقيقيّة، و هي منتفية قطعا لما يشاهد فيها من الجبال و التلال و الاودية المنخفضة.

و يرشد إلى ذلك الاستعلاء حكمهم بفوقيّة الشمال على الجنوب في حكم تقارب البئر و البالوعة، و ما ذكره بعضهم من أنّ «أكثر الانهار كدجلة و الفرات و غيرهما تجري من الشمال إلى الجنوب».

و الّذي ظهر في أنّ مجراهما و كثير ممّا سويهما مجراهما ممّا بين الشمال و المغرب إلى ما بين الجنوب و المشرق، و هذا يوافق التفسير الثاني لمهبّ الشمال، و هذا الارتفاع في السمت الشماليّ يوجب جريان الانهار منه إلى الجنوب، فيمرّ المياه الموجودة في ناحية الشمال إلى ناحية الجنوب، و ينتفع بها في الاراضي المتوسّطة و المتأخّرة، و لولاه لسكنت في مكانها. و توجب أيضا كون محلّ المياه المحتبسة في أقطار الجهة الشماليّة مرتفعة لتبعيّتها لقرار الارض في الارتفاع و الانخفاض، فتجري من باطنها إلى ظاهر الجهة الشماليّة، و يلوح على وجه الارض فيها، كما يظهر من ملاحظة قانون استخراج القنوات.

و من جملة الحكم المعيّنة لكون الارتفاع لناحية الشمال دون ما تقرب من خطّ الاستواء أنّ موادّ المياه من الثلوج و الامطار فيها أكثر و أدوم لكثرة الابخرة المتصاعدة و قلّة الحرارة المحللة، فتوجد في الربيع و الصيف فيها مياه كثيرة، فتجري إلى سمت الجنوب في وقت شدة الحاجة إلى المياه في الزروع و غيرها، و دون حوالي نقطة الجنوب؛ لأنّ حضيض الشمس في البروج الجنوبيّة، فيكون الابخرة المتصاعدة عند كون الشمس فيها إذا كانت البحار في الناحية الجنوبيّة أكثر من صورة العكس، و تحليل الشمس للأبخرة الحاصلة في هواء ناحية الشمال عند الشتاء أقلّ، فيكثر مواد الامطار و الثلوج في الشتاء.

و الظاهر عندي أنّ ارتفاع الناحية الشماليّة هو السبب في انكشاف معظمها

ص: 645

عن الماء، و انخفاض الجنوبيّة هو الموجب لانغمار معظمها في الماء، و أنّ من حكمة اللّه سبحانه أنّه جعل الارض ذات سطوح مختلفة، حتّى ينكشف بذلك بعضها عن الماء، و ينغمر الآخر حتّى يصلح البارز لمسكن الانسان و الحيوان و إنبات النباتات و تكون المعادن و غير ذلك، كما يشهد لذلك ملاحظة النقشة(1) الّتي أثبتوا فيها صورة سطح الارض و الماء، فانّ بملاحظتها يظهر أنّ كلّ قطعة من كلّ ربع من الارباع الاربعة ارتفعت انكشف عنه الماء، و صارت جزيرة أو أرضا واسعة، و كلّ قطعة لم يكن كذلك بقيت منغمسة تحت الماء؛ لكنّ القدر الظاهر في هذا النصف الّذي نحن فيه معظم في الربع الشمالي، و أقلّه في الربع الجنوبي، لكن ليس الربع الشمالي كلّه باردا. بل جملة من سطحه مغمور في الماء و مواضعها بحار عظيمة. و أمّا النصف الآخر الّذي وقع تحتنا بالقياس إلى ملاحظتنا، فكلا الربعين منقسم إلى الارض و البحر و إن كان البرّ في الجانب الشمالي أكثر أيضا.

ثمّ إنّه لا منافاة بين كون الارض فراشا و بساطا و كونها كرويّة الشكل بالكرويّة التسامحيّة و إن ظنّ المنافاة لما ذكره بعضهم من أنّه: «ليس فيه إلا أنّ الناس يفترشونها كما يفعلون بالمفارش سواء كانت على شكل السطح أو شكل الكرة، فالافتراش غير مستنكر و لا مدفوع لعظم حجمها، و اتّساع جرمها، و تباعد أطرافها »(2).بل الكرويّة فيها ممّا لا ينبغي التأمّل فيها. و عليها بناء القواعد الهيئيّة في تشخيص القبلة و غيرها، و الظاهر من الفقهاء التعويل على كثير ممّا ذكروه مع ظهور ابتنائه على ذلك، و ببالي تصريح العلامة و فخر المحقّقين و غيرهما بذلك. و عليها براهين عديدة معتضدة بشواهد مذكورة بعضها في محالّها، هذا.

ص: 646


1- يعني: الخريطة.
2- الكشاف، ج 1، ص 46.

[وَ السَّمٰاءَ بِنٰاءً ]

[في معنى البناء و كيفيّة بناء السّماء]

و «البناء» مصدر سمّي به المبنى بيتا، كان من طين و لبن، أو قبّة كالخيمة، أو خباء، أو طرافا، و أبنية العرب على ما ذكره الجوهري: طراف و أخبية، فالطراف من أدم و الخباء من صوف أو أدم: و منه بنى على امرأته؛ لأنّ الاصل فيه على ما ذكره أيضا أنّ الداخل بأهله كان يضرب عليها قبّة ليلة دخوله بها، فقيل لكلّ داخل بأهله بان، فالسماء حينئذ بناء كالقبّة المضروبة و الخيمة المطنبة على قرار الارض الّتي هي الفراش، كما يظهر بملاحظة إحاطتها بالارض مع ارتفاعها عنها، و كونها محددة لما يتعلّق بها من الاقطار و الابعاد، و كونها حافظة لها عن ورود المنافيات عليها على ما هو الظاهر من ارتباط بقاء الارض على ما هو عليها بها، و اشتمالها على الشمس التي هي السراج و القمر الذي هو النور، و النجوم كالسقف المعلّق عليها المصابيح، و على سائر المنافع التي تصل إلى الانسان بتوسّط السماء، و ما فيها من الخواص المترتّبة عليها، و على التغيرات العارضة لها في الحركات و الانتقالات، و تنقل الاحوال ممّا فصّل في محاله.

ثمّ المراد ...(1).

ص: 647


1- هذا آخر ما وجدناه بخطه المبارك - قدس اللّه روحه الشريف -.

ص: 648

فهرس المواضيع

كلمة الناشر 5

ترجمة المؤلف 9

خطبة الكتاب 1

السّبب الباعث لتأليف الكتاب 3

المقدمات (5-208) المقدمة الاولى في نبذة ممّا ورد في الوصيّة بالتمسّك بالقرآن و التدبّر فيه و جملة من أوصافه منضمّة إلى استبصارات عقليّة 7

في الوصيّة بالتمسّك بأهل البيت عليهم السّلام و أنّهم الكتاب الناطق 17

بيان أنّ الكتاب هو الثقل الاكبر 19

أسماء القرآن 22

المقدمة الثانية في ذكر جملة ممّا جاء في المنع من تفسير القرآن بالرّأي، و ما يتراءى منه بترك تفسيره بغير ما ورد عن أهل البيت عليهم السّلام و أن من عداهم لا يعلمون شيئا منه و ما أشبه ذلك و تحقيق ذلك 30

نبذة من الرّوايات التي تدلّ على أنّ علم القرآن كلّه عند أهل البيت عليهم السّلام 30

ص: 649

معنى التّفسير و أنواعه 43

روايات عرض الاخبار على القرآن 44

في أخذ محكمات القرآن و ترك المتشابهات و ردّ علمها إلى أهلها 48

جواز العمل بظاهر القرآن في الاحكام 50

المقدمة الثالثة في نبذة ممّا جاء في أنّ علم القرآن كلّه إنّما هو عندهم عليهم السّلام و ما أشبه ذلك 58

المقدمة الرابعة في جملة ممّا جاء في معاني وجوه الآيات و التّنزيل و التأويل و الظّهر و البطن و الحدّ و المطلع و المحكم و المتشابه و النّاسخ و المنسوخ و اشتمال الآيات على البطون و التأويلات و غير ذلك و ما يتعلّق ببيانها 62

الرّوايات الواردة في الظّهر و البطن و الحدّ و المطلع 62

المراد من الحدّ و المطلع هو التّنزيل و التّأويل 64

في اندراج الجزئيات تحت الكليات و تطبيقها عليها 65

إرادة الكلّي من إيراد الجزئيّ 67

في كثرة العوالم و أنّ لكلّ شيء حقيقة في كلّ واحد منها 69

مراتب القرآن على ما ذكر بعض العارفين 72

في جواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى واحد 74

في أنّ للقرآن محكما و متشابها و ناسخا و منسوخا و سننا و أمثالا و فصلا و وصلا و أحرفا و تصريفا و ما جاء فيها 80

حدود القرآن 84

تذييل 85

المقدمة الخامسة فيما نزل عليه القرآن من الاقسام الكلّية و ما يتعلّق بذلك 88

ص: 650

في أنّ الولاية المطلقة للنبيّ و الأئمّة عليهم السّلام 92

في أنّ عليّا عليه السّلام قسيم الجنّة و النّار 94

في أنّ القرآن نزل بايّاك أعني و اسمعي يا جارة 96

المقدمة السادسة في نبذة ممّا جاء في أن القرآن تبيان كل شيء و بيان ذلك 99

المقدمة السابعة في نبذة ممّا جاء في جمع القرآن و تحريفه و زيادته و نقصه و ما يتعلّق بذلك 104

اختلاف العلماء في التّحريف 115

معنى التّحريف و الزّيادة 123

معنى التحريف و النقيصة 126

نقد أدلة النّافين للتّحريف 126

كيفيّة جمع القرآن و زمانه 130

اختلاف القراءات 135

اختيار القول بالتّحريف في الجملة 137

المقدمة الثامنة فيما ورد من نزول القرآن على سبعة أحرف و بيانه و اختلاف القراءات و المعتبر منها 139

في عدم نزول القرآن على سبعة ألفاظ 141

المراد من الاحرف ما هو 143

جواز اختيار القراءة المشهورة 146

المقدمة التاسعة في زمان نزول القرآن و ما يتعلق بذلك 147

مراتب نزول القرآن 149

كيفية نزول القرآن في ليلة القدر و تفصيله 151

المقدمة العاشرة في نبذة ممّا جاء في تمثّل القرآن يوم القيامة

ص: 651

و شفاعته لأهله و معاتبة السّورة لتاركها بعد تعلّمها و ثواب حفظه و تلاوته و سماعه و استماعه و فضيلتها و ما يتعلّق بذلك 153

مراتب وجود القرآن في النّزول و الصّعود 160

شرح تنزّل القرآن في القيامة بصور مختلفة 162

تكلّم القرآن و معاتبة السّورة المتروكة لتاركها 165

درجات الجنّة على عدد آيات القرآن 166

رفعة مقام أهل القرآن 168

فضل قراءة القرآن و ختمه و استماعه 170

المقدمة الحادية عشر في ذكر جملة ممّا ورد في آداب التّلاوة الظاهريّة و الباطنيّة و كيفيّتها و ما يتعلّق بذلك 176

استحباب النظر في المصحف حال القراءة 176

استحباب الطهارة عند قراءة القرآن 177

خفض الصّوت و رفعه و رجحان أحدهما على الآخر 179

استحباب تحسين الصّوت و عدم جواز التّرجيع و الغناء 181

استحباب الترتيل في القراءة و معنى الترتيل 185

ترك الافراط في مقدار القراءة إلا في شهر رمضان 191

التّحزين في القراءة 194

استحباب سؤال الجنّة و الاستعاذة من النار عند آيتيهما 195

التفكّر في معاني القرآن و التأثر منها 196

كلام عليّ عليه السّلام في صفة المتقين و شرحه 197

عدم جواز إظهار الغشية عند قراءة القرآن 202

المقدمة الثانية عشر فيما جرينا عليه في هذا التّفسير من اصطلاح و غيره 206

ص: 652

سورة الحمد (209-353) تحقيق حول كلمة البسملة 211

تفسير «بسم اللّه الرّحمن الرّحيم» 211 القول في معنى الباء و متعلّقها 211

في معنى التّسمية 214

في وجوه تعليق الاستعانة باسم الجلالة و كيفيتها 216

تفسير الاسم باعتبار معنى كلّ حرف من حروفها 219

بحوث حول لفظ الجلالة 228

في اشتقاق كلمة الجلالة و علميّتها و أن أصلها ما هو 231

في حقيقة العبوديّة و أنّ كلمة الجلالة مستجمع لجميع الصّفات الكماليّة 235

في بيان أنّ كلمة الجلالة ليست اسما للذات 239

تفسير كلمة الجلالة باعتبار حروفها 242

بحوث حول كلمتي الرّحمن و الرّحيم 244

في أنّ مرتبة الرحمة متأخرة عن مرتبة الالوهيّة 249

«الرّحمن» اسم خاصّ لصفة عامّة و «الرحيم» اسم عام لصفة خاصة 251

في بيان أنّ البسملة أقرب إلى اسم اللّه الاعظم من بياض العين إلى سوادها 254

هل البسملة جزء من سورة الفاتحة أم لا 257

في بيان علّة رجحان إجهار البسملة في الصّلاة و أنّها أعظم آية من كتاب اللّه 259

لما ذا جعل البسملة في أوّل السّورة 261

في استحباب إتيان البسملة عند بدء كلّ أمر 263

ص: 653

نزول البسملة على الانبياء و رفع شدّتهم بها 265

في الامور الباطنيّة التي ينبغي أن يراعيها قارئ البسملة 266

تحقيق حول كلمة الحمد 268

تفسير «الحمد لله» 268

الفرق بين الحمد و المدح 268

الفرق بين الحمد و الشكر 270

أقسام الشكر 270

في اختصاص الحمد باللّه سبحانه 272

اعتقاد العدليّة في جواز التحميد لغير اللّه سبحانه 273

وجوب شكر المنعم في الواجب و الممكن و نسبته مع الحمد 275

رجوع المحامد كلّها إليه سبحانه 277

تفسير «رب العالمين» 280

معنى كلمة الربّ و اشتقاقها 281

معنى العالم و عدد العوالم 283

إشارة إلى علم الهيئة و العالم الكبير و الصّغير 285

في أنّ الربوبيّة منحصر في اللّه سبحانه و بيان اشتمالها لجميع الموجودات 286

أثر اسم الربّ في مقام الدّعاء 289

علة تكرار آية «الرحمن الرحيم» 291

تفسير «الرحمن الرحيم» 291

تحقيق حول «مالك» و «ملك» و «الدّين» 293

تفسير «مالك يوم الدين» 293

معنى الدين 293

ص: 654

اختلاف القراءات في كلمة «مالك» 295

في إضافة الملك و المالك إلى يوم الدين و ما يستفاد منها 296

ارتباط صفة المالكيّة مع انحصار الحمد للّه سبحانه 297

تأثير التفكّر في معاني هذه الآية في النّفس 299

محاسبة النّفس و توزين الاعمال 300

في دلالة الآيات الثلاث بالتّرتيب على المبدأ و المعاد و ما بينهما 302

تحقيق حول العبادة و الاستعانة 303

تفسير «إياك نعبد» 303

معنى العبادة و علة تقديم المفعول على الفعل 303

علّة إيراد الفعل بصيغة الجمع 305

سبب الالتفات من الغيبة إلى الخطاب 306

حقيقة العبوديّة و الخضوع و مقاماتها 307

تفسير «و إياك نستعين» 310

معنى الاستعانة 310

حصر العبادة و الاستعانة للّه تعالى 311

في دلالة الآية على بطلان الجبر و التفويض 312

في شرائط الاستعانة و لوازمها 313

تحقيق حول الهداية و الصراط 316

تفسير «اهدنا الصراط المستقيم» 316 معنى الهداية 316

معنى الصراط و صفاته 318

الصّراط في الدّنيا هو الدين 320

الصّراط في الآخرة هو جسر معهود و بيان ارتباطه مع صراط الدنيا 322

ص: 655

الأئمة عليهم السّلام هم الصراط و معرفتهم معرفته 323

للعلوم و العقل مدخليّة في السير إلى اللّه 324

طلب الهداية من أهمّ أفراد الاستعانة 326

أنحاء سلوك الصّراط في يوم القيامة 327

معرفة الامام هي معرفة اللّه و معرفة النبي و الدين و العبوديّة و الربوبيّة 328

أنحاء الهداية على ما ذكرها الشّيخ البهائيّ 330

تحقيق حول النعمة و المنعم عليهم و المغضوب عليهم و الضالّين 332

تفسير «صراط الذين أنعمت عليهم» 332 الوسائط في إيصال النّعمة ليسوا منعمين 332

بيان أصناف النّعمة 333

تفسير «غير المغضوب عليهم و لا الضالين» 336

في معنى الغضب و الضّلال 338

علّة عدوله سبحانه عن إسناد الغضب إلى نفسه 340

السّبب في اتباع الصراط المستقيم بصراط الذين أنعمت عليهم 341

في فضائل سورة الحمد 342 في أنّ سورة الحمد هي شفاء كلّ داء و علة تكرارها 342

اسم اللّه الاعظم مقطع في أمّ الكتاب 345

ما من شيء في القرآن إلا و هو في سورة الحمد 346

الفاتحة أشرف ما في كنوز العرش 350

في أنّ سورة الفاتحة مقسّم قسمين بين اللّه و بين عباده 351

ص: 656

سورة البقرة (355-647) تحقيق حول «الم» و سائر الحروف المقطّعات 357

تفسير «الم» 357 روايات في تفسير فواتح السّور و ما يتعلّق بها 358

أحاديث في معاني الحروف المقطّعة 376

في بيان دلالة الحروف المقطّعة على حقائق أسماء اللّه سبحانه 383

في حقيقة الكتاب و المتّقين و الارتباط بينهما 392

تفسير «ذلك الكتاب لا ريب فيه» 392 في معنى الريب 396

تفسير «هدى للمتقين» 397 في معنى الهداية و أنّ المتّقين هم المهتدون و هم الشيعة 397

بحوث حول الايمان و الغيب 404

تفسير «الذين يؤمنون بالغيب» 404 أقسام الايمان على ما في تفسير القمي 407

في أنّ الغيب هو الامام الغائب عجل اللّه تعالى فرجه الشريف 413

تفسير «و يقيمون الصلاة» 415 في معنى إقامة الصلاة 415

تفسير «و مما رزقناهم ينفقون» 417 في معنى الرزق و الانفاق 417

في معنى الآخرة و اليقين بها و من هم الموقنون 421

تفسير «و الذين يؤمنون بما أنزل إليك و ما انزل من قبلك» 421

تفسير «و بالآخرة هم يوقنون» 421

في معنى الهداية و الفلاح و أنّ المهتدين و المفلحين هم المتقون 423

ص: 657

تفسير «اولئك على هدى من ربهم» 423

تفسير «و اولئك هم المفلحون» 423 غايات التّقوى على ما في نهج البلاغة 425

في معنى الكفر و أقسامه و مراتبه 433

تفسير «إن الذين كفروا» 433

تفسير «سواء عليهم أ أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون» 442

بحوث حول الختم و الغشاوة 443

تفسير «ختم الله على قلوبهم و على سمعهم و على أبصارهم غشاوة» 443 معنى الختم و الغشاوة 443

اعتقاد المجبرة في الختم 446

ردّ قول المجبرة و بيان حقيقة الختم و إسناده إلى اللّه سبحانه 447

في أنّ الختم و التّغشية مرتبة من مراتب العقاب 453

ارتباط درجات الختم بمراتب الحجاب في الانسان 456

تفسير «و لهم عذاب عظيم» 459 في معنى العذاب 459

شرائط إدراك العذاب الباطنيّ و كيفيّته 461

تحقيق حول النفاق و المنافقين 463

تفسير «و من الناس من يقول آمنا بالله و باليوم الآخر و ما هم بمؤمنين» 463 في أنّ النّفاق أقبح من الكفر 466

في بيان حقيقة النّفاق 467

في اندراج الرّياء تحت النّفاق 469

وجه المناسبة بين هذه الآية و الآيات السّابقة 470

تحقيق حول المخادعة مع اللّه و المؤمنين و الآثار المترتبة عليها 471

تفسير «يخادعون الله و الذين آمنوا» 471

ص: 658

في معنى الخدعة 471

في معنى المخادعة مع اللّه 473

في أنّ المرائي يخادع اللّه 474

في أنّ الاوّل و الثاني و أضرابهما أصل الخدعة و النّفاق 476

تفسير «ما يخدعون إلا أنفسهم و ما يشعرون» 478 في رجوع الخدعة إلى الخادع 478

في بيان حقيقة إسناد الخداع إلى اللّه 479

المخادع لا يضرّ المؤمنين بالخدعة بل يضرّ نفسه 481

أمراض قلوب المنافقين و عللها و آثارها 484

تفسير «في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا» 484 في بيان معنى القلب و المراد منه 490

معنى المرض و حقيقته 493

أنواع أمراض القلب و آفاته 494

في أنّ مرض القلب يوجب النّفاق 499

تفسير «و لهم عذاب اليم بما كانوا يكذبون» 500 في معنى الاليم و وجوه توصيف العذاب به 500

في مراتب قبح الكذب 501

تحقيق حول الفساد و جواب المنافقين في منعهم عن الافساد 502

تفسير «و إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون» 502 في معنى الفساد 503

كيفيّة إفساد المنافقين 504

في أنّ قلب المفسد لا يتأثّر بالنّصيحة 505

عدم العمل بمقتضى الولاية يوجب الفساد 506

ص: 659

تأكيد لافساد المنافقين 508

تفسير «ألا إنهم هم المفسدون و لكن لا يشعرون» 508

تحقيق حول الايمان و النّاس و السفاهة 509

تفسير «و إذا قيل لهم آمنوا... و لكن لا يعلمون» 509 من المخاطب في الآية و من المراد من الناس 510

في معنى السّفاهة و من هم السّفهاء 513

بحوث في كيفية ملاقات المنافقين مع المؤمنين و مباحثتهم 518

تفسير «و إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا... إنما نحن مستهزؤن» 518 في شأن نزول الآية 523

في معنى اللّقاء و الخلوّ و الشيطان و أنّ الثاني هو الشيطان الاكبر 524

في معنى الاستهزاء و أنّه ملازم للنّفاق 526

بحوث حول استهزاء اللّه بالمنافقين و إمهاله و مدده على طغيانهم 528

تفسير «اللّه يستهزئ بهم» 528 في بيان حقيقة استهزاء اللّه 532

كيفيّة استهزاء اللّه سبحانه بالمنافقين في الآخرة 535

تفسير «و يمدهم في طغيانهم يعمهون» 536 في معاني المدّ و الطّغيان و العمه 537

في بيان حقيقة إمهال اللّه المنافقين و مدده على طغيانهم 539

وجه إضافة الطّغيان إلى المنافقين 541

في أنواع الطّغيان و أنّ النّفاق هو الطّغيان 541

بحوث حول الضلالة و الهداية و تجارة المنافقين باشتراء الاولى بالاخرى 544

تفسير «اولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم

ص: 660

في معنى الصيّب و ما يراد منه 569

ص: 661

تفسير «فيه ظلمات و رعد و برق» 571 في بيان حقيقة الرعد و البرق و كيفيّة ظهورهما 571

تفسير «يجعلون أصابعهم في آذانهم» 577

تفسير «من الصواعق حذر الموت» 578 معنى الصاعقة 578

تفسير «و الله محيط بالكافرين» 579 معنى إحاطة اللّه سبحانه 579

وجوه تشبيه المنافقين بما أصابه الصيّب 580

في تشبيه الحق بالمطر و بيان حقيقة متعلّقاته من الرعد و غيره 581

تحقيق حول الخطف و الشيء و بيان قدرة اللّه سبحانه 587

تفسير «يكاد البرق يخطف ابصارهم» 587 في معنى الخطف و وجه خطف أبصار المنافقين 587

في إيمان المنافقين عند الراحة و كفرهم عند الشدائد 591

تفسير «كلما أضاء لهم مشوا فيه و إذا أظلم عليهم قاموا» 591

تفسير «و لو شاء الله لذهب بسمعهم و أبصارهم» 596 في أنّ اللّه قادر باذهاب بصر المنافقين و إظهار كفرهم 596

تفسير «إن الله على كل شيء قدير» 597 حقيقة الشيء و مصاديقه 597

في بيان قدرة اللّه تعالى و إعطائه القدرة للنّاس 608

تحقيق حول معاني النداء و العبادة و الخلق و الترجّي 613

تفسير «يا أيها الناس» 613 حقيقة نداء اللّه سبحانه عباده و كيفيّة تأثير النّداء عليهم 613

تفسير «اعبدوا ربكم الذي خلقكم و الذين من قبلكم» 619 في أنّ ربوبيّة اللّه توجب العبوديّة 620

ص: 662

معنى الخلق و كيفيّة اتّصاف الربّ به 622

في المراد من المخلوقين قبل 628

تفسير «لعلكم تتقون» 630 في معنى التّرجّى و ما يتعلّق به و كيفيّة نسبته إلى اللّه تعالى 631

تحقيق حول الارض و الفراش و السماء و البناء 638

تفسير «الذي جعل لكم الارض فراشا» 638 في معنى الفراش و بيان وجه إطلاقه على الارض و كيفيّة جعلها فراشا 638

رواية المفضّل في خلق الارض 642

تفسير «و السماء بناء» 647 فى معنى البناء و كيفيّة بناء السّماء 647

فهرس المواضيع 649

ص: 663

درباره مركز

بسمه تعالی
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
با اموال و جان های خود، در راه خدا جهاد نمایید، این برای شما بهتر است اگر بدانید.
(توبه : 41)
چند سالی است كه مركز تحقيقات رايانه‌ای قائمیه موفق به توليد نرم‌افزارهای تلفن همراه، كتاب‌خانه‌های ديجيتالی و عرضه آن به صورت رایگان شده است. اين مركز كاملا مردمی بوده و با هدايا و نذورات و موقوفات و تخصيص سهم مبارك امام عليه السلام پشتيباني مي‌شود. براي خدمت رسانی بيشتر شما هم می توانيد در هر كجا كه هستيد به جمع افراد خیرانديش مركز بپيونديد.
آیا می‌دانید هر پولی لایق خرج شدن در راه اهلبیت علیهم السلام نیست؟
و هر شخصی این توفیق را نخواهد داشت؟
به شما تبریک میگوییم.
شماره کارت :
6104-3388-0008-7732
شماره حساب بانک ملت :
9586839652
شماره حساب شبا :
IR390120020000009586839652
به نام : ( موسسه تحقیقات رایانه ای قائمیه)
مبالغ هدیه خود را واریز نمایید.
آدرس دفتر مرکزی:
اصفهان -خیابان عبدالرزاق - بازارچه حاج محمد جعفر آباده ای - کوچه شهید محمد حسن توکلی -پلاک 129/34- طبقه اول
وب سایت: www.ghbook.ir
ایمیل: Info@ghbook.ir
تلفن دفتر مرکزی: 03134490125
دفتر تهران: 88318722 ـ 021
بازرگانی و فروش: 09132000109
امور کاربران: 09132000109