الآراءُ الفقهیَّة: (ق_س_م المکاسب المحرمة 2) المجلد 2

هوية الکتاب

بطاقة تعريف: النجفي، هادي، 1342 -

عنوان واسم المؤلف: الاراء الفقهیة/ تالیف هادي النجفي.

تفاصيل المنشور: اصفهان: مهر قائم، 1387.

مواصفات المظهر: 3 ج.

شابک : 0 20000 ریال: دوره: 978-964-7331-77-7 ؛ ج. 1: 978-964-7331-74-6 ؛ ج. 2: 978-964-7331-75-2 ؛ ج. 3: 978-964-7331-85-2

حالة الاستماع: فاپا/الاستعانة بمصادر خارجية.

لسان: العربية.

ملحوظة: ج. 2 و 3 ( الطبعة الأولى: 1429ق. = 1387).

ملحوظة: فهرس.

موضوع : المعاملات (فقه)

موضوع : أعمال الهرم

موضوع : فقه جعفري -- قرن 14

ترتيب الكونجرس: BP190/1/ن3آ4 1387

تصنيف ديوي: 297/372

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 1245417

ص: 1

اشارة

ص: 2

الاراء الفقهیه قسم المکاسب المحرمه

تالیف هادی النجفی

ص: 3

ص: 4

تتمة النوع الرابع: الاکتساب بما هو حرام فی نفسه

حفظ کتب الضلال

اشارة

التعرض لمعنی العنوان هو الأولی ، کما قال الشیخ الأعظم : « لابدّ من تنقیح هذا العنوان»(1) ، فما المراد بالحفظ وماهی کتب الضلال هنا ؟

أما المراد بالحفظ

فقال الشهید الثانی : « المراد حفظها من التلف أو علی ظهر القلب وکلاهما محرَّم لغیر النقض والحجة علی أهلها لمن له أهلیتها لا مطلقاً ، خوفاً علی ضعفاء البصیرة من الشبهة . ومثله نُسخها . وکذا یجوزان للتقیة . وبدونها یجب إتلافها إن لم یمکن إفراد مواضع الضلال ، وإلاّ اقتصر علیها حذراً من إتلاف ما یعدّ مالاً من الجلد والورق ، إذا کان لمسلم أو محترم المال »(2) .

وقال المحقق الثانی فی معنی الحفظ : « أی حفظها فی الصدر أو حفظها بمعنی صیانتها عن أسباب التلف ... »(3) .

وقال المحقق الأردبیلی : « من المحرَّم حفظ کتب الضلال ،کأنّ المراد أعم من حفظها عن التلف أو علی الصدر ، والأوّل أظهر . وکأنّ نسخها أیضاً کذلک ، بل هو اُولی»(4) .

وقال جدنا الشیخ الأکبر کاشف الغطاء : « (حفظ کتب الضلال) أو ضلالها فی الصدر أو عن التلف (ونسخها) متعلقاً بأصل أو فرع ، مع صدق الإسم علیها لإعدادها له أو کثرته

ص:5


1- (1) المکاسب المحرمة / 30 _ (1 / 235) .
2- (2) مسالک الأفهام 3 / 127 .
3- (3) جامع المقاصد 4 / 26 .
4- (4) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 75 .

فیها ... »(1) .

وقال صاحب الریاض « (وحفظ کتب الضلال) عن الإندراس أو عن ظهر «القلب(ونسخها) وتعلیمها وتعلّمها ...»(2) .

وقال النراقی : « حفظ کتب الضلال عن الإندراس ونسخها وتعلیمها وتعلّمها ...»(3) .

وقال السید جواد العاملی : « ... وقضیة قولهم « یحرم حفظها» أنّه یجب إتلافها کما صرّح بذلک المحقق الثانی والشهید الثانی والقطیفی وغیرهم ... »(4) .

وقال صاحب الجواهر : « ... والمراد حفظها عن التلف أو علی ظهر القلب ، بل یحرم مطالعتها وتدریسها ، بل الظاهر أن حرمة الحفظ لوجوب إتلافها باعتبار دخولها تحت الوضع للحرام وتحت ما من شأنه ترتب الفساد علیه ، بل هی أولی حینئذ بالحرمة من هیأکل العبادة المبتدعة ... »(5) .

وقال الشیخ الأعظم فی آخر البحث : « ثمّ الحفظ المحرَّم یُراد به الأعمّ من الحفظ بظهر القلب والنسخ و المذاکرة وجمیع ماله دخل فی بقاء المطالب المضلّة»(6) .

وقال المحقق الإیروانی : « مقتضی دلیله وجوب العمد إلی إتلاف کتب الضلال ، فیکون المراد من الحفظ عدم التعرض للإتلاف ، لکنّه بعید من العبارة .

ویُحتمل أن یکون المراد الحفظ من إثبات الید علیها واقتنائها .

وثالث الإحتمالات الذی هو ظاهر لفظ « الحفظ » حفظه عن التلف ، فیختص بما إذا کان فی عرضة التلف ومتوجّهاً إلیه غرق أو حرق فیحفظه عن ذلک ... لکن الأدلة إن تمّت

ص:6


1- (5) شرح القواعد 1 / 216 .
2- (1) ریاض المسائل 8 / 164 .
3- (2) مستند الشیعة 14 / 157 .
4- (3) مفتاح الکرامة 4 / 62 _ (12 / 206) .
5- (4) جواهر الکلام 22 / 56 .
6- (5) المکاسب المحرمة / 30 _ (1 / 238) .

قضت بوجوب الإتلاف والعمد إلی المحو والإعلام فی أیّة مکتبة کانت »(1) .

وقال المحقق الأردکانی : « أمّا الحفظ فکانت محتملاته أیضاً ثلاثاً :

الأوّل : أن یراد منه عدم الإتلاف .

الثانی : إثبات الید علیها .

الثالث : صیانته عن التلف إذا کان فی معرضه کالغرق والحرق .

إلاّ أنّ المستفاد من بعض أدلة حرمة الحفظ هو وجوب الإتلاف ، ولازمه إرادة المعنی الأوّل من الحفظ هنا»(2) .

وقال شیخنا الأستاذ _ مدظله _ : « المراد بحفظ کتب الضلال ما یعمّ اقتناءها واستنساخها»(3) .

وقال بعض أساتیذنا _ مدظله _ : « أمّا الحفظ فقد مرّ عن المحقق الإیروانی قدس سره فیه ثلاثة احتمالات ، وأنّ الظاهر من الأدلة حرمة الحفظ فی مقابل الإتلاف ، فیجب محو کتب الضلال وإتلافها أینما کانت . ویضاف إلیها إحتمال رابع ، وهو حفظها بظهر القلب»(4) .

أقول : ما المراد بالحفظ هنا ؟ وجوه :

1 _ الحفظ بظهر القلب وإیداعها فی الحافظة وقوة الذاکرة .

2 _ إثبات الید علیها واقتناؤها .

3 _ المحافظة علیها من إتلافها إذا کانت فی معرض التلف أو الإتلاف .

4 _ استنساخها وتکثیرها وطبعها وتوزیعها ، بحیث لا یتمکن أحدٌ من إتلاف هذا المحتوی ، أو فقل فی زماننا هذا إرسالها إلی الإنترنت وإطلاع الناس علیها .

5 _ المراد بالحفظ هنا عدم الإتلاف .

ظاهر العبائر ومقتضی الأدلة هو الأخیر ، یعنی أنّ المراد بالحفظ ما یقابل الإتلاف ،

ص:7


1- (6) حاشیة المکاسب 1 / 151 .
2- (7) غنیة الطالب 1 / 122 .
3- (1) إرشاد الطالب 1 / 140 .
4- (2) دراسات فی المکاسب المحرمة 3 / 90 .

وإنّ الحفظ بهذا المعنی العام یشمل غیره من المعانی المذکورة ، فالجمیع داخل فی حرمة الحفظ ، والأدلة إذا تمّت تقتضی حرمة جمیعها کما صرح بذلک الشیخ الأعظم فی عبارته التی مرّت منّا . واللّه سبحانه هو العالم .

وأما المراد من کتب الضلال

فقال الشیخ الطوسی : « إذا وُجد فی المغنم کتبٌ نظر فیها فإن کانت مباحة یجوز إقرار الید علیها ، مثل کتب الطب والشعر واللغة والمکاتبات ، فجمیع ذلک غنیمة ، وکذلک المصاحف وعلوم الشریعة کالفقه والحدیث ونحوه ، لأنّ هذا مال یباع ویشتری کالثیاب . وإن کانت کتباً لا تحلّ إمساکها کالکفر والزندقة وما أشبه ذلک ، کلّ ذلک لا یجوز بیعه ، وینظر فیه ، فإن کان ممّا ینتفع بأوعیته إذا غُسل کالجلود ونحوها فإنّها غنیمة ، وإن کان ممّا لا ینتفع بأوعیته کالکاغذ فإنّه یمزق ولا یحرق لأنّه ما من کاغذ إلاّ وله قیمة وکلم التوراة والانجیل

هکذا ، کالکاغذ فإنّه یمزق لأنّه کتاب مغیّر مُبدّل»(1) .

وقال أیضاً : « إذا أوصی بشیءٍ یکتب به التوراة والإنجیل والزبور وغیر ذلک من الکتب القدیمة ، فالوصیة باطلة لأنّها کتب مغیّرة مبدّلة ، قال اللّه تعالی : «یُحَرِّفُونَ الْکَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ»(2) وقال عزّ و جل : «فَوَیْلٌ لِّلَّذِینَ یَکْتُبُونَ الْکِتَابَ بِأَیْدِیهِمْ ثُمَّ یَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللّهِ»(3) ، وهی أیضاً منسوخة ، فلا یجوز نسخها لأنّه معصیة ، والوصیة بها باطلة ... »(4) .

أقول : فألحق الشیخ کتب التوراة والإنجیل وغیرهما من الکتب المنسوخة بالکتب الباطلة والضالّة .

وقال العلامة فی مغانم التذکرة : « الکتب التی لهم : فإن کان الإنتفاع بها حلالاً _ کالطب

ص:8


1- (1) المبسوط 2 / 30 .
2- (2) سورة المائدة / 13 .
3- (3) سورة البقرة / 79 .
4- (4) المبسوط 2 / 63 .

والأدب والحساب والتواریخ - فهی غنیمة ، وإن حرم الإنتفاع بها مثل کتب الکفر والهجو والفحش المحض فلا یترک بحاله ، بل یغسل إن کان علی رَقٍّ أو کاغذٍ ثخینٍ یمکن غسله ، ثمّ هو کسائر الأموال ، فإن للممزَّق قیمة وإن قلَّت . وکذا کتب التوراة والإنجیل ، لأنّها مبدَّلة محرَّفة ، فلا یجوز الإنتفاع بها ، وإنّما تُقرّ فی أیدی أهل الذمة لاعتقادهم کما یُقرّون علی الخمر . والاُولی أنّها لا تُحرق لما فیها من أسماء اللّه تعالی»(1) .

وقال المحقق الثانی : « والظاهر عدم الفرق فی کتب الضلال بین کتب الاُصول والفروع ، لأنّ ابتناء فروعها علی الاُصول الفاسدة ... هذان (التوراة والإنجیل) من کتب الضلال بل من رؤوسها لکونهما محرّفین ... »(2) .

وقال المحقق الأردبیلی : « ولعلّ المراد بها أعمّ من کتب الأدیان المنسوخة والکتب المخالفة للحقِّ اُصولاً وفروعاً ، والأحادیث المعلوم کونها موضوعة ، لا الأحادیث التی رواها الضعفاء لمذهبهم ولفسقهم مع إحتمال الصدور ، فحینئذ یجوز حفظ الصحاح الستة مثلاً _ غیر الموضوع المعلوم _ کالأحادیث التی فی کتبنا مع ضعف رواتها لکونها زیدیّة وفطحیة وواقفیة . فلا ینبغی الإعراض عن الأخبار النبویة التی رواها العامة ، فإنّها لیست إلاّ مثل ما

ذکرناها»(3) .

وقال جدنا الشیخ الأکبر کاشف الغطاء : « وکشف الحال : أنّه لیس الغرض من کتب الضلال ما اشتمل علی الضلال فی الجملة ، وإلاّ لم یمکن الرجوع إلی کتب اللغة والعربیة والتفسیر وغیرها من کتب المقدمات ووجب إتلافها لعدم الخلوّ من ذلک ، ولا ما کان من الکتب مشتملاً علی ما یحتاجه الفقیه فی طُرق الإستدلال للإطلاع علی مذاهب القوم ممّا یتوقّف علیه ترجیح الروایات بعضها من بعض ، ولا ما کان مستنداً إلی أهل الضلال وکان فیه رشاد کالکتب الاُصولیة المشتملة علی الضوابط الشرعیة الموصلة إلی تحصیل معرفة الاستدلال ، فإنَّ ذلک من الواجبات للتوصل إلی معرفة الأحکام الشرعیة .

ص:9


1- (5) تذکرة الفقهاء 9 / 127 .
2- (6) جامع المقاصد 4 / 26 .
3- (1) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 75 .

بل المراد _ واللّه أعلم _ أنّ الکتب التی وضعت للاستدلال علی تقویة الضلال یجب إتلافها فضلاً عن غیره _ من نسخ و غیره _ إلاّ مع قصد الإبطال ونحوه کما ذکرناه ...»(1) .

وقال السید العاملی : « معرفة کتب الضلال فالظاهر من الأصحاب ما کان کلّها ضلالاً ... وهو الذی تقتضیه حقیقة اللفظ من دون تجوّز ، وهو معقد الإجماع ومصبّ الفتاوی کالتوراة والإنجیل ... وککتب القدماء من الحکماء القائلین بقدم العالم وإیجاب الصانع وعدم المعاد ، وکتب عبدة الأصنام ومنکری الصانع ، وأمّا کتب البدع فی هذه الملّة فهی أصناف : منها : کتب الجبر ونفی الغرض المفردة التی لیس معها غیرها ... .

وأمّا ما اشتمل علی ذلک من کتبهم مع کونه مشحوناً بما یوافق العدلیة - ککتب المعتزلة وبعض کتب الأشاعرة وتفاسیرهم واُصول فقههم والصحاح الستّ - فلا حرمة ، فیها کما نصّ علی بعض ذلک صاحب إیضاح النافع والبعض الآخر المولی الأردبیلی ... »(2) .

وقال النراقی : « والمراد بالضلال ما خالف الحقّ واقعاً ، کما یخالف الضروری أو بحسب علم المکلّف خاصة ، وأمّا ما خالفه بحسب ظنّه فلا»(3) .

وصاحب الجواهر بعد نقل کلام اُستاده کاشف الغطاء ، نَقَلَ کلام صاحب مفتاح الکرامة بعنوان بعض مشایخنا وقال فی نقده : « وفیه : ما عرفت من أنّه لیس فی النصوص هذا اللفظ کی یقتصر علی المنساق منها من کونه معدّاً أو کون مجموعه ضلالاً أو نحو ذلک ، وإنّما العمدة ما سمعته من الدلیل الذی لا فرق فیه بین المعدّ وغیره والکلّ والبعض ، والأصلی والفرعی الذی علم کونه ضلالاً ولو للتقصیر فی الإجتهاد ونحوه . ولعلّ ملاحظة الأصحاب کتب فروع العامة وذکرها فی کتبهم ، لأنّ لها مدخلیة فی تمییز الحق باعتبار ما ورد من الأمر بأخذ ما خالفهم وطرح ما وافقهم ، وهو موقوف علی ذلک ، وهو واضح . کما أنّه قد یقال : بخروج غالب کتب المخالفین والملل الفاسدة عن الضلال فی هذه الاُوقات باعتبار ما وقع من جملة من أصحابنا من نقضها وإفسادها ، فهی حینئذ کالتالفة ، فلا یجب حینئذ إتلافها بمعنی

ص:10


1- (2) شرح القواعد 1 / 218 .
2- (3) مفتاح الکرامة 4 / 62 و 63 _ (12 / 208 و 207) .
3- (4) مستند الشیعة 14 / 158 .

إعدامها عن الوجود ، بل لا بأس ببیعها وشرائها والاستیجار علی کتابتها ونحو ذلک ، ضرورة صیرورتها بذلک کالکلام المنقوض فی کتب أهل الحق مثل الشافی وکشف الحق ونحوهما ، إذ من المعلوم أعمیة النقض للأمرین معاً ، فتأمل جیداً .

ولیس من کتب الضلال کتب الأنبیاء السابقین ما لم یکن فیها تحریف ، إذ النسخ لا یصیّرها ضلالاً ، ولذا کان بعضها عند أئمتنا علیهم السلام مثل الزبور ونحوه من أحسن کتب الرشاد ، لأنّها لیست إلاّ المواعظ ونحوها علی حسب ما رأیناها ، واللّه أعلم»(1) .

وقال الشیخ الأعظم قدس سره : « ...فلابدّ من تنقیح هذا العنوان وأنّ المراد بالضلال ما یکون باطلاً فی نفسه ، فالمراد الکتب المشتملة علی المطالب الباطلة ، أو أنّ المراد به مقابل الهدایة ؟ فیحتمل أن یراد بکتبه ما وضع لحصول الضلال ، وأن یراد ما اُوجب الضلال وإن کان مطالبها حقّة ، کبعض کتب العرفاء والحکماء المشتملة علی ظواهر منکرة یدّعون أن المراد غیر ظاهرها ، فهذه أیضاً کتب ضلال علی تقدیر حقیّتها»(2) .

وقال المحقق التقی الشیرازی : « المنصرف من الضلال : هو الضلال عن الدین بالإنکار أو الشک فی أحد المعارف الخمس وما یتبعها ، ویحتمل أن یراد به فی المقام أعمّ من ذلک وممّا یوجب الإقدام علی المعاصی ، کالکتب المصنّفة فی علم السحر والشعبذة والکهانة ونحوها ، ویدلّ علیه عموم بعض الأدلة الآتیة»(3) .

وقال المحقق الإیروانی : « ثمّ المراد من کتب الضلال یُحتمل أن یکون کلّ کتاب وضع علی الکذب والباطل فی الاُصول کان أو فی الفروع ، فی الموضوعات کان أو فی الأحکام ، بل کلّ کتاب لم تکن له غایةٌ عقلائیةٌ ، فیشمل ما وضع لأجل التلهّی به _ مثل کتب القصص

والحکایات وإن کانت صادقةً .

ویُحتمل أن یکون المراد به کل کتاب أوجب الضلالة والخطأ فی الإعتقاد فی الاُصول أو الفروع أو الموضوعات ، وهذا یجتمع مع حقیّة ما تضمّنه ، وإنّما کانت الضلالة لقصور الناظر

ص:11


1- (1) الجواهر 22 / 59 و 60 .
2- (2) المکاسب المحرمة / 30 _ (1 / 235) .
3- (3) حاشیة المکاسب 1 / 71 .

فیه ، کما ضلّ کثیرون من مطالعة الکتاب العزیز والأحادیث الشریفة . ویُحتمل أن یکون المراد به کلّ کتاب وضع لغرض الإضلال ولغایة إغواء العوام»(1) .

وقال المحقق الخوئی : « ثمّ إنّ المراد بکتب الضلال کلّ ما وضع لغرض الإضلال وإغواء الناس وأوجب الضلالة والغوایة فی الإعتقادات أو الفروع ، فیشمل کتب الفحش والهجو والسّخریة وکتب القصص والحکایات والجرائد المشتملة علی الضلالة وبعض کتب الحکمة والعرفان والسحر والکهانة ونحوها ممّا یوجب الإضلال»(2) .

وقال المحقق الأردکانی فی بیان المراد من کتب الضلال : « ففیه ثلاث احتمالات :

الأوّل : أن یکون المراد بها کلّ کتاب مشتمل علی الأکاذیب والمطالب الباطلة من الاُصول والفروع و الموضوعات ، فتدخل فیها الکتب المشتملة علی الحکایات الکاذبة والقصص المجعولة .

الثانی : أن یکون المراد بها کلّ کتابٍ من شأنه الإضلال کان فی الاُصول والفروع أو الموضوعات ، ویدخل فیه بعض مصنفات بعض العرفاء کمحی الدین لإشتماله علی المطالب المنکرة ، وإن ادعی عدم إرادة ظواهرها .

الثالث : أن یُراد بها ما وضع لغرض الإضلال وإغواء العوام ، کالکتب المؤلفة فی الجبر وإثبات المذاهب الفاسدة .

والذی یقوی فی النظر هو المعنی الثانی ، فإنّ غایة ما یُستفاد من الأدلة حرمة حفظ کتب الضلال بهذا المعنی ، فلا یدخل فیها بعض کتب الأشعار المتضمن للأوهام والخیالات والکتب المشتملة علی الاُمور المجعولة من القصص والحکایات ، خصوصاً إذا کان الغرض من تألیفها النصیحة والمطالب الأدبیة .

والعجب من الشیخ قدس سره أنّه اقتصر علی ذکره الوجوه المحتملة للضلال ولم یرجح واحداً منها ، مع أنّه قال : « لابدّ من تنقیح هذا العنوان»(3) .

ص:12


1- (1) حاشیة المکاسب 1 / 151 .
2- (2) مصباح الفقاهة 1 / 254 .
3- (3) غنیة الطالب 1 / 122 .

وقال بعض أساتیذنا _ مدظله _ فی تعلیقه علی کلام الشیخ الأعظم قدس سره فی معنی الضلال : « احتمل المصنف _ کما تری _ فی معنی الضلال ثلاثة إحتمالات ، ولعلّ أظهرها هو الإحتمال الثالث ، ولکن لا بمعنی إیجابه الضلال ولو لفرد ما إحیاناً ولجهله وسذاجته ، وإلاّ لزم کون جمیع الکتب حتّی مثل القرآن الکریم وکتب الحدیث کتب ضلال ، بل بمعنی إیجابه الضلال لکثیر ممّن یراجعه من المتوسطین خالی الذهن ، لاشتماله علی مطالب باطلة مشابهة للحقِّ مِنْ دون نفعٍ فی وجوده»(1) .

أقول : الظاهر - واللّه العالم - أنّ المراد بکتب الضلال کلُّ ما صُنف أو کُتب لإضلال الناس وإغوائهم وتوجب الضلالة فی الاُصول أو الفروع ، فیشمل أکثر المعانی المذکورة فی کلمات القوم نحو ، کتب القصص والحکایات والجرائد والمجلات التی توجب الفساد والفحشاء فی المجتمع بین آحاده لاسیّما شبابه ، وکتب الهجو والسخریّة والفحش والکذب بالنسبة إلی خدّام المجتمع الإنسانی لاسیما بالنسبة إلی علماء الدین ورجاله ، وبعض کُتب التصوف والعرفان ونحو ذلک .

وأمّا الکُتب السماویة المحرّفة المنسوخة - نحو التوراة والإنجیل وغیرهما - فقد ألحقها الشیخ الطوسی والعلاّمة الحلی وغیرهما من الأصحاب قدس سرهم بکتب الضلال .

والإلحاق جیّدٌ ومتینٌ ، کما مرّت کلماتهم فی مطاوی ما ذکرناه(2) . ووجود مثل کتاب الزبور الواقعی عند أئمتنا علیهم السلام وأنّ کلّها مواعظ کما ذکره صاحب الجواهر(3) لا ینافی ما ذکرناه ، لأنّا قیّدنا الکتب السماویة بأمرین : 1 _ المحرّفة 2 _ المنسوخة . و من الواضح أن الموجود عندهم علیهم السلام غیر المحرّفة .

وأمّا تصانیف المخالفین فی العلوم الإسلامیة لا سیّما فی الحدیث والتفسیر والفقه واُصوله واللغة والأدب والتاریخ والأخلاق وغیرها ، فلم تکن من مصادیق کتب الضلال إلاّ ما اُلف لإثبات موضوع خاص ، نحو : إثبات تفضیل الخلفاء أو فضائلهم أو الجبر أو غیرها من

ص:13


1- (1) دراسات فی المکاسب المحرمة 3 / 99 .
2- (2) مضافاً إلی ما ذکرناه فراجع إلی تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 260 للعلامة الحلی .
3- (3) الجواهر 22 / 60 .

العقائد الباطلة أو فروعها .

ولذا قال جدنا الفقیه الشیخ جعفر : « وأمّا ما کان من کتب أهل الضلال ممّا وضع لمعرفة کیفیة الاستدلال أو الاهتداء إلی معرفة معانی الکتاب والسنة والکتب المنسوخة مع

قصد الإطلاع علی المواعظ کالزبور ونحوه من کتب الأنبیاء أو علی التواریخ والسیر والاُمور السالفة فلا بأس به وربّما وجب»(1) .

والعجب من العلامة الفقیه السید مهدی بحر العلوم الطباطبائی المتوفی عام 1212 قدس سره کیف لم یستقر رأیه فی تحریر موضوع کتب الضلال وحفظها ، فأن تلمیذه السید جواد العاملی قدس سره نقل عنه فی کتابه وقال : « وکان الاُستاذ الشریف قدس اللّه روحه وحشره مع آبائه الطاهرین صلوات اللّه علیهم أجمعین منذ سبعة عشر سنة تقریباً یوم قراءتنا هذه المسألة عنده مستشکلاً فی تحریر الموضوع وخرجنا من عنده ولم یستقر رأیه المبارک علی شیءٍ»(2) .

ویؤید أنّ المراد بالاُستاذ فی کلام صاحب المفتاح هو بحر العلوم ما ذکره حفیده الفقیه السید علی آل بحر العلوم قدس سره فی کتابه برهان الفقه قال : « إنّما الکلام فی تعیین موضوع الحرمة من حیث المراد بکتاب الضلال کمّاً وکیفاً ومن حیث المراد بحفظها ونسخها ، واختلفت کلماتهم فی ذلک علی وجه حکی فی مفتاح الکرامة عن اُستاده جدی العلامة أنّه لم یستقر رأیه علی شیء فی تشخیصه عند قراءته علیه ... »(3) .

وأعجب منه کلام صاحب الحدائق قدس سره حیث تعرض لمشایخ الطائفة وأساطینها وحکم بکون کتب اُصول الفقه من مصادیق کتب الضلال ، وقال فیه ما قال ، ولا یمکننی کتابة مقالته لما فیه من ... فراجعها إن شئت(4) .

وأجابه السید العاملی وعدّ کلامه من الضلال المحض الذی یجب إتلافه فراجع مفتاح

ص:14


1- (1) شرح القواعد 1 / 218 .
2- (2) مفتاح الکرامة 4 / 63 _ (12 / 209) .
3- (3) برهان الفقه _ کتاب التجارة / 25 .
4- (4) الحدائق 18 / 144 و 145 .

الکرامة إن شئت(1) .

ولنعم ما قال العلاّمة الجد کاشف الغطاء فی آخر هذا المبحث : « ... فلیتأمل فی هذا المقام ، فإنّه من مزالّ الأقدام ، وقد زلّت به قدم بعضُ الأعلام حتّی تسرّی إلی القدح فی أعیان الأعیان ، الذین مَنْ قَدَح فیهم فقد قدح فی الإسلام والإیمان»(2) .

وهکذا تبعه تلمیذه فی الجواهر وقال : « وکیف ما کان فمن الغریب بعد ذلک ما وقع للمحدث البحرانی من إنکار أصل الحکم لعدم نص بالخصوص علی ذلک ، حتّی أنّه ربما أساء

الأدب مع الأصحاب الذین هم حفّاظ السنة والکتاب ، نسأل اللّه العفو عنّا وعنه»(3) .

أقول : قد ذکرت _ ولا نقلت _ هذه المناظرات لتعلّم آداب صیانة القلم وحفظ أدب البحث لنفسی _ لا لغیری _ غفر اللّه لی ولجمیع الأصحاب ولصاحب الحدائق قدس سرهم جمیع العثرات والزلاّت والآثام وهو العفو الغفور .

الاستدلال علی حرمة الحفظ بوجوه

اشارة

قد استدلوا علی حرمة الحفظ بوجوه :

الأوّل : الإجماع

ادعی العلامة الحلی قدس سره فی مسألتنا هذه « عدم الخلاف» فی کتابیه المنتهی(4) وتذکرة الفقهاء(5) ، واستفاد منه المحقق الأردبیلی فی مجمع الفائدة والبرهان الإجماع وقال : « وقد یکون إجماعیّاً أیضاً یفهم من المنتهی»(6) .

ص:15


1- (5) مفتاح الکرامة 4 / 63 _ (12 / 209) .
2- (6) شرح القواعد 1 / 219 .
3- (1) الجواهر 22 / 57 .
4- (2) منتهی المطلب 2 / 1013 کتاب التجارة .
5- (3) تذکرة الفقهاء 12 / 144 مسألة 649 .
6- (4) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 75 .

وتبعه فی هذا الفهم صاحب الحدائق وقال : « بل ظاهر المنتهی أنّه إجماع»(1) .

وقال جدنا الشیخ جعفر : « ولنفی الخلاف عنه ممّن لا خلاف فی الإعتماد علیه»(2) .

وقال السید الطباطبائی : « مضافاً إلی عدم الخلاف فیها ، بل وعلیه الإجماع عن ظاهر المنتهی»(3) .

وقال النراقی : « علی المعروف من مذهب الإصحاب ، بل بلا خلاف بینهم کما فی المنتهی»(4) .

وقال صاحب الجواهر : « کما صرح به غیر واحد ، بل عن التذکرة والمنتهی نفی الخلاف عنه»(5) .

وقال تلمیذه : « فالظاهر الإجماع علی حرمته مجملاً وهو الحجة»(6) .

وقال الشیخ الأعظم : « ... فلا دلیل علی الحرمة إلاّ أن یثبت إجماع أو یلتزم بإطلاق عنوان معقد نفی الخلاف الذی لا یقصر عن نقل الإجماع»(7) .

یعنی استفاد قدس سره أیضاً من نفی الخلاف ، الاجماع تبعاً للأردبیلی وصاحبی الحدائق والریاض .

واعترض الفقیه الیزدی علی الشیخ الأعظم وعلّق علی کلامه : « نفی الخلاف الذی لا یقصر عن نقل الإجماع» وقال : « یعنی فی خصوص المقام من جهة الضمائم الخارجیة ، وإلاّ فهو فی حدّ نفسه قاصر عنه کما لا یخفی»(8) .

ص:16


1- (5) الحدائق 18 / 141 .
2- (6) شرح القواعد 1 / 217 .
3- (7) ریاض المسائل 8 / 165 .
4- (8) مستند الشیعة 14 / 157 .
5- (9) الجواهر 22 / 56 .
6- (10) برهان الفقه _ کتاب التجارة / 25 .
7- (1) المکاسب المحرمة / 30 _ (1 / 234) .
8- (2) حاشیة المکاسب 1 / 129 .

ویردّ علی الإجماع : أولاً : تحصیل الإجماع ممنوع لوجود المخالف وهو صاحب الحدائق ، قال : « وعندی فی الحکم من أصله توقف لعدم النص ، والتحریم والوجوب ونحوهما أحکام شرعیة یتوقف القول بها علی دلیل شرعی ، ومجرد هذه التعلیلات الشائعة فی کلامهم لا تصلح عندی لتأسیس الأحکام الشرعیة»(1) .

ولکن یمکن أن یجاب عن هذا الإشکال : بأنّ مخالفة المحدث البحرانی قدس سره لا یضرّ بالإجماع علی فرض وجوده ، لأنّ وجه مخالفته واضح علی مسلکه وصرّح به أیضاً فی کلامه « لعدم وجود النص» کما مرّ منه ، ومثل هذه المخالفة لا یضرّ بالإجماع التعبدی علی فرض وجوده کما علیه أساطین الفقه .

وثانیاً : لا یُستفاد من عدم الخلاف الذی ادعاه العلامة ، الإجماع خلافاً للأردبیلی وصاحبی الحدائق والریاض والشیخ الأعظم ، وحتّی فی المقام خلافاً للسید الیزدی فی حاشیة المکاسب ، لأنّ نفی الخلاف یتحقق حتّی مع وجود جماعة قلیلة تعرضوا لحکم المسألة ولکن الإجماع لم یتحقق بذلک ، فبینهما فرق ، ونفی الخلاف أقل من الإجماع بکثیر فی المقام وغیره .

ولذا قال شیخنا الاُستاذ _ مدظله _ : « ما ذکره من دعوی الإجماع واستفادته من نفی الخلاف غیر صحیح ، فإن الإجماع لا یحرز إلاّ فی مسألة تعرض لحکمها معظم الفقهاء أو جمیعهم مع اتفاقهم علی ذلک الحکم ، ونفی الخلاف یکفی فیه اتفاق جماعة قلیلة تعرضوا للمسألة ، فکیف تکون دعوی نفی الخلاف کاشفة عن الإجماع ... »(2) .

وقال بعض أساتیذنا _ مدظله _ فی تعلیقه علی الکلام الذی مرّ من الشیخ الأعظم : « عدم قصور نفی الخلاف عن الإجماع المصطلح ممنوع ، إذ یمکن عدم عنوان المسألة إلاّ من قبل جمع قلیل لا یکشف اتفاقهم وعدم خلافهم عن تلقی المسألة عن المعصومین علیهم السلام »(3) .

وثالثاً : علی فرض وجود الإجماع حتّی المحصَّل منه فی المقام لا یفید شیئاً ، لأنّه من

ص:17


1- (3) الحدائق 18 / 141 .
2- (4) إرشاد الطالب 1 / 142 .
3- (1) دراسات فی المکاسب المحرمة 3 / 99 .

المحتمل جداً أن یکون مدرکیّاً کما اعترف بذلک المحققون نحو : السید الخوئی قدس سره (1) والاُستاذان(2) _ مدظلهما _ .

الثانی : حکم العقل

بتقریب : أن العقل حاکم بوجوب قلع وحسم مادة الفساد ، ولا فساد أکبر من الضلالة .

واعترض علیه المحقق الإیروانی بقوله : « العقل لو حکم بذلک لحکم بوجوب قتل الکافر ، بل مطلق مَنْ یضلّ عن سبیل اللّه بعین ذلک الملاک ولحکم أیضاً بوجوب حفظ مال الغیر عن التلف ، لکن حکمه بذلک ممنوع والمتیقّن من حکمه هو حکمه بقبح إلقاء الفساد ، ومصداقه فیما نحن فیه تألیف کتب الضلال ، لا حفظ المؤلَّف منها ، أو عدم التعرّض لإتلافها ، أو إثبات الید علیها»(3) .

أقول : الإعتراض غیر وارد ، لأنّ بعد قبول حکم العقل بقبح إلقاءِ الفساد ، فمن الفساد إلقاء الضلالة والغوایة ، ومن مصادیق إلقاء الضلالة تألیف کتب الضلال لأجل انحراف الناس عن دین اللّه تعالی . وبعد قبول کلّ ذلک فلا فرق بین تألیف کتب الضلال وطبعها ونشرها وبیعها وحفظها عن التلف ، لأنّ کل ذلک یوجب إلقاء الضلالة والغوایة والعقل حاکم بقبح إلقاء الفساد وقلع مادته .

وأمّا نقضه قدس سره : بوجوب قتل الکافر بل مطلق مَن یضلّ عن سبیل اللّه أیضاً فغیر تام ، لأنّ وجود الکافر ومطلق من یضل عن سبیل اللّه لا یوجب ضلالة الآخرین بل هو بنفسه ضالّ . نعم لو کان مضِلاّ یوجب ضلالة الآخرین مع أقواله وأعماله وکتاباته وکلّ ما صدر

عنه ، صار مصداقاً لما یوجب الضلالة ویجری علیه حکمه . فما ذکره المحقق الإیروانی رداً للإستدلال غیر تام .

نعم ، یرد علی هذا الاستدلال ما ذکره المحقق الخوئی من قوله : « إنّ مدرک حکمه (أی

ص:18


1- (2) مصباح الفقاهة 1 / 257 .
2- (3) إرشاد الطالب 1 / 142 ودراسات فی المکاسب المحرمة 3 / 91 .
3- (4) حاشیة المکاسب 1 / 152 .

حکم العقل) إن کان هو حسن العدل وقبح الظلم _ بدعوی أن قلع مادة الفساد حسن وحفظها ظلم وهتک للشارع _ فیرد علیه : أنّه لا دلیل علی وجوب دفع الظلم فی جمیع الموارد ، وإلاّ لوجب علی اللّه وعلی الأنبیاء والاُوصیاء الممانعة عن الظلم تکویناً ، مع أنّه تعالی هو الذی أقدر الإنسان علی فعل الخیر والشر وهداه السبیل إمّا شاکراً وإمّا کفوراً .

وإن کان مدرک حکمه وجوب الإطاعة وحرمة المعصیة لأمره تعالی بقلع مادة الفساد فلا دلیل علی ذلک إلاّ فی موارد خاصة ، کما فی کسر الأصنام والصلبان وسائر هیاکل العبادة ... .

نعم ، إذا کان الفساد موجباً لوهن الحقِّ وسدّ بابه وإحیاء الباطل وتشیید کلمته وجب دفعه لأهمّیّة حفظ الشریعة المقدسة ، ولکنّه أیضاً وجوب شرعی فی مورد خاص ، فلا یرتبط بحکم العقل بقلع مادة الفساد»(1) .

وتبعه تلمیذه وقال : « حکم العقل غیر مسلَّم وإلاّ لاستقل العقل بإزالة کلِّ ما فیه أو منه الفساد ، کالهجوم علی أهل الکفر والشرک ومحو شوکتهم ومعابدهم وکتبهم ، فإنّهم وما معهم منشأ الفساد علی الأرض ، ولا استقلال للعقل بذلک ، ووجوب الجهاد حکم شرعی تعبدی لا لحکم العقل بلزوم قهر الناس علی الإیمان مع أنّ الدنیا دار إمتحان یکون فیها الخیار بین الهدی والضلال والکفر والإیمان»(2) .

الثالث : قوله تعالی : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ

الثالث : قوله تعالی : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ اللَّهِ بِغَیْرِ عِلْمٍ وَیَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِکَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِینٌ»(3) .

قال الشیخ الطوسی فی تفسیر الآیة الشریفة : « قیل فی معناه قولان :

أحدهما : أنّه یشتری کتاباً فیه لهو الحدیث .

الثانی : أنه یشتری لهو الحدیث عن الحدیث .

واللهو : الأخذ فی ما یصرف الهمّ من غیر الحقِّ ... والحدیث : الخبر عن حوادث

ص:19


1- (1) مصباح الفقاهة 1 / 254 و 255 .
2- (2) إرشاد الطالب 1 / 140 .
3- (3) سورة لقمان / 6 .

الزمان . ... وقیل : کلّما کان من الحدیث ملهیاً عن سبیل اللّه الذی اُمر باتباعه إلی ما نهی عنه فهو لهو الحدیث .

وقیل : الآیة نزلت فی النضر بن الحارث بن کلدة ، کان اشتری کتباً فیها أحادیث الفرس من حدیث رستم واسفندیار ، فکان یلهیهم بذلک ویطرف به ، لیصدّ عن سماع القرآن وتدبّر ما فیه .

وقوله : «لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ اللَّهِ» أی لیتشاغل بما یلهیه عن سبیل اللّه ... .

وقوله : «وَیَتَّخِذَهَا هُزُواً» أی یتخذ سبیل اللّه سخریة ، فلا یتبعها ویشغل غیره عن اتباعها ... »(1) .

وفی المطبوع من تفسیر القمی : « فی روایة أبی الجارود عن أبی جعفر علیه السلام فی قوله : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ اللَّهِ بِغَیْرِ عِلْمٍ»: فهو النَّضْر بن الحارث بن عَلْقَمَة بن کَلَدَة من بنی عبد الدار بن قصّی ، وکان النضر راویاً لأحادیث الناس وأشعارهم ، یقول اللّه عزّ وجل : «وَإِذَا تُتْلَی عَلَیْهِ آیَاتُنَا وَلَّی مُسْتَکْبِراً کَأَن لَّمْ یَسْمَعْهَا کَأَنَّ فِی أُذُنَیْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِیمٍ»(2)»(3) .

وقال الطبرسی : « نزل قوله «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ» فی النضر ابن الحرث بن علقمة بن کلدة بن عبد الدار بن قصی بن کلاب ، کان یتّجر فیخرج إلی فارس فیشتری أخبار الأعاجم ویحدّث بها قریشاً ویقول لهم : إنّ محمداً یحدّثکم بحدیث عاد وثمود وأنا اُحدّثکم بحدیث رستم وإسفندیار وأخبار الأکاسرة ، فیستعمون حدیثه ویترکون استماع القرآن ، ... وروی أیضاً عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : هو الطعن فی الحقِّ والإستهزاء به وما کان أبو جهل وأصحابه یجیئون به ، إذ قال : یا معشر قریش ألا اُطعمکم من الزقوم الذی یخوّفکم به صاحبکم ، ثمّ أرسل إلی زبد وتمر فقال : هذا هو الزقوم الذی یخوّفکم به ، ... فعلی هذا یدخل فیه کلّ شیءٍ یلهی عن سبیل اللّه وعن طاعته من الأباطیل والمزامیر والملاهی

ص:20


1- (1) التبیان 8 / 271 و 272 .
2- (2) سورة لقمان / 7 .
3- (3) تفسیر القمی 2 / 161 .

والمعازف ویدخل فیه السخریة بالقرآن واللغو فیه کما قاله أبو مسلم ، والتُرَّهات والبَسابِس(1) علی ما قاله عطا ، وکلّ لهو ولعب علی ما قاله قتادة ، والأحادیث الکاذبة

والأساطیر الملهیة عن القرآن علی ما قاله الکلبی ... »(2) .

هذا ما ذکره أعلام التفسیر فی ذیل الآیة الشریفة وأمّا تقریب الاستدلال بها :

أستفیدت من الآیة الشریفة : حرمة کلّ ما یقع فی طریق الإضلال ، ومنه حفظ کتب الضلال .

وقال المحقق الأردکانی فی تقریب الاستدلال بها : « إنّ الآیة وإن کانت ظاهرة فی ترتب الضلالة فی الفروع علی اشتراء اللهو وهی الإعراض عن طاعة اللّه عزّ وجل والإقدام علی المعاصی البدنیة الناشئة من تهییج القوی الشهویة الحاصل من الملهیات ، والمدعی أعم منها ومن الضلالة فی الاُصول ، إلاّ أنّه یتمّ المدعی بالأولویة القطعیة وعدم القول بالفصل . ویمکن أن یقال : إن العبرة بإطلاق العلة وقضیته مبغوضیّة کلّما یوجب الضلالة کان فی الاُصول أو فی الفروع ، ومن مصادیقه کتب الضلال ، فالعلّة هنا معمِّمة ولا اعتبار بخصوصیة المورد ، ویلزم من مبغوضیة وجود ما یوجب الضلالة وجوب إتلافه»(3) .

وفیه : أن ما ذکره هذا المحقق الجلیل قدس سره من ادعاء ظهور الآیة الشریفة فی ترتب الضلالة فی الفروع ثم عمّم الحکم فی الاُصول بالأولویة القطعیة وعدم القول بالفصل ، غیر تام لأنّ ظهور الآیة الشریفة مع مراجعة شأن نزولها إمّا ظاهر بترتب الضلالة فی الاُصول فقط أو الأعم من الاُصول والفروع ، والثانی یؤیَّد بمراجعة الروایات الواردة فی ذیل الآیة الشریفة المفسرة بالغناء .

فلا نحتاج إلی ظهور الآیة الشریفة فی ترتب الضلالة فی الاُصول إلی ما ذکره قدس سره من الأولویة القطعیة وعدم القول بالفصل وإن کان کلاهما موجودین . نعنی اننا نستشکل علیه ادعاء ظهوره ، وعلیه لا ندری کیف یردّ بیانه . هذا ما ذکره المحقق الإیروانی من الإشکال

ص:21


1- (4) الترهات البسابس : الأباطیل والکذب .
2- (1) مجمع البیان 7 / 313 .
3- (2) غنیة الطالب 1 / 123 .

الآتی ؟ !

ثم یردّ علی الاستدلال بالآیة الشریفة :

أولاً : قال الإیروانی : « الظاهر أنّ المراد بالإشتراء هو التعاطی ، وهو کنایة عن التحدث ، به وهذا داخل فی إلاضلال عن سبیل اللّه بسبب التحدّث بلهو الحدیث ، ولا إشکال فی حرمة الإضلال ، وذلک غیر ما نحن فیه من إعدام ما یوجب الإضلال»(1) .

وثانیاً : قال الخوئی : « ... إذا سلمنا ذلک فالمستفاد من الآیة حرمة اشتراء کتب الضلال ، ولا دلالة فیها علی حرمة إبقائها وحفظها بعد الشراء ، کما أن التصویر حرام وأمّا اقتناؤه فلیس بحرام ، والزنا حرام وتربیة أولاد الزنا لیس بحرام ... »(2) .

وثالثاً : ما ذکره شیخنا الأستاذ _ مدظله _ : « علی تقدیر کون المراد بالإشتراء ما یعم مطلق الأخذ والإقتناء ، فلا تکون فی الآیة دلالة علی الحرمة فیما إذا لم یکن غرضه إضلال الناس ومیلهم عن الهدایة ، کما إذا جعل الکتاب المزبور فی مکتبته حتّی یکون فیها من کلّ باب کتاب»(3) .

الرابع : قوله تعالی : «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاْءَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ»

(4) .

بتقریب : أن الشیخ الطوسی قال فی تفسیر الآیة : « یعنی الکذب ، وروی أصحابنا أنّه یدخل فیه الغناء وسائر الأقوال الملهیة بغیر حق»(5) .

الآیة الشریفة أمرت باجتناب قول الزور ، والمراد به الکذب والباطل ، والعرف لا یری فرقاً بین الکذب والباطل وقول الزور إذا کان مقولاً بالقول أو مکتوباً بالقلم ، وحکمت بأنّ کلاهما قول الزور ویجب الاجتناب عنه . فتدخل کتب الضلال فی قول الزور الذی اُمرنا بالاجتناب عنه .

ص:22


1- (3) حاشیة المکاسب 1 / 152 .
2- (1) مصباح الفقاهة 1 / 255 .
3- (2) إرشاد الطالب 1 / 140 .
4- (3) سورة الحج / 30 .
5- (4) التبیان 7 / 313 .

ولذا قال صاحب الجواهر : « بل قد یُستفاد حرمته أیضاً ممّا دل علی وجوب اجتناب قول الزور ولهو الحدیث والکذب والافتراء علی اللّه ... »(1) .

وقال الشیخ الأعظم فی الاستدلال علی حرمة حفظ کتب الضلال : « ... والأمر بالاجتناب عن قول الزور ... »(2) .

وقال المحقق التقی الشیرازی : « وحاصله : أنّ المستفاد من أمثال تلک العبارات الاجتناب عن مطلق ما یدلّ علی الباطل قولاً کان أو کتابة ، وکذا حجیة کلّ صادر من العادل ممّا یحکی عن الواقع قولاً کان أو فعلاً»(3) .

وقال السید الیزدی : « ... یمکن دعوی شمول الآیة وعمومها ، فإنّ مقتضی إطلاق الاجتناب عن قول الزور الاجتناب عنه بجمیع الأنحاء ، الذی منها ما نحن فیه ، فتأمل»(4) .

وفیه : أنه یُستفاد من الآیة الشریفة الاجتناب من قول الزور ، یعنی عدم إیجاد الکذب والإفتراء والباطل بالقول والتکلّم والحدیث ، وغایة الأمر أن تدخل الکتابة بهذه الاُمور تحت الآیة الشریفة ، ومع ذلک لا تدلّ علی لزوم إتلاف القول أو التکلّم والکتابة إذا کان لهما البقاء ، نحو ضبطهما فی الأشرطة والکتاب .

وبالجملة ، حرمة الإیجاد لا تدلّ علی وجوب الإتلاف إذا کان للشیءٍ بقاءٌ ، کما أنّ حرمة إیجاد التصویر لا تدلّ علی لزوم فناء الصورة وحرمة اقتنائها .

والحاصل : وجوب إتلاف کتب الضلال لم یُستفد من الآیة الشریفة .

الخامس : روایة تحف العقول

فقرات من روایة تحف العقول تدلّ علی حرمة حفظ کتب الضلال :

منها : قوله علیه السلام : « ... فهذا کلّه حرام ومحرَّم لأن ذلک کلّه منهی عن ... والتقلب فیه بوجهٍ من الوجوه لما فیه من الفساد فجمیع تقلّبه فی ذلک حرام ، وکذلک بیع ملهوٍّ به وکل منهیٍّ

ص:23


1- (5) الجواهر 22 / 56 .
2- (6) المکاسب المحرمة / 29 _ (1 / 233) .
3- (7) حاشیة المکاسب 1 / 72 .
4- (1) حاشیة المکاسب 1 / 128 .

عنه ممّا یتقرَّب به لغیر اللّه ، أو یقوی به باب من أبواب الضلالة أو باب من أبواب الباطل أو باب یوهن به الحقّ فهو حرام محرّم ، حرام بیعه وشراؤُهُ وإمساکه ومِلْکُهُ وهبته وعاریته وجمیع التقلب فیه ، إلاّ فی حال تدعو الضرورة فیه إلی ذلک»(1) .

ومنها : قوله علیه السلام : « إنّما حرم اللّه الصناعة التی حرام هی کلّها التی یجیءُ منها الفساد محضاً ، نظیر البرابط والمزامیر والشطرنج وکلّ ملهوٍّ به والصلبان والأصنام وما أشبه ذلک ... »(2) .

بتقریب : أن من الواضح أن کتب الضلال ممّا یقوی به الضلالة و ممّا یتقرَّب به لغیر اللّه ومن أبواب الباطل وممّا یوجب وهن الحقّ ، فهو حرام محرَّم جمیع التقلب فیه ، ومن التقلب فیه حفظها وعدم إتلافها وإمساکها .

وهکذا لا یترتب علی کتب الضلال إلاّ الضلالة والفساد ، ولا یجیئ منها إلاّ الفساد محضاً « فحرام تعلیمه وتعلّمه والعمل به وأخذ الأجرة علیه وجمیع التقلب فیه من جمیع وجوه

الحرکات کلّها»(3) ، فحفظ کتب الضلال وعدم إتلافها حرامٌ .

وفیه : أولاً : قد مرّ منّا فی أوّل الکتاب إرسال الروایة واضطرابها ، بل عدم ثبوت کونها روایة .

وثانیاً : حرمة الصناعة لا تلازم وجوب إتلاف المصنوع ، کما فی حرمة التصویر وجواز إبقائها .

وثالثاً : بین حفظ کتب الضلال وتقویة الکفر وإهانة الحقّ عموم من وجه ، إذ قد لا یترتب علیه تقویة الکفر وإهانة الحقّ کما هو واضح .

ورابعاً : الحفظ لا یصدق علیه عنوان التقلّب ، لاسیما إذا کان غرض الحافظ عدم وقوع کتب الضلال فی أیدی الناس حتّی توجب ضلالتهم .

وخامساً : « لا تعمّ الروایة ما إذا کانت فی استنساخ کتب الضلال واقتنائها مصلحة

ص:24


1- (2) تحف العقول / 333 .
2- (3) تحف العقول / 335 .
3- (1) اقتباس من روایة تحف العقول / 336 .

مباحة غیر نادرة» کما ذکره شیخنا الأستاذ _ مدظله _(1) .

وأمّا إشکال المحقق الإیروانی قدس سره علی الاستدلال بالروایة بأنّ موردها هی الصنعة(2) غیر تام .

لأنّ مورد الفقرة المذکورة الثانیة هی الصناعة ، وأمّا مورد الفقرة الأولی فلیست بالصناعة ، بل موردها التجارات بالمعنی الأعم .

السادس : حسنة أو صحیحة عبد الملک بن أعین

صحیحة عبد الملک بن أعین الماضیة فی بحث النجوم ، قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : إنّی قد ابتلیت بهذا العلم فاُرید الحاجة ، فإذا نظرتُ إلی الطالع ورأیتُ الطالع الشر جلستُ ولم أذهب فیها ، وإذا رأیت الطالع الخیر ذهبت فی الحاجة ، فقال لی : تقضی ؟ قلت : نعم ، قال : أحرق کتبک(3) .

بتقریب : أن أمر الإمام علیه السلام بإحراق کتبه فی علم النجوم مع القضاء علی طبقها ، وکتب الضلال لا تقلّ من کتب النجوم إفساداً ، فإذا وجب إحراق کتب النجوم وإتلافها ، یجری الحکم فی کتب الضلال بطریق أولی ، فوجب إتلافها وحرم حفظها .

وفیه : أولاً : لم یأمر الإمام علیه السلام بإحراق کتب النجوم مطلقاً ، بل استفسر من عبد الملک أنّه یقضی ؟ فقال : نعم ، ثم أمر الإمام علیه السلام بالإحراق ، وقد سبق فی بحث النجوم فی ذیل الروایة أنّ أمر معاش عبد الملک إختل بجهة هذه الکتب والإعتماد علیها ، ولذا أمر علیه السلام بالإحراق لأجل نجاته من هذا الإختلال . فالروایة لاتدلّ علی لزوم إحراق مطلق کتب النجوم حتّی یتعدی المستدِل منها إلی کتب الضلال .

وثانیاً : لو سلمنا وذهبنا إلی التعدی من کتب النجوم إلی کتب الضلال وقلنا أنّ کتب النجوم من إحدی مصادیق کتب الضلال ، مع ذلک لا یمکن القول بوجوب إتلاف کتب الضلال مطلقاً وحرمة حفظها کذلک ، لأنّ الإمام علیه السلام فصّل بین القضاء وعدمه ، والتفصیل قاطع

ص:25


1- (2) إرشاد الطالب 1 / 141 .
2- (3) حاشیة المکاسب 1 / 153 .
3- (4) الفقیه 2 / 267 ح 2402 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 11 / 370 ح 1 .

للشرکة ، وهو جواز الحفظ مع عدم الحکم .

السابع : صحیحة أبی عبیدة الحذَّاء

نقل الکلینی عن علی بن إبراهیم عن أحمد بن محمد البرقی عن محمد بن عبد الحمید عن العلاء بن رزین عن أبی عبیدة الحذّاء عن أبی جعفر علیه السلام قال : من علّم باب هدی فله مثل أجر من عمل به ولا ینقص أولئک من اُجورهم شیئاً ، ومن علّم باب ضلال کان علیه مثل أوزار مَنْ عمل به ولا ینقص أولئک من أوزارهم شیئاً(1) .

بتقریب : أن سند الروایة کما تری صحیح ، وهی تدلّ علی حرمة تعلیم وتعلّم الضلال ، ولم یحرم هذا التعلیم والتعلّم إلاّ من جهة أنّهما یوجبان الضلال ، فکلّ أمر یوجب الضلال فهو حرام ، ومنها حفظ کتب الضلال ، فصار حراماً .

وقد استدل علی الحرمة بهذه الروایة الفاضل النراقی فی المستند(2) من دون البحث فی السند سندها وتقریب الاستدلال .

وفیه : الصحیحة دالة علی حرمة تعلیم وتعلّم الضلال وعلی المعلّم أوزار المتعلّمین من دون نقص من أوزارهم ، ولکن لا تدلّ علی وجوب إتلاف کلّ شیءٍ یوجب الضلال ، وإلاّ لزم القول بوجوب إتلاف معلّم الضلال أیضاً ولم یقل به أحد . فالصحیحة لا تدلّ علی حرمة حفظ کتب الضلال .

الثامن : حرمة الإعانة علی الإثم

الضلال وما یوجبه إثمٌ وحفظ کتب الضلال حیث یوجب الضلالة نوع إعانة علی

الإثم ، وحرمة الإعانة علی الإثم واضح ، فحفظ کتب الضلال بما أنّه إعانة علی الإثم حرام . ذهب إلی هذا الاستدلال السید العاملی وقال : « ... إن فی ذلک نوع إعانة علی الإثم ... »(3) .

وفیه : أولاً : قد مر منّا عدم حرمة کلّ إعانة علی الإثم ، وما هو الحرام لیس إلاّ التعاون علی الإثم .

ص:26


1- (1) الکافی 1 / 35 ح 4 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 16 / 173 ح 2 _ الباب 16 من أبواب الأمر والنهی .
2- (2) مستند الشیعة 14 / 157 .
3- (1) مفتاح الکرامة 4 / 62 _ (12 / 207) .

وثانیاً : لو سلّمنا حرمة الإعانة علی الإثم ، الدلیل أخص من المدعی ، لأنّ حفظها لا یلازم الضلال دائماً کما هو واضح ، فبهذه القاعدة لا یمکننا الحکم بحرمة الحفظ مطلقاً ، کما قال الفاضل النراقی : « والتمسک بحرمة المعاونة علی الإثم غیر مطّرد»(1) .

التاسع : أنّها مشتملة علی البدعة

کتب الضلال مشتملة علی البدعة ویجب دفعها من باب النهی عن المنکر ، کما ذهب إلی هذا الاستدلال المحقق الأردبیلی(2) وتبعه السید العاملی(3) .

وفیه : أولاً : نهی المنکر واجب ، ولکن وجوب دفعه أیضاً ، محل تأمل بل منع کما مرّ منّا سابقاً .

وثانیاً : علی فرض وجوب دفع المنکر « أنّ المراد بالمنکر فی المقام هو الفعل المحرَّم الذی یصدر من الشخص ، لا الأباطیل والأکاذیب المکتوبة فی الکتب ، فلا دلیل علی وجوب إتلافها» کما قاله بعض أساتیذنا _ مدظله _(4) .

العاشر : کتب الضلال لیست بأقل ضرراً من هیاکل العبادة

کتب الضلال لیست بأقل ضرراً من هیاکل العبادة المبتدعة ، فکما یجب إتلافها یجب اتلاف کتب الضلال أیضاً ویحرم حفظها .

قال فی الجواهر : « بل هی أولی حینئذ (یعنی حین ترتب الفساد) بالحرمة من هیاکل العبادة المبتدعة»(5) .

ومال إلی هذا الاستدلال أیضاً الفقیه الیزدی فی تعلیقته علی المکاسب(6) .

وفیه : أن هیاکل العبادة ووجوب إتلافها مورداً للنصوص ، وهی فی حقِّ کتب

ص:27


1- (2) مستند الشیعة 14 / 157 .
2- (3) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 75 .
3- (4) مفتاح الکرامة 4 / 62 _ (12 / 207) .
4- (5) دراسات فی المکاسب المحرّمة 3 / 98 .
5- (6) الجواهر 22 / 56 .
6- (7) راجع حاشیة المکاسب 1 / 128 .

الضلال مفقودة کما اعترف بذلک صاحب الحدائق وقال : « وعندی فی الحکم من أصله توقف لعدم النص»(1) ، فقیاسها بها مع الفارق .

نعم ، إذا ترتب الضلال فعلاً علیها یجب إتلافها بحکم العقل والشرع ، ولکن هذا غیر حرمة حفظها مطلقاً .

تلک عشرة کاملة من الأدلة علی حرمة حفظ کتب الضلال ووجوب إتلافها ، وأنت تری عدم تمامیتها ، ومع ذلک نقول : إذا ترتب الضلال والغوایة فعلاً علیها وجب إتلافها ، وهکذا إذا کانت فی مَعْرض هذا الترتب ، وهذا بحکم العقل والشرع الناهیان عن الضلال والفساد کما مرّ منّا آنفاً . وهذا الحکم هو المشهور بین الأصحاب ، بل ادعی علیه الإجماع ، ولذا قال السید العاملی فی ثبوت هذا الحکم : « فلا تصغْ إلی ما بَرْقَشَهُ(2) بعضُ متأخری المتأخرین من الخرافات وأورده من التُرَّهات»(3) .

والحاصل ، وجوب إتلاف کتب الضلال وحرمة حفظها مطلقاً ممّا لا دلیل علیه ، إلاّ إذا کان ترتب الضلال علیها فعلیّاً أو کان فی معرض ترتب الضلال ، واللّه العالم .

موارد الإستثناء علی القول بوجوب الاتلاف مطلقاً

القائلون بحرمة الحفظ ووجوب الإتلاف قد ذکروا موارد یستثنون الحکم فیها ، ولکن علی ما سلکناه من عدم الإطلاق فی وجوب الإتلاف وحرمة الحفظ ، هذه الموارد علی طبق القاعدة ، ونفس وجود هذه الموارد دلیل علی عدم إطلاق فی المقام ، وأمّا موارد الاستثناء :

استثنی ابن إدریس الحلی من حرمة حفظ کتب الضلال مورداً ، وهو : « من غیر نقض لها»(4) .

ص:28


1- (1) الحدائق 18 / 141 .
2- (2) برقشه فی الکلام : خلط .
3- (3) مفتاح الکرامة 4 / 62 _ (12 / 207) .
4- (4) السرائر 2 / 218 .

وأضاف العلاّمة أمراً آخراً فصار أمرین : « 1 _ لغیر النقض 2 _ أو الحجة»(1) .

وقال ثانی الشهیدین توضیحاً : « لمن له أهلیتها لا مطلقاً خوفاً علی ضعفاء البصیرة

من الشبهة»(2) .

وقال المحقق الثانی فی تعلیقه علی کلام العلامة : « أی : نقض مسائل الضلال ، أو الحجة علی مسائل الحقّ من کتب الضلال ، وظاهره حصر جواز الحفظ والنسخ فی الأمرین ، والحقّ أنّ فوائده کثیرة ، فلو اُرید نقل المسائل أو الفروع الزائدة أو معرفة بعض اُصول المسائل أو الدلائل ونحو ذلک جاز الحفظ و النسخ أیضاً ، لمن له أهلیة النقض لا مطلقاً ، لأنّ ضعفاء البصیرة لا یؤمَنُ علیهم خلل الإعتقاد»(3) .

وقال المحقق الأردبیلی : « ... وکذا بیعها وسائر التکسب بها ، علی أنّه یجوز کلّه للأغراض الصحیحة ، بل قد یجب کالتقیة والنقض والحجة واستنباط الفروع ونقل أدلّتها إلی کتبنا وتحصیل القوة وملکة البحث لأهلها»(4) .

وقال جدنا الشیخ الأکبر الشیخ جعفر کاشف الغطاء فی شرحه علی کلام العلامة : « وأمّا لهما (أی للنقض بها أو الحجة علی أهلها) فربّما وجب ، إذ الجهاد بالأقلام أعظم نفعاً من الجهاد بالسهام ، وإتلاف بعض آحادها لا یقضی برفع فسادها ، والإبطلال لکلّها إنّما یتحقق بإبطالها من أصلها ، وحیث أن مقصد الشرع فیها الإبطال کان الأقوی فی حصوله الردّ بطریق الاستدلال»(5) .

وقال السید الطباطبائی : « لغیر النقض لها والحجة علی أربابها بما اشتملت علیه ممّا یصلح دلیلاً لإثبات الحق أو نقض الباطل لمن کان من أهلهما ، ویلحق به الحفظ للتقیة أو

ص:29


1- (5) تذکرة الفقهاء 12 / 143 _ تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 260 _ منتهی المطلب 2 / 1013 قواعد الأحکام 2 / 8 .
2- (1) مسالک الأفهام 3 / 127 .
3- (2) جامع المقاصد 4 / 26 .
4- (3) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 76 .
5- (4) شرح القواعد 1 / 217 .

لغرض الاطلاع علی المذاهب والآراء لیکون علی بصیرة فی تمییز الصحیح عن الفاسد ، أو لغرض الإعانة علی التحقیق ، أو تحصیل ملکة للبحث والاطلاع علی الطرق الفاسدة لیتحرّز عنها ، أو غیر ذلک من الأغراض الصحیحة کما ذکره جماعة ، وینبغی تقییده بشرط الأمن علی نفسه من المیل إلی الباطل بسببها ، وأمّا بدونه فمشکل مطلقاً ، لاحتمال الضرر الواجب الدفع عن النفس ولو من باب المقدمة إجماعاً»(1) .

وقال الفاضل النراقی بعد استثناء التقیة والموردین : « وفاقاً لصریح المشهور ، لما رواه

الشیخ الحر فی الفصول المهمة عن الصادق علیه السلام : « أنَّ کل شیءٍ یکون لهم فیه الصلاح من جهة من الجهات فهذا کلّه حلال بیعه وشراؤه وإمساکه واستعماله وهبته وعاریته »(2) . ومقتضی ذلک وإن کان استثناء کلّ ما إذا ترتب علیه مقصد صحیح ، کتحصیل البصیرة بالاطلاع علی الآراء والمذاهب وتمییز الصحیح من الفاسد والاستعانة علی التحقیق وتحصیل ملکة البحث و النظر وغیر ذلک _ کما ذکره المحقق الثانی وصاحب الکفایة(3) _ إلاّ أن ضعف الروایة وعدم انجبارها إلاّ فی النقض والاحتجاج یمنع من استثناء غیرهما»(4) .

أقول : وأنت تری أن النراقی حصر الاستثناء فی الموردین المشهورین ، وفیه ما لا یخفی علی أهله .

وتبعه صاحب الجواهر وقال : « ... ومنه یظهر الوجه فی استثناء النقض ، لأنه إتلاف لکلّها الذی هو اُولی من إتلاف آحادها الغیر المقتضی لرفع فسادها بخلاف ردّها بطریق الاستدلال ، وأمّا الحجة علی أهلها فإن رجع إلی ذلک وإلاّ کان استثناؤه لا یخلو من إشکال ... »(5) .

ص:30


1- (5) ریاض المسائل 8 / 164 .
2- (1) تحف العقول / 333 .
3- (2) الکفایة / 86 من الطبع الحجری (1 / 436 و 435 من طبعة جماعة المدرسین) .
4- (3) مستند الشیعة 14 / 157 و 158 .
5- (4) الجواهر 22 / 57 .

أقول : لا أدری کیف فرّق قدس سره بین النقض والرد بطریق الاستدلال ؟ وهکذا الحجة علی أهلها إن لم یرجع إلی النقض ، فکیف صار استثناؤه لا یخلو من إشکال ؟ مع تعرض مشهور الأصحاب لهذه الاستثناء .

وبالجملة ، لا ینحصر الاستثناء بالموردین المشهورین ، بل یمکن التعدی إلی غیرهما من المنافع والفوائد ، وقد مرّ منّا فی ضمن نقل کلمات الأصحاب بعضها ، ونفس وجود هذه المستثنیات دال علی أنّ الحکم بوجوب إتلاف کتب الضلال أو حرمة حفظها لیس بمطلق بل ینحصر بموارد خاصة ، کما مرّ منّا فی أوّل هذا البحث ، أعنی فی صورة ترتب الإضلال ، خارجاً أو فقل : غایة الأمر فی صورة معرضیتها لترتب الإضلال .

تنبیه : لا یخلو من فائدة

قال الفقیه الیزدی : « مقتضی الوجوه المذکورة وجوب تفویت جمیع ما یکون موجباً

للضلال ولا خصوصیة للکتب فی ذلک ، فیحرم حفظ غیرها أیضاً مما من شأنه الإضلال کالمزار و المقبرة والمدرسة ونحو ذلک ، فکان الأولی تعمیم العنوان ، ولعلّ غرضهم المثال ، لکون الکتب من الأفراد الغالبة لهذا العنوان . نعم یمکن الاستدلال علی الخصوصیة بروایة الحذّاء : من علّم باب ضلال کان علیه مثل وزر من عمل به ، فتأمل»(1) .

وتبعه المحقق الأردکانی وقال : « ویمکن أن یقال : إنّ العبرة بإطلاق العلّة وقضیته مبغوضیة کلّما یوجب الضلالة کان فی الاُصول أو الفروع ، ومن مصادیقه : کتب الضلال ، فالعلّة هنا معمّمة ولا اعتبار بخصوصیة المورد ، ویلزم من مبغوضیة وجود ما یوجب الضلالة وجوب إتلافه»(2) .

أقول : الأدلة لو تمت تقتضی ما ذکره المحققان ، ولکنّها لم تتم . وأمّا روایة الحذاء لا تقدر علی التخصیص لو تم التعمیم ، ولعلّ أمره بالتأمل إشارة إلیه . ومع ذلک کلِّه یمکن أن

ص:31


1- (1) حاشیة المکاسب 1 / 127 .
2- (2) غنیة الطالب 1 / 123 .

یقال : إذا ترتب علی وجود شیءٍ إضلال الناس فعلاً وتوقّف منع إضلالهم خارجاً علی إتلاف الشیء ، وجب إتلافه لمنعهم من الضلال وإرشادهم إلی الهدایة ، والحمد للّه رب العالمین .

ص:32

حرمة حلق اللحیة

اشارة

لم یتعرض الشیخ الأعظم قدس سره لمسألتنا هذه ، مع أنّها من المسائل المبتلی بها فی عصرنا الحاضر وقد یکتسب بها ، فإن ذهبنا إلی حرمة حلقها فالاکتساب بها أیضاً حرام فلذا تصدینا للبحث عنها بإذن اللّه تعالی وعونه ، ونقول :

لم یتعرض القدماء من أصحابنا لهذه المسألة فی کتبهم ، ولعل سرّ عدم تعرضهم لذلک أنّ المنع عندهم واضح وسیرة المتشرعة أیضاً کانت علی وجود اللحی وعدم حلقها ، ولذا لم یحتاجوا إلی ذکر المسألة والبحث حولها .

وأمّا متأخر المتأخرین من أصحابنا فابتلوا بها ، ولذا بحثوا عنها وکتبوا حولها رسائل مستقلة(1) وأفتی المشهور منهم بالحرمة بل کاد أن یکون إجماعاً . ونذکر هنا بعض کلماتهم لتکون علی بصیرة من الأمر :

الأقوال فیها :

1 _ قال یحیی بن سعید الحلی : « ویکره القَزَع ، وقال صلی الله علیه و آله وسلم : أعفوا اللحی وحفوا الشوارب ، وینبغی أن یؤخذ من اللحیة ما جاوز القبضة ، ویکره نتف الشیب ، وکان علی علیه السلام لا یری بأساً بجزه»(2) .

القَزَع : جمع قزعة : أخذ بعض الشعر وترک بعضه .

ودلالة کلام ابن سعید قدس سره علی الحرمة غیر واضحة .

ص:33


1- (1) قد عدّ العلامة الشیخ رضا الأستادی _ دامت برکاته _ أکثر من أربعین رسالة مستقلة فی هذا الموضوع ، فراجع إلی رسالته بالفارسیة فی هذا المجال المسماة ب_ « تحقیقی در یک مسأله فقهی (ریش تراشی) » المطبوع ضمن « ده رساله» / 251 طبع جماعة المدرسین بقم المقدسة 1380 ه_ . ش .
2- (2) الجامع للشرائع / 30 .

2 _ قال العلامة : « وقال علیه السلام : حفّوا الشوارب واعفوا اللحی ولا تشبّهوا بالیهود . ونظر صلی الله علیه و آله وسلم إلی رجل طویل اللحیة فقال : ما کان علی هذا لوهیّأ من لحیته ، فبلغ الرجل ذلک فهیّأ لحیته بین اللحیین ، ثم دخل علی النبی صلی الله علیه و آله وسلم فلمّا رآه قال : هکذا فافعلوا» .

وقال علیه السلام : إنّ المجوس جزّوا لحاهم ووفّروا شواربهم ، وأمّا نحن نجزّ الشوارب ونعفی اللحی ، وهی الفطرة ... »(1) .

3 _ وقد أفتی بالحرمة ولده فخر المحققین فی حواشیه الفخریة علی قواعد والده العلامة ، کما نقل عنه الشیخ البلاغی فی رسالته(2) .

4 _ قال الشهید الأوّل : « لا یجوز له (أی للخنثی) حلق لحیته ، لجواز رجولیته»(3) .

وهذا الکلام ظاهر فی حرمة حلق اللحیة للرجال .

5 _ وتبعه الفاضل المقداد وقال أیضاً : « ... ولا یجوز له (أی للخنثی) حلق لحیته ، لجواز رجولیته ... »(4) .

6 _ قال الشیخ البهائی قدس سره فی رسالته الإعتقادیة : « ونقول بتحریم الربا والرشوة والسحر والقمار وحلق اللحیة وأکل السمک الذی لا فلس له ... »(5) .

واستفاد العلامة الشیخ جواد البلاغی من هذا البیان الإجماع علی الحرمة(6) .

7 _ وقال السید الداماد فی رسالة شارع النجاة ما معرّبه : « لا یجوز حلق اللحیة وأنّه

ص:34


1- (1) تذکرة الفقهاء 2 / 253 .
2- (2) رسالة فی حرمة حلق اللحیة / 155 .
3- (3) القواعد والفوائد 1 / 231 .
4- (4) نضد القواعد الفقهیة / 164 .
5- (5) الاعتقادیة / 8 ، والمطبوعة فی ضمن نصوص ورسائل من تراث اصفهان العلمی الخالد 4 / 118 بتحقیق المحقق القدیر جویا جها نبخش - حفظه اللّه تعالی - .
6- (6) رسالة فی حرمة حلق اللحیة / 155 المطبوعة ضمن الرسائل الأربعة عشرة للشیخ رضا الأستادی دامت برکاته .

حرام»(1) .

8 _ وقال الفیض الکاشانی فی عدّ المعاصی : « وحلق اللحیة ، لأنّه خلاف السنة التی هی إعفاؤها ولمسخ طائفة بسببه ... »(2) .

9 _ وقال الفیض فی کتابه منهاج النجاة : « ... ومن المعاصی ترک الواجبات وإتیان البدع والقعود فی المسجد جنباً أو حائضاً ... وحلق اللحیة وهجاء المؤمنین وإیذاؤهم»(3) .

10 _ وقال أیضاً فی الوافی : « ... وقد مضی فی کتاب الحجة حدیث عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّ أقواماً حلقوا اللحی وفتلوا الشوارب فمسخوا ، وقد أفتی جماعة من فقهائنا بتحریم حلق اللحیة ، وربما یستشهد لهم بقوله سبحانه حکایةً عن إبلیس اللعین : «. . . وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَیُغَیِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ . . .»(4)(5) .

أقول : الحدیث المذکور هو خبر حبابة الوالبیة المروی فی الکافی 1 / 346 ح 4 ، ویأتی البحث حوله إن شاء اللّه تعالی ، فانتظر .

11 _ قال المحدث البحرانی : « الظاهر - کما استظهره جملة من الأصحاب کما عرفت - تحریم حلق اللحیة ، لخبر المسخ المروی عن أمیر المؤمنین علیه السلام ، فإنّه لا یقع إلاّ علی ارتکاب أمر محرَّم بالغ فی التحریم ، وأمّا الاستدلال بآیة «وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَیُغَیِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ» ، ففیه : أنّه قد ورد عنهم علیهم السلام : أنّ المراد دین اللّه ، فیشکل الإستدلال بها علی ذلک وإن کان ظاهر اللفظ یساعده»(6) .

12 _ وقال المجلسی الأوّل : « ... ورد فی الکافی مع حکم الکلینی بصحة أخباره عن

ص:35


1- (7) شارع النجاة / 103 المطبوع ضمن إثنی عشر رسالة السید الداماد . طبعت بإهتمام المرحوم السید جمال الدین المیردامادی قدس سره .
2- (8) مفاتیح الشرائع 2 / 20 .
3- (9) منهاج النجاة / 70 .
4- (1) سورة النساء / 119 .
5- (2) الوافی 6 / 658 .
6- (3) الحدائق 5 / 561 .

أمیر المؤمنین سلام اللّه علیه ، أنّ أقواماً حلقوا اللحی وفتلوا الشوارب فمسخوا ، ویظهر من الأوامر بإعفاء اللحی وهذا الخبر ، ومن أنّه زیّ الیهود وجزّه زیّ المجوس ، الحرمة ، ولم یذکره فیما رأینا منهم غیر الشهید رحمه الله ، فإنّه ذکر حرمة الحلق بلا ذکر خلاف ، والمسموع من المشایخ أیضاً حرمته . ویؤیده أنّه لم ینقل تجویزه من النبی والأئمة صلوات اللّه علیهم ، ولو کان جائزاً لفعلوه مرّة لبیان الجواز کما فی کثیر من المکروهات ، أو وقع منهم الرخصة لأحدٍ ، مع أنّه معلوم منهم متواتراً بل من أصحابهم المداومة وإعفاء اللحیة . والحاصل أنّ الإحتیاط فی الدین ترک حلق اللحیة ، بل الشارب وترک جز اللحیة کالحلق ، فإنّهما کالضروریات من الدین ، بل ترک إطالة الشوارب وفتلهما أیضاً ، وترک إطالة اللحیة زیادةً عن القبضة ، فإنّه ورد فی الأخبار الکثیرة أنّ الزائد عن القبضة فی النار ، وأنّه تقبض بیدک اللحیة وتجزّ ما فضل ... »(1) .

أقول : فی هذا المجال أیضاً راجع إلی شرحه علی الفقیه باللغة الفارسیة(2) .

13 _ وقال ولده العلامة المجلسی فی ذیل الروایة : « واستدل به علی حرمة حلق اللحیة بل تطویل الشارب ، ویرد علیه أنَّه إنّما یدلّ علی حرمتهما أو أحدهما فی شرع مَنْ قبلنا لا فی شرعنا .

فان قیل : ذکره علیه السلام ذلک فی مقام الذمّ یدلّ علی حرمتهما فی هذه الشریعة أیضاً .

قلنا : لیس الإمام علیه السلام فی مقام ذمّ هذین الفعلین ، بل فی مقام ذمّ بیع المسوخ بهذا السببّ ،کما أنّ مسوخ بنی إسرائیل مسخوا لِصید السّبت ، وذکرهم هنا لا یدلّ علی تحریمه . نعم یدلّ بعض الأخبار علی التحریم ، وفی سندها أو دلالتها کلام لیس هذا المقام محلّ إیراده»(3) .

14 _ وقد أفتی بالتحریم الشیخ علی سبط الشهید الثانی فی کتابه « الدر المنثور»(4) .

15 _ وذهب الشیخ الحر العاملی فی کتابه « هدایة الاُمّة» إلی عدم جواز حلق

ص:36


1- (4) روضة المتقین 1 / 333 .
2- (5) لوامع الصاحبقرانی 1 / 242 .
3- (1) مرآة العقول 4 / 79 .
4- (2) الدر المنثور 2 / 291 .

اللحیة(1) .

16 _ وقال السید عبد اللّه شبّر : « من المعاصی المنصَوص علیها ترک الواجبات ... وحلق اللحیة لأنّه خلاف السنة التی هی إعفاؤها ولمسخ طائفة بسببه»(2) .

17 _ قال جدنا الفقیه الشیخ جعفر کاشف الغطاء قدس سره : « خامسها : تخفیف اللحیة وتدویرها والأخذ من العارضین وتبطین اللحیة وقصّ ما زاد عن القبضة من اللحیة ، فإن مازاد عن القبضة فی النار ، وعن الصادق علیه السلام : یعتبر عقل الرجل فی ثلاث فی طول لحیته ونقش خاتمه وفی کنیته(3) . ویحرم حلقها ، ویستحب توفیرها قدر قبضته من ید صاحبها مع استواءِها واستوائه ، وإلاّ اعتبر المقدار ممّا لا یلائم خلقته»(4) .

18 _ قال صاحب الجواهر فی شرح قول المحقق : « (ولیس علی النساء حلق) : لا تعییناً ولا تخییراً ، بلا خلاف أجده بل عن التحریر والمنتهی الإجماع علیه ، وهو الحجة بعد قول النبی صلی الله علیه و آله وسلم فی وصیته لعلی علیه السلام : لیس علی النساء جمعة _ إلی أن قال _ : ولا استلام الحجر ولا الحلق ، والصادق علیه السلام فی صحیح الحلبی : لیس علی النساء حلق ویجزیهنَّ التقصیر ، بل یحرم علیهنّ ذلک ، بلا خلاف أجده فیه أیضاً ، بل عن المختلف الإجماع علیه ، وهو الحجة بعد

المرتضوی : نهی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أن تحلق المرأة رأسها ، أی فی الإحلال لا مطلقاً ، فإنّ الظاهر عدم حرمته علیها فی غیر المصاب المقتضی للجزع ، للأصل السالم عن معارضة دلیل معتبر . اللهم إلاّ أن یکون هناک شهرة بین الأصحاب تصلح جابراً لنحو المرسل المزبور ، بناءً علی إرادة الإطلاق ، فیکون کحلق اللحیة للرجال»(5) .

19 _ قد أفتی بالتحریم الشیخ الأعظم الأنصاری(6) وکل من المعروفین بالتقلید من زمنه إلی یومنا هذا فی رسائلهم العملیة :

ص:37


1- (3) هدایة الاُمّة إلی أحکام الأئمة علیهم السلام 1 / 154 طبع الآستانة المقدسة الرضویة علیه السلام عام 1412 ه_ .
2- (4) حق الیقین 2 / 213 .
3- (5) الخصال 1 / 103 _ مکارم الأخلاق / 68 .
4- (6) کشف الغطاء 2 / 418 .
5- (1) الجواهر 19 / 236 .
6- (2) مجمع المسائل _ أواخرها فی المسائل المتفرقة کما نقل عنه العلامتان الطبسی فی المنیة / 85 و البلاغی فی رسالته / 156 .

20 _ ومنهم : خالنا العلامة الفقیه السید إسماعیل الصدر قدس سره ، فقد قال فی بعض تعالیقه الفتوائیة : « قد حررت هذه المسألة مفصلاً ، وأرجو العذر عن مقدار ما عرضت به ، ومن یقول بعدم حرمته فلا یخلو حاله من أحد الأمرین : إما لعدم کونه من الراسخین فی العلم ، أو یروم بذلک إظهار فضیلته ، واللّه العالم . حرره الراجی ابن صدر الدین العاملی»(1) .

21 _ وممّن صرح بالحرمة آیة اللّه المیرزا الشیرازی الکبیر کما نقل عنه صاحب المنیة(2) .

22 _ ومنهم : الفقیه السید محمد کاظم الطباطبائی الیزدی فی ترجمة العروة الوثقی المسماة بالغایة القصوی(3) .

23 _ ومنهم : آیة اللّه الشیخ عبد الکریم الحائری الیزدی قال : « أما الدلیل الکاشف عن الحرمة فمن الکتاب قوله تعالی : «فَلَیُغَیِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ» .

بتقریب : أنّ إبلیس فی مقام إضلاله یقول : لآمرنَّهم بتغییر الخلقة ، مخالفاً لمقتضی المقام الذی هو بیان إضلاله ، ومن جملة ما هو تغییر فی الخلقه حلق اللحیة»(4) .

24 _ ومنهم : الفقیه السید أبو الحسن الأصفهانی قال ما معرّبه : « حلق اللحیة حرام ولو بالماکنة إذا کان مثل الحلق ، وفی هذا الحکم جمیع الناس سیان ، وحکم اللّه لا یتغیر بالاستهزاء والسخریة»(5) .

25 _ ومنهم : الفقیه الحجة الشیخ محمد الحسین کاشف الغطاء قال : « الظاهر تحقق الإجماع علی الحرمة»(6) .

26 _ ومنهم : آیة اللّه الحاج آقا حسین القمی یقول ما یقرب هذا المضمون : « إنّ ارتکاز المسلم بما هو مسلم أنّ حلق اللحیة حرام ، ویؤیده ما نقل من الإجماع علی

ص:38


1- (3) ونقل عنه فی المنیة / 86 .
2- (4) المنیة / 88 .
3- (5) غایة القصوی 2 / 71 المسألة 63 و 64 .
4- (6) نقل عنه تلمیذه العلامة آیة اللّه الشیخ محمد رضا الطبسی النجفی قدس سره فی کتابه المنیة / 88 .
5- (7) توضیح المسائل / 458 المسألة 2844 .
6- (1) نقل عنه فی المنیة / 93 .

حرمته»(1) .

27 _ وقال العلامة المامقانی : « ویحرم حلق اللحیة لما ورد من النهی عن ذلک ... وقد ورد بسند محکوم بالصحة عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّ حلق اللحیة من المثلة وأنّ علی من یفعله لعنة اللّه ... »(2) .

28 _ وفی الفقه علی المذاهب الأربعة « نقل عن الشافعیة : أمّا اللحیة فإنه یکره حلقها والمبالغة فی قصّها ، فإذا زادت علی القبضة فإنّ الأمر فیه سهل ، خصوصاً إذا ترتب علیه تشویه للخلقة أو تعریض به أو نحو ذلک ... .

وعن الحنفیة : یحرم حلق لحیة الرجل ، ویُسنّ أن لا تزید فی طولها علی القبضة ، فمازاد علی القبضة تُقصّ ، ولا بأس بأخذ أطراف اللحیة وحلق الشعر الذی تحت الإبطین ونتف الشیب ، وتُسنّ المبالغة فی قصّ الشارب ... .

وعن المالکیة : یحرم حلق اللحیة ویُسنّ حلق الشارب ... .

وعن الحنابلة : یحرم حلق اللحیة ولا بأس بأخذ ما زاد علی القبضة منها ، فلا یکره قصّه کما لا یکره ترکه . وکذا لا یکره أخذ ما تحت حلقة الدبر من الشعر ، ویکره نتف الشیب ، ویُسنّ المبالغة فی قصّ الشارب ... »(3) .

أقول : أنت تری نَقَل صاحب الفقه علی المذاهب الأربعة عن الشافعیة القول بکراهة حلق اللحیة ، ولکن نقل الشیخ علی محفوظ أحد مدرسی الأزهر القول بالحرمة عن بعضهم ، حیث قال : « الثالث : مذهب السادة الشافعیة ، قال فی شرح العباب : فائدة : قال الشیخان : یکره حلق اللحیة ، واعترضه ابن الرفعة بأنّ الشافعی نصّ فی الاُمّ علی التحریم . وقال

الأذرعی : الصواب تحریم حلقها جملة لغیر علّة بها . انتهی . ومثله فی حاشیة ابن قاسم العبادی فی الکتاب المذکور»(4)(5) .

ص:39


1- (2) نقل عنه ولده الفقیه الحاج آقا تقی القمی فی عمدة الطالب 1 / 198 .
2- (3) مرآة الکمال / 109 .
3- (4) الفقه علی المذاهب الأربعة 2 / 44 .
4- (1) الإبداع فی مضارّ الإبتداع / 406 الطبعة الرابعة . ونقل عنه العلامة الأمینی قدس سره فی کتابه الغدیر 11 / 156 الطبعة الأولی .
5- (2) راجع إعانة الطالبین 2 / 386 للبکری الدمیاطی وحواشی الشروانی 9 / 376 .

وبالجملة ، فجمیع مذاهب الأربعة یذهبون إلی الحرمة ، نعم نقل عن بعض الشافعیة القول بالکراهة .

الوجوه التی اُقیمت علی الحرمة

الوجه الأوّل : الإجماع

قد مرّ منّا عند نقل الأقوال دعوی الإجماع علی حرمة حلق اللحیة من عدّة من الأصحاب :

منهم : الشیخ بهاء الدین محمد العاملی والشیخ محمد الحسین کاشف الغطاء قدس سرهما .

وفیه : أولاً : لم یکن فی کلام الشیخ البهائی دعوی الإجماع کما سبق نقل کلامه آنفاً .

وثانیاً : عدم إمکان تحصیل الإجماع ، لأن المسالة لم تکن معنونة فی کتب القدماء من أصحابنا .

وثالثاً : علی فرض تحقق الإجماع لا یفید فی المقام شیئاً ، لأنّه إجماع مدرکی ولم یکن تعبدیاً ، ومن المحتمل أنّ یکون مستند المجمعین نفس هذه الوجوه التی تعرضنا لذکرها ، فلابدّ من ملاحظتها .

الوجه الثانی : سیرة المتشرعة وارتکازهم

سیرة المتشرعة من إصحابنا المتصلة إلی زمن المعصومین علیهم السلام علی إبقاء اللحیة وعدم حلقها ، بل إنّهم یذمّون حالقها ویعاملون معه معاملة الفساق ولا یحکمون بعدالته . والدلیل علی إتصال السیرة ما ورد فی الروایات المتعددة من الأمر بإعفاء اللحیة ، أو خبر حبابة الوالبیة من تفسیر أمیر المؤمنین علیه السلام جند بنی مروان بأنّهم أقوام حلقوا اللحی وفتلوا الشارب ، ونحوها .

وهکذا الراسخ فی أذهان المتشرعة وارتکازهم حرمة حلق اللحیة ویعدّ عندهم

الحالق کالفاسق ، ووجود نفس هذا الإرتکاز جیلاً بعد جیل یکشف عن وجود حکم شرعی فی المقام وهو الحرمة . ولعلّ نفس وجود هذه السیرة والإرتکاز هو السرّ فی عدم تعرض قدماء أصحابنا لهذه المسألة وترکوها لوضوحها وعدم الحاجة إلی بیانها .

وهذه السیرة والإرتکاز لا تختص بأصحابنا ، بل تجری بالنسبة إلی المسلمین عامة ،

ص:40

بل قد یقال : بجریانها بالنسبة إلی جمیع الأدیان السماویة .

ولکن العمدة فی المقام جریانها بالنسبة إلی أصحابنا واتصالها بزمن المعصومین علیهم السلام وتقریرهم علیهم السلام لها .

ووجود هذه السیرة والإرتکاز ممّا لا ینکر ، وإنکار إتصالها إلی زمن المعصومین علیهم السلام مکابرة ،وقد مرّ منّا ظهور الإتصال من الروایات ، فلا یمکن المناقشة فی هذا الوجه بوجه یکون تاماً .

الوجه الثالث : حلق اللحیة تشبّه بأعداء الدین

التشبّه بالکفار وأعداء الدین حرام ، ومن شعارهم وزیّهم حلق اللحیة کما ورد ذلک بالنسبة إلی المجوس ، فلا یجوز للمسلم التشبّه بهم فی حلق اللحیة فلا یجوز حلقها .

ومن الروایات الناهیة عن التشبّه بالکفار معتبرة السکونی عن جعفر علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن آبائه علیهم السلام قال : أوحی اللّه إلی نبیٍّ من الأنبیاء أن قُل لقومک : لا تلبسوا لباس أعدائی ، ولا تطعموا مطاعم أعدائی ، ولا تشاکلوا بما شاکل أعدائی ، فتکونوا أعدائی کما هم أعدائی(1) .

ومنها : معتبرة اُخری لإسماعیل بن مسلم - وهو السکونی - عن الصادق علیه السلام قال : اُوحی اللّه إلی نبیٍّ من أنبیائه قل للمؤمنین : لا تلبسوا لباس أعدائی ، ولا تطعموا مطاعم أعدائی ، ولا تسلکوا مسالک أعدائی ، فتکونوا أعدائی کما هم أعدائی(2) .

وفیه : أن المراد من هذه الروایات وعدم جواز التشبّه بهم ، رفض المسلم هویته وتراثه وفکره وتاریخه وجعل نفسه تابعاً محضاً لهم ، فصار من مقلدیهم فی العمل والفکر والعقیدة وحتّی فی اللباس والزی والشکل واللسان ونحوها ، بحیث یعدّون منهم عرفاً .

وأمّا مجرد الإتصاف بوصف من اُوصافهم لا سیما مع عدم قصد التشبّه ، فلا یصدق علیه عنوان التشبّه عادة ، فلا یتمّ هذا الوجه .

نعم ، صدق عنوان التشبّه بحسب اختلاف الأزمنة والأمکنة مختلف کما هو واضح .

ص:41


1- (1) وسائل الشیعة 15 / 146 ح 1 الباب 64 من ابواب جهاد العدو .
2- (2) وسائل الشیعة 4 / 385 ح 8 الباب 19 من أبواب لباس المصلی .
الوجه الرابع : حلق اللحیة داخل فی التشبّه بالنساء

قد سبق فی البحوث الماضیة أنّ تشبُّهَ کلٍّ من الرجلِ والمرأةِ بالآخرِ حرامٌ مطلقاً ومن الواضح أنّ من أظهر مصادیق تشبّه الرجل بالمرأة حلق اللحیة .

وفیه : نعم التشبّه حرام مطلقاً ولکن إذا صدق عنوان التشبّه عرفاً ، وصرف حلق اللحیة فقط لا یصدق علیه التشبّه إذا لم یکن معه اُمور اُخری . لاسیما فی زمان أو مکان دارج أمر حلق اللحیة بین رجاله ، فلا یصدق عنوان التشبّه أصلاً . والعرف خیر حاکم بما ذکرناه .

الوجه الخامس : آیة تغییر الخلقة

وهی قوله تعالی حکایة عن الشیطان : «لَعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لاَءَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِکَ نَصِیباً مَّفْرُوضاً * وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّیَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَیُبَتِّکُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَیُغَیِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن یَتَّخِذِ الشَّیْطَانَ وَلِیّاً مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِیناً»(1) .

بتقریب : أن حلق اللحیة من مصادیق تغییر خلق اللّه ، وظاهر الآیة حرمته مطلقاً إلاّ ما خرج بالدلیل أو لم یکن عند العرف من مصادیقه . والأوّل نحو : الختان وحلق الرأس والعانة والإبطین وقصّ الأظفار ونحوها ، والثانی مثل : قطع الأشجار وحفر الآبار وجری الأنهار وکسر الأحجار ونحوها .

وأمّا غیرهما من أنواع التصرفات فتدخل فی الآیة الشریفة وهی حرام نحو ، قرض آذان الأنعام وشقها وجدع أنفهم وحلق اللحیة وإخصاء الناس ونحوها ، فالآیة الشریفة تدلّ علی حرمة حلق اللحیة .

وعلی ما ذکرنا تدخل فی الآیة الشریفة جمیع ما ذکره المفسرون ، لأنّ کل ذلک من التغییر فی خلق اللّه .

قال الشیخ الطوسی : « وقوله : «وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَیُغَیِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ» اختلفوا فی معناه ، فقال ابن عباس والربیع بن أنس عن أنس : أنّه الإخصاء وکرهوا الإخصاء فی البهائم ، وبه قال سفیان وشهر بن حوشب وعکرمة وأبو صالح . وفی روایة اُخری عن ابن عباس فلیغیّرن دین

ص:42


1- (1) سورة النساء / 119 و 118 .

اللّه ، وبه قال إبراهیم ومجاهد ، وروی ذلک عن أبی جعفر وأبی عبد اللّه علیهماالسلام ، قال مجاهد : کذب العبد - یعنی عکرمة - فی قوله : انّه الإخصاء ، وإنّما هو تغییر دین اللّه الذی فطر الناس علیه فی قوله : «فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِی فَطَرَ النَّاسَ عَلَیْهَا لاَ تَبْدِیلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِکَ الدِّینُ الْقَیِّمُ»(1) ، وهو قول قتادة والحسن والسدی والضحاک وابن زید .

وقال قوم : هو الوَشْم ، روی ذلک عن الحسن والضحاک و إبراهیم أیضاً والمغیرات خلق اللّه ، قال الزجاج : خَلَق اللّه تعالی الأنعام لیأکلوها فحرموها علی أنفسهم ، وخَلَقَ الشمس والقمر والحجارة مسخرةً للناس ینتفعون بها فعبدها المشرکون ، وأقوی الأقوال من قال : فلیغیرن خلق اللّه بمعنی دین اللّه ، بدلالة قوله : «فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِی فَطَرَ النَّاسَ عَلَیْهَا لاَ تَبْدِیلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِکَ الدِّینُ الْقَیِّمُ» ، ویدخل فی ذلک جمیع ما قاله المفسرون ، لأنّه إذا کان ذلک خلاف الدین فالآیة تتناوله»(2) .

وذکر نحوها الطبرسی فی مجمع البیان ، فراجع کلامه(3) .

قال الزمخشری : « وتبتیکهم الآذان فعلهم بالبحائر(4) ، کانوا یشقّون اُذنَ الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذکراً ، وحرموا علی أنفسهم الانتفاع بها . وتغییرهم خلق اللّه : فق ء عین الحامی وإعفاؤه عن الرکوب . وقیل : الخصاء وهو فی قول عامة العلماء مباح فی البهائم وأما فی بنی آدم فمحظور ، وعند أبی حنیفة یکره شراء الخصیان وإمساکهم واستخدامهم ، لأنّ الرغبة فیهم تدعو إلی خصائهم . وقیل : فطرة اللّه هی دین الإسلام . وقیل للحسن : إنّ عکرمة یقول هو الخصاء فقال : کذب عکرمة ، هو دین اللّه . وعن ابن مسعود : هو الوَشْم ، وعنه : لعن اللّه الواشرات والمتنمصات والمستوشمات المغیرات خلق اللّه . وقیل : التخنث»(5) .

ص:43


1- (1) سورة الروم / 30 .
2- (2) التبیان 3 / 334 .
3- (3) مجمع البیان 3 / 113 .
4- (4) بَحَر الناقة : شقَّ اُذنها ، فهی بَحیرة جمعها بَحَائر وبُحُر .
5- (5) الکشاف 1 / 566 .

وقال البیضاوی : « «فَلَیُبَتِّکُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ» یشقّونها لتحریم ما أحلّه اللّه ، وهی عبارة عمّا کانت العرب تفعل بالبحایر والسوایب ، وإشارة إلی تحریم کل ما أحلّ ، ونقص کل ما خلق کاملاً بالفعل أو بالقوة .

«وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَیُغَیِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ» عن وجهه صورة أو صفة ، ویندرج فیه ما قیل : من فقؤ عین الحامی وخصاء العبید ، والوشم والوشر واللواطة والسحق ونحو ذلک وعبادة

الشمس والقمر ، وتغییر فطرة اللّه التی هی الإسلام ، واستعمال الجوارح والقوی فیما لا یعود علی النفس کمالاً ولا یوجب لها من اللّه زلفی ، وعموم اللفظ یمنع الخصاء مطلقاً ولکن الفقهاء رخصوا فی خصاء البهائم للحاجة ... »(1) .

أقول : فعلی ما ذکر المفسرون یدخل فی الآیة الشریفة ما ورد من الروایات من تفسیر خلق اللّه بدین اللّه أو أمره أو نهیه ، نحو مرفوعتی جابر حیث فسّر الإمام أبی جعفر الباقر علیه السلام فیهما خلق اللّه بدین اللّه وأمر اللّه بما أمر به(2) . وغیرها من الروایات(3) .

والحاصل ، لا منافاة بین الأخذ بهذه التفاسیر والقول بحرمة تغییر خلق اللّه وبین تفسیر خلق اللّه بدین اللّه وأمره ونهیه ، لأنّ دین اللّه وفطرة اللّه وأمره ونهیه أیضاً من خلقه ، فالتغییر فی کل ذلک حرام بمفاد الآیة الشریفة .

والعلامة الخبیر الفیض الکاشانی قدس سره أیضاً جمع بین الروایات وأقوال المفسرین بمثل ما جمعناه وقال فی ذیل قوله تعالی : « «خَلْقَ اللّهِ» فیه (أی فی المجمع) عنه (أی عن الصادق علیه السلام ) یرید دین اللّه وأمره ونهیه ، ویؤیده قوله سبحانه : «فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِی فَطَرَ النَّاسَ عَلَیْهَا لاَ تَبْدِیلَ لِخَلْقِ اللَّهِ» أقول : ویزیده تأییداً قوله عزّ وجل عقیب ذا «ذَلِکَ الدِّینُ الْقَیِّمُ»(4) وتفسیرهم فطرة اللّه بالإسلام ، ولعلّه یندرج فیه کلّ تغییر لخلق اللّه عن وجهه صورةً أو صفةً من دون إذن من اللّه ، کفقئهم عین الفحل الذی طال مکثه عندهم

ص:44


1- (1) أنوار التنزیل / 206 الطبع الحجری .
2- (2) تفسیر العیاشی 1 / 444 ح 278 و 279 .
3- (3) راجع تفسیر العیاشی 1 / 444 ح 277 و البرهان فی تفسیر القرآن 2 / 175 .
4- (4) سورة الروم / 30 .

وإعفائه عن الرکوب ، وخصاء العبید وکلّ مثلة ، ولا ینافیه التفسیر بالدین والأمر ، لأنّ ذلک کله داخل فیهما»(1) .

وتبعه فی ذلک المشهدی فی کنز الدقائق(2) والعلامة الطباطبائی فی المیزان(3) ومال إلی هذا الجمع الشیخ الطوسی أعلی اللّه مقامه والقاضی البیضاوی کما مرّ کلامهما .

فعلی ما ذکرنا کل تغییر فی خلق اللّه حرام ، ومنها : حلق اللحیة .

ولا یرد علینا عدم تطبیق التغییر فی خلق اللّه علی حلق اللحیة فی کلمات

المفسرین ،وکما أصرّ علیه بعض الأساتیذ(4) _ مدظله _ ، لأنّ ما ذکروه لیس إلاّ بعنوان المثال ، وحیث لم یتداول حلق اللحیة فی ذلک الزمان بین المسلمین فلم یذکروها .

فالآیة الشریفة تدلّ بإطلاقها علی حرمة تغییر خلق اللّه ومنها : حلق اللحیة .

وجماعة من الأصحاب أیضاً استدلوا بهذه الآیة لحرمة حلق اللحیة ، منهم الفقیه السید الیزدی والشیخ المؤسس الحائری(5) والشیخ البلاغی(6) وصاحب المنیة(7) وغیرهم أعلی اللّه مقامهم .

الوجه السادس : آیة الحنیفیة

وهی قوله تعالی : «ثُمَّ أَوْحَیْنَا إِلَیْکَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِیمَ حَنِیفاً وَمَا کَانَ مِنَ الْمُشْرِکِینَ»(8) .

قد أمرنا عزّ وجلّ باتباع ملّة إبراهیم حنیفاً ، وعدّ من الحنیفیة إعفاء اللحی ، کما قال

ص:45


1- (5) تفسیر الصافی / 125 الطبع الحجری .
2- (6) کنز الدقائق 2 / 617 .
3- (7) المیزان 5 / 87 .
4- (1) دراسات فی المکاسب المحرمة 3 / 113 و 114 .
5- (2) کما نقل عنهما فی المنیة / 34 .
6- (3) فی رسالته فی حرمة حلق اللحیة / 153 المطبوعة ضمن الرسائل الأربعة عشر .
7- (4) المنیة / 30 وما بعدها .
8- (5) سورة النحل / 123 .

علی بن إبراهیم القمی فی تفسیره : « وهی الحنیفیة العشرة التی جاء بها إبراهیم علیه السلام : خمسة فی البدن وخمسة فی الرأس ، فأمّا التی فی البدن فالغسل من الجنابة والطهور بالماء وتقلیم الأظفار وحلق الشعر من البدن والختان ، وأمّا التی فی الرأس فطمّ الشعر(1) وأخذ الشارب وإعفاء اللحی والسواک والخلال . فهذه فلم تنسخ إلی یوم القیامة»(2) .

والروایة کماتری مقطوعة لم تنسب إلی معصوم ، ولکن نسب الطبرسی هذه الروایة إلی الصادق علیه السلام وقال بعد نقلها : « ذکره علی بن إبراهیم بن هاشم فی تفسیره»(3) .

وهکذا نقل صاحب الوسائل(4) عن الطبرسی .

فیمکن نسبة الروایة إلی المعصوم علیه السلام ، وعدّ من الحنیفیة التی اُمرنا باتباعها إعفاء اللحی ، فإذا وجب إعفاء اللحی حرم حلقها .

وفیه : علی فرض تمامیة نسبة الروایة إلی المعصوم علیه السلام ، مع ذلک لیس لها سند وتکون

مرسلة فلا یمکن الإعتماد علیها . ویأتی البحث حول إعفاء اللحی بعد نقل روایاتها .

الوجه السابع : الخبر المروی فی الجعفریات

نقل محمد بن محمد بن الأشعث عن موسی بن إسماعیل بن موسی بن جعفر عن أبیه عن جده عن جعفر بن محمد علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن علی بن أبی طالب علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : حلق اللحیة من المثلة ، ومن مثّل فعلیه لعنة اللّه(5) .

بتقریب : أن المثلة حرام فی الشریعة المقدسة ، والروایة عدّت حلق اللحیة منها فتکون حراماً .

وفیه : نعم ، المثلة حرام فی الشریعة ولکن کون حلق اللحیة من المثلة فی العرف محل تأمل . وأمّا الذهاب إلی ثبوت حکم المثلة علیها تعبداً بواسطة هذه الروایة ، فغیر تام ، لأنّ

ص:46


1- (6) طَمَّ الشعرَ : جزَّه أو عقصه ، عَقَصَتِ المرأةُ شَعْرَها : شدّته فی قفاها .
2- (7) تفسیر القمی 1 / 391 .
3- (8) مجمع البیان 1 / 200 _ ذیل آیة 124 من سورة البقرة .
4- (9) وسائل الشیعة 2 / 117 ح 5 . الباب 67 من أبواب آداب الحمام .
5- (1) الجعفریات / 157 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 1 / 406 ح 1 .

الروایة من حیث السند ضعیفة ولم یثبت صحة انتساب الکتاب إلی ابن الأشعث الکوفی .

وأمّا الإشکال فی الروایة فبعدم صدق المثلة علی حلق اللحیة ، لأنّ المعتبر فی صدق المثلة أمران : أحدهما : إیقاع النقص بالغیر ، وثانیهما : کون الإیقاع بقصد هتکه وتحقیره ، فلا یتحقق عنوان المثلة فیما إذا حلق الإنسان لحیته بداعی التجمیل ونحوه . کما قاله شیخنا الأستاذ _ مدظله _(1) واُستاده(2) قدس سره .

وهذا غیر تام ، لِورود النهی عن المثلة فی الشریعة حتّی بالنسبة إلی الحیوانات والکلب العقور ومن الواضح انه لم یصدق فیها قصد التحقیر والهتک بالنسبة إلیهم .

وهکذا لایتم ما ذکره المحقق الخوئی قدس سره من اجتماع اللعن مع الکراهة ، واستدل ببعض الروایات الواردة فی موارد استعمال اللعن فی مقام الکراهة(3) .

لأنّ ظهور اللعن فی الحرمة واضح عند العرف ، نعم یمکن استعماله فی الکراهة مع وجود قرینة علیها ، ومن القرائن علم السامع بعدم الحرمة کما فی الأمثلة التی ذکرها هذا المحقق الجلیل ، نحو : آکل زاده وحده وراکب الفلاة وحده والنائم فی بیت وحده .

ولذا صار مَثَل اللعن مَثَل السحت ، کما أن ظهور السحت فی الحرمة واضح ولکن ربّما یُستعمل فی الکراهة ، هکذا الأمر بالنسبة الی اللعن . وقد تنبّه علی هذا الإشکال شیخنا

الاستاذ _ مدظله _ فراجع کلامه فی کتابه(4) .

والحاصل ، الإشکال فی الاستدلال بهذه الروایة منحصر بما ذکرناه ، من أنّ الروایة ضعیفة سنداً ، مضافاً إلی عدم ثبوت انتساب الکتاب إلی ابن الأشعث ، فلا یمکن الإعتماد علیها . وإلحاق حلق اللحیة بالمثلة تعبداً فی حکمها - وهی الحرمة - مشکلٌ .

الوجه الثامن : خبر حبابة الوالبیة

روی الکلینی والصدوق بسند فیه ضعف عن حبابة أنّها قالت : رأیت

ص:47


1- (2) إرشاد الطالب 1 / 147 .
2- (3) مصباح الفقاهة 1 / 259 .
3- (4) مصباح الفقاهة 1 / 260 .
4- (1) إرشاد الطالب 1 / 147 .

أمیر المؤمنین علیه السلام فی شرطة الخمیس ومعه درّة لها سبابتان یضرب بها بیّاعی الجِرّیّ والمارماهی والزِمّار ویقول لهم : یا بیّاعی مسوخ بنی إسرائیل وجند بنی مروان ، فقام إلیه فرات بن أحنف ، فقال : یا أمیر المؤمنین علیه السلام وما جند بنی مروان ؟ قال : فقال له : أقوامٌ حلقوا اللحی وفتلوا الشوارب فمسخوا ، الحدیث(1) .

الجِرّیّ : نوع من السمک لا فلس له ، وکذا المارماهی والزِمّار ، والفتل : الإزالة .

بتقریب : أن المسخ عقوبة شدیدة لا تترتب إلاّ علی ارتکاب المحرّمات الشدیدة والمغلّظة ، وحیث تترتب علی حلق اللحیة وفتل الشارب فیکونان من المحرّمات الشرعیة .

وفیه : أولاً : الروایة ضعیفة الإسناد بسندیها ، لا یمکن الإعتماد علیها فی الأحکام الشرعیة ، والعجب من العلاّمة البلاغی حیث حکم باعتبار سندها بروایة الصدوق(2) .

وثانیاً : الروایة تدلّ علی أن حلق اللحیة وفتل الشارب - أی إزالته معاً - من المحرّمات کما فعله المجوس ، ولم یقل أحدٌ بأنّ فتل الشوارب فقط من المحرّمات ، أعنی الروایة تدلّ علی أنّ فتل الشارب من المحرَّمات والإجماع قائم علی خلافه ، فالأخذ بها مشکل .

اللهم إلاّ أن یقال : هذا الإجماع مانع من حمل الحرمة علی فتل الشوارب ، ولکن لا یمنع من حمل الحرمة علی حلق اللحی أو علی حلقهما معاً .

وثالثاً : الروایة حیث ترتب المسخ علی حلق اللحیة ، تدلّ علی أنّها من الکبائر ، والإلتزام بأنّها من الکبائر مشکل .

ورابعاً : الروایة تدلّ علی حرمتهما فی الأدیان السالفة المنسوخة ، وثبوت الحرمة فی الأدیان المنسوخة لا تقتضی حرمتهما فی شرعنا ودیننا .

ولکن مع ذلک کلِّه ظهور الروایة فی حرمة حلق اللحیة ممّا لا ینکر ، إلاّ أنّ العمدة ضعف إسنادها .

ص:48


1- (2) الکافی 1 / 346 ح 3 وکمال الدین / 536 ح 1 ونقل عنهما فی وسائل الشیعة 2 / 116 ح 4 .
2- (3) رسالة فی حرمة حلق اللحیة / 151 المطبوع ضمن الرسائل الأربعة عشر .
الوجه التاسع : صحیحة البزنطی

روی ابن إدریس فی آخر السرائر نقلاً عن کتاب الجامع لأحمد بن محمد بن أبی نصر البزنطی صاحب الرضا علیه السلام قال : وسألته عن الرجل هل یصلح لأحد أن یأخذ من لحیته ؟ قال : أمّا من عارضیه فلا بأس وأمّا من مقدّمها فلا(1) .

ورواها الحمیری فی قرب الإسناد(2) وعلی بن جعفر العریضی فی کتابه(3) إلاّ أنّه قال فی آخره : فلا یأخذ .

ورواها فی بحار الأنوار(4) عن قرب الإسناد والسرائر .

لم یذکر ابن إدریس سنده إلی جامع البزنطی ، فالروایة مرسلة . ولکن لصاحب الوسائل سنداً صحیحاً إلی کتاب علی بن جعفر ، وهو ثقة ، فهذا السند صحیح .

وأمّا سند الحمیری فی قرب الإسناد فضعیف بعبد اللّه بن الحسن حفید علی بن جعفر لأنّه لم یرد توثیقه ، اللهم إلاّ أن یقال باعتباره .

وأمّا دلالة الصحیحة علی حرمة حلق اللحیة وأخذها ولو بالنتف ونحوه واضحة ، لأنّ الإمام علیه السلام نهی عن الأخذ من مقدّمها مطلقاً ، ومن البدیهی أنّ الأخذ من مقدّمها بمعنی إصلاحها أو تقصیرها إذا جاوزت عن القبضة أو تدویرها أو تبطّنها لا بأس بها ، فأیّ شیءٍ به بأس ؟ لم یبق إلاّ الحلق ، فالصحیحة تدلّ علی حرمة حلق مقدّم اللحیة حیث نهی الإمام علیه السلام عنه ، وأمّا حلق العارضین فلا بأس به ، فالروایة تدلّ - مضافاً علی حرمة حلق اللحیة - علی جواز ما شاع فی عصرنا الحاضر من حلق العارضین وإبقاء ما علی الذقن . وقد خالف فی هذه الدلالة بعض الأساتیذ(5) _ مدظله _ .

ص:49


1- (1) السرائر 3 / 574 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 111 ح 5 الباب 63 من أبواب آداب الحمام .
2- (2) قرب الاسناد / 296 ح 1169 .
3- (3) مسائل علی بن جعفر / 139 ح 153 .
4- (4) بحار الانوار 73 / 109 ح 2 و 3 (30 / 190) .
5- (5) منیة الطالب فی حکم اللحیة والشارب / 44 ودراسات فی المکاسب المحرمة 3 / 125 .

والإشکال فیها : بأنّ « مفادها (لا یصلح) وهو أعم من الحرمة علی ما هو المعروف بین الفقهاء» کما قاله بعض المعاصرین(1) قدس سره غیر تام .

لأنه : أولاً : ورد فی نقل علی بن جعفر « فلا یأخذ» ، ولم یکن مفاده لا یصلح حتّی یناقش فیها ، ومن الواضح ظهور کلمة « لا یأخذ» فی الحرمة ، لأنّها نهی صریح .

وثانیاً : علی فرض أنّ یکون مفادها « لا یصلح» فهذه أیضاً ظاهرة فی الحرمة ، لأنّ ظهور النهی فی الحرمة ، إلاّ ما ورد فیه الترخیص أو قامت قرینة علی غیرها ، وکلاهما مفقودان فی المقام .

الوجه العاشر : الروایات الآمرة بإعفاء اللحی

عدّة من الروایات تأمرنا بإعفاء اللحی :

منها : مرسلة الصدوق قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : حفّوا الشوارب واعفوا اللّحی ولا تشبّهوا بالیهود(2) .

ومنها : مرسلة اُخری له قال : رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم إنّ المجوس جزّوا لحاهم ووفرّوا شواربهم ، وإنّا نجزّ الشوارب ونعفی اللّحی ، وهی الفطرة(3) .

ورواهما مرسلاً العلامة فی التذکرة(4) والشهید فی الذکری(5) ونجل الطبرسی فی مکارم الأخلاق(6) ، ونقل عنه فی بحار الأنوار(7) .

ومنها : خبر علی بن غراب عن جعفر علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن جده علیه السلام قال :

قال

ص:50


1- (6) وهو الفقیه السید عبد الأعلی السبزواری فی مهذب الأحکام 16 / 80 .
2- (1) الفقیه 1 / 130 ح 329 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 116 ح 1 الباب 67 من أبواب آداب الحمام .
3- (2) الفقیه 1 / 130 ح 331 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 116 ح 2 .
4- (3) تذکرة الفقهاء 2 / 253 .
5- (4) ذکری الشیعة 1 / 159 .
6- (5) مکارم الأخلاق 1 / 156 .
7- (6) بحار الأنوار 73 / 112 (30 / 192 ح 14) .

رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : حفّوا الشوارب واعفوا اللحی ولا تشبّهوا بالمجوس(1) .

ومنها : مرسلة القاضی نعمان المصری قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : قصوا سبالکم و وفّروا عثانینکم وخالفوا أهل الکتاب(2) .

السبال : جمع سبَلة وهی الشارب . العُثْنُون : اللحیة .

ومنها : مرسلة الشیخ أبی الفتوح الرازی قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : احفوا

الشوارب واعفوا اللّحی(3) .

ومنها : خبر جابر قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لیس منّا من سلق ولا خرق ولا حلق(4) .

سلقه بلسانه : خاطبه بما یکره . الخُرق : الجهل والحمق . وقال الأحسائی : الحلق هی حلق اللحیة .

ومنها : قال النوری : قال الکازرونی فی المنتقی فی حوادث السنة السادسة بعد ذکر کتابة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم إلی الملوک : وأنّه کتب کسری إلی عامل الیمن بازان أن یبعثه إلیه ، وأنّه بعث کاتبه بانویه ورجلاً آخر یقال له : خرخسک إلیه صلی الله علیه و آله وسلم ، قال : وکانا قد دخلا علی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم وقد حلقا لحاهما وأعفیا شواربهما ، فکره النظر إلیهما وقال : ویلکما من أمرکما بهذا ؟ قالا : أمرنا بهذا ربّنا _ یعنیان کسری _ فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لکن ربّی أمرنی بإعفاء لحیتی وقصّ شاربی ، الخبر(5) .

أقول : روی نحوها الطبری فی تاریخه(6) وابن الأثیر فی

« الکامل فی

ص:51


1- (7) معانی الأخبار / 291 ح 1 ونقلاً عنه فی وسائل الشیعة 2 / 116 ح 3 وبحار الأنوار 73 / 111 ح 10 (30 / 191) .
2- (8) دعائم الاسلام 1 / 125 ونقل عنه العلامة البلاغی فی رسالته فی حرمة حلق اللحیة / 144 .
3- (1) روض الجنان 1 / 287 .
4- (2) عوالی اللآلی 1 / 111 ح 19 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 1 / 406 ح 2 .
5- (3) مستدرک الوسائل 1 / 407 .
6- (4) تاریخ الطبری 3 / 1573 .

التاریخ»(1) .

وقد روی بطرق العامة أیضاً الأمر بإعفاء اللحی ، فإن شئت راجع فی هذا المجال رسالة العلاّمة البلاغی فی حرمة حلق اللحیة(2) والغدیر(3) للعلامة الأمینی .

وبعد مراجعة روایات الفریقین فی المقام ، لا محیص لنا من الإذعان بصدور الأمر بالإعفاء من رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم والأئمة علیهم السلام من أهل بیته ، کما اعترف بعض الأساتیذ _ مدظله _ بأنّها « مستفیضة من طرق الفریقین»(4) . فما فی مصباح الفقاهة من : « أنّها ضعیفة السند»(5) غیر تام .

وأمّا دلالتها : ورد الأمر بالإعفاء والتوفیر بالنسبة إلی اللحیة ، والإعفاء مستلزم

لإبقائه وعدم حلقه ، والأمر بالإعفاء یستلزم وجود اللحیة وإبقائها وعدم حلقها ، فالروایات تدلّ علی الأمرین : لزوم التوفیر استحباباً ولزوم إبقاء اللحیة ووجودها وجوباً . وهکذا استفاد العلامة الفیض قدس سره من الروایات حیث قال : « فَذِکْر الإعفاء عقیب الإحفاء ثمّ النهی عن التشبّه بالیهود دلیل علی أنّ المراد بالإعفاء أن لا یستأصل ویؤخذ منها من دون استقصاء بل مع توفیر وإبقاء ... »(6) .

وتبعه العلامة البلاغی فی الاستفادة من هذه الروایات واستنتج حرمة الحلق منها ، فراجع رسالته فی حرمة حلق اللحیة(7) .

وذکر بعض الأساتیذ _ مدظله _ ما ذکرناه بعنوان احتمال فی رسالته(8)

ص:53


1- (5) الکامل فی التاریخ 2 / 214 .
2- (6) رسالة فی حرمة حلق اللحیة / (149 _ 139) .
3- (7) الغدیر 11 / (151 _ 149) الطبعة الأولی .
4- (8) منیة الطالب فی حکم اللحیة والشارب / 30 ودراسات فی المکاسب المحرمة 3 / 118 .
5- (9) مصباح الفقاهة 1 / 259 .
6- (1) الوافی 6 / 658 .
7- (2) رسالة فی حرمة حلق اللحیة / 149 .
8- (3) منیة الطالب فی حکم اللحیة والشارب / 35 .

وکتابه(1) .

والحاصل ، أنّ الروایات الآمرة بالإعفاء تدلّ علی وجوب وجود اللحیة للمسلم ، فلیس له حلقها . نعم : غایة الأمر أنّ توفیرها وتطویلها لیس بواجب ، لما ورد من جواز تقصیرها وإصلاحها وتدویرها .

وبالجملة ، تلک عشرة کاملة من الأدلة التی أقیمت علی حرمة حلق اللحیة ، وقد عرفت تمامیة بعضها والمناقشة فی بعضها الآخر ، وأمّا اللاتی تمت فهیّ عندنا :

1 _ سیرة المتشرعة وارتکازهم

2 _ الإطلاق الوارد فی الآیة من حرمة تغییر الخلقة

3 _ صحیحة البزنطی

4 _ الروایات الآمرة بإعفاء اللحی .

وهذه الأدلة الأربعة تدلّ علی حرمة حلق اللحیة .

ثم إن هاهنا فروعاً لابدّ من التنبیه علیها

الفرع الأوّل : الاکتساب بحلق اللحیة

حیث ذهبنا إلی حرمة حلق اللحیة ، فالإکتساب بها أیضاً حرام ، یعنی أخذ الأجرة فی

مقابل حلق اللحیة حرام ، فیدخل فی المکاسب المحرمة .

الفرع الثانی : هل یجوز حلقها مادام لم یصدق علیها اللحیة ؟

إذا لم یصدق علی الشعر النابت علی الوجه بأنها لحیةٌ یجوز حلقها ، لأنّها لیست بلحیة ، نحو الشعر النابت علی وجوه الأطفال الذین لم یبلغوا الحُلُم ، وأمّا إذا کانت کثیفة کثیرة بحیث صدقت علیها أنها لحیة عرفاً فلا یجوز حلقها . وأمّا بالنسبة إلی البالغین الذین لهم لحی ولکنهم حلقوها کلّ یوم لم یصدق علی النابت اللحیة ، یصدق علی فعلهم الحلق عرفاً ، فلذا یکون فعلهم هذا حراماً ، مضافاً إلی أنّ الواجب علی المسلم کونه ذا لحیة ، وهو لیس کذلک ،

ص:53


1- (4) دراسات فی المکاسب المحرمة 3 / 121 .

ففعله حرام .

الفرع الثالث : هل یجوز حلق العارضین وإبقاء ما علی الذقن ؟

قد مرّ منّا فی ذیل صحیحة البزنطی أنّ المراد من الأخذ فیها الحلق ، فالصحیحة تدلّ علی جواز هذه الکیفیة من اللحیة ، فیجوز حلق العارضین وإبقاءما علی الذقن .

مضافاً إلی أن العرف یراهم ذا لحیة ، لا الحالق لها . ونفس هذا یکفی فی جواز عملهم ، لأنّ ما وجب علی المسلم کونه ذا لحیة کما حملنا الروایات الآمرة بإعفاء اللحی علی ذلک ، وهذا ذو لحیة عند العرف .

نعم ، الأحوط الإجتناب عنه کما هو واضح .

الفرع الرابع : هل تسقط حرمة حلق اللحیة ؟

حیث ذهبنا إلی حرمة حلق اللحیة فصارت کغیرها من التکالیف المحرّمة ، بحیث تسقط عند الاضطرار أو الإکراه أو المزاحمة بتکلیف آخر أهم منها ، ففی کلّ هذه الصور تسقط الحرمة کما فی غیرها من المحرّمات ، ونبّه علی هذا الفرع شیخنا الاُستاذ(1) _ مدظله _ .

الفرع الخامس : هل یفرق بین الحلق والنتف وغیرهما ممّا یوجب إزالة الشعر ؟

الظاهر أنّ موضوع حرمة حلق اللحیة إعدامها ، بأیّ نحو کان ، فعلیه لا یفرق فی إعدام اللحیة وإزالتها بین الحلق والنتف واستعمال الأدویة علیها أو أکل الأقراص لإزالتها وغیرها ممّا یوجب إزالة الشعر عن اللحیة . ونبّه علی هذا الفرع المحقق الخوئی(2) قدس سره .

الفرع السادس : هل للحیة حدٌ فی جانب القلّة والکثرة ؟

فی جانب القلّة لم یرد فی تحدید اللحیة نص خاص ، ولذا یکون المدار فیه علی الصدق

العرفی . وعلی هذا فإذا أخذ المکلف من اللحیة بمثل المکینة والمقراض ونحوهما بحیث لم تصدق اللحیة علی الباقی عرفاً کان فعله حراماً . کما نبّه علیه المحقق الخوئی(3) قدس سره .

ص:54


1- (1) ارشاد الطالب 1 / 148 .
2- (2) مصباح الفقاهة 1 / 262 .
3- (1) مصباح الفقاهة 1 / 262 .

وأمّا فی جانب الکثرة : قد یُستفاد من بعض الروایات النهی عن تجاوز اللحیة عن القبضة :

منها : ما رواه الکلینی فی الصحیح عن محمد بن أبی حمزة عمّن أخبره عن أبی عبداللّه علیه السلام قال : ما زاد علی القبضة ففی النار ، یعنی اللحیة(1) .

ومنها : خبر معلی بن خنیس عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : ما زاد من اللحیة عن القبضة فهو فی النار(2) .

رواها الصدوق مرسلاً فی الفقیه(3) عن الصادق علیه السلام .

ومنها : ما رواه الکلینی فی الصحیح عن یونس عن بعض أصحابه عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی قدر اللحیة ، قال : تقبض بیدک علی اللحیة وتجزّ ما فضل(4) .

رواها الصدوق مرسلاً فی الفقیه(5) عن الصادق علیه السلام .

ومنها : خبر درست عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : مرّ بالنبی صلی الله علیه و آله وسلم رجل طویل اللحیة ، فقال : ما کان علی هذا لو هیّأ من لحیته ، فبلغ ذلک الرجل فهیّأ لحیته بین اللحیتین ثم دخل علی النبی صلی الله علیه و آله وسلم ، فلما رآه قال : هکذا فافعلوا(6) .

ورواها الصدوق فی الفقیه(7) مرسلاً .

ومنها : ما رواه محمد بن محمد بن الأشعث بإسناده إلی الصادق علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن علی علیه السلام إنّه کان یقول : « ما جاوز القبضة من مقدّم اللحیة فجزّوه»(8) .

ص:55


1- (2) الکافی 6 / 487 ح 10 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 112 ح 1 الباب 65 من أبواب آداب الحمام .
2- (3) الکافی 6 / 486 ح 2 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 113 ح 2 .
3- (4) الفقیه 1 / 130 ح 332 .
4- (5) الکافی 6 / 487 ح 3 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 113 ح 3 .
5- (6) الفقیه 1 / 130 ح 334 .
6- (7) الکافی 6 / 488 ح 12 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 111 ح 3 الباب 63 من ابواب آداب الحمام .
7- (8) الفقیه 1 / 130 ح 330 .
8- (9) الجعفریات / 157 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 1 / 404 ح 1 الباب 38 من ابواب آداب الحمام .

وهذه الروایات حددت اللحیة فی جانب الکثرة بالقبضة ، لکنها کلّها ضعاف من حیث السند ، مضافاً إلی الخلاف المنقول(1) فی معنی القبضة ، ولذا لم یفت الأصحاب علی

مفادها ، یعنی حرمة ما زاد عن القبضة .

نعم ، قد یقال بکراهیة ما زاد علی القبضة بهذه الروایات ، وهی لا بأس بها إن أغمضنا عن ضعف أسنادها أو ذهبنا إلی بلوغها مرتبة الاستفاضة کما عن بعض _ الأساتیذ _(2) مدظله .

وفیه : لا یتم القول بالکراهة أیضاً ، لعدم تمامیة التسامح فی أدلتها عندنا ، بل لا یتمّ القول بالتسامح فی أدلة السنن حتّی یقاس المقام بها .

ولعمری کیف ذهب بعض الأعلام إلی الحکم بحرمة ما نقص عن القبضة بهذه الروایات(3) ؟ !

وحمل العلامة البلاغی هذه الروایات علی التشبّه بالیهود(4) . وهو متین وله وجه . وقال بعض الأساتیذ _ مدظله _ : « ولعلّ النظر فی هذه الروایات إلی من کان یرید بذلک التشبّه بالیهود أو رئاء الناس وتغریرهم بلحیته ، کما قد یری فی أعصارنا من بعض مَن یتکلّف لإدخال نفسه فی عداد أهل الفضل بهذه الوسیلة»(5) .

وفیه : أن الروایات وإن تشمل ما ذکره _ مدظله _ بإطلاقها ، ولکن لاوجه لتخصیصها به وتقییدها .

الفرع السابع : حکم الشارب

من السنن المؤکّدة الأخذ من الشارب وإحفائه ، وقد ورد فیه عدّة من الروایات

ص:56


1- (10) راجع الوافی 6 / 656 _ ومهذب الاحکام 16 / 80 .
2- (1) دراسات فی المکاسب المحرمة 3 / 137 .
3- (2) نقل ذلک العلامة الطبسی قدس سره صاحب المنیة عن بعض الأعلام من أساتیده ، ثم قال : ولکن لا دلیل علیه . راجع المنیة / 112 .
4- (3) رسالة فی حرمة حلق اللحیة / 158 .
5- (4) منیة الطالب فی حکم اللحیة والشارب / 67 _ دراسات فی المکاسب المحرمة 3 / 137 .

المستفیضة :

منها : صحیحة علی بن جعفر عن أخیه أبی الحسن علیه السلام قال : سألته عن قصّ الشارب أمن السنة ؟ قال : نعم(1) .

ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إنّ من السنة أن تأخذ من الشارب حتّی یبلغ الإطار(2) .

الإطار _ ککتاب _ : ما یفصل بین الشفة وبین شعرات الشارب ، وکلّ شیء أحاط بشیءٍ فهو إطار له .

ومنها : معتبرة اُخری للسکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لا یطوّلنَّ أحدکم شاربه ، فإنّ الشیطان یتّخذها مخبأ یستتر به(3) .

رواها فی الفقیه(4) مرسلاً عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم .

ومنها : موثق ابن فضال عمّن ذکره عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : ذکرنا الأخذ من الشارب ، فقال : نُشْرَةٌ وهو من السنة(5) .

ومنها : خبر عبد اللّه بن عثمان أنّه رأی أبا عبد اللّه علیه السلام أحفی شاربه حتّی ألصقه بالعسیب(6) .

العسیب : منبت الشعر .

ومنها : معتبرة ثالثة لإسماعیل بن مسلم السکونی عن جعفر علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : لا یطولنَّ أحدکم شاربه ولا شعر إبطیه ولاعانته ، فإنّ الشیطان یتّخذها

ص:57


1- (5) الکافی 6 / 487 ح 7 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 114 ح 1 الباب 66 من أبواب آداب الحمام .
2- (6) الکافی 6 / 487 ح 6 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 114 ح 2 .
3- (1) الکافی 6 / 487 ح 11 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 114 ح 3 .
4- (2) الفقیه 1 / 127 ح 307 .
5- (3) الکافی 6 / 487 ح 8 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 114 ح 4 .
6- (4) الکافی 6 / 487 ح 9 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 115 ح 5 .

مخائباً یستتر بها(1) .

ومنها : موثقة الحسن بن الجهم قال : قال أبو الحسن موسی علیه السلام : خمس من السنن فی الرأس وخمس فی الجسد ، فأمّا التی فی الرأس : فالسواک ، وأخذ الشارب ، وفرق الشعر ، والمضمضة ، والاستنشاق . وأمّا التی فی الجسد : فالختان ، وحلق العانة ، ونتف الإبطین ، وتقلیم الأظفار ، والإستنجاء(2) .

ومنها : معتبرة مسعدة بن صدقة عن جعفر علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : لیأخذ أحدکم من شاربه والشعر الذی فی أنفه ولیتعاهد نفسه ، فإنّ ذلک یزید فی جماله ، وقال : کفی بالماء طیباً(3) .

ومنها : حسنة حفض ابن البحتری عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : تقلیم الأظفار وأخذ الشارب من الجمعة إلی الجمعة أمانٌ من الجذام(4) .

رواها فی الفقیه(5) مرسلاً إلی الصادق علیه السلام بالنسبة إلی أخذ الشارب فقط .

ومنها : خبر أبی کهمش قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : علّمنی دعاءً استنزل به الرزق . فقال لی : خذ من شاربک وأظفارک ولیکن ذلک فی یوم الجمعة(6) .

وأیضاً روی الصدوق مثلها فی الدلالة فی الفقیه(7) ، وهی صحیحة عبد اللّه بن أبی یعفور .

هذه الروایات المعتبرة تدلّ بوضوح علی أنّ الأخذ من الشارب والمبالغة فی إحفائه

ص:58


1- (5) علل الشرائع / 519 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 115 ح 6 .
2- (6) الخصال 1 / 271 ح 11 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 11 ح 23 ، الباب 1 من أبواب السواک .
3- (7) قرب الإسناد / 67 ح 215 و 216 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 2 / 118 ح 2 الباب 68 من أبواب آداب الحمام .
4- (1) الخصال 1 / 39 ح 24 ونقل عنه فی بحار الأنوار 73 / 110 ح 4 (30 / 190) .
5- (2) الفقیه 1 / 127 ح 305 .
6- (3) الخصال 1 / 391 ح 86 وثواب الأعمال / 43 ونقل عنهما فی بحار الأنوار 73 / 110 ح 5 (30 / 190) .
7- (4) الفقیه 1 / 127 ح 310 .

وقصّه من السنن المؤکدة فی الشریعة المقدسة ، فإعفاؤه مع نسبة هذه الإعفاء إلی الشریعة أو المعصومین علیهم السلام تکون من أظهر مصادیق التشریع المحرّم أو الإفتراء والکذب علی المعصومین علیهم السلام ، کما یظهر ذلک من بعض طوائف الصوفیة خذ لهم اللّه تعالی ونجا دینه منهم .

ص:59

الربا

اشارة

لم یتعرض الشیخ الأعظم قدس سره لبحث الربا فی المکاسب المحرمة وتبعه أکثر الأصحاب قدس سرهم من بعده ، ولکن ینبغی التعرض لهذا البحث لکثرة إبتلاء الناس به من دون قصد منهم إلی ذلک أو معه .

ولأنّه من المکاسب ولذا قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی شأنه : شر المکاسب کسب الربا کما فی مرسلة الصدوق(1) ، أو قال صلی الله علیه و آله وسلم : أخبث المکاسب کسب الربا کما فی خبر سعد بن طریف(2) ، أو قال صلی الله علیه و آله وسلم : شر الکسب کسب الربا کما فی موثقة ابن فضال(3) .

فنتعرض له مع کمال الإختصار والإیجاز وللتطویل والتفصیل محلٌّ آخرٌ بحیث یمکن تدوین کتاب مستقل تحت عنوان « کتاب الربا » ، کما عمله الشهید فی الدروس(4) والسید الیزدی فی العروة الوثقی(5) .

فنقول بعونه تعالی : الربا فی اللغة « الزیادة» کما فی قوله تعالی : «فَلاَ یَرْبُو عِندَ اللَّهِ»(6) وأخذ من قولهم : ربا الشیء یربو : إذا زاد ، والربا هو الزیادة علی رأس المال ، وأربی الرجل : إذا عامل فی الربا . ویأتی موضوعه فی الشریعة المقدسة إن شاء اللّه تعالی .

تدل علی حرمة الربا :

من الکتاب :

آیات منها : قوله تعالی فی سورة البقرة : «الَّذِینَ یَأْکُلُونَ الرِّبَا لاَ یَقُومُونَ إِلاَّ کَمَا یَقُومُ

ص:60


1- (1) وسائل الشیعة 18 / 122 ح 13 الباب 1 من أبواب الربا .
2- (2) وسائل الشیعة 18 / 118 ح 2 .
3- (3) مستدرک الوسائل 13 / 329 ح 1 الباب 1 من أبواب الربا .
4- (4) الدروس 3 / 291 .
5- (5) العروة الوثقی 6 / 5 طبع جماعة المدرسین عام 1423 .
6- (6) سورة الروم / 39 .

الَّذِی یَتَخَبَّطُهُ الشَّیْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِکَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَیْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَیْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَیَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَی اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِکَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِیهَا خَالِدُونَ * یَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَیُرْبِی الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ یُحِبُّ

کُلَّ کَفَّارٍ أَثِیمٍ»(1) .

التخبط من الخبط وهو الضرب علی غیر استواءٍ ، ویقال للذی یتصرف فی أمرٍ ولا یهتدی فیه : هو یخبط ، والتخبط : المسّ بالجنون .

وقد فُسر الموعظة هنا فی الروایات بالتوبة ، کما فی صحیحة محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام فی حدیث قال : الموعظة : التوبة(2) .

ومنها : قوله تعالی فیها : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِیَ مِنَ الرِّبَا إِن کُنتُم مُّؤْمِنِینَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَکُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِکُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ»(3) .

قال الشیخ الطوسی قدس سره : « روی عن أبی جعفر علیه السلام أنّ الولید بن المغیرة کان یربی فی الجاهلیة وقد بقی له بقایا علی ثقیف ، فأراد خالد بن الولید المطالبة بها بعد أن أسلم فنزلت الآیة فی المنع من ذلک »(4) .

ورواها الطبرسی فی مجمع البیان(5) .

وقال علی بن ابراهیم القمی : « سبب نزولها أنّه لمّا أنزل اللّه : «الَّذِینَ یَأْکُلُونَ الرِّبَا لاَ یَقُومُونَ إِلاَّ کَمَا یَقُومُ الَّذِی یَتَخَبَّطُهُ الشَّیْطَانُ مِنَ الْمَسِّ»قام خالد بن الولید إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم وقال : یا رسول اللّه أربی أبی فی ثقیف وقد أوصانی عند موته بأخذه ، فأنزل اللّه تبارک وتعالی : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِیَ مِنَ الرِّبَا إِن کُنتُم مُّؤْمِنِینَ *

ص:61


1- (1) سورة البقرة 276 و 275 .
2- (2) التهذیب 7 / 15 ح 68 ونقل عنه فی البرهان 1 / 554 ح 4 .
3- (3) سورة البقرة / 278 و 279 .
4- (4) التبیان 2 / 365 .
5- (5) مجمع البیان 1 / 392 .

فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ» فقال : من أخذ الربا وجب علیه القتل وکلّ من أربی وجب علیه القتل »(1) .

وقال الطبرسی : « روی عن ابن عباس وابن عمر : أن آخر ما نزلت من القرآن آی الربا »(2) .

ومنها : قوله تعالی فی سورة آل عمران : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ لاَ تَأْکُلُواْ الرِّبَا

أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّکُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِی أُعِدَّتْ لِلْکَافِرِینَ»(3) .

ومنها : قوله تعالی حکایة عن فعل الیهود : «فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِینَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَیْهِمْ طَیِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِیلِ اللّهِ کَثِیراً * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَکْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْکَافِرِینَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِیماً»(4) .

ومن السنة :

عدّة من الروایات المستفیضة بل المتواترة تدلّ علی حرمته :

منها : ما رواه المشایخ الثلاثة بسند صحیح عن هشام بن سالم الثقة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : درهم ربا [ عند اللّه کما فی الفقیه ] أشدّ من سبعین زنیة کلّها بذات محرّم(5) .

ومنها : موثقة سماعة قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : إنّی رأیت اللّه تعالی قد ذکر الربا فی غیر آیة وکرره . قال : أو تدری ولم ذاک ؟ قلت : لا ، قال : لئلا یمتنع الناس من اصطناع المعروف(6) .

ومنها : موثقة زرارة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قلت له : إنّی سمعت اللّه یقول : «یَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَیُرْبِی الصَّدَقَاتِ»وقد أری من یأکل الربا یربوا ماله ! فقال : أیّ محق

ص:62


1- (6) تفسیر القمی 1 / 93 ونقل عنه فی البرهان 1 / 557 ح 5 .
2- (7) مجمع البیان 1 / 394 .
3- (1) سورة آل عمران / 131 و 130 .
4- (2) سورة النساء / 161 و 160 .
5- (3) وسائل الشیعة 18 / 117 ح 1 الباب 1 من أبواب الربا .
6- (4) وسائل الشیعة 18 / 118 ح 3 .

أمحق من درهم ربا یمحق الدین ، وإن تاب منه ذهب ماله وافتقر(1) .

ومنها : صحیحة هشام بن الحکم أنّه سأل أبا عبد اللّه علیه السلام عن علة تحریم الربا ؟ قال : إنّه لو کان الربا حلالاً لترک الناس التجارات وما یحتاجون إلیه ، فحرّم اللّه الربا لتنفر الناس من الحرام إلی الحلال وإلی التجارات من البیع والشراء ، فیبقی ذلک بینهم فی القرض(2) .

ومنها : خبر ابن عباس فی آخر خطبة خطبها رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم بالمدینة : ... ومن أکل الربا ملأ اللّه بطنه من نار جهنم بقدر ما أکل ، وإن اکتسب منه مالاً لا یقبل اللّه تعالی منه شیئاً من عمله ، ولم یزل فی لعنة اللّه والملائکة ما کان عنده منه قیراطٌ [ واحدٌ (3)] .

ومنها : صحیحة هشام عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لمّا اُسری بی إلی السماء رأیت قوماً یرید أحدهم أن یقوم ولا یقدر علیه من عظم بطنه ، قال : قلت : من هؤلاء یا جبرئیل ؟ قال : هؤلاء الذین یأکلون الربا(4) .

ومنها : صحیحة جمیل عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الربا سبعون باباً أهونها عند اللّه کالذی ینکح اُمّه(5) .

ومنها : صحیحة اُخری له عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : درهم ربا أعظم عند اللّه من سبعین زنیّة کلّها بذات محرّم فی بیت اللّه الحرام(6) .

ومنها : موثقة ابن بکیر قال : بلغ أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل أنّه کان یأکل الربا ویسمیه اللباء ، فقال : لئن أمکننی اللّه منه لأضربنَّ عنقه(7) .

اللباء : أوّل اللبن من النتاج .

ص:63


1- (5) وسائل الشیعة 18 / 119 ح 7 .
2- (6) وسائل الشیعة 18 / 120 ح 8 .
3- (7) عقاب الأعمال / 336 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 122 ح 15 .
4- (1) تفسیر القمی 1 / 93 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 123 ح 16 .
5- (2) تفسیر القمی 1 / 93 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 123 ح 18 .
6- (3) تفسیر القمی 1 / 93 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 123 ح 19 .
7- (4) وسائل الشیعة 18 / 125 ح 1 . الباب 2 من أبواب الربا .

ومنها : معتبرة عمرو بن خالد عن زید بن علی عن آبائه علیهم السلام عن علی علیه السلام قال : لعن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : الربا وآکله وبائعه ومشتریه وکاتبه وشاهدیه(1) .

تلک عشرة کاملة من الروایات تدلّ علی حرمة الربا ، وقد مرّ أنها مستفیضة أو متواترة .

ومن الإجماع :

قام إجماع المؤمنین بل المسلمین علی حرمته ، بل لا یبعد کونه من ضروریات الدین ، کما صرح بذلک صاحب الجواهر قدس سره (2) .

ومن العقل :

حکم العقل أیضاً یقتضی فساد الربا وحرمته ، لأنّ الربا یوجب تعطیل التجارات والأسواق ویصل بعض الناس إلی حدّ الإفلاس کما شاهدناهم فی هذه الأزمان ، وبعضهم یتقاضی أرباحاً کثیرة من دون عمل أو تجارة أو خدمة . وبالجملة الربا یحرّف مسیرة اقتصاد المجتمع السالم إلی الفساد . وفیه مضافاً إلی المفاسد الإقتصادیة کثیرٌ من المفاسد الاجتماعیة بل المفاسد السیاسیة .

ولعله أشارت إلی ما ذکرنا بعض الروایات الماضیة ، نحو : موثقة سماعة(3) وصحیحة هشام بن الحکم(4) ، ونحوهما خبر محمد بن سنان عن علی بن موسی الرضا علیه السلام أنّه کتب فی جواب مسائله : وعلّة تحریم الربا نهی اللّه عزّ وجل عنه ، ولما فیه من فساد الأموال ، لأنّ الإنسان إذا اشتری الدرهم بالدرهمین کان ثمن الدرهم درهماً وثمن الآخر باطلاً ، فبیع الربا وشراؤه وَکْسٌ علی کل حالٍ علی المشتری وعلی البائع ، فحرّم اللّه عزّ وجل علی العباد الربا لعلّة فساد الأموال ، کما حظر علی السفیه أن یدفع إلیه ماله ، لما یتخوّف علیه من فساده حتّی یؤنس منه رشد ، فلهذه العلّة حرم اللّه عزّ وجل الربا وبیع الدرهم بالدرهمین ، وعلّة تحریم

ص:64


1- (5) وسائل الشیعة 18 / 127 ح 2 . الباب 4 من أبواب الربا .
2- (6) الجواهر 23 / 332 ، و 25 / 5 .
3- (1) وسائل الشیعة 18 / 118 ح 3 .
4- (2) وسائل الشیعة 18 / 120 ح 8 .

الربا بعد البینة لما فیه من الاستخفاف بالحرام المحرَّم ، وهی کبیرة بعد البیان وتحریم اللّه عزّ وجل لها ، لم یکن إلاّ استخفافاً منه بالمحرِّم الحرام ، والاستخاف بذلک دخول فی الکفر ، وعلّة تحریم الربا بالنسیئة لعلّة ذهاب المعروف وتلف الأموال ورغبة الناس فی الربح وترکهم القرض ، والقرض صنائع المعروف ، ولما فی ذلک من الفساد والظلم وفناء الأموال ، الحدیث(1) .

وَکْسُ الشیء : نقصه ، وَکَس التاجر فی تجارته : خسر فی تجارته فذهب ماله .

والحاصل ، إن العقل حاکم بحرمة الربا ، لأنّه یوجب فساد اقتصاد المجتمع الإنسانی ، وما یوجب فساده یوجب هدم المجتمع وفساده ولعله إلی ما ذکرنا أشارت مرسلة الطبرسی عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : إذا أراد اللّه بقریة هلاکاً ظهر فیهم الربا(2) .

ومرسلة القطب الراوندی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : إذا ظهر الزنا والربا فی قریة اُذِنَ فی هلاکها(3) .

ثمّ إنّ للربا قسمین رئیسیین ، وهما : 1 _ الربا فی القرض ، 2 _ الربا فی البیع أو المعاملة .

فلذا نبحث عنه فی مقامین باختصار و إجمال ، وتفصیلهما فی کتابی القرض والبیع .

ص: 65


1- (3) وسائل الشیعة 18 / 121 ح 11 الباب 1 من أبواب الربا .
2- (4) مجمع البیان 1 / 390 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 123 ح 17 .
3- (5) مستدرک الوسائل 13 / 332 ح 11 .

المقام الأوّل : الربا فی القرض

اشارة

اشتراط الزیادة والنفع فی القرض حرام لأنّه رباً :

قال ثانی الشهیدین ذیل قول المحقق : « فلو شرط النفع حرم» قال : « هذا الحکم إجماعیٌ»(1) .

وقال المحقق السبزواری : « لا أعلم فیه خلافاً بینهم»(2) .

وقال صاحب الحدائق : « لا خلاف بین الأصحاب رضوان اللّه تعالی علیهم فی تحریم اشتراط النفع فی القرض ، بل نقل بعض محققی متأخری المتأخرین إجماع المسلمین علی ذلک»(3) .

وتبعهم صاحب الجواهر وقال : « بلا خلاف فیه ، بل إجماع بقسمیه علیه ، بل ربّما قیل : إنّه إجماع المسلمین لأنّه رباً»(4) .

تدلّ علی الحرمة الإجماع وأنّه رباً وما مرّ منّا من الأدلة فی تحریم الربا .

ونبحث هذا المقام فی ضمن جهات :

الجهة الأولی :

هذه المنفعة تکون تارة فی الزیادة العینیة من نفس الجنس ، یعنی من جنس مال القرض ، کما إذا أقرض من شخص لآخر مائة درهم علی أن یؤدی مائة وعشرة دراهم ، تدلّ علی حرمتها عدّة من الروایات :

منها : صحیحة علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال : وسألته عن رجل أعطی رجلاً مائة درهم علی أن یعطیه خمسه دراهم أو أقل أو أکثر ؟ قال : هذا الربا المحض(5) .

ص:66


1- (1) المسالک 3 / 443 .
2- (2) کفایة الفقه 1 / 528 .
3- (3) الحدائق 20 / 110 .
4- (4) الجواهر 25 / 5 .
5- (5) مسائل علی بن جعفر / 125 ح 90 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 359 ح 18 الباب 19 من أبواب الدین والقرض .

ومنها : خبر خالد بن الحجاج قال : سألته عن الرجل کانت لی علیه مائة درهم عدداً قضانیها مائة درهم وزناً ؟ قال : لا بأس ما لم یشترط . قال : وقال : جاء الربا من قبل الشروط ، إنّما یفسده الشروط(1) .

الروایة ضعیفة سنداً بخالد بن الحجاج لأنّه إمامی مجهولٌ ، وهی مضمرةٌ .

ومنها : ما رواه المشایخ الثلاثة بسند صحیح عن الحلبی الثقة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الرجل یستقرض الدراهم البیض عدداً ثم یعطی سوداً [ وزناً ] ، وقد عرف أنّها أثقل ممّا أخذ وتطیب نفسه أن یجعل له فضلها ؟ قال : لا بأس به إذا لم یکن فیه شرط ، ولو وهبها له کلّها صلح(2) .

یعنی : إذا کان بینهما شرط فی أخذ الزیادة من الدراهم ففیه بأس أی حرام .

ونظیرها سنداً ودلالة صحیحة اُخری له عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إذا أقرضت الدراهم ثم أتاک بخیر منها فلا بأس إذا لم یکن بینکما شرط(3) .

ومنها : حسنة أبی الربیع العنزی الشامی - وهو خالد أو خلید بن أوفی - قال : سئل أبو عبد اللّه علیه السلام عن رجل أقرض رجلاً دراهم فردّ علیه أجود منها بطیبة نفسه وقد علم المستقرض والقارض أنّه إنّما أقرضه لیعطیه أجود منها ؟ قال : لا بأس إذا طابت نفس المستقرض(4) .

سند الروایة حسنٌ کما مرّ ، لأن ابن جریر حسن وأبی الربیع فی أعلی مراتب الحسن ، وغیرهما من رجال السند کلّهم ثقات .

وأمّا دلالتها علی جواز إعطاء الأجود أو الأکثر وقبضه ، حتی إذا علم القارض أنّ المستقرض یعطیه عند الأداء الأجود ، فیجوز له القرض والأخذ والقبض عند الأداء مادام لم یشترط شیئاً ، ولا فرق بین الأجود والأکثر کما هو واضح .

ص:67


1- (6) وسائل الشیعة 18 / 190 ح 1 الباب 12 من أبواب الصرف .
2- (1) وسائل الشیعة 18 / 191 ح 2 .
3- (2) وسائل الشیعة 18 / 191 ح 3 .
4- (3) وسائل الشیعة 18 / 192 ح 4 .

ومنها : صحیحة یعقوب بن شعیب التی رواها المشایخ الثلاثة : أنّه سأل أبا جعفر علیه السلام عن الرجل یکون لی علیه جلّة من بسرفآخذ منه جلّة من رطب مکانها وهی أقل منها ؟ قال : لا بأس . قال : قلت : فیکون لی جلّة من بسرفآخذ مکانها جلّة من تمر وهی أکثر منها ؟ قال : لا بأس إذا کان معروفاً بینکما(1) .

الجلّة : وعاء التمر . أجاز الإمام علیه السلام أخذ الأکثر إذا کان بنحو المعروف ، یعنی طابت

نفس المستقرض بإعطائها ، ولا یجوز الأخذ إذا کان بنحو الإشتراط .

ویکفی هذه الأدلة فی حرمة الزیادة العینیة .

الجهة الثانیة :

وتارة الزیادة تکون من غیر جنس مال القرض ، سواء کانت بنحو العینیة - کما إذا أقرضه مائة درهم علی أن یعطیه مائة درهم وخمسة دنانیر - أو کانت عملاً نحو خیاطة ثوب ، أو کانت منفعة أو انتفاعاً کالانتفاع بالعین المرهونة عنده . تدلّ علی حرمتها أیضاً عدّة من الروایات :

منها : صحیحة محمد بن قیس عن أبی جعفر علیه السلام قال : من أقرض رجلاً ورقاً فلا یشترط إلاّ مثلها ، فإن جوزی أجود منها فلیقبل ، ولا یأخذ أحدٌ منکم رکوب دابة أو عاریة متاع یشترطه من أجل قرض ورقه(2) .

دلالة الصحیحة علی حرمة الزیادة من غیر الجنس - نحو رکوب دابة أو عاریة متاع - واضحة .

ومنها : خبر إسحاق بن عمار عن أبی الحسن علیه السلام قال : سألته عن الرجل یکون له مع رجل مال قرضاً فیعطیه الشیء من ربحه مخافة أن یقطع ذلک عنه ، فیأخذ ماله من غیر أن یکون شرط علیه ؟ قال : لا بأس بذلک مالم یکن شرطاً(3) .

دلالة الروایة واضحة ، لأن الشیء من الربح بإطلاقه یشمل غیر المال أیضاً ، فإذا

ص:68


1- (4) وسائل الشیعة 18 / 301 ح 7 . الباب 9 من أبواب السلف .
2- (1) وسائل الشیعة 18 / 357 ح 11 . الباب 19 من أبواب الدین والقرض .
3- (2) وسائل الشیعة 18 / 354 ح 3 .

شُرط یصیر حراماً . ولکن فی السند ضعف بموسی بن سعدان .

ومنها : موثقة له أیضاً قال : قلت لأبی إبراهیم علیه السلام : الرجل یکون له علی الرجل المال قرضاً فیطول مکثه عند الرجل لا یدخل علی صاحبه منه منفعة فینیله الرجل الشیء بعد الشی کراهیة أن یأخذ ماله حیث لا یصیب منه منفعة ، أیحلّ ذلک له ؟ قال : لا بأس إذا لم یکن بشرط(1) .

دلالتها نحو روایته الاُخری .

ومنها : موثقة أبی بصیر عن أبی جعفر علیه السلام قال : قلت له : الرجل یأتیه النبط بأحمالهم فیبیعها لهم بالأجر ، فیقولون له : أقرضنا دنانیر فإنّا نجد من یبیع لنا غیرک ، ولکنّا

نخصّک بأحمالنا من أجل أنّک تقرضنا ، فقال : لا بأس به ، إنّما یأخذ دنانیر مثل دنانیره ، ولیس بثوب إن لبسه کسر ثمنه ولا دابة إن رکبها کسرها ، وإنما هو معروف یصنعه إلیهم(2) .

الجهة الثالثة :

الزیادة یمکن أن تکون زیادة وصفیة غیر راجعة إلی الکمیّة ، مثل کون أحدهما فضة تبر والآخر مضروبة ، أو أن یقرضه دنانیر مکسورة علی أن یؤدیها صحیحاً . قد نقل عن بعض الأصحاب(3) قدس سرهم جوازها ، ولکن تدلّ علی حرمتها عدّة من الروایات :

منها : خبر داود الأبزاری عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لا یصلح أن تقرض ثمرة وتأخذ أجود منها بأرض اُخری غیر التی أقرضت فیها(4) .

سند الروایة ضعیف بداود لأنّه أمامی مجهول ، وأمّا دلالتها واضحة ، إذ یمکن فرض الجودة فی الثمرة مع عدم اختلاف فی الوزن . وأمّا شرط أداء القرض فی الأرض الاُخری فلا

ص:69


1- (3) وسائل الشیعة 18 / 357 ح 13 .
2- (1) وسائل الشیعة 18 / 356 ح 10 .
3- (2) منهم الشیخ فی النهایة / 312 وأبو الصلاح الحلبی فی الکافی / 331 وابن حمزة فی الوسیلة / 273 ومال إلیه الأردبیلی فی مجمع الفائدة 9 / 66 .
4- (3) وسائل الشیعة 18 / 194 ح 10 . الباب 12 من أبواب الصرف _ وسائل الشیعة 18 / 144 ح 1 الباب 12 من أبواب الربا .

بأس به ، کما یأتی التعرض لذلک فی الجهة الثامنة .

فینحصر إشکال الإمام علیه السلام فی اشتراط أخذ الأجود ،ومن المعلوم أنّ الأجودیة من الزیادة الوصفیة ، وأمّا ظهور کلمة « لا تصلح » فی الحرمة أیضاً واضح ، فدلالة الروایة علی حرمة أخذ الزیادة الوصفیة ظاهرة ، ولکن قد مرّ ضعف سندها .

ومنها : صحیحة عبد الرحمن بن الحجاج قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل یقترض من الرجل الدرهم فیردّ علیه المثقال ، ویستقرض المثقال فیردّ علیه الدراهم ؟ فقال : إذا لم یکن شرط فلا بأس ، وذلک هو الفضل ، إنّ أبی علیه السلام کان یستقرض الدراهم الفسولة فیدخل علیه الدراهم الجیاد فیقول : یا بنیّ ردّها علی الذی استقرضتُها منه ، فأقول : یا أبه إنّ دراهمه کانت فسولة وهذه خیر منها ، فیقول : یا بنیَّ إنّ هذا هو الفضل ، فأعطه إیّاها(1) .

سند الروایة صحیح ، ودلالتها بأنّ محط نظر السائل إلی أنّ الدراهم مضروبة ولکن المثقال فضة تبر ولذا تختلف قیمتها مع تساوی وزنها ، والإمام علیه السلام أجاز أخذ الزیادة من دون اشتراط ومعه فلا .

ومنها : موثقة عبد الملک بن عتبة عن عبد صالح علیه السلام قال : قلت له : الرجل یأتینی یستقرض منّی الدراهم فأوطن نفسی علی أن اُؤخره بها شهراً للذی یتجاوز به عنّی ، فإنّه یأخذ منّی فضة تبر علی أن یعطینی مضروبة ، إلاّ أنّ ذلک وزناً بوزنٍ سواءً ، هل یستقیم هذا ، إلاّ أنّی لا اُسمی له تأخیراً ، إنّما أشهد لها علیه فیرضی ؟ قال : لا اُحبّه(2) .

سند الروایة موثق ، وظهورها فی الإشتراط واضح . وأمّا « لا اُحبّه» هل یُحمل علی الکراهة کما علیه ظاهر اللفظ وذهب إلیه صاحب الوسائل وبعض مشایخنا(3) قدس سره ، أو أنّه یحمل علی الحرمة بقرینة غیرها من الروایات ؟ الظاهر هو الأخیر .

ومنها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إذا أقرضت الدراهم ثم جاءک

ص:70


1- (4) وسائل الشیعة 18 / 193 ح 7 .
2- (1) وسائل الشیعة 18 / 194 ح 9 .
3- (2) الفقیه الورع آیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی قدس سره فی کتابه المکاسب المحرمة / 12 .

بخیر منها فلا بأس إذا لم یکن بینکما شرط(1) .

یعنی إذا کان بینهما شرط ففیه بأس أی حرام .

ولا یعارضها صحیحة یعقوب بن شعیب قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل یقرض الرجل الدراهم الغلة فیأخذ منها الدراهم الطازجیة طیبة بها نفسه ؟ فقال : لا بأس ، وذُکر ذلک عن علی علیه السلام (2) .

الدراهم الطازجیة : الدراهم الجیدة البیض الخالصة . الدراهم الغلة : الدراهم المکسورة وغیر الخالصة .

والمراد بهذه الروایة : جواز الأخذ من المقارض إن طابت نفس المقترض فی الإعطاء من دون إشتراط ، فلا ینافی مع ما ذکرناها ، واللّه العالم .

الجهة الرابعة :

إنّما حرمت الزیادة مع الاشتراط ، وإمّا بدونه فلا بأس بها ، بل تستحب . وتدلّ علیه عدّة من الروایات قد ذکرنا بعضها ضمن الجهات السابقة من البحث ، فلا نعیدها بل نذکر هنا ماورد فی خبر خالد بن الحجاج(3) وصحیحة الحلبی(4) وصحیحة اُخری له(5) وصحیحة

محمد بن قیس(6) وخبر إسحاق بن عمار(7) وموثقته(8) وصحیحة عبد الرحمن بن الحجاج(9) ، وهذه الروایات کلّها قد مرّ ذکرها .

ص:71


1- (3) وسائل الشیعة 18 / 191 ح 3 و 18 / 360 ح 1 الباب 20 من أبواب الدین والقرض .
2- (4) وسائل الشیعة 18 / 192 ح 5 .
3- (5) وسائل الشیعة 18 / 190 ح 1 .
4- (6) وسائل الشیعة 18 / 191 ح 2 .
5- (7) وسائل الشیعة 18 / 191 ح 3 .
6- (1) وسائل الشیعة 18 / 357 ح 11 .
7- (2) وسائل الشیعة 18 / 354 ح 3 .
8- (3) وسائل الشیعة 18 / 357 ح 13 .
9- (4) وسائل الشیعة 18 / 193 ح 7 .

ومنها : معتبرة حفص بن غیاث عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الرباء ان : أحدهما ربا حلال والآخر ، حرام فأمّا الحلال فهو أن یقرض الرجل قرضاً طمعاً أن یزیده ویعوضه بأکثر ممّا أخذه بلا شرط بینهما ، فإن أعطاه أکثر ممّا أخذه بلا شرط بینهما فهو مباح له ولیس له عند اللّه ثواب فیما أقرضه ، وهو قوله عزّ وجل : «فَلاَ یَرْبُوا عِندَ اللَّهِ»(1) ، وأمّا الربا الحرام : فهو الرجل یقرض قرضاً ویشترط أن یردّ أکثر ممّا أخذه فهذا هو الحرام(2) .

ومنها : مرسلة القاضی نعمان المصری عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : من أقرض ورقاً فلا یشترط إلاّ ردّ مثلها ، فإن قُضی أجود منها فلیقبل(3) .

الجهة الخامسة :

هل الحرمة من ناحیة اشتراط الزیادة تصل إلی إصل القرض ویوجب بطلانه وضعاً ؟

قال المحقق فی الشرائع : « فلو شرط النفع حرم ولم یفد الملک»(4) .

وذیّله ثانی الشهیدین بقوله : « هذا الحکم إجماعی ، ومستنده ما روی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : « کلّ قرض یجرّ منفعة فهو حرام»(5) . والمراد مع الشرط ، إذ لا خلاف فی جواز التبرع بالزائد وغیره من الأخبار ... ومتی فسد العقد لم یجز للمقترض أخذه ، فلو قبضه کان مضموناً علیه کالبیع الفاسد ، للقاعدة المشهورة من أنّ « کلّ ما ضمن بصحیحه ضمن بفاسده » خلافاً لابن حمزة هنا ، فإنّه ذهب إلی کونه أمانة(6) ، وهو ضعیف»(7) .

قد عرفت ادعاء الإجماع فی المسألة من صاحب المسالک قدس سره مع إقراره بخلاف ابن

حمزة فی المقام ، واعترض علیه المحدث البحرانی قدس سره وقال : « أمّا ما ذکروه من تحریم الشرط

ص:72


1- (5) سورة الروم / 39 .
2- (6) وسائل الشیعة 18 / 160 ح 1 الباب 18 من أبواب الربا .
3- (7) دعائم الاسلام 2 / 61 ح 169 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 409 ح 2 .
4- (8) شرائع الاسلام 2 / 61 .
5- (9) سنن البیهقی 5 / 350 : وفیه : فهو وجه من وجوه الربا .
6- (10) الوسیلة / 273 .
7- (11) المسالک 3 / 443 .

المذکور فهو ممّا لا إشکال فیه ، وما ذکروه من بطلان أصل العقد فإن کان من حیث اشتماله علی الشرط الفاسد وکلّ عقد کان کذلک فهو باطل ، فقد عرفت الخلاف فی ذلک فیما تقدم ، إلاّ أنّ الظاهر أنّه لیس البطلان هنا عندهم مبنیّاً علی ذلک ، ولهذا إنّما استند شیخنا المتقدم ذکره بعد دعوی الإجماع إلی الخبر النبوی المذکور ، وهو صریح فیما ذکره . إلاّ أنّ الظاهر أنّ الخبر المذکور إنّما هو من طریق العامة ، فإنّی لم أقف علیه بعد التتبع فی شیءٍ من کتب أخبارنا ، وأخبار المسألة المتقدمة علی کثرتها وتعددها لیس فیها إشعار فضلاً عن الدلالة الصریحة ببطلان أصل العقد ، بل الظاهر منها إنّما هو بطلان الشرط ، فإنّ مفهوم نفی البأس مع عدم الشرط فی کثیر ممّا تقدم من الأخبار إنّما توجّه إلی الزیادة کما لا یخفی علی المتأمل فیها»(1) .

ولکن صاحب الجواهر حکم بضعف قول ابن حمزة وقال : « وأضعف منه توقف المحدث البحرانی فی ذلک»(2) . وذهب إلی بطلان القرض مع اشتراط الزیادة وقال : « فیحرم علی المستقرض التصرف فیه ، وهو مضمون علیه لکونه مقبوضاً علی ذلک ، ولأن ما یضمن بصحیحه یضمن بفاسده»(3) .

أقول : إن تمّ الإجماع فی المقام فهو کما ادعاه صاحب المسالک(4) وقبله العلامة فی المختلف قال : « ... للإجماع علی أنّه إذا أقرضه شیئاً وشرط علیه أن یردّ خیراً ممّا أقرضه کان حراماً وبطل القرض ... »(5) .ولکن دون إثباته خرط القتاد ویمکن إرجاع إجماع العلامة قدس سره بالحرمة فقط دون البطلان .

وأمّا ابتناء بطلان القرض علی مسألة فساد الشرط یقتضی فساد العقد أیضاً فغیر تام ، لأن المشهور ذهبوا إلی بطلان القرض مع عدم ذهابهم إلی أن الشرط الفاسد مفسد .

وأمّا التمسک بالنبوی أیضاً غیر تام ، لعدم وروده من طرقنا ، بل ورد من طرقنا جواز

ص:73


1- (1) الحدائق 20 / 117 .
2- (2) الجواهر 25 / 7 .
3- (3) الجواهر 25 / 6 .
4- (4) المسالک 3 / 443 .
5- (5) مختلف الشیعة 5 / 391 .

الإنتفاع بمنفعة القرض من دون اشتراط ، کما فی صحیحة محمد بن مسلم قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل یستقرض من الرجل قرضاً ویعطیه الرهن إمّا خادماً وإمّا آنیة وإمّا ثیاباً ،

فیحتاج إلی شیءٍ من منفعته فیستأذن فیه فیأذن له ؟ قال : إذا طابت نفسه فلا بأس . قلت : إنّ مَنْ عندنا یروون أنّ کلّ قرضٍ یجرّ منفعة فهو فاسد ، فقال : أو لیس خیر القرض ما جرّ منفعة(1) .

والمراد بأبی أیوب فی سند الروایة هو إبراهیم بن عثمان المکنی بأبی أیوب الخزاز الثقة .

وأمّا التمسک بقاعدة « ما یضمن بصحیحه یضمن بفاسده » کما عن صاحب الجواهر فلیس إلاّ مصادرة بالمطلوب ، أعنی أنه یحتاج إلی إثبات فساد القرض أولاً وهو أوّل الکلام ، ثم یرتب علی القاعدة .

فکلّ ما ذکره الأعلام فی المقام من دلیل بطلان القرض مع اشتراط الزیادة غیر تام ، مضافاً إلی عدم ذکر بطلان القرض من رأسه فی روایاتنا کما مرّ الاعتراف بذلک من صاحب الحدائق(2) ، فلابدّ من القول ببطلان شرط الزیادة وصحة القرض . وذهب إلی ما ذکرنا مضافاً إلی صاحب الحدائق(3) ، صاحبا الجواهر(4) والعروة(5) ، واختاره أیضاً العلامة المؤسس الحائری قدس سره فی تقریرات بحثه الشریف(6) ، وتبعه بعض تلامیذه نحو السید الخمینی والشیخ الأراکی قدس سرهم وبعض الأساتیذ(7) _ مدظله _ .

اللهم إلاّ أن یقال : حَکَم الشارع بفساد إشتراط النفع وبطلانه ، فیقتضی هذا بطلان

ص:74


1- (1) وسائل الشیعة 18 / 354 ح 4 الباب 19 من أبواب الدین والقرض .
2- (2) الحدائق 20 / 117 .
3- (3) الحدائق 20 / 118 .
4- (4) الجواهر 23 / 397 ، حیث ذهب إلی وجوب ردّ الزیادة خاصة فی کتاب التجارة ، ولکن اختار البطلان فی کتاب القرض 25 / 6 کما مرّ کلامه آنفاً .
5- (5) العروة الوثقی 6 / 16 .
6- (6) المکاسب المحرمة / 13 بقلم مقرره شیخنا آیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی قدس سره .
7- (7) تازه های أحکام / 54 لمحمد حسن موحدی ساوجی .

نفس القرض ، لأنّ الشارع حکم بفساد الإنتفاع والمقرض أیضاً لا یرضی بالتصرف فی ماله بدون هذا الإنتفاع ، فصار أصل القرض باطلاً .

وفیه : أن إثبات الأحکام الشرعیة بهذه الإستحسانات العقلیة مشکل ، وفیه ما لا یخفی .

والحاصل ، إن ثبت الإجماع فی المقام فهو وإلاّ دون إثباته بالإدلة الماضیة خرط القتاد .

ولکن بطلان شرط الزیادة وحرمة أخذها یُستفاد بوضوح من جملة من الروایات

المذکورة فیما سلف : کصحیحتی الحلبی(1) وصحیحة عبد الرحمن بن الحجاج(2) وخبر خالد بن الحجاج(3) وغیرها ، واللّه العالم .

الجهة السادسة :

إنّما یحرم شرط الزیادة للمقرض علی المقترض لا عکسه .

أدلة حرمة إشتراط النفع فی القرض یختص بصورة اشتراط النفع للمقرض ولکن إذا یصل النفع إلی المقترض فلا یشملها ، ولذا نذهب إلی عدم البأس به ، کما إذا أقرضه مائة درهم علی أن یؤدی تسعین ، أو أقرضه دراهم صحیحة علی أن یؤدی مکسورة ، أو کما خاف المقرض من وجود المال عنده من سرقة أو ضیاع أو أخذه بتوسط ظالم فأقرضه شخصاً وشرط له شیئاً من العین أو المنفعة . ففی کلِّ هذه الموارد حیث ینتقل النفع إلی المقترض حتّی مع الاشتراط فلا بأس بها ویجوز ، لأنّ أدلة حرمة الربا فی القرض تنحصر فی صورة رجوع النفع إلی المقرض فقط ولخروج هذا الفرض عن الربا موضوعاً .

وتدلّ علی الجواز أو تؤیده صحیحة یعقوب بن شعیب أنّه سأل أبا جعفر علیه السلام عن الرجل یکون لی علیه جلّة من بسر فآخذ منه جلّة من رطب مکانها وهی أقل منها ؟ قال : لا بأس ، الحدیث(4) .

ص:75


1- (1) وسائل الشیعة 18 / 191 ح 2 و 3 .
2- (2) وسائل الشیعة 18 / 193 ح 7 .
3- (3) وسائل الشیعة 18 / 190 ح 1 .
4- (4) وسائل الشیعة 18 / 301 ح 7 الباب 9 من أبواب السلف .
الجهة السابعة :

إذا شُرط فی القرض شرطٌ لیس فیه نفع لأحد الطرفین جاز .

لمّا مرّ فیما سلف أنّ أدلة حرمة إشتراط النفع فی القرض تنحصر فیما إذا کان النفع یرجع إلی المقرض فقط ، ففی هذا الفرض حیث لا یرجع نفع إلی المقرض فلا بأس به . مضافاً إلی ما ذکرنا أنه تدلّ علیه موثقة أبی بصیر عن أبی جعفر علیه السلام قال : قلت له : الرجل یأتیه النبط بأحمالهم فیبیعها لهم بالأجر ، فیقولون له : أقرضنا دنانیر فإنّا نجد من یبیع لنا غیرک ولکنّا نخصّک بأحمالنا من أجل إنّک تقرضنا ، فقال علیه السلام : لا بأس به ، إنّما یأخذ دنانیر مثل دنانیره ، ولیس بثوب إن لبسه کسر ثمنه ولا دابّة إن رکبها کسرها ، وإنّما هو معروف یصنعه إلیهم(1) .

فعلی ما ذکرنا یجوز اشتراط کلّ شیءٍ لیس فیه نفع لأحد الطرفین ، مثل اشتراط البیع أو الإجارة بالثمن أو الاُجرة المتعارفین ، لصدق أنّ المقرض یأخذ دراهماً مثل دراهمه .

وهکذا یجوز اشتراط کلّ شیءٍ لا یکون فیه نفعٌ للمقرض ولو کان فیه مصلحة ، له نحو : إعطاء الرهن أو الضّامن أو الکفیل أو الإشهاد ونحوها ، لأنه لیس للمقرض فیه نفعاً وإن کان فیه مصلحة ، لأن المصلحة غیر النفع عرفاً .

الجهة الثامنة :

لو اشترط علی المقترض أداء القرض وتسلیمه فی بلد معین جاز وصح إن کان فیه نفع للمقرض .

اشتراط أداء القرض فی بلد معین غیر بلد الإقراض من طرف المقرض نافذ ولزم علی المقترض أداؤه فی ذلک البلد وإن کان فی حمله إلیه یحتاج إلی مؤنة زائدة ، وهذا النفع - وإن کان یرجع إلی المقرض - ولکن حکمت بصحة هذا القرض الروایات المتعددة :

منها : صحیحة یعقوب بن شعیب عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قلت : یسلف الرجل الورق علی أن ینقدها إیاه بأرض اُخری ویشترط علیه ذلک ؟ قال : لا بأس(2) .

ص:76


1- (5) وسائل الشیعة 18 / 356 ح 10 الباب 19 من أبواب الدین والقرض .
2- (1) وسائل الشیعة 18 / 196 ح 1 الباب 14 من أبواب الصرف .

ومنها : صحیحة أبی الصباح عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی الرجل یبعث بمال إلی أرض ، فقال للذی یرید أن یبعث به : أقرضنیه وأنا اُوفیک إذا قدمت الأرض ، قال علیه السلام : لا بأس(1) .

ومنها : صحیحة أبان فی الرجل یسلف الرجل دراهم ینقدها إیّاه بأرض اُخری ، قال أبو عبد اللّه علیه السلام : لا بأس به(2) .

ومنها : صحیحة إسماعیل بن جابر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قلت : یدفع إلیَّ الرجل الدراهم فأشترط علیه أن یدفعها بأرض اُخری سوداً بوزنها ، وأشترط ذلک علیه ؟ قال : لا بأس(3) .

ومنها : معتبرة عبد الرحمن بن أبی عبد اللّه قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل یُسلف الرجل الدارهم ینقدها إیّاه بأرض اُخری والدراهم عدداً ؟ قال : لا بأس(4) .

ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال أمیر المؤمنین علیه السلام : لا بأس بأن یأخذ الرجل الدراهم بمکة ویکتب لهم سفاتج أن یعطوها بالکوفة(5) .

السفاتج : جمع سُفْتجة ، وهی أن یعطی مالاً لآخر ، وللآخر مال فی بلد المعطی فیوفیه أیّاه هناک ، فیستفید أمن الطریق أو یأمن به خطر الطریق .

ومنها : مرسلة القاضی نعمان المصری عن جعفر بن محمد علیه السلام أنّه رخّص فی السفاتج هی المال یستسلفه الرجل بأرض ویقبضه باُخری(6) .

ومنها : مرسلة اُخری له عن أمیر المؤمین علیه السلام إنّه أعطی مالاً فی المدینة ثم أخذه

ص:77


1- (2) وسائل الشیعة 18 / 196 ح 2 الباب 14 من أبواب الصرف .
2- (3) وسائل الشیعة 18 / 197 ح 4 .
3- (4) وسائل الشیعة 18 / 197 ح 5 .
4- (5) وسائل الشیعة 18 / 197 ح 7 .
5- (1) وسائل الشیعة 18 / 196 ح 3 .
6- (2) دعائم الاسلام 2 / 62 ح 172 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 352 ح 1 الباب 8 من أبواب الصرف .

بأرض اُخری(1) .

ولا ینافی هذه الروایات المتعددة بل المعتبرة المستفیضة خبر داود الأبزاری عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لا یصلح أن تقرض ثمرة وتأخذ أجود منها بأرض اُخری غیر التی أقرضت فیها(2) .

لأنه قد مرّ فی الجهة الثالثة من هذه الجهات :

أولاً : ضعف سندها بداود لأنّه إمامیٌّ مجهولٌ .

وثانیاً : بأنّها تحمل علی أخذ الزیادة الوصفیة مع الاشتراط وحرمتها .

وثالثاً : علی فرض حملها علی ظاهرها لا یمکن مقابلة هذه الروایة الواحدة مع عدّة کثیرة من الروایات المعتبرة المنافیة لها ، فلابدّ من الأخذ بهذه الروایات وحمل هذه الروایة بما مرّ منّا .

والحاصل ، جواز اشتراط أداء القرض فی بلد معین وأخذه فی غیر بلد الإقراض من طرف المقرض .

هذا کلّه إذا اشترط المقرض الدفع إلیه فی بلد معین ، وإلاّ لزم علی المقترض الدفع إلیه فی بلد القرض وعلی المقرض القبول . وأمّا الدفع فی غیر بلد القرض فیحتاج إلی التراضی من

الطرفین ، وإن کان الأحوط للمقترض الأداء مع عدم الضرر وعدم الاحتیاج إلی مؤنة الحمل لو طالبه المقرض فیه ، واللّه سبحانه هو العالم .

الجهة التاسعة :

لا فرق فی اشتراط النفع بین کونه فی عقد القرض أو فی ضمن عقد لازم خارج عنه .

نحو : إقراضه مائة ألف تومان للمقترض إلی سنة کاملة ولکن شرط علیه فی هذا القرض بیع شیءٍ یساوی ألفاً بخمسمائة ، فیصدق علی هذا القرض أنّه یجرّ نفعاً مع الإشتراط

ص:78


1- (3) دعائم الاسلام 2 / 62 ح 171 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 352 ح 1 الباب 8 من أبواب الصرف .
2- (4) وسائل الشیعة 18 / 194 ح 10 ، و وسائل الشیعة 18 / 144 ح 1 .

فیصدق علیه الربا .

أو إقراضه مائة ألف تومان للمقترض إلی سنة کاملة ولکن شرط علیه إجارة داره إلی سنة کاملة ما یساوی بعشرین ألفاً ، بألفٍ فقط ، فهذا أیضاً یصدق علیه إشتراط النفع فی القرض فیصدق علیه الربا .

فکلّ هذه الموارد یصدق علیها عنوان الربا ، وإطلاق أدلة حرمة الاشتراط فی القرض یشمل المقام ، أعنی إذا شُرط فی عقد القرض عقد لازم خارج عنه ، بحیث بعد الإقتراض لابدّ لهما من الإلتزام بالعقد الثانی أیضاً ولیس للمقترض الإختیار فی العقد الثانی ، بل بعد القرض لابدّ له من الوفاء بالعقد الثانی أیضاً وفیه الزیادة أو النفع للمقرض .

وهذا الفرض أیضاً یدخل فی الاشتراط فی القرض ولهذا حرم بإطلاق أدلتها .

الجهة العاشرة : الربا القرضی حرام مطلقاً

قد یُقسّم الربا القرضی إلی قسمین : 1 _ الربا الاستهلاکی

2 _ الربا الاستنتاجی .

وقد یُسمع مِنْ بعض مَنْ عاصرناه(1) بانحصار الحرمة فی القسم الأوّل وجواز الثانی .

والمراد بالربا الاستهلاکی : إذا استقرض شخص من الآخر ولکن هلک المال فی ضروریات حیاته ومعاشه من مصارفه ومخارجه الشخصیة أو العائلیة بحیث لم یبق له من المال شیئاً .

والمراد بالربا الاستنتاجی : أنّه إذا استقرض المال ولکنّه لم یصرفه فی مصارفه

ومخارجه الضروریة بل یجعله رأس ماله ویعمل به ، أو باع به شیئاً من الوسائل أو الدکاکین ویعمل به ، ونحو ذلک بحیث یستثمر المال ویصیر إلی الزیادة یوماً فیوماً .

بعد قبول هذین التعریفین للربا ، یشملهما إطلاق أدلة حرمة الربا ، فلا وجه لتخصیص الحرمة بالأوّل دون الثانی . فالربا القرضی حرام مطلقاً بلا فرق بین الإستهلاکی منه أو

ص:79


1- (1) مجمع المسائل 1 / 384 _ للشیخ یوسف الصانعی دامت برکاته .

الإستنتاجی .

هذا مجمل الکلام فی الربا فی القرض ومحلّ تفصیله فی کتاب القرض ، وفقنا اللّه تعالی لتحریره وبحثه إن شاء اللّه تعالی وله الحمد .

ص: 80

المقام الثانی : الربا فی المعاملة

اشارة

یجری الربا فی البیع مع شرطین فی الثمن والمثمن : 1 _ الإتحاد فی الجنس ، 2 _ وکونهما من المکیل أو الموزون إذا باع بالتفاضل .

الشرط الأوّل : الاتحاد فی الجنس

وهو أن یصدق علی الثمن والمثمن أنّهما من جنس واحد ، ویشملهما اللفظ الخاص الکاشف عن اتحاد حقیقتهما النوعیة ، فکلّ ما یصدق علیه الحنطة أو الاُرز أو العنب أو التمر أو نحوها جنس واحد وإن اختلفت صفاتها وخواصّها .

قال المحقق فی الشرائع : « الأوّل : فی بیان الجنس ، وضابطه : کلّ شیئین یتناولهما لفظ خاص کالحنطة بمثلها والاُرز بمثله»(1) .

وقال العلامة فی القواعد : « وضابط الإتفاق فی الجنس شمول اللفظ الخاص لهما کالحنطة والاُرز ، لا کالمطعوم المختلفة أفراده»(2) .

وقال فی الإرشاد : « والجنس هنا الحقیقة النوعیة کالحنطة والاُرز والتمر ، ولا تخرج الحقیقة باختلاف الصفات العارضة ، فالحنطة ودقیقها جنس ، والتمر ودبسه جنس ، والعنب والزبیب جنس ، واللبن والمخیض(3) والحلیب واحد ، وجیّد کل جنسٍ وردیؤه واحد ، وثمرة النخل جنس وکذا الکَرْم(4) ، واللحوم مختلفة ، فلحم البقر والجاموس واحد ، ولحم البقر والغنم جنسان ، والوحشی مخالف لأنسیه»(5) .

وقال المحقق الثانی فی شرح قول العلامة فی القواعد : « المراد باللفظ الخاص : ما یکون مفهومه نوعاً بالإضافة إلی ما تحته ، فالجنس فی عبارته هو ما یعبَّر عنه فی المنطق بالنوع ،

ص:81


1- (1) الشرائع 2 / 38 .
2- (2) القواعد 2 / 60 .
3- (3) وهو الذی قد مخض وأخذ زبده .
4- (4) الکَرْم : العنب ، جمعه الکُرُوم .
5- (5) ارشاد الاذهان 1 / 378 .

وأهل اللغة یسمونه جنساً ، وهذا وإن عزّ الوقوف علیه إلاّ أنّ بعض الأشیاء قد قام القاطع علی بیان نوعها ، فالحنطة بالنسبة إلی ما تحتها نوع بالنص والإجماع ، فالحمراء والبیضاء وغیرهما واحد ، وکذا الاُرز ... »(1) .

وقال ثانی الشهیدین فی شرح قول المحقق فی الشرائع : « المراد باللفظ الخاص ما یکون مفهومه نوعاً بالإضافة إلی ما تحته ، فالجنس فی هذا الباب هو المعبّر عنه فی المنطق بالنوع وأهل اللغة یسمّونه جنساً أیضاً ، ولا مشاحة فی الإصطلاح ، والمراد بالشیئین اللذیْن یتناولهما اللفظ أفراد ذلک النوع کالصفراء والحمراء فی الحنطة ... »(2) .

وقال المحقق الأردبیلی فی شرح قول العلامة فی الإرشاد : « أشار بلفظ « هنا » أی الفقه والاُصول أو باب الربا ، إلی أنَّ الجنس له إطلاق آخر ، وهو الجنس المنطقی المقابل للنوع ، فهذا الاصطلاح عکس ذلک فی الجنس والنوع ، والأمر فی ذلک هیّن .

ولکن تحقیق ما یُعرف به الجنس مشکل جداً ، فإنّه تارة یُعلم أنّ المراد به النوع ، فکلّما تحقق حقیقة واتفاق أفرادها فیها فهو النوع الواحد المراد بالجنس الواحد الذی هو شرط الربا ، وتحقیقه متعسر جداً ، بل قد ادعی کونه متعذراً .

وتارة أنّ المراد به ما یشمله لفظ واحد ویخصه ، مثل الحنطة والاُرز ولاتمر ، فإنّ لکلِّ واحدٍ اسماً خاصاً وتحته أفراد متکثرة ، وإن وجد بین الأفراد اختلاف کثیر إلاّ أنّه لیس له اسم خاص ولا حقیقة خاصة ، بل الاختلاف بالصنف وإن کان له اسم فهو بانضمام الاسم الأوّل ... .

ولعلّک تفهم اتحاد الجنس بملاحظة کلتا الضابطتین ویتبع کلامهم ، فما یکون له اسم واحد وحقیقة واحدة _ بحسب الظاهر والذی یجده العقل بحسب تفاهم العرف کذلک _ فهو جنس واحد مع فروعه ، وما یُعمل منه أو ما یخرج عن الحقیقة بعمل فیها عن أصلها ، وإن خرج عن ذلک الإسم والحقیقة عرفاً وخاصیّة وطعماً ، فاستفهم اللّه یفهمک »(3) .

ص:82


1- (6) جامع المقاصد 4 / 266 .
2- (1) مسالک الافهام 3 / 317 .
3- (2) مجمع الفائدة والبرهان 8 / (467 _ 465) .

هذا کلّه بعض کلمات الأعلام فی المقام ، وتدلّ علی اعتبار اتحاد واشتراک الجنسیّة عدّة من الروایات :

منها : صحیحة عمر بن یزید بیّاع السابری عن أبی عبد اللّه علیه السلام _ فی حدیث _ أنّه قال : یا عمر قد أحلّ اللّه البیع وحرم الربا ، بع واربح ولا تربه . قلت : وما الربا ؟ قال : دراهم بدراهم مثلین بمثل ، وحنطة بحنطة مثلین بمثل(1) .

سند الصدوق إلی عمر بن محمد بن یزید بیاع السابری مولی ثقیف صحیح وهو ثقة جلیل ، فالروایة صحیحة الإسناد . وتدلّ فقرة « حنطة بحنطة» بوضوح علی الإتحاد فی الجنس فی تطرق الربا فی البیع .

ومنها : حسنة أبی الربیع الشامی قال : کره أبو عبد اللّه علیه السلام قفیز لوز بقفیزین لوز ، وقفیزاً من تمر بقفیزین من تمر(2) .

سند الروایة حسنة بخالد بن جریر وأبی الربیع الشامی ، وهو خلید أو خالد بن اُوفی فی أعلی درجة الحسن . ودلالتها واضحة ، لأنّ الکراهة هنا تُحمل علی الحرمة لما یأتی فی ذیل صحیحة عبد اللّه بن سنان ، فانتظر .

ومنها : صحیحة محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام _ فی حدیث _ قال : إذا اختلف الشیئان فلا بأس به مثلین بمثل یداً بید(3) .

ودلالتها بالمفهوم علی الإتحاد واضحة .

ومنها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : ما کان من طعام مختلف أو متاع أو شیءٍ من الأشیاء یتفاضل فلا بأس ببیعه مثلین بمثل یداً بیدٍ ، فأمّا نَظِرَة فلا یصلح(4) .

الروایة صحیحة الإسناد . وأمّا دلالتها بالمفهوم علی المراد واضحة ، لأنّ مفهومها هکذا : ما کان من طعام متحد أو متاع متحد أو شیءٍ من الأشیاء متحد یتفاضل ففیه بأس

ص:83


1- (3) وسائل الشیعة 18 / 133 ح 2 . الباب 6 من أبواب الربا .
2- (1) وسائل الشیعة 18 / 134 ح 4 .
3- (2) وسائل الشیعة 18 / 144 ح 1 . الباب 13 من أبواب الربا .
4- (3) وسائل الشیعة 18 / 145 ح 2 .

بیعه مثلین بمثل .

ومنها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام _ فی حدیث _ قال : الکیل یجری مجری واحد ، قال : ویکره قفیز لوز بقفیزین ، وقفیز تمر بقفیزین ، ولکن صاع حنطة بصاعین تمر ، وصاع تمر بصاعین زبیب إذا اختلف هذا ، والفاکهة الیابسة تجری مجریً واحداً . وقال : لا بأس بمعاوضة المتاع ما لم یکن کیلاً أو لا وزناً(1) .

ومنها : موثقة سماعة قال : سألته عن الطعام والتمر والزبیب ؟ فقال : لا یصلح شیء منه إثنان بواحد ، إلاّ أن یصرفه نوعاً إلی نوع آخر ، فإذا صرفته فلا بأس اثنین بواحد وأکثر(2) .

ومنها : موثقة اُخری لسماعة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : المختلف مثلان بمثل یداً بیدٍ لا بأس(3) .

دلالتها بالمفهوم واضحة .

ومنها : صحیحة عبد اللّه بن سنان قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : کان علی علیه السلام یکره أن یستبدل وسقاً من تمر خیبر بوسقین من تمر المدینة ، لأنّ تمر خیبر أجودهما(4) .

بضمیمة صحیحة أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی حدیث : ولم یکن علی علیه السلام یکره الحلال(5) .

وبالجملة ، هذه الروایات المعتبرة تکفی فی إثبات الشرط الأوّل الذی لا خلاف فیه ، أعنی الإتحاد فی الجنس فی تطرق الربا .

تنبیهٌ : حکم الشارع تعبداً باتحاد جنس الحنطة والشعیر ، فلا یجوز بیع أحدهما بالآخر مع التفاضل ، وتدلّ علی هذا الحکم عدّة من الروایات المستفیضة :

ص:84


1- (4) وسائل الشیعة 18 / 146 ح 3 .
2- (5) وسائل الشیعة 18 / 146 ح 5 .
3- (1) وسائل الشیعة 18 / 147 ح 9 .
4- (2) وسائل الشیعة 18 / 151 ح 2 . الباب 15 من أبواب الربا .
5- (3) وسائل الشیعة 18 / 151 ح 1 .

منها : صحیحة هشام بن سالم عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سُئل عن الرجل یبیع الرجل الطعام الأکرار فلا یکون عنده ما یتم له ما باعه فیقول له : خذ منّی مکان کلّ قفیز حنطة قفیزین من شعیر حتّی تستوفی ما نقص من الکیل . قال : لا یصلح ، لأنّ أصل الشعیر من الحنطة ، ولکن یردّ علیه الدراهم بحساب ما ینقص من الکیل(1) .

ومنها : صحیحة عبد الرحمن بن أبی عبد اللّه قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : أیجوز قفیز من حنطة بقفیزین من شعیر ؟ فقال : لا یجوز إلاّ مثلاً بمثلٍ ، ثم قال : إنّ الشعیر من الحنطة(2) .

ومنها : صحیحة أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الحنطة والشعیر رأساً برأس ، لا یزاد واحد منهما علی الآخر(3) .

ومنها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال : لا یباع مختومان من شعیر بمختوم من حنطة ، ولا یباع إلاّ مثلاً بمثل ، والتمر مثل ذلک .

قال : وسُئل عن الرجل یشتری الحنطة فلا یجد صاحبها إلاّ شعیراً أیصلح له أن یأخذ اثنین بواحد ؟ قال : لا ، إنّما أصلهما واحد ، وکان علی علیه السلام یعدّ الشعیر بالحنطة(4) .

ومنها : صحیحة اُخری للحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام _ فی حدیث _ قال : ولا یصلح الشعیر بالحنطة إلاّ واحد بواحد(5) .

ومنها : خبر أحمد بن محمد بن عبد اللّه بن عیسی بن جعفر العلوی العمری عن أبیه عن آبائه عن علی علیه السلام أنّه سئل : ممّا خلق اللّه الشعیر ؟ فقال : إنّ اللّه تبارک وتعالی أمر آدم : أن أزرع ممّا اخترت لنفسک ، وجاءه جبرئیل بقبضة من الحنطة ، فقبض آدم علی قبضة وقبضت حواء علی اُخری ، وقال آدم لحواء : لا تزرعی أنتِ ، فلم تقبل أمر آدم ، فکلّما زرع آدم جاء

ص:85


1- (4) وسائل الشیعة 18 / 137 ح 1 . الباب 8 من أبواب الربا .
2- (5) وسائل الشیعة 18 / 138 ح 2 .
3- (6) وسائل الشیعة 18 / 138 ح 3 .
4- (1) وسائل الشیعة 18 / 138 ح 4 .
5- (2) وسائل الشیعة 18 / 139 ح 5 .

حنطة وکلّما زرعت حواء جاء شعیراً »(1) .

وهذه الروایات المعتبرة المستفیضة تدلّ علی أنّ الحنطة والشعیر فی حکم الجنس الواحد تعبّداً فی تطرق الربا ، فلا ینظر إلی اختلافهما عرفاً واسماً وجنساً . وهکذا لا یسمع إلی خلاف القدیمین(2) کما نقل عنهما العلامة فی المختلف(3) ، وتبعهما ابن ادریس الحلی فی السرائر(4) .

نعم ، الحکم مختص بالربا ، فلا یحکم باتحادهما فی سائر الأبواب کالزکاة والنذور والغرامات والإقرار وغیرها کما ذکره صاحب العروة(5) .

تذکرة: « الأصل مع کلِّ فرعٍ له واحد أم لا؟

تذکرة : قال العلامة فی تذکرة الفقهاء : « الأصل مع کلِّ فرعٍ له واحد ، وکذا فروع کلّ أصل واحدٌ _ وذلک کاللبن الحلیب مع الزُّبْد والسمن والمخیض واللِّبَأ والشیراز(6) والأقِط والمَصْل(7) والجبن والترجین(8) والکشک والکامخ(9) والسمسم مع الشیرج والکُسْب(10)

والراشی ، وبرز الکتّان مع حبّه ، والحنطة مع الدقیق والخبز علی اختلاف أصنافه من الرقاق والفرن وغیرهما ومع الهریسة ، والشعیر مع السویق ، والتمر مع السیلان والدبس والخَلّ منه والعصیر منه ، والعنب مع دبسه وخَلّه ، والعسل مع خلّه ، والزیت مع الزیتون وغیر ذلک _ عند علمائنا أجمع ، فلا یجوز التفاضل بین اللبن والزُّبْد والسمن والمخیض واللِّبَأ والأقِط وغیر ذلک ممّا تقدم ، بل یجب التماثل نقداً ، ولا یجوز نسیئةً لا متماثلاً ولا متفاضلاً ، ولا فرق فی ذلک بین أن

ص:86


1- (3) علل الشرائع 2 / 574 ح 2 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 344 ح 2 .
2- (4) ابن الجنید فی کتابه المفقود المسمی بالأحمدی فی الفقه المحمدی وابن أبی عقیل العمانی .
3- (5) مختلف الشیعة 5 / 89 .
4- (6) السرائر 2 / 254 .
5- (7) العروة الوثقی 6 / 42 .
6- (8) الشیراز : اللبن الرائب المستخرج ماؤه .
7- (9) المَصْلُ : ما سال من الأقِط إذا طبخ ثم عصر .
8- (10) ارتجن الزُبْدُ : طبخ فلم یَصْفُ وفسد .
9- (11) الکامخ : إدام یُؤْتدم به ، وخصه بعضهم بالمخلاّت التی تُستعمل لتشهّی الطعام ، جمعه الکوامخ .
10- (12) الکُسْب : عصارة الدهن .

یباع الأصل مع فرعه أو بعض فروعه مع البعض »(1) .

أقول : العلامة الحلی ادعی قاعدةً مهمة فی المقام ، وهی : الأصل مع کلِّ فرع له واحد وکذا فروع کلّ أصل واحد ، ثمّ مثّل بأمثلة واستدل علیها بإجماع علمائنا ، والمشهور وافقوه فی هذه القاعدة الکلّیة المدعاة ، لو لم تکن إجماعیة .

ولکن بعض فقهائنا أنکروا هذه القاعدة الکلّیّة واقتصروا فیها فی موارد النص ولم یتعدوا من موارد النص إلی هذه القاعدة الکلّیّة .

منهم : المحقق الأردبیلی ، ولعله أوّل من خالف العلامة ، قال مستشکلاً علی هذه القاعدة : « ... إلاّ أنّ الدلیل علی الکلیة غیر واضح ، لأنّه ما وجد شیءٌ صحیح صریح فی الکلیّة ، والاسم غیر صادق والاختلاف ممکن حقیقة بل هو الظاهر ، لاختلاف الخواص مثل الخلّ والتمر والجبن والحلیب ... وبالجملة الدلیل غیر قائم علی الإتحاد بین الشیء الربوی وأصله کلیة بل قائم علی عدمه ، والأصل وأدلة إباحة البیع دلیل الجواز ، إلاّ أنّ کلام الأصحاب ذلک ، فالخروج عنه مشکل والمسألة من المشکلات یحلّها محلّها ، وقد ادعی الإجماع فی أکثرها فی التذکرة ... فما ثبت الإجماع فیه لا یمکن الخروج عنه ، وظاهر التذکرة الإجماع فی کلِّ أصل مع فرعه وفرع کلِّ أصل مع آخر ، فتأمل »(2) .

ومنهم : السید الیزدی صاحب العروة قدس سره قال : « الإنصاف عدم استفادة الکلیة من الأخبار المذکورة ، إذ هی مختصة بمثل الحنطة والدقیق والسویق والعنب والزبیب ، فلا دلالة فیها علی إتحاد مثل الحلیب والزبد والتمر والعنب مع الخل منهما ونحو ذلک .

ودعوی الإتمام بعدم القول بالفصل کماتری ، وإجماع التذکرة ممنوع ... فالأظهر عدم التعدی عن موارد الأخبار من مثل الدقیق والسویق إلاّ إلی أمثالهما لاکلِّ أصل وفرع ، والفرق بین تغییر صورة شیءٍ إلی شیءٍ آخر ، وبین استخراج شیءٍ من شیءٍ أو ترکیب شیءٍ من شیءٍ

بحیث صار شیئاً ثالثاً ... فتحصّل أنّ الأظهر التفصیل بین تغییر صورة شیءٍ إلی شیءٍ وبین

ص:87


1- (1) تذکرة الفقهاء 10 / 163 المسألة 84 .
2- (2) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 475 و 476 .

استخراج شیءٍ من شیءٍ أو ترکیب شیءٍ من أشیاء بحیث یصیر شیئاً آخر وحقیقة اُخری »(1) .

ومنهم : المؤسس الشیخ عبد الکریم الحائری الیزدی قدس سره ، قال علی ما فی تقریرات بحثه الشریف : « ... فیبقی فی المقام بعض الأخبار الخاصة ببعض الموارد ... وهذه أیضاً لا یمکن التعدی عن مواردها واستکشاف قاعدة کلیّة منها تطرّد فی کلِّ ما هو من قبیلها مثل التمر وخلّه واللبن وفروعه وغیر ذلک ممّا هو دائر فی کتبهم _ رضوان اللّه علیهم _ وبالجملة ، ما ذکروه من إتحاد کلِّ أصل مع فرعه خصوصاً إتحاد فروع الأصل الواحد بعضها مع بعض ... یکون استخراجها من الأخبار فی غایة الصعوبة إلاّ فی الموارد الخاصة المنصوصة ، وقد تفطّن له المقدس الأردبیلی قدس سره »(2) .

أقول : بعد هذا الخلاف الثابت بین المشهور والأعلام الثلاثة فلابدّ من ملاحظة الروایات الواردة فی المقام حتّی یتبیّن جلیّة الحال من إمکان التعدی منها إلی القاعدة الکلیة أو عدمه :

منها : موثقة سماعة قال : سألته عن الحنطة والشعیر ؟ فقال : إذا کانا سواء فلا بأس . قال : وسألته عن الحنطة والدقیق ؟ فقال : إذا کانا سواء فلا بأس(3) .

وهذه الموثقة تدلّ علی أن الحنطة ودقیقها واحد فی الجنس الربوی ، ویمکن التعدی إلی إتحاد الحبوب مع دقیقها فی الربا .

ومنها : صحیحة محمد بن مسلم وزرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال : الحنطة بالدقیق مثلاً بمثل ، والسویق بالسویق مثلاً بمثل ، والشعیر بالحنطة مثلاً بمثل لا بأس به(4) .

مفهوم الصحیحة دالّ علی مدلول الموثقة الماضیة .

ومنها : صحیحة محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال : سألته عن الرجل یدفع إلی

ص:88


1- (1) العروة الوثقی 6 / 47 و 48 .
2- (2) المکاسب المحرمة / 29 لشیخنا آیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی قدس سره .
3- (3) وسائل الشیعة 18 / 139 ح 6 .
4- (4) وسائل الشیعة 18 / 141 ح 2 .

الطحان الطعام فیقاطعه علی أن یعطی لکلِّ عشرة أرطال إثنی عشر دقیقاً ؟ قال : لا . قلت : فالرجل یدفع السمسم إلی العصار ویضمن له لکلِّ صاع أرطالاً مسماة ؟ قال : لا(1) .

هذه الصحیحة تدلّ علی إتحاد الحبوب ودقیقها ، والسمسم وزیتها فی الجنس الربوی .

وغایة الأمر یمکن التعدی من السمسم وزیتها إلی الحبوب الدهنیة وأزیاتها .

ومنها : صحیحة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال : الدقیق بالحنطة والسویق بالدقیق مثل بمثل لا بأس به(2) .

وهذه الصحیحة تدلّ علی إتحاد الحنطة ودقیقها وسویقها فی الجنس الربوی .

ومنها : موثقة سماعة قال : سُئل أبو عبد اللّه علیه السلام عن العنب بالزبیب ؟ قال : لا یصلح إلاّ مثلاً بمثل ، قال : والتمر والرطب مثلاً بمثل(3) .

سند هذه الروایة موثقة ، لأنّ المراد بأبی أیوب الراوی عن سماعة هو ابراهیم ابن عثمان أو عیسی أبی أیوب الخزاز الثقة . وتدلّ علی إتحاد العنب والزبیب ، والتمر والرطب ، فی الجنس الربوی .

ومنها : حسنة أبی الربیع الشامی قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : ماتری فی التمر والبسر الأحمر مثلاً بمثل ؟ قال : لا بأس ، قلت : فالبختج والعنب مثلاً بمثل ؟ قال : لا بأس(4) .

هذه الحسنة بمفهومها تدلّ علی إتحاد التمر والبسر الأحمر ، والبختج والعنب فی الجنس الربوی . والمراد بالبسر : التمر إذا لوّن ولم ینضَج ، الواحدة بُسْرة وجمعها بِسار . والمراد بالبختج : العصیر المطبوخ .

وأنت تری أنّ هذه الروایات قاصرة عن إثبات القاعدة الکلیة المدعاة فی المقام . نعم لابدّ من قبول إتحاد الجنس فی مذکورات النصوص تعبداً ، وأمّا فی غیرها التعدی والحکم بإتحاد الجنس فی کلِّ أصل وکلِّ فرع له أو إتحاد کلِّ فرع مع فرع آخر منه ، فمشکل فی الغایة

ص:89


1- (5) وسائل الشیعة 18 / 141 ح 3 .
2- (1) وسائل الشیعة 18 / 142 ح 4 .
3- (2) وسائل الشیعة 18 / 149 ح 3 .
4- (3) وسائل الشیعة 18 / 150 ح 5 .

عند اُولی الدرایة .

قد تمسّک القائلون بالتعدی بالروایات الواردة فی إتحاد جنسی الحنطة والشعیر فی الربا ، حیث عُلّل هذا الإتحاد فی بعضها بأنّ : « إنّما أصلهما واحد » کما فی صحیحة الحلبی(1) أو : « أنّ الشعیر من الحنطة » کما فی صحیحة عبد الرحمن بن أبی عبد اللّه(2) .

وفیه : أنه لا یمکن التعدی بهاتین الروایتین وأمثالهما ، وإن یمکن التعدی فیمکن القول بأنّ الأصل فی جمیع الأشیاء أوجلّها واحدٌ ، ولا یذهب إلیه أحد .

فلابدّ من الذهاب إلی انحصار فی المذکورات فی النصوص فقط .

وأما التمسک للتعدی بمرسلة ومضمرة علی بن إبراهیم القمی عن رجاله عمّن ذکره « قال : الذهب بالذهب والفضة بالفضة وزناً بوزن سواء لیس لبعضه فضل علی بعض ، ... إلی أن قال : وما کیل أو وزن ممّا أصله واحد فلیس لبعضه فضل علی بعض کیل بکیل ووزن بوزن ، فإذا اختلف أصل ما یکال فلا بأس به إثنان بواحد ... »(3) .

أیضاً غیر تام لأنه : أولاً : الروایة مرسلة .

وثانیاً : أنّها مضمرة ، لم تنسب إلی المعصوم علیه السلام .

وثالثاً : من المحتمل قویّاً أنّها فتوی القائل التی استفادها من التعلیل الوارد فی أخبار إتحاد الحنطة والشعیر فی الجنس الربوی ، وقد مرّ الکلام فیها .

نعم ، دلالتها لا بأس بها ، ولکن إفادة دلالتها بعد ثبوت کونها من کلام الإمام علیه السلام .

وبالجملة ، حیث لم تثبت کونها روایة فلا یثبت بها شیئاً .

والحاصل ، التعدی من المذکورات فی الروایات إلی ما ذکره العلامة وتبعه المشهور مشکل غایة الإشکال ، لولا الإجماع .

نعم ، ینبغی الإحتیاط فی المقام للخروج عن مخالفة المشهور ، واللّه سبحانه هو العالم .

هذا کلّه فی الشرط الأوّل .

ص:90


1- (4) وسائل الشیعة 18 / 138 ح 4 .
2- (5) وسائل الشیعة 18 / 138 ح 2 .
3- (1) وسائل الشیعة 18 / 158 ح 12 .
الشرط الثانی : الکیل أو الوزن
اشارة

یُشترط فی تحقق الربا کون الثمن والمثمن من المکیل والموزون ، فلا ربا فی غیرهما .

قد ادعی العلامة الإجماع علی هذا الاشتراط فی کتابه « تذکرة الفقهاء »(1) .

وقال صاحب الجواهر فی ذیل هذا الاشتراط : « إذا کان المبیع والثمن کذلک (أی من المکیل والموزون) مع اتحاد الجنس حرّم الربا فیهما إجماعاً بقسمیه ، وسنةً وکتاباً ، بل کاد یکون ضروریّاً»(2) .

وتدلّ علی هذا الاشتراط - مضافاً إلی الإجماع - النصوص المستفیضة :

منها : صحیحة زرارة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لا یکون الربا إلاّ فیما یکال أو یوزن(3) .

ومنها : موثقة عبید بن زرارة قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : لا یکون الربا إلاّ فیما یکال أو یوزن(4) .

والروایتان تدلان علی انحصار الربا البیعی فیما یکال أو یوزن ، لأنّ الاستثناء بعد النفی یدل علی الحصر .

ومنها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لا بأس بمعاوضة المتاع ما لم یکن کیلاً ولا وزناً(5) .

یُستفاد من الروایة أنّ المعاوضة بالمتاع لا بأس بها إلاّ مع التفاضل فی المکیل والموزون .

ومنها : موثقة بل صحیحة منصور بن حازم قال : سألته عن الشاة بالشاتین والبَیضةُ

ص:91


1- (2) تذکرة الفقهاء 10 / 194 .
2- (3) الجواهر 23 / 358 .
3- (1) وسائل الشیعة 18 / 132 ح 1 . الباب 6 من أبواب الربا .
4- (2) وسائل الشیعة 18 / 133 ح 3 .
5- (3) وسائل الشیعة 18 / 155 ح 3 . الباب 17 من أبواب الربا .

بالبیضتین ؟ قال : لا بأس ما لم یکن کیلاً أو وزناً(1) .

سند الروایة تام ، لأنّ المراد بالعباس هو أبو الفضل ابن عامر بن ریاح الثقفی القصبابی ، الشیخ الصدوق الثقة کثیر الحدیث ، بقرینة روایة أیوب بن نوح عنه وداود بن الحصین موثق کالصحیح ، فسند الروایة موثق بل صحیح . هذا کلّه فی سند الکلینی وسند الشیخ موثق ، فالتعبیر عنها بالخبر کما فی الجواهر(2) وتبعه صاحب العروة(3) غیر تام .

ودلالتها علی المطلوب واضحة .

ومنها : موثقة له - أی لمنصور بن حازم - عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال فی حدیث : کلّ شیءٍ یکال أو یوزن فلا یصلح مثلین بمثل إذا کان من جنس واحد ، فإذا کان لا یکال ولا یوزن فلا بأس به إثنین بواحد(4) .

سند الشیخ إلی حفید سماعة موثق ، والمراد بابن رباط فی السند هو أبو الحسن علی بن الحسن بن رباط البجلی الکوفی الثقة ، بقرینة نقل کتابه بواسطة الحسن بن محمد بن سماعة وروایته عن عبد اللّه بن مسکان . وبقیّة رجال السند کلّهم ثقات ، فالروایة موثقة سنداً ، کما عبر عن سندها بالموثق فی الجواهر(5) وتبعه صاحب العروة(6) .

ودلالتها کالنص علی المطلوب .

ومنها : حسنة داود بن الحصین أنّه سأل أبا عبد اللّه علیه السلام عن الشاة بالشاتین والبیضة بالبیضتین ؟ فقال : لا بأس ما لم یکن مکیلاً أو موزوناً(7) .

سند الصدوق إلی داود بن الحصین حسنٌ ، لورود الحکم بن مسکین المکفوف فیه وهو

ص:92


1- (4) وسائل الشیعة 18 / 152 ح 1 . الباب 16 من أبواب الربا .
2- (5) الجواهر 23 / 359 .
3- (6) العروة الوثقی 6 / 49 .
4- (7) وسائل الشیعة 18 / 153 ح 3 .
5- (1) الجواهر 23 / 358 .
6- (2) العروة الوثقی 6 / 49 .
7- (3) وسائل الشیعة 18 / 155 ح 2 . الباب 17 من أبواب الربا .

حسن ، کما فی نتائج التنقیح(1) ، وعبر عن هذا السند والد المجلسی بقویٍّ کالصحیح(2) وولده قدس سره بقویٍّ(3) .

وداود بن الحصین موثق کالصحیح ، فسند الروایة حسن عندنا .

ودلالتها بالمفهوم واضحة .

وهذه الروایات المعتبرة تکفی فی إثبات هذا الحکم الإجماعی ، یعنی اشتراط الکیل والوزن فی البیع الربوی .

تنبیهٌ:

الظاهر من الروایات الماضیة أنَّ الحکم یدور مدار وصفی المکیلیة والموزونیة من غیر دخل زمان فیه أصلاً ، فما یذکر من اختصاص الحکم بما کان من المکیل أو الموزون فی عصر النبی صلی الله علیه و آله وسلم - کما عن الشیخ فی ظاهر المبسوط(4) والفاضل المقداد فی التنقیح الرائع(5) وادعاء الاجماع علیه - غیر تام .

وهکذا ما ذکروه من أنّ المدار فی المکیل والموزون ما کان فی عصر النبی صلی الله علیه و آله وسلم من غیر فرق بین بلده وسائر البلاد إذا استقر أهلها علیه ، فما کان مکیلاً أو موزوناً فی عصره صلی الله علیه و آله وسلم فی

جمیع البلدان أو کلّ بلد جری فیه الربا وإن تغیّر بعد ذلک ، وما لم یکن من أحدهما فی عصره صلی الله علیه و آله وسلم لا یجری فیه الربا وإن صار من أحدهما بعد عصر النبی صلی الله علیه و آله وسلم .

وهذان القولان ضعیفان ، لأنّ الحکم فی الروایات الماضیة وغیرها یدور مدار وصفی المکیلیة والموزونیة ، ولا تنحصران بعصر النبی صلی الله علیه و آله وسلم ، فما کان مکیلاً أو موزوناً فی أیّ عصرٍ وزمانٍ وأیّ بلدٍ ومکانٍ یجری فیه الربا إن بیع مع التفاضل .

فعلی ما ذکرنا لو کان شیء موزوناً فی عصر النبی صلی الله علیه و آله وسلم ولکن الآن یباع عدداً فلا یجری فیه

ص:93


1- (4) نتائج التنقیح / 44 .
2- (5) روضة المتقین 14 / 113 .
3- (6) الوجیزة فی علم الرجال / 229 الرقم 141 .
4- (7) المبسوط 2 / 90 .
5- (8) التنقیح الرائع 2 / 91 .

الربا ، ولو کان شیء یباع عدداً فی عصره صلی الله علیه و آله وسلم ولکن الآن یباع موزوناً یجری فیه الربا . واللّه سبحانه هو العالم .

تذکرة:

إن اختلفت البلدان فی الکیل أو الوزن أو العدّ أو غیرها ، فلکلّ بلد حکم نفسه ، فیجری الربا فی بلد الکیل والوزن ولا یجری فی بلد العدّ ، وذلک لما ذکرنا من أنّ الحکم یدور مدار الوصف . فما نسب إلی الشیخ فی النهایة(1) وسلاّر بن عبد العزیز الدیلمی فی المراسم(2) وقوّاه فخر المحققین فی إیضاح الفوائد(3) من تغلیب جانب الحرمة غیر تام بما ذکرناه .

وإن اختلف فی بلد واحد ، یعنی یباع فیه تارة بالوزن وتارة بالعدّ نحو الخبز فی عصرنا الحاضر ، فلا یدخل تحت إطلاق أحد الخطابین من حرمة الربا وحلّیة البیع ، لعدم إمکان دخوله تحتهما معاً ، والدخول فی تحت أحدهما دون الآخر ترجیح بلا مرجح ، فتصل النوبة إلی الأصل العملی ، وهو یقتضی البراءة من الحرمة ، یعنی جواز بیعه مع التفاضل .

وما نسب إلی المفید(4) من اختصاص الجواز بالأغلب ومع التساوی یرجح جانب الحرمة ، أیضاً غیر تام بما ذکرناه . نعم : قوله قدس سره موافق للإحتیاط الحسن ، ولکن الاستدلال له بما رواه الأحسائی مرفوعاً عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : ما اجتمع الحرام والحلال إلاّ غلب الحرامُ الحلال(5) ، غیر تام . لضعفها سنداً ودلالةً .

ولذا قال صاحب الجواهر قدس سره بعد نقل کلام المفید وموافقته للإحتیاط والاستدلال له

بالمرسلة : « ... لکن لا یخفی علیک عدم وجوب مراعاة الأوّل (یعنی الإحتیاط) عندنا وعدم تناول الثانی (یعنی المرسلة) لما نحن فیه »(6) .

ص:94


1- (1) النهایة 2 / 122 و 123 .
2- (2) المراسم / 179 .
3- (3) إیضاح الفوائد 1 / 476 .
4- (4) المقنعة / 604 .
5- (5) عوالی اللآلی 2 / 132 ح 358 ونقل عنه فی بحار الأنوار 2 / 272 ح 6 (1 / 358) .
6- (1) الجواهر 23 / 365 .

ثم إن هاهنا فروعاً لابدّ من التنبیه علیها

فروع

الأوّل : الربا یجری فی جمیع المعاملات

هل الربا یجری فی جمیع المعاوضات والمعاملات المالیة أو یختص بعقدی البیع والقرض ؟ ذهب المشهور إلی الأوّل ، وذهب ابن إدریس الحلی والعلامة إلی الثانی(1) .

قال الفقیه المتتبع السید جواد العاملی قدس سره : « ... وهذا التعریف [ یعنی أنّه یجری فی جمیع المعاوضات المالیة ] یناسب ما حُکی عن الأکثر ، حکاه المقدس الأردبیلی فی آیاته(2) ، وقد حکی(3) عن السید والشیخ والقاضی وابن المتوج وفخر المحققین من أنّه یثبت فی کلِّ معاوضة ولا یختص بالبیع ، وهو خیرة الشهیدین فی صلح الدروس(4) والمسالک(5) والروضة(6) وغصب الأوّلین(7) ، وأبی العباس فی صلح المهذب(8) والمقتصر(9) والفخر فی صلح الإیضاح(10) والصالح القطیفی والمحقق الثانی(11) والفاضل المیسی والمقدس الأردبیلی(12) وغیرهم(13) ، وهو صریح الشرائع(14) فی باب الغصب وظاهره فی باب

ص:95


1- (2) نقل عنهما صاحب الجواهر فی کتابه 23 / 338 .
2- (3) زبدة البیان / 432 .
3- (4) حکاه السید الطباطبائی فی الریاض 8 / 279 .
4- (5) الدروس 3 / 328 .
5- (6) المسالک 4 / 269 .
6- (7) الروضة البهیة 4 / 180 .
7- (8) الدروس 3 / 116 والمسالک 12 / 189 .
8- (9) المهذب البارع 2 / 537 .
9- (10) المقتصر / 198 .
10- (11) ایضاح الفوائد 2 / 104 .
11- (12) جامع المقاصد 4 / 266 .
12- (13) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 457 .
13- (14) کالسید الطباطبائی فی الریاض 8 / 279 .
14- (15) الشرائع 3 / 240 .

الصلح(1) ... »(2) .

وقال صاحب الجواهر : « ... بل قیل إنّ الفاضل [ العلامة الحلی ] قد رجع عنه فی کتاب الصلح من القواعد ، فینحصر الخلاف حینئذ بالحلی [ ابن إدریس ] ... »(3) .

أقول : العبارة الموجودة فی المطبوعة من صلح القواعد هکذا : « ولو صالح علی عین باُخری فی الربویّات ففی إلحاقه بالبیع نظر ، وکذا فی الدین بمثله ، فإن ألحقناه فسد ... »(4) .

وأنت تری عدم ظهور العبارة فی رجوعه قدس سره عن قوله ، واللّه سبحانه هو العالم .

فلابدّ من ملاحظة الروایات الواردة فی المقام حتّی یتبیّن اختصاص الربا بعقدی البیع والقرض فقط أو جریانه فی جمیع المعاملات والمعاوضات المالیّة :

منها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الفضة بالفضة مثلاً بمثل ، لیس فیه زیادة ولا نقصان ، الزائد والمستزید فی النار(5) .

بتقریب : عدم ورود التخصیص بالبیع ، بل الروایة مطلقة ، فیجری الربا فی جمیع المعاوضات .

ومنها : صحیحة أبی بصیر وغیره عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الحنطة والشعیر رأساً برأس ، لا یزاد واحد منهما علی الآخر(6) .

بتقریب : ما قد مرّ آنفاً من عدم ورود التخصیص بل أنّها مطلقة ، فتشمل جمیع المعاوضات والمعاملات المالیة .

ومنها : صحیحة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال : الدقیق بالحنطة والسویق بالدقیق مثلٌ بمثلٍ لا بأس به(7) .

ص:97


1- (16) الشرائع 2 / 121 .
2- (17) مفتاح الکرامة 4 / 502 _ (14 / 8) .
3- (1) الجواهر 23 / 338 .
4- (2) قواعد الاحکام 2 / 173 .
5- (3) وسائل الشیعة 18 / 165 ح 1 . الباب 1 من أبواب الصرف .
6- (4) وسائل الشیعة 18 / 138 ح 3 . الباب 8 من أبواب الربا .
7- (5) وسائل الشیعة 18 / 142 ح 4 . الباب 9 من أبواب الربا .

ومنها : صحیحة عبد الرحمن بن أبی عبد اللّه قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : أیجوز قفیز من حنطة بقفیزین من شعیر ؟ فقال : لا یجوز إلاّ مثلاً بمثل ، ثم قال : إنّ الشعیر من الحنطة(1) .

ومنها : صحیحة محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال : سألته عن الرجل یدفع إلی الطحان الطعام فیقاطعه علی أن یعطی لکلِّ عشرة أرطال إثنی عشر دقیقاً ؟ قال : لا . قلت : فالرجل یدفع السمسم إلی العصار ویضمن له لکلِّ صاع أرطالاً مسماة ؟ قال : لا(2) .

قال صاحب الجواهر بعد نقل هذه الصحیحة : « بل قیل : إنّه صریح فی المطلوب »(3) . یعنی أن هذه الروایة کالنص فی التعدی من البیع إلی غیره من المعاوضات المالیة . وهی کذلکِ .

ومنها : صحیحة سیف التمار قال : قلت لأبی بصیر : أحبّ أن تسأل أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل استبدل قوصرتین فیهما بسر مطبوخ بقوصرة فیها تمر مشقّق . قال : فسأله أبو بصیر عن ذلک فقال علیه السلام : هذا مکروه ، فقال : إنّ علی بن أبی طالب علیه السلام کان یکره أن یستبدل وسقاً من تمر المدینة بوسقین من تمر خیبر ، لأنّ تمر المدینة أدونهما ، ولم یکن علی علیه السلام یکره الحلال(4) .

بتقریب : أن الاستبدال أعم من البیع وغیره من المعاوضات المالیّة .

والحاصل ، هذه الروایات کلّها مطلقة تشمل جمیع المعاوضات المالیّة ولا تختص بالبیع ، ودعوی الاختصاص به والانصراف لغلبة البیع ممنوع . فالربا یجری فی جمیع المعاوضات والمعاملات المالیة کما علیه المشهور . واللّه سبحانه هو العالم .

الثانی : موارد استثناء حرمة الربا

قد استثنوا من حرمة الربا أربعة موارد :

الف : الربا بین الوالد وولده

ب : وبین السید وعبده

ج : وبین الرجل وزوجته

ص:97


1- (6) وسائل الشیعة 18 / 138 ح 2 . الباب 8 من أبواب الربا .
2- (7) وسائل الشیعة 18 / 141 ح 3 . الباب 9 من أبواب الربا .
3- (1) الجواهر 23 / 337 .
4- (2) وسائل الشیعة 18 / 151 ح 1 . الباب 15 من أبواب الربا .

د : وبین المسلم والحربی ، إذا أخذه المسلم . ویثبت بین المسلم والذمی .

وهذا الحکم إجماعیٌ عند أصحابنا لم یخالف فی کلّیّته أحدٌ(1) ، إلاّ الشریف المرتضی قدس سره فی المسائل الموصلیات الثانیة ، وأنقل هنا تمام کلامه لما فیه من فوائد وتظهر لک کیفیة استنباطه ، قال قدس سره : « وباللّه التوفیق ، إنّ کثیراً من أصحابنا قد ذهبوا إلی نفی الربا بین الوالد وولده وبین الزوج وزوجته والذمی والمسلم ، وشرط قوم من فقهاء أصحابنا فی هذا الموضوع شرطاً ، وهو أن یکون الفضل مع الوالد إلاّ أن یکون له وارث أو علیه دین .

وکذلک قالوا : أنّه لا ربا بین العبد وسیده إذا کان لا شریک له فیه ، وإن کان له شریک حرم الربا بینهما ، وکذلک العبد المأذون له فی التجارة ، حرم الربا بینه وبین سیده إذا کان العبد قد استدان مالاً علیه .

وعوّلوا فی ذلک علی ما روی عن أمیر المؤمنین علیه السلام من قوله : لیس بین الرجل وبین ولده ربا ، ولیس بین السید وبین عبده ربا(2) . ورووا عن الصادق علیه السلام أنه قال : لیس بین المسلم وبین الذمی ربا ، ولا بین المرأة وزوجها(3) . وأما العبد وسیده فلا شبهة فی انتفاء الربا بینهما .

ویوافقنا علی ذلک أبوحنیفة وأصحابه الثوری واللیث والحسن بن صالح بن حی والشافعی . ویخالف مالک الجماعة فی هذه المسألة ، لأن مالکاً یذهب إلی أن العبد یملک ما فی یده مع الرق ، والجماعة التی ذکرناها تذهب إلی أن الرق یمنع من الملک ، وهو الصحیح .

وإذا کان ما فی ید العبد ملکاً لمولاه لم یدخل الربا بینهما ، لأن المالین فی الحکم مال واحد والمالک واحد ، ولهذا یتعب(4) حکم المأذون له فی التجارة ، یتعلق علی(5) الغرماء بما فی یده ،

ص:98


1- (3) السید جواد العاملی ادعی الإجماع علی المسائل الفرعیة المذکورة ونقله عن عدة من الکتب ، راجع مفتاح الکرامة 4 / 529 و 530 و 531 (14 / 95 و 98 و 101 و 102) _ وتبعه فی الجواهر وادعی الإجماع بقسمیه علی هذه المسائل راجع الجواهر 23 / 378 و 380 و 381 و 382 .
2- (1) وسائل الشیعة 18 / 135 ح 1 .
3- (2) وسائل الشیعة 18 / 136 ح 5 .
4- (3) ظ : یتغیر .
5- (4) ظ : ویتعلق حق الغرماء بما فی یده .

وکذلک یتغیر فی هذا الحکم حال العبد بین شریکین ، فالشبهة فی انتفاء الربا بین العبد وسیده مرتفعة .

وإنّما الکلام فی باقی المسائل التی ذکرناها ، فالأمر فیها مشکل .

والذی یقوی فی نفسی أن الربا محرّم بین الوالد وولده والزوج وزوجته والذمی والمسلم ، کتحریمه بین غریبین .

فأمّا الأخبار التی وردت و فی ظاهرها أنه لا رباء فی هذه المواضع ، إذا جاز العمل بها جاز أن نحملها علی تغلیظ تحریم الربا فی هذه المواضع ، کما قال اللّه تعالی : «فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِی الْحَجِّ»(1) ولم یرد أن الرفث فی غیر الحج لا یکون رفثاً ولا محرّماً ، وکذلک الفسوق ، وإنّما أراد بذلک تغلیظ تحریمه والنهی عنه .

ومن شأن أهل اللغة إذا أکدوا تحریم شیء أدخلوا فیه لفظ النفی ، لینبی ء عن تحقیق

التحریم وتأکیده وتغلیظه ، کما أنّ فی مقابلة ذلک إذا أرادوا أن یؤکدوا ویغلظوا الإیجاب استعملوا فیه لفظ الخبر والإثبات ، کما قال اللّه تعالی : «وَمَن دَخَلَهُ کَانَ آمِناً»(2) وإنّما أکد بذلک وجوب أمانه ، وکان هذا القول آکد من أن یقول : فأمنوا من دخله ولا تخیفوه .

وکذلک قوله علیه السلام « العاریة مردودة ، والزعیم غارم »(3) وإنّما المراد به أنّه یجب ردّ العاریة ، وغرامة الزعیم الذی هو الضامن ، وأخرج الکلام مخرج الخبر للتأکید والتغلیظ ، فهذا فی باب الإیجاب نظیر ما ذکرنا فی باب الحظر والتحریم .

فإن قیل : فأیّ فائدة فی تخصیص هذه المواضع نفی الربا فیها مع إرادة التحریم والتغلیظ ، والربا محرّم بین کلِّ أحد وفی کلِّ أحد و فی کلِّ موضع .

قلنا : فی تخصیص هذه المواضع بالذکر ممّا یدلّ علی أن غیرها ممّا لم یذکر بخلافها . وهذا مذهب قد اختلف فیه أصحاب أصول الفقه ، والصحیح ما ذکرناه . ومع هذا فغیر ممتنع أن یکون للتخصیص فائدة .

ص:99


1- (5) سورة البقرة / 197 .
2- (1) سورة آل عمران / 97 .
3- (2) جامع الأصول 9 / 110 .

أما الوالد وولده والحرمة بینهما عظیمة متأکّدة ، فما حظر بین غیرهما وقبح فی الشریعة ، فهو المحرّمة بینهما أقبح وأشدّ حظراً . وکذلک الزوج وزوجته ، فیکون لهذا المعنی وقع التخصیص للذکر .

وأما الذمی والمسلم فیمکن أن یکون وجه تخصیصهما هو أن الشریعة قد أباحت _ لفضل الإسلام وشرفه علی سائر الملل _ أن یرث المسلم الذمی والکافر وإن لم یرث الذمی المسلم . وثبت حق الشفعة للمسلم علی الذمی ، ولا یثبت حق الشفعة للمسلم علی الذمی ، فخص نفی الربا بالذمی والمسلم علی سبیل الحظر بظن ظاهر(1) ، فإنه یجوز للمسلم أن یأخذ من الذمی الفضل فی الموضع الذی یکون فیه ربا ، وإن لم یجز ذلک للذمی ، کما جاز فی المیراث والشفعة .

فإن قیل : فما الذی یدعو إلی الإنصراف عن ظواهر الأخبار المرویة فی نفی الربا بین الجماعة المذکورة إلی هذا التعسف من التأویل .

قلنا : ما عدلنا عن ظاهر إلی تأویل متعسف ، لأن لفظة النفی فی الشریعة إذا وردت فی مثل هذه المواضع التی ذکرناها ، لم یکن ظاهرها للإباحة دون التحریم والتغلیظ ، بل هی

محتملة لکلِّ واحد من الأمرین إحتمالاً واحداً ، ولا تعسف فی أحدهما .

ولم یبق إلاّ أن یقال : فإذا احتملت الأمرین فلم حملتموها علی أحدهما بغیر دلیل .

وها هنا دلیل یقتضی ما فعلناه ، وهو أن اللّه تعالی حرّم الربا فی آیات محکمات من الکتاب لا إشکال فیها ، فقال تعالی : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِیَ مِنَ الرِّبَا إِن کُنتُم مُّؤْمِنِینَ»(2) وقال : «لاَ تَأْکُلُواْ الرِّبَا»(3) وقال جلّ اسمه : «الَّذِینَ یَأْکُلُونَ الرِّبَا لاَ یَقُومُونَ إِلاَّ کَمَا یَقُومُ الَّذِی یَتَخَبَّطُهُ الشَّیْطَانُ مِنَ الْمَسِّ»(4) .

والأخبار الواردة عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم وعن ولده من الأئمة علیهم السلام فی تحریم الربا

ص:100


1- (3) کذا فی النسخة .
2- (1) سورة البقرة / 287 .
3- (2) سورة آل عمران / 130 .
4- (3) سورة البقرة / 275 .

وحظره ، والنهی عن أکله ، والوعید الشدید علی من خالف فیه أکثر من أن تحصی .

وقد علمنا أن لفظة « الربا» إنّما معناه الزیادة ، وقررت الشریعة فی هذه اللفظة أنها زیادة فی أجناس وأعیان مخصوصة . وخطاب اللّه تعالی وخطاب رسوله یجب حملهما علی العرف الشرعی دون اللغوی ، فیجب علی هذا أن یفهم من ظواهر الآیات والأخبار أن الربا الذی هو التفاضل فی الأجناس المخصوصة محرّم علی جمیع المخاطبین بالکتاب علی العموم ، فیدخل فی ذلک الولد والزوج والذمی مع المسلم ، وکلّ من أخذ وأعطی فضلاً .

فإذا أوردت أخبار تنفی الربا بین بعض من تناوله ذلک العموم ، حملنا النفی فیها علی ما ذکرناه بما یطابق تلک الآیات ویوافقها ، ولا یوجب تخصیصها وترک ظواهرها»(1) . انتهی کلامه فی المسائل الموصلیات الثانیة .

ولکنه قدس سره رجع عن هذا القول فی کتابه « الانتصار» وقال فیه : « وممّا انفردت به الإمامیة : القول بأنّه لا ربا بین الولد ووالده ولا بین الزوج وزوجته ، ولا بین الذمّی والمسلم ، ولا بین العبد ومولاه . وخالف باقی الفقهاء فی ذلک وأثبتوا الربا بین کلّ من عددناه(2) .

وقد کتبت قدیماً فی جواب مسائل وردت من الموصل تأوّلت الأخبار التی یرویها أصحابنا المتضمّنة لنفی الربا بین من ذکرناه علی أنّ المراد بذلک _ وإن کان بلفظ الخبر _ معنی الأمر ، کأنّه قال : یجب أن لا یقع بین من ذکرناه ربا ، کما قال تعالی : «وَمَن دَخَلَهُ کَانَ آمِناً»(3)، وکقوله تعالی : «فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِی الْحَجِّ»(4) ، وقوله علیه السلام : العاریة مردودة والزعیم غارم(5) . ومعنی ذلک کلّه معنی الأمر والنهی وإن کان بلفظ الخبر .

فأما العبد وسیّده فلا شبهة فی نفی الربا بینهما ، لأنّ العبد لا یملک شیئاً ، والمال الذی فی یده مال لسیّده ، ولا یدخل الربا بین الإنسان ونفسه ؛ ولهذا ذهب أصحابنا إلی أنّ العبد إذا کان

ص:101


1- (4) رسائل الشریف المرتضی 1 / (185 _ 181) .
2- (5) المجموع ، ج 9 ص 391 _ 392 .
3- (1) سورة آل عمران / 97 .
4- (2) سورة البقرة / 197 .
5- (3) عوالی اللآلی / ج 1 ص 310 ح 21 .

لمولاه شریک فیه حرم الربا بینه وبینه .

واعتمدنا فی نصرة هذا المذهب علی عموم ظاهر القرآن ، وأنّ اللّه تعالی حرّم الربا علی کلّ متعاقدین ، وقوله تعالی : «لاَ تَأْکُلُواْ الرِّبَا»(1) ، وهذا الظاهر یدخل تحته الوالد وولده والزوج والزوجة .

ثمّ لمّا تأمّلت ذلک رجعت عن هذا المذهب ؛ لأنّی وجدت أصحابنا مجمعین علی نفی الربا بین من ذکرناه ، وغیر مختلفین فیه فی وقت من الأوقات ، وإجماع هذه الطائفة قد ثبت أنّه حجّة ویخصّ بمثله ظواهر الکتاب ، والصحیح نفی الربا بین من ذکرناه .

وإذا کان الربا حکماً شرعیاً جاز أن یثبت فی موضع دون آخر ، کما یثبت فی جنس دون جنس وعلی وجه دون وجه ، فإذا دلّت الأدلة علی تخصیص من ذکرناه وجب القول بموجب الدلیل .

وممّا یمکن أن یعارض ظواهره به من ظاهر الکتاب : أنّ اللّه تعالی قد أمر بالإحسان والإنعام ، مضافاً إلی ما دلّت علیه العقول من ذلک ، وحدّ الإحسان : إیصال النفع لا علی وجه الاستحقاق إلی الغیر مع القصد إلی کونه إحساناً ، ومعنی الإحسان ثابت فی من أخذ من غیره درهماً بدرهمین ؛ لأنّ من أعطی الکثیر بالقلیل وقصد به إلی نفعه به فهو محسن إلیه ، وإنّما أخرجنا من عدا من استثنیناه من الوالد وولده والزوج وزوجته بدلیل قاهر ترکنا له الظواهر . وهذا لیس مع المخالف فی المسائل التی خالفنا فیها .

فظاهر أمر اللّه تعالی بالإحسان فی القرآن فی مواضع کثیرة کقوله تعالی : «وَأَحْسِن کَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَیْکَ»(2) ،

وقوله تعالی : «إِنَّ اللّهَ یَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ»(3) یعارض الآیات التی ظاهرها عامّ فی تحریم الربا ، فإذا قالوا تخصّص آیات الإحسان لأجل آیات الربا ، قلنا : ما الفرق بینکم وبین من خصّص آیات الربا لعموم آیات الأمر بالإحسان ؟ وهذه طریقة إذا سلکت کانت

ص:102


1- (4) سورة آل عمران / 130 .
2- (5) سورة القصص / 77 .
3- (1) سورة النحل / 90 .

قویّة »(1) .

أقول : الشریف المرتضی لم ینقض الإجماع بل رجع قدس سره إلی الإجماع ، ورجوعه بواسطة الإجماع یؤید ویؤکد الإجماع ، قال العلامة المؤسس الحائری قدس سره فی هذا المجال وفی ردّ استدلال المرتضی قدس سره فی الموصلیات : « ولا یخفی أنّ کلامه قدس سره هذا ممّا یؤکّد ما ا شتهر من نفی تحریم الربا بین المذکورین غایة التأکید ، لکونه فی ذلک العصر من المسلمات التی لم یمکن السید الفتوی بخلافها . هذا مضافاً إلی إمکان استفادة ذلک من نفس هذا الترکیب مع قطع النظر عن هذا أیضاً ، فإنّ ما ذکره السید من کون المراد نفی موضوع الربا المقصود به نفی جوازه وإباحته - کما فی نفی الضرر فی الحدیث والرفث والفسوق فی الآیة - وإن کان حقّاً لکنّه لیس مطّرداً فی هذا الترکیب ، وإنّما المُسَلَّم منه ما إذا کان سوقه ابتداءً بلا سابقة تشریع حکم فی الموضوع الذی وقع تلو النفی کما فی نفی الضرر ، فإنّ المنساق من نفی الموضوع حینئذ نفی إباحته وتشریع جوازه ، وأمّا إذا کان مسبوقاً بأحد الأحکام الخمسة وبعد تشریع الحکم فیه علی سبیل الکلیة ثمّ سیق هذا الترکیب فی بعض الأصناف ، فالمنساق منه حینئذٍ هو نفی ذلک الحکم المجعول فیه علی وجه الکلیة کما فی الربا ، فإنّ حرمته ضروریة بین المسلمین ، ونادی بتحریمه الکتاب العزیز ، فبعد هذا لو ورد « لا ربا بین الرجل وولده » الخ ، فلا شبهة أنّ أظهر الآثار الثابتة للربا فی الأذهان هو التحریم ، فیرجع النفی إلیه ، فیکون المقصود جوازه بین المذکورین .

أمّا آیة : «فَلاَ رَفَثَ» الآیة ، حیث أنّه مع سبق الحکم بتحریم الفسوق والجدال حکمنا بأنّ المراد به نفی الجواز لا نفی التحریم ، فلشهادة قرینة المقام علی ذلک حیث لا یتبادر إلی ذهن أحد أن یکون حال الحج أسوأ من سائر الأحوال »(2) .

والحاصل ، الإجماع قائم علی کلّیة هذه المسائل الأربع من نفی الربا وعدم حرمته بین هؤلاء المذکورین ، وأمّا جزئیاتها فتأتی فی ضمن البحث عن هذه المسائل منفرداً إن شاء اللّه تعالی .

ص:103


1- (2) الانتصار / (443 _ 441) ، طبع جماعة المدرسین عام 1415 .
2- (3) المکاسب المحرمة / 41 لشیخنا آیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی قدس سره .

الف : لا ربا بین الوالد وولده

یدلّ علی عدم حرمة الربا بین الوالد وولده - بعد الإجماع الذی قد مرّ ذکره - بعض الروایات :

منها : حسنة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال : لیس بین الرجل وولده ، وبینه وبین عبده ، ولا بین أهله ربا ، إنّما الربا فیما بینک وبین ما لا تملک ، الحدیث(1) .

رجال السند کلهم ثقات إلاّ یاسین الضریر وهو فی أول درجات الحسن ، فالروایة به حسنة سنداً ، فالتعبیر بالصحیح عن سندها کما عن الجواهر(2) فی الموضعین عجیب . وأمّا دلالتها فواضحة .

ومنها : حسنة زرارة ومحمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال : لیس بین الرجل وولده ولا بینه وبین عبده ولا بین أهله ربا ، إنّما الربا فی ما بینک وبین ما لا تملک ، الحدیث(3) .

الروایة من حیث السند حسنة بیاسین الضریر ، وأمّا دلالتها فواضحة . ویمکن إتحادها مع الروایة الماضیة ، أعنی حسنة زرارة .

ومنها : خبر عمرو بن جمیع عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال أمیر المؤمنین علیه السلام : لیس بین الرجل وولده ربا ، ولیس بین السید وعبده ربا(4) .

أمّا رجال السند فحمید بن زیاد النینوانی موثَّق ، والخشاب لقب لثلاثة أشخاص : أوّلهم : الحسن بن موسی الخشاب وهو حسنٌ ، وثانیهم : عمران بن موسی الخشاب وهو مهمل ، وثالثهم : حجاج بن رفاعة الخشاب وهو ثقة ، ولعلّ الأظهر فی المقام أنّ المراد به هو الأوّل . والمراد بابن بقاح هو الحسن بن علی بن بقاح الثقة . ومعاذ بن ثابت حسنٌ ولکن عمرو بن جمیع الراوی الأخیر ضعیف ، فالروایة به ضعیفة الإسناد . ولکن دلالتها واضحة .

ومنها : ما فی الفقه الرضوی : لیس بین الوالد وولده ربا ،ولا بین الزوج والمرأة ربا ،

ص:104


1- (1) وسائل الشیعة 18 / 135 ح 3 . الباب 7 من أبواب الربا .
2- (2) الجواهر 23 / 379 و 381 .
3- (3) التهذیب 7 / 17 ح 75 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 136 ح 4 .
4- (4) وسائل الشیعة 18 / 135 ح 1 .

ولا بین المولی والعبد ، ولا بین المسلم والذمی(1) .

وذکر الصدوق مثلها فی المقنع(2) .

هذه الروایات الواضحة بعد الإجماع تدلّ علی جواز أخذ الربا بین الوالد وولده .

ثم یجوز أخذ الزیادة لکلِّ منهما ، لإطلاق الروایات الورادة ، وأفتی به فی السرائر(3) والشرائع(4) والتذکرة(5) والتحریر(6) والنهایة(7) والدروس(8) وإیضاح النافع(9) والمسالک(10) والروضة(11) وغیرها(12) ، وفی المفاتیح(13) والریاض(14) أنّه لا خلاف فیه إلاّ من الإسکافی(15) حیث خصّ الزیادة بالولد دون الوالد ویشترط أن لا یکون للوالد وارث ولا علیه دین ، وهو شاذ کما قاله جماعة ، وزاد فی الحدائق(16) : « وأقواله غالباً لا تخرج عن مذهب العامة » . کما

ص:105


1- (5) الفقه المنسوب إلی الرضا علیه السلام / 285 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 339 ح 1 وجامع أحادیث الشیعة 23 / 208 ح 3 .
2- (6) المقنع / 126 .
3- (1) السرائر 2 / 252 .
4- (2) شرائع الاسلام 2 / 40 .
5- (3) تذکرة الفقهاء 10 / 207 المسألة 105 .
6- (4) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 312 . الخامس .
7- (5) نهایة الأحکام 2 / 553 .
8- (6) الدروس 3 / 299 _ یُستفاد من إطلاق کلامه علیه السلام .
9- (7) إیضاح النافع / للفاضل القطیفی ونقل عنه فی مفتاح الکرامة 4 / 529 _ (14 / 98) .
10- (8) مسالک الأفهام 3 / 327 .
11- (9) الروضة البهیة 3 / 445 .
12- (10) کالمهذب 1 / 372 والکفایة 1 / 501 .
13- (11) مفاتیح الشرائع 3 / 63 .
14- (12) ریاض المسائل 8 / 433 .
15- (13) نقل عنه العلامة فی المختلف 5 / 79 .
16- (14) الحدائق 19 / 260 .

قاله السید العاملی فی مفتاح الکرامة(1) .

وقال الوحید البهبهانی فی حاشیته علی مجمع الفائدة والبرهان بالنسبة إلی تفصیل ابن الجنید الإسکافی : « وهذا غریب بالنظر إلی الأخبار»(2) .

ولا فرق هنا فی إطلاق الولد بین الذکر والاُنثی کما قال العلامة فی تذکرة الفقهاء : « ولا فرق بین الولد الذکر والاُنثی ، لشمول اسم الولد لهما »(3) . وقال المحقق الثانی : « ولا فرق فی الولد بین الذکر والاُنثی لشمول الاسم »(4) .

وهکذا لا فرق بین الولد وولد الولد وإن نزل کما یشمله لفظ « الولد » وإطلاقه ، والعمل بالعموم والحکم بثبوت الربا بعد ورود المخصص بلا وجه وإطلاق « الولد » علی ولد الولد لیس بمجاز ، بل یُطلق علیه حقیقة . فالصحیح فی المقام ما ذهب إلیه الشهید قدس سره فی الدروس(5) من الحکم بعدم ثبوت الربا بین الجد وولد الولد . ولا یتم ما ذهب إلیه ثانی الشهیدین(6) من ثبوت الربا بین الجد وولد الولد .

نعم ، الحکم یختص بالولد النسبی ، فلا یجری فی حقّ الولد الرضاعی ، لأنّه لیس بولد حقیقة ، کما أنّه یختص بالأب فلا یجری فی حقِّ الأُمّ ، کما هو واضح .

وأمّا ولد الزنا فهل یثبت هذا الحکم بینه وبین مَن له مِن نطفته أم لا ؟ الظاهر بعد الحکم بأنّ ولد الزناً أیضاً ولد فی الحقیقة فلذا لا یجوز له نکاحها لو کانت بنتاً ، إلاّ أنّ النسب منقطع فی الإرث فقط ، وأمّا فی غیر الإرث بالنسبة إلیهما جمیع أحکام النسب باقیة ، فیجری الحکم بالجواز بالنسبة إلیهما .

ص:106


1- (15) مفتاح الکرامة 4 / 529 _ (14 / 96) .
2- (16) حاشیة مجمع الفائدة والبرهان / 295 .
3- (17) تذکرة الفقهاء 10 / 209 .
4- (18) جامع المقاصد 4 / 280 .
5- (1) الدروس 3 / 299 .
6- (2) حاشیة الإرشاد / 184 وفی المطبوعة ضمن غایة المراد فی شرح نکت الارشاد للشهید الأوّل 2 / 124 .

ب : لا ربا بین السید وعبده

تدلّ علی عدم ثبوت الربا بین السید ومملوکه بعد الإجماع ، بعضُ الروایات :

منها : صحیحة علی بن جعفر أنّه سأل أخاه موسی بن جعفر علیه السلام عن رجل أعطی عبده عشرة دراهم علی أن یؤدی العبد کلّ شهر عشرة دراهم ، أیحلّ ذلک ؟ قال : لا بأس(1) .

وسند الشیخ إلی هذه الروایة حسن ببنان بن محمد بن عیسی .

ومنها : حسنة زرارة(2) وحسنة زرارة ومحمد بن مسلم(3) وخبر عمرو بن جمیع(4) المذکورة فیما سبق .

وهذه الروایات وفیها صحیحة السند تدلّ علی عدم ثبوت حکم الربا بین السید وعبده وجواز أخذ السید الزیادة من عبده ، وهذا الحکم بناءً علی القول بأنّ العبد لا یملک واضح وبناءً علی ثبوت ملکیة العبد أیضاً تدلّ علیه الروایات ومنها الصحیحة ، فلا وجه

لمناقشة الأردبیلی حیث قال : « وأمّا علی القول الآخر [ یعنی مالکیة العبد ] فلا یظهر ، إذ الروایة غیر صحیحة ولا نعرف غیرها ، إلاّ أن یدعی الإجماع فیقتصر علی موضعه وهو القن الخاص ، لا المکاتب مطلقاً ولا المشترک کما تشعر به الروایة المتقدمة »(5) .

وفیه : بعد ورود صحیحة علی بن جعفر وغیرها من الروایات تمَّ ما ذکرناه ولا یصح قوله قدس سره : « إذ الروایة غیر صحیحة» ، ولعلّه غفل عنها . وسبحان من لا یسهو .

نعم ، یثبت الربا بین السید وعبده المشترک بینه وبین غیره ، کما تدلّ علیه حسنة زرارة ومحمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال : لیس بین الرجل وولده ولابینه وبین عبده ولا بین أهله ربا ، إنّما الربا فی ما بینک وبین ما لا تملک . قلت : فالمشرکون بینی وبینهم رباً ؟ قال : نعم ،

ص:107


1- (3) وسائل الشیعة 18 / 136 ح 6 _ وأورد تمامها فی وسائل الشیعة 18 / 308 ح 12 . الباب 11 من أبواب السلف .
2- (4) وسائل الشیعة 18 / 135 ح 3 .
3- (5) وسائل الشیعة 18 / 136 ح 4 .
4- (6) وسائل الشیعة 18 135 ح 1 .
5- (1) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 489 .

قلت : فإنّهم ممالیک ؟ فقال : إنّک لست تملکهم ، إنّما تملکهم مع غیرک ، أنت وغیرک فیهم سواء ، والذی بینک وبینهم لیس من ذلک ، لأنّ عبدک لیس مثل عبدک وعبد غیرک(1) .

ونحوها حسنة زرارة(2) .

وعلی هذا العبد المشترک لا یجوز أخذ الربا منه ، وبه صرح العلامة فی القواعد(3) وتذکرة الفقهاء(4) وتحریر الأحکام(5) ونهایة الإحکام(6) ومختلف الشیعة(7) والشهید فی الدروس(8) والفاضل المقداد فی التنقیح(9) والمحقق الثانی فی جامع المقاصد(10) والقطیفی فی إیضاح النافع(11) والشهید الثانی فی المسالک(12) والسید الطباطبائی فی الریاض(13) والسید العاملی فی مفتاح الکرامة(14) .

خلافاً لصاحب الجواهر حیث قال : « العبد المشترک بین المالکین الذی یمکن القول فیه بحلیّة الربا فیه بالنسبة إلی کلِّ من مولییه »(15) وقال فی توجیه حسنة الماضیة : « علی أنّ الخبر

ص:108


1- (2) التهذیب 7 / 17 ح 75 .
2- (3) وسائل الشیعة 18 / 135 ح 3 .
3- (4) قواعد الأحکام 2 / 63 .
4- (5) تذکرة الفقهاء 10 / 209 .
5- (6) تحریر الأحکام 2 / 312 . الرابع .
6- (7) نهایة الإحکام 2 / 554 .
7- (8) مختلف الشیعة 5 / 83 .
8- (9) الدروس 3 / 299 .
9- (10) التنقیح الرائع 2 / 93 .
10- (11) جامع المقاصد 4 / 280 .
11- (12) إیضاح النافع ، کما نقل عنه العاملی فی مفتاح الکرامة 4 / 530 _ (14 / 100) .
12- (13) مسالک الإفهام 3 / 328 .
13- (14) ریاض المسائل 8 / 433 .
14- (15) مفتاح الکرامة 4 / 530 _ (14 / 99) .
15- (1) الجواهر 23 / 381 .

المزبور مع احتمال العلّة فیه إقناعیّة لما تسمع فی المشترک الجزئی ، ظاهر فی نحو المشترک الجنسی الذی هو بین المسلمین ، لا مثل المشترک بین شخصین مثلاً»(1) .

ولکن الصحیح مذهب المشهور من ثبوت الربابین العبد المشترک ومالکیه لحسنة زرارة ومحمد بن مسلم الماضیة ، وما ذکره صاحب الجواهر فی توجیهها غیر ظاهر .

وأمّا العبد المبعّض الذی بعضه رقّ وبعضه حرّ أیضاً ملحق بالمشترک ، فلا یجوز أخذ الربا منه ، خلافاً لما مال إلیه صاحب الجواهر(2) .

وأمّا القنّ والمدبَّر وأم الولد والمکاتب بقسمیه(3) فیدخل فی الاستثناء من حکم الربا ،فیجوز أخذ الربا منهم ، إلاّ إذا دخل الآخر فی المبعّض ، فیجری فیه حکمه .

وهکذا لا فرق بین کون المالک رجلاً أو امرأة کما هو الظاهر من « لفظ السید » الوارد فی الحسنة . و « الرجل » الوارد فی صحیحة علی بن جعفر لا یختص الحکم به . وذهب إلی ما ذکرناه الفقیه الیزدی فی عروته ، ولکن قال : « وإن کان الأحوط الاقتصار علی الأوّل»(4) . ولا وجه لهذا الإحتیاط إلاّ حسنه الذاتی وأنّه حسن علی کلِّ حالٍ وطریق النجاة ، أو التمسک بصحیحة علی بن جعفر الماضیة .

ج : لا ربا بین الرجل وزوجته

تدلّ علیه بعد الإجماع حسنة زرارة(5) وحسنة زرارة ومحمد بن مسلم(6) ومرسلة

ص:109


1- (2) الجواهر 23 / 381 .
2- (3) الجواهر 23 / 381 .
3- (4) قال المحقق فی الشرائع : « الکتابة قسمان : مشروطة ومطلقة ، المطلقة أن یقتصر علی العقد وذکر الأجل والعوض والنیّة ، والمشترطة : أن یقول مع ذلک « فإن عجزت فأنت رُدُّ فی الرق » ، فمتی عجز کان للمولی ردّه رقاً ولا یعید علیه ما أخذ» . شرائع الاسلام 3 / 96 .
4- (5) العروة الوثقی 6 / 72 المسألة 52 .
5- (6) وسائل الشیعة 18 / 135 ح 3 .
6- (7) وسائل الشیعة 18 / 136 ح 4 .

الصدوق(1) السابقة الذکر ، علی أنّ المراد بالأهل فی الأوّلتین الزوجة کما هو الظاهر .

ولا فرق فی الزوجة بین المعقودة بالعقد الدائم والموقت لصدق الزوجیة والأهلیة فی زمان العقد . وذهب إلیه الشهید فی الدروس(2) واللمعة(3) والمحقق الثانی فی جامع المقاصد(4) والشهید الثانی فی المسالک(5) والروضة(6) . وصاحبا الجواهر(7) والعروة(8) .

وأمّا العلامة الحلی فی التذکرة(9) فذهب إلی ثبوت الربا بین الرجل وبین زوجته بالعقد المنقطع ، وتبعه الأردبیلی فی مجمع الفائدة(10) والسید الطباطبائی فی الریاض(11) مع اعترافه بأنّ أکثر الأصحاب عمّموا الزوجة للمنقطع(12) ، والسید العاملی فی مفتاح الکرامة(13) .

والحق هو الإلحاق والظهور کما مرّ منّا .

نعم ، الأمر مشکل بالنسبة إلی المتمتع بها إذا کان زمانها قلیلاً ، نحو ساعة أو ساعتین ویوم أو یومین ، لا لعدم صدق الزوجة علیها فی زمان العقد ، بل لعدم صدق عنوان الأهل المأخوذ فی الحسنتین الماضیتین . فلذا الأمر بالنسبة إلیها مشکل ، ولیس للإجماع إطلاق حتّی

ص:110


1- (8) وسائل الشیعة 18 / 136 ح 5 .
2- (1) الدروس 3 / 299 .
3- (2) اللمعة / 193 .
4- (3) جامع المقاصد 4 / 280 .
5- (4) مسالک الأفهام 3 / 327 .
6- (5) الروضة البهیة 3 / 439 .
7- (6) الجواهر 23 / 381 .
8- (7) العروة الوثقی 6 / 73 المسألة 53 .
9- (8) تذکرة الفقهاء 10 / 209 .
10- (9) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 490 .
11- (10) ریاض المسائل 8 / 434 .
12- (11) ریاض المسائل 8 / 435 .
13- (12) مفتاح الکرامة 4 / 531 _ (14 / 102) .

یشمل المقام ، فحینئذ یجری دلیل حرمة الربا فیها ، والإحتیاط أیضاً یقتضی الترک .

وأمّا المطلّقة الرجعیّة فهنا فی حکم الأجنبیّة ، إذ یمنع صدق الأهل علیها ، فلا یلحقها حکم الجواز . کما فی الجواهر(1) والعروة(2) .

ثم یجوز أخذ الزیادة لکلِّ واحد منهما من صاحبه ، کما اعترف به العلامة فی تذکرة الفقهاء(3) .

د : یجوز الربا بین المسلم والحربی إذا أخذه المسلم

تدلّ علیه بعد الإجماع(4) عدّة من الروایات :

منها : خبر عمرو بن جمیع عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لیس بیننا وبین أهل حربنا ربا ، نأخذ منهم ألف درهم بدرهم ونأخذ منهم ولا نعطیهم(5) .

الروایة رواها المشایخ الثلاثة(6) وفی سندها ضعف بعمرو بن جمیع ، ولکن الشهرة علی طبقها وجابر لضعف سندها کما قال صاحب الجواهر : « والضعف غیر قادح بعد الإنجبار »(7) .

ودلالتها علی جواز أخذ الربا من الحربی وعدم جواز إعطائها واضحة .

ویمکن المناقشة فی الإنجبار بأنّ من الممکن أن یکون استناد المشهور بالإجماع أو بأن الحکم علی طبق القاعدة ، فلا یحرز استنادهم بالروایة .

ومنها : مرسلة الصدوق قال : قال الصادق علیه السلام : لیس بین المسلم وبین الذمی ربا ، ولا بین المرأة وبین زوجها رباً(8) .

ص:111


1- (13) الجواهر 23 / 382 .
2- (14) العروة الوثقی 6 / 73 .
3- (15) تذکرة الفقهاء 10 / 207 .
4- (1) المذکور فی مفتاح الکرامة 4 / 531 (14 / 102) و الجواهر 23 / 382 .
5- (2) وسائل الشیعة 18 / 135 ح 2 .
6- (3) الکافی 5 / 147 ح 2 _ الفقیه 3 / 277 ح 4000 _ التهذیب 7 / 18 ح 77 .
7- (4) الجواهر 23 / 382 .
8- (5) الفقیه 3 / 287 ح 4002 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 136 ح 5 .

بناءً علی حملها علی الذمی الذی خرج من شرائط الذمة کما حملها العلامة فی المختلف(1) ، وقال فی الریاض : « حمل الأصحاب المرسلة علی خروج الذمی عن شرائط الذمة »(2) فلذا تدلّ علی جواز أخذ الربا بین المسلم والحربی ، لأنّ الذمی إذا خرج من شرائط الذمة ولم یف بها صار حربیّاً . مضافاً إلی أنّ أخذ الربا من الذمی إذا کان جائزاً بطریق أولی تدلّ علی جواز أخذه من الحربی حتّی إذا لم تحمل المرسلة علی ما حملها الأصحاب .

ومنها : ما فی کتابی الفقه الرضوی والمقنع : لیس بین الوالد وولده ربا ولا بین الزوج والمرأة ربا ، ولا بین المولی والعبد ، ولا بین المسلم الذمی(3) .

بالتقریب الذی مرّ فی الروایة السابقة .

فحینئذٍ یجوز للمسلم أخذ الربا من الحربی ، ولکن لا یجوز إعطاؤه أیّاه ، کما یدلّ علیه

خبر عمرو بن جمیع وعلیه المشهور بل الإجماع ، بلا فرق فی ذلک بین دار الإسلام ودار الحرب ، لإطلاق الخبر وصریح فتوی المشهور .

ویؤیّد هذا الإستثناء من حرمة الربا ، عدم حرمة مال الحربی کعرضه ودمه ، فلذا یجوز للمسلم استنقاذ ماله بأیِّ وجهٍ یمکن ذلک ، ومنها : أخذ الربا منه .

وأمّا أخذ المسلم الربا من الذمی هل یجوز أم لا ؟ ذهب إلی جوازه والد الصدوق(4) وولده(5) والمفید(6) والمرتضی وادعی علیه الإجماع(7) والقطیفی(8) ، وإلی عدم جوازه

ص:112


1- (6) مختلف الشیعة 5 / 82 .
2- (7) ریاض المسائل 8 / 435 .
3- (8) الفقه الرضوی / 285 والمقنع / 126 ونقلا عنهما فی مستدرک الوسائل 13 / 339 ح 1 وجامع أحادیث الشیعة 23 / 208 ح 3 .
4- (1) نقل عنه العلامة فی مختلف الشیعة 5 / 81 .
5- (2) المقنع / 126 .
6- (3) نقل عنه ابن إدریس فی السرائر 2 / 252 والعلامة فی المختلف 5 / 81 ، ولکن قال السید العاملی فی مفتاح الکرامة 4 / 532 (14 / 108) : « ولم أجد له ذکراً فی المقنعة » .
7- (4) الانتصار / 442 .
8- (5) إیضاح النافع / مخطوط ونقل عنه فی مفتاح الکرامة 4 / 532 (14 / 108) .

المشهور(1) .

والصحیح ما ذهب إلیه المشهور من ثبوت الربا بین المسلم والذمی ، لما مرّ من حمل مرسلة الصدوق وعبارتی الفقه الرضوی والمقنع علی الذمی الذی خرج من شرائط الذمة وبخروجه منها صار حربیّاً .

مضافاً إلی ورود إطلاقات حرمة الربا ، وتدلّ علی ثبوت الربا بینهما :

حسنة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال : لیس بین الرجل وولده وبین عبده ولا بین أهله ربا ، إنّما الربا فیما بینک وبین ما لا تملک .

قلت : فالمشرکون بینی وبینهم ربا ؟ قال : نعم . قال : قلت : فإنّهم ممالیک ، فقال : إنّک لست تملکهم إنّما تملکهم مع غیرک ، أنت وغیرک فیهم سواء ، فالذی بینک وبینهم لیس من ذلک ، لأنّ عبدک لیس مثل عبدک وعبد غیرک(2) .

ومثلها حسنة زرارة ومحمد بن مسلم عنه علیه السلام (3) .

الروایتان من حیث السند حسنتان کما مرّ منّا سابقاً ، وأمّا دلالتهما علی حرمة أخذ الربا من المشرکین واضحة والقدر المتیقّن منهم أهل الذمة ، فلا یجوز أخذ الربا من أهل الذمة

کما علیه المشهور .

وأمّا المُعاهَد هل یلحق بالحربی أم بالذمی ؟ قال بإلحاقه بالحربی العلاّمة فی التذکرة(4) والمحقق الکرکی فی جامع المقاصد(5) والشهید الثانی فی المسالک(6) والسید العاملی فی مفتاح

ص:113


1- (6) مسالک الأفهام 3 / 328 ومفتاح الکرامة 4 / 532 (14 / 105) وریاض المسائل 8 / 435 والجواهر 23 / 383 .
2- (7) وسائل الشیعة 18 / 135 ح 3 .
3- (8) وسائل الشیعة 18 / 136 ح 4 .
4- (1) تذکرة الفقهاء 10 / 208 .
5- (2) جامع المقاصد 4 / 281 .
6- (3) مسالک الأفهام 3 / 328 .

الکرامة(1) وصاحبا الجواهر(2) والعروة(3) .

ولکن المحقق الأردبیلی قال بعدم إلحاقه بالحربی وثبوت الربا بین المسلم والمعاهد فی مجمع الفائدة والبرهان(4) .

واستدلّ العلامة لإلحاق المعاهد بالحربی بقوله : « لأنّه (أی المعاهد) فی الحقیقة فیء للمسلمین وقد بذل ماله بإذنه للمسلم ، فجاز له أخذه منه حیث أزال أمانه عنه ببذله له »(5) .

وقال المحقق الثانی فی تقریب هذا الاستدلال : « ولا فرق بین کونه معاهداً أم لا ، لأنّ الحربی فیءٌ لنا ، وأمانه وإن منع من أخذ ماله بغیر حقٍّ ، إلاّ أنّه إذا رضی بدفع الفضل انتقض أمانه فیه ، نبّه علیه فی التذکرة »(6) .

أقول : هذا الاستدلال من العلمین تام ، مضافاً إلی أنّ إطلاق الحربی یشمل المعاهد ، فیجوز أخذ الربا منه ولا مانع من أخذ ماله بعد رضایته به .

وحیث کان أهل الکتاب الموجودون الیوم بین المسلمین لیسوا من أهل الذمة - لعدم وجود عقد ذمة بینهم وبین المسلمین وعدم مراعاتهم شرائط الذمة - فإنّهم معاهدون ، فیجوز أخذ الربا منهم ولا یجوز إعطاؤهم الربا .

نعم ، دماؤهم وأعراضهم وأموالهم محترمة بالعهد والأمان . واللّه سبحانه هو العالم .

هذا تمام الکلام فی مستثنیات الربا ، والحمد للّه ربّ العالمین .

الثالث : یجوز بیع درهم ودینار ، بدینارین ودرهمین

هذه إحدی الحیل للفرار من الربا ، ولکن هل یختص ببیع الصرف أو یمکن التعدی منه

إلی غیره ؟

ص:114


1- (4) مفتاح الکرامة 4 / 531 _ (14 / 109) .
2- (5) الجواهر 23 / 382 .
3- (6) العروة الوثقی 6 / 73 .
4- (7) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 490 .
5- (8) تذکرة الفقهاء 10 / 209 .
6- (9) جامع المقاصد 4 / 281 .

ظاهر بعض الروایات اختصاصها بالصرف ، ولکن الأصحاب قدس سرهم تعدوا منه إلی غیر النقدین من الأجناس الربویة .

قال المحقق : « یجوز بیع درهم ودینار بدینارین ودرهمین ویُصرف کلّ واحد منهما إلی غیر جنسه ، وکذا لو جعل بدل الدینار أو الدرهم شیء من المتاع وکذا مُدَّ من تمرٍ ودرهمٍ بمدّین أو أمدادٍ ودرهمین أو دراهم »(1) .

وقال تلمیذه العلامة فی القواعد : « لو اشتمل أحد العوضین علی جنسین ربویین صح بیعهما بأحدهما مع الزیادة ، کمُدّ تمرٍ ودرهمٍ بمدّین ، أو بدرهمین ، أو بمدّین ودرهمین »(2) .

وقال فی التذکرة : « یجوز بیع الجنسین المختلفین بأحدهما إذا زاد علی ما فی المجموع من جنسه بحیث تکون الزیادة فی مقابلة المخالف ، وذلک کمُدّ عَجْوَةٍ(3) ودرهم بمُدَّیْ عجوة أو بدرهمین أو بمُدَّیْ عجوة ودرهمین ، عند علمائنا أجمع _ وبه قال ابو حنیفة _ حتّی لو باع دیناراً فی خریطة بمائة دینار جاز ، لنا : الأصل السالم عن معارضة الربا ، لأنّ الربا هو بیع أحد المثلین بأزید منه من الآخر والمبیع هنا المجموع وهو مخالف لأفراده ، وما رواه» _ ثمّ ذکر بعض الروایات الورادة فی المقام واستدل علی الجواز ثم قال : « وقال الشافعی : لا یجوز ذلک کلّه ، وبه قال أحمد لأنَّ ... »(4) .

وقال المحقق الثانی فی شرح قول العلاّمة فی القواعد : « لا یخفی أن قوله : (صح بیعهما بأحدهما مع الزیادة) لا یتناول بیعهما بالجنسین معاً ، إلاّ إذا جعلنا الزیادة بحیث تتناول الجنس الآخر ، وهذا الحکم بإجماعنا ، ومنعه بعض العامة لحصول التفاوت»(5) .

وقال الشهید الثانی فی ذیل قول المحقق : « هذا الحکم موضع وفاق بین أصحابنا ، وخالف فیه الشافعی محتجّاً بحصول التفاوت عند المقابلة علی بعض الوجوه ، کما لو بیع مدّ

ص:115


1- (1) الشرائع 2 / 41 .
2- (2) القواعد 2 / 62 .
3- (3) العَجْوَةُ والعُجَاوَة : التمرُ المحشِیُّ فی وعائه .
4- (4) تذکرة الفقهاء 10 / 181 و 182 مسألة 92 .
5- (5) جامع المقاصد 4 / 274 .

ودرهم بمدّین ، والدرهم ثمن لمدّ ونصف بحسب القیمة الحاضرة ، وجوابه أنّ الزیادة حینئذ بمقتضی التقسیط لا البیع ، فإنّه إنّما وقع علی المجموع بالمجموع »(1) .

وقال الأردبیلی : « ومستند الإجماع عموم أدلة الجواز مع عدم تحقق الربا ، لأنّه إنّما یکون فی بیع أحد المتجانسین المقدَّرین بالکیل أو الوزن ، متفاضلین أو نسیئة بالآخر ، وهنا لیس کذلک ، لأنّ المرکب من الجنسین لیس بجنس واحد ، وهو ظاهر .

ولاحتمال أن یکون المقابل للمجانس ما یساویه قدراً من جنسه ویبقی الباقی فی مقابل غیر المجانس وإن کان أضعاف ذلک فلا یحصل الربا ، وهو ظاهر . وبالجملة : الأمر إذا احتمل الصحة محمول علیها ... »(2) .

قال السید العاملی فی مفتاح الکرامة فی شرح کلام العلامة فی القواعد : « قد نص علی جواز ذلک المبسوط(3) والخلاف(4) والغنیة(5) والسرائر(6) والشرائع(7) والنافع(8) والتحریر(9) والتذکرة(10) والإرشاد(11) ونهایة الإحکام(12) وکنز الفوائد(13) والإیضاح(14)

ص:117


1- (6) مسالک الافهام 3 / 330 .
2- (1) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 487 .
3- (2) المبسوط 2 / 92 .
4- (3) الخلاف 3 / 61 .
5- (4) غنیة النزوع / 225 .
6- (5) السرائر 2 / 264 .
7- (6) شرائع الإسلام 2 / 41 .
8- (7) المختصر النافع / 128 .
9- (8) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 310 .
10- (9) تذکرة الفقهاء 10 / 181 .
11- (10) إرشاد الأذهان 1 / 379 .
12- (11) نهایة الإحکام 2 / 548 .
13- (12) کنز الفوائد 1 / 442 .
14- (13) ایضاح الفوائد 1 / 487 .

والدروس(1) واللمعة(2) وحواشی الشهید وکفایة الطالبین(3) وجامع المقاصد(4) وحاشیة الارشاد(5) والمیسیة والروضة(6) والمسالک(7) ومجمع البرهان(8) والکفایة(9) والمفاتیح(10) ، وقد

حکی علیه الإجماع فی الخلاف والغنیة والتذکرة وجامع المقاصد وحاشیة الارشاد والمسالک وظاهر نهایة الإحکام والإیضاح وکنز الفوائد ، مضافاً إلی الأصل والعمومات و ... »(11) .

وقال فی الجواهر : « إذهو وإن لم یکن فی کلٍّ منهما جنس یخالف الآخر ، إلاّ أنّ الزیادة تکون فی مقابل الجنس المخالف فی أحدهما ، فهو فی الصحة حینئذ کذی الجنسین . ولا خلاف بیننا فی الجمیع ، بل الإجماع بقسمیه علیه ، بل المحکی منه مستفیض جداً إن لم یکن متواتراً ، مضافاً إلی الأصل والعمومات و ... »(12) .

أقول : فالحکم عندنا إجماعی ولم یخالف فیه أحد من أصحابنا ، وبه قال أبو حنیفة(13) کما مرّ

ص:117


1- (14) الدروس 3 / 298 .
2- (15) اللمعة / 126 .
3- (16) کفایة الطالبین / 37 .
4- (17) جامع المقاصد 4 / 274 .
5- (18) حاشیة إرشاد الاذهان المطبوعة ضمن حیاة المحقق الکرکی وآثاره 9 / 411 .
6- (19) الروضة البهیة 3 / 441 .
7- (20) المسالک 3 / 330 .
8- (21) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 486 .
9- (22) الکفایة 1 / 501 .
10- (23) مفاتیح الشرائع 3 / 63 .
11- (1) مفتاح الکرامة 4 / 521 و 522 _ (14 / 72 _ 70) .
12- (2) الجواهر 23 / 391 .
13- (3) حلیة العلماء 4 / 170 والحاوی الکبیر 5 / 113 والتهذیب للبغوی 3 / 347 .

قوله عن العلامة فی التذکرة(1) ، وخالف فیه أحمد والشافعی(2) کما مرّ خلاف الشافعی عن ثانی الشهیدین فی المسالک(3) وخلافهما عن العلامة فی التذکرة(4) .

وتدلّ علی الحکم - مضافاً إلی الإجماع والأصل وعمومات صحة البیع - النصوص المستفیضةُ :

منها : موثقة أبی بصیر قال : سألته عن السیف المفضَّض یباع بالدراهم ؟ فقال : إذا کانت فضته أقل من النقد فلا بأس ، وإن کانت أکثر فلا یصلح(5) .

ومنها : صحیحة أبی بصیر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن بیع السیف المحلّی بالنقد ؟ فقال : لا بأس به . قال : وسألته عن بیعه بالنسیئة ؟ فقال : إذا نقد مثل ما فی فضّته فلا بأس به أو لیعطی الطعام(6) .

وهاتان الروایتان لا تختصان بالصرف کما تری .

ومنها : صحیحة عبد الرحمن بن الحجاج قال : سألته عن الصرف فقلت له : الرفقة ربما عجّلت فخرجت فلم نقدر علی الدمشقیة والبصریة وإنّما یجوز نیسابور الدمشقیة والبصریة ، فقال : وما الرفقة ؟ فقلت : القوم یترافقون ویجتمعون للخروج ، فإذا عجلوا فربّما لم یقدروا علی الدمشقیة والبصریة ، فبعثنا بالغلة فصرفوا ألفاً وخمسین منها بألف من الدمشقیة والبصریة ، فقال : لا خیر فی هذا ، أفلا یجعلون فیها ذهباً لمکان زیادتها ، فقلت له : أشتری ألف درهم ودیناراً بألفی درهم ؟ فقال : لا بأس بذلک ، إنّ أبی کان أجرأ علی أهل المدینة منّی ، فکان یقول هذا ، فیقولون : إنّما هذا الفرار ، لو جاء رجل بدینار لم یعط ألف درهم ولو جاء بألف درهم لم یعط ألف دینار ، وکان یقول لهم : نعم الشیء الفرار من الحرام إلی الحلال(7) .

ومنها : فی صحیحة اُخری له عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : کان محمد بن المنکدر یقول لأبی علیه السلام : یا أبا جعفر رحمک اللّه وإنّا نعلم أنک لو أخذتَ دیناراً والصرف بثمانیة عشر فدرتَ

ص:118


1- (4) تذکرة الفقهاء 10 / 181 .
2- (5) المغنی لابن قدامة 4 / 168 مسألة 2836 _ الاُمّ 3 / 28 _ مختصر المزنی / 77 .
3- (6) مسالک الأفهام 3 / 330 .
4- (7) تذکرة الفقهاء 10 / 182 .
5- (8) وسائل الشیعة 18 / 200 ح 8 . الباب 15 من أبواب الصرف .
6- (9) وسائل الشیعة 18 / 199 ح 3 .
7- (1) وسائل الشیعة 18 / 187 ح 1 . الباب 6 من أبواب الصرف .

المدینة علی أن تجد من یعطیک عشرین ما وجدتَه ، وما هذا إلاّ فرار ، فکان أبی یقول : صدقت واللّه ، ولکنّه فرار من باطل إلی حقّ(1) .

ومنها : صحیحة ثالثة له قال : سألته عن رجل یأتی بالدراهم إلی الصیرفی فیقول له : آخذ منک المائة بمائة وعشرة أو بمائة وخمسة حتّی یراوضه علی الذی یرید ، فإذا فرغ جعل مکان الدراهم الزیادة دیناراً أو ذهباً ، ثم قال له : راددتک البیع وإنّما اُبایعک علی هذا ، لأنّ الأوّل لا یصلح أو لم یقل ذلک ، وجعل ذهباً مکان الدراهم ، فقال : إذا کان آخر البیع علی الحلال فلا بأس بذلک ، قلت : فإن جعل مکان الذهب فلوساً ، قال : ما أدری ما الفلوس(2) .

ومنها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : لا بأس بألف درهم ودرهم بألف درهم ودینارین إذا دخل فیها دیناران أو أقل أو أکثر فلا بأس به(3) .

ومنها : صحیحة سعید بن یسار عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : کان أبی بعثنی بکیس فیه ألف درهم إلی رجل صراف من أهل العراق ، وأمرنی أن أقول له : أن یبیعها ، فإذا باعها أخذ ثمنها ، فاشتری لنا بها دراهم مدنیة(4) .

هذه الصحیحة محمولة إمّا علی بیع الدراهم بالدنانیر ثم بیع الدنانیر بالدراهم المدنیة أو علی التساوی فی الوزن .

ومنها : صحیحة إسماعیل بن جابر عن أبی جعفر علیه السلام قال : سألته عن الرجل یجی ء إلی صیرفی ومعه دراهم یطلب أجود منها فیقاوله علی دراهمه فیزیده کذا وکذا بشیءٍ قد تراضیا علیه ، ثم یعطیه بعد دراهمه دنانیر ، ثم یبیعه الدنانیر بتلک الدراهم علی ما تقاولا علیه أوّل مرّة ؟ قال : ألیس ذلک برضا منهما جمیعاً ؟ قلت : بلی ، قال : لا بأس(5) .

ومنها : خبر أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الدراهم بالدراهم وعن

ص:119


1- (2) وسائل الشیعة 18 / 179 ح 2 .
2- (3) وسائل الشیعة 18 / 179 ح 3 .
3- (4) وسائل الشیعة 18 / 180 ح 4 .
4- (5) وسائل الشیعة 18 / 180 ح 5 .
5- (1) وسائل الشیعة 18 / 180 ح 6 .

فضل ما بینهما ؟ فقال : إذا کان بینهما نحاس أو ذهب فلا بأس(1) .

ومنها : صحیحة أبی الصباح الکنانی قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل یقول للصائغ : صغ لی هذا الخاتم واُبدل لک درهماً طازجاً بدرهم غلّة ؟ قال : لا بأس(2) .

تلک عشرة کاملة من الروایات ، وأکثرها صحاح سنداً وواضحة دلالةً تدلّ علی جواز بیع درهم ودینار بدینارین ودرهمین ویصرف کلّ واحد منهما إلی غیر جنسه ، وهکذا تدلّ علی جواز بیع الجنسین الربویین مع الزیادة إذا کان فی البین جنس آخر غیرهما یقابل الزیادة وبعبارة اُخری : تدلّ علی کیفیة الفرار من الربا فی المثلیات ، وهی کما تری لا تختص بالصرف وإن کان أکثرها فیه ، ولکن موثقة أبی بصیر(3) وصحیحته(4) وصحیحة أبی الصباح الکنانی(5) عام یشمل الصرف وغیره .

فیمکن التعدی فی هذه الحیلة من الصرف إلی غیره من المبادلات والمعاملات الربویة ، کما ذهب إلیه المشهور من أصحابنا رضوان اللّه تعالی علیهم أجمعین .

تنبیهٌ : حکم الاُوراق النقدیة

أمّا الاُوراق النقدیة المتداولة فی البلاد المختلفة الیوم نحو : الریالات أو الدلارات أو الدنانیر أو الدراهم الورقیة أو غیرها ، فلیست من جنس النقدین ، فلذا لا یحتاج فی معاملة

بعضها من بعض بالزیادة أو النقیصة إلی هذه الحیلة المذکورة فی التخلص من الربا أو غیرها من الحیل التی تأتی ، لأنّها لیست من النقدین أو لیست من المکیل والموزون ، فیجوز بیع أحدها بالآخر بالزیادة ، بل یجوز بیع أحدها بنفسها بالزیادة ، نحو : إعطاء مائة وعشرة دلارات المفردة وأخذ مائة دلار فی ورقة واحدة .

ص:120


1- (2) وسائل الشیعة 18 / 181 ح 7 و 18 / 163 ح 2 الباب 20 من أبواب الربا .
2- (3) وسائل الشیعة 18 / 195 ح 1 . الباب 13 من ابواب الصرف .
3- (4) وسائل الشیعة 18 / 200 ح 8 .
4- (5) وسائل الشیعة 18 / 199 ح 3 .
5- (6) وسائل الشیعة 18 / 195 ح 1 .

والحاصل ، لا تجری أحکام الربا فی الاُوراق النقدیة ، فیجوز بیع بعضها من بعض بالزیادة ، ولذا قال صاحب العروة : « الإسکناس معدود من جنس غیر النقدین له قیمة معینة ولا یجری علیه حکمهما ، فیجوز بیع بعضه ببعض أو بالنقدین متفاضلاً ... »(1) .

نعم ، لابد من أن یکون هذا البیع نقداً ، وأمّا إذا کانت نسیئة بالزیادة فیشکل الأمر فیها ، لتطرق شبهة الربا القرضی فیها ، لأنّ هذه المعاملة ظاهرها وإن کانت بیعاً ولکن واقعها من القرض الربوی ، فحینئذ تکون محرّمة وباطلة .

واللّه سبحانه هو العالم .

الرابع : یمکن التخلص من الربا بوجوهٍ :

منها : أن یبیع الجنس الربوی بثمن من غیر جنسه ثم یشتری الجنس الآخر بذلک الثمن أو بغیره ، کما إذا باع منّاً من الحنطة بألف دینار ثمّ اشتری منّین من الحنطة أیضاً بألف دینار أو أقل أو أکثر ثمّ تساقط الذمتین بمقدار المقابلة .

ومنها : ضمّ الضمیمة من غیر الجنس الربوی إلی الطرف الناقص أو الطرفین . کما مرّ مفصلاً فی الفرع السابق .

ومنها : أنْ یتبایعا بقصد کون المثل بالمثل وکون الزائد هبة .

ومنها : أن یهب کلّ من المتبایعین جنسه الآخر ، لکن من غیر قصد المعاوضة بین الهبتین واشتراط الهبة فی الهبة .

ومنها : أن یقرض کلّ منهما صاحبه ثمّ یتبارءا مع عدم الاشتراط .

ومنها : أن یصالح صاحب الزیادة مقدارها للآخر ویشترط علیه أن یبیعه کذا بکذا مثلاً بمثل . هذا فی البیع ، وفی القرض أن یصالح المقترض مع المقرض قبل القرض الزیادة بعوض جزئی أو بلا عوض ویشترط فی ضمن هذه المصالحة أن یقرضه مبلغ کذا إلی مدّة کذا .

وإذا کان الدین سابقاً وحلّ أجله ویرید أن یؤجّله إلی مدّة یجوز أن یصالحه بمقدار

ویشترط علیه أن یؤجله إلی تلک المدّة .

ص:121


1- (1) العروة الوثقی 6 / 74 مسألة 56 .

ذکر الفقیه الیزدی قدس سره هذه الحیل الشرعیة للتخلص من الربا فی العروة الوثقی(1) .

هذه الحیل المذکورة فی کلّیّتها تُلقیت بالقبول من قِبَلِ أصحابنا قدس سرهم ، کما علیه الشیخ الطوسی فی الخلاف(2) والمحقق فی الشرائع(3) والنافع(4) والعلامة فی التذکرة(5) والقواعد(6) والنهایة(7) والإرشاد(8) والتحریر(9) وابن زهرة الحلبی فی الغنیة(10) والشهید الأوّل فی الدروس(11) والشهید الثانی فی المسالک(12) والروضة البهیة(13) وأصحاب الکفایة(14) والریاض(15) والمفتاح(16) والجواهر(17) والعروة(18) .

قال سید الریاض : « بلا خلاف بین الطائفة بل علیه الاجماع فی الخلاف والغنیة

ص:122


1- (1) العروة الوثقی 6 / 75 المسألة 61 .
2- (2) الخلاف 3 / 61 .
3- (3) الشرائع 2 / 41 .
4- (4) المختصر النافع / 128 .
5- (5) تذکرة الفقهاء 10 / 201 المسألة 98 .
6- (6) قواعد الأحکام 2 / 63 .
7- (7) نهایة الأحکام 2 / 548 .
8- (8) إرشاد الأذهان 1 / 379 .
9- (9) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 312 .
10- (10) غنیة النزوع / 225 .
11- (11) الدروس 3 / 298 .
12- (12) مسالک الأفهام 3 / 332 .
13- (13) الروضة البهیة 3 / 445 .
14- (14) کفایة الأحکام 1 / 499 و 501 .
15- (15) ریاض المسائل 8 / 439 .
16- (16) مفتاح الکرامة 4 / 527 _ (14 / 88 وما بعدها) .
17- (17) الجواهر 23 / 396 .
18- (18) العروة الوثقی 6 / 75 .

والمسالک والتذکرة وغیرها من کتب الجماعة هو الحجة »(1) .

وقال السید العاملی : « ولم أجد من تأمل أو توقف [ فی هذه الحیل ] سوی المولی الأردبیلی علی ما لعلّه یتوهم منه ... »(2) .

أقول : أذکر تمام کلام المحقق الأردبیلی حتّی یتبیّن لک تأمله أو توقفه فی المقام أو

عدمه ، ولذا قال السید العاملی : « علی ما لعلّه یتوهم منه» . قال الأردبیلی معلِّقاً علی بعض الحیل المذکورة فی الإرشاد بعد تقریبه وتوضیحه لها : « ... وینبغی الإجتناب عن الحیل مهما أمکن ، وإذا اضطر ما ینجیه عند اللّه ولا ینظر إلی الحیل وصورة جوازها ظاهراً لما عرفت من علّة تحریم الربا ، فکأنّه أشار فی التذکرة بقوله : « لو دعت الضرورة إلی بیع الربویات مستفضلاً ]متفاضلاً ] مع إتحاد الجنس »(3) الخ _ وذکر الحیل منها ما تقدم _(4) .

نعم قال قبل ثلاثین صفحة : « بل هذا یدلّ علی عدم جواز أکثر الحیل التی تُستعمل فی إسقاط الربا ، فافهم »(5) .

فیصح بأن یجعل المحقق الأردبیلی قدس سره من المستشکلین فی الحیل الربویة .

وهکذا تبعه فی الردّ علی بعض الحیل الوحید البهبهانی قدس سره فی حاشیته علی مجمع الفائدة والبرهان(6) ورسالته فی القرض بشرط المعاملة المحاباتیة المطبوعة ضمن رسائله الفقهیة(7) .

فهذان الفقیهان یردان علی بعض الحیل المذکورة ، وتبعهما من المتأخرین السید الخمینی قدس سره فی کتابه البیع(8) .

ص:123


1- (19) ریاض المسائل 8 / 439 .
2- (20) مفتاح الکرامة 4 / 527 _ (14 / 89) .
3- (1) تذکرة الفقهاء 10 / 201 المسألة 98 .
4- (2) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 488 .
5- (3) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 453 .
6- (4) حاشیة مجمع الفائدة والبرهان / 290 .
7- (5) الرسائل الفقهیة / (294 _ 239) للوحید البهبهانی .
8- (6) کتاب البیع 2 / 406 طبعة اسماعیلیان .

ولم یرد علی هذه الحیل بعدم ترتب القصد إلی هذه العقود ، وأجاب الفقهاء عن هذا الإشکال :

ولعلّ أوّل من أجاب عن هذا الإشکال ثانی الشهیدین قال : « ولا یقدح فی ذلک کون هذه الاُمور غیر مقصودة بالذات والعقود تابعة للقصود ، لأنّ قصد التخلص من الربا إنّما یتمّ مع القصد إلی بیع صحیح أو قرض أو غیرهما من الأنواع المذکورة ، وذلک کافٍ فی القصد ، إذ لا یُشترط فی القصد إلی عقد قصد جمیع الغایات المترتبة علیه ، بل یکفی قصد غایة صحیحة من غایاته ، فإنّ من أراد شراء دار مثلاً لیؤاجرها ویکتسب بها فإنّ ذلک کافٍ فی الصحة ، وإن کان لشراء الدار غایات اُخر أقوی من هذه وأظهر فی نظر العقلاء . وکذا القول فی غیر ذلک من أفراد العقود »(1) .

وقال السید الریاض : « ولا یقدح فی ذلک کون هذه الاُمور غیر مقصودة بالذات والعقود تابعة للقصود ، لأنّ القصد إلی عقد صحیح وغایة صحیحة کافیة فی الصحة ، ولا یُشترط فیه قصد جمیع الغایات المترتبة علیه ، فإنّ من أراد شراء دار مثلاً لیؤاجرها ویتکسّب بها فإنّ ذلک کافٍ فی الصحة وإن کان له غایات اُخر أقوی من هذه وأظهر فی نظر العقلاء کالسکنی وغیره »(2) .

قال السید العاملی : « وقالوا فی المقام : ولا یُقدح فی ذلک کلّه کون هذه العقود - أی الإتهاب والإقتراض والإبراء - غیر مقصودة بالذات ، مع أنّ العقود أی الصیغ تابعة للقصود ، لأنّ قصد التخلص من الربا الذی لا یتمّ إلاّ بالقصد إلی بیع صحیح أو قرض أو غیرهما کافٍ فی القصد إلیها ، لأنّ ذلک غایة مترتبة علی صحة العقد مقصودة ، فیکفی جعلها غایة ، إذ لایعتبر قصد جمیع الغایات المترتبة علی العقد ، فإنّ من أراد شراء دار لیؤجرها ویکتسب بها فإنّ ذلک کافٍ فی الصحة وإن کان لشراء الدار غایات اُخر أقوی من هذه وأظهر ... »(3) .

وأجاب عن هذا الإشکال صاحب الجواهر أیضاً : « وکیف کان فلا یناقش فی هذه

ص:124


1- (7) مسالک الأفهام 3 / 332 .
2- (1) ریاض المسائل 8 / 441 .
3- (2) مفتاح الکرامة 4 / 529 _ (14 / 94) .

الحیل بعدم قصد هذه الاُمور أوّلاً وبالذات ، ومن المعلوم تبعیة العقود للقصود ، لاندفاعها بالمنع من عدم القصد ، بل قصد التخلص من الربا المتوقف علی قصد الصحیح من البیع والقرض والهبة وغیرها من العقود کافٍ فی حصول ما یحتاج إلیه البیع من القصد ، إذ لا یُشترط فی القصد إلی قصد جمیع الغایات المترتبة ، بل یکفی قصد غایة من غایاته ، واللّه أعلم »(1) .

أقول : هذا المقال منهم قدس سرهم تام ، وتدلّ علی صحة هذه الحیل عدّة من الروایات :

منها : ذیل صحیحة عبد الرحمن بن الحجاج ، وفیها : کان یقول [ أبو جعفر علیه السلام [ لهم : نعم الشیء الفرار من الحرام إلی الحلال(2) .

ومنها : صحیحته الاُخری عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : کان محمد بن المنکدر یقول لأبی علیه السلام : یا أبا جعفر رحمک اللّه ، واللّه إنّا لنعلم أنّک لو أخذت دیناراً والصرف بثمانیة عشر فدرتَ المدینة علی أن تجد من یعطیک عشرین ما وجدته ، وما هذا إلاّ فراراً ، فکان أبی یقول :

صدقت واللّه ولکنّه فرارٌ من باطل إلی حقٍّ(3) .

ومنها : معتبرة مسعدة بن صدقة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سئل رجل له مال علی رجل مِنْ قِبَلِ عینة عیّنها إیّاه ، فلمّا حلّ علیه المال لم یکن عنده ما یعطیه ، فأراد أن یقلب علیه ویربح أیبیعه لؤلؤاً أو غیر ذلک ما یسوی مائة درهم بألف درهم ویؤخّره ؟ قال : لا بأس بذلک ، قد فعل ذلک أبی رضی الله عنه وأمرنی أن أفعل ذلک فی شیءٍ کان علیه(4) .

ومنها : صحیحة عبد الملک بن عتبة الصیرفی قال : سألته عن الرجل یرید أن اُعینه المال أو یکون لی علیه مال قبل ذلک ، فیطلب منّی مالاً أزیده علی مالی الذی لی علیه ، أیستقیم أن أزیده مالاً وأبیعه لؤلؤة تسوی مائة درهم بألف درهم فأقول :

أبیعک هذه اللؤلؤة بألف درهم علی أن اُؤخرک بثمنها وبمالی علیک کذا وکذا شهراً ؟ قال :

ص:125


1- (3) الجواهر 23 / 397 .
2- (4) وسائل الشیعة 18 / 178 ح 1 . الباب 6 من أبواب الصرف .
3- (1) وسائل الشیعة 18 / 179 ح 2 .
4- (2) وسائل الشیعة 18 / 54 ح 3 . الباب 9 من أبواب أحکام العقود .

لا بأس(1) .

ومنها : موثقة بل صحیحة محمد بن إسحاق بن عمار قال : قلت لأبی الحسن علیه السلام : یکون لی علی الرجل دراهم فیقول : أخّرنی بها وأنا أربحک ، فأبیعه جبّةً تقوم علیَّ بألف درهم ، بعشرة آلاف درهم ، أو قال : بعشرین ألفاً واُؤخره بالمال ، قال : لا بأس(2) .

ومنها : خبر محمد بن إسحاق بن عمار قال : قلت للرضا علیه السلام : الرجل یکون له المال قد حلَّ علی صاحبه یبیعه لؤلؤة تسوی مائة درهم بألف درهم ویؤخّر عنه المال إلی وقت ؟ قال : لا بأس ، قد أمرنی أبی ففعلت ذلک ، وزعم أنّه سأل أبا الحسن علیه السلام عنها فقال له مثل ذلک(3) .

سند الروایة ضعیف بمحمد بن عبد اللّه بن مغیرة لأنّه مهمل فی الرجال ، ولکن دلالتها واضحة .

ومنها : خبر آخر له قال : قلت لأبی الحسن علیه السلام : إنّ سلسبیل طلبتْ منّی مائة ألف درهم علی أن تربحنی عشرة آلاف ، فأقرضها تسعین ألفاً وأبیعها ثوباً وشیّاً تقوّم علیَّ بألف درهم بعشرة آلاف درهم ؟ قال : لا بأس .

قال الکلینی : وفی روایة اُخری لا بأس به : أعطها مائة ألف وبعها الثوب بعشرة آلاف واکتب علیها کتابین(4) .

سند الروایة ضعیف بعلی بن حدید . الثوب الوشی : ثوب یکون له نقش من کلّ لون ، وکان معروفاً فی تلک الأعصار . وسلسبیل : اسم امرأة .

ودلالتها واضحة . ولعلّ المراد بکتابة الکتابین أن یجعلهما فی عقدین مستقلین ، کما هو الظاهر .

ومنها : خبر الحسن بن صدقة المدائنی عن أبی الحسن الرضا علیه السلام قال : قلت له :

ص:126


1- (3) وسائل الشیعة 18 / 55 ح 5 .
2- (4) وسائل الشیعة 18 / 55 ح 4 .
3- (5) الکافی 5 / 205 ح 10 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 55 ح 6 .
4- (1) الکافی 5 / 205 ح 9 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 54 ح 1 .

جعلت فداک إنّی أدخل المعادن وأبیع الجوهر بترابه بالدنانیر والدراهم ، قال : لا بأس به . قلت : وأنا أصرف الدراهم بالدراهم وأصیّر الغلة وضحاً وأصیّر الوضح غلّة ، قال : إذا کان فیها دنانیر فلا بأس .

قال : فحکیت ذلک لعمار بن موسی الساباطی قال : کذا قال لی أبوه ، ثم قال لی أبوه ، ثم قال لی : الدنانیر أین تکون ؟ قلت : لا أدری ، قال عمار : قال لی أبو عبد اللّه علیه السلام : تکون مع الذی ینقص(1) .

الروایة ضعیفة سنداً بالسندی بن الربیع ، لأنّه إمامی مجهول . ومحمد بن سعید المدائنی ، لأنّه مهمل . والمراد بالغلّة : الدراهم المغشوشة . وبالوضح : الدرهم الصحیح غیر المغشوش . ودلالتها واضحة وفی الفرع الأوّل یعنی بیع الجوهر بترابه بالدنانیر والدراهم معاً . وراجع فی هذا المجال ما ورد من الروایات فی الباب 11 من أبواب الصرف(2) .

ومنها : خبر أبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الدراهم وعن فضل ما بینها ؟ فقال : إذا کان بینها نحاس أو ذهب فلا بأس(3) .

السند ضعیف بعلی بن أبی حمزة البطائنی ، ولکن دلالتها واضحة .

ومنها : حسنة أبی بکر الحضرمی قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : یکون لی علی الرجل الدراهم فیقول لی : بعنی شیئاً أقضیک ، فأبیعه المتاع ثمّ اشتریه منه وأقبض مالی ؟ قال : لا بأس(4) .

سند الروایة حسنٌ بل معتبر ، لأنّ المراد بعلی بن إسماعیل هو ابن عمار فی أعلی درجة الحسن . وأبو بکر الحضرمی هو عبد اللّه بن محمّد ثقة علی الأقوی . وغیرهما من رجال السند ثقات . ودلالتها علی الحیل ظاهرة ، ونحوها فی الدلالة صحیحة اُخری لأبی بکر الحضرمی(5) .

ص: 127


1- (2) التهذیب 7 / 117 ح 115 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 162 ح 1 . الباب 20 من أبواب الربا .
2- (3) وسائل الشیعة 18 / 188 .
3- (4) التهذیب 7 / 98 ح 28 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 163 ح 2 .
4- (5) الکافی 5 / 204 ح 5 .
5- (1) الکافی 5 / 204 ح 4 .

تلک عشرة کاملة من الروایات وفیها الصحاح ، والمتتبِّع یجد أکثر منها فی الجوامع الحدیثیة(1) . ومع ورود هذه الروایات المعتبرة وظهور دلالتها لابدّ من الأخذ بها والحکم بجواز الحیل مطلقاً ، بلا فرق بین أن یتخذ ذلک عادة أم لا ، وبلا فرق بین أن تدعو الضرورة إلی ذلک أم لا ، لإطلاق الروایات الماضیة .

ولا یمکن تخصیصها بمرفوعة معلی بن خنیس أنّه قال لأبی عبد اللّه علیه السلام : إنّی أردتُ أن أبیع تبر ذهب بالمدنیة فلم یشتر منی إلاّ بالدنانیر ، فیصح لی أن أجعل بینها نحاساً ؟ فقال : إن کنت لابدّ فاعلاً فلیکن ونحاساً وزناً(2) .

لأنّها أوّلاً : مرفوعة سنداً ، وثانیاً : المراد بلا بدیّة الفعل هنا لیس ما یرادف الاضطرار ، لأنّه یبیح جمیع المحظورات ، بل المراد بها اللابدیّة العادیّة ، نحو التنمیّة الاقتصادیة وغیرها . فلا یمکن حمل هذه المرفوعة نفسها علی الاضطرار ، فکیف یمکن تقیید غیرها وحملها بها علی الاضطرار .

وأمّا اختصاص هذه الروایات بمبادلة المثلیات مع الزیادة کما فعله بعض المعاصرین(3) قدس سره فغیر تامٍ ، لإطلاق بعضها بل ، بعضها نص فی الربا القرضی أو المعاملی ، نحو معتبرة مسعدة بن صدقه(4) وصحیحة عبد الملک بن عتبة(5) وموثقة محمد بن إسحاق بن عمار(6) وحسنة أبی بکر الحضرمی(7) وصحیحته(8) .

ص: 128


1- (2) نحو خبر محمد بن سلیمان الدیلمی عن أبیه ، راجع وسائل الشیعة 18 / 56 ح 7 الباب 9 من أبواب أحکام العقود .
2- (3) وسائل الشیعة 18 / 189 ح 4 . الباب 11 من أبواب الصرف .
3- (4) کتاب البیع 2 / 408 وما بعدها للسید الخمینی قدس سره .
4- (5) وسائل الشیعة 18 / 54 ح 3 .
5- (6) وسائل الشیعة 18 / 55 ح 5 .
6- (7) وسائل الشیعة 18 / 55 ح 4 .
7- (8) الکافی 5 / 204 ح 4 .
8- (9) الکافی 5 / 204 ح 5 .

وفی الواقع هذه الحیل خروجُ موضوعیّ عن الربا ، بلا فرق بین الربا القرضی والربا المعاملی ومبادلة المثلیات مع ا لزیادة ، وهی أحد مصادیق الربا المعاملی إذا کان المثلی من المکیل أو الموزون . فلا تنافی هذه الحیل مع الإطلاقات والعمومات الواردة فی حرمة الربا ، فیمکن الأخذ بها وإن کان الأحوط ترک الحیل فی غیر مقام الضرورة استحباباً ، والحمد للّه وهو العالم بأحکامه .

الخامس : ما یجب علی آخذ الربا ؟

آخذ الربا إمّا أن یکون کافراً أو مسلماً ، وإذا کان کافراً وأخذ الربا فی حال کفره ثمّ أسلم لا یجوز له أخذ ما بقی من الربا فی حال إسلامه لحرمته فی الإسلام ، وأمّا ما أخذ من الربا فی حال کفره فلا یجب ردّه ویجوز امتلاکه ، لقوله تعالی : «فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَیَ فَلَهُ مَا سَلَفَ»(1) ولقوله تعالی : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِیَ مِنَ الرِّبَا إِن کُنتُم مُّؤْمِنِینَ»(2) ، ولما ورد فی مرسلة الطبرسی عن أبی جعفر علیه السلام قال : إنّ الولید بن المغیرة کان یربی فی الجاهلیة وقد بقی له بقایا علی ثقیف ، وأراد خالد بن الولید المطالبة بعد أن أسلم فنزلت : «اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِیَ مِنَ الرِّبَا إِن کُنتُم مُّؤْمِنِینَ» الآیات(3) .

ولم یأمر رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم آخذی الربا بردّ الأموال إلی أصحابها .

وتدلّ علیه قاعدة جبّ الإسلام ومرسلة اُخری للطبرسی عن أبی جعفر الباقر علیه السلام : من أدرک الإسلام وتاب ممّا کان عمله فی الجاهلیة وضع اللّه عنه ما سلف(4) .

والحاصل ، ما أخذه الکافر من الربا فی حال کفره یجوز امتلاکه بعد إسلامه مطلقاً ، أی بلا فرق بین کونه عالماً بالتحریم فی الإسلام أو جاهلاً به ، وبلا فرق بین کون الربا موجوداً بالفعل أو تالفاً ، ولکن الفاضل المقداد قدس سره ذهب إلی وجوب ردّه مع وجوده(5) ولکن ، الأقوی

ص:129


1- (1) سورة البقرة / 275 .
2- (2) سورة البقرة / 278 .
3- (3) مجمع البیان 2 / 392 ، ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 131 ح 8 . الباب 5 من أبواب الربا .
4- (4) مجمع البیان 2 / 390 .
5- (5) کنز العرفان 2 / 39 .

عدمه لما مرّ منّا .

نعم ، بعد إسلامه لا یجوز له أخذ ما بقی من الربا کما مرّ فی قضیة خالد بن الولید ولقوله تعالی : «اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِیَ مِنَ الرِّبَا إِن کُنتُم مُّؤْمِنِینَ»(1) .

هذا کلّه إذا کان الآخذ کافراً ثم أسلم .

وأمّا إذا کان مسلماً فتارة یکون عالماً بالحکم والموضوع فهو آثم وعاص ویکون فعله حراماً ویجب علیه ردّ المال إلی صاحبه ، لأنّه عالم بالتحریم فهو عاص وتکون معاملته باطلةً فلم ینتقل المال إلیه ، فیجب علیه ردّ المال عیناً إلی صاحبه إن کان موجوداً ومثله أو قیمته إن کان تالفاً ، وهذا الحکم یکون بحسب القواعد ولا یحتاج إلی دلیل أزید من ذلک .

وتارة یکون آخذ الربا مسلماً ولکنّه کان جاهلاً بالحکم أو ببعض خصوصیاته ، کما إذا کان جاهلاً بأنّ الحنطة والشعیر جنس واحد فی الربا ، أو کان جاهلاً بالموضوع کما إذا باع شیئاً بالزیادة بتخیّل أنّه لیس من جنسه فبان أنّه کان من جنسه . وفی صورة الجهل مطلقاً - سواء کان بالحکم أو الموضوع - هل یکون ما أخذه حلالاً علی المسلم فلا یجب ردّه أم حراماً ویجب علیه ردّه أم یفرق بین کون المال موجوداً معروفاً فیجب ردّه ، وبین کونه تالفاً أو موجوداً مختلطاً بماله وغیر معروف فلا یجب الردُّ حینئذٍ ؟

وجوه بل أقوال :

ذهب إلی الحلیة وعدم وجوب الرد الصدوق فی الهدایة(2) والشیخ فی النهایة(3) والراوندی فی فقه القرآن(4) والمحقق فی النافع(5) والفاضل الآبی فی کشف الرموز(6) والأردبیلی

ص:130


1- (6) سورة البقرة / 278 .
2- (1) الهدایة / 316 .
3- (2) النهایة / 376 .
4- (3) فقه القرآن 2 / 47 .
5- (4) المختصر النافع / 127 .
6- (5) کشف الرموز 1 / 485 .

فی آیات أحکامه(1) والفاضل القطیفی فی إیضاح النافع(2) والبحرانی فی الحدائق(3) والسید الطباطبائی فی الریاض(4) ، وهو ظاهر السید العاملی فی مفتاح الکرامة(5) وصریح السید الیزدی فی العروة الوثقی(6) .

وذهب إلی الحرمة ووجوب الردّ جماعة من المتأخرین ، منهم : ابن إدریس الحلی فی السرائر(7) والعلامة فی تذکرة الفقهاء(8) والمختلف(9) ونهایة الأحکام(10) وولده فی الإیضاح(11) والشهید فی الدروس(12) والفاضل المقداد فی التنقیح(13) وکنز العرفان(14) والمحقق الثانی فی جامع المقاصد(15) ، ومال إلیه صاحب الجواهر(16) .

وذهب ابن الجنید الإسکافی کما نقل عنه العلامة فی المختلف(17) إلی وجوب الردّ إن کان

ص:131


1- (6) زبدة البیان / 434 .
2- (7) إیضاح النافع / کما نقل عنه فی مفتاح الکرامة 4 / 534 _ (14 / 113) .
3- (8) الحدائق 19 / 222 .
4- (9) ریاض المسائل 8 / 411 .
5- (10) مفتاح الکرامة 4 / 536 _ (14 / 113 وما بعدها) .
6- (11) العروة الوثقی 6 / 26 .
7- (1) السرائر 2 / 251 .
8- (2) تذکرة الفقهاء 10 / 210 .
9- (3) مختلف الشیعة 5 / 78 .
10- (4) نهایة الأحکام 2 / 554 .
11- (5) ایضاح الفوائد 1 / 480 .
12- (6) الدروس 3 / 299 .
13- (7) التنقیح الرائع 2 / 88 .
14- (8) کنز العرفان 2 / 39 .
15- (9) جامع المقاصد 4 / 282 .
16- (10) الجواهر 23 / 404 وما قبلها .
17- (11) مختلف الشیعة 5 / 78 .

المال موجوداً معروفاً وعدم وجوبه إن کان تالفاً أو مختلطاً بماله وغیر معروف . فهذه ثلاثة أقوال فی صورة الجهل ، ولابدّ من ملاحظة الأدلة حتّی تبیّن دلیل القول المختار :

أقول : ظاهر قوله تعالی «فَلَهُ مَا سَلَفَ»(1) عدم وجوب الردّ ، ویؤیده عدة من نصوص معتبرة :

منها : صحیحة هشام بن سالم عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الرجل یأکل الربا وهو یری أنّه حلال ، قال : لا یضرّه حتّی یصیبه متعمداً ، فإذا أصابه متعمداً فهو بالمنزل الذی قال اللّه عزّ وجل(2) .

ونحوها صحیحة الحلبی(3) وصحیحة علی بن جعفر(4) . وهذه الصحاح فی نفی العقاب أظهر من عدم وجوب الردّ فی صورة الجهل .

ومنها : صحیحة الحلبی قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : کلّ ربا أکله الناس بجهالة ثمّ تابوا

فإنّه یقبل منهم إذا عرف منهم التوبة . وقال : لو أنَّ رجلاً ورث من أبیه مالاً وقد عرف أنّ فی ذلک المال ربا ولکن قد اختلط _ فی التجارة _ بغیره حلال کان حلالاً طیباً فلیأکله ، وإن عرف منه شیئاً أنّه ربا فلیأخذ رأس ماله ولیرد الربا ، وأیّما رجل أفاد مالاً کثیراً قد أکثر فیه من الربا فجهل ذلک ثمّ عرفه بعد فأراد أن ینزعه ، فما مضی فله ویدعه فیما یستأنف(5) .

ذیل الصحیحة تدلّ علی عدم وجوب الردّ فی صورة الجهل .

ومنها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : أتی رجل أبی علیه السلام فقال : إنّی ورثت مالاً وقد علمت أنّ صاحبه الذی ورثته منه قد کان یربی ، وقد أعرف أن فیه ربا واستیقن ذلک ، ولیس یطیب لی حلاله لحال علمی فیه ، وقد سألتُ فقهاء أهل العراق وأهل الحجاز فقالوا : لا یحلّ أکله ، فقال أبو جعفر علیه السلام : إن کنت تعلم بأنّ فیه مالاً معروفاً رباً

ص:132


1- (12) سورة البقرة / 275 .
2- (13) وسائل الشیعة 18 / 128 ح 1 الباب 5 من أبواب الربا .
3- (14) وسائل الشیعة 18 / 130 ح 6 .
4- (15) وسائل الشیعة 18 / 131 ح 9 .
5- (1) وسائل الشیعة 18 / 128 ح 2 .

وتعرف أهله فخذ رأس مالک وردّ ما سوی ذلک ، وإن کان مختلطاً فکله هنیئاً ، فإنّ المال مالک ، واجتنب ما کان یصنع صاحبه ، فإنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قد وضع ما مضی من الربا وحرم علیهم ما بقی ، فمن جهل وسع له جهله حتّی یعرفه ، فإذا عرف تحریمه حرم علیه ووجب علیه فیه العقوبة إذا رکبه کما یجب علی من یأکل الربا(1) .

أقول : یمکن المناقشة فی دلالة الصحیحة علی عدم وجوب الردّ ، لأنه یمکن حملها علی نفی العقاب فقط ، وهو القدر المتیقَّن منها .

نعم ، لو کان صدرها مثل حسنة أبی الربیع الشامی الآتیة تدلّ علی عدم وجوب الرد .

ومنها : حسنة أبی الربیع الشامی قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن رجل أربی بجهالة ثمّ أراد أن یترکه ، قال : أمّا ما مضی فله ولیترکه فیما یستقبل . ثمّ قال : إنَّ رجلاً أتی أبا جعفر علیه السلام فقال : إنّی ورثت مالاً ، وذکر الحدیث نحوه(2) .

دلالة الحسنة علی عدم وجوب الردّ واضحة .

ومنها : صحیحة محمد بن مسلم قال : دخل رجل علی أبی جعفر علیه السلام من أهل خراسان قد عمل بالربا حتّی کثر ماله ، ثم إنّه سأل الفقهاء ؟ فقالوا : لیس یقبل منک شیءٌ إلاّ أن تردّه إلی أصحابه ، فجاء إلی أبی جعفر علیه السلام فقص علیه قصّته ، فقال له أبو جعفر علیه السلام : مخرجک من کتاب اللّه : «فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَیَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَی

اللّهِ»والموعظة : التوبة(3) .

وروی العیاشی مثلها فی تفسیره مرسلاً(4) .

ومنها : ما رواه أحمد بن محمد بن عیسی فی نوادره عن أبیه قال : إنّ رجلاً أربی دهراً من الدهر فخرج قاصداً أبا جعفر الجواد ، فقال له : مخرجک من کتاب اللّه یقول اللّه : «فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَیَ فَلَهُ مَا سَلَفَ» والموعظة هی التوبة ، فجهله بتحریمه ثمّ معرفته

ص:133


1- (2) وسائل الشیعة 18 / 129 ح 3 .
2- (3) وسائل الشیعة 18 / 130 ح 4 .
3- (1) وسائل الشیعة 18 / 130 ح 7 .
4- (2) تفسیر العیاشی 1 / 277 ح 510 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 336 ح 1 .

به ، فما مضی فحلال وما بقی فلیتحفظ(1) .

الروایة صحیحة الإسناد ودلالتها واضحة .

ومنها : ما رواه أحمد بن محمد بن عیسی فی نوادره عن أبیه قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : لا یکون الربا إلاّ فیما یکال أو یوزن ، ومن أکله جاهلاً بتحریمه لم یکن علیه شیءٌ(2) .

أقول : سند الروایة صحیح ، لأنّ محمد بن عیسی بن عبد اللّه بن سعد بن مالک الأشعری ، أبو علی ، شیخ القمیین ووجه الأشاعرة والمتقدم عند السلطان والداخل علی الرضا علیه السلام والراوی عن أبی جعفر الثانی علیه السلام . ویمکن نقله عن الإمام أبی عبد اللّه الصادق علیه السلام المستشهد فی 25 شوال عام 148 إذا کان عمره قریباً من ثمانین سنة . وإن کان أکثر روایاته عن الصادق علیه السلام مع الواسطة .

وأمّا دلالتها : فجملة « لم یکن علیه شیءٌ » فی الروایة مطلقة تشمل نفی العقاب وعدم وجوب الردّ ، ولا دلیل لاختصاصها بالأوّل فقط .

فهذه الروایات المعتبرة تدلّ علی عدم وجوب الردّ فی صورة الجهل بالربا ، ولابدّ من الأخذ بها بدعوی الحلیة تعبداً من جهة عذر الجهل وإن کانت المعاملة باطلة أو بدعوی صحة المعاملة إذا وقعت حال الجهل ، واختصاص البطلان بصورة العلم بالحرمة حال المعاملة کما علیه صاحب الحدائق(3) ولکنّه بعید .

وإطلاقها یدلّ علی عدم الفرق بین وجود المال وعدمه ، ولا بین صورة الاختلاط وعدمه ، ولا بین کون الطرف الآخر عالماً أو جاهلاً . وهکذا یدلّ علی عدم الفرق بین أقسام

الجاهل ، کما نبّه علیه صاحب العروة الوثقی قدس سره (4) .

ولکن مع ذلک کلّه استشکل صاحب الجواهر فی دلالة هذه النصوص ، فقال : « ولکن لا یخفی أنّه لا یصلح للفقیه الجرأة بمثل هذه النصوص التی لا یخفی علیک اضطرابها فی الجملة ،

ص:134


1- (3) وسائل الشیعة 18 / 131 ح 10 .
2- (4) وسائل الشیعة 18 / 131 ح 11 .
3- (5) الحدائق 19 / 216 .
4- (1) العروة الوثقی 6 / 30 .

وترک الاستفصال فیها عن الربا أن صاحبه کان جاهلاً بحرمته أو عالماً ، والأمر بالتوبة مع عدم الذنب حال الجهل الذی یعذر فیه ، بل قد اشترط فی الآیة الحلّ بها وحمله علی الجهل الذی لا یعذر فیه ینافیه ما فی خبر الباقر علیه السلام السابق من إلحاق مثله بالعالم ، وترک الإستفصال عن الربا فی القرض والبیع ، وقد عرفت الفرق بینهما ، وغیر ذلک علی مخالفته الضوابط السابقة ، والإقدام علی حلّ الربا الذی قد ورد فیه من التشدید ما ورد »(1) .

وأجابه صاحب العروة الوثقی بقوله : « فإنّ الاضطراب ممنوع ، ونلتزم بعدم الفرق بین کون الدافع عالماً أو جاهلاً ، وکثیراً ما یؤمر بالتوبة مع کون الشخص معذوراً بلحاظ الحرمة الواقعیة ، ونلتزم باشتراط التوبة فی الحلیة وبعدم الفرق بین القرض والبیع ونحوه ، والتشدید فی حرمة الربا مخصوص بصورة العلم والعمد فلا ینافی الحلیة حال الجهل ... »(2) .

وبالجملة ، هذه النصوص المعتبرة تدلّ علی حلیة الربا فی صورة الجهل وعدم وجوب الرد ، فلابدّ من أخذها والعمل علی طبقها کما ذهب إلیه بعض الأصحاب کما مرّ منّا ، ولذا قال سید الریاض : « وبالجملة الدلالة علی الحلّ فی غایة الوضوح جداً ... »(3) .

وقال السید العاملی بعد الإعتراف بأنّ القول بوجوب الردّ فی صورة الجهل أقعد بحسب القواعد(4) ، قال فی شأن بعض هذه النصوص : « وهذه الأخبار الثلاثة _ أعنی صحیحة الحلبی وخبری أبی الربیع _ کأنّها هی التی استند إلیها أبوعلی ، لکنّ سوقها کما سمعت أظهر فی الدلالة علی مختار الشیخ والصدوق من حیث تعلیل حلّ أکل الربا المختلط بوضع الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ما مضی منه ، وهو واضح الدلالة علی أنّ المراد بما مضی نفس الربا فی حالة الجهل مطلقاً معروفاً أو مختلطاً ... »(5) .

وهکذا اعترف بوضوح هذه الأخبار صاحب العروة وقال : « وبالجملة لا وجه

ص:135


1- (2) الجواهر 23 / 401 .
2- (3) العروة الوثقی 6 / 30 .
3- (4) ریاض المسائل 8 / 413 .
4- (5) مفتاح الکرامة 4 / 534 _ (14 / 114) .
5- (6) مفتاح الکرامة 4 / 536 _ (14 / 119) .

للإعراض عن الأخبار المذکورة بعد وضوحها فی الدلالة علی الحلیة لأجل هذه الإشکالات والإحتمالات مع کون الأحکام الشرعیة تعبدیّة . فالأقوی جواز العمل بها ، وإن کان الأحوط الردّ إلی المالک مع کونه موجوداً معزولاً إذا عرف مالکه ، بل إجراء حکم مجهول المالک علیه مع عدم معرفته ، خصوصاً مع کونه جاهلاً بالحرمة أیضاً . وأحوط من ذلک ما ذکره المتأخرون من عدم الفرق بین الجاهل والعالم ... »(1) .

إلی هنا تمت مهمات بحث الربا المعاملی ، وبها تم بحث الربا بقسمیه علی سبیل الإجمال ، وللتفصیل محلاّن آخران وهما کتابی القرض والبیع . والحمد للّه أوّلاً وآخراً وهو العالم بأحکامه والصلاة علی محمّد وآله الطیبین الطاهرین المعصومین .

ص:136


1- (1) العروة الوثقی 6 / 31 .

الرشوة

موضوعها:

الروایات لم تتعرض لتعیین موضوع الرشوة ومفهومها وحقیقتها ، فلابدّ لمعرفتها والتحقیق عنها إلی مراجعة أهل اللغة والعرف وبیانات الأصحاب قدس سرهم :

1 _ قال أحمد بن فارس : « رشی : الراء والشین والحرف المعتل أصل یدلُّ علی سببٍ أو تسبُّبٍ لشیءٍ برفق وملایَنَة ، فالرِّشاء : الحبل الممدود والجمع أرْشِیَة .

ویقال : للحنظل إذا امتدَّت أغصانه : قد أرشی ، یعنی أنّه صار کالأرشیة وهی الحبال ، ومن الباب : رشاه یرشُوهُ رَشْواً . والرشوة الاسمُ ، وتقول : تَرَشَّیْتُ الرجل : لایَنْتُه ، ومنه قول امری ء القیس : ترأشی الفؤاد .

ومن الباب استرشی الفصیلُ : إذا طلب الرّضاع ، وقد أرشیته إرشاءً .

وراشیتُ الرجل : إذا عاونْتَه فظاهَرْتَه ، والأصل فی ذلک کلّه واحد »(1) .

2 _ وقال صاحب الصحاح : « الرشاء : الحبل ، والجمع أرشیة ، والرشوة معروفة ، والرُشوة بالضم مثله ، والجمع رِشاً ورُشاً »(2) .

3 _ وقال الفیومی : « الرِشوة بالکسر : ما یعطیه الشخص الحاکم وغیره لیحکم له أو یحمله علی ما یرید ... والرشاء : الحبل والجمع أرشیة مثل کساء وأکسیة »(3) .

4 _ قال الزمخشری : « ر ش و فلان یرتشی فی حکمه ویأخذ الرُِشوة والرُّشَی ، الرُّشَی رشاءُ النجاح ، ولعن اللّه الراشی والمرتشی ، ورشوته أرشوه ، وعن ثعلب : هو من رَشَا الفرخ

ص:137


1- (1) معجم مقاییس اللغة 2 / 397 .
2- (2) صحاح اللغة 6 / 2357 .
3- (3) المصباح المنیر 1 / 310 .

إذا مدَّ رأسه إلی اُمّه لتزقَّه . واسترشی الفصیل : طلب الرضاع ... »(1) .

5 _ وقال صاحب القاموس : « الرشوة _ مثلثة _ : الجُعل جمعها رُشیً ... والرَّشاء ککَساء : الحبل ، کالرِشاء بالکسر »(2) .

6 _ وابن الأثیر قال : « رشا _ س _ فیه : لعن اللّه الراشی والمرتشی والرائش ، الرِشوة والرُشوة : الوصلة إلی الحاجة بالمصانعة ، وأصله من الرِشاء الذی یُتوصّل به إلی الماء . فالراشی : من یعطی الذی یعینه علی الباطل ، والمرتشی : الآخذ ، والرائش : الذی یسعی بینهما یزید لهذا ویستنقص لهذا . فأمّا ما یعطی توصّلاً إلی أخذ حقٍّ أو دفعِ ظلمٍ فغیر داخل فیه . روی أنّ ابن مسعود اُخذ بأرض الحبشة فی شیءٍ فأعطی دینارین حتّی خلّی سبیله ، وروی عن جماعة من أئمة التابعین قالوا : لا بأس أن یصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم »(3) .

7 _ وقال الطریحی : « والرِشوة _ بالکسر _ : ما یعطیه الشخصُ الحاکمَ وغیرَه فیحکم له أو یحمله علی ما یرید ، والجمع رُشی مثل سِدرة وسُدَر ، والضمّ لغة ، وأصلها من الرِشاء : الحبل الذی یتوصل به إلی الماء ، وجمعه أرشیة ککِساء وأکسیة ... والرشوة قلّ ما تستعمل إلاّ فیما یتوصّل به إلی إبطال حقٍّ أو تمشیة باطل »(4) .

هذا کلّه کلمات أهل اللغة .

والأصحاب تعرضوا لتعریفها أیضاً منهم :

8 _ جدنا الشیخ جعفر کاشف الغطاء قال : « (ویحرم) أخذ (الرشاء) : جمع الرشوة مثلّثة (فی الحکم) بسببه (وإن حکم علی باذله) فلم یؤثر بذله (بحقٍّ أو باطل) ولیس مطلق الجُعل کما فی القاموس بل بینه وبین الاُجرة والجُعل عموم من وجه ، ولا البذل علی خصوص الباطل کما فی النهایة والمجمع ، ولا مطلق البذل ولو علی خصوص الحقّ ، بل هو البذل علی

ص:138


1- (4) أساس البلاغة / 164 .
2- (5) قاموس اللغة / 878 .
3- (1) النهایة 2 / 226 .
4- (2) مجمع البحرین 1 / 184 .

الباطل أو علی الحکم له حقّاً أو باطلاً ، مع التمسیة وبدونها ، أمّا ما کان بصورة الإجارة علی أصل القضاء أو علی خصوص الحق فیه فسیجیء الکلام فیه »(1) .

9 _ وقال السید العاملی فی مفتاحه : « الرشاء _ بالضم والکسر _ جمع رشوة ... هی عند الأصحاب ما یعطی للحکم حقّاً وباطلاً ، وأصل مأخذها یدلّ علی سبب أو تسبّب لشیءٍ برفق »(2) .

10 _ وقال النراقی : « ... فلا کلام فی أنّ الرشوة للقاضی هی المال المأخوذ من أحد الخصمین أو منهما أو من غیرهما للحکم علی الآخر أو إهدائه أو إرشاده فی الجملة . إنّما الکلام فی أنّ الحکم أو الإرشاد المأخوذین فی ماهیته هل هو مطلق شامل للحقِّ أو الباطل أو یختص بالحکم بالباطل ؟ مقتضی إطلاق الأکثر وتصریح والدی العلامة فی المعتمد والمتفاهم فی العرف هو الأوّل ، وهو الظاهر من القاموس والکنز ومجمع البحرین ، ویدلّ علیه استعمالها فیما أعطی للحقِّ فی الصحیح عن رجل یرشو الرجل علی أن یتحوّل من منزله فیسکنه ، قال : لا بأس(3) . فإنّ الأصل فی الاستعمال إذا لم یعلم الاستعمال فی غیره الحقیقة ، کما حقق فی موضعه . نعم عن النهایة الأثیریة ما ربّما یشعر بالتخصیص ککلام بعض الفقهاء ، وهو لمعارضة ما ذکر غیر صالح ، مع أنّ الظاهر أنّ مراد بعض الفقهاء تخصیص الحرمة دون الحقیقة »(4) .

11 _ وقال صاحب الجواهر : « وکیف کان فالرشوة فی مختصر النهایة : الوصلة إلی الحاجة بالمصانعة ، والراشی : مَنْ یعطی الذی یعینه علی الباطل ، والمرتشی : الآخذ ، والرایش : الذی یسعی بینهما یستزید لهذا ویستنقص لهذا . ثمّ ذکر کلمات بعض أهل اللغة والأعلام وقال : أنّ الرشوة خاصة فی الأموال وفی بذلها علی جهة الرشوة ، أو أنّها تعمّمها وتعمّ الأعمال بل والأقوال ، کمدح القاضی والثناء علیه والمبادرة إلی حوائجه وإظهار تبجیله وتعظیمه ونحو ذلک ، وتعمّ البذل وعقد المحاباة والعاریة والوقف ونحو ذلک ، وبالجملة کلّ ما

ص:139


1- (3) شرح القواعد 1 / 277 .
2- (4) مفتاح الکرامة 12 / 302 .
3- (1) وسائل الشیعة 17 / 278 ح 2 . الباب 85 من أبواب ما یکتسب به .
4- (2) مستند الشیعة 17 / 71 .

قُصد به التوصل إلی حکم الحاکم ، قد یقوی فی النظر الثانی وإنّ شک فی بعض الأفراد فی الدخول فی الإسم أو جزم بعدمه فلا یبعد الدخول فی الحکم »(1) .

12 _ وقال المحقق الإیروانی : « مجموع معنی الرشوة خمسة : 1 _ مطلق الجُعل المندرج فیه اُجرة الاُجراء ، 2 _ والجُعل علی القضاء وتصدّی فصل الخصومة ، 3 _ والجُعل علی الحکم بالواقع لنفسه کان أو لغیره ، 4 _ والجعل علی الحکم لنفسه حقّاً کان أو باطلاً ، 5 _ والجُعل علی الحکم بالباطل .

والأوّل ممّا ینبغی القطع ببطلانه وإنْ وقع تفسیره به فی کلمات بعض اللغویین ، فإنّه للإشارة إلی المعنی فی الجملة کما فی « سعدانة نبت » . والمتیقّن من بین بقیة المعانی إنْ لم یکن هو الظاهر هو الأخیر . وعلی کلِّ حال فدفع المال لأجل أن لا یقبل القاضی الرشوة من المبطل ثمّ

یحکم هو علی طبق الواقع بمقتضی طبعه لیس من الرشوة »(2) .

وقال قبل صفحة : « وینبغی القطع بأنّ مطلق الجعل علی عمل لیس رشوةً وإنْ اُوهمته عبارة القاموس والنهایة ، وإلاّ لدخل فیه اُجرة الاُجراء والأکرة ، ولئن سلّم عموم اللفظ فالمحرّم هو قسم خاصّ منه ، والمتیقَّن من المتّصف بالتحریم هو المال المدفوع بإزاء الحکم بالباطل ، بل منصرف لفظ « الرشوة » أیضاً عرفاً هو هذا لا غیر ، ویشهد له عبارة المجمع ... »(3) .

13 _ وقال المحقق الخوئی : « والمتحصَّل من کلمات الفقهاء رضوان اللّه علیهم ومن أهل العرف واللغة مع ضمِّ بعضها إلی بعضها أنّ الرشوة ما یعطیه أحد الشخصین للآخر لإحقاق حقٍّ أو تمشیة باطل أو للمتلق أو الوصلة إلی الحاجة بالمصانعة أو فی عمل لا یقابل بالاُجرة والجعل عند العرف والعقلاء وإن کان محطاً لغرضهم ومورداً لنظرهم . بل یفعلون ذلک العمل للتعاون والتعاضد بینهم ، کإحقاق الحقّ وإبطال الباطل وترک الظلم والإیذاء أو دفعها وتسلیم الأوقاف من المدارس والمساجد والمعابد ونحوها إلی غیره ، کأنْ یرشو الرجل علی أن

ص:140


1- (3) جواهر الکلام 22 / 146 .
2- (1) الحاشیة علی المکاسب 1 / 157 .
3- (2) الحاشیة علی المکاسب 1 / 155 .

یتحول عن منزله فیسکنه غیره ، أو یتحول عن مکان فی المساجد فیجلس فیه غیره ، إلی غیر ذلک من الموارد التی لم یتعارف أخذ الاُجرة علیها .

نعم ، ما ذکره فی القاموس من تفسیر الرشوة بمطلق الجُعل محمول علی التفسیر بالأعم ، کما هو شأن اللغوی أحیاناً ، وإلاّ لشمل الجُعل فی مثل قول القائل « من ردّ عبدی فله ألف درهم » ، مع أنّه لا یقول به أحد »(1) .

14 _ وقال شیخنا الاُستاذ _ مدظله _ : « الإحتمالات فی معنی الرشوة أربعة :

الأوّل : ما یعمّ مقابل الحکم الصحیح ، سواء جعل عوضاً عن نفس الحکم أو عن مقدماته کالنظر فی أمر المترافعین . وهذا ظاهر القاموس ، ویساعده ظاهر کلام المحقق الثانی وصریح الحلی ... .

الثانی : ما یعطی للقاضی للحکم له فی الواقعة بالباطل وبقضاء الجور ، کما هو ظاهر مجمع البحرین .

الثالث : إعطاء المال لغایة الوصول إلی غرضه من الحکم له أو أمر آخر یفعله الغیر له ،

کما عن المصباح والنهایة .

الرابع : إعطاء المال للقاضی للحکم له حقّاً أو باطلاً ... . والصحیح فی معناها هو الإحتمال الرابع ، وهو إعطاء المال للحکم له مطلقاً حقّاً أو باطلاً »(2) .

15 _ قال بعض أساتیذنا _ مدظله _ : « إنّ الرشوة لیست عبارة عن مطلق الجُعل ولا مطلق الجُعل للقاضی أو القضاة ، بل المتیقَّن منها الجُعل فی قبال إبطال حقٍّ أو تمشیة باطل ، أو إحقاق حقٍّ یتوقف علیها ، فیحرم علی المرتشی فقط ... »(3) .

أقول : الظاهر أنّ المراد بالرشوة عند الأصحاب هی البذل والجُعل فی عوض الحکم بالباطل أو بالحقّ مطلقاً ، کما صرح بها جماعة : منهم ابن إدریس الحلی فی السرائر(4) والمحقق

ص:141


1- (3) مصباح الفقاهة 1 / 263 .
2- (1) ارشاد الطالب 1 / 149 .
3- (2) دراسات فی المکاسب المحرمة 3 / 161 .
4- (3) السرائر 2 / 166 .

فی الشرائع(1) والعلامة فی القواعد(2) والتذکرة(3) والمحقق الکرکی فی جامع المقاصد(4) وثانی الشهیدین فی المسالک(5) والمحقق الأردبیلی فی مجمع الفائدة(6) والشیخ الأعظم فی المکاسب(7) والسید الیزدی فی العروة الوثقی(8) وشیخنا الاُستاذ(9) - مد ظله - فیما مضی من کلامه آنفاً .

هذا کلّه فی تعین موضوع الرشوة وحقیقتها وتبیین معناها ، ولابدّ من مراجعة کلمات الأصحاب فی حرمتها :

الأقوال فی حرمة الرشوة

1 _ قال الشیخ الطوسی : « والرشاء فی الأحکام سحت »(10) .

2 _ وقال القاضی ابن البراج ضمن بیان المکاسب المحظورة : « ... والفتیا بالباطل

والحکم به ولو مع العلم ، والإرتشاء علی ذلک أو ما یجری مجری الإرتشاء ... »(11) .

3 _ وقال ابن إدریس الحلی : « والرشا فی الأحکام سحت »(12) وقال أیضاً : « والقاضی بین المسلمین والحاکم والعامل علیهم یحرم علی کلِّ واحد منهم الرشوة ، لما روی أنّ النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : لعن اللّه الراشی والمرتشی فی الحکم . وهو حرام علی المرتشی بکلِّ حال

ص:142


1- (4) شرائع الإسلام 2 / 6 .
2- (5) قواعد الاحکام 2 / 10 .
3- (6) تذکرة الفقهاء 12 / 148 المسألة 654 .
4- (7) جامع المقاصد 4 / 35 .
5- (8) مسالک الأفهام 3 / 136 .
6- (9) مجمع الفائدة والبرهان 12 / 49 .
7- (10) المکاسب المحرمة / 30 الطبع الحجری _ (1 / 242) .
8- (11) العروة الوثقی 6 / 442 المسألة 19 .
9- (12) إرشاد الطالب 1 / 151 .
10- (13) النهایة / 364 .
11- (1) المهذب 1 / 345 .
12- (2) السرائر 2 / 220 .

،وأمّا الراشی فإن کان قد رشاه علی تغیّر الحکم أو إیقافه فهو حرام ، وإن کان علی إجرائه علی واجبه لم یحرم علیه أن یرشوه لذلک ، لأنّه یستنقذ ماله ، فیحلّ ذلک له ویحرم علی الحاکم أخذه »(1) .

4 _ وقال المحقق : « الرشاء حرام سواء حکم لباذله أو علیه بحقٍّ أو باطل »(2) .

5 _ وقال العلامة : « یحرم الرشاء فی الحکم وإن حکم علی باذله بحقٍّ أو باطل »(3) .

6 _ وقال فی التحریر : « الرشاء فی الحکم حرام ، سواء کان حکم لباذله أو علیه بحقٍّ أو باطل »(4) ، ونحوها فی إرشاد الأذهان(5) .

7 _ وقال المحقق الثانی : « أجمع أهل الإسلام علی تحریم الرشاء فی الحکم ، سواء حکم بحقٍّ أو باطل للباذل أو علیه ، وفی الأخبار عن أئمة الهدی صلوات اللّه علیهم : أنّه الکفر باللّه عزّ وجل وبرسوله صلی الله علیه و آله وسلم »(6) .

8 _ وقال الشهید الثانی : « الرشا _ بضم أوّله وکسره مقصوراً _ جمع رشوة _ بهما _ وهو أخذ الحاکم مالاً لأجل الحکم وعلی تحریمه إجماع المسلمین . وعن الباقر علیه السلام : أنّه الکفر باللّه تعالی وبرسوله . وکما یحرم علی المرتشی یحرم علی المعطی ، لإعانته علی الإثم والعدوان ، إلاّ أن یتوقف علیه تحصیل حقه ، فیحرم علی المرتشی خاصة »(7) .

9 _ المحقق الأردبیلی قال : « یحرم علی القاضی الرشوة ، دلیله العقل والنقل ، کتاباً وإجماعاً من المسلمین وسنّة ، وهی أخبار کثیرة من طرقهم وطرقنا ، مثل أنّ النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال :

لعن اللّه الراشی والمرتشی فی الحکم ، وعن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الرشا فی الحکم هو الکفر

ص:143


1- (3) السرائر 2 / 166 .
2- (4) شرائع الإسلام 2 / 6 .
3- (5) قواعد الأحکام 2 / 10 .
4- (6) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 262 .
5- (7) إرشاد الأذهان 1 / 358 .
6- (8) جامع المقاصد 4 / 35 .
7- (9) مسالک الأفهام 3 / 136 .

باللّه ... »(1) .

10 _ وقال سید الریاض : « (و) أخذ (الرُشا) بضم أوّله وکسره مقصوراً ، جمع رشوة بهما (فی الحکم) بالإجماع کما فی کلام جماعة والنصوص المستفیضة ، فی بعضها أنّها سحت وفی عدّة منها : أنّها الکفر باللّه العظیم ، وفیها الصحیح والموثق وغیرهما . وإطلاقها کالعبارة وصریح جماعة یقتضی عدم الفرق بین أن یکون الحکم للراشی أو علیه ... »(2) .

11 _ وقال السید العاملی بذیل کلام العلامة فی القواعد : « بإجماع المسلمین کما فی جامع المقاصد وقضاء الروضة وحاشیة الإرشاد ، وهی سحت بلا خلاف کما فی المنتهی ، وفی النصوص أنّها سحت ، وفی عدّة منها أنّها الکفر باللّه العظیم ، وفیها الصحیح والموثق وغیرهما . وهی تدلّ بإطلاقها علی ما ذکروه من عدم الفرق بین أن یکون الحکم للراشی أو علیه ... »(3) .

12 _ وقال الفاضل النراقی : « یحرم علی القاضی أخذ الرشوة _ مثلّثة الراء _ إجماعاً من المسلمین للمستفیضة من المعتبرة . ثم ذکر بعض الروایات الواردة فی تحریمها وقال : وکما یحرم علیه أخذها کذلک یحرم علی باذلها دفعها ، لأنّه أعانة علی الإثم والعدوان ، ولقوله علیه السلام : لعن اللّه الراشی والمرتشی فی الحکم ، ولا کلام فی شیء من ذلک ... »(4) .

13 _ وقال صاحب الجواهر : (الرشاء) بضم الراء وکسرها جمع رشوة فی الحکم من الدافع والمدفوع إلیه (حرام) وسحت إجماعاً بقسمیه ونصوصاً مستفیضة أو متواترة ... »(5) .

14 _ وقال تلمیذه السید علی آل بحر العلوم : « ومن التکسبات المحرَّمة أخذ الشیء بعنوان الرشاء فی القضاء والحکم للشخص عند التخاصم مع الغیر ، بإتفاق النص والفتوی ، کما ورد أنّه سحت وأنّه لعن اللّه الراشی والمرتشی »(6) .

ص:144


1- (1) مجمع الفائدة والبرهان 12 / 49 .
2- (2) ریاض المسائل 8 / 181 .
3- (3) مفتاح الکرامة 12 / 300 .
4- (4) مستند الشیعة 17 / 69 .
5- (5) جواهر الکلام 22 / 145 .
6- (6) برهان الفقه . کتاب التجارة / 45 الطبع الحجری .

15 _ وقال السید الیزدی : « تحرم الرشوة ، وهی ما یبذله للقاضی لیحکم له بالباطل أو لیحکم له حقّاً کان أو باطلاً ، أو لیعلّمه طریق المخاصمة حتّی یغلب علی خصمه ، ولا فرق فی الحرمة بین أن یکون ذلک لخصومة حاضرة أو متوقّعة ، ویدلّ علی حرمتها إجماع

المسلمین ، بل هی من ضروریّات الدین و ... »(1) .

16 _ وقال الفقیه السبزواری : « تدلّ علی حرمة الرشوة الکتاب المبین وضرورة الدین ونصوص کثیرة ... ویدلّ علی قبحه حکم العقل أیضاً ، لأنّه من الظلم ، فالأدلة الأربعة دالة علی حرمتها »(2) .

الاستدلال علی حرمة الرشوة

الأوّل : الاجماع

قد مرّ نقل کلمات القوم وإدعاء الإجماع من المحقق(3) والشهید(4) الثانیین والأردبیلی(5) والفیض الکاشانی(6) وسید الریاض(7) وأصحاب مفتاح الکرامة(8) ومستند الشیعة(9) والجواهر(10) وبرهان الفقه(11) والعروة الوثقی(12) ، بل فی العروة الوثقی ومهذب

ص:145


1- (1) العروة الوثقی 6 / 442 المسألة 19 .
2- (2) مهذب الأحکام 16 / 94 .
3- (3) جامع المقاصد 4 / 35 .
4- (4) مسالک الأفهام 3 / 136 والروضة البهیة 3 / 75 .
5- (5) مجمع الفائدة والبرهان 12 / 49 .
6- (6) مفاتیح الشرائع 3 / 251 لم اذکر کلامه فیما مضی .
7- (7) ریاض المسائل 8 / 181 .
8- (8) مفتاح الکرامة 12 / 300 .
9- (9) مستند الشیعة 17 / 69 .
10- (10) جواهر الکلام 22 / 145 .
11- (11) برهان الفقه ، کتاب التجارة / 45 .
12- (12) العروة الوثقی 6 / 442 .

الأحکام(1) عدّ حرمتها من ضروریات الدین . کما قال المحقق الخوئی : « ومجمل القول أنّ حرمة الرشوة فی الجملة من ضروریات الدین وممّا قام علیه إجماع المسلمین ، فلا حاجة إلی الاستدلال علیها »(2) .

ویمکن الإیراد علی هذا الإجماع بأنّه إجماعٌ مدرکیٌ ، لاحتمال کون مدرکهم ما یأتی من الأدلة .

الثانی : الکتاب المجید

قوله تعالی : «وَلاَ تَأْکُلُواْ أَمْوَالَکُم بَیْنَکُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَی الْحُکَّامِ لِتَأْکُلُواْ فَرِیقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ»(3) .

قال الشیخ الطوسی فی تفسیره : « قوله تعالی «وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَی الْحُکَّامِ»فالحکم هو الخبر الذی یفصل به بین الخصمین یمنع کلّ واحد من منازعة الآخر .

وقیل فی معناه قولان :

أحدهما : قال ابن عباس والحسن وقتادة : إنّه الودیعة وما تقوم به بیّنة .

الثانی : قال الجبائی : فی مال الیتیم الذی فی ید الأوصیاء ، لأنّه یدفعه إلی الحاکم إذا طولب به ، لیقتطع بعضه ویقوم له فی الظاهر حجة .

اللغة : یقال : أدلی فلان بالمال إلی الحاکم : إذا دفعه إلیه ، وأدلی فلان بحقِّه وحجته : إذا هو احتج بها وأحضرها ، ودلوت الدلو فی البئر أدلوها : إذا أرسلتها فی البئر ، وأدلیتها إدلاء : انتزعها من البئر ، منه قوله تعالی : «فَأَدْلَی دَلْوَهُ»(4)أی انتزعها ، وقال صاحب العین : أدلیتها : إذا أرسلتها أیضاً ، وأدلی الإنسان شیئاً فی مهوی ، ویتدلّی هو بنفسه ، والدالیة معروفة ... .

المعنی : وقیل فی اشتقاق تدلو قولان : أحدهما : أنّ التعلق بسبب الحکم کتعلق الدلو

ص:146


1- (13) مهذب الأحکام 16 / 94 .
2- (14) مصباح الفقاهة 1 / 264 .
3- (1) سورة البقرة / 188 .
4- (2) سورة یوسف / 19 .

بالسبب الذی هو الحبل . والثانی : أنّه یمضی فیه من غیر تثبت ، کمضی الدلو فی الإرسال من غیر تثبت . والباطل : هو ما تعلق بالشیء علی خلاف ما هو به ، خبراً کان أو اعتقاداً أو تخیّلاً أو ظنّاً ، والفریق : القطعة المعزولة من الشیء ، والإثم : الفعل الذی یستحق به الذم ... »(1) .

وزاد الطبرسی فی معنی قوله تعالی «تُدْلُواْ بِهَا إِلَی الْحُکَّامِ»مضافاً إلی ما ذکره الشیخ من القولین : « وثالثها : أنّه ما یؤخذ بشهادة الزور عن الکلبی ، والأولی : أن یُحمل علی الجمیع »(2) .

وقال فی تفسیره الآخر : « وقیل : وتدلوا وتلقوا بعضها إلی حکام السوء علی وجه الرشوة »(3) .

وهکذا قال الزمخشری : « وقیل «وَتُدْلُواْ بِهَا»وتلقوا بعضها إلی حکام السوء علی وجه الرشوة »(4) .

وقال الطریحی : «وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَی الْحُکَّامِ»أی تلقوا حکومة الأموال إلی الحکام ، والإدلاء : الإلقاء ، وفی الصحاح «وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَی الْحُکَّامِ» یعنی الرشوة »(5) .

أقول : ظاهر الآیة الشریفة یدلّ علی حرمة الرشوة ، لأنّها تدخل فی ما تدلوا إلی الحکام بجهةِ أکلِ فریقٍ من أموال الناس ، فتشملها النهی الوارد فی أوّل الآیة الشریفة ، أعنی «لاَ تَأْکُلُواْ»فثبت تحریمها .

ومن الواضح أنّ ثبوت الظهور لا یحتاج إلی ورود روایة أو خبر ، والظهور حجة بلا تردید ، فالرشوة صارت محرّمة بظهور الآیة الشریفة ، ولذا تمسک جمعٌ من أصحابنا - أعلی اللّه کلماتهم - فی تحریم الرشوة بهذه الکریمة ، وهو فی محلّه .

الثالث : الروایات المتواترة

الروایات الکثیرة المستفیضة بل المتواترة تدلّ علی حرمة الرشوة بوضوح :

ص:147


1- (3) التبیان 2 / 138 و 139 .
2- (4) مجمع البیان 2 / 282 .
3- (5) جوامع الجامع 1 / 106 .
4- (1) الکشاف 1 / 233 .
5- (2) مجمع البحرین / 30 الطبع الحجری .

منها : صحیحة عمار بن مروان قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن الغلول ، فقال : کلُّ شیءٍ غُلّ من الإمام فهو سحت ، وأکل مال الیتیم وشبهه سحت ، والسحت أنواع کثیرة : منها : اُجور الفواجر ، وثمن الخمر والنبیذ والمسکر ، والربا بعد البیّنة ، فأمّا الرشا فی الحکم فإن ذلک الکفر باللّه العظیم جلّ اسمه وبرسوله صلی الله علیه و آله وسلم (1) .

سند الروایة صحیح ، لأنّ المراد بعمار بن مروان هو الیشکری مولاهم الخزاز الکوفی ، هو وأخوه عمرو ثقتان . وروی نحوها الصدوق فی الخصال / 329 ح 26 بسند صحیح کما نقل عنه فی الوسائل 17 / 95 ح 12 .

ومنها : موثقة سماعة عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : السحت أنواع کثیرة : منها : کسب الحجام إذا شارط ، وأجر الزانیة ، وثمن الخمر ، وأمّا الرشا فی الحکم فهو الکفر باللّه العظیم ، الحدیث(2) .

سند الشیخ موثق ، ولکن سند الکلینی(3) ضعیف . +6

ومنها : موثقة اُخری لسماعة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الرشا فی الحکم هو الکفر باللّه(4) .

ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : السحت ثمن المیتة ، وثمن الکلب ، وثمن الخمر ، ومهر البغی ، والرشوة فی الحکم ، وأجر الکاهن(5) .

ومنها : معتبرة حمران عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال فی حدیث طویل : ورأیتَ الولاة یرتشون فی الحکم ، الحدیث(6) .

وأنت تری أنّ هذه الروایات المعتبرة تقیّد الرشاء بالحکم .

ص:148


1- (3) وسائل الشیعة 17 / 92 ح 1 . الباب 5 من أبواب ما یکتسب به .
2- (4) وسائل الشیعة 17 / 92 ح 3 .
3- (5) وسائل الشیعة 17 / 92 ح 2 .
4- (1) وسائل الشیعة 27 / 222 ح 3 . الباب 8 من أبواب آداب القاضی .
5- (2) وسائل الشیعة 17 / 93 ح 5 .
6- (3) وسائل الشیعة 16 / 277 ح 6 . الباب 41 من أبواب الأمر والنهی .

ومنها : خبر یزید بن فرقد عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن السحت ، فقال : الرشاء فی الحکم(1) .

ومنها : خبر الأصبغ بن نباتة عن أمیر المؤمنین علیه السلام قال : أیما وال احتجب عن حوائج الناس احتجب اللّه عنه یوم القیامة وعن حوائجه ، وإن أخذ هدیةً کان غلولاً ، وإن أخذ الرشوة فهو مشرک(2) .

ومنها : فی خبر وصیة النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : یا علی من السحت ثمن المیتة ، وثمن الکلب ، وثمن الخمر ، ومهر الزانیة ، والرشوة فی الحکم ، وأجر الکاهن(3) .

ومنها : مرسلة الصدوق قال : قال علیه السلام : أجر الزانیة سحت ، وثمن الکلب الذی لیس بکلب الصید سحت ، وثمن الخمر سحت ، وأجر الکاهن سحت ، وثمن المیتة سحت ، فأما الرشا فی الحکم فهو الکفر باللّه العظیم(4) .

ومنها : مرسلة جراح المداینی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : من أکل السحت : الرشوة فی الحکم(5) .

ومنها : خبر یوسف بن جابر عن أبی جعفر علیه السلام قال : لعن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : من نظر

إلی فرج امرأة لا تحلّ له ، ورجلاً خان أخاه فی امرأته ، ورجلاً احتاج الناس إلیه لتفقّهه فسألهم الرشوة(6) .

روی نحوها المجلسی(7) عن خط الشیخ محمد بن علی الجباعی قدس سره نقلاً عن الشهید قدس سره ، وهذه الروایة بعمومها تدلّ علی حرمة الرشوة .

ص:149


1- (4) وسائل الشیعة 17 / 93 ح 4 .
2- (5) وسائل الشیعة 17 / 94 ح 10 .
3- (6) وسائل الشیعة 17 / 94 ح 9 .
4- (7) وسائل الشیعة 17 / 94 ح 8 .
5- (8) وسائل الشیعة 27 / 223 ح 7 .
6- (1) وسائل الشیعة 27 / 223 ح 5 .
7- (2) بحار الأنوار 100 / 54 ح 28 .

ومنها : مرسلة الطبرسی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : إنّ السحت هو الرشوة فی الحکم ، وهو المروی عن علی علیه السلام (1) .

ومنها : مرسلة اُخری للطبرسی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إنّ السحت أنواع کثیرة ، فأمّا الرشا فی الحکم فهو الکفر باللّه(2) .

ومنها : خبر جابر عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : هدیة الاُ مراء غلولٌ(3) .

الروایة بإطلاقها تدلّ علی حرمة الرشوة .

ومنها : خبر أحمد بن عبد اللّه الهروی الشیبانی وداود بن سلیمان الغرا عن علی بن موسی الرضا علیه السلام فی قول اللّه عزّ وجل «أَکَّالُونَ لِلسُّحْتِ»(4) قال : هو الرجل الذی یقضی لأخیه الحاجة ثمّ یقبل هدیته(5) .

هذه الروایة أیضاً بإطلاقها تدل علی حرمة الرشوة

ومنها : ما رواها الشیخ أبومحمد جعفر بن أحمد بن علی القمی بإسناده إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : الراشی والمرتشی والرائش بینهما ملعونون(6) .

وفی بعض النسخ بدل الرائش « الماشی » وکلاهما بمعنی واحد .

ومنها : مرسلة الرضی عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال فی خطبة : وقد علمتم أنّه لا ینبغی أن یکون الوالی علی الفروج والدماء و المغانم والأحکام وإمامة المسلمین : البخیل ... ولاالجاهل ... والجافی ... والحائف ... ولا المرتشی فی الحکم فیذهَب بالحقوقِ ویقف بها دون

المقاطِعِ ، ولا المعطِّلُ للسنة فَیُهْلِک الاُمّة(7) .

ص:150


1- (3) وسائل الشیعة 17 / 96 ح 15 .
2- (4) وسائل الشیعة 17 / 96 ح 16 .
3- (5) وسائل الشیعة 27 / 223 ح 6 .
4- (6) سورة المائدة / 42 .
5- (7) عیون أخبار الرضا علیه السلام 2 / 28 ح 16 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 95 ح 11 .
6- (8) جامع الأحادیث / 85 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 4 / 218 ح 5 .
7- (1) نهج البلاغة . الخطبة 131 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 4 / 218 ح 7 .

الحائف : الظالم والجائر ، من الحیف بمعنی الجور والظلم . المقاطع : الحدود التی عیّنها اللّه تعالی لها .

ومنها : مرسلة صاحب جامع الأخبار عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : لعن اللّه الراشی والمرتشی والماشی بینهما(1) .

ومنها : مرسلة اُخری له عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : إیّاکم والرشوة ، فإنّها محض الکفر ، ولا یشمّ صاحب الرشوة ریح الجنة(2) .

فهذه الروایات المتواترة تدلّ علی حرمة الرشوة بوضوح ، وفی کثیر منها تقیّد الرشوة بالحکم ، فلذا لابدّ من تقیید المطلقات به والذهاب إلی أنّ الرشوة المصطلح عند الفقهاء أعلی اللّه کلمتهم مقیدة بالحکم ، أعنی الرشوة التی إعطاؤها وأخذها والسعی بینهما حرام مختص بالرشوة التی تبذل فی الحکم فقط کما علیه فتوی المشهور .

وهکذا تدلّ علی حرمة الرشوة : بلا فرق بین أن یأخذها القاضی لیحکم للمعطی بالباطل مع العلم ببطلان الحکم ، وبین أن یأخذها لیحکم للباذل مع جهله سواء طابق حکمه الواقع أم لم یطابق ، وبین أن یأخذها لیحکم له بالحقِّ مع العلم .

ففی الصورة الأخیرة حرمة الرشوة یدلّ علیها إطلاق الروایات الماضیة ومضافاً إلی ذلک مناسبة الحکم والموضوع یقتضی الحرمة ، لأنّ القضاء من المناصب الإلهیة التی جعلها اللّه للرسول صلی الله علیه و آله وسلم والأئمة من ولده علیهم السلام ، فلا ینبغی لمن أعطاه اللّه هذا المنصب أن یأخذ علیه الاُجرة .

وتدلّ علیه الروایات الدالة علی حرمة أخذ الاُجرة علی القضاء ، کما سیأتی إن شاء اللّه تعالی .

فالرشوة فی جمیع الصور الثلاث حرام .

نعم ، إذا کان أخذ الحقّ یتوقف علیها یجوز للراشی ویحرم علی المرتشی فقط ، کما علیه

ص:151


1- (2) جامع الأخبار/ 439 ح 5 و نقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 4 / 218 ح8 .
2- (3) جامع الأخبار/ 440 ح 6 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 4 / 218 ح 9 .

فتوی المشهور .

ومنهم العلامة قال فی التحریر : « وأمّا الرشوة فإنّها حرام علی آخذها ویأثم الدافع لها

إن توصل بها إلی الحکم بالباطل ، ولو توصل إلی الحقِّ لم یأثم ویأثم المرتشی علی التقدیرین ، ویجب علیه دفع الرشوة إلی صاحبها سواء حکم له أو علیه ولو تلفت ضمنها »(1) .

ومنهم الشهید الثانی قال معلِّقاً علی قول العلامة فی الإرشاد : « الرشاء فی الحکم » : « إلاّ أن یتوقَّف تحصیل الحقّ علیه فیحرم علی المرتشی خاصة »(2) .

وعلی قوله فی کتاب القضاء : « تحرم علیه الرشوة» : « یحرم علی الراشی والمرتشی إلاّ أنْ یتوقف حصول الحقّ علیها فیحرم علی المرتشی خاصّةً »(3) .

وعلی قوله « إن توصل بها إلی الباطل » : « إلاّ لِمَن یتوصَّل بها إلی الحقِّ ولا یمکن بدونه »(4) .

الرابع : حکم العقل

العقل یحکم بحرمة الرشوة ، ولعلّ أوّل مَنْ تعرض له المحقق الأردبیلی قدس سره حیث یقول : « یحرم علی القاضی الرشوة دلیله العقل والنقل ... »(5) . واعترف به أیضاً المحقق الخوئی(6) فی الجملة ، وقال الفقیه السبزواری : « ویدلّ علی قبحه حکم العقل أیضاً لأنّه من الظلم ... »(7) .

فالأعلام اعترفوا بحکم العقل علی حرمة الرشوة ، وأمّا تقریبه :

أخذ الرشوة توسط القاضی ظلم علی جمیع التقادیر ، لأنّه إمّا حَکَمَ للباذل بحقٍّ أو باطلٍ ، فإذا حکم له بالحقِّ فلماذا أخذ الرشوة ؟ لأنّ وظیفته الحکم علی طبق الحقِّ والموازین

ص:152


1- (1) تحریر الأحکام الشرعیة 5 / 115 .
2- (2) حاشیة الشهید الثانی علی الارشاد المطبوعة ضمن غایة المراد 2 / 9 . ومستقلاً / 165 .
3- (3) حاشیة الشهید الثانی علی الارشاد المطبوعة ضمن غایة المراد 4 / 10 . ومستقلاً / 368 .
4- (4) حاشیة الشیهد الثانی علی الارشاد المطبوعة ضمن غایة المراد 4 / 10 . ومستقلاً / 368 .
5- (5) مجمع الفائدة والبرهان 12 / 49 .
6- (6) مصباح الفقاهة 1 / 265 .
7- (7) مهذب الأحکام 16 / 94 .

الشرعیة . وإذا حکم له بالباطل کان حکمه محرّماً وما أخذ بأزائه أیضاً یکون محرّماً ، فعلی التقدیرین أخذ القاضی الرشوة یکون من الظلم فصار محرّماً .

وهکذا الأمر إذا لم یتأثر القاضی من الرشوة وحکم علی طبق الواقع وما یکون وظیفته طبق الموازین الشرعیة ، لأنّه حینئذٍ أخَذَ الرشوة فی مقابل أیّ عمل ؟ ! فیکون أخذها ظلماً فیحرم علیه ، فأخذ الرشوة علی جمیع التقادیر ظلم ، فیصیر محرّماً .

وأمّا بالنسبة إلی المعطی فإنه إذا أعطی فی قبال الحکم بالباطل وتمشیته وتضییع الحقّ فیکون إعطاؤه أیضاً ظلماً ، فیصیر محرّماً .

والحاصل : أنّ العقل أیضاً حاکمٌ بحرمة الرشوة ، لأنّها من مصادیق الظلم الذی یستقل العقل بقبحه وفساده وحرمته واللّه سبحانه هو العالم .

حرمة أخذ الاُجرة علی القضاء

اختلفت کلمات الأصحاب فی أخذ الاُجرة والرِزق والجُعل علی الحکم والقضاء بین الناس علی أقوال :

1 _ منها : جواز الأخذ مطلقاً مع الکراهة أو عدمها ، ذهب إلیه المفید فی المقنعة وقال : « ولا بأس بالأجر علی الحکم والقضاء بین الناس ، والتبرع بذلک أفضل وأقرب إلی اللّه تعالی »(1) .

والشیخ فی النهایة قال : « ولا بأس بأخذ الأجر والرزق علی الحکم والقضاء بین الناس من جهة السلطان العادل حسب ما قدّمناه ، فأمّا من جهة سلطان الجور فلا یجوز إلاّ عند الضرورة أو الخوف علی ما قدّمناه ، والتنزه عن أخذ الرزق علی ذلک فی جمیع الأحوال أفضل »(2) .

والقاضی ابن البراج فی المهذب قال فی عداد المکاسب المکروهة : « وکسب الحجام ،

ص:153


1- (1) المقنعة / 588 .
2- (2) النهایة / 367 .

والأجر علی القضاء وتنفیذ الأحکام من قِبَلِ الإمام العادل »(1) .

وسلاّر بن عبد العزیز الدیلمی فی المراسم قال : « فأمّا المکروه فهو الکسب بالنوح علی أهل الدین بالحقِّ ، وکسب الحجام ، والأجر علی القضاء بین الناس »(2) .

ومن المتأخرین ذهب إلیه صاحب العروة(3) والمحقق الإیروانی(4) والمحقق الأردکانی(5) وبعض الأساتیذ(6) _ مدظله _ .

2 _ ومنها : منع الأخذ مطلقاً ذهب إلیه أبو الصلاح الحلبی وقال فی عداد المکاسب المحرّمة : « أجر تنفیذ الأحکام»(7) .

وابن إدریس الحلی قال فی السرائر فی عداد المکاسب المحرّمة : « والإرتشاء علی الأحکام والقضاء بین الناس ، وأخذ الاُجرة علی ذلک ، ولا بأس بأخذ الرزق علی القضاء من جهة السلطان العادل ، ویکون ذلک من بیت المال دون الاُجرة علی کراهة فیه »(8) .

والعلامة فی القواعد یقول : « وتحرم الاُجرة علی الأذان وعلی القضاء ، ویجوز أخذ الرزق علیهما من بیت المال »(9) . وقال فی التذکرة : « وتحرم الاُجرة علی الأذان وقد سبق(10) ، وعلی القضاء لأنّه واجبٌ ویجوز أخذ الرزق علیهما من بیت المال »(11) .

ص:154


1- (3) المهذب 1 / 346 .
2- (4) المراسم / 169 .
3- (5) العروة الوثقی 6 / 435 .
4- (6) الحاشیة علی المکاسب 1 / 158 .
5- (7) غنیة الطالب 1 / 128 .
6- (8) دراسات فی المکاسب المحرمة 3 / 171 .
7- (1) الکافی / 283 .
8- (2) السرائر 2 / 217 .
9- (3) قواعد الأحکام 2 / 10 .
10- (4) فی تذکرة الفقهاء 3 / 81 المسألة 184 .
11- (5) تذکرة الفقهاء 12 / 148 .

ونحوها فی المنتهی(1) والتحریر(2) والإرشاد(3) .

وقال الشیخ شمس الدین محمد بن شجاع القطّان الحلی فی کتاب التکسب من معالم الدین : « یحرم أخذ الاُجرة علی تحمل الشهادة وأدائها و ... والقضاء ولا بأس بالرزق من بیت المال »(4) .

وقال فی قضاء المعالم : « ولا یجوز أخذ الجُعل من الخصمین وإن لم یتعیّن علیه وإن کان به ضرورة علی الأقوی ، ولو انتفی أحدهما لم یجز قطعاً »(5) .

أقول : یأتی تفصیل ابن القطان فی جواز الإرتزاق من بیت المال فیما بعد إن شاء اللّه تعالی .

والمحقق الثانی قال فی شرح القواعد : « وأمّا القضاء للنص والإجماع ، ولا فرق بین أخذ الاُجرة من المتحاکمین أو من السلطان أو أهل البلد عادلاً کان أو جائراً ، سواء کان

المأخوذ بالإجارة أو الجُعالة أو الصلح ... والأقوی المنع مطلقاً ، إلاّ من بیت المال خاصة فیتقیّد بالحاجة »(6) .

والشهید الثانی قال : « ومن الأصحاب من جوّز أخذ الاُجرة علیه مطلقاً ، والأصح المنع مطلقاً إلاّ من بیت المال علی جهة الإرتزاق ، فیتقیّد بنظر الإمام . ولا فرق فی ذلک بین أخذ الاُجرة من السلطان ومن أهل البلد والمتحاکمین ، بل الأخیر هو الرشوة التی وردت فی الخبر أنّها کفر باللّه وبرسوله »(7) .

وقال المحقق الأردبیلی : « وأمّا الأجر علی القضاء والحکم بین المتحاکمین فالظاهر

ص:155


1- (6) منتهی المطلب 2 / 1018 ونقل عنه فی الحدائق 18 / 216 .
2- (7) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 265 .
3- (8) إرشاد الأذهان 1 / 358 .
4- (9) معالم الدین فی فقه آل یس 1 / 331 .
5- (10) معالم الدین فی فقه آل یس 2 / 342 .
6- (1) جامع المقاصد 4 / 36 .
7- (2) مسالک الأفهام 3 / 132 .

تحریمه مطلقاً ، سواء کان القضاء متعیّناً علیه أم لا ، وسواء کان بین المتحاکمین أم لا ... » . ثمّ استدل علی مختاره وذکر بعض الأقوال فی المقام وقال : « والأوّل أظهر کما هو رأی المصنف ، ولا شک فی جواز الإرتزاق من بیت المال علی الکلِّ مع الحاجة التی هی شرط الأخذ من بیت المال الذی هو للمصالح ، والظاهر أنّ المراد بالحاجة هی المتعارفة وعلی حسب العادة لا الضرورة التی لا یعیش بدونها ، والظاهر أنّ ذلک هو مراد المصنف »(1) .

وظاهر صاحب الحدائق أیضاً المنع مطلقاً ، فراجع کتابه(2) .

وقال الفاضل النراقی ناقلاً عن والده قدس سرهما : « ونقل والدی فی معتمد الشیعة الإجماع علی الحرمة صریحاً مع عدم الحاجة »(3) . ومال إلیه ولده فی المستند بل اختاره(4) .

واختار سید الریاض القول بالمنع بأنّه « أحوط وأولی»(5) ، وردّ القول بالجواز بأنّه « ضعیف جداً »(6) .

وقال الشیخ الأکبر کاشف الغطاء : « (و) تحرم الاُجرة ونحوها من عوض صلح أو جُعل أو غیرهما (علی القضاء) کالإفتاء ، سواء اُخذت من سلطان عادل أو غیره من بیت مالٍ أو أوقافٍ أو من المتخاصمین ، مع الحاجة وعدمها ، أو من متبرّع علی أیِّ نحو کان ، لوجوبه

عیناً مع الاتحاد وکفایةً مع إمکان قیام الغیر ، ولیس من الواجبات المشروطة کالصنائع النظامیة ، مع أنّ الشک فی دخولها تحتها ما یغنی فی المنع _ وللأخبار الدالة علیه وللإجماعات المنقول بعضها علی منع الجعل المخصوص بما کان من المتخاصمین أو الأعم ، وبعضها علی تحریم الاُجرة »(7) .

ص:156


1- (3) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 93 .
2- (4) الحدائق 18 / 217 .
3- (5) مستند الشیعة 17 / 64 .
4- (6) مستند الشیعة 17 / 68 و 67 .
5- (7) ریاض المسائل 8 / 184 .
6- (8) ریاض المسائل 8 / 184 .
7- (1) شرح القواعد 1 / 289 .

وقال تلمیذه صاحب الجواهر فی اُجور القضاة : « ... والتحقیق عدم جواز أخذ العوض عنه مطلقاً ، عینیّاً کان علیه أو کفائیاً أو مستحباً مع الحاجة وعدمها ، من المتحاکمین أو أحدهما أو أجنبی أو أهل البلد أو بیت المال أو غیر ذلک ، سواء کان ذا کفایة أو لا ، لأنّه من مناصب السلطان الذی أمر اللّه تعالی بأن یقول : «قُل لاَّ أَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً»(1)وأوجب التأسی به ... »(2) .

وتبعهم جماعة من الفقهاء منهم : المؤسس الحائری(3) والمحقق الخوئی(4) وشیخنا الاُستاذ _ مدظله _ حیث یقول : « فتحصّل من جمیع ما ذکرنا أنّ الأظهر بحسب الروایات عدم جواز أخذ الجعل والأجر علی القضاء أو ما هو من شؤونه ، بلا فرق بین حاجة القاضی وعدمها وتعیّن القضاء علیه وعدمه ، ویتعدی إلی أخذ الجُعل والأجر علی الإفتاء وبیان الأحکام الشرعیة الکلّیّة باعتبار عدم احتمال الفرق بینهما فی ذلک »(5) .

تنبیهٌ :

قد یقال : برجوع الشیخ فی کتابیه الخلاف والمبسوط عما أفتی به فی نهایته من جواز الأخذ مطلقاً ، فلابدّ من ملاحظة نص عبارته ، قال فی الخلاف : « لا یجوز للحاکم أن یأخذ الاُجرة علی الحکم من الخصمین أو من أحدهما ، سواء کان له رزق من بیت المال أو لم یکن .

وقال الشافعی : إن کان له رزق من بیت المال لم یجز _ کما قلناه _ وإن لم یکن له رزق من بیت المال جاز له أخذ الاُجرة علی ذلک .

دلیلنا : عموم الأخبار الواردة فی أنّه یحرم علی القاضی أخذ الرشا والهدایا وهذا داخل

فی ذلک ، وأیضاً طریقة الإحتیاط تقتضی ذلک ، وأیضاً إجماع الفرقة علی ذلک ، فإنّهم لا

ص:157


1- (2) سورة الأنعام / 90 .
2- (3) جواهر الکلام 22 / 122 .
3- (4) فی تقریرات بحثه المکاسب المحرمة / 58 بقلم شیخنا آیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی قدس سره .
4- (5) مصباح الفقاهة 1 / 481 و 269 .
5- (6) إرشاد الطالب 1 / 153 .

یختلفون فی أنّ ذلک حرام »(1) .

وأنت تری أنّه أفتی بتحریم أخذ الاُجرة من المتحاکمین أو أحدهما ، لا أنّه رجع عمّا أفتی به فی النهایة من جواز أخذ الاُجرة ، فالجمع بین کلامیه یقتضی القول بأنّ الشیخ یذهب إلی جواز أخذ الاُجرة علی القضاء ، ولکن لا من المتخاصمین أو أحدهما بل من غیرهما .

وقال الشیخ فی المبسوط : « وأمّا من یحلّ له أخذ الرزق علیه ومن لا یحلّ : فجملته أنّ القاضی لا یخلو من أحد أمرین : إمّا أن یکون ممّن تعیّن علیه القضاء أو لم یتعیّن علیه وهو القسم الأوّل والأخیر ، فإن کان ممّن یجوز له القضاء ولم یتعیّن علیه لم یخل من أحد أمرین : إمّا أن یکون له کفایة أو لا کفایة له ، فإن لم یکن له کفایة جاز له أخذ الرزق وإن کانت له کفایة فالمستحب أن لایأخذ ، فإن أخذ جاز ولم یحرم علیه بل کان مباحاً . وجواز إعطاء الرزق للقضاء إجماع ، ولأنّ بیت المال للمصالح وهذا منها بل أکثرها حاجة إلیه ، لما فیه من قطع الخصومات واستیفاء الحقوق ونصرة المظلوم ومنع الظالم .

هذا إذا لم یتعین علیه القضاء ، فأمّا إن تعیّن علیه القضاء لم یخل من أحد أمرین : إما أن یکون له کفایة أو لا کفایة له ، فإن کانت له کفایة حرم علیه الرزق لأنّه یؤدی فرضاً قد تعیّن علیه ، ومن أدّی فرضاً لم یحلَّ له أخذ الرزق علیه مع الاستغناء عنه ، وإن لم یکن له کفایة حلّ ذلک له لأنَّ علیه فرض النفقة علی عیاله وفرضاً آخر وهو القضاء وإذا أخذ الرزق جمع بین الفرضین ، لأنّ الرزق یقوم مقام الکسب ، فکان الجمع بین الفرضین أولی من إسقاط أحدهما . وهذا عندنا وعندهم ، وحکم الشهادة فی أخذ الجُعل علیها عندنا لا یجوز بحال ... »(2) .

أقول : الحاصل من کلام الشیخ أنه ذهب فی المبسوط إلی جواز أخذ الاُجرة للقضاء إلاّ إذا تعیّن علیه القضاء وله کفایة من المال ولا یحتاج إلی أجرة ، فحرم علیه الرزق حینئذ فقط .

والجمع بین أقواله الثلاثة یرشدنا إلی هذا التفصیل : بأنّ الشیخ یقول بجواز أخذ

ص:158


1- (1) الخلاف 6 / 233 المسألة 31 .
2- (2) المبسوط 8 / 85 و 84 .

الاُجرة علی القضاء ولکن منع أخذه من المتخاصمین أو أحدهما ، وهکذا یجوز أخذ الاُجرة للقاضی إلاّ إذا تعیّن علیه القضاء وله کفایة من المال بحیث لا یحتاج إلی اُجرته لإمرار معاشه ، فحرم حینئذ له أخذ الاُجرة حتّی من بیت المال .

فالشیخ لم یرجع عما أفتی به فی النهایة ، بل قیّده بقیود ، یعنی ذهب إلی جواز أخذ الاُجرة ولکن لا من المتخاصمین أو أحدهما ، ولا یجوز له الأخذ إذا تعیّن علیه القضاء وکان القاضی ذا یسار بحیث لا یحتاج إلی الاُجرة ، وهذا فی الواقع إحداث تفصیل من الشیخ یمکن أن یجعل قولاً ثالثاً فی المقام .

3 _ ومنها : التفصیل بین تعیّن القضاء علیه وصورة الغنی وتمکنه فلا یجوز أخذ الاُجرة ، وفی غیرهما - أعنی إذا لم یتعیّن القضاء علیه ولم یستغن من أجر قضائه ویحتاج إلیه - فیجوز له أخذ الاُجرة ، وحیث ورد فی کلام الأصحاب هذا التفصیل مع بحث ارتزاق القاضی من بیت المال غالباً أذکرهما معاً .

یظهر التفصیل من الشیخ فیما مرّ منّا آنفاً فی الجمع بین أقواله مع زیادة ، ومن المحقق الحلی فی قضاء الشرائع حیث یقول : « إذا ولّی من لا یتعیّن علیه القضاء فإن کان له کفایة من ماله فالأفضل أن لا یطلبَ الرزق من بیت المال ، ولو طلب جاز لأنّه من المصالح . وإن تعیّن للقضاء ولم یکن له کفایة جاز له أخذ الرزق . وإن کان له کفایة ، قیل : لا یجوز له أخذ الرزق لأنّه یؤدّی فرضاً . أمّا لو أخذ الجُعل من المتحاکمین ففیه خلافٌ ، والوجه التفصیل ، فمع عدم التعیین وحصول الضرورة ، قیل یجوز ، والاُولی المنع ، ولو اختلَّ أحد الشرطین لم یجز »(1) .

وقال فی المختلف بعد نقل الأقوال فی المسألة : « والأقرب أن نقول : إن تعیّن القضاء علیه إمّا بتعیین الإمام علیه السلام أو بفقد غیره أو بکونه الأفضل وکان متمکّناً لم یجز الأجر علیه ، وإن لم یتعیّن أو کان محتاجاً فالأقرب الکراهة .

لنا : الأصل الإباحة علی التقدیر الثانی ، ولأنّه فعل لا یجب علیه ، فجاز أخذ الأجر علیه . أمّا مع التعیین فلأنّه یؤدی واجباً ، فلا یجوز أخذ الأجرة علیه ، کغیره من العبادات

ص:159


1- (1) شرائع الاسلام 4 / 60 .

الواجبة »(1) .

أقول : الظاهر أنّ العلامة یشترط فی جواز أخذ أجرة للقاضی أمرین : 1 _ عدم تعیّن القضاء علیه ، 2 _ وجود الحاجة واحتیاجه إلی الأجر . وهذا هو الذی استفاد من عبارته الشیخ الأعظم قدس سره ، ولذا قال : « فصّل فی المختلف فجوّز أخذ الجعل والاُجرة مع حاجة القاضی وعدم تعیّن القضاء علیه ، ومنعه مع غناه أو عدم الغنی عنه »(2) .

ویمکن حمل عبارته الآتیة فی بحث إرتزاق القاضی من بیت المال من التحریر(3) علی ما ذکرناه فراجعها .

قال العلامة فی الإرشاد فی عداد المکاسب المحرمة : « ... وکذا أخذ الاُجرة علی الأذان والصلاة بالناس والقضاء ، ولا بأس بالرزق من بیت المال علی الأذان والقضاء مع الحاجة وعدم التعیین »(4) .

وتبعه شمس الدین محمد بن شجاع القطان الحلّی فی أخذ الرزق من بیت المال وقال : « ومن یتعیّن علیه القضاء إن کان له کفایةٌ لم یحلّ له الرزق من بیت المال وإلاّ حلّ ، ومن لم یتعیّن جاز له الأخذ والأفضل الترک »(5) .

والشهید الثانی فی ذیل قول المحقق فی تجارة الشرائع : « والقضاء علی تفصیل سیأتی» قال : « التفصیل الموعود به هو أنّه إن تعیّن علیه بتعیین الإمام أو بعدم قیام أحد به غیره ، حرم علیه أخذ الاُجرة علیه مطلقاً ، لأنّه حینئذٍ یکون واجباً ، و الواجب لا یصح أخذ الاُجرة علیه ، وإن لم یتعین علیه فإن کان له غنیً عنه لم یجز أیضاً وإلاّ جاز »(6) .

وقال الفاضل الإصبهانی : « ولو أخذ الجُعل من المتحاکمین فإن لم یتعین للحکم

ص:160


1- (2) مختلف الشیعة 5 / 17 .
2- (3) المکاسب المحرمة / 31 من الطبع الحجری _ (1 / 244) .
3- (1) تحریر الأحکام الشرعیة 5 / 115 و 114 .
4- (2) إرشاد الأذهان 1 / 358 .
5- (3) معالم الدین فی فقه آل یس 2 / 342 .
6- (4) مسالک الأفهام 3 / 132 .

وحصلت الضرورة ، ... قیل : جاز ، ... وإن تعیّن للقضاء أو کان مکتفیّاً ... لم یجز له أخذ الجُعل قولاً واحداً »(1) .

واختار السید جواد العاملی هذا التفصیل وقال : « إذا تعیّن علیه القضاء بتعیین الإمام أو بفقد غیره أو بکونه أفضل وکان متمکّناً ذا کفایة حرمت علیه الثلاثة : الاُجرة والجُعل والرزق ، لأنّه واجبٌ عینیٌّ علیه فلا یستحق عوضاً علیه ... وهو صریح تفصیل المصنف فی المختلف والإرشاد وحاشیته وإیضاح النافع وقضاء الکتاب والشرائع ، قالوا : إن تعیّن علیه وکان متمکّناً لم یجز الأجر ، وإن لم یتعیّن أو کان محتاجاً فالأقرب الکراهیة ... »(2) .

4 _ ومنها : التفصیل بین صورة احتیاج القاضی فیجوز أخذ الجُعل والاُجرة وصورة تمکنه وعدم احتیاجه فلا یجوز . قال ثانی الشهیدین : « قیل : یجوز مع الحاجة

مطلقاً »(3) .

وقال المحقق الأردبیلی : « وقیل : بالجواز علی تقدیر الاحتیاج »(4) .

وقال الفاضل النراقی : « ونقل والدی فی معتمد الشیعة الإجماع علی الحرمة صریحاً مع عدم الحاجة »(5) .

5 _ ومنها : التفصیل بین صورة عدم تعیّن القضاء علی القاضی وتعیّنه علیه ، فیجوز فی الأوّل ویحرم فی الثانی ، قال ثانی الشهیدین : « قیل : یجوز مع عدم التعیّن مطلقاً»(6) . وقال الأردبیلی : « قیل : بعدمه (أی عدم الجواز) علی تقدیر تعیین القضاء علیه إمّا بتعیین الإمام أم لعدم غیره »(7) .

ص:161


1- (5) کشف اللثام 2 / 143 الطبع الحجری (10 / 23 و 24) .
2- (6) مفتاح الکرامة 12 / 323 و 322 .
3- (1) مسالک الأفهام 3 / 132 .
4- (2) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 93 .
5- (3) مستند الشیعة 17 / 64 .
6- (4) مسالک الأفهام 3 / 132 .
7- (5) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 93 .

أقول : لم یظهر لی إلی الآن قائل هذا القول والعلم عند اللّه تعالی .

6 _ ومنها : یمکن التفصیل بین جواز أخذ الاُجرة من بیت المال وعدم الجواز فی الأخذ من المتحاکمین أو الثالث أو أهل البلد ونحوها .

وإلی الآن لم أعرف قائله .

الاستدلال علی حرمة اُجرة القضاء

اشارة

یمکن أن یُستدل علی حرمة أخذ الاُجرة للقاضی بوجوه :

الأوّل : الاجماع

ولعلّ أوّل من ادعاه هو العلاّمة الحلّی فی التحریر(1) وتبعه المحقق الثانی فی جامع المقاصد(2) کما مرّ بیانه ، وتبعهما والد النراقی فی معتمد الشیعة کما مرّ کلامه بتوسط ولده فی المستند(3) ، وتبعهم الشیخ جعفر فی شرح القواعد(4) .

وفیه : أولاً : قد عرفت وجود القول بالجواز صریحاً من المفید فی المقنعة والشیخ فی

النهایة والقاضی ابن البراج فی المهذب وسلار فی المراسم وغیرهم ، وهکذا قد مرّ ذکر الأقوال المختلفة والتفاصیل المتعددة فی المقام ، فادعاء الإجماع بلا وجه .

وثانیاً : لو تنزلنا وقبلنا وجود الإجماع علی الحرمة فلا یفیدنا فی المقام شیئاً ، لأنّه إجماع مدرکیٌ علی فرض وجوده ، فلابدّ من ملاحظة ما یأتی من الأدلة .

الثانی : الروایات

عدّة من الروایات تدلّ علی حرمة اُجور القضاة :

منها : صحیحة عمار بن مروان الیشکری عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : کلّ شیء غلّ من الإمام فهو سحت ، وأکل مال الیتیم سحت ، والسحت أنواع کثیرة ، منها : ما اُصیب من أعمال

ص:162


1- (6) تحریر الأحکام الشرعیة 5 / 15 .
2- (7) جامع المقاصد 4 / 36 .
3- (8) مستند الشیعة 17 / 64 .
4- (9) شرح القواعد 1 / 290 .

الولاة الظلمة ، ومنها : اُجور القضاة واُجور الفواجر وثمن الخمر والنبیذ المسکر ، والربا بعد البیّنة ، فأمّا الرشایا عمار فی الأحکام ، فإنّ ذلک الکفر باللّه العظیم وبرسوله صلی الله علیه و آله وسلم (1) .

سند الروایة صحیح ودلالتها تامة ، لأنّها عدّت اُجور القضاة من السحت ، والظاهر من لفظ « السحت » الحرمة إلاّ أن تقوم علیه القرینة .

وأمّا حمل القضاة علی قضاة الجور الذین کانوا فی عصر صدور الروایة بقرینة ما قبلها من الولاة الظلمة ، لأنّ القضاة قسم من الولاة أو لا أقل أنهم قسم من عمّالهم ، فغیر تام ، لظهور الروایة فی استقلال فقراتها ، ولاأقل من الشک فی انعقاد ظهور بخلافه مع القرینة والأصل عدمه .

وبالجملة ، ظهور أن منها (أی من السحت) اُجور القضاة ، وهو عام یشمل قضاة الجور وغیرهم .

ولفظ « الأجر » و« الجُعل » وإن کانا متفاوتین فی مصطلح الفقهاء والمتشرعة بحیث یستعملون الأجر فی باب الإجارة ، والجُعل فی باب الجعالة ، ولکن الظاهر إتحاد حکمهما فی هذا الباب ، بل یمکن ادعاء أنّ الرزق أیضاً متحد معهما حکماً إذا اُخذ من شخص خاص ، خلافاً للسید العاملی فی مفتاحه(2) حیث فرّق بین العناوین .

ومنها : صحیحة عبد اللّه بن سنان قال : سُئل أبو عبد اللّه علیه السلام عن قاضٍ بین قریتین ، یأخذ من السلطان علی القضاء الرزق ، فقال : ذلک سحت(3) .

سندها صحیح ، ولکن یمکن المناقشة فی دلالتها بظهور القاضی فی قضاة الجور والسلطان ، سلاطین الجور المعهود فی تلک الأیام ، بقرینة السؤال عن الرزق الوارد فی الصحیحة وجواز الإرتزاق من بیت المال کما علیه المشهور .

ولکن یمکن أن یجاب عن المناقشة : بأنّ لفظ « الرزق » لم یرد فی جواب الإمام علیه السلام حیث حکم بأنّه سحت . وهذه الروایة من القرائن التی مرّ آنفاً بأنّ هذه الألفاظ الثلاثة فی

ص:163


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 95 ح 12 .
2- (2) مفتاح الکرامة 12 / 320 .
3- (3) وسائل الشیعة 27 / 221 ح 1 . الباب 8 من ابواب آداب القاضی .

المقام لها معنی واحد ، ولذا حمل العلامة المجلسی الصحیحة علی الاُجرة وقال : « وحُمل علی الاُجرة ، والمشهور جواز الإرتزاق من بیت المال »(1) .

ولکن مع ذلک کلّه بقی الإشکال بأنّ السائل یسأل عمّا أبتلی به ، وهو اُجور قضاة الجور المعهود فی ذلک الزمان ، فلیس للروایة إطلاق حتّی تشمل اُجور قضاة العدل ، ولذا قال الشیخ الأعظم : « إنّ ظاهر الروایة کون القاضی منصوباً من قبل السلطان الظاهر _ بل الصریح _ فی سلطان الجور »(2) . وهو متینٌ .

ومنها : خبر یوسف بن جابر عن أبی جعفر علیه السلام قال : لعن رسول اللّه علیه السلام من نظر إلی فرج امرأة لا تحلّ له ، ورجلاً خان أخاه فی امرأته ، ورجلاً احتاج الناس إلیه لتفقّهه فسألهم الرشوة(3) .

دلالة الروایة علی حرمة اُجور القضاة تامة ، لأنّ الناس یحتاجون إلی القاضی لتفقّهه ، وإذا سألهم الاُجرة یشمله إطلاق الروایة ، وأمّا حمل الرشوة علی اُجور القضاة - وإن یکن بعیداً فی بادیء النظر - ولکن إذا حملنا لفظ « الرشوة » علی معناها اللغوی تشمل اُجور القضاة أیضاً ، فتمَّ الإستدلال بالروایة . ولکن فی سندها ضعف .

ومنها : خبر حمزة بن حمران عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : من استأکل بعمله افتقر ، فقلت له : جعلت فداک ، إنّ فی شیعتک وموالیک قوماً یتحمّلون علومکم ویبثّونها فی شیعتکم فلا یعدمون علی ذلک منهم البرّ والصلة والإکرام ، فقال علیه السلام : لیس أولئک بمستأکلین ، إنّما المستأکل بعمله الذی یُفتی بغیر علمٍ ولا هدی من اللّه عزّ وجل لیبطل به الحقوق طمعاً فی حُطام الدنیا(4) .

غایة ما یمکن أن یقال فی الإستدلال بالروایة : بأنّ قضاة الجور یدخلون فی الذین

ص:164


1- (1) مرآة العقول 24 / 270 ح 1 .
2- (2) المکاسب / 30 الطبع الحجری (1 / 243) .
3- (3) وسائل الشیعة 27 / 223 ح 5 .
4- (4) معانی الأخبار / 181 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 27 / 141 ح 12 . الباب 11 من أبواب صفات القاضی .

یفتون بغیر علم ولا هدی من اللّه عزّ وجل لیبطلوا به الحقوق ، فیشملهم إطلاق الروایة ، فما یأخذونه فی قبال أحکامهم یکون حراماً . ولکن الروایة تشمل قضاة الجور فقط ، لأنّ قضاة العدل لا یفتون بغیر علم ولا هدی ولا یبطلون به الحقوق فلا تشملهم الروایة . فهذه تدلّ علی حرمة اُجور قضاة الجور ،

ولکن المُدعی أعم من هذا . وفی سندها أیضاً ضعف .

والحاصل : أن الروایات تدلّ علی حرمة اُجور القضاة مطلقاً .

الثالث : القضاء من المناصب الالهیة

النبوة والإمامة من المناصب الإلهیة وهما فوق الأجر والجُعل ، ولذا أمر اللّه تعالی أنبیاءه علیهم السلام أن یقولوا : «وَمَا أَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِیَ إِلاَّ عَلَی رَبِّ الْعَالَمِینَ»(1) .

وأمر اللّه خاتم أنبیائه صلی الله علیه و آله وسلم أن یقول : «قُلْ مَا أَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ مِنْ أَجْرٍ»(2) ویقول عنه : «مَا تَسْأَلُهُمْ عَلَیْهِ مِنْ أَجْرٍ»(3) .

وأمّا قوله تعالی : «قُل لاَّ أَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَی»(4) حیث جعل اللّه المودّة فی حقِّ أقرباء النبی صلی الله علیه و آله وسلم أجراً للرسالة ، نفعها یرجع إلی الاُمة لا إلی النبی صلی الله علیه و آله وسلم ، والشاهد علی ذلک قوله تعالی : «قُلْ مَا سَأَلْتُکُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَکُمْ إِنْ أَجْرِیَ إِلاَّ عَلَی اللَّهِ»(5)(6) .

والإمامة أیضاً وصایة النبی ، والأمر فیها کما فی النبوة .

ثمّ مِنْ مناصب الفقیه الجامع للشرائط : الإفتاء والقضاء اللذان جعلهما الإمام علیه السلام له ،

ص:165


1- (1) سورة الشعراء / 109 و 127 و 145 و 164 و 180 .
2- (2) سورة ص / 86 .
3- (3) سورة یوسف / 104 .
4- (4) سورة الشوری / 23 .
5- (5) سورة سبأ / 47 .
6- (6) ولتوضیح هذا البیان راجع إلی کتابی ولایت وامامت / 100 المطبوع باللغة الفارسیة عام 1370 ه_ . ش .

فهما من المناصب الإلهیة ، فلا یجوز اُخذ اُجرة والجُعل علیهما .

وأشار إلی هذا الإستدلال صاحب الجواهر بقوله : « لأنّه (أی القضاء) من مناصب السلطان الذی أمر اللّه تعالی بأن یقول : «لاَّ أَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً»وأوجب التأسیبه»(1) .

واعترف المحقق الخوئی غیر مرّة بأن الإفتاء والقضاء من الاُمور المجانیة ، حیث یقول : « ... إنّ الأمور التی یکون وضعها علی المجانیة ، فإنّ أخذ الاُجرة یعدّ رشوة فی نظر العرف ، ومن هذا القبیل القضاء والإفتاء»(2) ، ثمّ بعد صفحة أضاف إلیهما أمر تبلیغ الأحکام الشرعیة فقال : « ثمّ الظاهر أنّه لا یجوز أخذ الاُجرة والرشوة علی تبلیغ الأحکام الشرعیة وتعلیم المسائل الدینیّة ، فقد عرفت فیما تقدّم : أنّ منصب القضاء والإفتاء والتبلیغ یقتضی المجانیّة»(3) .

ثم قال بعد أکثر من مائتی صفحةٍ : « ... لا یجوز أخذ الاُجرة علی القضاء للروایات الخاصة ، وأنّ الظاهر من آیة النفر الآمرة بالتفقه فی الدین وإنذار القوم عند الرجوع إلیهم أنّ الإفتاء أمرٌ مجانیٌّ فی الشریعة المقدسة ، فیحرم أخذ الاُجرة علیه ، ویؤیده قوله تعالی : «قُل لاَّ أَسْأَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَی» »(4) .

والحاصل ، فهذان المنصبان _ الإفتاء والقضاء _ من المناصب الإلهیة ، فلا یجوز أخذ الاُجرة علیهما لعظمتهما ورفعتهما .

الرابع : القضاء واجبٌ فلا یجوز أخذ الأجرة علیها

تقریب الاستدلال : القضاء واجب ووجوبها یکون عینیّاً أو کفائیّاً ، وأخذ الاُجرة علی الواجبات لا یجوز فی الشریعة المقدسة ، فأخذ الاُجرة علی القضاء لا یجوز .

وفیه : أنه یمکن المناقشة فی الکبری بأنّ وجوب الفعل علی المکلف ولو کان تعبدیّاً لا یوجب عدم جواز أخذ الاُجرة علیه ، بل یکفی فی قصد التقرب المعتبر فی العبادة أنّه لو لم یکن أمر الشارع بالواجب لما کان یأتی به حتّی مع إعطاء الاُجرة علیه . والموجب لعدم جواز أخذ

ص:166


1- (7) جواهر الکلام 22 / 122 .
2- (1) مصباح الفقاهة 1 / 266 .
3- (2) مصباح الفقاهة 1 / 286 .
4- (3) مصباح الفقاهة 1 / 481 .

الاُجرة علی الفعل أحد الأمرین علی سبیل منع الخلو :

أحدهما : أن یکون إیجابه علی المکلف بأن یأتی به مجاناً کتغسیل الموتی بل تجهیزهم .

ثانیهما : عدم المالیة لذلک الفعل بحیث یکون أخذ العوض علیه من أکل المال بالباطل سواء کان الفعل واجباً أو مندوباً(1) ، نحو : إقامة الصلاة الواجبة علی المکلَّف لنفسه والإتیان بصیامه أو إقامته صلاة اللیل .

ومن الواضح أنه لم یدخل القضاء فی القسم الثانی ، وإدخاله فی القسم الأوّل یحتاج إلی ثبوت کونه من الواجبات المجانیة ، فإذا ثبت هذا لا نحتاج إلی هذه الکبری والإستدلال .

والحاصل ، هذا الدلیل لیس بدلیل مستقل عندنا ، بل یرجع ثبوته إمّا إلی الدلیل الثالث أی کون القضاء من المناصب الإلهیة - أو إلی الدلیل الثانی - أی الروایات الناهیة عن أخذ الاُجرة علی القضاء .

وسوف یأتی البحث مفصلاً حول هذه الکبری عند تعرض الشیخ الأعظم قدس سره فی النوع الخامس من المکاسب المحرَّمة ، وهو : « ما یجب علی الإنسان فعله عیناً أو کفایةً ، تعبداً أو توصّلاً» فانتظر .

وبالجملة ، فلا یجوز أخذ الاُجرة علی القضاء مطلقاً ، وأمّا إرتزاقه من بیت المال فسیأتی البحث حوله .

أخذ الاُجرة علی مقدمات القضاء

هل یجوز أخذ الاُجرة علی مقدمات القضاء ، نحو : سماع الشهادة والبیّنة أو التحلیف أو التزکیة والجرح ، أو الذهاب إلی الإمرأة المستورة الشریفة لسماع شهادتها أو جوابها أو إحلافها ، أو الذهاب إلی الذین لا یمکن إحضارهم ، مثل : العلماء والأجلاء والفقهاء العظام ، أو کتابة الحکم ورَشْمه أی ختمه ، أو أخذ الاُجرة علی کاتبه وخدمه وعماله ومترجمه إذا احتاج

ص:167


1- (4) أشار إلی هذا البیان شیخنا الأستاذ _ مدظله _ فی دروسه من کتاب القضاء کما کتبته عنه ، وفی کتابه اُسس القضاء والشهادة / 42 .

إلیه ، أم لا یجوز أخذ الاُجرة علی شیءٍ من هذه أو فیها التفصیل ؟

قال الشیخ جعفر کاشف الغطاء : « والأخذ علی مقدمات القضاء من سماع الشهادة أو التحلیف أو التزکیة والجرح ، أخذٌ علی القضاء . ولیس منه الأخذ علی الکتابة أو الرَّشْم أو الخروج من داره إلی محلّ آخر طلبه أحد الخصمین ونحو ذلک ، غیر أنّه لا یقع إلاّ من السفلة إلاّ مع إلجاء الضرورة ، وأمّا ثمن القرطاس وما یصرفه من المال فلا بأس بأخذه ... ولا بأس بأخذ الخدّام والعمال والمباشرین الاُجرة علی عملهم»(1) .

وقال تلمیذه السید العاملی : « ویلحق بالقضاء مقدماته کسماع الشهادة وأدائها والتحلیف والتزکیة والجرح ، ولا یلحق به علی الظاهر کتابة الحجّة وختمها بخاتم القاضی ، علی تأمّل فی هذین ، لأنّهما فی هذا الزمان قد صارا کأنّهما جزءً من القضاء ومن مقدماته ، إذ لا

ترفع الخصومة إلاّ بهما »(2) .

وقال تلمیذه الآخر فی الجواهر : « وعلی کلِّ حالٍ فمقدمات القضاء کسماع الشهادة والجرح والتعدیل ونحوهما فی تحریم العوض ، بل لا یبعد استفادة حرمة الاُجرة علیها من حرمتها علی القضاء . نعم : لا بأس بأخذ الاُجرة علی ما کان خارجاً عن القضاء ومقدماته کالکتابة والرسم(3) ونحوهما ، مع أنّه لا ینبغی استعماله من قوّام الشرع وحفظته ، ولا استعمال بعض الأرذال الذین یحتالون لأخذ الجُعل علی القضاء بذلک ، وبالتحاکم فی مکان مخصوص ونحوه من الاُمور الزائدة علی القضاء ، لما فیه من النفرة وجلب التهمة وعدم رغبة الناس فی الدین وأهله»(4) .

وقال تلمیذ صاحب الجواهر السید علی آل بحر العلوم : « ویلحق بالقضاء فی حکم الاُجرة مقدماته من سماع البیّنة والتحلیف ونحو ذلک ، بل منه ظاهر الاُجرة علی الذهاب إلی الإمرأة الغیر المبرزة لإحلافها أو سماع جوابها ، ولیس منه کتابة الحجة وختمها بخاتمه ، فله

ص:168


1- (1) شرح القواعد 1 / 291 .
2- (1) مفتاح الکرامة 12 / 328 .
3- (2) کذا فی المطبوعة ، والظاهر أنّ الصحیح الرَّشم بمعنی الختم .
4- (3) جواهر الکلام 22 / 123 .

أخذ الشیء علیهما ، وإن وجبت الإجابة إلی الحجة - کما فی بعض الصور کما تسمعه - فی القضاء لعدم فهم المجانیّة فیه لخروجه عن القضاء»(1) .

أقول : الظاهر إلحاق مقدمات القضاء به ، بل إلحاق مؤخراته به نحو الکتابة والختم ، لأنّهما صارا الیوم من أجزاء القضاء ، کما نبّه علیه السید العاملی(2) فیما ذکر من کلامه ، بل یمکن القول بعدم الجواز مطلقاً بالنسبة إلی مقدماته ولوازمه ومؤخراته ، حتّی بالنسبة إلی الخدّام والعمال ، لأنّها من مواضع التهمة التی اُمرنا بالإجتناب عنها وتوجب النفرة والفرار عن الدین وأهله ویفتح بها باب الرشوة بعناوین أخری ، والعلم عند اللّه تعالی .

ارتزاق القاضی من بیت المال

المشهور علی جواز ارتزاق القاضی من بیت المال مع الحاجة وعدم التعیین ، بل علیه الإجماع کما قال العلاّمة فی التحریر : « السادس : إذا ولّی من یتعیّن علیه القضاء ، فإن کان ذا

کفایة حرم علیه أخذ الرزق علی القضاء لأنّه یؤدی فرضاً و ... وإن لم یکن ذا کفایة جاز له أخذ الرزق علیه ، لأنّ بیت المال للمصالح وهذا أعظمها .

وإن لم یتعیّن علیه القضاء وکان ممّن یجوز له القضاء ، فإن کان ذا کفایة استحب له أخذ(3) الرزق وإن أخذ جاز ، وإنْ لم یکن ذا کفایة جاز له أخذ الرزق علیه إجماعاً .

وأمّا أخذ الاُجرة علیه ، فإنّه حرام بالإجماع ، سواء تعیّن علیه أو لم یتعیّن ، وسواء کان محتاجاً أولا»(4) .

ونقل السید جواد العاملی فی جواز الإرتزاق هذا القول عن العلامة وولده والشهید ،

ص:169


1- (4) برهان الفقه _ کتاب التجارة / 47 الطبع الحجری .
2- (5) مفتاح الکرامة 12 / 328 .
3- (1) کذا فی المطبوعة ، والظاهر أنه تصحیف « ترک» أو « أن لا یأخذ» ، والعبارة الصحیحة تکون هکذا : « فإن کان ذا کفایة استحب له ترک أو أن لا یأخذ الرزق وإن أخذ جاز» .
4- (2) تحریر الأحکام الشرعیة 5 / 115 و 114 .

حیث یقول : « علی ما إذا کان محتاجاً ... لکن فی الإرشاد(1) وشرحه لولده(2) وقضاء الدروس(3) زیادة عدم التعیین»(4) .

وقال السید علی آل بحر العلوم : « بلا خلاف أجده ظاهراً ، بل صرح بعد بالإجماع علیه غیر واحد ، للأصل ولأنّه لا یقتصر عن المحاویج ، بل هو اُولی لاشتغاله بأهم مصالح المسلمین ... »(5) .

بل المشهور علی جواز الإرتزاق مع التعیّن والحاجة کما مرّ عن قضاء الشرائع(6) والقواعد(7) والمعالم(8) واللمعة(9) وجامع المقاصد(10) والروضة(11) ومجمع الفائدة(12) .

بل یمکن انتساب جواز الإرتزاق مطلقاً - أی مع التعیّن وعدم الحاجة - إلی المشهور ،

کما قال جدنا الشیخ جعفر : « (ویجوز أخذ الرزق علیهما) من غیر قصد المعاوضة مع التعیین وعدمه ومع الحاجة وعدمها (من بیت المال) أو من الأوقاف أو من متبرّع وقبول الهدایا ، للأصل والإجماع المنقول . وقد یجب الأخذ فی القضاء مع إتحاده ، وعدم تمکّنه من القیام به من غیر اکتساب ، ومنافاة الاکتساب له»(13) .

ص:170


1- (3) إرشاد الأذهان 1 / 358 .
2- (4) شرح إرشاد الأذهان / مخطوط _ نقل عنه فی مفتاح الکرامة 12 / 326 .
3- (5) الدروس الشرعیة 2 / 69 .
4- (6) مفتاح الکرامة 12 / 326 .
5- (7) برهان الفقه . کتاب التجارة / 45 طبع الحجری .
6- (8) شرائع الاسلام 4 / 60 .
7- (9) قواعد الأحکام 3 / 422 .
8- (10) معالم الدین فی فقه آل یس 2 / 342 .
9- (11) اللمعة الدمشقیة / 94 .
10- (12) جامع المقاصد 4 / 37 .
11- (13) الروضة البهیة 3 / 71 .
12- (14) مجمع الفائدة 8 / 94 .
13- (1) شرح القواعد 1 / 290 .

وقال تلمیذه فی الجواهر : « قد صرّحوا برزقه منه مع کفایته وتعینه للقضاء»(1) .

وقال الفاضل النراقی : « یجوز له الإرتزاق من بیت المال ، ولو مع التعین وعدم الحاجة ، کما صرح بهما والدی فی معتمد الشیعة ، وادّعی بعضهم الإجماع علیه»(2) .

واسْتُدِلَ علی جواز الإرتزاق من بیت المال بمعتبرة عهد العلوی علیه السلام إلی مالک الأشتر النخعی ، کتب علیه السلام إلیه : « ثم اختر للحکم بین الناس أفضل رعیتک فی نفسک ممّن لا تَضِیقُ به الاُمور ... إلی أن یکتب : ثم أکثر تعاهد قضائه وافسح له فی البذل ما یزیل علّته وتَقِلُّ معه حاجته إلی الناس ، واعطه من المنزلة لدیک ما لا یطمع فیه غیره من خاصتک ، لیأمن بذلک اغتیال الرجال له عندک ... »(3) .

لهذا العهد سند معتبر فی ترجمة الأصْبَغ بن نُباتة الُمجاشِعِی کما فی رجال النجاشی(4) وفهرس الشیخ(5) . وفقرة « وافسح له فی البذل ما یزیل علته وتَقِلُّ معه حاجته إلی الناس » دالة علی جواز إرتزاقه من بیت المال مطلقاً ، سواء تعیّن علیه القضاء أم لا ، وسواء کان ذا کفایة أو لا .

وبمرسلة حماد الطویلة عن العبد الصالح علیه السلام قال : « ... فیکون بعد ذلک أرزاق أعوانه علی دین اللّه وفی مصلحة ما ینوبه من تقویة الإسلام وتقویة الدین فی وجوه الجهاد وغیر ذلک ممّا فیه مصلحة العامة ... »(6) .

والروایة وإن کان فی سندها إرسال ولکن الأصحاب نظروا إلیها بعین القبول . وفقرة

« وغیر ذلک ممّا فیه مصلحة العامة» تشمل القضاء ، بل القضاء من أهمّ مصادیق مصالح العامة

ص:171


1- (2) جواهر الکلام 22 / 132 .
2- (3) مستند الشیعة 17 / 68 .
3- (4) نهج البلاغة / الکتاب 53 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 27 / 223 ح 9 . الباب 8 من أبواب آداب القاضی .
4- (5) رجال النجاشی / 8 الرقم 5 .
5- (6) فهرست کتب الشیعة وأصولهم / 88 الرقم 119 .
6- (7) وسائل الشیعة 27 / 221 ح 2 .

کما لا یخفی . فتدلّ علی جواز إرتزاقه من بیت المال مطلقاً ، لأنّ من المصالح إعطاء القاضی مع تعیّن القضاء علیه ومع تمکنه .

وهاتان الروایتان تکفیان فی جواز إرتزاقه من بیت المال مطلقاً مع فتوی المشهور علی ذلک بل بعض الإجماعات المنقولة ، واللّه العالم .

ویؤیدها مرسلة القاضی نعمان المصری عن علی علیه السلام أنّه قال : « لابدّ من إمارة ورزق للأمیر ، ولابدّ من عریف ورزق للعریف ، ولابدّ من حاسب ورزق للحاسب ، ولابدّ من قاضٍ ورزق للقاضی ، وکره أن یکون رزق القاضی علی الناس الذین یقضی لهم ولکن من بیت المال»(1) .

وهنا أذکر لک کلام جدی الشیخ جعفر قدس سره وأختم البحث به ، قال بعد ما نقلت من کلامه آنفاً :

« وما فی کلام جماعة من أصحابنا من تحریم الإرتزاق یُراد به تحریم الاُجرة ، ویؤیّده أن فی بعض عباراتهم(2) تفسیر أحدهما بالآخر ، وکذا الأخبار(3) المانعة من الإرتزاق فی القضاء منزلّة علی ما ذکرناه ، ولیس بداخل تحت الرشا ، ولا الاُجرة والجعالة ولا غیرهما من الأعواض»(4) .

حکم الهدیة للقاضی

اشارة

قال الشیخ الطوسی : « فأما الهدیة فإن لم یکن بمهاداته عادة حرم علیه قبولها ، والعامل علی الصدقات کذلک ، لما روی عن النبی _ ثمّ ذکر ثلاث روایات یأتی ذکرها فیما بعد ، وقال : _ فإن قیل : ألیس قد قال النبی صلی الله علیه و آله وسلم : لو دعیت إلی ذراع لأجبتُ ، ولو اُهدی إلیَّ کراع لقبلتُ ؟ قلنا : الفصل بینه وبین اُمّته أنّه معصوم عن تغییر حکم بهدیّة وهذا معدوم فی غیره .

ص:172


1- (1) دعائم الاسلام 2 / 538 ح 1912 .
2- (2) کعبارة الشیخ الطوسی فی النهایة / 367 کما مرّت منّا .
3- (3) کصحیحة عبد اللّه بن سنان المرویة فی وسائل الشیعة 27 / 221 ح 1 کما مرّت منّا .
4- (4) شرح القواعد 1 / 291 .

هذا إذا اُهدی له من لم یجزء له بمهاداته عادة ، فأمّا إن کان ممّن جرت عادته بذلک کالقریب والصدیق الملاطف نظرت ، فإن کان فی حال حکومة بینه وبین غیره أو أحس بأنّه

یقدمها لحکومة بین یدیه حرم علیه الأخذ کالرشوة سواء ، وإن لم یکن هناک شیء من هذا فالمستحب أن یتنزَّه عنها .

هذا کلّه إذا کان الحاکم فی موضع ولایته ، وأمّا إن حصل فی غیر موضع ولایته فاُهدی له هدیة فالمستحب له أن لا یقبلها ، قال بعضهم یحرم علیه ، فکلّ موضع قلنا لا یحرم علیه قبولها فلا کلام ، وکلّ موضع قلنا یحرم علیه ، فإن خالف وقبل فما الذی یصنع ؟ فإن کان عامل الصدقات ، قال قوم : یجب علیه ردّها وقال آخرون : یجوز أن یتصدّق علیه بها ، والأوّل أحوط .

وأمّا هدیة القاضی قال قوم یضعها فی بیت المال لیصرف فی المصالح ، وقال آخرون یردّها علی أصحابها ، وهو الأحوط عندنا ... »(1) .

قال العلامة فی التحریر : « وأمّاالهدیة فإن کانت ممّن له عادة بقبول الهدیة منه فلا بأس ، إلاّ أن یفعل ذلک لأجل الحکم فتحرم ، وإن کانت ممّن لا عادة له بالإهداء ، فالوجه تحریمها لأنّه کالرشوة»(2) .

وقال المحقق الأردبیلی : « ثمّ الظاهر أنّه یجوز له قبول الهدیة ، فإنّه مستحب فی الأصل ، إلاّ أنّه یمکن أن یقال : صار حینئذ مکروهاً ، لاحتمال کونها رشوة . إلاّ أن یَعْلَمَ بالیقین أنّها لیست کذلک ، مثل أن کان بینه وبین المُهدِی صداقة قدیمة ، وعلم أن لیس له غرض من حکومته وخصومته بوجهٍ ، أو یکون غریباً لا یعلم ، أو جاء من السفر وکان عادته ذلک ، أو فعل ذلک بالنسبة إلیه وإلی غیره . ومع ذلک لا شک أنّ الأحوط هو الاجتناب فی وقت یمکن ویحتمل احتمالاً بعیداً لکونها رشوة»(3) .

الروایات الواردة فی حکم الهدیة

قد استدلوا علی حرمة الهدیة علی القاضی بعدّة من الروایات :

ص:173


1- (1) المبسوط 8 / 152 .
2- (2) تحریر الأحکام الشرعیة 5 / 116 .
3- (3) مجمع الفائدة والبرهان 12 / 51 .

منها : خبر الأصبغ عن أمیر المؤمنین علیه السلام قال : أیّما وال احتجب عن حوائج الناس احتجب اللّه عنه یوم القیامة وعن حوائجه ، وإن أخذ هدیة کان غلولاً ، وإن أخذ الرشوة فهو مشرک(1) .

بتقریب : أنّ القضاة من الولاة ویمکن أن یقال : أنّ القضاء من أهم الولایات فأخذ الهدیة لهم غلول ، والغلول فی معنی الخیانة والسرقة المحرَّمتان ، فأخذ الهدیة للقضاة حرام . ولکن فی سندها ضعف .

ومنها : خبر جابر عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : هدیة الاُمراء غلول(2) .

بعین التقریب الذی مرّ آنفاً ولکن فی سندها ضعف .

ومنها : مرسلة الشیخ الطوسی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : هدیة العمال غلولٌ(3) .

ومنها : مرسلة اُخری له عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : هدیة العمال سحت(4) .

ومنها : مرسلة ثالثة له قال : روی أبو حُمید الساعدی قال : استعمل النبی صلی الله علیه و آله وسلم رجلاً من الأسد یقال له : « أبو البنیة » وفی بعضها « أبو الأبنیة » علی الصدقة ، فلمّا قدّم قال : هذا لکم وهذا أهدی إلیَّ ، فقام النبی صلی الله علیه و آله وسلم علی المنبر فقال : ما بال العامل نبعثه علی أعمالنا یقول : هذا لکم وهذا أهدی إلیَّ ، فهلاّ جلس فی بیت أبیه أو فی بیت اُمّه ینظر یهدی له أم لا ؟ والذی نفسی بیده لا یأخذ أحد منها شیئاً إلاّ جاء یوم القیامة یحمله علی رقبته ، إن کان بعیراً له رُغاء أو بقرة لها خوار أو شاة لها تنعر . ثمّ رفع یده حتّی رأینا عفرة إبطیه ثمّ قال : اللهم هل بلغّت ؟ ، اللهم هل بلغّت ؟(5) .

الروایة عامیة ، رویت فی صحیح مسلم 3 / 1463 ، کتاب الإمارة ، باب تحریم هدایا العمال ح 26 . نعرت العنز تنعِر نَعاراً : أی صاحت . والنعیر : أی الصوت . عُفرة الأبط : بیاضه

ص:174


1- (4) وسائل الشیعة 17 / 94 ح 10 الباب 5 من أبواب ما یکتسب به .
2- (1) وسائل الشیعة 27 / 223 ح 6 الباب 8 من أبواب آداب القاضی .
3- (2) المبسوط 8 / 151 .
4- (3) المبسوط 8 / 151 .
5- (4) المبسوط 8 / 151 .

الرُغاء : صوت الإبل . الخوار : صوت البقر . وعبد اللّه ابن اللتبیّة مذکور فی اُسد الغابة 3 / 250 وابن اللتبیّة فیه 5 / 329 وکلاهما واحد .

وبالجملة ، الروایة مرسلة عامیة ووردت فی عمّال الصدقة ، فلا ترتبط بهدیة القضاة .

ومنها : مرسلة الرضی رفعه إلی أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال فی خطبته : وأعجب من ذلک طارقٌ طَرَقَنا بمَلْفُوفَةٍ فی وعائِها ومعجونةٍ شَنِئْتُها کَأَ نَّما عُجِنَتْ بریقِ حَیَّةٍ أو قَیْئِها ، فقلتُ : أصِلَةٌ أم زکاةٌ أم صدقةٌ ؟ فذلک محرَّمٌ علینا أهلَ البیت ! فقال : لا ذا ولا ذاک ولکنّها هدیّةٌ ، هَبِلَتْکَ الْهَبُولُ ! أعن دینِ اللّه ِ أتَیْتَنی لِتَخْدَعنی ؟ أمُخْتَبِطٌ أنتَ أم ذو جِنَّةٍ ؟ أم تَهْجُرُ ؟ واللّه

لو اُعطیتُ الأقالیمَ السبعةَ بما تحتَ أفلاکها علی أن أعْصِیَ اللّه فی نَمْلَةٍ أسْلُبُها جُلبَ شَعِیرَةٍ ما فَعَلْتُهُ ، وإنّ دنیاکم عندی لأَهونُ مِنْ وَرَقَةٍ فی فم جرادَةٍ تَقْضَمُها ، ما لعلیٍّ ولنعیمٍ یَفْنَی ولَذَّةٍ لا تَبْقَی ، نعوذُ باللّه ِ من سُبَاتِ العقلِ وقُبْحِ الزّلَلِ وبه نستعین(1) .

المُهدِی : هو الأشعث بن قیس ، والظاهر أنّه أراد بهدیّته هذه حکماً باطلاً بنفعه من أمیر المؤمنین علیه السلام ، وهیهات ما هکذا الظن به سلام اللّه علیه وعلی اُولاده .

الملفوفة : نوع من الحلواء . شنئتها : کرهتُها . الصلة : العطیة . هبلتک : ثکلتک ، الهَبُول : المرأة لا یعیش لهاولد . ذو جِنّة : مَن أصابه مسّ الشیطان . تهجر : تهذی بما لا معنی له فی المرض وغیره . جُلب الشعیرة : قشرتها . قَضُمتِ الدابةُ الشعیرَ : کسرته بأطراف أسنانها . سبات العقل : نومه . الزلل : السقوط فی الخطأ .

ومنها : مرسلة القاضی نعمان المصری رفعه عن علی علیه السلام فیما کتبه إلی رفاعة لمّا استقضاه علی الأهواز : ذر المطامع وخالف الهوی _ إلی أن کتب علیه السلام _ إیّاک وقبول التحف من الخصوم ، وحاذر الدُّخلة ، الکتاب(2) .

ومنها : خبر أحمد بن عبد اللّه الهروی الشیبانی وداود بن سلیمان الفراء عن علی بن

ص:175


1- (1) نهج البلاغة . الخطبة 224 .
2- (2) دعائم الإسلام 2 / 534 خ 1899 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 17 / 347 ح 1 . الباب 1 من أبواب آداب القاضی .

موسی الرضا علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن علی علیه السلام فی قول اللّه عزّ وجل «أَکَّالُونَ لِلسُّحْتِ»(1) قال : هو الرجل یقضی لأخیه الحاجة ثمّ یقبل هدیته(2) .

ومنها : مرسلة اُخری للرضی رفعه إلی أمیر المؤمنین أنّه قال فی خطبته : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : یا علی إنّ القوم سیفتنون بأموالهم ویمنّون بدینهم علی ربّهم ویتمنَّون رحمته ویأمنون سطوته ویستحلّون حرامه بالشبهات الکاذبة والأهواء الساهیة ، فیستحلّون الخمر بالنبیذ والسحت بالهدیة والربا بالبیع(3) .

هذه الروایات الواردة فی حکم الهدیة للقاضی ، وأنت تری ضعف أسنادها ، وعدم تمامیة دلالة جُلِّها لو لا کُلِّها ، فلا یمکن تخصیص العمومات الواردة فی استحباب الهدیة وقبولها بها . نعم یمکن حملها علی ما إذا أراد المُهدی الرشا المحرّم باسم الهدیة ، أو أراد من الوالی تضییع

حقٍّ أو تمشیة باطلٍ ونحوها ، ومن الواضح أن الصورة الأخیرة لا یخفی علیهما ، وحینئذ الهدیة فقط اسم لواقع آخر محرّم ، فیمکن القول بحرمتها .

وفی الفرض الشک فی دخولها تحت الصورة الأخیرة ، وإن کانت العمومات والأصل تقتضی الجواز ، ولکن الإحتیاط الذی هو سبیل النجاة یقتضی ترکه .

وبما ذکرنا یمکن الجمع بین أقوال الأصحاب قدس سرهم فی المقام ، واللّه هو العالم بالأحکام .

حکم الرشوة فی غیر الأحکام

الرشوة فی غیر الأحکام یُتصور علی ثلاثة وجوه :

الأوّل : قد تکون لإصلاح أمر حلال أو مباح ، فلا بأس فی جوازها إعطاءً وأخذاً ، لأنّ المعطی أعطاها لإصلاح أمرٍ حلالٍ أو مباحٍ والآخذ یعمل شیئاً فیأخذها فی قبال عمله المحترم . والشاهد علی ذلک صحیحة محمد بن مسلم قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل

ص:176


1- (3) سورة المائدة / 42 .
2- (4) وسائل الشیعة 17 / 95 ح 11 .
3- (5) نهج البلاغة . الخطبة 156 .

یرشو الرجل الرشوة علی أن یتحوّل من منزله فیسکنه ؟ قال : لا بأس به(1) .

هذا بناءً علی أنّ المراد المنزل المشترک کالأوقاف العامة أو الموقوفة علی قبیل وهما منه أو المدارس وحجراتها أو المشاهد أو نحوها .

ویؤیدها معتبرة أو موثقة حکم بن حکیم الصیرفی قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام وسأله حفص الأعور فقال : إنّ السلطان یشترون منّا القُرب والإدواة فیوکلون الوکیل حتی یستوفیه منّا فنرشوه حتّی لا یظلمنا ، فقال : لا بأس ما تصلح به مالک . ثمّ سکت ساعة ثمّ قال : أرأیت إذا أنت رشوته یأخذ أقل من الشرط ؟ قال : نعم ، قال : فسدت رشوتک(2) .

إسماعیل ومحمد وحکم ثقات إلاّ أنّ أولهم واقفیٌّ . فالسند معتبر بل موثق .

والقُرَب جمع قربة : سقاء یجعل فیه الماء أو اللبن . الإداوة : إناء صغیر من جلد یجعل فیه الماء وجمعها : الأداوی .

فصدر الموثقة تدلّ علی جواز ما ذکرنا ، کما تدلّ علی جواز إعطاء الرشوة لدفع الظلم و إن حرم أخذها حینئذٍ علی المرتشی .

الثانی : قد تکون الرشوة لبلوغ أمر محرّم أو إتمامه ، فلا شبهة فی حرمتها علی المعطی

والآخذ کلیهما لما مرّ من حرمة أخذ المال علی عمل محرّم ، وتؤیدها بل یدلّ علیه ذیل الموثقة الماضیة آنفاً حیث سأل الإمام علیه السلام : أرأیت إذا أنت رشوته یأخذ أقل من الشرط ؟ قال : نعم ، قال : فسدت رشوتک .

الثالث : قد تکون الرشوة لأمر مشترک بین جهتی الحلال والحرام ، فإن قصد الراشی الحرام ووقع فصارت حراماً وإن قصد الحلال ووقع فصارت حلالاً . لأنّه بالقصد ووقوع الحلال یدخل فی القسم الأوّل وبالقصد ووقوع الحرام یدخل فی القسم الثانی .

وأمّا إذا قصد المشترک بینهما فهل هی حلال أم حرامٌ ؟ قد یقال : بحرمتها حینئذٍ ، لأنّه أکل للمال بالباطل ، وإطلاق الروایات الواردة فی هدیة الولاة والعمال .

ص:177


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 287 ح 2 . الباب 85 من أبواب ما یکتسب به .
2- (2) التهذیب 7 / 235 ح 45 ونقل عنه مع اختلاف فی السند فی وسائل الشیعة 18 / 96 ح 1 . الباب 37 من أبواب أحکام العقود .

ولکن یمکن المناقشة فیهما : بأنّ الأخذ علی الجهة المشترکة لیس أخذاً بالباطل ، والروایات کلّها ضعیفة السند کما مرّت ، ویمکن حملها(1) علی الرشوة المصطلحة أعنی فی الحکم والقضاء . فالعمومات والأصل یقتضی الجواز ، واللّه العالم .

حکم المعاملة المحاباتیة مع القاضی

قسّم الشیخ الأعظم(2) قدس سره المعاملة المشتملة علی المحاباة مع القاضی إلی ثلاثة أقسام ، وإنّا نتبع أثره :

الأوّل : الغرض الأصلی للبائع هو حکم القاضی له ولم یتعلق غرضه بأصل البیع ، فالبیع اسم فقط لانتقال المال إلی القاضی لیحکم له ، بحیث لو لا المرافعة والحکم لم یبع ماله أصلاً مطلقاً ، أی بلا تقلیل الثمن وعدمه .

ففی هذا القسم لم یقصد البائع المعاملة المحاباتیة ، بل قصد الرشوة بإزاء الحکم له ، فالمعاملة صوریّة محضة فتدخل فی عنوان الرشاء ، فتحرم تکلیفاً وتبطل وضعاً .

الثانی : البائع یقصد أصل البیع ولکن غرضه من تقلیل الثمن إعطاء القاضی شیئاً لیحکم له ، بحیث لو لا المرافعة والحکم یبیع ماله ولکن بالثمن لا بتقلیله .

قد یقال : إنّ المحاباة وتقلیل الثمن فی قبال الحکم للبائع تکون کالشرط لهذه المعاملة ، والشرط حرام وفاسد . فإن قلنا بکون الشرط الفاسد مفسد للمعاملة فسدت المعاملة حینئذٍ ، وإن قلنا بعدم الإفساد وبتقسیط المبیع بالنسبة إلی الشرط والثمن صار حکمها حکم

بیع ما لا یملک بانضمام ما یملک ، نظیر بیع الخمر والخلِّ معاً أو الخنزیر والشاة معاً ، فحینئذٍ صحت المعاملة ولکن للمشتری خیار تبعّض الصفقة أو الرجوع إلی البائع فیما زاد من ثمن ما یملک .

وفی المقام حیث أنّ المشتری هو القاضی لم یقدم علی شیءٍ منهما یحکم بصحة المعاملة .

وإن قلنا بعدم إفساد الشرط الفاسد وذهبنا إلی عدم تقسیط الثمن بالنسبة إلی الشرط

ص:178


1- (1) أی حمل الروایات .
2- (2) المکاسب 1 / 248 .

- کما هو الصحیح المختار - فالمعاملة صارت صحیحة .

ذهب إلی صحة ا لمعاملة فی هذا القسم جماعة من الأصحاب ، منهم : الفقیه الیزدی(1) والمیرزا الشیرازی الثانی(2) والمحقق الإیروانی(3) والفقیه السبزواری(4) والمحقق الخوئی(5) وتبعه تلمیذه فی عمدة المطالب(6) .

والظاهر أنّ متابعة الأعلام الأفذاذ تامة ، لأنّ حرمة الرشوة تکلیفاً لم یسر إلی المعاملة ، فلا تبطلها وضعاً إلاّ علی القول بأنّ الشرط المفسد فاسدٌ .

الثالث : قصد البائع أصل البیع ولکن الداعی له من تقلیل الثمن والمحاباة جلب محبة القاضی ومیله وحبّه إلیه حتّی ینجر إلی الحکم له ، وفی هذا القسم أشبه شیءٍ بالهدیة للقاضی .

وحیث ذهبنا إلی جواز الإهداء للقاضی کما مرّ ، لا وجه لبطلان المعاملة فی هذا القسم . ووافقنا علی ذلک الأعلام الذین مرّت الإشارة إلیهم فی القسم الثانی آنفاً .

تنبیه : فی حکم المعاملة المحاباتیة ، المعاملة أو البیع بثمن المثل مع فرض قلّة المتاع وعزّته ، بحیث لو لا حکمه له أمسک علی متاعه ولم یقدم علی البیع لا من القاضی ولا من غیره ، ولکن باعه له بشرط حکمه للبائع أو بهذا الداعی ، فیجری فیها ما ذکرنا فی المعاملة المحاباتیة .

وفی حکمها ، بذل المنافع مجاناً أو بثمن أقل ، کسکنی الدار أو إجارة السیارة ونحوها لذلک ، واللّه سبحانه هو العالم .

حکم الرشوة وضعاً ووظیفة مَنْ أخذها

هل وجب علی الآخذ ردّها ؟ ولو تلفت فی یده کان ضامناً ببدلها من المثل أو القیمة أم لا ؟

ص:179


1- (1) العروة الوثقی 6 / 445 .
2- (2) حاشیة علی المکاسب 1 / 75 .
3- (3) حاشیة علی المکاسب 1 / 162 .
4- (4) مهذب الأحکام 16 / 95 .
5- (5) مصباح الفقاهة 1 / 274 .
6- (6) عمدة المطالب فی التعلیق علی المکاسب 1 / 210 للفقیه الحاج آقا تقی الطباطبائی القمی مدظله .

الظاهر أن هاهنا صوراً ثلاثة :

الأولی : قد یعطی الراشی لیحکم له القاضی علی خصمه ، بحیث یصیر مصداقاً للرشوة ، فحینئذ حیث یحکم بالحرمة تکلیفاً یحکم بالبطلان وضعاً ، فالمال لم ینتقل إلی المرتشی ویبقی فی ملک مالکه الراشی ، فلذا علی المرتشی ردّها إن کان عینه موجوداً أو ردّ بدله إن کان تالفاً .

والدلیل علی ذلک : بعد ادعاء نفی الخلاف فیه کما عن الغنائم(1) والمستند(2) بل ادعاء الإجماع علیه کما عن المسالک(3) وادعاء لا خلاف ولا أشکال کما فی الجواهر(4) ، لأنّ الرشوة حینئذٍ وقعت فی مقابل الحکم للراشی ، فتکون معاملة باطلة وصارت من صغریات « کلّ عقد یضمن بصحیحه یضمن بفاسده » . وتدلّ علیه أیضاً عموم قواعد الضمان و« علی الید ما أخذت حتّی تؤدی » ، والإقدام حیث أنّ الآخذ أقدم علی ضمان ما أخذ والإتلاف فی فرض التلف .

إن قلت : الراشی راضٍ بتصرف المرتشی فی الرشوة ، وهذه الرضایة ترتفع الضمان .

قلت : الراشی راضٍ بعنوان الرشوة لا بعنوانٍ آخرٍ ، وحیث أنّ الشارع ألغی الرشوة عن المالیة وأخذ الوجه فی قبالها ، فلا توجب جواز أکل المال والتصرف فیه ، فالمرتشی یصیر ضامناً .

الثانیة : إذا أعطاه للقاضی علی سبیل الهدیّة وذهبنا إلی جوازها کما هو المختار فلا ضمان علیه ، لأنّه أخذها مشروعاً وحلالاً فیملکه ، فلا یجب علیه ردّه ولا ضمان علیه . وإن ذهبنا إلی حرمتها وأنّ إعطاءها علی المُهدی یکون حراماً ، وکذا علی آخذها ، ولکن حیث أنّ الدافع لم یقصد المقابلة بین الحکم والهدیة وإنّما أعطاه مجاناً لیحکم له فیکون هبة مجانیة فاسدة ، ولأنّ الداعی لیس قابلاً للعوضیة ولا مؤثراً فی الحکم الشرعی وضعاً ولا تکلیفاً فحینئذ یکون من

ص:180


1- (1) غنائم الأیام / 675 من الطبع الحجری .
2- (2) مستند الشیعة 17 / 74 .
3- (3) مسالک الأفهام 13 / 422 .
4- (4) جواهر الکلام 22 / 149 .

مصادیق قاعدة « ما لا یضمن بصحیحه لا یضمن بفاسده » .

الثالثة : وأمّا إذا أعطاه فی المعاملة المحاباتیة فلها أقسام ثلاثة کما مرّ منّا :

القسم الأوّل : إذا لم یقصد البیع بل غرضه الأصلی هو إعطاء الرشوة ، فحینئذ حکمه حکم الصورة الاُولی ، لأنّه فی الحقیقة رشوة ، فالآخذ ضامن .

وأمّا القسم الثانی : إذا تعلق غرضه بالبیع وتقلیل الثمن لأجل الحکم له فیکون کالشرط للمعاملة ، وذهبنا إلی صحة المعاملة کما هو المختار ، فلا ضمان علی المشتری وإن قلنا بفساد المعاملة حینئذٍ ، فعلی المشتری الضمان بالنسبة إلی ما یقلّل له .

وأمّا القسم الثالث : حیث قصد البیع وتقلیل الثمن کالداعی له لجلب محبّة القاضی فیصیر أشبه شیءٍ بالهدیة ، فیجری فیه حکم الصورة الثانیة یعنی الهدیة ، فلا ضمان علی المشتری لعین ما ذکرناه هناک .

هذا کلّه بالنسبة إلی مقدار النقص فی المعاملة المحاباتیة ، وبه تمّ الکلام فی حکم الرشوة وضعاً ، واللّه العالم بالأحکام .

فروع اختلاف الدافع والقابض

تعرّض الشیخ الأعظم(1) قدس سره لصور ثلاث فی المقام :

الصورة الأولی : أن یتوافق المترافعان علی عنوان واحد کالهبة ولکن الدافع یدعی أنّها ملحقة بالرشوة فی الفساد والحرمة ، والقابض یدعی أنّها هبة صحیحة لازمة بداعی القربة أو الرحمیة . وتظهر الثمرة فی جواز استرجاع العین علی الأوّل وعدمه علی الثانی إن کانت العین موجودة ، وأمّا مع التلف لاتظهر الثمرة ، لما مرّ أنّ ما لا یضمن بصحیحه لا یضمن بفاسده .

قد یقال : بتقدیم قول الدافع ، لأنّ القابض وضع یده علی مال الدافع ، وهذا محرز بالوجدان وعدم کونه بالهبة الصحیحة محرز بالأصل ، فیتم منهما موضوع الحکم بجواز

ص:181


1- (1) المکاسب 1 / 251 .

الاسترجاع ، ولا یعارض الأصل بأصالة الهبة الفاسدة لأنّها لا أثر لها .

ولکن یمکن أن یقال : بتقدیم قول القابض ، لأنّ أصالة الصحة فی العقود تتقدم علی جمیع الاُصول الموضوعیة ، وعلیه إتفاق کافة العلماء وبناء العقلاء ، کما فی مصباح الفقاهة(1) .

إن قلت : الدافع إنّما یدعی ما لا یُعلم إلاّ من قبله فیقدم قوله فی دعواه ، لأنّه أعرف

بضمیره .

قلت : الدلیل فی ثبوت هذه القاعدة - أی اعتبار القول ممّا لا یُعرف إلاّ من قبله - منحصر بموارد خاصة ، نحو : إخبار المرأة عن الحمل والحیض والطهر وأنّها ذات بعل أو غیر مزوّجة إذا لم تکن متهمة أو أنّها فی العدّة أو خرجت منها . ولا دلیل علی ثبوت هذه القاعدة فی جمیع الموارد . وإلاّ یجب قبول قول مدعی العدالة أو الإجتهاد أو الأعلمیة . اللهم إلاّ أن یمنع کون هذه الموارد الأخیرة لا تُعرف إلاّ من قبله ، فإنّ کلّها تعرف بآثارها أو عند أهلها ، کما نبّه علیه المحقق الإیروانی(2) .

ولکن بنظری القاصر : فی هذه الصورة والمثال حیث تکون العین باقیة والقابض اعترف بأنّ المال انتقل إلیه من الدافع و الدافع یقول ببطلان الانتقال والقابض یدعی صحة الانتقال إلیه ، فیصیر القابض مدعیّاً والدافع منکراً ، فلابدّ للقابض من إقامة البیّنة علی صحة الانتقال ، ولو لم یقمها یحلف الدافع ببطلان الانتقال ویأخذ عین ماله . یعنی الأصل مع الدافع حینئذ .

ولکن إذا کانت العین تالفة صار الأمر علی عکس ما ذکرنا ، أعنی أنه صار الدافع مدعیّاً لأنّه إدعی الضمان والقابض منکراً ، فعلی الدافع إقامة البیّنة ولو لم یقمها یحلف القابض ویحکم ببراءة ذمّته من الضمان .

الصورة الثانیة : أن یکون کلّ منهما یدعی أمراً غیر ما یدعیه الآخر ، مثلاً لو ادعی الدافع أنّها رشوة أو اُجرة علی المحرّم وادعی القابض کونها هبة صحیحة .

ص:182


1- (2) مصباح الفقاهة 1 / 276 .
2- (1) الحاشیة علی المکاسب 1 / 163 .

فی هذه الصورة یقدَّم قول الدافع ، لأصالة عدم تحقق الهبة الصحیحة الناقلة ، فإنّها أمر وجودی وموضوع للأثر ، فالأصل عدمها . ولا تعارضها أصالة عدم تحقق الرشوة المحرَّمة أو الإجارة الفاسدة ، لأنّهما لا أثر لهما ، وإنّما الأثر مترتب علی عدم تحقق السبب الناقل ، سواء معه تحقق شیٌ من الأسباب الفاسدة أم لم یتحقق ، کما ذکره المحقق الخوئی قدس سره (1) .

الصورة الثالثة : أن یتوافق المترافعان علی فساد الأخذ والإعطاء ولکن الدافع یدعی أنّها رشوة والقابض یدعی أنّها هدیة فاسدة . علی ثبوت قول الدافع یتبع الضمان علی القابض ، لأنّه أخذها علی سبیل الإجارة والجُعالة الفاسدتین ، وعلی ثبوت قول القابض لا یتبع الضمان ، لأنّه أخذها علی سبیل الهدیّة الفاسدة ، لأنّ الهبة الصحیحة لا ضمان فیها فکذا

الهبة الفاسدة .

نعم ، ثمرة هذه الدعوی تظهر بعد تلف المال ، إذ قبله یجوز للدافع استرجاع العین کما یجب علی الآخذ ردّها لا تفاقهما علی فساد المعاملة .

والتحقیق أن یقال فی هذه الصورة : لا یجوز لأحدٍ التصرف فی مال امری ء مسلم إلاّ بطیبة نفسه ، ومن المعلوم أنّ وضع الید علی مال الغیر بدون رضی مالکه یوجب الضمان للسیرة القطعیة ، فعلیه وضع الید فی المقام علی مال الغیر محرز بالوجدان ، وإذا ضممنا إلیه أصالة عدم رضی المالک بالتصرف المجانی ، یتشکّل الموضوع من ضم الوجدان إلی الأصل ویحکم بالضمان علی القابض ، کما علیه المحقق الخوئی(2) .

ذکر المحقق الخوئی قدس سره فی مقام الترافع صورةً رابعةً لا ترتبط بمسألة الرشوة وقال :

« الصورة الرابعة : أن یدعی کلٌّ منهما عنواناً صحیحاً غیر ما یدعیه الآخر ، کأن یدعی الباذل کونه بیعاً لیتحقق فیه الضمان ، ویدعی القابض کونه هبة مجانیّة لکی لا یتحقق فیه الضمان ، فإن أقام أحدهما بیّنهً أو حلف مع نکول الآخر حکم له ، وإلاّ وجب التحالف وینفسخ العقد ، وعلیه فیجب علی القابض ردّ العین مع البقاء أو بدلها مع التلف ، وهذه الصورة

ص:183


1- (2) مصباح الفقاهة 1 / 277 .
2- (1) مصباح الفقاهة 1 / 276 .

لا تنطبق علی ما نحن فیه»(1) .

أقول : حیث أن القابض اعترف بانتقال

المال إلیه من الدافع فی الفرض والأصل فی الانتقالات عدم کونها مجانیّة ، فعلی القابض أن یثبت صحة الانتقال وعدم المجانیّة ، فهو المدعی والدافع صار منکراً ، والبیّنة علی المدعی والیمین علی من أنکر ، ولم یدخل الفرض فی صورة التداعی خلافاً لهذا المحقق الجلیل قدس سره .

إلی هنا تمت مباحث الرشوة بطولها ، والحمد للّه أوّلاً وآخراً وظاهراً وباطناً ، واللّه سبحانه هو العالم بأحکامه .

ص: 184


1- (2) مصباح الفقاهة 1 / 277 .

السبّ

اشارة

والکلام فیه یقع ضمن مقامات :

المقام الأوّل : ما معنی السبّ ؟

لم یرد فی الروایات تحدید معناه ، فلذا لابدّ فیه من الرجوع إلی اللغة والعرف ، فأذکر لک بعض کلمات اللغویین ثمّ الفقهاء :

1 _ قال أحمد بن فارس المتوفی عام 395 : « سبّ السین والباء حَدّهُ بعضُ أهل اللغة _ وأظنُّه ابن درید _ أنّ أصل هذا الباب القطع ، ثم اشتقّ منه الشَّتم . وهذا الذی قاله صحیح . وأکثر الباب موضوع علیه . من ذلک السِّبّ : الخِمار ، لأنّه مقطوع من مِنْسَجه ... .

والسَّب : الشتم ، ولا قطیعة أقطع من الشتم ... ویقال : رجل سُبَبَة ، إذا کان یَسُبُّ الناسَ کثیراً . ورجل سُبَّة ، إذا کان یُسَبُّ کثیراً ... »(1) .

2 _ وقال الزمخشری المتوفی عام 538 : « س ب ب _ بینهما سباب ، والمزاح سباب النوکی ، وقد سابّه وتسابُّوا واستبُّوا . وفی الحدیث : المسْتبّان شیطانان ، وهو سُبَّة ، وهذه سُبّة علیک وعلی عقبک ، وأنت سُبّةٌ علی قومک ، وإیّاک والمَسبّة والمَسابّ ... »(2) .

3 _ وقال ابن منظور المتوفی عام 711 : « سبب : السَّبُّ : القطع . سَبَّه سَبّاً : قطعه ... . السَّبُّ : الشتم ، وهو مصدر سَبَّه یَسُبُّه سَبّاً : شَتَمه ، وأصله من ذلک .

وسَبَّبه : أکثر سَبَّه ... وفی الحدیث : سِبابُ المسلم فُسوقٌ وقتاله کُفرٌ .

السَّبُّ : الشتم . قیل : هذا محمول علی من سَبَّ أو قاتَلَ مسلماً من غیر تأویل ، وقیل :

ص:185


1- (1) معجم مقاییس اللغة 3 / 63 .
2- (2) أساس البلاغة / 200 .

إنّما قال ذلک علی جهة التغلیظ ، لا أنّه یخرجه إلی الفسق والکفر .

وفی حدیث أبی هریرة : لا تَمْشِیَنَّ أمام أبیک ولا تجلس قَبْله ولا تدعه باسمه ولا تَسْتَسِبَّ له ، أی لا تُعَرِّضْه للسَّبِّ وتَجُرَّه إلیه ، بأن تَسُبَّ أبا غیرک فَیَسُبَّ أباک مجازاةً لک .

وقد جاء مفسراً فی الحدیث الآخر : إنّ من أکبر الکبائر أن یُسَبَّ الرجل والدیه ، قیل : وکیف یَسُبُّ والدیه ؟ قال : یَسُبُّ أبا الرجل ، فَیُسَبُّ أباه ویَسُبُّ اُمَّه فَیُسَبُّ اُمُّه .

والسُّبَّة : العار ، ویقال : صار هذا الأمر سُبَّةً علیهم ، بالضم ، أی عاراً یُسَبُّ به .

ویقال : بینهم اُسْبوبة یَتَسابُّونَ بها ، أی شیءٌ یَتشاتمونَ به .

السَبابُّ : التَّشاتُم ، وتسابُّوا : تشاتَمُوا .

وسابَّه مُسابَّة وسِباباً : شاتمه .

والسَّبِیبُ والسِّبُّ : الذی یُسابُّکَ . وفی الصحاح : سِبُّک الذی یُسابُّکَ ... .

ورجل سِبٌّ : کثیر السِّبابِ . ورجل مِسَبٌّ : بکسر المیم ، کثیرُ السِّبابِ .

ورجل سِبَّة أی یَسُبُّه الناسُ ، وسُبَبَة أی یَسُبُّ الناسَ ... »(1) .

4 _ وقال الفیومی المتوفی عام 770 : « سَبَّهُ : سَبّاً فهو سَبَّابٌ ، ومنه قیل : للإصبَعَ التی تلی الإبهامَ سَبَّابَةٌ لأنّه یُشارُ بها عند السَّبِّ ، والسُّبَّة : العار ، وسابَّه مُسَابَّةً وسِبَاباً واسمُ الفاعِلِ منه سِبُّ بالکسر ، والسِبُّ أیضاً الخِمارُ والعِمامَةُ »(2) .

5 _ وقال المحقق الثانی : « وذلک بإسناد ما یقتضی نقصه ، مثل الوضیع والناقص ونحو ذلک ، إلاّ لِمَنْ یستحق الإهانة کما سیجیء فی باب القذف»(3) .

6 _ وقال جدنا الشیخ جعفر : « وسبّ المؤمنین وشتمهم بمعنی واحد یعمّ اللعن والطعن والقذف والفحش والتصغیر والتحقیر ونحوها ، مع قصد الإنشاء ، فیخالف الغیبة ، أو یعمّ الخبر وتعمّ الإنشاء ، ویختلفان فی بعض التعبیرات فیعمّ کلّ منهما الآخر من وجه»(4) .

ص:186


1- (1) لسان العرب 6 / 137 .
2- (2) المصباح المنیر / 262 .
3- (3) جامع المقاصد 4 / 27 .
4- (4) شرح القواعد 1 / 235 .

7 _ وقال تلمیذه السید جواد العاملی : « وأمّا السبّ فهو الشتم ، ومثله السباب بالکسر وخفة الموحدة ، وفی الحدیث : سباب المؤمن فسوق وقتاله کفر .

والشتم السبّ ، بأن تصف الشیء بما هو إزراء ونقص ، فیدخل فی السبّ کلّ ما یوجب الأذی کالقذف والحقیر والوضیع والکلب والکافر والمرتد ، والتعییر بشیءٍ من بلاء اللّه کالأجذم والأبرص ، ولو کان مستحقّاً للإستخفاف فلا حرمة إلاّ فیما لا یسوغ لقاؤه به .

وقد یُراد به فی المقام خصوص مثل الوضیع والحقیر والناقص ، وإن ثبت بها التعزیر لتبادره عرفاً . وقد یُراد خصوص ما ثبت به التعزیر دون الحدّ کالقذف ، لأنّه من الکبائر فلا یناسب وضعه من الکذب علی المؤمنین ، فتأمل .

والسبّ مع قصد الإنشاء یخالف الغیبة أو یعمّ الخبر وتعمّ الإنشاء ، ویختلفان فی بعض التعبیرات فیعمّ کلّ منهما الآخر من وجه ، وسبّ غیر أهل الإیمان من شرائط الإیمان»(1) .

8 _ وقال الشیخ الأعظم : « إنّ المرجع فی السبّ إلی العرف»(2) ، ثمّ ذکر بیان المحقق الثانی ومقالة الشیخ جعفر والسید العاملی الماضیة من دون النسبة إلی الإخیرین ، ثمّ قال : « ثمّ الظاهر أنّه لا یُعتبر فی صدق السبّ مواجهة المسبوب ، نعم یُعتبر فیه قصد الإهانة والنقص ، فالنسبة بینه وبین الغیبة عموم من وجه . والظاهر تعدد العقاب فی مادة الإجتماع ، لأنّ مجرد ذکر الشخص بما یکرهه لو سمعه ولو لا قصد الإهانة غیبة محرّمة والإهانة محرّم آخر »(3) .

9 _ وقال المحقق الخوئی : « الظاهر من العرف واللغة اعتبار الإهانة والتعییر فی مفهوم السبّ وکونه تنقیصاً وإزرءاً علی المسبوب وأنّه متحد مع الشتم ، وعلی هذا فیدخل فیه کلّما یوجب إهانة المسبوب وهتکه ، کالقذف والتوصیف بالوضیع واللاشی ء والحمار والکلب والخنزیر والکافر والمرتد والأبرص والأجذم والأعور وغیر ذلک من الألفاظ الموجبة للنقص والإهانة ، وعلیه فلا یتحقق مفهومه إلاّ بقصد الهتک ، وأمّا مواجهة المسبوب فلا

ص:187


1- (1) مفتاح الکرامة 12 / 222 .
2- (2) المکاسب 1 / 254 .
3- (3) المکاسب 1 / 255 .

تعتبر فیه»(1) .

10 _ أقول : ظهر لک ممّا ذکرنا من کلمات اللغویین والفقهاء أنّ المراد بالسبّ هو الشتم ، بلا فرق بین أن یکون خبراً أو إنشاءً ، وبین أن یکون المسبوب حاضراً أو غائباً ، و بین أن یکون السابّ قاصداً الإهانة والتنقیص والتحقیر أو لم یقصد . فعلی هذا النسبة بین السب والغیبة وقصد الإهانة والإستخفاف عموم من وجه ، فما ذکره المحقق الإیروانی قدس سره (2) - ولعلّه ارتضاه صاحب الغنیة(3) لأنّه ذکره ولم یرد علیه - من أنّ النسبة بینه وبین الغیبة تباین ، غیر تام .

وهکذا لا یتم ما ذکره المحقق الخوئی تبعاً للشیخ الأعظم من عدم تحقق السبّ إلاّ بقصد الهتک والإهانة کما سبق ، لما عرفت من عدم مدخلیة القصد فی السبّ ، وحیث أنّ المرجع فیه هو العرف لا محالة یختلف السبّ باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمکنة ، فربّما یکون لفظ

سبّاً عند قومٍ ولا یکون سبّاً عند آخرین ، فیلحق کلاً من المصادیق حکمه کما ذکره الفقیه السبزواری قدس سره (4) .

هذا کلّه فی معنی السب والمقام الأوّل من المقامات .

المقام الثانی : أدلة حرمة سبّ المؤمن

اشارة

تدلّ علیه الأدلة الأربعة :

الأوّل : الإجماع

قال العلامة فی التذکرة : « ویحرم سبّ المؤمنین والکذب علیهم والنمیمة ومدح مَنْ یستحق الذم وبالعکس والتشبیب بالمرأة المعروفة المؤمنة ، بلا خلاف فی ذلک کلّه»(5) .

ص:189


1- (4) مصباح الفقاهة 1 / 280 .
2- (5) حاشیة علی المکاسب 1 / 167 .
3- (6) غنیة الطالب 1 / 133 للمحقق الشیخ مرتضی الأردکانی قدس سره .
4- (1) مهذب الأحکام 16 / 97 .
5- (2) تذکرة الفقهاء 12 / 144 ذیل المسألة 649 .

وقد تعرض الغزالی من العامة لهذا الإجماع فی کتابه إحیاء العلوم(1) .

فحرمة سبّ المؤمن من إجماعیات المسلمین کما قال المحقق الخوئی قدس سره : « وعلی ذلک إجماع المسلمین من غیر نکیر»(2) .

ولکن یمکن أن یناقش فی هذا الإجماع بوجهین :

أوّلاً : عدم ثبوت الإجماع عندنا من کلام الغزالی ، والمذکور فی کلام العلامة هو « لا خلاف» ، والفرق بینهما واضح .

وثانیاً : علی فرض ثبوت الإجماع لم یفد فی المقام شیئاً ، لاّنّه من الإجماع المدرکی ، فلابدّ من ملاحظة غیره من الأدلة والمدارک .

الثانی : حکم العقل والعقلاء

العقل مستقل بحرمة سبّ المؤمن فی الجملة ، لأنّه ظلم وإیذاء وعدوان ، والعقلاء أیضاً یحکمون بقبحه فی الأعصار والأمصار وبلا اختصاص بملّة دون اُخری .

الثالث : کتاب اللّه تعالی

1 _ قال عزّ وجل : «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ»(3) .

بتقریب : أن الزور ظاهر فی الباطل ، والسبّ باطل عند العرف فیحرم . ومن المعلوم

أنّ الباطل لا ینحصر إنطباقه علی الکذب وما هو متضمن له ، بحیث یشمل الأخبار الکاذبة فقط ، ولا تشمل الإنشاءات ومنها بعض السباب(4) ، بل الظاهر من الزور هو الباطل الذی یشمل الإخبار والإنشاء ، ومن الأخیر بعض السباب ، والشاهد علی ذلک هو العرف ودینهم وحکمهم بأنّه من الباطل .

والشاهد الآخر : الروایات الواردة(5) فی ذیل الآیة الشریفة بتطبیقها علی الغناء التی

ص:189


1- (3) إحیاء العلوم 3 / 110 و 111 .
2- (4) مصباح الفقاهة 1 / 277 .
3- (5) سورة الحج / 30 .
4- (1) ذهب إلی الإنحصار شیخنا الأستاذ _ مدظله _ فی إرشاد الطالب 1 / 159 .
5- (2) راجعها فی البرهان فی تفسیر القرآن 3 / 881 .

یغلب فیها الإنشاء علی الإخبار .

والشاهد الثالث : صحیحة حماد بن عثمان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن قول الزور ، قال : منه قول الرجل للذی یُغنّی : أحسنت(1) .

الظاهر فی الإنشاء لا الإخبار ، أعنی أن الإمام علیه السلام طبق الآیة الشریفة علی الإنشاء لا الإخبار .

والحاصل ، أنّ سب المؤمن من أظهر مصادیق الآیة الشریفة ، لأنّ المراد بالزور هو الباطل ، والسبّ الباطل عند العرف فیحرم بمقتضی الآیة الشریفة .

ووافقنا علی هذا الاستدلال المحققون الخوئی(2) والسبزواری(3) قدس سرهما والقمی(4) _ مدظله _ .

2 _ قوله تعالی : «وَلاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَکُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالاْءَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الاْءِیمَانِ»(5) .

بتقریب : أن سب المؤمن ربّما یدخل فی النهی الأوّل ، أعنی «لاَ تَلْمِزُوا أَنفُسَکُمْ» ، وربّما یدخل فی النهی الثانی ، أعنی «لاَ تَنَابَزُوا بِالاْءَلْقَابِ» ، وربّما یدخل فی التوصیف الآخر ، أعنی «بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الاْءِیمَانِ» . فصار محرّماً بالآیة الشریفة .

والشاهد علی ذلک ما ورد فی شأن نزولها فی تفسیر القمی ، قال : « فإنّها نزلت فی صفیة بنت حُیَیّ بن أخطَب ، وکانت زوجة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، وذلک أنّ عائشة وحفصة کانتا

تؤذیانها وتشتمانها وتقولان لها : یا بنت الیهودیة . فشکت ذلک إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فقال لها : ألا تجیبهما ؟ فقالت : بماذا یا رسول اللّه ؟ قال : قولی : إنّ أبی هارون نبی اللّه وعمّی موسی کلیم اللّه وزوجی محمد رسول اللّه ، فما تُنکران منّی ؟ فقالت لهما ، فقالتا : هذا علمّک رسول اللّه ،

ص:190


1- (3) معانی الأخبار / 349 ح 2 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 3 / 882 ح 6 طبع مؤسسة البعثة .
2- (4) مصباح الفقاهة 1 / 279 .
3- (5) مهذب الأحکام 16 / 96 .
4- (6) عمدة المطالب 1 / 214 .
5- (7) سورة الحجرات / 11 .

فأنزل اللّه فی ذلک «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لاَ یَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ» إلی قوله «وَلاَ تَنَابَزُوا بِالاْءَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الاْءِیمَانِ» »(1) .

3 _ قوله تعالی : «لاَّ یُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ»(2) .

بتقریب : أنّ اللّه لا یحب القول بالسوء جهراً ، أی یحرم القول بالسوء وإظهاره إلاّ مِنْ المظلوم ، ومن المعلوم أنّ السبّ یدخل فی القول بالسوء فیحرم . والشاهد علی ذلک مرسلة الطبرسی عن أبی جعفر علیه السلام أنّه قال : لا یحبّ اللّه الشتم فی الإنتصار إلاّ مَن ظُلم ، فلا بأس له أن ینتصر ممَّن ظلمه بما یجوز الانتصار به فی الدِّین(3) .

لأنّه علیه السلام طبق « القول بالسوء» بالشتم ، وقد مرّ منّا أنّ الشتم هو السبّ .

وبما ذکرنا من التقریب لا یتمّ ما ذکره شیخنا الأستاذ _ مدظله _ فی الإرشاد(4) . واللّه سبحانه هو العالم .

الرابع : ومن السنة الروایات المستفیضة

روایاتنا تدلّ علی حرمة السبّ علی حدِّ الاستفاضة :

منها : موثقة أو صحیحة أبی بصیر عن أبی جعفر علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : سباب المؤمن فسوق ، وقتاله کفر ، وأکل لحمه معصیة ، وحرمة ماله کحرمة دمه(5) .

ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : سباب المؤمن کالمشرف علی الهلکة(6) .

ومنها : صحیحة اُخری لأبی بصیر عن أبی جعفر علیه السلام قال : إنّ رجلاً من تمیم أتی

ص:191


1- (1) تفسیر القمی 2 / 321 ونقل عنه فی البرهان 5 / 109 ح 1 .
2- (2) سورة النساء / 148 .
3- (3) مجمع البیان 3 / 201 ونقل عنه فی البرهان 2 / 195 ح 5 .
4- (4) إرشاد الطالب 1 / 160 .
5- (5) وسائل الشیعة 12 / 297 ح 3 . الباب 158 من أبواب أحکام العشرة .
6- (6) وسائل الشیعة 12 / 298 ح 4 .

النبی صلی الله علیه و آله وسلم فقال : أوصنی ، فکان فیما اُوصاه أن قال : لا تسبّوا الناس فتکسبوا العداوة لهم(1) .

ومنها : صحیحة عبد الرحمن بن الحجاج عن أبی الحسن موسی علیه السلام فی رجلین یتسابّان ، قال : البادی ء منهما أظلم ، ووزره ووزر صاحبه علیه مالم یعتذر إلی المظلوم(2) .

ومنها : خبر عبد اللّه بن یونس عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : قال أمیر المؤمنین علیه السلام فی کلام له فی صفات المؤمن : ... لا وثّاب ولا سبّاب ولا عیّاب ولا مغتاب ، الحدیث(3) .

ومنها : مرسلة أبی علی محمد بن همام رفعه عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : لا یکمل المؤمن إیمانه حتّی یحتوی علی مائة وثلاث خصال _ إلی أن قال : _ لا لعّان ولا نمّام ولا کذّاب ولا مغتاب ولا سبّاب ، الحدیث(4) .

ومنها : مرسلة العیاشی رفعه عن جابر عن أبی جعفر علیه السلام فی قوله تعالی : «وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنا»(5) . قال : قولوا للناس أحسن ما تحبّون أنّ یقال لکم ، فإنّ اللّه یُبْغَض اللّعان السبّاب الطعّان علی المؤمنین ، المُتَفَحِّش السائل المُلْحِف ، ویُحبُّ الَحیِیَّ الحلیم العَفیف المتعفّف(6) .

ومنها : مرسلة القاضی نعمان المصری رفعه عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : من سبّ مؤمناً أو مؤمنة بما لیس فیهما بعثه اللّه فی طینة الخبال حتّی یأتی بالمخرج ممّا قال(7) .

ومنها : مرسلة أبی القاسم الکوفی رفعه قال : کان رجل عند رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم من أهل یمن وأراد الإنصراف إلی أهله ، فقال : یا رسول اللّه أوصنی ، فقال : أوصیک أن لا تشرک

ص:192


1- (7) وسائل الشیعة 12 / 297 ح 2 .
2- (1) وسائل الشیعة 12 / 297 ح 1 .
3- (2) الکافی 2 / 179 ح 1 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 138 ح 7 .
4- (3) التمحیص / 74 ح 171 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 138 ح 8 .
5- (4) سورة البقرة / 83 .
6- (5) تفسیر العیاشی 1 / 139 ح 66 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 5 / 26 ح 13 .
7- (6) دعائم الاسلام 2 / 458 ح 1612 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 136 ح 2 .

باللّه شیئاً ، ولا تعص والدیک ، ولا تسبّ الناس ، الحدیث(1) .

ومنها : مرسلة أبی الفتوح الرازی رفعه عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قال : المتسابّان ما قالا فعلی البادی ء ، ما لم یعتد المظلوم(2) .

وهذه الروایات تدلّ بوضوح علی حرمة السبّ .

المقام الثالث : هل تختص الحرمة بالمؤمن أو یعمّ جمیع الناس ؟

هل تختص حرمة السبّ بالمؤمن وبالمعنی الأخص - أعنی الشیعی الإمامی الإثنی عشری - أو تعمّ المسلم ولو کان مخالفاً ، أو أنّ الحکم یشمل جمیع مَنْ تبع مِنْ الأدیان الأبراهیمیة ، أو أنّ الحکم عام یشمل جمیع الناس مع اختلاف أدیانهم واعتقاداتهم وفرقهم إلاّ من استثنی فیما بعد ؟

ظاهر الأصحاب اختصاص الحکم بالمؤمن ، لأنّهم قیّدوا العنوان به ، ویؤیدهم بعض الروایات الماضیة ، نحو : موثقة أو صحیحة أبی بصیر ومعتبرة السکونی . ولا یمکن تقییدها بهذه الأربعة ، لأنّ کلّهنَّ من المثبتات لا النفی والإثبات ، ولذا علی قواعد الاستنباط صارت الحرمة فی المؤمن آکد .

وذهب بعض(3) إلی اختصاص الحکم بالمسلمین ، للإطلاقات الواردة فی الروایات ، والتعدی صحیح ، لأنّ الإطلاقات تشمل جمیع المسلمین ولکن لا تختص بهم بل تسری إلی جمیع الناس مع اختلاف أدیانهم واعتقاداتهم ، بل تسری إلی المشرکین ومَنْ لیس له دینٌ ، مع الاعتراف بأنّ الناس فی روایاتنا غالباً یُطلق علی العامة ومخالفینا من المسلمین . ولکن توجد هنا قرینة بل قرائن وشاهد بل شواهد علی سریان الحکم بالنسبة إلی جمیع الناس بالمعنی اللغوی ، حتّی المشرکین منهم :

القرینة الأولی : قوله تعالی : «وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِینَ یَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَیَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَیْرِ عِلْمٍ کَذَلِکَ زَیَّنَّا لِکُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَی رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَیُنَبِّئُهُم بِمَا کَانُواْ

ص:193


1- (7) کتاب الأخلاق (مخطوط) ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 139 ح 9 .
2- (8) تفسیر أبی الفتوح الرازی 1 / 245 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 138 ح 4 .
3- (1) نحو الفقیه السید عبد الأعلی السبزواری قدس سره فی مهذب الأحکام 16 / 97 .

یَعْمَلُونَ»(1) .

بتقریب : أنّ اللّه تعالی نهی عن سبّ آلهة المشرکین لئلا یسبوا اللّه تقاصاً ، کما ورد ذلک فی معتبرة مسعدة بن صدقة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : إنّه سُئل عن قول النبی صلی الله علیه و آله وسلم : إنّ الشرک أخفی من دبیب النمل علی صفاة سوداء فی لیلة ظلماء ؟ فقال : کان المؤمنون یسبّون ما یعبد المشرکون من دون اللّه ، وکان المشرکون یسبّون ما یعبد المؤمنون ، فنهی اللّه عن سبّ آلهتهم لکیلا یسبّ الکفار إله المؤمنین ، فیکون المؤمنون قد أشرکوا باللّه من حیث لا یعلمون ، فقال : «وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِینَ یَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَیَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَیْرِ عِلْمٍ»(2) .

فلما لا یجوز سبّ آلهة المشرکین لئلا یسبوا اللّه ، لا یجوز سبّ المشرکین لئلا یسبّوا

المؤمنین .

القرینة الثانیة : الإطلاقات الواردة فی غیر هذه الأربع من الروایات تدلّ علی حرمة السبّ ، وحیث أنّ الأربع لا یصح أن تکون مقیِّدة فلابدّ من الأخذ بالإطلاق .

القرینة الثالثة : التعلیل الوارد فی صحیحة أبی بصیر عن أبی جعفر علیه السلام قال : إنّ رجلاً من تمیم أتی النبی صلی الله علیه و آله وسلم فقال : أوصنی ، فکان فیما أوصاه أن قال : لا تسبّوا الناس فتکسبوا العداوة لهم(3) .

السب یوجب العداوة والعداوة مع الناس حرام ، فصار السب أیضاً من المحرّمات .

القرینة الرابعة : أن جماعة من أصحاب أمیر المؤمنین علیه السلام کانوا یسبّون أهل الشام فی حرب صفین وهم : حُجر بن عُدَی وعمرو بن الحُمْق وأمثالهم ثمّ نهاهم الأمیر علیه السلام من السبّ بما سأذکره ثمّ قالا : یا أمیر المؤمنین نقبل عظتک ونتأدب بأدبک(4) .

أمیر المؤمنین علیه السلام حین سمع قوماً من أصحابه یسبّون أهل الشام أیام حربهم بصفین ، قال لهم : إنّی أکره لکم أن تکونوا سبّابین و لکنکم لو وصفتم أعمالهم وذکرتم حالهم کان

ص:194


1- (2) سورة الأنعام / 108 .
2- (3) تفسیر القمی 1 / 213 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 5 / 26 ح 15 .
3- (1) وسائل الشیعة 12 / 297 ح 2 .
4- (2) کما فی وقعة صفین / 102 لنصر بن مزاحم ونقلت عنه فی الموسوعة 5 / 27 ح 17 .

أصوب فی القول وأبلغ فی العذر وقلتم مکان سبّکم إیّاهم : اللهم احقن دماءَنا ودماءَهم وأصلح ذات بیننا وبینهم واهدهم من ضلالتهم حتّی یعرف الحقّ مَنْ جهله ویرعوی عن الغی والعدوان من لهج به(1) .

وورد فی الصحیح أنّ أمیر المؤمنین لا یکره الحلال ، فحیث کره السبّ ونهی عنه فیکون حراماً ، وقبل منه علیه السلام أصحابه نهیه وتأدبوا بأدبه علیه السلام .

إن قلت : إنّه علیه السلام نهی عن سبّ أهل الشام وهم مسلمون ، فلا یدلّ هذا الاستدلال أزید من حرمة سبّ المسلم .

قلت : من خرج علی أمیر المؤمنین علیه السلام ووأولاده الأئمة المعصومین علیهم السلام لا یکون مسلماً عندنا ، بل صار بخروجه کافراً ، کما اعترف بذلک شیخنا الصدوق فی اعتقاداته(2) ولم یعترض علیه شیخنا المفید فی تصحیح الإعتقاد ، بل قال فی أوائل المقالات : « القول فی محاربی أمیر المؤمنین علیه السلام : واتفقت الإمامیة والزیدیة والخوارج علی أنّ الناکثین والقاسطین من أهل

البصرة والشام أجمعین کفار ضلاّل ملعونون بحربهم أمیر المؤمنین علیه السلام وأنّهم بذلک فی النار مخلدون(3) ... واتفقت الإمامیة والزیدیة وجماعة من أصحاب الحدیث علی أنّ الخوارج علی أمیر المؤمنین علیه السلام المارقین عن الدِّین کفار بخروجهم علیه وأنّهم فی النار بذلک مخلدون ... »(4) .

وقال علم الهدی الشریف المرتضی فی المسألة ثالثة والعشرین من « جوابات المسائل المیافارقیات» حیث سُئل عنه : « صاحب جیش البصرة والإعتقاد فیه وفی غیره ، وکیف کانوا علی عهد رسول صلی الله علیه و آله وسلم ؟ » .

فأجاب قدس سره : « قتال أمیر المؤمنین علیه السلام بغی وکفار جار مجری قتال النبی صلی الله علیه و آله وسلم ، لقوله صلی الله علیه و آله وسلم : « حربک یا علی حربی وسلمک سلمی » ، وإنّما یرید أنّ أحکام حروبنا واحدة ، فمن حاربه علیه السلام ومات من غیر توبة قطعنا علی أنّه ما کان فی وقتٍ من الأوقات مؤمناً وإن

ص:195


1- (3) نهج البلاغة : الخطبة 206 ونقلت عنه فی الموسوعة 5 / 27 ح 17 .
2- (4) الاعتقادات للشیخ الصدوق / 105 المطبوعة مع تصحیح الاعتقاد للشیخ المفید .
3- (1) أوائل المقالات / 49 طبع چرندابی .
4- (2) أوائل المقالات / 50 .

أظهر الإیمان ، لأن من کان مؤمناً علی الحقیقة فی الباطن لا یجوز أن یکون علی ما کان القوم علیه ، لأدلةٍ لیس هنا موضع ذکرها »(1) .

وقال شیخ الطائفة الطوسی : « ظاهر مذهب الإمامیة أنّ الخارج علی أمیر المؤمنین علیه السلام والمقاتل له کافر ، بدلیل إجماع الفرقة المحقّة علی ذلک ... »(2) .

وقال فی تفسیره : « وأمّا مذهبنا فی تکفیر مَنْ قاتل علیّاً علیه السلام معروف»(3) .

وقال ابن زهرة الحلبی : « إعلم أنّ محاربی أمیر المؤمنین علیه السلام عندنا بمنزلة محاربی النبی صلی الله علیه و آله وسلم فی عظم المعصیة ، ویدلّ علی ذلک اُمور : منها إجماع الإمامیة علیه وإجماعهم حجة ... »(4) .

فهذه الواقعة التاریخیة والنهی الصادر فیه عن أمیر المؤمنین علیه السلام تدلّ بأحسن وجه علی حرمة سبّ الناس حتّی المشرکین والکافرین منهم .

القرینة الخامسة : ما ورد فی رسالة أبی عبد اللّه علیه السلام إلی جماعة الشیعة ، وفیها : « ... وإیّاکم وسبّ أعداء اللّه حیث یسمعونکم «فَیَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَیْرِ عِلْمٍ» ، وقد ینبغی لکم أن تعلموا حدّ سبّهم للّه کیف هو ؟ إنّه من سبّ أولیاء اللّه فقد انتهک سبّ اللّه ، ومن أظلم عند اللّه

ممّن استسبَّ للّه ولأولیاء اللّه ، فمهلاً مهلاً ، فاتّبعوا أمر اللّه ، ولا حول ولا قوة إلاّ باللّه»(5) .

دلالة مافی هذه الرسالة علی حرمة سبّ الناس بالمعنی الأعم حتّی أعداء اللّه - أعنی الکافرین - واضحة ، ولکن العمدة فی ضعف سندیها . اللهم إلاّ أن یقال : إنّ المناقشة فی أسانید الکافی الشریف جهد العاجز ، کما نقل عن المحقق النائینی قدس سره . وفیه ما لا یخفی .

القرینة السادسة : من المحتمل أن تکون حرمة السب لیست من جهة احترام المؤمنین أو المسلمین علی القول به ، بل من جهة حفظ اللسان عن هذه الألفاظ القبیحة ، إذ

ص:196


1- (3) جوابات المسائل المیافارقیات ، المطبوعة ضمن رسائل الشریف المرتضی 1 / 283 .
2- (4) الاقتصاد / 226 .
3- (5) التبیان 9 / 326 .
4- (6) غنیة النزوع إلی علمی الأصول والفروع 2 / 222 .
5- (1) الکافی 8 / 7 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 5 / 24 ح 5 .

ینحط قدر القائل بهذه الألفاظ عن أعین الناس ، والمؤمن لایجوز له أن یذلَّ نفسه ، فیشکل التکلم بهذه الألفاظ مطلقاً حتّی بالنسبة إلی الکفار .

ویذکر المحقق الأردکانی قدس سره شبیه هذا الإستدلال بالنسبة إلی حرمة الغیبة(1) وإن کان فیما ذکره نظرٌ بیّنٌ وحرمة الغیبة تختص بالمؤمن فقط ولکن کلامه قدس سره هناک یمکن أن یجری هنا . والتفصیل یطلب من بحث الغیبة ، فانتظر .

وبالجملة ، مع هذه القرائن الست لا ینبغی الإرتیاب فی تعمیم الحکم بالنسبة إلی جمیع الناس حتّی المشرکین والکافرین ، وأنّه لا یختص بالمؤمن . هذا کلّه بالنظر إلی الأدلة ، لکن مع ذلک الإفتاء بالتعمیم مشکلٌ ، لعدم وجدان القول به عند أصحابنا قدس سرهم ، ولعلّ القول به خرق للإجماع المرکب ، ولکن لو وُجد القائل به فإنّا نتبع إثره وصرنا ثانیه . والإحتیاط لا یترک بالنسبة إلی طرفی القضیة السبّ والإفتاء ، واللّه سبحانه هو العالم بأحکامه .

وعلی ما حررناه لا ینقضی تعجبی من الشیخ الأکبر الفقیه الشیخ جعفر قدس سره حیث یقول : « وسبّ غیر أهل الإیمان من المسلمین والمشرکین من أفضل الطاعات الموصلة إلی رضی ربّ العالمین»(2) .

وأعجب منه قول تلمیذه الفقیه العاملی حیث یقول : « وسب غیر أهل الإیمان من شرائط الإیمان»(3) .

اللهم إلاّ أن یقال : بأنّ مرادهما - کما هو الظاهر - سبّ الظالمین لآل محمد علیهم السلام وغاصبی حقوقهم واللآبسی رداء الخلافة بغیر حقٍّ ، فحینئذ یتجه کلامهما ، رفع فی الخلد

مقامهما .

المقام الرابع : المستثنیات من حرمة السب

1 _ المتظاهر بالفسق :

یجوز سبّه بالفسق والمعصیة التی تجاهر فیها لزوال حرمته بالتظاهر بها ، وتدلّ علیه

ص:197


1- (2) غنیة الطالب 1 / 148 .
2- (3) شرح القواعد 1 / 235 .
3- (4) مفتاح الکرامة 12 / 222 .

حسنة هارون بن الجهم عن الصادق علیه السلام قال : إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له ولا غیبة(1) .

وکما یأتی تفصیله فی البحث عن مستثنیات الغیبة . وأمّا المعاصی التی لم یتجاهر فیها فلا یجوز سبه بها ، لأنّ حرمته فیها باقیة .

2 _ المُبْدِع :

یجوز سبّه بل ورد الحث علیه فی صحیحة داود بن سرحان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إذا رأیتم أهل الریب والبدع من بعدی فأظهروا البراءة منهم وأکثروا من سبّهم والقول فیهم والوقیعة ، وباهتوهم کیلا یطمعوا فی الفساد فی الإسلام ویحذرهم الناس ولا یتعلّمون من بدعهم ، یکتب اللّه لکم بذلک الحسنات ویرفع لکم به الدرجات فی الآخرة(2) .

فلا حرمة فی سبّ المبدع .

3 _ قد یقال بالاستثناء من الحرمة فی ما لم یتأثر المسبوب عرفاً

یعنی : إذا لم یتأثر المسبوب من السبّ ، لم یدخل فی الإیذاء والظلم ، فلا یحکم بحرمته .

وفیه : إن الإطلاقات الواردة فی الأدلة - نحو موثقتی أبی بصیر الماضیتین(3) تدلان علی حرمة السبّ ، بلا فرق بین تأثر المسبوب وعدمه ، وبلا فرق بین حضوره وعدمه ، وبلا فرق بین اللغات حتّی لو سَبّ بلغة لا یفهمها المسبوب حرم ، وبلا فرق بین أن یکون السب جدّاً أو مزاحاً أو لهواً أو لعباً ، وبلا فرق بین أن یکون المسبوب بالغاً . أو غیر بالغ . والإطلاق یشمل جمیع ذلک .

4 _ المولی وعبده :

قد یقال : بإستثناء حرمة سبّ السید عبده ، واستدلوا علی ذلک بأنّ للسید ضرب

عبده للتأدیب ، وفحواه جواز سبّه تأدیباً .

ص:198


1- (1) وسائل الشیعة 12 / 289 ح 4 . الباب 154 من أبواب أحکام العشرة .
2- (2) وسائل الشیعة 16 / 267 ح 1 . الباب 39 من أبواب الأمر والنهی .
3- (3) وسائل الشیعة 12 / 297 ح 2 و 3 .

وفیه : أنه یمکن منع الفحوی ، بأنّ السبّ بنفسه من العناوین المحرَّمة والإیذاء أمرٌ آخر قد یجتمع معه ، فإذا جاز للسید ضرب عبده وإیذاؤه تأدیباً ، هذه الإجازة لا تدلّ علی جواز سبّه الذی هو من المحرّمات المستقلة .

مضافاً إلی أنّ الإیذاء باللسان أشدّ من الإیذاء بالضرب حتّی عند العرف ، فلا مجال للقول بالفحوی . وقد نبّه علی منع دلیل الفحوی هنا المحقق الإیروانی قدس سره (1) وتبعه المحقق الأردکانی قدس سره (2) .

ویؤید(3) منع الفحوی خبر عمرو بن نعمان الجعفی قال : کان لأبی عبد اللّه علیه السلام صدیق لا یکاد یفارقه إذا ذهب مکاناً فبینما هو یمشی معه فی الحَذائین ومعه غلامٌ سندی یمشی خلفهما إذ التفت الرجل یرید غلامه ثلاث مرات فلم یره فلما نظر فی الرابعة قال : یا ابن الفاعلة أین کنتَ ؟ قال : فرفع أبو عبد اللّه علیه السلام یده فصک بها جبهة نفسه ، ثمّ قال : سبحان اللّه تقذف اُمّه ، قد کنتُ أری أنّ لک ورعاً فإذاً لیس لک ورعٌ ، فقال : جعلتُ فداکَ إنّ اُمَّهَ سندیةٌ مشرکةٌ ، فقال : أما علمتَ أنّ لکلَّ اُمّةٍ نکاحاً ، تنحّ عنّی . قال : فما رأیته یمشی معه حتّی فرّق الموت بینهما .

وفی روایة اُخری : إنّ لکلِّ اُمّةٍ نکاحاً تحتجزون به مِن الزنا(4) .

5 _ المعلّم والم_تعلّم :

قد یقال باستثناء الحکم بالنسبة إلی المعلّم إذا سبّ متعلِّمه تأدیباً بْدلیل أنّ له ضرب متعلّمه إذا کان مؤذناً فی الضرب عن ولیّه تأدیباً ، فإذا جاز له الضرب فبطریق أولی والفحوی یجوز له السبّ ، والسیرة جاریة علی ذلک عند المعلّمین .

وفیه : أولاً : قد مرّ منّا منع الفحوی والأولویة آنفاً .

وثانیاً : علی فرض وجود السیرة فی زماننا هذا ، لا طریق لنا إلی اتصاله بزمن

ص:199


1- (1) الحاشیة علی المکاسب 1 / 168 .
2- (2) غنیة الطالب 1 / 133 .
3- (3) قلتُ « یؤید » لأنّ فی سندها ضعف ودلالتها أیضاً أخص من المدعی ، المدعی هو حرمة السب و الروایة تدل علی حرمة القذف ، والنسبة بینهما عموم وخصوص مطلق .
4- (4) الکافی 2 / 324 ح 5 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 326 ح 14 .

المعصومین علیهم السلام ، فلا تفید شیئاً .

6 _ الزوج والزوجة :

یمکن أن یقال : بجواز سبّ الزوج زوجته ، لأنّ له ضربها تأدیباً فی موارد خاصة ، فحینئذ یجوز سبّه بطریق أولی ، وبدلیل الفحوی والسیرة جاریة علی ذلک .

وفیه : ما مرّ آنفاً فی الاستثناء السابق ، فلا یتمّ هذا الاستدلال .

7 _ الوالد وولده :

واستدلوا علی جواز سبّ الوالد لولده بوجوه :

منها : عدم تحقق الهوان فی سبّ الوالد ، وحیث أنّ الحرمة تدور معه فلا حرمة .

ومنها : عدم تأثر الولد لسبّه بتوسط والده ، وحیث صار فخراً فلا حرمة .

ومنها : ورد فی الروایات بالنسبة إلی الولد کما فی صحاح محمد بن مسلم وأبی حمزة الثمالی والحسین بن أبی العلاء : « أنت ومالک لأبیک»(1) . وإذا تمّ هذا البیان بأنّ الولد وماله لأبیه فیجوز سبّه أیضاً بطریق اُولی ، کما یجوز سبّ السید عبده لأنّه ملکه .

ومنها : السیرة الجاریة بین المتشرعة من سب أولادهم .

وفیه : أولاً : منع الصغری فی الثلاث الأُول ، أعنی تحقق الهوان وتأثر الولد وعدم الإفتخار بسبب الوالد ولده .

وثانیاً : الحرمة کما مرّ منّا مطلقة فی السبِّ بالنسبة إلی تحقق الهوان وعدمه تأثر المسبوب وعدمه ، عدم الإفتخار بالسب والإفتخار به ، لإطلاق أدلتها .

وثالثاً : جملة « أنت ومالک لأبیک » الواردة فی الروایات ناظرة إلی أمر أخلاقی وتکوینی وتذکّر الولد بأنّه لا یناسبه أن یعارض أباه فی اُموره ، ولا تدلّ علی الملکیة الحقیقیة أو التنزیلیة أو ثبوت الولایة المطلقة . وعلی فرض ثبوتها أیضاً لا تدلّ علی جواز سبّه ، لما مرّ منّا مِنْ عدم جواز سبّ السید عبده .

ص:200


1- (1) راجع وسائل الشیعة 17 / 262 الباب 78 من أبواب ما یکتسب به ح 1 و 2 و 8 ونحوها فی خبر محمد بن سنان ح 9 فی الباب المذکور ، وخبر عبید بن زرارة الباب 11 من أبواب عقد النکاح وأولیاء العقد ح 5 فراجع وسائل الشیعة 20 / 290 .

ورابعاً : السیرة وإن کانت عند بعض المتشرعة موجودة ولکن دون إثباتها عند الجمیع مع الإلتفات والإتصال الی زمن المعصومین علیهم السلام خرط قتاد .

وخامساً : الإطلاقات الواردة فی الأدلة تشمل الوالد ، فلا یجوز له سبّ اُولاده .

نعم ، للوالد جواز تأدیب الولد الصغیر بالضرب ، ولکن التعدی من الضرب إلی

السبّ(1) - بأنّ فی السب أیضاً نوعاً من التأدیب - ومن الولد الصغیر إلی الکبیر بجریان الاستصحاب فی الأخیر مشکلٌ . مضافاً إلی انحصار الدلیل حینئذٍ فی فرض التأدیب فقط .

8 _ التظلم

یجوز للمظلوم سبّ الظالم فی مقام التظلم والوصول الی حقِّه ، وتدلّ علیه قوله تعالی فی الآیة الکریمة : «لاَّ یُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ»(2) ، لأنّ السبّ یدخل فی القول بالسوء وجوّزه الآیة الشریفة جهراً . وقد مرّ منّا الکلام فیها فی الاستدلال علی حرمة السبّ بکتاب اللّه تعالی .

ولذا قال جدنا الشیخ جعفر : « ویقوی جوازه (أی جواز السب) فی خصوص الظالمین»(3) .

9 _ یجوز السبّ لدفع المنکر والحفظ عن الضرر :

إذا کان المنکر أعظم فساداً وحرمةً من السبِّ ، والضرر یکون فاحشاً وقابلاً للملاحظة بحیث لا یتحمّله عادةً ونوعاً یجوز السبّ بقاعدة التزاحم وخوف الوقوع فی الفتنة وأدلة نفی الضرر والحرج . أفتی بذلک الشیخ جعفر قدس سره فی شرحه علی القواعد(4) .

10 _ التقیة :

یجوز السبّ للتقیة لعموم أدلتها کما فی صحیحة زرارة عن أبی جعفر علیه السلام قال : التقیّة فی

ص:201


1- (1) کما مال إلیه المحقق الإیروانی قدس سره فی حاشیته علی المکاسب 1 / 168 وشیخنا الاُستاذ _ مدظله _ فی إرشاد الطالب 1 / 162 .
2- (2) سورة النساء / 148 .
3- (3) شرح القواعد 1 / 235 .
4- (4) شرح القواعد 1 / 235 .

کلِّ ضرورة ، وصاحبها أعلم بها حین تنزل به(1) .

وصحیحة الفضلاء قالوا : سمعنا أبا جعفر علیه السلام یقول : التقیة فی کلّ شیءٍ یضطر إلیه ابن آدم فقد أحلّه اللّه له(2) .

والحاصل ، أدلة التقیة وعموماتها حاکمة علی أدلة حرمة السبّ ، فلا حرمة للسب عند التقیة کما قال الشیخ جعفر قدس سره : « ویغتفر للتقیّة»(3) .

نعم ، أربع موارد یُستثنی من عمومات التقیة فلا تقیة فیها ، نحو : الدماء ، والمسح علی الخفین ، وشرب النبیذ والمسکر ، والتبری من مولانا وسیدنا وإمامنا أمیر المؤمنین علیه السلام . والبحث موکول إلی محلِّه ، فراجع إن شئت إلی ما حررناه فی رسالتنا فی بحث التقیة . واللّه سبحانه هو العالم بأحکامه الطاهرة والحمد للّه أولاً وآخراً .

ص:202


1- (5) وسائل الشیعة 16 / 214 ح 1 . الباب 25 من أبواب الأمر والنهی .
2- (6) وسائل الشیعة 16 / 214 ح 2 . الباب 25 من أبواب الأمر والنهی .
3- (7) شرح القواعد 1 / 235 .

السحر

اشارة

ینبغی البحث عن السحر فی ضمن مقامات :

المقام الأوّل : موضوعه

لابدّ لتعیین موضوع السحر إلی مراجعة کلمات أهل اللغة والفقهاء ، فلذا نقول :

قال أحمد بن فارس : « سحر ، السین والحاء والراء اُصول ثلاثة متباینة : أحدها عضوٌ من الأعضاء ، والآخر خَدْعٌ وشبهه ، والثالث وقت من الاُوقات ... .

وأمّا الثانی فالسِّحْر ، قال قومٌ : هو إخراج الباطل فی صورة الحقّ ، ویقال : هو الخدیعة ، واحتجّوا بقول القائل :

فإن تسألینا فیم نحن فإنّنا عصافیرُ من الأنام المسحَّرِ

کأنّه أراد المخدوع الذی خدعَتْه الدنیا وغرَّتْه ، ویقال المُسَحَّر الذی جُعِل له سَحْرٌ ، ومن کان ذا سَحْر(1) لم یجد بُداً من مطعم ومشرب ... »(2) .

وقال الزمخشری : « س ح ر _ کلُّ ذی سَُحْر أو سَحَرٍ یتنفَّس ، وهو الرئة .

ومن المجاز : سَحَرَه وهو مسحور وإنّه لمسحَّرٌ : سُحر مرّة بعد اُخری حتّی تخبَّل عقلُه ، «إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِینَ» ، وأصله من سَحَرَه إذا أصاب سَحْرَه ... وجاء فلانٌ بالسِّحْر فی کلامه ، وفی الحدیث : إنّ من البیان لسحراً ، والمرأة تَسْحَرُ الناس بعینها ، ولها عین ساحرة ولهنَّ عیون سواحرٌ . ولعب الصبیان بالسَّحّارةِ ، وهی لُعْبَة فیها خَیط یخرج من جانب علی لون ومن جانب علی لون ، وأرض ساحرة السراب ... وعَنْز مسحورة قلیلة اللبن ، وأرض مسحورة :

ص:203


1- (1) سَحْرٌ : أی أجوفٌ .
2- (2) معجم مقاییس اللغة 3 / 138 .

لا تُنبت ، سحَرتُه عن کذا : صرفَته»(1) .

وقال ابن منظور : « سحر : الأزهری : السِّحْرُ عَمَلٌ تُقُرِّبَ فیه إلی الشیطان وبمعونة منه ، کلّ ذلک الأمر کینونة للسحر ، ومن السحر الاُخذة التی تأخذُ العین حتّی یُظَنَّ أنّ الأمر کما

یُری ولیس الأصل علی ما یُری ، والسِّحْرُ : الاُخْذَةُ ، وکلّ ما لَطُفَ مأخَذُه ودَقَّ فهو سحرٌ ... قال : الأزهری : وأصل السِّحرِ صَرْفُ الشیء عن حقیقته إلی غیره ، فکأنّ الساحر لما أرَی الباطل فی صورة الحقّ وخَیَّلَ الشیء علی غیر حقیقته ، قد سحر الشیء عن وجهه أی صرفه ... وقال یونس : تقول العرب للرجل ما سَحَرک عن وجه کذا وکذا أی ما صرفک عنه ؟ وما سَحَرَک عنّا سَحْراً أی ما صرفک ... ؟ »(2) .

وقال الفیروزآبادی : « والسِّحر بالکسر : کلّ ما لطف مأخذه ودقَّ ، والفعلُ کمَنَعَ ... »(3) .

قال الطریحی : « سمی السِّحر سحراً لأنّه صرف عن جهة ، وقیل : من السحر أی سحرت فخولط عقلک ومدّ ... والسِّحر بالکسر فالسکون : کلام أو رقیّة أو عمل یؤثر فی بدن الإنسان أو قلبه أو عقله ، وقیل : لا حقیقة له ولکنّه تخیّل . وقد اختلف العلماء فی القدر الذی یقع به السحر ، فقال بعضهم : لا یزید تأثیره علی قدر التفرق بین المرء وزوجه لأنّ اللّه تعالی ذکر ذلک تعظیماً لما یکون عنده وتهویلاً له فی حقِّنا ، فلو وقع به أعظم منه لذکره ، لأنّ المَثَل لا یُضرب عند المبالغة إلاّ بأعلی الأحوال ، والأشعریّة علی ما نُقل عنهم أجازوا ذلک ، وفی الحدیث : حلّ ولا تعقد ، وفیه دلالة علی أنّ له حقیقة ، ولعلّه أصح و ... »(4) .

قال فی المنجد : « السِّحر : مصدر ، ما لطف مأخذه ودقّ . إخراج الباطل فی صورة الحقّ . ما یفعله الإنسان من الحیل ، ومنه « إنّ من البیان لسحراً» . الفساد .

ما یستعان فی تحصیله بالتقریب من الشیطان ممّا لا یستقل به الإنسان ، جمعه أسحار

ص:204


1- (3) أساس البلاغة / 204 .
2- (1) لسان العرب 6 / 189 .
3- (2) القاموس فی اللغة / الطبع الحجری من دون الرقم .
4- (3) مجمع البحرین / 265 الطبع الحجری .

وسُحُور . السِحْرُ الکلامی : غرابة الکلام ولطافته المؤثرة فی القلوب المحوِّلة إیّاها من حالٍ إلی حالٍ کالسِحر»(1) .

أقول : کأنّ صاحب المنجد قد جمع فیه بین أقوال اللغویین .

وقال الشریف المرتضی : « السحر : تخییل ما لیس له حقیقة کالحقیقة یتعذر علی مَنْ لا یعلم وجه الجملة فیه»(2) .

وقال الشیخ الطوسی فی تفسیره : « السحر والکهانة والحیلة نظائرٌ ، یقال : سحره یسحره سحراً ، أسحرنا أسحاراً ، وسحّره تسحیراً . قال صاحب العین : السحر عمل یقرّب إلی الشیطان . کلّ ذلک یکتبونه السحر . ومن السحر : الاُخْذَةُ التی تأخذ العین حتّی یظن أنّ الأمر کماتری ولیس الأمر کماتری ، والجمع : الاُخَذ .

والسحر البیان من اللفظ کما قال النبی صلی الله علیه و آله وسلم « إنّ من البیان لسحراً »... وأصل الباب الخفاء ، والسحر قیل : الخفاء سببه توهم قلب الشیء عن حقیقته ، کفعل السحرة فی وقت موسی لمّا أوهموا أنّ العصا والحبال صارت حیواناً ، فقال : «یُخَیَّلُ إِلَیْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَی»(3)(4) .

ثم قال بعد صفحة : « وقیل فی معنی السحر أربعة أقوال :

أحدها : أنّه خُدَع ومخاریق وتمویهات لا حقیقة لها ، یخیل إلی المسحور أنّ لها حقیقة .

والثانی : أنّه أخذ بالعین علی وجه الحیلة .

و الثالث : أنّه قلب الحیوان من صورة إلی صورة ، وإنشاء الأجسام علی وجه الاختراع ، فیمکن للساحر أن یقلّب الإنسان حماراً وینشیء أجساماً .

والرابع : أنّه ضرب من خدمة الجن ، کالذی یمسک له التجدل فیصرع .

وأقرب الأقوال الأوّل : لأنّ کلّ شیءٍ خرج عن العادة الخارقة فإنّه لا یجوز أن یتأتی

ص:205


1- (4) المنجد / 331 .
2- (5) رسالة الحدود والحقائق المطبوعة ضمن رسائل الشریف المرتضی 3 / 272 .
3- (1) سورة طه / 66 .
4- (2) التبیان 1 / 372 و 373 .

من الساحر . ومن جوّز للساحر شیئاً من هذا فقد کفر ، لأنّه لا یمکنه مع ذلک العلم بصحة المعجزات الدالة علی النبوات ، لأنّه أجاز مثله من جهة الحیلة والسحر»(1) .

وذکر نظیر البیان الأوّل الطبرسی فی مجمع البیان 1 / 170 .

ویأتی کلام الشیخ فی المبسوط والخلاف آنفاً .

قال الفخر الرازی فی تفسیره فی معنی السحر : « ذکر أهل اللغة أنّه فی الأصل عبارة عمّا لطف وخفی سببه ... ثمّ قال بعد أسطر : إعلم أنّ لفظ السحر فی عرف الشرع مختص بکلِّ أمر یخفی سببه ویتخیّل علی غیر حقیقته ویجری مجری التمویه والخداع ، ومتی أطلق ولم یقید أفاد ذم فاعله ، قال تعالی : «سَحَرُواْ أَعْیُنَ النَّاسِ» ، یعنی موّهوا علیهم حتّی ظنوا أنّ حبالهم وعصیهم تسعی ، وقال تعالی «یُخَیَّلُ إِلَیْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَی» ، وقد یُستعمل مقیداً

فیما یمدح ویحمد ... فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : « إنّ من البیان لسحراً » ، فسمی النبی صلی الله علیه و آله وسلم بعض البیان سحراً لأنّ صاحبه یوضح الشیء المشکل ویکشف عن حقیقته بحسن بیانه وبلیغ عبارته.... »(2) .

ثمّ تعرض بعد أسطر لأقسام السحر فی ستة عشر صفحة من تفسیره(3) ونقل عنه العلامة المجلسی فی بحار الأنوار(4) وذکره مختصراً فی الجواهر(5) . وزعم الشیخ الأعظم قدس سره (6) أنّ هذا التقسیم من المجلسی حیث نسبه إلیه وبیّن حکمها ، وتبعه المحقق الخوئی فی مصباح الفقاهة(7) . وحیث أنّ التقسیم من الفخر الرازی ولیس بتام عندنا لم نتعرض إلیه وإلی حکمه کما ردّه المجلسی قدس سره بلا فصل بعد ختام نقله منه وقال : « وإنّما أوردت أکثر کلامهم فی هذا المقام

ص:206


1- (3) التبیان 1 / 374 .
2- (1) التفسیر الکبیر 3 / 205 .
3- (2) التفسیر الکبیر 3 / (222 _ 206) .
4- (3) بحار الأنوار 56 / (310 _ 277) _ (22 / 674 _ 654) _ کلاهما من طبع بیروت .
5- (4) الجواهر 22 / (84 _ 81) .
6- (5) المکاسب المحرمة / 33 الطبع الحجری _ (1 / 262 و 263) .
7- (6) مصباح الفقاهة 1 / (292 _ 288) .

مع طوله واشتماله علی الزوائد الکثیرة لمناسبته لما سیأتی فی بعض الأبواب الآتیة ، ولتطّلع علی مذاهبهم الواهیة فی تلک الأبواب»(1) .

قال الشیخ الطوسی فی المبسوط : « السحر له حقیقة عند قوم ، وهو أنّ الساحر یعقد ویرقی ویسحر فیقتل ویمرض ویکوع الأیدی ویفرِّق بین الرجل وزوجته ، ویتّفق له أن یسحر بالعراق رجلاً بخراسان فیقتله . وقال قوم : لا حقیقة له ، وإنّما هو تخیّل وشعبذة ، وهو الذی یقوی فی نفسی ، وفی روایاتنا أنّ السحر له حقیقة لکن ما ذکروا تفصیله کما ذکره الفقهاء . ولا خلاف بینهم أنّ تعلیمه وتعلّمه وفعله محرّم ، لقوله تعالی : «وَلَکِنَّ الشَّیْاطِینَ کَفَرُواْ یُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ» فذمَّ علی تعلیم السحر ... »(2) .

وقال فی الخلاف : « السحر له حقیقة ، ویصح منه أن یعقد ویرقی ویسحر فیقتل ویمرض ویکوع الأیدی ویفرّق بین الرجل وزوجته ، ویتفق له أن یسحر بالعراق رجلاً بخراسان فیقتله عند أکثر أهل العلم أبی حنیفة وأصحابه ومالک والشافعی . وقال أبو جعفر الأسترآبادی من أصحاب الشافعی : لا حقیقة له ، وإنّما هو تخییل وشعبذة ، وبه قال المغربی

من أهل الظاهر ، وهو الذی یقوی فی نفسی ، ویدلّ علی ذلک قوله تعالی مخبراً فی قصة فرعون والسحرة : «فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِیُّهُمْ یُخَیَّلُ إِلَیْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَی * فَأَوْجَسَ فِی نَفْسِهِ خِیفَةً مُّوسَی»(3) وذلک أنّ القوم جعلوا من الحبال کهیئة الحیات ، وطلوا علیها الزیبق وأخذ الموعد علی وقت تطلع فیه الشمس ، حتّی إذا وقعت علی الزیبق تحرک فخیّل لموسی أنها حیّات تسعی ولم یکن لها حقیقة ، وکان هذا فی أشدّ وقت السحر ، فألقی موسی عصاه فأبطل علیهم السحر فآمنوا به . وأیضاً فإنّ الواحد منّا لا یصحّ أن یفعل فی غیره ، ولیس بینه اتصال ، ولا اتصال بما اتصل بما فعل فیه ، فکیف یفعل من هو ببغداد فی من هو بخراسان وأبعد منها ؟ ولا ینفی هذا قوله تعالی : «وَلَکِنَّ الشَّیْاطِینَ کَفَرُواْ یُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ»(4) لأنّ ذلک لا

ص:207


1- (7) بحار الأنوار 56 / 310 (22 / 674) .
2- (8) المبسوط 7 / 260 .
3- (1) سورة طه / 66 و 67 .
4- (2) سورة البقرة / 102 .

یمنع منه ، و إنّما الذی منعنا منه أن یؤثر التأثیر الذی یدّعونه ، فأمّا أن یفعلوا ما یتخیّل عنده أشیاء فلا یمنع منه ... »(1) .

وقال العلامة الحلی فی التذکرة : « تعلّم السحر وتعلیمه حرام ، وهو کلام یتکلّم به أو یکتبه أو رُقیّة(2) أو یعمل شیئاً [ یؤثّر ] فی بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غیر مباشرة . وهل له حقیقة ؟ قال الشیخ : لا إنّما هو تخییل ، وعلی کلِّ تقدیر لو استحلّه قُتل . ویجوز حلّ السحر بشیءٍ من القرآن أو الذکر والأقسام(3) ، لا بشیءٍ منه ... »(4) .

وذکر نحو ذلک فی التحریر(5) والقواعد(6) مع اختیار قول الشیخ فی الأخیر بأن لیس للسحر حقیقة وإنّما هو تخییل .

وقال ولده فخر المحققین فی الإیضاح : « المراد بالسحر استحداث الخوارق بمجرد التأثیرات النفسانیة أو بالإستعانة بالفلکیات فقط ، أو علی سبیل تمزیج القوی السماویة بالقوی الأرضیة ، أو علی سبیل الإستعانة بالأرواح الساذجة . وقد خص أهل المعقول الأوّل باسم السحر والثانی بدعوة الکواکب والثالث بالطلسمات والرابع بالعزائم ، وکلّ ذلک محرّم فی

شریعة الإسلام ومستحلِّه کافر . أمّا علی سبیل الاستعانة بخواص الأجسام السفلیة فهو علم الخواص أو الاستعانة بالنسب الریاضیة وهو علم الحیل وجرّ الأثقال ، وهذان النوعان الأخیران لیسا من السحر . إذا عرفت ذلک فنقول : اختلف الفقهاء فی أنّ السحر - لا بمعنی دعوة الکواکب ، فإنّ الکواکب لا تأثیر لها قطعاً - هل له حقیقة (أی تأثیر) أو تخیّل لا حقیقة له ، بمعنی عدم التأثیر ، ذهب بعضهم إلی الأوّل وآخرون إلی الثانی ، ومأخذ القولین قوله

ص:208


1- (3) الخلاف 5 / 327 المسألة 14 .
2- (4) رُقیة بضم الراء : العوذة کما فی جامع المقاصد 4 / 29 .
3- (5) الأقسام : بفتح الهمزة جمع قُسَم ، ولا تمتنع قراءته بکسرها علی أنّه مصدر أقسم . کما فی جامع المقاصد 4 / 30 .
4- (6) تذکرة الفقهاء 12 / 144 المسألة 650 .
5- (7) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 260 المسألة 3020 .
6- (8) قواعد الأحکام 2 / 9 .

تعالی : «فَیَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا یُفَرِّقُونَ بِهِ بَیْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّینَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ»(1) الآیة . ثمّ تصدی للنقص قدس سره فی النقض والإبرام فی أدلة الطرفین بوجه تام وقال فی آخر کلامه : - واعلم أنّ الحقَّ عندی أنّه لا تأثیر له ولا حقیقة»(2) .

وقال الشهید : « تحرم الکهانة والسحر بالکلام والکتابة والرقیة والدخنة بعقاقیر الکواکب وتصفیة النفس والتصویر والنفث والأقسام والعزائم بما لا یُفهم معناه ویضرّ بالغیر فعله ، ومن السحر الاستخدام للملائکة والجنّ والاستنزال للشیاطین فی کشف الغائب وعلاج المصاب .

ومنه : الاستحضار بتلبّس الروح ببدن منفعل کالصبی والمرأة وکشف الغائب عن لسانه ، ومنه : النیرنجیّات ، وهی إظهار غرائب خواص الإمتزاجات وأسرار النیّرین ، وتلحق به الطلسمات ، وهی تمزیج القوی العالیة الفاعلة بالقوی السافلة المنفعلة لیحدث عنها فعل غریب . فعمل هذا کلّه والتکسب به حرام ، أمّا علمه لیتوقّی أو لئلا یعتریه فلا ، وربّما وجب علی الکفایة لیدفع المتنبّی ء بالسحر ، ویقتل مستحلّه ، ویجوز حلّه بالقرآن والذکر والإقتسام لا به ، وعلیه یحمل روایة العلا بحلّه(3) . والأکثر علی أنّه لا حقیقة له بل هو تخیّل ، وقیل : أکثره تخییل وبعضه حقیقیٌ لأنّه تعالی وصفه بالعظمة فی سحرة فرعون . ومِن التخیّل السیمیا وهی إحداث خیالات لا وجود لها فی الحس للتأثیر فی شی ءٍ آخر وربّما ظهر إلی الحس ... »(4) .

وقال ثانی الشهیدین فی تعریف السحر : « هو کلام أو کتابة أو رقیة أو أقسام أو عزائم

ص:209


1- (1) سورة البقرة / 102 .
2- (2) إیضاح الفوائد 1 / (407 _ 405) .
3- (3) وهی هذه الروایة : العلا عن محمد بن مسلم قال : سألته عن المرأة یعمل لها السحر یحلّونه عنها ؟ قال : لا أری بذلک بأساً . مفتاح الکرامة 12 / 237 والجواهر 22 / 76 ولکن لم نجدها فی الجوامع الحدیثیة . والروایة مرسلة سنداً .
4- (4) الدروس الشرعیة 3 / 164 طبع جماعة المدرسین وفیه أغلاط مطبعیة صححناها بما نقله عنه فی بحار الأنوار 60 / 30 (24 / 253) .

ونحوها یحدث بسببها ضرر علی الغیر ، ومنه عقد الرجل عن زوجته بحیث لا یقدر علی وطئها وإلقاء البغضاء بینهما ، ومنه استخدام الملائکة والجن واستنزال الشیاطین فی کشف الغائبات وعلاج المصاب واستحضارهم وتلبّسهم ببدن الصبی أو امرأة وکشف الغائب علی لسانه ... »(1) .

وقال جدنا الفقیه الشیخ جعفر بعد الإشکال فی التعاریف الماضیة وأنّ المرجع فیه إلی العرف العام أنّه : « عبارة عن إیجاد شیء تترتّب علیه آثار غریبة وأحوال عجیبة بالنسبة إلی العادات ، بحیث تشبه الکرامات وتِوْهِم أنّها من المعاجز المثبتة للنبوات من غیر استناد إلی الشرعیات بحروز أو أسماء أو دعوات أو نحوها من المأثورات(2) . وأمّا ما اُخذ من الشرع کالعُوَذ والهیاکل وبعض الطلسمات فلیست منه بل هی بعیدة عنه ... »(3) .

واعترض علیه فی الجواهر بعد نقل تعریفه : « ... لکنّه کماتری لا یرجع إلی محصَّل ، وأین العرف العام وتمییز جمیع أقسام السحر الذی هو علم عظیم طویل الذیل کثیر الشعب لا یعرفه إلاّ الماهرون فیه ؟ ! ولیس مطلق الأمر الغریب سحراً ، فإنّ کثیراً من العلوم کعلم الهیئة والجفر والترازجیة - وهو أسرار الجفر - وغیرها یظهر من العالِم بها بعض الآثار العجیبة الغریبة ، و یکفیک ما یصنعه الأفرنج فی هذه الأزمنة من الغرائب ، ولسیت هی من السحر الحرام قطعاً »(4) .

وقال النراقی : « والذی یظهر من العرف والتتّبع فی موارد الاستعمال أنّه عمل یوجب حدوث أمر منوط بسبب خفی غیر متداول عادةً ، لا بمعنی أنّ کلّما کان کذلک هو سحر ، بل بمعنی أنّ السحر کذلک .

وتوضیح ذلک : أنّ ذلک تارة یکون بتقویة النفس وتصفیتها حتّی یقوی علی مثل ذلک العمل ، کما هو دأب أهل الریاضة ، وعلیه عمل أهل الهند .

ص:210


1- (1) مسالک الأفهام 3 / 128 .
2- (2) أی المأثورات عند السَحَرة .
3- (3) شرح القواعد 1 / 243 .
4- (4) الجواهر 22 / 81 .

واُخری : باستعمال القواعد الطبیعیّة أو الهندسیة أو المداواة العلاجیّة ، وهو المتداول عند الأفرنجیّین .

وثالثة : تسخیر روحانیّات الأفلاک والکواکب ونحوها ، وهو المشهور عن الیونانیین والکلدانیین .

ورابعة : بتسخیر الجنّ والشیاطین .

وخامسة : بأعمال مناسبة للمطلوب ، کتماثیل أو نقوش أو عُقد أو نُفث أو کُتب منقسماً إلی رُقیة(1) وعزیمة(2) أو دُخنة(3) فی وقت مختار ، وهو المعروف عن النبط .

وسادسة : بذکر أسماء مجهولة المعانی وکتابتها بترتیب خاص ، ونسب ذلک إلیالنبط والعرب .

وسابعة : بذکر ألفاظ معلومة المعانی غیر الأدعیة .

وثامنة : بالتصرف فی بعض الآیات أو الأدعیة أو الأسماء ، من القلب أو الوضع فی اللوح المربّع ، أو مع ضمّه مع عمل آخر من عقد أو تصویر أو غیرهما .

وتاسعة : بوضع الأعداد فی الألواح .

ولا شک فی عدم کون الأوّلیّن سحراً ، کما أن الظاهر کون الخامس سحراً والبواقی مشتبهة ، والأصل یقتضی فیها الإباحة ، إلاّ ما عُلمت حرمته من جهة الإجماع ، کما هو الظاهر فی التسخیرات»(4) .

أقول : لابدّ من أن یؤخذ موضوع السحر وتعریفه من العرف ، کما اعترف بذلک العلامة الحلی فی المنتهی(5) وتبعه غیره مِن الأعلام ، نحو الشیخ جعفر(6) والنراقی(7) والمؤسس

ص:211


1- (1) الرُقیة : العُوذَة .
2- (2) عزیمة ، جمعه العزائم : الرقی .
3- (3) دخنة : ذریرة تدخّن بها البیوت .
4- (4) مستند الشیعة 14 / 115 و 114 .
5- (5) منتهی المطلب 2 / 1014 طبع الحجری .
6- (6) شرح القواعد 1 / 243 .
7- (7) مستند الشیعة 14 / 114 .

الحائری قدس سرهم (1) .

وإشکال صاحب الجواهر رحمه الله بأنّ « ... أین العرف العام وتمییز جمیع أقسام السحر الذی هو علم عظیم طویل الذیل ، کثیر الشعب لا یعرفه إلاّ الماهرون فیه ؟ ! »(2) فی غیر محلّه ، لأن أخذ الموضوع والتعریف من العرف لا یوجب أن یکون العرف العام وأصحابه من

السَحَرة العالمین به ، کما أن العرف یعرفون الطبیب والطب ولیسوا أطباء ولاعارفین به .

والذی یظهر مِنْ مراجعة العرف وکلمات أهل اللغة والفقهاء أنّ المراد بلفظ « السحر » ومترادفه بالفارسیة « جادو» هو : کلُّ أمرٍ یوجب قلب الشیءِ عن واقعه وحقیقته ویخرج الباطل فی صورة الحقّ علی سبیل الخدیعة ، ویکون مأخذه ما لطف ودقَّ بحیث لا یظهر لکلّ أحدٍ بل یخفی سببه . ویمکن أن یکون بالتأثیرات النفسانیة أو بمعونة الشیاطین والأجنة أو بتلبس روحٍ ببدنٍ منفعلٍ أو غیرها ، سواء کان بکلامٍ أو کتابٍ أو رُقیّةٍ أو عزیمةٍ أو قسمٍ أو دُخنةٍ أو نقشٍ أو عقدٍ أو نفثٍ أو عددٍ أو لوحٍ أو عملٍ ، ویحدث بسببه ضررٌ علی الغیر غالباً ، أو أمرٌ خارق للعادة أو أثرٌ غریبٌ أو حالٌ عجیبٌ ونحوها .

وهذا التعریف لیس بالحدّ والرسم التامّین ، ولکن یدخل فیه أکثر موارد السحر ومصادیقه ، وهذا یکفی فی صحة التعریف المأخوذ مِن العرف ظاهراً .

ویظهر من التعریف أنّ للسحر أثراً عجیباً أو یترتب علیه أمرٌ أو حالٌ غریبٌ أو ضررٌ علی الغیر بنحو یخرق العادة ، کما یعقد الرجل عن وط ء زوجته أو یلقی البغضاء بینهما أو یلقی المحبّة الشدیدة أو التعشق بین الرجل والمرأة الأجنبییّن أو الإختلال فی عقل الرجل أو عاطفة المرأة أو بدنهما ونحوها .

وبعد ثبوت الأثر للسحر فالبحث عن کونه حقیقة أو تخیّل لا فائدة فیه ، والعمدة حینئذ أثره لا مؤثره ، سواء کان المؤثرُ أمراً خیالیّاً أو حقیقیاً .

نعم ، لا یکون البحث عن مؤثره ساقطاً عن الإعتبار ، ویکون نزاعاً لفظیّاً ، کما علیه

ص:212


1- (8) المکاسب المحرمة / 148 لآیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی قدس سره .
2- (9) الجواهر 22 / 81 .

بعض(1) ، وتعریفنا من السحر یجتمع مع المسلکین : الحقیقیة والخیال ، لأنّ الأمر المأخوذ فیه یشملهما .

ذهب إلی مسلک خیالیة السحر جماعة من العامة ، نحو : أبی جعفر الأسترابادی من أصحاب الشافعی والمغربی من أهل الظاهر _ کما نقل عنهما الشیخ فی الخلاف(2) _ والفخر الرازی(3) و البیضاوی(4) والواحدی(5) _ کما نقل عنهم السید العاملی فی مفتاح الکرامة(6) _

وغیرهم .

ومِن الخاصة : الشریف المرتضی(7) والشیخ فی الخلاف(8) والمبسوط(9) والتفسیر(10) والعلامة فی کتبه : المنتهی(11) والتذکرة(12) والقواعد(13) والتحریر(14) وولده فی الإیضاح(15) .

ومن المتأخرین : المحقق الإیروانی(16) وتبعه المحققون الخوئی(17)

ص:213


1- (1) هو الفقیه السید عبد الأعلی السبزواری فی مهذب الأحکام 16 / 100 .
2- (2) الخلاف 5 / 327 .
3- (3) التفسیر الکبیر 3 / 205 .
4- (4) أنوار التنزیل 1 / 363 .
5- (5) تفسیر الواحدی 1 / 348 المطبوع فی حاشیة تفسیر الطبری .
6- (6) مفتاح الکرامة 12 / 231 .
7- (1) رسالة الحدود والحقائق المطبوعة ضمن رسائل الشریف المرتضی 3 / 272 .
8- (2) الخلاف 5 / 328 .
9- (3) المبسوط 7 / 260 .
10- (4) التبیان 1 / 374 .
11- (5) منتهی المطلب 2 / 1014 الطبع الحجری .
12- (6) تذکرة الفقهاء 12 / 144 .
13- (7) قواعد الأحکام 2 / 9 .
14- (8) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 260 .
15- (9) إیضاح الفوائد 1 / 407 .
16- (10) حاشیة المکاسب 1 / 170 .
17- (11) مصباح الفقاهة 1 / 286 .

والسبزواری(1) والقمی(2) .

وذهب إلی مسلک حقیقة السحر أو حقیقة بعضه أو التشکیک فی خیالیته ، أکثر العامة ، نحو : أبی حنیفة وأصحابه ومالک والشافعی _ کما نقل عنهم الشیخ فی الخلاف(3) _ .

وبعض الخاصة ، نحو : الشهید فی الدروس(4) والکرکی فی جامع المقاصد(5) وثانی الشهیدین فی المسالک(6) والأردبیلی فی مجمع الفائدة(7) والمجلسی فی بحار الأنوار(8) وکاشف الغطاء فی شرح القواعد(9) والنراقی فی المستند(10) والعاملی فی مفتاح الکرامة(11) وصاحب

الجواهر(12) وتلمیذه السید علی آل بحر العلوم فی برهان الفقه(13) وشیخنا الاُستاذ(14) _ مدظله _ .

والحقّ : أنّ لبعض موارد السحر واقعیةً وحقیقةً ، کما أنّ بعض موارده من قبیل التخیّل والتوهم ، والکلّ متفق بثبوت الأثر للسحر کما مرّ منّا .

ولذا قال الشهید الثانی : « الحقّ أن تأثیره فی بدن المسحور أمر محقّق لا شبهة فیه ، نعم

ص:214


1- (12) مهذب الأحکام 16 / 99 .
2- (13) عمدة المطالب 1 / 223 .
3- (14) الخلاف 5 / 327 .
4- (15) الدروس الشرعیة 3 / 164 .
5- (16) جامع المقاصد 4 / 30 .
6- (17) مسالک الأفهام 3 / 128 .
7- (18) مجمع الفائدة 8 / 78 .
8- (19) بحار الأنوار 60 / 39 (24 / 260) .
9- (20) شرح القواعد 1 / 244 .
10- (21) مستند الشیعة 14 / 111 .
11- (22) مفتاح الکرامة 12 / 232 .
12- (1) الجواهر 22 / 87 .
13- (2) برهان الفقه ، کتاب التجارة / 29 الطبع الحجری .
14- (3) إرشاد الطالب 1 / 163 .

کونه موهماً لحیّات تسعی ونحوه تخییل ، وبهذا یجمع بین الأدلة الدالة علی الطرفین مع ضعف دلالة کثیر منها»(1) .

ویؤید ما ذکرنا : خبر عیسی بن سیفی عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : حلّ ولا تعقد(2) .

وخبر الصدوق فی العیون بإسناده عن الرضا علیه السلام فی حدیث : «وَمَا أُنزِلَ عَلَی الْمَلَکَیْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ» یتعلّمون من هذین الصنفین ما یفرّقون به بین المرء وزوجه ، هذا ما یتعلّم الإضرار بالناس ، یتعلّمون التضریب بضروب الحیل والتمائم والإیهام ، وأنّه قد دفن فی موضع کذا وعمل کذا لیحبب المرأة إلی الرجل والرجل إلی المرأة ویؤدی الی الفراق بینهما ، فقال عزّ وجل : «وَمَا هُم بِضَآرِّینَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ» أی ما المتعلّمون بذلک بضارین من أحد إلاّ بإذن اللّه ، یعنی بتخلیة اللّه وعلمه ، فإنّه لو شاء لمنعهم بالجبر والقهر ، الحدیث(3) .

ومرسلة الرضی رفعه إلی أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : العین حقٌّ ، والرُقی حقٌّ ، والسحر حقٌّ ، والفأل حقٌّ ، والطیرة لیست بحقٍّ ، والعَدْوی(4) لیست بحقٍّ والطیب نُشْرَةٌ والعسل نشرة والنظر إلی الخضرة نشرةٌ(5) .

ومرسلة الطبرسی رفعه إلی الصادق علیه السلام أنّه قال فی حدیث طویل : إنّ السحر علی وجوه شتی ، وجه منها بمنزلة الطب ، کما أنّ الأطباء وضعوا لکلِّ داءٍ داوءً فکذلک علم السحر ، احتالوا لکلِّ صحةٍ آفةً ولکلِّ عافیةٍ عاهةً ولکلِّ معنی حیلةً ، الحدیث(6) .

وبما ذکرنا من التعریف یظهر الفوارق الرئیسیة بین السحر والمعجزة والکرامة ، لأنّ المعجزة والکرامة لا خدعة فیهما ، ولا یخرجان الباطل فی صورة الحقّ ، ولا یکونان بمعونة

ص:215


1- (4) فوائد القواعد / 518 .
2- (5) وسائل الشیعة 17 / 145 ح 1 . الباب 25 من أبواب ما یکتسب به .
3- (6) عیون أخبار الرضا علیه السلام 1 / 266 ح 1 ونقل مختصره فی وسائل الشیعة 17 / 147 ح 4 .
4- (7) انتقال المرض مِن مریض إلی سلیم .
5- (8) نهج البلاغة الحکمة 400 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 5 / 64 ح 7 .
6- (9) الاحتجاج 2 / 339 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 5 / 66 ح 10 .

الشیاطین والأجنة ، بل إنّهما علی سبیل الحقیقة وإراءة الواقع واقعاً والحقِ حقّاً ، وکلّ مَنْ تعلّم السحر یمکن أن یأتی به ، وأنّهما لیسا بالتعلّم والتتلمذ ، فالسحر علم والمعجزة والکرامة إظهار القدرة للّه تعالی علی ید أنبیائه واُولیائه علیهم السلام إذا کانت المصلحة تقتضیهما . فالفرق بین السحر وبینهما أساسیٌ ورئیسیٌ وسنخیٌ ، ولا یتشبهما الناسُ بالسحرِ ولا السَحَرة بهم . ولذا حیث رأی السحرة إعجاز عصا موسی ، یقول اللّه تعالی عنهم : «وَأُلْقِیَ السَّحَرَةُ سَاجِدِینَ * قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِینَ * رَبِّ مُوسَی وَهَارُونَ»(1) . والتفصیل مؤکولٌ إلی علم الکلام .

تنبیهٌ : قال العلامة السید محمد حسین الطباطبائی قدس سره ناقلاً عن شیخنا البهائی(2) نوّر اللّه مرقده أنّه قال : « أحسن الکتب المصنفة فی هذه الفنون (أی العلوم الغریبة) کتاب رأیتُهُ ببلدة هرات إسمه (کلّه سر) ، وقد رکّب اسمه من أوائل أسماء هذه العلوم : الکیمیاء ، واللیمیاء ، والهیمیاء ، والسیمیاء ، والریمیاء» انتهی ملخص کلامه(3) .

وقال صاحب المیزان فی تعریف هذه العلوم :

« 1 _ الکیمیاء : علم یبحث عن کیفیة تبدیل صور العناصر بعضها إلی بعضٍ .

2 _ اللیمیاء : علم یبحث عن کیفیة التأثیرات الإرادیة بإتصالها بالأرواح القویّة العالیة ، کالأرواح الموکلة بالکواکب والحوادث وغیر ذلک بتسخیرها أو باتصالها واستمدادها من الجنِّ بتسخیرهم ، وهو فن التسخیرات .

3 _ الهیمیاء : العلم الباحث عن ترکیب قوی العالم العِلوی مع العناصر السفلیة للحصول علی عجائب التأثیر ، وهو الطلسمات .

4 _ السیمیاء : العلم الباحث عن تمزیج القوی الإرادیة مع القوی الخاصة المادیة للحصول علی غرائب التصرف فی الاُمور الطبیعیة ، ومنه التصرف فی الخیال المسمی بسحر العیون ، وهذا الفن من أصدق مصادیق السحر .

5 _ الریم_یاء : العلم الباحث عن استخدام القوی المادیة للحصول علی آثارها بحیث

ص:216


1- (1) سورة الأعراف / (122 _ 120) .
2- (2) راجع کشکوله 3 / 254 من منشورات لسان الصدق . قم المقدسة ، عام 2006 م .
3- (3) المیزان 1 / 244 .

یظهر للحس أنّها آثار خارقة بنحو من الأنحاء ، وهو الشعبذة» .

ثمّ ذکر بعض العلوم الملحقة بها مع تسمیة بعض کتبه ، فراجعه إن شئت(1) .

هذا کلّه فی المقام الأوّل - أعنی موضوع علم السحر - وأمّا حکمه :

المقام الثانی : حکم السحر

اشارة

تعلیم السحر وتعلّمه حرام بین المسلمین ، وتدلّ علیه الأدلة الأربعة :

الأوّل : الإجماع

قال الشیخ : « ولا خلاف بینهم (أی بین الفقهاء من المسلمین) أن تعلیمه وتعلّمه وفعله محرّم ، لقوله تعالی : «وَلَکِنَّ الشَّیْاطِینَ کَفَرُواْ یُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ»(2) فذمَّ علی تعلیم السحر»(3) .

وقال الأردبیلی : « فکأنّ تحریم السحر وتعلیمه وتعلّمه وأخذ الاُجرة علیه ... إجماع (إجماعی _ خ ل) بین المسلمین»(4) .

وقال المحقق السبزواری : « وعمل السحر والتکسّب به حرام بلا خلافٍ »(5) .

وقال البحرانی فی السحر ونحوه من القیافة والکهانة والشعبذة : « ولا خلاف فی تحریم تعلیم الجمیع وأخذ الاُجرة علیه»(6) .

وذکر الوحید البهبهانی الإجماع علی الحرمة فی حاشیته علی مجمع الفائدة والبرهان(7) . وقال السید العاملی : « فی الإیضاح والتنقیح بعد ذکر أقسامه : أنّ کلّه حرام فی شریعة

ص:218


1- (1) المیزان 1 / 244 نقلتها مع اختلافٍ فی الترتیب واختصارٍ .
2- (2) سورة البقرة / 102 .
3- (3) المبسوط 7 / 260 .
4- (4) مجمع الفائدة 8 / 78 .
5- (5) الکفایة 1 / 440 .
6- (6) الحدائق 18 / 171 .
7- (7) حاشیة مجمع الفائدة والبرهان / 34 .

المسلمین ومستحلّه کافر»(1) .

وقال فی الجواهر : « بلا خلاف أجده فی الجملة بین المسلمین فضلاً عن غیرهم ، بل هو من الضروریات التی یدخل منکرها فی سبیل الکافرین»(2) .

وقال الشیخ الأعظم : « السحر حرام فی الجملة بلا خلاف بل هو ضروریٌّ»(3) .

وقال المؤسس الحائری : « لا خلاف فی حرمته فی الجملة بین المسلمین ، بل هی من الضروریات التی یدخل منکرها فی عِداد الکافرین»(4) .

وقال المحقق الخوئی : « لا خلاف فی حرمة السحر فی الجملة بل هی من ضروریات الدین وممّا قام علیه إجماع المسلمین»(5) .

وقال الفقیه السبزواری فی الاستدلال علی حرمة السحر : « للنصوص والإجماع بل الضرورة من المذهب ، إن لم تکن من الدین»(6) .

أقول : الإجماع قائم علی حرمة تعلیم السحر وتعلّمه والعمل به وأخذ الاُجرة علیه بین المسلمین ، کما أفتی به الشیخ وقال : « تعلّم السحر وتعلیمه والتکسب به وأخذُ الاُجرة علیه حرام محظور»(7) . ولکن هل هذا الإجماع مدرکیٌّ أم لا ؟ الظاهر أنّه نشأ مِن الأدلة التالیة .

الثانی : الکتاب

تدلّ علی حرمة السحر آیات من الکتاب المجید ، نحو :

قوله تعالی : «مَا کَفَرَ سُلَیْمانُ وَلَکِنَّ الشَّیْاطِینَ کَفَرُواْ یُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا

ص:218


1- (8) مفتاح الکرامة 12 / 226 .
2- (9) الجواهر 22 / 75 .
3- (1) المکاسب المحرمة / 32 الطبع الحجری (1 / 257) .
4- (2) المکاسب المحرمة / 142 لشیخنا آیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی قدس سره .
5- (3) مصباح الفقاهة 1 / 283 .
6- (4) مهذب الأحکام 16 / 99 .
7- (5) النهایة / 365 .

أُنزِلَ عَلَی الْمَلَکَیْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا یُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّی یَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَکْفُرْ»(1) .

وقوله تعالی : «وَلاَ یُفْلِحُ السَّاحِرُونَ»(2) ، ثمّ قال تعالی بعد ثلاث آیات : «قَالَ مُوسَی مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَیُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ یُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِینَ»(3) .

وقوله تعالی : «وَأَلْقِ مَا فِی یَمِینِکَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا کَیْدُ سَاحِرٍ وَلاَ یُفْلِحُ السَّاحِرُ حَیْثُ أَتَی»(4) .

وظهور الآیات فی الحرمة یکفینا عن التفسیر والتقریب وتکثیر الکلام .

الثالث : السنة

الروایات المستفیضة بل المتواترة من السنة الشریفة تدلّ علی حرمة السحر وتعلیمه وتعلّمه والعمل به وأخذ الاُجرة علیه :

منها : صحیحة عبد العظیم الحسنی عن أبی جعفر الثانی الجواد علیه السلام فی حدیث الکبائر : والسحر لأنّ اللّه عزّ وجل یقول : «وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِی الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ»(5) ، الحدیث(6) .

ومنها : معتبرة السکونی عن جعفر بن محمد علیه السلام عن أبیه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : ساحر المسلمین یُقتل وساحر الکفار لا یُقتل ، قیل : یا رسول اللّه لم لا یُقتل ساحر الکفار ؟ قال : لأنّ الشرک أعظم من السحر ، لأنّ السحر والشرک مقرونان(7) .

ص:219


1- (6) سورة البقرة / 102 .
2- (7) سورد یونس / 77 .
3- (8) سورة یونس / 81 .
4- (9) سورة طه / 69 .
5- (1) سورة البقرة / 102 .
6- (2) الکافی 2 / 285 ح 24 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 9 / 269 ح 11 .
7- (3) وسائل الشیعة 17 / 146 ح 2 . الباب 25 من أبواب ما یکتسب به .

رواها الکلینی أیضاً بسنده المعتبر فی الکافی الشریف 7 / 260 ح 1(1) .

ومنها : مصححة زید الشحام عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الساحر یُضرب بالسیف ضربةً واحدةً علی اُمّ رأسه(2) .

سند الروایة صحیح إن کان المراد بالبشار الراوی قبل الشحام هو بشار بن یسار الضُبَعِیّ الکوفی الثقة ، روی هو وأخوه عن أبی عبد اللّه علیه السلام وأبی الحسن علیه السلام (3) . کما هو الظاهر . ولا یضرّ جهالة حبیب بن الحسن ، لأنّ معه فی السند محمد بن یحیی ومحمد بن الحسین کما فی نقل الکلینی(4) أو محمد بن الحسین فقط کما فی نقل الشیخ(5) .

ومنها : موثقة عمرو بن خالد عن زید بن علی عن آبائه علیهم السلام قال : سئل رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم عن الساحر فقال : إذا جاء رجلان عدلان فَشَهدا بذلک علیه فقد حلّ دمه(6) .

ومنها : حسنة إسحاق بن عمار عن جعفر علیه السلام عن أبیه علیه السلام أنّ علیّاً علیه السلام کان یقول : من تعلّم شیئاً من السحر کان آخر عهده بربّه ، وحدّه القتل إلاّ أن یتوب ، الحدیث(7) .

وهذه الروایة عامة تشمل حرمة تعلّم السحر وعمله ، وحملها علی العمل فقط تخصیص بلا وجه .

ومنها : خبر أبی البختری عن جعفر بن محمد عن أبیه علیه السلام أنّ علیّاً علیه السلام قال : من تعلّم شیئاً من السحر قلیلاً أو کثیراً فقد کفر ، وکان آخر عهده بربّه ، وحدّه أن یُقتل إلاّ أن یتوب(8) .

ومنها : مرسلة الرضی رفعه إلی أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال فی خطبة : المنجم کالکاهن

ص:220


1- (4) کما نقل عنه فی وسائل الشیعة 28 / 365 ح 1 . الباب 1 من أبواب بقیة الحدود .
2- (5) وسائل الشیعة 28 / 366 ح 3 .
3- (6) رجال النجاشی / 113 الرقم 290 .
4- (7) الکافی 7 / 260 ح 2 .
5- (8) التهذیب 10 / 147 ح 15 .
6- (9) التهذیب 6 / 283 ح 185 و 10 / 147 ح 16 و نقل عن الأخیر فی وسائل الشیعة 28 / 367 ح 1 .
7- (1) وسائل الشیعة 28 / 367 ح 2 .
8- (2) وسائل الشیعة 17 / 148 ح 7 .

والکاهن ، کالساحر ، والساحر کالکافر ، والکافر فی النار ، سیروا علی اسم اللّه(1) .

رواها الصدوق فی الخصال 1 / 297 ح 67 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 143 ح8 .

ومنها : خبر أبی موسی الأشعری قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : ثلاثة لا یدخلون الجنة مدمن خمر ، ومدمن سحر ، وقاطع رحم ، الحدیث(2) .

ومنها : خبر علی بن الجهم عن الرضا علیه السلام فی حدیث : وأما هاروت وماروت فکانا ملکین علّما الناس السحر لیحترزوا به سحر السحرة ویبطلوا به کیدهم ، وما علّما أحداً من ذلک شیئاً إلاّ قالا : إنّما نحن فتنة فلا تکفر ، فکفر قوم باستعمالهم لما اُمروا بإلاحتراز منه ، وجعلوا یفرّقون بما تعلّموه بین المرء وزوجه ، قال اللّه تعالی : «وَمَا هُم بِضَآرِّینَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ» یعنی بعلمه(3) .

ومنها : خبر نصر بن قابوس قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : المنجم ملعون ، والکاهن ملعون ، والساحر ملعون ، الحدیث(4) .

وهذه الروایات وما شابهها منها مایدلّ بوضوح علی حرمة تعلیم وتعلّم السحر والتکسب به وأخذ الأجرة علیه والعمل علی طبقه .

الرابع : حکم العقل

العقل مستقل بقبح الخدیعة وإخراج الباطل فی صورة الحقّ وقلب الشیء عن واقعه وحقیقته ، وهذا القبح العقلی یستلزم الحکم الشرعی بقاعدة الملازمة .

المقام الثالث : فروع البحث

اشارة

إنّ هاهنا فروعاً یحسن التنبیه علیها والبحث حولها :

الفرع الأول: حرمته مطلقة من دون تقیید بالعمل الحرام أو نیته

الفرع الأوّل : حرمة تعلیم وتعلّم السحر مطلقة فی روایاتنا کما مرّ آنفاً ، ولم تقید

ص:221


1- (3) نهج البلاغة . الخطبة 79 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 5 / 64 ح 6 .
2- (4) وسائل الشیعة 17 / 148 ح 6 .
3- (5) وسائل الشیعة 17 / 147 ح 5 .
4- (6) وسائل الشیعة 17 / 143 ح 7 .

بالعمل الحرام أو نیّته ، بحیث لو لم ینو هذا أو لم یقصد الحرام أو لم یترتب علیه لم یکن حراماً ، بل حرمته مطلقة ، سواء قصد الحرام أو لم یقصده ، وسواء ترتب علیه الحرام فی الخارج أو لم یترتب ، ولذا لو سحر لأجل جلب محبّة الزوج إلی زوجته أو توفیق إنسان فی عبادة اللّه تعالی وتحصیله للعلم أو دفع العقارب والحیات والبراغیث ونحوها من المنافع العقلائیة کان حراماً ویکون تحصیله وتعلّمه حراماً أیضاً ، للإطلاقات الورادة فی الروایات .

خلافاً للشیخ الأکبر کاشف الغطاء(1) حیث قیّد الحرمة بالعمل ونیته ، فالسحر عنده حرام إذا کانت غایته المترتبة علیه حراماً ، وعلی فرض عدم ترتب الغایة إذا کانت نیته حراماً . وتبعه علی هذا التقیید تلمیذه صاحب الجواهر(2) ، وتلمیذ صاحب الجواهر السید علی آل بحر العلوم(3) والمؤسس الحائری(4) .

وأنت تری إطلاق الروایات وعدم وجود التقیید فیها وافقنا علی حرمة تعلّم السحر وتعلیمه مطلقاً ؟ السید العاملی فی مفتاح الکرامة(5) .

الفرع الثانی: هل یجوز الحرمة بوجود المضر منه؟

الفرع الثانی : هل یجوز تعلّم السحر فقط من دون قصد العمل به ؟ لأنّه مرتبة من الفضل ، والعلم فی حدِّ ذاته شریف وأنّه خیر من الجهل ، أو أنّه لا یجوز مطلقاً ذهب إلی الأوّل کاشف الغطاء(6) وتابعه صاحب الجواهر(7) وتلمیذه السید علی آل بحر العلوم(8) والمؤسس

الحائری(9) .

ص:223


1- (1) شرح القواعد 1 / 239 .
2- (2) الجواهر 22 / 79 .
3- (3) برهان الفقه _ کتاب التجارة / 26 الطبع الحجری .
4- (4) المکاسب المحرمة / 153 لآیة اللّه الشیخ محمّد علی الأراکی .
5- (5) مفتاح الکرامة 12 / 227 .
6- (6) شرح القواعد 1 / 239 .
7- (7) الجواهر 22 / 78 .
8- (8) برهان الفقه _ کتاب التجارة / 30 الطبع الحجری .
9- (1) المکاسب المحرمة / 153 لآیة اللّه الشیخ محمّد علی الأراکی .

ولکن ظاهر المشهور علی الثانی ، والحقّ قول المشهور ، للإطلاق الوارد فی الروایات .

مضافاً إلی دلالة حسنة إسحاق بن عمار(1) وخبر أبی البختری(2) الماضیتین علی حرمة تعلّم السحر .

الفرع الثالث : هل تختص الحرمة بوجود المضر منه ؟

ذهب الشهیدان فی الدروس(3) والمسالک(4) إلی الاختصاص ، ووافقهما الکاشانی فی مفاتیح الشرائع(5) ، وهو ظاهر العلاّمة فی کتبه(6) ، حیث قیّد تعریفه بما « یؤثر فی بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غیر مباشرة» . وظاهر هذا التعریف وتقییده بالتأثیر یعنی إذا لم یوجب ذلک فلا حرمة ، ومن الواضح إنّ هذا التأثیر یکون بالإضرار غالباً وعلی هذا یمکن عدّ العلامة الحلی من القائلین بالاختصاص .

ویؤیدهم بعض الروایات الواردة فی قصة هاروت وماروت ، نحو : خبر محمد بن زیاد ومحمد بن سیار عن الحسن بن علی العسکری علیه السلام عن آبائه علیهم السلام فی حدیث : فلا تکفر بإستعمال هذا السحر وطلب الإضرار به إلی أن قال : ویتعلّمون ما یضرّهم ولا ینفعهم ، لأنّهم إذا تعلّموا ذلک السحر لیسحروا ویضرّوا به فقد تعلّموا ما یضرّهم فی دینهم ولا ینفعهم فیه ، الحدیث(7) .

ولکن الصحیح - کما ذهب إلیه المشهور - عدم ثبوت اختصاص الحرمة بوجود المضر منه ، بل الحرمة للسحر ثابتة حتّی إذا لم یکن فی البین المضر منه والإضرار . وبعبارة اُخری : نفس عمل السحر حرام حتّی إذا لم یترتب علیه ضررٌ ولم یضر منه أحدٌ ، نحو أن یعمل

ص:223


1- (2) وسائل الشیعة 28 / 367 ح 2 .
2- (3) وسائل الشیعة 17 / 148 ح 7 .
3- (4) الدروس 3 / 164 .
4- (5) المسالک 3 / 128 .
5- (6) مفاتیح الشرائع 1 / 24 .
6- (7) تذکرة الفقهاء 12 / 144 وقواعد الأحکام 2 / 9 والتحریر 2 / 260 .
7- (8) وسائل الشیعة 17 / 147 ح 4 .

الساحر أمراً فی الجو والسماء والفضاء والأرض ولکن لم یتضرر منه أحدٌ ، أو إحداث المنفعة والحبّ المفرط للغیر من دون ترتب الإضرار علی أحدٍ ، فهذا أیضاً حرام لإطلاق الأدلة

الواردة فی حرمة السحر ، ولم یقیّدها الروایات المقیدة ، لأنّها أیضاً من المثبتات وضعف إسنادها .

نعم ، یمکن القول بتشدید الحرمة فی صورة الإضرار ، لأنّ السحر حرام والإضرار بالغیر حرام آخر ، فصار فی مورد الاجتماع حرمان مجتمعان .

الفرع الرابع : هل یجوز رَفع ضرر السحر بالسحر أو إبطاله به ؟

ذهب إلی جواز حلّ السحر بشیءٍ من القرآن والذکر والدعاء والأقسام لا بشیءٍ من السحر ، جماعة منهم : العلاّمة فی القواعد(1) والتحریر(2) والتذکرة(3) .

ویمکن أن یُستدل لهم بأنّ : السحر حرام فی حدِّ ذاته فلا یجوز استعماله حتّی فی إبطاله ودفع الضرر به . والإطلاقات تقتضی ذلک .

ولکن الصحیح جواز دفع ضرر السحر أو إبطاله أو حلّه به ، لما ورد فی ذلک عدّة من الروایات المرخصة ، نحو :

وخبر محمد بن زیاد ومحمد بن سیار عن العسکری علیه السلام عن آبائه علیهم السلام قال فی حدیث فی ذیل قوله تعالی : «وَمَا أُنزِلَ عَلَی الْمَلَکَیْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ» قال : کان بعد نوح علیه السلام قد کثرت السحرة المموهون ، فبعث اللّه عزّ وجل ملکین إلی نبی ذلک الزمان بذکر ما یسحر به السحرة وذکر ما یبطل به سحرهم ویردّ به کیدهم ، فتلقاه النبی عن الملکین وأداه إلی عباد اللّه بأمر اللّه عزّ وجل وأمرهم أن یقفوا به علی السحر وأن یبطلوه ونهاهم أن یسحروا به الناس .إلی أن قال : وما یعلّمان من أحد ذلک السحر وإبطاله حتّی یقولا للمتعلّم إنّما نحن فتنة ، الحدیث(4) .

ص:244


1- (1) القواعد 2 / 9 .
2- (2) التحریر 2 / 260 .
3- (3) تذکرة الفقهاء 12 / 144 .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 147 ح 4 .

ومنها : خبر علی بن الجهم عن الرضا علیه السلام فی حدیث : قال : وأما هاروت وماروت فکانا ملکین علّما الناس السحر لیحترزوا به سحر السحرة ویبطلوا به کیدهم ، الحدیث(1) .

ومنها : خبر إبراهیم بن هاشم عن شیخ من أصحابنا الکوفیین ، قال : دخل عیسی بن سیفی [ شفقی _ شقفی _ سقفی ] علی أبی عبد اللّه علیه السلام وکان ساحراً یأتیه الناس ویأخذ علی

ذلک الأجر ، فقال له : جعلت فداک أنا رجل کانت صناعتی السحر وکنت آخذ علیه الأجر وکان معاشی ، وقد حججت منه ومنّ اللّه علیَّ بلقائک ، وقد تبت إلی اللّه عزّ وجل ، فهل لی فی شیٍّ من ذلک مخرج ؟ فقال له أبو عبد اللّه علیه السلام : حلِّ ولا تعقد(2) .

هذه الروایة رواها المشایخ الثلاثة(3) والحمیری فی قرب الإسناد(4) . ولکنّها ضعیفة الإسناد بدخول مجهول فی السند ، کشیخ من أصحابنا الکوفیین کما فی الکافی ، أو دخول عیسی فی السند کما فی الفقیه وقرب الإسناد ، وهو مهمل .

ولکن دلالتها علی جواز حلّ السحر بالسحر واضحة ، لأنّ حلّ السحر بغیره لا یختص بالساحر ، فما أمره الإمام علیه السلام بحلّ السحر وعطف کلامه ب_ « لا تعقد » ظاهرٌ فی الحلِّ بالسحر . فدلالة الروایة علی جواز حلّ السحر بالسحر تام وحملها علی حلّه بشی ء من القرآن أو الذکر أو الدعاء ونحوها کما عن بعضٍ بعید فی الغایة .

ومنها : مرسلة الصدوق قال : روی : أنَّ توبة الساحر أن یحلَّ ولا یعقد(5) .

ومنها : مرسلة العلاء عن محمد بن مسلم قال : سألته عن المرأة یُعمل لها السحر یحلّونه عنها ؟ قال : لا أری بذلک بأساً(6) .

ص:225


1- (5) وسائل الشیعة 17 / 147 ح 5 .
2- (1) وسائل الشیعة 17 / 145 ح 1 .
3- (2) الکافی 5 / 115 ح 7 _ الفقیه 3 / 180 ح 3677 _ التهذیب 6 / 364 ح 1034 .
4- (3) قرب الإسناد / 52 ح 169 .
5- (4) وسائل الشیعة 17 / 147 ح 3 _ 28 / 365 ح 2 .
6- (5) مفتاح الکرامة 12 / 237 _ الجواهر 22 / 76 .

وأمر هذه الروایة عجیب ، ذکرها الشهیدان فی الدروس(1) والمسالک(2) من دون ذکر متنها ، ولکن لم أجدها فی الجوامع الحدیثیة ، والعلم عند اللّه تعالی . وأمّا دلالتها علی جواز حلّ السحر به ظاهرة .

ومنها : خبر الحلبی قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن النُشْرَةِ للمسحورِ ، فقال : ما کان أبی علیه السلام یری به بأساً(3) .

سندها ضعیف ودلالتها غیر ظاهرة ، لأنّها منوطة بحمل النُشْرَة علی حلّ السحر بالسحر ، وهو محلّ تأمل بل منع .

ومنها : مرسلة أبی منصور الطبرسی : فما تقول فی الملکین هاروت وماروت ؟ وما یقول الناس بأنّهما یعلّمان الناس السحر ؟ قال الصادق علیه السلام : إنّهما موضع إبتلاء وموقع فتنة ، تسبیحهما : الیوم لو فعل الإنسان کذا وکذا لکان کذا وکذا ولو یعالج بکذا وکذا لکان کذا ، أصناف السحر فیتعلّمون منهما ما یَخْرُجُ عنهما ، فیقولان لهم : إنّما نحن فتنة فلا تأخذوا عنّا ما یضرکم ولا ینفعکم ، الحدیث(4) .

دلالة الروایة علی جواز تعلیم وتعلّم السحر لأجل الإبطال ظاهرة ، فإذا جاز التعلّم جاز العمل لأجل الإبطال بطریق أولی .

ودلالة مجموع الروایات المذکورة علی جواز حلّ السحر وإبطاله بالسحر واضح ، ولا یضرّ ضعف أسنادها بعد بلوغها مرتبة الإستفاضة وإفتاء جماعة من الأصحاب بها ، واللّه العالم .

الفرع الخامس : هل یجوز تعلّم السحر لأجل دفع السحر وضرره أو إبطال المدعی للمناصب الإلهیة ؟

ذهب جماعة من الأصحاب قدس سرهم إلی الجواز ، بل ذهب بعضهم إلی الوجوب الکفائی :

ص:226


1- (6) الدروس 3 / 164 .
2- (7) المسالک 3 / 128 .
3- (8) مستدرک الوسائل 13 / 109 ح 10 .
4- (1) الاحتجاج 2 / 340 .

منهم : الشهید قال : « أما علمه لیتوقی أو لئلا یعتریه فلا ، وربّما وجب علی الکفایة لیدفع المتنبّیء بالسحر»(1) . وتبعه الشهید الثانی فی المسالک(2) والروضة(3) ، ونفی عنه البُعد المحقق الثانی وقال : « لیس ببعید إن لم یلزم منه التکلّم بمحرَّم أو فعل ما یحرم»(4) .

والمحقق الإردبیلی فی مجمع الفائدة(5) والبحرانی فی الحدائق(6) وسید الریاض(7) والشیخ جعفر(8) وصاحب الجواهر(9) وتلمیذه السید علی آل بحر العلوم فی برهان الفقه(10)

والمحقق الخوئی(11) وشیخنا الاُستاذ(12) _ مدظله _ .

ویمکن أن یُستدل لهم - مضافاً إلی مرسلة الطبرسی(13) الماضیة فی الفرع السابق - بقاعدة الضرورات التی تبیح المحظورات ، لأنّ السحر الحرام وتعلّمه الحرام إذا کانا لدفع ضرر السحر عن نفسه أو غیره أو دفع فتنة من ادعی النبوة والإمامة من المناصب الإلهیة وإرشاد الناس المجتمعین المغفولین عنده وإفشاء أمره ، صار بقاعدة الضرورة من المحلّلات ، وإذا انحصر الدفع به صار من الواجبات الکفائیة کما علیه جماعة من الأصحاب ، واللّه سبحانه هو العالم .

الفرع السادس : هل یکون التسخیر من السحر أم لا ؟

التسخیرات مختلفة باعتبار المُسْخَر بالفتح ، تارة المسخَر هو القوی المادیة والطبیعیة ، واُخری الأشجار والنباتات والحیوانات ، وثالثة الإنسان وروحه وفکره وجسده ، ورابعة الشیاطین والأجنة ، وخامسة الأرواح سواء کانت من المؤمنین أو الکافرین ، وسادسة الملائکة .

والمسخِر بالکسر فی جمیعها هو الإنسان .

والکلُّ جائز ومباح ، ویدلّ علی ذلک قوله تعالی : «أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَکُم مَّا فِی السَّمَاوَاتِ وَمَا فِی الاْءَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَیْکُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً»(14) وقوله تعالی : «اللَّهُ الَّذِی سَخَّرَ لَکُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِیَ الْفُلْکُ فِیهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ * وَسَخَّرَ لَکُم مَا فِی السَّماوَاتِ وَمَا فِی الأَرْضِ جَمِیعاً مِنْهُ إِنَّ فِی ذلِکَ لاَآیَاتٍ لِقَوْمٍ یَتَفَکَّرُونَ»(15) . وهذه الآیات الشریفة ونظائرها تدلّ بوضوح علی جواز تسخیر ما فی السماوات والأرض للإنسان ، ومنها ما ذکرناها . مضافاً إلی أنّ الأصل فیها الجواز والبراءة من الحرمة .

ولکن إذا صار هذا التسخیر موجباً لتضرر المسخِر بالکسر - نحو تلفه أو جنونه أو مرضه فی العاجل أو الآجل - یکون محرّماً من هذه الجهة .

وهکذا إذا صار هذا التسخیر موجباً لفناء المسخَر بالفتح بالکلیّة بحیث یکون نوع

ص: 196


1- (2) الدروس 3 / 164 .
2- (3) مسالک الأفهام 3 / 128 .
3- (4) الروضة البهیة 3 / 215 .
4- (5) جامع المقاصد 4 / 28 .
5- (6) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 79 .
6- (7) الحدائق 18 / 175 .
7- (8) ریاض المسائل 8 / 166 .
8- (9) شرح القواعد 1 / 240 .
9- (10) الجواهر 22 / 79 .
10- (11) برهان الفقه / کتاب التجارة / 30 و 31 .
11- (1) مصباح الفقاهة 1 / 296 .
12- (2) إرشاد الطالب 1 / 166 .
13- (3) الإحتجاج 2 / 340 .
14- (4) سورة لقمان / 20 .
15- (5) سورة الجاثیة / 12 و 13 .

الإنسان محروماً منه فی الآجل أو یکون المسخَر بالفتح من الإنس والجن والروح مؤمنین أو من الملائکة ویکون التسخیر ظلماً له ویوجب إیذاءه فصار محرَّماً من هذه الجهة .

فظهر ممّا ذکرنا أنّ الحکم الأوَّلی للتسخیرات هو الجواز وأنّها خارجة عن السحر حکماً وموضوعاً .

ومن هنا ظهر حکم عملیة إحضار الأرواح بأنّها جائزة إذا لم تکن موجبة لتضرر المحضِر بالکسر والمحضَر بالفتح إذا کان من المؤمنین .

ص:228

والعجب من الشهید حیث عدّ من السحر بعض التسخیرات وقال : « ومن السحر الإستخدام للملائکة والجن والإستنزال للشیاطین فی کشف الغائب وعلاج المصاب»(1) .

وهکذا عدّ من السحر إحضار الأرواح وقال : « ومنه الاستحضار بتلبّس الروح ببدن متفعّل ، کالصبی والمرأة وکشف الغائب عن لسانه»(2) .

وتبعه فی ذلک ثانیه وقال فی المسالک : « ومنه استخدام الملائکة والجن واستنزال الشیاطین فی کشف الغائبات وعلاج المصاب ، واستحضارهم وتلبّسهم ببدن صبیٍّ أو امرأةٍ وکشف الغائب علی لسانه»(3) .

وتبعهما الکاشانی فی المفاتیح(4) والسید علی آل بحر العلوم فی برهان الفقه(5) والشیخ الأعظم فی المکاسب المحرمة(6) ، ولکن ثانی الشهیدین أخرج الکِهانة التی هی من الاستخدامات والتسخیرات من السحر وقال : « وهو قریب من السحر»(7) . وهکذا الشهید عدّ کلاً منهما علی حدّه(8) .

العلامة یقول فی المنتهی : « فأما الذی یقال من العزم علی المصروع ویزعم أنّه یجمع الجنّ فیأمرها لتطیعه ، فهو عندی باطل لا حقیقة له ، وإنّما هو من الخرافات»(9) .

ووافقنا علی أنّ التسخیرات لیست من السحر جماعة من المحققین ، منهم : الإیروانی(10)

ص:230


1- (1) الدروس 3 / 164 .
2- (2) الدروس 3 / 164 .
3- (3) المسالک 3 / 128 .
4- (4) مفاتیح الشرائع 2 / 24 .
5- (5) برهان الفقه / کتاب التجارة / 28 طبع الحجری .
6- (6) المکاسب المحرمة / 34 الطبع الحجری (1 / 273) .
7- (7) المسالک 3 / 128 .
8- (8) الدروس 3 / 163 .
9- (9) منتهی المطلب 2 / 1014 .
10- (10) حاشیة المکاسب 1 / 172 .

والخوئی(1) والأردکانی(2) قدس سرهم وشیخنا الاُستاذ(3) والقمی(4) _ مدظلهما _ .

الفرع السابع : إذا قتل الساحر أحداً بسحره هل یقتص منه ؟

قال الشیخ فی الخلاف : « إذا أقرّ أنّه سحر فقتل بسحره متعمداً لا یجب علیه القود ، وبه قال أبوحنیفة . وقال الشافعی : علیه القود . دلیلنا : أنّ الأصل براءة الذمة ، وأنّ هذا ممّا یقتل به یحتاج إلی دلیل ... »(5) .

وقال فی المبسوط : « فإذا سحر رجلاً فمات من سحره سئل ، فإن قال سحری یقتل غالباً وقد سحرته وقتلته فعلیه القود ، کما لو أقرّ أنّه قتله بالسیف عمداً ، وقال قوم لا قود علیه بناءً علی أصله أنّه لایقتل إلاّ إذا قتل بالسیف ، وأمّا إذا قتل بالمثقل فلا قود ، لکنّه قال : إن تکرر الفعل منه قتلته حدّاً لأنّه بمنزلة الخناق ، وهو من السعی فی الأرض بالفساد ، والأوّل یقتضیه مذهبنا»(6) .

وأنت تری أنّ الشیخ ذهب فی المبسوط إلی خلاف ما ذهب إلیه فی الخلاف ، ذهب فی مبسوطه إلی ثبوت القود مع إقرار الساحر بأنَّ سحره یقتل غالباً ، وفی خلافه إلی نفیه مطلقاً .

قال المحقق : « السادسة : قال الشیخ : لا حقیقة للسحر ، وفی الأخبار ما یدلّ علی أنّ له حقیقة . ولعلّ ما ذکره الشیخ قریب ، غیر أنّ البناء علی الاحتمال أقرب ، فلو سحره فمات لم یوجب قصاصاً ولادیةً علی ما ذکره الشیخ ، وکذا لو أقر أنّه قتله بسحره ، وعلی ما قلناه من الاحتمال یلزمه الإقرار ، وفی الأخبار یقتل الساحر ، وقال فی الخلاف : یُحمل ذلک علی قتله حدّاً لفساده لا قوداً»(7) .

ص:230


1- (1) مصباح الفقاهة 1 / 296 .
2- (2) غنیة الطالب 1 / 135 .
3- (3) إرشاد الطالب 1 / 168 .
4- (4) عمدة المطالب 1 / 226 .
5- (5) الخلاف 5 / 330 المسألة 16 .
6- (6) المبسوط 7 / 260 .
7- (7) شرائع الإسلام 4 / 182 .

أقول : بناءً علی ما اخترناه من أنّ للسحر حقیقة فإذا قتل الساحرُ أحداً بسحره وأقرّ بذلک أو قامت البینة الشرعیة علیه ، یقتل به ویثبت القصاص ، لإستناد القتل العمدی إلیه وهو الذی یکون موضوعاً للقصاص .

وأمّا بناءً علی مختار الشیخ وأتباعه من أنه لیس للسحر حقیقة بل هو تخیّلٌ محضٌ ، یمکن القول بثبوت القصاص لو قتل الساحر أحداً خلافاً للشیخ فی خلافه ، لأنه قد یترتب علی من لیس له حقیقة أمراً واقعیاً نحو : أن یریه بحراً موّاجاً وسفینة جاریة فیه ویرید المسحور أن یرکبها فیسقط من ارتفاع فیموت ، وفی هذا الفرض ونحوه حیث یمکن استناد القتل إلی الساحر فعلیه القود .

ولذا ذهب الفقیه العاملی إلی ثبوت القصاص علی المسلکین وقال : « إنّ الأقوی الثبوت علی القولین»(1) .

والمحقق الخوئی قدس سره مع أنّه من القائلین بأنّ لیس للسحر حقیقة بل هو تخیّل محض ، ذهب إلی ثبوت القصاص لصحة إستناد القتل(2) .

فعلی ما ذکرناه ظهر عدم تمامیّة جعل هذا الفرع من ثمرات مسلکی الحقیقة والتخیّل ، بحیث یثبت القود بناءً علی الأوّل ثبت القود وبناءً علی الثانی فلا ، کما علیه بعض(3) .

والتفصیل یطلب من کتاب القصاص . واللّه العالم .

الفرع الثامن : هل یحکم بکفر الساحر ؟

قال الشیخ فی المبسوط : « فإذا قال : أنا ساحرٌ ، قلنا صف السحر ، فإن وصفه بما هو کفر فهو مرتدّ یستتاب فإن تاب وإلاّ قتل ، وإن وصفه بما لیس بکفر لکنّه قال : أنا أعتقد إباحته حکمنا بأنّه کافر یُستتاب ، فإن تاب وإلاّ قتل لأنّه اعتقد إباحة ما أجمع المسلمون علی تحریمه ، کما لو اعتقد تحلیل الزنا فإنّه یکفر . وإن قال : أنا ساحر أعمل السحر وأعتقد أنّه حرام لکنّی أعمله ، لم یکفر بذلک ولم یجب قتله ، وقال بعضهم : هو زندیق لا تقبل

ص:231


1- (1) مفتاح الکرامة 12 / 233 .
2- (2) مبانی تکملة المنهاج 2 / 7 .
3- (3) نحو الفقیه الشیخ جعفر فی شرح القواعد 1 / 248 .

توبته ویقتل ، وقال قوم : یقتل الساحر ولم یذکروا هل هو کافر أم لا ؟ وهو الموجود فی أخبارنا»(1) .

وقال فی الخلاف « من استحلّ عمل السحر فهو کافر ووجب قتله بلا خلاف ، ومن لم یستحلّه وقال : هو حرام ، إلاّ أنّی أستعمله کان فاسقاً لا یجب قتله ، وبه قال أبوحنیفة والشافعی . وقال مالک : الساحر زندیق إذا عمل السحر وقوله « لا استحلّه » غیر مقبول ، ولا

تقبل توبة الزندیق عنده . وقال أحمد بن حنبل وإسحاق : یُقتل الساحر ولم یتعرضا لکفره . وقد روی ذلک أیضاً أصحابنا . دلیلنا : أنّ الأصل حقن الدماء ومن أباحها یحتاج إلی شرع ودلیل ... ویدلّ علی صحة ما قلناه ما روی عنه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : اُمرت أن اُقاتل الناس حتّی یقولوا « لا إله إلاّ اللّه » ، فإذا قالوها عصموا بها منّی دماءهم وأموالهم إلاّ بحقِّها ... »(2) .

« إذا قال : أنا أعرف السحر واُحسّنه لکنّی لا أعمل به ، لا شیء علیه . وبه قال الشافعی وأبوحنیفة . وقال مالک : هذا زندیق ، وقد اعترف بذلک فوجب قتله ولا تقبل توبته . دلیلنا : أنّ الأصل براءة الذمة وحقن دمه ، ومن أباحه فعلیه الدلالة»(3) .

أقول : هل یمکن الحکم بکفر الساحر بمحض تعلّم السحر وعمله أم لا ؟ الظاهر - واللّه العالم - عدم إمکان الحکم بکفره ، بمعنی أنّه صار مرتداً بمحض تعلّم السحر وعمله ، ولا یجری علیه أحکام الإرتداد من وجوب قتله وبینونة زوجته وتقسیم أمواله بین ورثته ، بل حیث أقرّ بالشهادتین فهو مسلم ویجری علیه أحکام الإسلام .

وما ورد فی بعض الروایات - نحو مرسلة الرضی الماضیة عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : الساحر کالکافر والکافر فی النار الخطبة(4) - فلا تدلّ علی کفره لإرسال سندها ولحرف التشبیه الظاهر فی الغیریة .

فالساحر إذا أقر بالشهادتین حکم بإسلامه ولکنّه کافر معنویاً وباطناً لا حکماً

ص:232


1- (4) المبسوط 7 / 260 .
2- (1) الخلاف 5 / 329 . المسألة 15 .
3- (2) الخلاف 5 / 331 . المسألة 17 .
4- (3) نهج البلاغة . الخطبة 79 .

ظاهریاً ، نحو ما ورد فی الروایات من الحکم بکفر تارک الصلاة ، حیث أنّ الشارع أمر بالصلاة ونهی عن السحر وعمله وتعلّمه ، وکلّ من ترک أمر الشارع أو عمل بنهیه فهو کمن أنکره ویلزمه الکفر المعنوی والباطنی ، فما ورد من الحکم بکفر الساحر(1) یحمل علی هذا المعنی الذی ذکرناه .

تنبیه : إذا استحلّ السحر وعمله وتعلّمه مع علمه بحرمته فی الشریعة المقدسة وعلم أن مرجع هذا الإستحلال إلی إنکار النبی صلی الله علیه و آله وسلم ، یحکم بکفره کمن أنکر غیره من الضروریات . ولکن إذا لم یستحلّه وذهب إلی حرمته أو لم یعلم بأن مرجع هذا الإستحلال إلی

إنکار النبی صلی الله علیه و آله وسلم وشریعته ، لا طریق لنا إلی الحکم بکفره المصطلح أعنی الإرتداد .

الفرع التاسع : حدّ الساحر

قال المحقق : « من عمل بالسحر یُقتل إن کان مسلماً ویؤدّب إن کان کافراً»(2) .

وقال العلامة بعد تعریف السحر وأثره : « ... فمن عمل بالسحر قُتِلَ إن کان مسلماً واُدِّب إن کان کافراً من غیر أن یُقْتل ، والأقرب أنّه لا یکفر بتعلّمه وتعلیمه محرّماً ، ولو استحلّه فالوجه الکفر . والسحر الذی یجب به القتل هو ما یُعدّ فی العرف سحراً ، کما نقل الاُموی فی مغازیه : أنّ النجاشی دعا السواحر فنفخن فی ... »(3) .

قال سید الریاض بعد نقل کلام المحقق : « بلا خلاف فتویً ونصّاً ... ثمّ قال بعد صفحة : ثمّ إنّ مقتضی إطلاق النص والفتوی بقتله عدم الفرق فیه بین کونه مستحلاًّ له أم لا ، وبه صرح بعض الأصحاب(4) ، وحکی آخر من متأخری المتأخرین(5) قولاً بتقییده بالأوّل ، ووجهه غیر واضح بعد إطلاق النص المنجبر ضعفه _ بعد الاستفاضة _ بفتوی الجماعة وعدم الخلاف

ص:233


1- (4) نحو خبر أبی البختری عن جعفر بن محمد علیه السلام عن أبیه علیه السلام أنّ علیاً علیه السلام قال : من تعلّم من السحر قلیلاً أو کثیراً فقد کفر وکان آخر عهده بربّه ، الحدیث . [وسائل الشیعة 17/ 148 ح 7] .
2- (1) شرائع الاسلام 4 / 154 .
3- (2) تحریر الأحکام الشرعیة 5 / 397 المسألة 6939 .
4- (3) الروضة البهیة 9 / 195 .
5- (4) مفاتیح الشرائع 2 / 102 .

فیه بینهم أجده ، ولم أرحاکیاً له غیره»(1) .

وقال صاحب الجواهر بعد کلام المحقق : « بلا خلاف أجده فیه ... _ ثمّ قال بعد صفحة : _ ثمّ إنّ إطلاق النص والفتوی یقتضی عدم الفرق بین مستحل وغیره ، فما عن بعض المتأخرین من القول بإختصاصه بالأوّل لم نتحققه ، وعلی تقدیره غیر واضح الوجه»(2) .

وقال المحقق الخوئی قدس سره : « من دون خلاف فی الجملة ...»(3) .

أقول : تدلّ علی حدِّ الساحر عدّة من الروایات :

منها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : ساحر المسلمین یُقتل وساحر الکفار لا یُقتل ، فقیل : یا رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ولم لا یُقتل ساحر الکفار ؟ قال : لأنّ الکفر أعظم من السحر ، ولأنّ السحر والشرک مقرونان(4) .

ومنها : موثقة عمرو بن خالد عن زید بن علی عن أبیه علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن علی علیه السلام قال : سئل رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم عن الساحر فقال : إذا جاء رجلان عدلان فشهدا علیه فقد حلّ دمه(5) .

وهذه الموثقة مطلقة تشمل ساحر المسلمین والکفار ، ومعتبرة السکونی تقیّدها .

ومنها : موثقة أو حسنة إسحاق بن عمار عن جعفر علیه السلام عن أبیه علیه السلام أنّ علیّاً علیه السلام کان یقول : من تعلّم شیئاً من السحر کان أخر عهده بربّه ، وحده القتل إلاّ أن یتوب ، الحدیث(6) .

هذه الروایة تدلّ علی أنّ حدّ متعلِّم السحر هو القتل ، ولا بأس بأخذها ، والمراد بتوبته فی آخر الحدیث ترکه للتعلّم .

ومنها : مصححة زید الشحام عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الساحر یُضرب بالسیف

ص:234


1- (5) ریاض المسائل 16 / 58 و 59 .
2- (6) الجواهر 41 / 442 و 443 .
3- (7) مبانی تکملة المنهاج 1 / 266 .
4- (8) وسائل الشیعة 28 / 365 ح 1 . الباب 1 من أبواب بقیة الحدود والتعزیرات .
5- (1) وسائل الشیعة 28 / 367 ح 1 . الباب 3 من أبواب بقیة الحدود والتعزیرات .
6- (2) وسائل الشیعة 28 / 367 ح 2 .

ضربةً واحدةً علی رأسه(1) .

قد مرّ تصحیح سندها فی أدلة حرمة السحر .

ومنها : خبر أبی البختری عن جعفر بن محمد علیه السلام عن أبیه علیه السلام أن علیاً علیه السلام قال : من تعلّم شیئاً من السحر قلیلاً کان أو کثیراً فقد کفر ، وکان آخر عهده بربّه ، وحدّه أن یقتل إلاّ أن یتوب(2) .

وهذه الروایات کماتری مطلقة بالنسبة إلی مستحلِّ السحر وغیره ، وهکذا مطلقة بالنسبة إلی من اتخذ السحر حرفةً وشغلاً وبین من عمل السحر مرة أو مرات .

ومن الواضح خروج من عمل لحلّ السحر ودفع المتنبیء ونحوهما من الحکم بکفره معنویاً وجریان حدّ القتل علیه ، والتفصیل یطلب من کتاب الحدود . واللّه العالم .

الفرع العاشر : هل یؤثر السحر فی النبی صلی الله علیه و آله وسلم والإمام علیه السلام أم لا ؟

وردت أخبار من طرق الفریقین فی تأثیر السحر فی النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم :

منها : ما رواه فرات بن إبراهیم الکوفی فی تفسیره بإسناده عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : سحر لبید بن أعصم الیهودی واُمّ عبداللّه الیهودیة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی عقد من قزٍّ أحمر

وأخضر وأصفر ، فعقدوه له فی إحدی عشر عقدة ثم جعلوه فی جف من طلع _ قال یعنی قشور اللوز _ ثمّ أدخلوه فی بئر بوادٍ فی المدینة فی مراقی البئر تحت راعوفة _ یعنی الحجر الخارج _ فأقام النبی صلی الله علیه و آله وسلم ثلاثاً لا یأکل ولا یشرب ولا یسمع ولا یبصر ولا یأتی النساء ، فنزل علیه جبرئیل علیه السلام ونزل معه بالمعوذتین [ بالمعوذات ] فقال له : یا محمد ما شأنک ؟ قال : ما أدری أنا بالحال الذی تری ، فقال : إنّ أمّ عبد اللّه ولبید بن أعصم سحراک وأخبره بالسحر وحیث هو ، ثمّ قرأ جبرئیل علیه السلام : «بِسْمِ اللّه ِ الرَّحْمَنِ الرَّحِیمِ * قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ» ، فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ذلک فانحلت عقدة ، ثمّ لم یزل یقرأ آیة ویقرأ النبی صلی الله علیه و آله وسلم وتنحل عقدة حتّی أقرأها علیه إحدی عشرة آیة وانحلت إحدی عشرة عقدة ، وجلس النبی صلی الله علیه و آله وسلم ودخل

ص:235


1- (3) وسائل الشیعة 28 / 366 ح 3 .
2- (4) وسائل الشیعة 17 / 148 ح 7 .

أمیر المؤمنین علیه السلام فأخبره بما جاء به جبرئیل وقال : إنطلق فأتنی بالسحر ، فخرج علیٌّ فجاء به ، فأمر به رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فنقض ثمّ تفل علیه ، وأرسل إلی لبید بن أعصم واُمّ عبد اللّه الیهودیة فقال : ما دعاکم إلی ما صنعتم ؟ ثمّ دعا رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم علی لبید وقال : لا أخرجک اللّه من الدنیا سالماً . قال : وکان مؤسراً کثیر المال ، فمرّ به غلام یسعی وفی اُذنه قرط قیمته دینار ، فجاذبه فخرم اُذن الصبی فاُخذ وقطعت یده فمات من وقته(1) .

ورویت نظائرها فی دعائم الاسلام 2 / 138 ح 487 وطب الائمة / 113 و 114 ونقل عنهما فی بحار الانوار 60 / 23 و 24 (24 / 248) والبحرانی فی البرهان 5 / 813 و 814 ومستدرک الوسائل 13 / 107 ح 7 و108 ح 8 و109 ح 9 .

وأمّا من طریق العامة : فروی نظائرها فی الدر المنثور 6 / 417 وغیره .

ونقل عنهم الشیخ فی الخلاف عدّة من الروایات فی ذلک ، ولکن قال بعد نقلها : « وهذه أخبار آحاد لا یُعمل علیها فی هذا المعنی »(2) .

وقال فی تفسیره : « ولا یجوز أن یکون النبی صلی الله علیه و آله وسلم سُحِرَ علی ما رواه القصّاص الجهال ، لأنّ من یوصف بأنّه مسحور فقد خبل عقله ، وقد أنکر اللّه تعالی ذلک فی قوله : «إِذْ یَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً»(3) ، ولکن قد یجوز أن یکون بعض الیهود اجتهد فی ذلک فلم یقدر علیه ، فأطلع اللّه نبیّه علی ما فعله حتّی استخرج ما فعلوه من التمویه ، وکان دلالة علی صدقه ومعجزة له »(4) .

وقد ذکر مثل هذا البیان الطبرسی فی مجمع البیان مع زیادة ، وهی : « وکیف یجوز أن یکون المرض من فعلهم ، ولو قدروا علی ذلک لقتلوه وقتلوا کثیراً من المؤمنین مع شدّة عداوتهم له»(5) .

ص:236


1- (235 1) تفسیر فرات الکوفی / 619 ح 774 ونقل عنه فی بحار الأنوار 60 / 22 ح 15 (24 / 247) .
2- (2) الخلاف 5 / 329 .
3- (3) سورة الاسراء / 47 _ ونحوها فی سورة الفرقان / 8 .
4- (4) التبیان 10 / 434 .
5- (1) مجمع البیان 10 / 568 .

قال الفخر الرازی : « إنّ المعتزلة أنکروا ذلک بأسرهم ، قال القاضی هذه الروایة باطلة »(1) .

وأنکره منّا _ مضافاً إلی الشیخ والطبرسی _ العلامة الحلی فی منتهی المطلب(2) والشیخ البحرانی فی الحدائق(3) والشیخ جعفر فی شرح القواعد(4) وتلمیذه السید العاملی فی مفتاح الکرامة(5) .

وأنکر العلامة المجلسی وقوعه وقال : « وإن لم یقم برهان علی امتناعه إذا لم ینته إلی حدٍّ یخلّ بغرض البعثة کالتخبیط والتخلیط ... »(6) .

أقول : إن البرهان قائم علی امتناع تأثر النبی من السحر ، لأن عامة الناس إذا رأوا تأثیر سحر الساحر علی النبی وأعماله ، لم یبق لهم إطمئنان ولا اعتماد علی أقواله وأعماله ومایبلّغ من الوحی ، لأنّ من الممکن عندهم أنّ یکون الساحر سحره فی نفس الآن والحین ، ونفس هذا الاستدلال یکفی فی امتناع تأثر النبی من السحر ، وأشار إلی هذا الاستدلال جدنا الفقیه الشیخ جعفر فی شرحه للقواعد(7) .

فلا یلتفت إلی ما احتمله فی البحار(8) وتبعه صاحب الجواهر(9) قدس سرهما .

والحاصل ، أنه لا یجوز تأثر النبی صلی الله علیه و آله وسلم من السحر مطلقاً ، أی من دون فرق بین تأثیر

ص:237


1- (2) التفسیر الکبیر 32 / 187 .
2- (3) منتهی المطلب 2 / 1014 .
3- (4) الحدائق 18 / 181 .
4- (5) شرح القواعد 1 / 247 .
5- (6) مفتاح الکرامة 12 / 239 .
6- (7) بحار الأنوار 60 / 41 (24 / 261) .
7- (8) شرح القواعد 1 / 247 .
8- (9) بحار الانوار 60 / 41 (24 / 261) .
9- (10) الجواهر 22 / 88 .

السحر فی جسمه الشریف أو فی عقله أو حدوث ما تنفر منه الطباع أو غیر ذلک کما علیه

الأعلام المذکورون رحمة اللّه علیهم أجمعین . وهذا تمام الکلام فی السحر وفروعه ، والحمد للّه العالم بإحکامه .

ص:238

الشعوذة

موضوعها وحکمها :

قال ابن منظور : « الشعوذة : خفة فی الید وأخذ کالسحر ، یُری الشیء بغیر ما هو علیه أصله فی رأی العین ... »(1) .

وحیث یأتی تعریفها وحکمها فی کلمات الفقهاء ، نذکر لک بعضها مع وضوح تعریفها وموضوعها الیوم عند العرف بحیث أنّ الکلّ یعرفها ، وهی المعبَّر عنها فی لغة الفرس ب_ « تردستی » و « چشم بندی » .

1 _ عدّها الشیخ فی عداد المکاسب المحرّمة وقال : « وکذلک التکسب بالکِهانة والقیافة والشَعْبَذَةِ وغیر ذلک محرَّم محظور»(2) .

2 _ وعدّها ابن إدریس من المکاسب المحرّمة وقال : « والکهانة والشعبذة والحیل المحرَّمة وما أشبه ذلک ... »(3) .

3 _ وکذا عدّها فی المکاسب المحرّمة المحقق فی کتابیه : الشرائع(4) والمختصر النافع(5) .

4 _ وقال العلامة الحلی : « والشعبذة حرام ، وهی الحرکات السریعة جداً بحیث یخفی علی الحس الفرق بین الشیء وشبهه لسرعة انتقاله من الشیء إلی شبهه»(6) .

ص:239


1- (1) لسان العرب 3 / 495 .
2- (2) النهایة / 366 .
3- (3) السرائر 2 / 218 .
4- (4) الشرائع 2 / 10 .
5- (5) المختصر النافع / 117 .
6- (6) تذکرة الفقهاء 12 / 145 .

وذکر نحوها فی القواعد(1) والإرشاد(2) والتحریر مع زیادة الحکم بأخذ الاُجرة علیها وقال : « هی حرام وکذا الاُجرة علیها»(3) . وفی المنتهی(4) نفی الخلاف عن تحریمها .

5 _ وألحقها الشهید بالسحر وقال : « ویلحق به الشعبذة ، وهی الأفعال العجیبة المترتبة علی سرعة الید بالحرکة فیلتبس علی الحسّ»(5) .

6 _ وقال ثانی الشهیدین : « عرّفوها بأنّها الحرکات السریعة التی یترتب علیها الأفعال العجیبة ، بحیث یلتبس علی الحس الفرق بین الشیء وشبهه ، لسرعة الانتقال منه إلی شبهه»(6) .

ثم جاء فی هامشه : « إنّما قال عرّفوها لینبّه علی تمریض التعریف ، فإنّ الظاهر من حال الشعبذة أنّه خلاف ما عرّفوه _ منه رحمه الله »(7) .

7 _ والمحقق الأردبیلی عرّفها بالتعریف المشهور ثمّ قال : « وهو حرام بلا خلاف»(8) .

8 _ والفیض الکاشانی أیضاً ادعی نفی الخلاف فی حرمتها(9) .

9 _ وقال المحدث البحرانی بعد ذکر تعریفها المشهور : « وقد صرح فی المنتهی بنفی الخلاف عن التحریم ، والظاهر أنّه لا دلیل سواه ، فإنّی لم أقف بعد التتبع علی خبر یدلّ علی ذلک»(10) .

أقول : والعجب من هذا المحدث الخبیر کیف غفل عن مرسلة أبی منصور الطبرسی

ص:240


1- (7) قواعد الأحکام 2 / 9 .
2- (8) إرشاد الأذهان 1 / 375 .
3- (9) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 261 .
4- (10) منتهی المطلب 2 / 1014 .
5- (1) الدروس 3 / 164 .
6- (2) المسالک 3 / 129 .
7- (3) المسالک 3 / 129 .
8- (4) مجمع الفائدة 8 / 81 .
9- (5) مفاتیح الشرائع 2 / 23 .
10- (6) الحدائق 18 / 185 .

المذکورة فی الاحتجاج ، حیث سأل الزندیق عن الصادق علیه السلام : فأخبرنی عن السحر ما أصله ؟ .....قال علیه السلام : إنّ السحر علی وجوه شتی وجه منها : بمنزلة الطب ... ونوع آخر منه خطفة وسرعة ومخاریق وخفة ، الحدیث(1) .

وهذا النوع الأخیر ینطبق علی الشعبذة بلا ریب .

10 _ وقال الشیخ جعفر بعد الحکم بتحریمها : « لإجماع المنتهی وللحوقها بالباطل عند العاقل ، فتحرم للخبر ولأنّها .... ثمّ ذکر تعریفها من القواعد وقال : فیحکم الرائی لها بخلاف الواقع ، وتدخل فی باب الإغراء بالجهل والتدلیس والتلبیس ، ولما فیها من القبح الزائد علی قبح الملاهی ، والاشتغال بها من أعظم اللهو»(2) .

أقول : لعل مراد الجد قدس سره من الخبر ما ورد عن الأئمة علیهم السلام فی إیکال أمر حرمة الغناء والشطرنج ونحوهما إلی أنّهما ونحوهما من الباطل فصارت حراماً نحو : موثقة زرارة عن أبی عبد اللّه علیه السلام حیث سُئل عن الشطرنج وعن ... ؟ فقال علیه السلام : أرأیتک إذا میّز اللّه الحقّ والباطل مع أیّهما تکون ؟ قال : مع الباطل ، قال : لا خیر فیه(3) .

ومثلها معتبرة الریان بن الصلت حیث سأل عن الرضا علیه السلام عن الغناء ... فقال : إذا میز اللّه الحقّ والباطل فأین یکون الغناء ؟ فقال : مع الباطل ، فقال علیه السلام : قد حکمت(4) .

11 _ وقال سید الریاض بعد تعریفها المشهور : « ولا خلاف فی تحریمه کما عن المنتهی»(5) .

12 _ والفاضل النراقی ذکرها من المکاسب المحرّمة فی المستند ، وقال بعد تعریفها المشهور : « وعن الدروس نفی الخلاف فی تحریمه»(6) .

ص:241


1- (7) الإحتجاج 2 / 339 .
2- (8) شرح القواعد 1 / 260 .
3- (1) وسائل الشیعة 17 / 319 ح 5 . الباب 102 من أبواب ما یکتسب به .
4- (2) وسائل الشیعة 17 / 306 ح 14 . الباب 99 من أبواب ما یکتسب به .
5- (3) ریاض المسائل 8 / 169 .
6- (4) مستند الشیعة 14 / 117 .

أقول : لم أجد هذا القول فی الدروس .

13 _ قال السید العاملی فی المفتاح : « وقد نص علی حرمتها فی النهایة والسرائر والشرائع والنافع والتحریر والتذکرة والإرشاد والدروس واللمعة وسائر ما تأخر ، وعن المنتهی أنّه لا خلاف فیه ، فلا وجه للتأمل فیه بعد الإجماع المنقول بل المعلوم ، إذ لم نجد مخالفاً مع قربها من السحر ، وقد ألحقها به الشهید فی الدروس»(1) .

14 _ وقال صاحب الجواهر : « الشعبذة المحرّمة بالإجماع المحکی والمحصَّل وبالدخول تحت الباطل والإغراء والتدلیس واللهو وغیرها ، بل لعلّها مِن السحر علی بعض الوجوه ... »(2) .

15 _ وقال تلمیذه السید علی آل بحر العلوم : « وممّا یحرم التکسب به أیضاً الشعبذة ، ولم یتعرض لها فی جملة مِنْ کتب اللغة ، والمستفاد من المعترض لها أنّها إراءة شبه الشیء أشیاء من غایة سرعة الحرکة ، ووافقته کلمات الأصحاب فی تفسیرها ، ولم أجد مخالفاً فی حرمتها .

وعن المنتهی لا خلاف فیه ، وفی مفتاح الکرامة وجواهر الاُستاد الإجماع علیه ، ولعلّه کذلک ، خصوصاً إن قلنا بأنّها مِن السحر ، کما یعطیه خبر الإحتجاج المتقدم فی السحر المتضمن لقوله : « ونوع آخر منه خطفة وسرعة ومخاریق وخفة» ، فتشملها حینئذ مضافاً إلی ذلک نصوصه ، وتحصیل ملکتها لا یکون إلاّ بتکرر العمل کصیرورة الإنسان بریداً ، فلا مورد هنا لجواز تعلّمها لا للعمل»(3) .

16 _ وقال الشیخ الأعظم : « الشعبذة حرام بلا خلاف ... ویدلّ علی الحرمة بعد الإجماع - مضافاً إلی أنّه من الباطل واللهو - دخوله فی السحر فی الروایة المتقدمة عن الإحتجاج المنجبر وَهْنَها بالإجماع المحکی وفی بعض التعاریف المتقدمة للسحر ما یشملها»(4) .

ص:242


1- (5) مفتاح الکرامة 12 / 268 .
2- (6) الجواهر 22 / 94 .
3- (1) برهان الفقه . کتاب التجارة / 32 . الطبع الحجری .
4- (2) المکاسب المحرمة / 34 الطبع الحجری (1 / 274) .

17 _ وذهب إلی الحرمة الفقیه السبزواری ، ولکن قال بعد الإستدلال لها : « والمتیقَّن من الدلیل ما إذا لم یکن فیها غرض صحیح شرعی ، وإلاّ فمقتضی الأصل الإباحة ، بعد عدم شمول الدلیل لهذه الصورة أو الشک فی الشمول ، کما لا تشمل الآثار السریعة الحادثة من الآلات الکهربائیة ونحوها»(1) .

أقول : بعد وضوح موضوع الشعبذة عند العرف ، تری أنّ الأصحاب حکموا لها بحرمتها قدیماً وحدیثاً ، وغایة ما یمکن الإستدلال علی حرمتها اُمورٌ نتعرض لها :

أدلة حرمة الشعوذة :

الأوّل : الإجماع

قد ادعی العلامة الحلی فی المنتهی(2) عدم الخلاف فی حرمتها ، والمحقق الأردبیلی(3) والفیض الکاشانی(4) وسید الریاض(5) ، ونقله الفاضل النراقی(6) عن الدروس ولکن لم یوجد

فیه ، والشیخ الأعظم(7) .

ثمّ عدم الخلاف بُدّل بالإجماع فی کلام الشیخ جعفر(8) وتلمیذیه السید العاملی(9) وصاحب الجواهر(10) .

وحیث یرجع هذا الإجماع ، إلی عدم الخلاف الوارد فی کلام العلامة الحلی فقط ، لم

ص:243


1- (3) مهذب الأحکام 16 / 105 .
2- (4) منتهی المطلب 2 / 1014 .
3- (5) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 81 .
4- (6) مفاتیح الشرائع 2 / 23 .
5- (7) ریاض المسائل 8 / 169 .
6- (8) مستند الشیعة 14 / 117 .
7- (1) المکاسب المحرمة / 34 (1 / 274) .
8- (2) شرح القواعد 1 / 260 .
9- (3) مفتاح الکرامة 12 / 268 .
10- (4) الجواهر 22 / 94 .

یثبت به الإجماع ولکن ما وجدنا أحداً من الأصحاب تعرض للشعبذة إلاّ حکم بحرمتها .

نعم ، بعض المعاصرین قد نفی الحرمة عنها وحکموا بإباحتها ، ویأتی التعرض لأسامیهم المبارکة .

والحاصل : لم یثبت بعدم خلاف العلامة الإجماع ، هذا أوّلاً .

وثانیاً : علی فرض ثبوته یمکن أن یکون مدرکیاً ، لاحتمال استناده إلی الوجوه الآتیة .

الثانی : مرسلة الإحتجاج

حیث قال الصادق علیه السلام فی وجوه السحر : « ونوع آخر منه : خطفة وسرعة ومخاریق وخفة» ، الحدیث(1) .

بتقریب : أنّها تنطبق علی الشعبذة ، فحکم بحرمتها وتلحق بالسحر حکماً .

ویمکن أن یقال : ألحقها الإمام علیه السلام بالسحر موضوعاً لتطرق حکم السحر علیها وهی الحرمة .

لا یقال : الروایة مرسلة سنداً ، لا یمکن الاعتماد علیها .

لأنا نقول : نعم هی مرسلة ولکن فتوی المشهور علی طبقها یجبر ضعف سندها وإرسالها .

الثالث : الشعبذة من الباطل

الشعبذة من الباطل عرفاً ، والباطل حرام فی الشریعة المقدسة ، فهی من المحرّمات الشرعیة . لا إشکال فی ثبوت الصغری ، وقد دلّت علی الکبری موثقة زرارة(2) ومعتبرة الریان بن الصلت(3) الماضیتان آنفاً . فقد تمّ الاستدلال .

الرابع : أنّها من اللهو

الشعبذة من اللهو ، واللهو حرام ، فهی من المحرَّمات .

وفیه : أوّلاً : منع الصغری بأنّها لیست من اللهو دائماً إذا ترتب علیها غرض

ص:244


1- (5) الإحتجاج 2 / 340 .
2- (6) وسائل الشیعة 17 / 319 ح 5 .
3- (7) وسائل الشیعة 17 / 306 ح 14 .

عقلائی صحیح .

وثانیاً : منع الکبری : بأنه لیس کلّ لهو بحرام ، بل الحرام منه قسم خاص .

الخامس : أنّها تدخل فی السحر

الشعبذة تدخل فی السحر ، لأنّه یشملها بعض التعاریف الواردة فی السحر ، نحو : کلّ أمر یختفی سببها ویتخیل علی غیر حقیقته ، وألحقها الإمام علیه السلام بالسحر فی مرسلة الاحتجاج الماضیة .

وفیه : الشعبذة غیر السحر فی اللغة والعرف ، لأنّ الشعبذة هی إیجاد الشیء بأسبابه العادیة ولکن بالسرعة والخفة اللتان هما قوام الشعبذة ، فهی غیر السحر الذی یحدث بأسباب غیر عادیة . وعلی هذا تعریف السحر لا ینطبق علی الشعبذة ، وإلحاقها به فی کلام الإمام علیه السلام إمّا بالعنایة والمجاز وإمّا بجریان حکم السحر علیها .

والحاصل ، حیث تمّ عندنا الدلیل الثانی والثالث - أعنی مرسلة الاحتجاج وأنّها من الباطل - فیمکن القول بحرمتها وفاقاً للمشهور وخلافاً للمحقق الخوئی ، حیث ناقش فی جمیع الأدلة فی مصباح الفقاهة(1) ونتیجتها الحکم بالإباحة وتلمیذیه شیخنا الاُستاذ(2) والفقیه القمی(3) _ مدظلهما _ ، وناقش فی بعض الأدلة المحقق الإیروانی(4) والفقیه الأردکانی(5) قدس سرهما . کما ناقشنا البعض . ولکن بعضها الاُخری تامة ، وتبعیةُ المشهورِ والحکم بالحرمة اُولی وأحوط ، واللّه سبحانه هو العالم .

ص: 245


1- (1) مصباح الفقاهة 1 / 298 .
2- (2) ارشاد الطالب 1 / 168 .
3- (3) عمدة المطالب 1 / 234 .
4- (4) حاشیة المکاسب 1 / 173 .
5- (5) غنیة الطالب 1 / 136 .

الغَشّ

اشارة

والبحث فیه یقع فی جهات :

الجهة الأولی : موضوع الغش

لیس للغش حقیقة شرعیّة ولا عند المتشرعة ، فلابدّ من تعیین موضوعه إلی مراجعة اللغة والعرف ، فنذکر بعض کلمات اللغویین والفقهاء حتّی تبیّن الموضوع :

قال الزمخشری : « غ ش ش : ما نصحتُ أحداً إلاّ استغشّنی واغتشّنی ، قال :

ألارُبَّ مَن تغتشُّه لک ناصح ومؤتمن بالغیب غیر أمین

... ورجلٌ غاشٌ من قوم غَشَشَةٍ وغَشّاشة ، وتقول : ما هم إلاّ قوم غَشّاشة ، أیدیهم بالخیانة رشَّاشة ، وطعام فلان مغشوش أعلاه یابس وأسفله مرشوش ، ما لقیته إلاّ غِشاشاً وعلی غِشاش ... »(1) .

قال ابن منظور : « غشش : الغِشُّ : نقیض النُّصح ، وهو مأخوذ من الغَشَش المَشْرَب الکِدِر ، أنشد ابن الأعرابی :

ومَنْهَل تروی به غیر غَشَشْ

أی غیر کدر ولا قلیل ، قال : ومن هذا الغشُّ فی البیاعات ... وقد غَشَّه یَغُشُّه غِشَاً : لم یَمْحَضه النصیحة ، وشیءٌ مَغْشوش . ورجلٌ غُشَّ : غاشٌّ ، والجمع غُشّون ... »(2)

قال الفیومی : « غَشَّهُ : غَشّاً من باب قَتَلَ والإسم وغِشٌّ بالکسر : لم یَنْصَحْهُ وزَیَّنَ له غیر المصلحة ، ولَبَنٌ مغشوشٌ مخلوطٌ بالماء»(3) .

ص:246


1- (1) أساس البلاغة / 324 .
2- (2) لسان العرب 10 / 74 .
3- (3) المصباح المنیر / 447 .

قال الفیروزآبادی : « غَشَهُ : لم یُمحِضْه النُصح أو أظهر له خلاف ما أضمر کَغَشَّشَه ، والغِشُّ بالکسر الإسم منه والغِلُّ والحِقدُ ، ورجلٌ غَشّ بالفتح : عظیم السُّرّةِ وبالضّم الغاشّ جمعه غُشون ، والمغشوش الغیر الخالص ، والغشش محرکة الکِدر المشوب ... »(1) .

وقال الطریحی : « غشش : المغشوش : الغیر الخالص ... »(2) .

وقال فی المنجد : « غَشَّهُ _ُ غَشّاً وغَشَّشه : أظهر له خلاف ما أضمره وزیّن له غیر المصلحة . خدعه ، أغَشَّهُ : أوقعه فی الغِش ، ... الغِشّ : اسم من الغَشّ ، الحقد ، الخیانة ، سواد القلب ، عبوس الوجه ، الکدر فی کل شیءٍ .

الغُش جمعه غُشُّون ، والغاش جمعه غَشَشَة وغشّاش : الذی یَغُشّ الناس»(3) .

وقال الشیخ جعفر کاشف الغطاء : « الغشّ بالفتح مصدر وبالکسر اسمٌ ، والأوّل ألصق بما بعده وأوفق بتعلّق الحکم وترتّب الملک بإدخال الأدنی فی الأعلی ، أو المطلوب فی غیره ، أو بالعکس من المجانس وغیره ، أو تعمّد ما یظهر الصنعة الملیحة ویخفی القبیحة فیدخل التدلیس لیتوفّر رغبة المستام بما یخفی حاله فیظنّ کماله فیغریه بالجهل بفعله الخالی عن الاحتمال والمصلحة بل المشتمل علی المفسدة ، کما لو أغراه بقوله ، ویکون ساعیاً فی ضرره بإخفاء خبره ... »(4) .

وقال النراقی : « الغش خلاف النصح والخلوص أو إظهار خلاف ما أضمر ، وحصوله فی المعاملات إنّما یکون إذا کان فی المبیع نقص ورداءة وله صور ... »(5) .

والإیروانی یقول : « الغش ستر ما لا یرغب فیه فیما یرغب فیه طلباً للزیادة فی المعاملة»(5) .

ص:247


1- (4) قاموس اللغة / الطبع الحجری ذیل مادته .
2- (1) مجمع البحرین / 341 .
3- (2) المنجد / 579 .
4- (3) شرح القواعد 1 / 208 .
5- (4) مستند الشیعة 14 / 169 .(4) حاشیة المکاسب 1 / 174 .

وقال المحقق الخوئی فی تعریفه : « کونه (أی کون الغش) بمعنی الکدر والخدیعة والخیانة ، ویُعبّر عنه فی لغة الفرس بکلمة (گول زدن) ، ولا یتحقق ذلک إلاّ بعلم الغاش وجهل المغشوش ، فإذا کلاهما عالمین بالواقع أو جاهلین به أو کان الغاش جاهلاً والمغشوش عالماً انتفی مفهوم الغش»(1) .

أقول : تلک عشرة کاملة من کلمات اللغویین والفقهاء فی هذا الباب ، ویظهر منها أنّ للغش معنی عرفی یرجع إلی إخفاء العیب والنقص وتغطیتهما أو تخلیط الردیء بالجید

والمشوب بالخالص ونحوها طلباً للزیادة فی المعاملة وسوء الاستفادة من جهل المشتری بالنسبة إلیه .

فظهر ممّا ذکرنا عدم تمامیة ما ذکره المحقق الإیروانی من أنّ الغش لایکون محرّماً بعنوانه بل هو محرّم بالعناوین الثانویة من الکذب ، أو أنّه أکل للمال بلارضی صاحبه(2) ، لأنّ الخطابات الشرعیة وردت فی الغش وظاهرها حرمته بنفسه لا بعنوان آخر کما هو واضح .

الجهة الثانیة : أقسامه

للغش أنواع کثیرة ذکر بعضها شیخنا آیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی فی ما کتبه من تقریرات اُستاذه الحائری قدس سرهما ، قال : « فاعلم أنّ الغش خلاف النصح وتزیین خلاف المصلحة ، وهو علی أنحاءٍ :

1 _ فقد یکون بالمزج ، إمّا للصنف الردیء فی الصنف الجید ، أو لغیر الجنس فی الجنس ، کالتراب فی الحنطة والماء فی اللبن .

2 _ وقد یکون بإخفاء العیب ، إمّا بستره بساتر مثل ستر صفرة لون البشرة بالتحمیر ، أو بالسکوت عنه وعدم إظهاره ، أو بالتصدی للبیع فی مکان ظلمانی یحجب العیب لظلمته .

ص:248


1- (6) مصباح الفقاهة 1 / 300 .
2- (1) حاشیة المکاسب 1 / 174 .

3 _ وقد یکون بإظهار الصفة الجیدة المفقودة واقعاً ، إمّا بوصفه بها کذباً ، أو بإحداث شیء فیه یوهم کونه علی خلاف جنسه ، کإعطاء الممّوه مکان الذهب أو الفضة أو بغیر ذلک ، ویسمی هذا القسم بالتدلیس .

4 _ وقد یکون بإحداث أمر لیزید فی کمّ المتاع ، مثل بلّ الطعام لیصیر أکثر وزناً ، ووضع الإبریسم والتتن والجلد فی الندی لیکتسب الثقل .

5 _ ثمّ إمّا أن یکون الغش ظاهراً أعنی قابلاً لأن یطلّع علیه بتوسط إحدی الحواس الخمسة الظاهرة مثل خلط مدوّر الحبّة مِنْ الاُرز فی طویلها حیث یمکن فهمه بالباصرة واللامسة وهکذا .

6 _ وإما أن یکون خفیّاً غیر محسوس بها ، وحینئذ إما أن یمکن الإطلاع علیه بالإختبار أو الاستعلام من أهل الإطلاع غیر البائع وإمّا أن ینحصر طریق الإطلاع فی إعلام

البائع کمزج الماء القلیل فی اللبن .

1 _ وعلی التقادیر : إمّا أن یکون الغش بفعل البائع لفرض التلبیس والإغفال علی المشتری ، وإمّا أن لا یکون کذلک : إمّا بحصوله إتفاقاً کورود ماء المطر فی اللبن مِنْ غیر اختیاره ، أو بحصوله بفعله لغرض صحیح أو بحصوله بفعل غیره .

2 _ وعلی التقدیر الثانی : إمّا أن یکون للمبیع صورة موهمة لخلاف الواقع وإمّا أن یکون له صورة مشترکة بین الصحیح والمعیب ، مثل الحیوان الغیر المبصر فی اللیل .

3 _ وعلی جمیع التقادیر : إمّا أن یخبر البائع بالصحة والسلامة من العیب علی وجه یعتمد المشتری ، وإمّا أن یکتفی بالسکوت وعدم الإظهار .

فهذه ثمان عشرة صورة»(1) .

أقول : وقد قسّم الفاضل النراقی الغش فی المستند(2) بأکثر ممّا قسّمه المؤسس الحائری فراجعه ، ویظهر حکم هذه الصور فی طیّ البحث إنْ شاء اللّه تعالی .

ص:249


1- (1) المکاسب المحرمة / 126 و 125 .
2- (2) مستند الشیعة 14 / 169 و 170 .

الجهة الثالثة : أقوال الأصحاب قدس سرهم

قال المفید : « والغش فی کلِّ متجر وصناعة حرام»(1) .

وقال الطوسی : « وکلّ شیء غُش فیه فالتجارة فیه والتکسب به بالبیع والشراء وغیر ذلک حرامٌ محظورٌ»(2) .

وقال ابن إدریس : « ویحرم ... والغش فی جمیع الأشیاء»(3) .

وذهب الی الحرمة المحقق فی الشرائع(4) والنافع(5) .

وقال العلامة الحلی : « الغش والتدلیس محرمان»(6) ، وذهب فی المنتهی(7) إلی عدم الخلاف فی حرمته ، وفی القواعد(8) والتحریر(9) والإرشاد(10) ذهب إلی حرمته .

والشهید فی الدروس(11) واللمعة(12) والمحقق الثانی فی جامع المقاصد(13) والشهید الثانی فی المسالک(14) والروضة(15) والأردبیلی فی مجمع الفائدة(16) ، والبحرانی فی الحدائق

ص:250


1- (3) المقنعة / 590 .
2- (4) النهایة / 365 .
3- (5) السرائر 2 / 216 .
4- (6) الشرائع 2 / 10 .
5- (7) المختصر النافع / 117 .
6- (8) تذکرة الفقهاء 12 / 142 .
7- (9) منتهی المطلب 2 / 1012 الطبع الحجری .
8- (10) قواعد الأحکام 2 / 8 .
9- (11) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 260 .
10- (12) إرشاد الأذهان 1 / 357 .
11- (1) الدروس الشرعیة 3 / 163 .
12- (2) اللمعة الدمشقیة / 109 .
13- (3) جامع المقاصد 4 / 25 .
14- (4) مسالک الأفهام 3 / 129 .
15- (5) الروضة البهیة 3 / 216 .
16- (6) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 82 .

إدعی عدم الخلاف فی تحریمه(1) .

وقال الشیخ جعفر : « ... وأمّا الشرع فقد تواترت علیه (أی علی حرمة الغش) آیاته وروایاته وإجماعاته ، وفی بعضها التشدید التام الدال علی أنّه مخرج عن الإسلام»(2) .

وفی الریاض(3) ذهب إلی عدم الخلاف فی حرمته ، وهکذا فی المستند(4) .

وفی الجواهر : « بلا خلاف أجده فیه بل الإجماع بقسمیه علیه»(5) .

وفی برهان الفقه : « فحرمته مورد إتفاق النص والفتوی ، بل هو حرام فی غیر المعاملات أیضاً ... »(6) .

أقول : أنت تجد أنّ الکلّ قائلون بالحرمة ، وادعی عدم الخلاف أو الإجماع علی الحرمة أصحاب المنتهی والحدائق وشرح القواعد والریاض والمستند والجواهر وبرهان الفقه .

فهل یمکن الإستناد إلی هذا الاجماع أم لا ، لأنّه إجماع مدرکیٌّ ؟ ! الظاهر هو الثانی ، فلابدّ مِنْ ملاحظة الأدلة التالیة .

الجهة الرابعة : حکم العقل

قال الشیخ جعفر : « ... فالعقل حاکم بقبحه حیث غشّه بترک نصحه ولقد ظلمه حیث

ص:251


1- (7) الحدائق 18 / 190 .
2- (8) شرح القواعد 1 / 208 .
3- (9) ریاض المسائل 8 / 170 .
4- (10) مستند الشیعة 14 / 168 .
5- (11) الجواهر 22 / 111 .
6- (12) برهان الفقه . کتاب التجارة / 38 طبع الحجری .

شبّه علیه وما أعلمه ، ولدخوله فیما وضع للحرام أو قُصد به ... »(1) .

أقول : حیث أنّ العقل بنفسه حاکم بهذا القبح فیمکن أن یُستدل بهذا القبح العقلی علی حرمة الغش بقاعدة الملازمة کما لا یخفی ، فالعقل حاکم علی قبحه وحرمته .

الجهة الخامسة : الروایات

الروایات المتواترة تدلّ علی حرمة الغش :

منها : صحیحة هشام بن سالم عن أبی عبد اللّه علیه السلام : لیس منّا من غشّنا(2) .

ومنها : صحیحته الاُخری عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم لرجل یبیع التمر : یا فلان أما علمت أنّه لیس من المسلمین من غشّهم(3) ؟ !

ومنها : صحیحة هشام بن الحکم قال : کنت أبیع السابری فی الظلال ، فمرّ بی أبو الحسن الأوّل موسی علیه السلام فقال لی : یا هشام ، إنّ البیع فی الظلال غشٌّ والغشُّ لا یحلّ(4) .

ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : نهی النبی صلی الله علیه و آله وسلم أن یشاب اللبن بالماء للبیع(5) .

ومنها : صحیحة علی بن سوید السائی عن أبی الحسن موسی بن جعفر علیه السلام أنّه کتب إلیه فی جواب مسائله : ... لیس مِنْ أخلاق المؤمنین الغش ، لا الأذی ولا الخیانة ولا الکبر ولا الخناء ولا الفحش ولا الأمر به ، الحدیث(6) .

ومنها : معتبرة بل صحیحة الحسین بن المختار القلانسی قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : إنّا نعمل القلانس فنجعل فیها القطن العتیق فنبیعها ولا نبین لهم ما فیها ، قال : أحبّ لک أن

ص:252


1- (1) شرح القواعد 1 / 208 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 279 ح 1 الباب 86 من أبواب ما یکتسب به .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 279 ح 2 الباب 86 من أبواب ما یکتسب به .
4- (4) وسائل الشیعة 17 / 280 ح 3 .
5- (5) وسائل الشیعة 17 / 280 ح 4 .
6- (6) الکافی 8 / 126 ح 95 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 105 ح 9 .

تبین لهم ما فیها(1) .

ومنها : حسنة الحسین بن خالد عن أبی الحسن الرضا علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن

علی علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : من کان مسلماً فلا یمکر ولا یخدع ، فإنّی سمعت جبرئیل علیه السلام یقول : إنّ المکر والخدیعة فی النار . ثمّ قال : لیس منّا من غشّ مسلماً ، ولیس منّا من خان مسلماً . ثمّ قال علیه السلام : إنّ جبرئیل الروح الأمین نزل علیَّ مِنْ عند ربّ العالمین فقال : یا محمّد علیک بحسن الخلق ، فإنّه یذهب بخیر الدنیا والآخرة ، ألا وإنّ أشبهکم بی أحسنکم خُلقاً(2) .

ومنها : صحیحة عبیس (عباس) بن هشام النّاشری عن رجل من أصحابه عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : دخل علیه رجل یبیع الدقیق ، فقال : إیّاک والغشّ ، فإنّ مَنْ غَشَّ غُشَّ فی ماله ، فإن لم یکن له مال غُشَّ فی أهله(3) .

الروایة بسند الکلینی(4) ضعیفة ، لعدم تعین الرجل ، ولکنّها بسند الشیخ(5) صحیحة ، لعدم دخول الرجل فی السند ، بل رواها عبیس عن الصادق علیه السلام من دون واسطة الرجل .

ومنها : حسنة أو معتبرة موسی بن بکر قال : کنّا عند أبی الحسن علیه السلام فإذا دنانیر مصبوبة بین یدیه ، فنظر إلی دینار فأخذه بیده ثمّ قطعه بنصفین ثمّ قال : ألقه فی البالوعة حتّی لا یباع شیء فیه غشٌّ(6) .

سند الکلینی ضعیف(7) ، ولکن سند الشیخ(8) إلی موسی بن بکر حسن بل معتبر بل

ص:253


1- (7) وسائل الشیعة 17 / 282 ح 9 .
2- (1) عیون أخبار الرضا علیه السلام 2 / 50 ح 194 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 105 ح 10 .
3- (2) وسائل الشیعة 17 / 281 ح 7 .
4- (3) الکافی 5 / 160 ح 4 .
5- (4) التهذیب 7 / 12 ح 51 .
6- (5) وسائل الشیعة 17 / 280 ح 5 .
7- (6) الکافی 5 / 160 ح 3 .
8- (7) التهذیب 7 / 12 ح 50 .

صحیح فی أبواب فرض الصلاة فی السفر(1) وأوقات الصلاة(2) ، وتفصیل ما تقدم ذکره فی الصلاة(3) وأحکام السهو فی الصلاة(4) . فالروایة بسند الشیخ صحیحة علی قول صاحب جامع الرواة ، ودلالتها علی حرمة الغش واضحة .

ومنها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الرجل یکون عنده لونان من طعام واحد سعّرهما بشیءٍ وأحدهما أجود من الآخر فیخلطهما جمیعاً ثمّ یبیعهما بسعر واحد ، فقال : لا یصلح له أن یغش المسلمین حتّی یبینه(5) .

ومنها : حسنة بل صحیحة الحسین بن زید الهاشمی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : جاءت زینب العطارة الحولاء إلی نساء النبی صلی الله علیه و آله وسلم وبناته ، وکانت تبیع منهنّ العطر ، فجاء النبی صلی الله علیه و آله وسلم وهی عندهنّ ، فقال : إذا أتیتنا طابت بیوتنا ، فقالت : بیوتک بریحک أطیب یا رسول اللّه . قال صلی الله علیه و آله وسلم : إذا بعتِ فأحسنی ولا تغشی ، فإنّه أتقی وأبقی للمال ، الحدیث(6) .

ومنها : خبر آخر خطبة خطبها النبی صلی الله علیه و آله وسلم بالمدینة قال صلی الله علیه و آله وسلم فیها : ومَنْ غشّ مسلماً فی بیع أو فی شراء فلیس منّا ویحشر مع الیهود یوم القیامة ، لأنّه مَنْ غش الناس فلیس بمسلم إلی أن قال صلی الله علیه و آله وسلم : ألا ومَنْ غشّنا فلیس منّا _ قالها ثلاث مرات _ ومنْ غشّ أخاه المسلم نزع اللّه برکة رزقه وأفسد علیه معیشته ، ووکله إلی نفسه . الحدیث(7) .

ومنها : خبر سعد الإسکاف عن أبی جعفر علیه السلام قال : مرّ النبی صلی الله علیه و آله وسلم فی سوق المدینة بطعامٌ فقال لصاحبه : ما أری طعامک إلاّ طیّباً ، وسأله عن سعره . فأوحی اللّه عزّ وجل إلیه أن یدسّ یده فی الطعام ، ففعل فأخرج طعاماً ردیئاً ، فقال لصاحبه : ما أراک إلاّ وقد جمعت خیانةً

ص:254


1- (8) التهذیب 2 / 13 ح 4 .
2- (9) التهذیب 2 / 24 / ح 20 و 2 / 36 ح 5 .
3- (10) التهذیب 2 / 169 ح 128 .
4- (11) التهذیب 2 / 176 ح 4 .
5- (1) وسائل الشیعة 18 / 112 ح 2 . الباب 9 من أبواب أحکام العیوب .
6- (2) وسائل الشیعة 17 / 281 ح 6 .
7- (3) وسائل الشیعة 17 / 283 ح 11 .

وغشّاً للمسلمین(1) .

ومنها : خبر مناهی النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال فی حدیث : ومَنْ غشّ مسلماً فی شراءٍ أو بیعٍ فلیس منّا ویحشر یوم القیامة مع الیهود لأنّهم أغش الخلق .

وقال : لیس منّا مَنْ غشّ مسلماً .

وقال : ومَنْ بات وفی قلبه غشّ لأخیه المسلم بات فی سخط اللّه وأصبح کذلک حتّی یتوب(2) .

تلک أربعة عشرة من الروایات أکثرها من الصحاح ، وهی تدلّ بوضوح علی حرمة الغش .

الجهة السادسة : هل یعتبر فی صدق الغش قصد مفهومه أم لا ؟

قال سید الریاض : « ثمّ لو غشّ لکن لا بقصده بل بقصد إصلاح المال لم یحرم ، للأصل واختصاص ما مرّ من النص بحکم التبادر بصورة القصد ... »(3) .

وتبعه السید العاملی وقال : « وأمّا إذا غشّ بقصد إصلاح المال لا بقصد الغش لم یحرم ، للأصل وتبادر غیر هذه الصورة من أخبار الغش و ... »(4) .

وتبعهما صاحبا برهان الفقه(5) والمکاسب(6) .

وقد استدلوا بصحیحة الحلبی قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل یشتری طعاماً فیکون أحسن له وأنفق له أن یبلّه من غیر أن یلتمس زیادته ؟ فقال : إن کان بیعاً لا یصلحه إلاّ ذلک ولا ینفقه غیره ، من غیر أن یلتمس فیه زیادة فلا بأس ، وإن کان إنّما یغش به المسلمین

ص:255


1- (4) وسائل الشیعة 17 / 282 ح 8 .
2- (5) وسائل الشیعة 17 / 282 ح 10 .
3- (1) ریاض المسائل 8 / 172 .
4- (2) مفتاح الکرامة 12 / 189 .
5- (3) برهان الفقه . کتاب التجارة / 38 الطبع الحجری .
6- (4) المکاسب المحرمة / 35 من الطبع الحجری للشیخ الأعظم الأنصاری قدس سره _ (1 / 280) .

فلا یصلح(1) .

ولعلّ أوّل من ذهب إلی هذا القول صاحب الحدائق ، لأنّه قال بعد نقل الصحیحة : « ظاهر هذا الخبر أنّ الجواز وعدمه دائران مدار قصد البائع فی بلة الطعام ، فإنّه متی کان قصده إنّما هو لأجل إنفاق السلعة وشرائها وأنّه بدون ذلک یَکْسِدُ علیه فلا بأس بما یفعله ، وإن کان غرضه إنّما هو لأجل زیادة فی الوزن فهو غیر جائز»(2) .

أقول : الظاهر عدم تمامیة ما ذهب إلیه هؤلاء الأعلام ، لأنّ الغش من الاُمور الواقعیة ولیس من الاُمور القصدیة التی تختلف باختلاف الدواعی والقصود . والمعتبر فیه علم البایع به مع جهل المشتری إیّاه ، ولذا لو اختلط الجید بالردئ بغیر اختیار المالک ولکن علم فیما بعد وباعه من غیر الإعلام یکون من الغش المحرَّم ولإطلاق الروایات :

منها : صحیحة هشام بن الحکم قال : کنت أبیع السابری فی الظلال فمرّ بی أبو الحسن الأوّل موسی علیه السلام فقال لی : یا هشام إنّ البیع فی الظلال غش والغش لا یحلّ(3) .

ولم یفرق الإمام علیه السلام بین اختیار الظلال لغرض عقلائی صحیح أو لغرض التلبیس .

ومنها : صحیحة محمد بن مسلم عن أحدهما علیهماالسلام أنّه سُئل عن الطعام یخلط بعضه ببعض ، وبعضه أجود من بعض ؟ قال : إذا رُؤیا جمیعاً فلا بأس ما لم یغط الجید الردی ء(4) .

ومنها : صحیحة الحلبی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الرجل یکون عنده لونان من طعم واحد سعّرهما بشیءٍ ، وأحدهما أجود من الآخر فیخلطهما جمیعاً ثمّ یبیعهما بسعر واحد ، فقال : لا یصلح له أن یغش المسلمین حتّی یبیّنه(5) .

حیث لم یسأل الإمام علیه السلام فی الروایتین : أنّ الخلط لغرض صحیح وعقلائی أم لا ؟ ولم یستفصل علیه السلام . فهذه الإطلاقات تشمل الغش الخارجی حتی لو لم یقصده البائع .

ص:256


1- (5) وسائل الشیعة 18 / 113 ح 3 . الباب 9 من أبواب أحکام العیوب .
2- (6) الحدائق 18 / 192 .
3- (7) وسائل الشیعة 17 / 280 ح 3 .
4- (1) وسائل الشیعة 18 / 112 ح 1 .
5- (2) وسائل الشیعة 18 / 112 ح 2 .

وأمّا صحیحة الحلبی(1) الماضیة أیضاً لا تدلّ علی اعتبار القصد فی الغش کما حملها البعض ، بل تدلّ علی جواز إضافة شیءٍ إلی المتاع إن کانت هذه الإضافة والزیادة تحسنه وتنفقه وکانت أحسن وأبقی له . وفی الواقع هذا الفرض لم یدخل تحت عنوان الغش ، بل یدخل تحت عنوان عملیة إبقاء المتاع وإحیائه وإصلاحه فیجوز ، وصرح الإمام علیه السلام فی ذیلها بأن الغشّ حرام حتّی إذا کان تحت عملیة الإصلاح والإبقاء ظاهراً ولکن واقعه یکون غشّاً .

وافقنا علی عدم إعتبار القصد فی الغش جماعة مِن الأعلام ، نحو : المؤسس الحائری(2) قدس سره والمحقق الخوئی(3) رحمه الله والسید القمی(4) - مدظله - .

الجهة السابعة : حکم المعاملة المشتملة علی الغش

إذا باع المغشوش ، فعل حراماً بجهة الغش ، ولکن هل تصح المعاملة أم لا ؟

تردّد المحقق الثانی وقال : « وأمّا حال البیع فی الفرض الأوّل فیمکن صحته ، لأنّ المحرَّم هو الغش وأمّا المبیع فإنّه عین منتفع بها یعدّ مالاً فیصح . ویمکن الحکم بالبطلان ، لأنّ المقصود بالبیع هو اللبن والجاری علیه هو المشوب ... »(5) .

ولکن الشهید الثانی حکم بصحة المعاملة وقال : « ... ثمّ علی تقدیر الخفاء فالبیع صحیح وحکمه حکم ما ظهر فی المبیع عیب مِنْ غیر الجنس ، وربّما احتمل البطلان بناءً علی أنّ المقصود بالبیع هو اللبن والجاری علیه العقد هو المشوب ، فیکون کما لو باعه هذا الفرس فظهر حماراً . وقد ذکروا(6) فی هذا المثال إشکالاً مِنْ حیث تغلیب الإشارة أو الإسم ، والفرق بینه وبین ما نحن فیه واضح»(7) .

ص:257


1- (3) وسائل الشیعة 18 / 113 ح 3 .
2- (4) المکاسب المحرمة / 128 و 130 لشیخنا آیة اللّه محمد علی الأراکی قدس سره .
3- (5) مصباح الفقاهة 1 / 301 .
4- (6) عمدة المطالب 1 / 239 .
5- (7) جامع المقاصد 4 / 25 .
6- (1) الذاکر هو المحقق الثانی فی جامع المقاصد 4 / 25 .
7- (2) مسالک الأفهام 3 / 129 .

والمحقق الأردبیلی ذهب إلی بطلان البیع وقال : « وعلی تقدیر البیع هل یصحّ ؟ الظاهر : لا ، لأنّ الغرض من النهی فی مثله عدم صلاحیّة بیع مثله علی أنّه غیر مغشوش ولما مرّ ، وقال فی شرح الشرائع(1) : یصحّ فتأمل»(2) .

وتابع المحقق الثانی فی تردده المحقق السبزواری فی الکفایة(3) .

وتابع الشهید الثانی فی الحکم بالصحة جماعة من الأعلام ، نحو : الفقیه الشیخ جعفر(4) وتلمیذه السید العاملی(5) وتلمیذه الآخر صاحب الجواهر(6) والفاضل النراقی(7) والسید علی آل بحر العلوم(8) والمؤسس الحائری(9) والمحققون الإیروانی(10) والخوئی(11) والسبزواری(12) والأردکانی (13) قدس سرهم والتبریزی(14) والقمی(15) _ مدظلهما _ .

وتابع المحقق الأردبیلی فی حکمه بالبطلان صاحب الحدائق(16) .

ص: 258


1- (3) یعنی الشهید الثانی فی المسالک 3 / 129 .
2- (4) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 83 .
3- (5) کفایة الأحکام / 87 الطبع الحجری _ (1 / 442) .
4- (6) شرح القواعد 1 / 210 .
5- (7) مفتاح الکرامة 12 / 193 .
6- (8) الجواهر 22 / 112 .
7- (9) مستند الشیعة 14 / 171 .
8- (10) برهان الفقه . کتاب التجارة / 38 الطبع الحجری .
9- (11) المکاسب المحرمة / 132 وما بعدها لآیة اللّه الأراکی .
10- (12) حاشیة المکاسب 1 / 176 .
11- (13) مصباح الفقاهة 1 / 302 .
12- (14) مهذب الاحکام 16 / 108 .
13- (15) غنیة الطالب 1 / 140 .
14- (16) ارشاد الطالب 1 / 172 .
15- (17) عمدة المطالب 1 / 243 .
16- (18) الحدائق 18 / 193 .

أقول : قد تسالم الأصحاب قدس سرهم فی أنّ النهی إذا تعلق بعنوان المعاملة نفسها ینتج منه فساد المعاملة نحو : النهی المتعلّق ببیع الخمر أو المعاملة الربویة .

وأمّا تعلق النهی بعنوان آخر غیر البیع ولکن قد یتّحد وینطبق معه ، فلا ینتج منه فساد المعاملة ، بل یحکم بالحرمة التکلیفیة لهذا العنوان والمعاملة المتحدة معه ، نحو : البیع وقت النداء أو البیع الذی ینهی عنه الوالد .

وقد نقل المؤسس الحائری(1) عن سید اُستاذه _ وهو المحقق السید محمد الفشارکی الإصفهانی المتوفی سنة 1316 ق قدس سرهما _ دعوی الإجماع فی باب المعاملات علی ذلک .

ثمّ علی هذه القاعدة حیث أنّ النهی الوارد فی الروایات تعلّق بعنوان الغش لا بالمعاملة نفسها ، فقد یحکم بحرمة الغش تکلیفاً وصحة المعاملة المشتملة علی الغش مع ثبوت خیار العیب أو الوصف أو التدلیس علی اختلاف أنواع الغش .

والذی یُشکل الأمر أنّه قد تعلق النهی فی بعض الروایات بنفس المعاملة ، فلابدّ من ملاحظتها والجواب عنها وإلاّ تنقض القاعدة التی قلناها ، وأمّا الروایات :

فمنها : صحیحة هشام بن الحکم عن أبی الحسن موسی علیه السلام أنّه قال : یا هشام إنّ البیع فی الظلال غش والغش لا یحلّ(2) .

ومنها : حسنة أو معتبرة موسی بن بکر قال : کنّا عند أبی الحسن علیه السلام وإذا دنانیر مصبوبة بین یدیه ، فنظر إلی دینار فأخذه بیده ثمّ قطعه بنصفین ، ثمّ قال لی : ألقه فی البالوعة حتّی لا یباع شیء فیه غشٌّ(3) .

ومنها : خبر مناهی النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال فی حدیث : مَنْ غشّ مسلماً فی شراءٍ أو بیعٍ

ص:259


1- (1) المکاسب المحرمة / 132 لآیة اللّه الأراکی .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 280 ح 3 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 280 ح 5 .

فلیس منّا ، الحدیث(1) .

ومنها : خبر آخر خطبة خطبها النبی صلی الله علیه و آله وسلم بالمدینة قال صلی الله علیه و آله وسلم فیها : ومَنْ غشّ مسلماً فی بیع أو فی شراءٍ فلیس منّا(2) .

ومنها : خبر المفضل بن عمر الجعفی قال : کنت عند أبی عبد اللّه علیه السلام فاُلقی بین یدیه

دراهم ، فألقی إلیَّ درهماً منها ، فقال : أیش هذا ؟ فقلت : ستوق ، فقال : وما الستوق ؟ فقلت : طبقتین فضّة وطبقة من نحاس وطبقة من فضة ، فقال : اکسرها فإنّه لا یحلّ بیع هذا ولا إنفاقه(3) .

وهذه الروایات - وإن کانت بظاهرها تعلق النهی فیها ببیع المغشوش - ولکن إذا تأملت فیها بدقة مع ملاحظة غیرها من الروایات تجد فی نفسک الإطمئنان بأنّ النهی الوارد فیها عن المعاملة تعلّق بحیثیّة الغش الوارد فیها ، لا بنفس المعاملة .

نعم ، یمکن الإلتزام بما ورد فی حسنة موسی بن بکر(4) وخبر المفضل بن عمر الجعفی(5) فی خصوص الدراهم المغشوشة مِنْ لزوم کسرها وإفنائها ووجوب إخراجها مِنْ جریان المعاملات حسماً لمادّة الفساد وبطلان المعاملة بها إن وقفت شخصیّة کما التزمنا بها فی بحث بیع الدراهم المغشوشة من هذا الکتاب(6) .

والحاصل ، أنّ النهی المتعلق بالمعاملة تعلّق بها من جهة حیثیّة الغش ، فالمنهی فی الحقیقة أمر خارج عنها وهو الغشّ ، صار الغشّ حینئذ حراماً والمعاملة المشتملة علیه یکون صحیحاً وضعاً مع ثبوت الخیارات للمشتری . واللّه هو العالم والحمد له .

ص:260


1- (4) وسائل الشیعة 17 / 282 ح 10 .
2- (5) وسائل الشیعة 17 / 283 ح 11 .
3- (1) وسائل الشیعة 18 / 186 ح 5 .
4- (2) وسائل الشیعة 17 / 280 ح 5 .
5- (3) وسائل الشیعة 18 / 186 ح 5 .
6- (4) هذا الکتاب . المجلد الاوّل / 174 .

الجهة الثامنة : تعارض الاسم والاشارة

اشارة

قد تمسّکوا بهذا التعارض لثبوت بطلان المعاملة وفسادها ، ونحن نبحث عنه فی مقامین : 1 _ فی بحث صلاة الجماعة 2 _ وفی بحثنا هذا عن المعاملات .

المقام الأوّل : تعارض الاسم والاشارة فی صلاة الجماعة

قال العلامة : « ولو نوی الإقتداء بالحاضر فاعتقده زیداً فکان غیره فالوجه البطلان»(1) .

قال الشهید فی الذکری : « یُشترط القصد إلی إمام معین ... ولو نوی الإقتداء بالحاضر

علی أنّه زید فبان عمراً ففی ترجیح الإشارة علی الإسم فیصح أو بالعکس فیبطل نظر ، نظیر أن یقول المطلِّق لزوجته اسمها عمرة « هذه زینب طالق » ، أو یشیر البائع إلی حمار فیقول « بعتک هذا الفرس »(2) .

وقال ثانی الشهیدین فی الروض : « ... ولو عیّن فأخطأ تعیینه - بأن نوی الإقتداء بزیدٍ فظهر أنّه عمرو - بطلت صلاته أیضاً وإن کان الثانی أهلاً للإمامة . أمّا لو نوی الإقتداء بالحاضر علی أنّه زید فبان عمراً ففی صحة القدوة ترجیحاً للإشارة علی الاسم أو البطلان للعکس نظر ، ورجّح المصنف البطلان ، وهو متّجه»(3) .

أقول : ونحوها فی الفوائد الملیة(4) من دون الترجیح .

وقال صاحب المدارک : « ولو نوی الإقتداء بالحاضر علی أنّه زیدٌ فبان عمراً ففی ترجیح الإشارة علی الإسم فیصح أو العکس فیبطل نظرٌ»(5) .

وقال سید الریاض : « ... ومنه یظهر وجه ما ذکره الشهیدان فی الذکری وروض

ص:261


1- (5) نهایة الأحکام 2 / 126 .
2- (1) ذکری الشیعة 3 / 423 .
3- (2) روض الجنان 2 / 998 .
4- (3) الفوائد الملی_ّة . لِشرح الرسالة النفلیة / 290 .
5- (4) مدارک الأحکام 4 / 333 .

الجنان والروضة(1) من فسادها لو نوی الإقتداء بزید فبان عمراً وإن کان أهلاً للإمامة ، أمّا لو نوی الإقتداء بالحاضر علی أنّه زیدٌ فبان عمراً ففی صحة الإقتداء ترجیحاً للإشارة وعدمها ترجیحاً للإسم وجهان أحوطهما العدم»(2) .

ولکن المحقق السبزواری فی کتابیه الذخیرة(3) والکفایة(4) ذهب إلی الصحة ، وتبعه أصحاب المصابیح(5) ومفتاح الکرامة(6) وبرهان الفقه(7) .

والحقّ متابعة أصحاب الذخیرة والکفایة والمصابیح ومفتاح الکرامة وبرهان الفقه من صحة الصلاة فی مسألتنا هذه ، لأنّ الإیتمام فعل خارجی ، وهو متابعة الإمام فی أفعاله

والإقتداء به ، والفعل الخارجی جزئی حقیقی غیر قابل للتقسیم والتنویع حتّی یُتصور فیه التعلیق والتقیید ، فالتخلف فیه لیس إلاّ من باب التخلف فی الداعی ، ومن الواضح أنّ التخلف فی الداعی حتّی فی العقود والإیقاعات لم یبطلها ، وعلی هذا التخلف فی الداعی فی الفعل الخارجی الجزئی بطریق أولی لا یوجب بطلانه ، وحینئذ فی الفرض صحت صلاته وجماعته(8) حتّی لو فُرض عدم الإقتداء لو علم من الأوّل أنّه عمروٌ لغرض من الأغراض لا لعدم إحراز عدالته ، فما ذکره بعض الأصحاب من بطلان صلاته محل تأمل بل منع .

حتی لو قلنا ببطلان جماعته لا یمکننا القول ببطلان صلاته لو لم یخالف ما وظیفة المنفرد لجریان حدیث « لا تعاد » والحقّ عدم جریان تعارض الإسم والإشارة فی صلاة الجماعة . والتفصیل یُطلب من أحکام الجماعة فی کتاب الصلاة .

ص:262


1- (5) الروضة البهیة 1 / 283 .
2- (6) ریاض المسائل 4 / 234 .
3- (7) ذخیرة المعاد / 399 .
4- (8) کفایة الأحکام / 31 الطبع الحجری و 1 / 151 من الطبع الحدیث عام 1423 .
5- (9) مصابیح الظلام 8 / 314 وما بعدها للوحید البهبهانی المطبوع عام 1424 .
6- (10) مفتاح الکرامة 10 / 81 و 80 .
7- (11) برهان الفقه . کتاب التجارة / 38 طبع الحجری .
8- (1) کما ذهب إلیه المحقق الخوئی فی مستند العروة الوثقی فی القسم الثانی من المجلد الخامس / 78 .
المقام الثانی : تعارض الاسم والاشارة فی المعاملات

أوّل مَن احتمل البطلان فی المعاملات عامة وفی بیع المغشوش لهذا التعارض المحقق الکرکی فی جامع المقاصد حیث قال : « ویمکن الحکم بالبطلان ، لأنّ المقصود بالبیع هو اللبن والجاری علیه هو المشوب ثمّ نقل کلام الشهید فی الذکری وختمه بهذا الکلام : وجعل منشأ التردد تغلیب الإشارة أو الوصف»(1) .

ثمّ بعده نقل الشهید الثانی هذا الإحتمال فی مسالکه وردّه حیث یقول : « وربّما احتمل البطلان بناءً علی أنّ المقصود بالبیع هو اللبن والجاری علیه العقد هو المشوب ، فیکون کما لو باعه هذا الفرس فظهر حماراً ، وقد ذکروا فی هذا المثال إشکالاً من حیث تغلیب الإشارة أو الإسم ، والفرق بینه وبین ما نحن فیه واضح »(2) .

وهکذا ردّ هذا التعارض الشیخ جعفر وقال : « ... ولیس هذا من تعارض الإسم والإشارة ، أمّا مع إتحاد الجنس فظاهر ، وأمّا مع اختلافه فإن لم تنقلب الحقیقة فلیس منه ، ومع الانقلاب فقد حکمنا ببطلان ضروب الاکتساب ... »(3) .

وتبعه تلمیذه صاحب الجواهر فقال : « ولیس ذا مِنْ تعارض الإسم والإشارة قطعاً ، ضرورة کون المراد واحداً من نحو قولک « بعتک هذا اللبن » . نعم لو خرج بالغش عن الحقیقة

وبیع علی أنّه منها بطل البیع قطعاً ، وأمّا مع عدمه فالمتجه الصحة ... »(4) .

وتبعه أیضاً تلمیذه الآخر السید العاملی فی مفتاح الکرامة(5) ، وتبعهم السید علی آل بحر العلوم فی برهان الفقه(6) والمؤسس الحائری فی تقریرات بحثه الشریف(7) والمحقق الخوئی

ص:263


1- (2) جامع المقاصد 4 / 25 .
2- (3) مسالک الأفهام 3 / 129 .
3- (4) شرح القواعد 1 / 210 .
4- (1) الجواهر 22 / 112 .
5- (2) مفتاح الکرامة 12 / 190 .
6- (3) برهان الفقه ، کتاب التجارة / 38 الطبع الحجری .
7- (4) المکاسب المحرمة / 134 وما بعدها لآیة اللّه الأراکی قدس سره .

فی مصباح الفقاهة(1) قدس سرهم وتلمیذاه شیخنا الاُستاذ فی إرشاد الطالب(2) والفقیه القمی(3) فی عمدة المطالب _ مدّظلهما _ .

والحقّ متابعة الأعلام حیث قد عرفت أنّ هذا التعارض لا یجری فی محلّه المُدعی وهو صلاة الجماعة ، فکیف یجری فی البیع أو غیره من المعاملات اللاتی یتعلقن بالأعیان الخارجیة . وعلی هذا إذا وقع عقد البیع مثلاً علی اللبن والغش لا یخرجه عن حقیقة اللبنیّة بل صار به مغشوشاً غیر خالصٍ صحت المعاملة وتجری فیها خیار العیب أو الوصف أو التدلیس .

وأمّا إذا وقع عقد البیع مثلاً علی فرس وحین التحویل أعطاه حماراً بحیث یوجب انقلاب ماهیة المبیع إلی شیءٍ آخرٍ ، فیحکم ببطلان العقد عند الجمیع ، لأنّ ما قُصد لم یقع وما وقع لم یقصد .

والحاصل ، عدم جریان تعارض الإسم والإشارة فی البیع وفی غیره من المعاملات حتّی فی النکاح والطلاق ، فإنّهما تابعان لقصد من له ولایتهما ، فإذا قال الأب : أنکحتُ بنتی هذه _ زینب _ لزید ، النکاح حیث هو من الاُمور الإنشائیة فهی تابعة لقصد المُنْشِئ ، فإذا کان مراده من الإنشاء ، إنشاء عقد زینب ، ونکاحه لزید فهذه الصیغة تجری فی حقِّها حتّی لو لم تکن هذه زینب وإذا کان مراده إنشاء عقده هذه وأخطأ فی تطبیقه بأنّها زینب ، یجری العقد بالنسبة إلی المشار إلیها ولا یرتبط بزینب . وهکذا الأمر بالنسبة إلی الطلاق لو قال الزوج مثلاً « زوجتی هذه _ زینب _ طالق » ، فإن الأمر منوط بقصد الزوج لأنه هو المُنْشئ .

والوجه فی ذلک کلّه أنّ العقود تابعة للقصود ، وإذا تردد المُنْشئ بعد ظهور الخلاف بأنّ قصده أیّهما تکون ، بطل العقد أو الإیقاع والمعاملة ، لأنّ الاُمور الإنشائیة لا تتحقق مع التردید

والشک والتعلیق کما هو واضح ، ویحتاج إلی إنشاء عقد جدید من دون شک وتردید ، وتعیین الموضوع خارجاً .

ص:264


1- (5) مصباح الفقاهة 1 / 303 .
2- (6) ارشاد الطالب 1 / 174 .
3- (7) عمدة المطالب 1 / 241 .

هذا مجمل الکلام فی تعارض الإسم والإشارة ، وقد عرفت عدم تمامیته لا فی صلاة الجماعة ولا فی المعاملات ، واللّه سبحانه هو العالم .

الجهة التاسعة : ما قُصِدَ لَمْ یَقَعْ وما وَقَعَ لَمْ یُقْصَدْ

هذا العنوان اُستدل به علی بطلان المعاملة ، بتقریب : أنّ العقد لم یتعلق بالمبیع بأیّ عنوان اتفق ، بل تعلق به بعنوان أنّه خالصٌ وغیرُ مغشوش ، فإذا کان المبیع مغشوشاً فقد ظهر أنّ ما هو المبیع غیر موجودٍ وما هو موجودٌ غیر المبیع ، فما قصد لم یقع وما وقع لم یقصد .

وفیه : أولاً : هذا الإستدلال علی فرض تمامیته إنّما یتم إذا کان المبیع شخصیّاً ، وأمّا إذا کان المبیع کلیّاً - کما فی بعض المعاملات - فغیر تام .

وثانیاً : إذا وقع العقد علی المبیع الشخصی ولکن الغش لا یخرجه عن حقیقته وصورته النوعیة لا یوجب بطلان المعاملة ، بل یجری فیها خیار العیب أو الوصف أو التدلیس .

نعم ، إذا کان الغش یردّ المبیع عن حقیقته وصورته النوعیة ویوجب انقلابه عن ماهیته ، فیحکم ببطلان المعاملة ، لأنّ ما قصد لم یقع وما وقع لم یقصد . وفی هذا الفرض تمّ الإستدلال کما سبق .

والحاصل ، صحت المعاملة المغشوشة لعدم تمامیة ما اُستدل علی بطلانها ، والحکم ثابت بالحرمة التکلیفیة للغش فقط مع ثبوت الخیارات للمشتری ، واللّه سبحانه هو العالم .

الجهة العاشرة : هل حرمة الغشّ تعمّ الکافر ؟

إذا تأملت ما تلوناه علیک من الروایات ظهر لک أنّ بعض الروایات تخص الحرمة بالمؤمن ، یعنی الشیعی الإمامی ، نحو : صحیحة هشام بن سالم(1) وصحیحة علی بن سوید

ص:265


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 279 ح 1 .

السائی(1) .

وبعضها الآخر تعمّها بالمسلم ، نحو : صحیحة اُخری لهشام بن سالم(2) وحسنة الحسین بن خالد(3) وصحیحة الحلبی(4) وخبر سعد الإسکاف(5) وخبر مناهی النبی(6) صلی الله علیه و آله وسلم وخبر آخر خطبة خطبها النبی صلی الله علیه و آله وسلم بالمدینة(7) .

ویمکن استفادة الحرمة بالنسبة إلی جمیع الناس حتّی الکافر منهم مِنْ بعضها نحو : صحیحة هشام بن الحکم(8) ومعتبرة السکونی(9) وصحیحة الحسین بن المختار القلانسی(10) وصحیحة عبیس بن هشام الناشری(11) وحسنة أو معتبرة موسی بن بکر(12) وحسنة بل صحیحة الحسین بن زید الهاشمی(13) .

فهذه الروایات المعتبرة دالة علی حرمة الغش بالنسبة إلی جمیع الناس مع اختلاف أدیانهم ومذاهبهم ، فلا یجوز غشّهم فی المعاملات ، واللّه سبحانه هو العالم .

وبهذه الجهة تمّ بحث الغش وللّه الحمد أولاً وآخراً .

ص: 266


1- (2) الکافی 8 / 126 ح 95 .
2- (1) وسائل الشیعة 17 / 279 ح 2 .
3- (2) عیون أخبار الرضا علیه السلام 2 / 50 ح 194 .
4- (3) وسائل الشیعة 18 / 112 ح 2 .
5- (4) وسائل الشیعة 17 / 282 ح 8 .
6- (5) وسائل الشیعة 17 / 282 ح 10 .
7- (6) وسائل الشیعة 17 / 283 ح 11 .
8- (7) وسائل الشیعة 17 / 280 ح 3 .
9- (8) وسائل الشیعة 17 / 280 ح 4 .
10- (9) وسائل الشیعة 17 / 282 ح 9 .
11- (10) وسائل الشیعة 17 / 281 ح 7 .
12- (11) وسائل الشیعة 17 / 280 ح 5 .
13- (12) وسائل الشیعة 17 / 281 ح 6 .

الغِناء

اشارة

یقع الکلام فیه ضمن مقامات :

المقام الأوّل : موضوعه

لم یرد فی الروایات تحدید موضوع الغناء ، فلابدّ فی تعیین موضوعه إلی مراجعة کلمات أهل اللغة والفقهاء ، فلذا نقول :

قال أحمد بن فارس : « ... الغناء من الصوت ، والاُغنیة(1) اللون من الغناء»(2) .

وقال ابن منظور : « ... الغنی من المال مقصورٌ ومن السماع ممدودٌ ، وکلّ مَنْ رفع صوته ووالاه فصوته عند العرب غناءٌ ... »(3) .

وقال ابن الأثیر فی معنی التغنی بالقرآن : « ... وقال الشافعی : معناه تحسین القراءة وترقیقها ، ویشهد له الحدیث الآخر « زیَّنوا القرآن بأصواتکم» ، وکلّ من رفع صوته ووالاه فصوته عند العرب غناء ... »(4) .

وقال الفیومی : « ... والغناء مثالُ کِتابٍ : الصوت ، وقیاسُهُ الضّمُ لأنّه صوتٌ ، وغَنَّی بالتشدید إذا تَرَنّم بالغناءِ»(5) .

قال الفیروزآبادی : « ... والغناءُ ککِساءِ من الصوت ما طُرب به ... »(6) .

ص:268


1- (1) یقال : بضم الهمزة وکسرها مع تشدید الیاء وتخفیفها ، أربع لغات .
2- (2) معجم مقاییس اللغة 4 / 398 .
3- (3) لسان العرب 10 / 135 .
4- (4) النهایة فی غریب الحدیث والأثر 3 / 391 .
5- (5) المصباح المنیر / 455 .
6- (6) قاموس اللغة / الطبع الحجری مادة الغنی .

وقال الطریحی : « الغناء ککِساءِ : الصوت المشتمل علی الترجیع المطرب أو ما یُسمی بالعرف غناءً وإن لم یطرب ، سواء کان فی شعرٍ أو قرآنٍ أو غیرهما ، واستثنی منه الحدو للإبل ، وقیل : وفعله للمرأة فی الأعراس مع عدم الباطل . وفی الحدیث : جوار یتغنّین ویضربن بالعود ، أی یستعملن الغناء وضرب العود ... »(1) .

وقال فی المنجد : « الغناء من الصوت : ما طُرِّبَ به . الاُغْنِیَّة والإغْنِیَّة والاُغْنِیَة والإغْنیَة : ما یُترنَّم ویُتغنّی به ، جمعه أغانی وأغانٍ»(2) .

أقول : بعد نقل کلمات اللغویین فلابدّ من مراجعة کلمات الفقهاء فی تعریفه :

قال المحقق فی شهادات الشرائع فی تعریف الغناء : « مدّ الصوت المشتمل علی الترجیع المطربِ یُفَسَّقُ فاعله وتردُّ شهادته وکذا مستعمه ، سواءٌ استعمل فی شعرٍ أو قرآن ولا بأس بالحُداءِ به ... »(3) .

وقال ابن أخته وتلمیذه العلامة الحلی فی شهادات التحریر : « الغناء حرام ، وهو مدّ الصوت المشتمل علی الترجیع المُطْرِب یفسق فاعله وتُردّ شهادته به ، سواء کان فی شعرٍ أو قرآن ، وکذا مستمعُهُ سواء اعتقد إباحته أو تحریمه»(4) .

وقال فی شهادات الإرشاد : « وسامع الغناء _ وهو مدّ الصوت المشتمل علی الترجیع المطرب وإن کان فی قرآن _ وفاعله و ... »(5) .

وقال فی شهادات القواعد : « الغناء حرام یُفَسَّقُ فاعله ، وهو ترجیع الصوت ومدّه ، وکذا یُفَسَّقُ سامعه قاصداً ، سواء کان فی قرآن أو شعر ، ویجوز الحداء»(6) .

وقال فی تلخیص المرام فی تعریفه : « مدّ الصوت بالترجیع واستماعه فی قرآن

ص:268


1- (7) مجمع البحرین / 67 الطبع الحجری و1 / 321 الطبعة الحدیثة .
2- (1) المنجد / 590 .
3- (2) شرائع الإسلام 4 / 117 .
4- (3) تحریر الأحکام الشرعیة 5 / 251 المسألة 6629 .
5- (4) إرشاد الأذهان 2 / 156 .
6- (5) قواعد الأحکام 3 / 495 .

وغیره»(1) .

وقال الشهید فی شهادات الدروس : « ... والمغنّی بمدّ صوته المطرب المرجّع وسامعه ، وإن کان فی قرآن أو اعتقد إباحته ، ویجوز الحُداء وشبهها ... »(2) .

وقال الشیخ شمس الدین محمد بن شجاع القطان الحلی فی شهادات « معالم الدین فی فقه آل یاسین» : « الغناء : وهو مدّ الصوت المطرب وإن کان ورُخصّ الحِداءُ للإبل وغیرها»(3) .

وقال المحقق الثانی : « الغناء : هو ممدود _ ثمّ نقل تعریف الشهید وأضاف _ : ولیس مطلق مدّ الصوت محرّماً وإن مالت القلوب إلیه ما لم ینته إلی حیث یکون مطرباً بسبب اشتماله علی الترجیع المقتضی لذلک ... »(4) .

وقال ثانی الشهیدین : « الغناء _ بالمد _ مدّ الصوت المشتمل علی الترجیع المطرب ، فلا یحرم بدون الوصفین _ أعنی الترجیع مع الإطراب _ وإن وُجد أحدهما . کذا عرّفه جماعة من الأصحاب(5) ، وردّه بعضهم(6) إلی العرف ، فما سمّی فیه غناء یحرم وإن لم یطرب ، وهو حسنٌ . ولا فرق فی ذلک بین کونه فی شعر وقرآن وغیرهما ... »(7) .

وقال فی شهاداته : « الغناء عند الأصحاب محرَّم ، سواء وقع بمجرد الصوت أم انضمّ إلیه آلة من آلاته ... والمراد بالغناء الصوت المشتمل علی الترجیع المطرب ، کذا فسّره به المصنف رحمه الله وجماعة ، والاُولی الرجوع فیه إلی العرف فیما یُسمی فیه غناءً یحرم ، لعدم ورود الشرع بما یضبطه ، فیکون مرجعه إلی العرف . ولا فرق بین وقوعه بشرعٍ وقرآن وغیرهما ،

ص:269


1- (6) تلخیص المرام فی معرفة الأحکام / 311 للعلامة الحلی .
2- (7) الدروس الشرعیة 2 / 126 .
3- (8) معالم الدین فی فقه آل یاسین 2 / 388 .
4- (1) جامع المقاصد 4 / 23 .
5- (2) کالمحقق والعلامة والشهید فی الشرائع والتحریر والإرشاد والدروس کما مرّ کلامهم .
6- (3) کالفاضل المقداد فی التنقیح الرائع 2 / 11 .
7- (4) مسالک الأفهام 3 / 126 .

وکما یحرم فعل الغناء یحرم استماعه کما یحرم استماع غیره من الملاهی ... »(1) .

أقول : ذکر نحو هذا البیان فی الروضة البهیة(2) وفی حاشیته علی الشرائع(3) وقال فی حاشیته علی الإرشاد : معلّقاً علی قول العلامة : « مدّ الصوت المشتمل علی الترجیع المطرب» « أو ما یُسمی فی العرف غناءً وإن لم یطرب»(4) .

وقال المحقق الأردبیلی : « قوله « والغناء» قیل : هو _ بالمد _ مدّ صوت الإنسان المشتمل علی الترجیع المطرب ، الظاهر أنّه لا خلاف حینئذٍ فی تحریمه وتحریم الاُجرة علیه وتعلّمه وتعلیمه واستماعه . وردّه بعض الأصحاب إلی العرف ، فکلّ ما یُسمّی به عرفاً فهو حرام ، وإن لم یکن مشتملاً علی الترجیع ولا علی الطرب .

دلیله : أنّه لفظ ورد فی الشرع تحریم معناه ، ولیس بظاهر له معنی شرعی مأخوذ من

الشرع ، فیحال إلی العرف . والظاهر أنّه یُطلق علی مدّ الصوت من غیر طرب ، فیکون حراماً ، إذ یصحّ تقسیمه إلی المطرب وعدمه ، بل ولا یبعد إطلاقه علی غیر المرجّع والمکرر فی الحلق ، فینبغی الاجتناب ، والأوّل أشهر . ولعلّ وجهه أنّ الذی علم تحریمه بالإجماع هو مع القیدین وبدونهما یبقی علی أصل الإباحة ، ولکنّ مدلول الأدلة أعمٌّ ، مثل : المغنیة ملعونة وملعون مَنْ أکل ثمنها»(5) .

قال صاحب الحدائق : « الغناء _ بالمد ککساء _ قیل : هو مدّ الصوت المشتمل علی الترجیع المطرب ، فلا یحرم بدون الوصفین ، أعنی الترجیع والإطراب ، کذا عرّفه جماعة من الأصحاب ، والطرب : خفة تعتریه تسرّه أو تحزنه .

وردّه بعضهم إلی العرف ، فما سُمی فیه غناءٌ یحرم وإن لم یطرب ، واختاره فی المسالک

ص:270


1- (5) مسالک الأفهام 14 / 179 و 180 .
2- (6) الروضة البهیة 3 / 212 .
3- (7) حاشیة الشرائع / 327 للشهید الثانی .
4- (8) حاشیة الإرشاد للشهید الثانی المطبوعة ضمن غایة المراد 4 / 109 ، ومستقلاً / 381 .
5- (1) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 57 .

وغیره ، وهو المختار ، ولا خلاف فی تحریمه فیما أعلمُ ... »(1) .

ثم قال صاحب الحدائق فی حاشیة کتابه : « وممّن صرح بما اخترناه هنا الفاضل المولی محمد صالح المازندرانی فی شرح الاُصول حیث قال _ بعد الکلام فی الغناء _ : وعرّفه جماعة من أصحابنا بالترجیع المطرب ، فلا تتحقق ماهیته بدون الترجیع والإطراب ولا یکفی أحدهما ، وردّه بعضهم إلی العرف ، فما سمّاه أهل العرف غناءً حرامٌ ، أطرب أم لم یطرب . ولا یخلو من قوة ، لأنّ الشائع فی مثله ممّا لم یعلم معناه لغةً ولم یظهر المقصود منه شرعاً هو الرجوع إلی العرف»(2) .

وقال المحقق السبزواری : « الغناء : وهو مدّ الصوت المشتمل علی الترجیع المطرب علی ما قاله بعضهم ، وبعضهم اقتصر علی الترجیع ، وبعضهم علی الإطراب من غیر ذکر الترجیع ، ومن العامة مَنْ فسّر بتحسین الصوت ، ویظهر ذلک من بعض عبارات أهل اللغة ، والظاهر أنّ الغالب لا ینفک التحسین من الوصفین المذکورین . ومنهم من فسّر بمدّ الصوت . ومنهم من قال : من رفع صوتاً ووالاه فهو غناءٌ . ولعلّ الإطراب والترجیع مجتمعان غالباً . وقیل : ما یُسمی غناء عرفاً وإن لم یشتمل علی القیدین»(3) .

وقال الوحید البهبهانی فی حاشیته علی مجمع الفائدة والبرهان : « وقیل : الُمحْزِن داخل

فی المطرب ، وقیل : مدّ الصوت ، ومنهم من اقتصر علی الصوت المشتمل علی الترجیع ، ومنهم من اقتصر علی المطرب ، وقیل : هو تحسین الصوت ، وقیل : رفع الصوت مع موالاته ، والأظهر الرجوع إلی العرف لتقدّمه علی اللغة عند التعارض علی الأظهر ، سیما مع الاضطراب فی اللغة ، فتأمل»(4) .

وقال أیضاً : « النوحة لیس غناءً فی العرف وإن اشتمل علی ترجیع ما ، فتأمل»(5) .

ص:271


1- (2) الحدائق 18 / 101 .
2- (3) الحدائق 18 / 101 .
3- (4) الکفایة 1 / 428 .
4- (1) حاشیة مجمع الفائدة والبرهان / 27 .
5- (2) حاشیة مجمع الفائدة والبرهان / 27 .

قال الشیخ جعفر : « والغناء من مقولة الأصوات کما یظهر من کثیر من اللغویین والفقهاء ، أو من کیفیاتها کما یظهر من الأکثر من الجانبین ، ولعلّه الأقوی ولیس اختلاف کلامهم فی تفسیره _ حیث قیل : مدّ الصوت ، أو ترجیعه أو إطرابه أو تحسینه أو رفعه وموالاته أو مدّه وتحسینه أو مدّه وترجیعه أو تحسینه وترقیقه أو ترجیعه وإطرابه أو مدّه وترجیعه وإطرابه إلی غیر ذلک ، أو الصوت مقیداً بالطرب أو الرفع والموالاة أو الترجیع والإطراب إلی غیر ذلک _ مبنیّاً علی التعارض حتّی ینظر فی التعادل ویرجّح الأکثر أو الأبصر أو علی الجمع ، فیؤخذ بالجامع للصفات لأنّه المتیقَّن ، والأصل جواز ما عداه ، أو الجمیع عملاً بقول المثبت فیما أثبته ورداً للنافی فیما نفاه ، بل إنّما قصدهم _ کما لا یخفی علی مَنْ مارس کلامهم فی بیانهم لمعانی الألفاظ الشائعة المشهورة _ الدوران حول العرف والإشارة إلیه ، وبیان المعنی العام لیحترز عن إدخاله فی جنس آخر ، کبیان أنّ الغناء من مقولة الأصوات أو کیفیاتها ، وسعدانة من مقولة النبات ونحو ذلک ، ولذا لاتری بینهم معرکة ونزاعاً مع اختلاف العبارات وتفاوت الکلمات ، فلم یبق سوی الرجوع إلی العرف الذی هو المرجع والمفزع فی فهم المعانی من المبانی ، وهو لایکال بمکیال ولایوزن بمیزان ، فقد تراه یری تحقق الغناء فی صوت خال عن الحسن والرّقة مشتمل علی الخشونة والغلظة ، وفی خال عن المدّ مشتمل علی التقطیع والتکسیر ، وفی خال عن الترجیع متصف بالخفاء ، وفی مهیّج للطرب بمعنی الخفة المقرونة بالإنشراح واللّذة ، وفی مقرِّح للفؤاد مهیّج علی البکاء للعشّاق إلی غیر ذلک ، فلیس للفقیه الماهر سوی الرجوع إلیه والتعویل علیه . ولو فرض ثبوت المعنی اللغوی فالعرف مقدّم علیه . وإذا أشکلت علیه الاُمور لاضطرابه ، رجع إلی أصل إباحته إن کان من أهلها أو إلی الأخذ بحائطته إن کان من أهلها»(1) .

ولکن خالف الفقیه المتتبع السید جواد العاملی اُستاذه واختار المعنی المشهور عنده مع القیدین - أعنی الترجیع والإطراب - وقال : « ... إنّ المعنی المشهور [ مع القیدین ] لا یحکم العرف بسواه ، ویرشد إلی ذلک أنّ جماعة ممّن عرّفه کالمحقق فی شهادات الشرائع والمصنف

ص:272


1- (3) شرح القواعد 1 / (193 _ 191) .

[ العلامة ] فی الکتاب [ القواعد ] والتحریر والإرشاد لم یذکروا له إلاّ المعنی المشهور ، وما ذاک إلاّ لأنّه هو الذی یحکم به العرف ، وإلاّ لکان الواجب علیهم الإحالة علی العرف کما تقتضیه قواعدهم ، لأنّه لفظ ورد من الشرع تحریم معناه ولم یعلم له معنیً شرعی فیحال علی العرف ، ولو کان له فی اللغة معنیً یخالفه ، لأنّ العرف العام یقدّم علیها فکیف یفسّرونه بمعنیً یخالف العرف ، إنّ ذلک لمستبعد منهم غایة البعد ... »(1) .

وقال سید الریاض : « الغناء وهو مدّ الصوت المشتمل علی الترجیع المطرب أو ما یُسمّی فی العرف غناءً وإن لم یطرب ، سواء کان فی شعر أو قرآن أو غیرهما علی الأصح الأقوی ... »(2) .

وقال الفاضل النراقی : « ... إنّ کلمات العلماء من اللغویین والاُدباء والفقهاء مختلفة فی تفسیر الغناء ، ففسّره بعضهم بالصوت المطرب ، وآخر بالصوت المشتمل علی الترجیع ، وثالث بالصوت المشتمل علی الترجیع والإطراب معاً ، ورابع بالترجیع ، وخامس بالتطریب ، وسادس بالترجیع مع التطریب ، وسابع برفع الصوت مع الترجیع ، وثامن بمدّ الصوت ، وتاسع بمدّه مع أحد الوصفین أو کلیهما ، وعاشر بتحسین الصوت ، وحادی عشر بمدّ الصوت وموالاته ، وثانی عشر_ وهو الغزالی(3) _ بالصوت الموزون المفهم المحرّک للقلب . ولا دلیل تاماً علی تعیین أحد هذه المعانی أصلاً .

نعم ، یکون القدر المتیقّن من الجمیع المتفق علیه فی الصدق _ وهو : مدّ الصوت المشتمل علی الترجیع المطرب الأعم عن السارّ والمحزن المفهم لمعنی _ غناء قطعاً عند جمیع أرباب هذه الأقوال ، فلو لم یکن هنا قول آخر یکون هذا القدر المتّفق علیه غناءً قطعاً .

إلاّ أنّ بعض أهل اللغة فسّره بما یقال له بالفارسیة : « سرود » ، أیضاً ، وحکی عن الصحاح أنّه قال : الغناء هو ما یسمّیه العجم ب_ « دو بیتی » .

وقال بعض الفقهاء : إنّه یجب الرجوع فی تعیین معناه إلی العرف .

ص:273


1- (1) مفتاح الکرامة 12 / 169 .
2- (2) ریاض المسائل 8 / 155 .
3- (3) إحیاء علوم الدین 2 / 270 .

ولا یخفی ما فی معنی الأولین من الخفاء ، فإنّ « سرود» و« دو بیتی » لیس بذلک الإشتهار فی هذه الأعصار بحیث یتّضح المراد منها ، ویمکن أن یکون هذا متحداً مع أحد المعانی المتقدمة .

ویحتمل قریباً أن یکون لِلّحن وکیفیة الترجیع مدخلیّة فی صدقهما ، ویشعر به ما فی روایة عبد اللّه بن سنان(1) الآتیة الفارقة بین لحن العرب ولحن أرباب الفسوق والکبائر .

ویؤیده أیضاً ما قد یُفسّر ب_ « سرود» من أنّه ما یقال له بالفارسیة « خوانندگی » ، وقد یُفسّر الغناء بذلک أیضاً ، فإنّ التعبیر ب_ « خوانندگی » فی الأغلب إنّما یکون بواسطة الألحان والنغمات .

وکذا الثالث فإنّ فیه خفاءً أیضاً ، فإنّه لا عرف لأهل العجم فی لفظ الغناء ومرادفه من لغة الفرس غیر معلوم ، وعرف العرب فیه غیر منضبط ، وقد یُعبَّر عنه أیضاً ب_ « خوانندگی » وهو غیر ثابت أیضاً .

ولأجل هذه الإختلافات یحصل الإجمال غایته فی معنی الغناء ، ولکنّ الظاهر أنّ القدر المتیقَّن المذکور من المعانی الإثنی عشریة _ سیما إذا ضمّ معه اللحن الخاص المعهود الذی یستعمله أرباب الملاهی ویتداول عندهم ویعبّر عنه الآن عند العوام ب_ « خوانندگی » یکون غناءً قطعاً ، سواء کان فی القرآن والدعاء والمراثی أو فی غیرها ... »(2) .

قال صاحب الجواهر : « إنّما الکلام فی موضوعه ، ففی جملة من کتب الأصحاب أنّه مدّ الصوت المشتمل علی الترجیع المطرب ، بل ربّما قیل أنّه المشهور ، وفی القاموس غناء ککساء من الصوت ما طرب به ، وفی شهادات القواعد وبعض کتب اللغة ترجیع الصوت ومده ، وعن الشافعی أنّه تحسین الصوت وترقیقه ، وفی محکی النهایة أنّ کل من رفع صوتاً ووالاه فصوته عند العرب غناء ، وعن السرائر والإیضاح أنّه الصوت المطرب ، وعن بعض أنه مدّ الصوت ، وعن المصباح المنیر أنه الصوت ، إلی غیر ذلک من کلمات أهل اللغة التی یقطع الماهر بملاحظتها

ص:274


1- (1) وسائل الشیعة 6 / 210 ح 1 . الباب 24 من أبواب قراءة القرآن .
2- (2) مستند الشیعة 14 / 126 .

بکون المراد منها ، بیان أن الغنی [ الغناء ] من هذا الجنس ، نحو قولهم « سُعدانة نبت » ، ضرورة عدم خلو غالب الأصوات فی قراءة القرآن والأدعیة والخطب والشعر فی جمیع الأعصار والأمصار من العلماء وغیرهم ، من تحسین ومدّ وترجیع فی الجملة ، کما لا یخفی علی من له أدنی معرفة وإنصاف ، فیعلم کون المراد کیفیة خاصة منها موکولة إلی العرف ، کما هی العادة فی بیان

أمثال ذلک . نعم لا عبرة بعرف عامة سواد الناس ، فإنّه الآن مشتبه قطعاً ، لعدهم الکیفیة الخاصة من الصوت فی غیر القرآن والدعاء وتعزیة الحسین علیه السلام غناءً ، ونفی ذلک عنها فیها ، وما ذاک إلا اشتباهه للقطع بعدم مدخلیة خصوص ألفاظ فیه ، لما عرفت أنه کیفیة خاصة للصوت بأی لفظ کان . ودعوی التزام جواز ذلک فیها وإن کان غناءً فی غیرها _ لاطلاق ما دل علی الأمر بها(1) الشامل لهذه الکیفیة الخاصة ، بل جاء فی خصوص القرآن الأمر بالتغنی فیه ، وما یقتضی بجواز الغناء فیه _ واضحة الفساد ، لمعلومیة تحکیم النهی فی أمثال ذلک ولیس من تعارض العموم من وجه المحتاج إلی ترجیح ، بل فهم أهل العرف کافٍ فیه ، نحو العام والخاص والمطلق والمقید ، وإلا لتحقق التعارض من وجهٍ بین ما دلّ علی قضاء حاجة المؤمن مثلاً ، والنهی عن اللواط والزنا والکذب وغیرها من المحرّمات ، المعلوم بطلانه بضرورة الشرع أنّه لا یطاع من حیث یعصی . وما ورد فی خصوص القرآن _ بما لا ریب فی قصوره عن معارضة ما دلّ علی الحرمة من وجوه مطرح أو مأوّل أو موضوع . خصوصاً بعد قوله علیه السلام « اقرؤا القرآن بألحان العرب وإیّاکم ولحون أهل الفسوق فإنّه سیجیء قوم یرجّعون القرآن ترجیع الغناء»(2) .

نعم ، قد یحتمل إرادته إختصاص الغناء بالصوت المشتمل علی التحسین بالمدِّ والترجیع المتخذ للهو وانشراح النفس و الطرب ، کما عساه یؤمی إلیه لهو الحدیث وأخذ الطرب فی تعریفه ، ومعروفیة مجالس الغناء بذلک ، بعد العلم بعدم زیادتها فی المدِّ والترجیع علی ما یُستعمل فی غیرها ، ممّا لم یرد به اللهو کالتعزیة والأذان وغیرهما .

ص:275


1- (1) الوسائل 6 / 211 و 212 ح 5 و 6 . الباب 24 من أبواب قراءة القرآن .
2- (2) الوسائل 6 / 210 ح 1 . الباب 24 من أبواب قراءة القرآن .

وقد یؤید بما ذکر فی استثناء النوح منه ، من أنه لیس داخلاً فی موضوعه باعتبار مقابلة النوح له عرفاً ، وما ذاک إلا لعدم اتخاذ اللهو به . لکنّه أیضاً لا یخلو من إشکال ، ضرورة عدم اعتبار ذلک فی حقیقته وإن تعارف استعماله فی مجالس اللهو ، وإلا فربّما کان من أفراد الغناء الأصوات المشجیة والمثیرة للحزن والبکاء ، کما یستعمله العشاق فی فقد المحبوب وعدم نیل المطلوب ، وهو مع ذلک نوع من الطرب ،ولذا حکی عن القاموس التصریح بفساد وهم من خص الطرب بالسرور ، وأنّه قول العوام . والتحقیق الرجوع فی موضوعه إلی العرف الصحیح الذی لا ریب فی شموله للمقامات المعلومة وشعبها المعروفة عند أهل فنّها ، بل لا ریب فی تناوله لغیر ذلک ممّا یستعمله سواد الناس من الکیفیات المخصوصة ، بل الورع یقتضی إجتناب

جمیع الأفراد المشکوک اندراجها فی موضوعه ، وإن کان الأصل یقتضی الإباحة فی شبهة الموضوع الراجعة إلی شبهة الحکم»(1) .

قال العلاّمة الجد آیة اللّه الحاج الشیخ محمد حسین النجفی الأصفهانی قدس سره المتوفی عام 1308 فی تفسیره بهذا الشأن : « قد یکون حسن الصوت طبیعیّاً منشؤه کون آلات التنفّس والتکلّم بحیث یصدر عنه الکلام حسناً وملائماً مناسباً لسمع السامعین بحیث یستلّذ به السامع ، کما أنّها قد تکون علی خلاف ذلک بحیث یخرج منه الکلام علی وجه تشمئز منه النفوس ؛ کصوت الحمار . وهذا فی الصوت کالحسن والقبح فی الوجه وغیره من سائر الأشیاء . وقد یکون اختیاراً ناشئاً من طرف المادّة باعتبار إخراج الحروف من ألیق حدود مخارجها بها علی وجه متناسب ، کما یشاهد فی بعض القرّاء ، أو من طرف الهیئات العارضة للحروف ، المحسّنة لها ، المزیّنة إیّاها ، باعتبار الإنفراد والتألیف مع غیرها بحیث یمیل إلی معروضها نفس السامع ، کما یعرض القبح للکلام بالاعتبارین ، کماهو المشاهد من بعض الناس . وقد یکون اختیاریّاً ناشئاً من ترجیع الصوت وتردیده بکیفیّات خاصّة ، بحیث تؤثر فی النفس سرور أو حزناً ، مع قطع النظر عن مادّة الحروف والکلمات وهیئاتها العارضة لها ، بل هو خارج عنها أصلاً ، بل ربّما یؤثّر تأثیرها فی نفس السامع مع عدم سماعه لجوهر الکلام .

ص:276


1- (1) الجواهر 22 / (47 _ 45) .

وبیان هذا النمط من الحسن وهو الذی تکفّل له علم الموسیقی المعدود من أجزاء علم الحکمة ، وله أقسام وقواعد مسطورة فیه .

ولا یبعد أن یکون هذا القسم بالخصوص هو المراد بالغناء الذی ورد عنه النهی فی الأخبار وأفتی بحرمته العلماء ، ویُشبه أن یکون موضوعه ظاهراً عند أهله ومن له بصیرة بهذا الشأن ، ولو فی الجملة ؛ إذ لیس کل من یعرف حسن الشیء من قبحه یقدر علی صناعته ، کما یظهر بین الخط الحسن والقبیح ، والبناء الحسن من القبیح . والظاهر أنّ هذا من الکیفیّات العارضة للصوت ؛ کعروض هیئة الشعر علی الکلمات فی تعیّنه واقعاً ، وانقسامه إلی أقسام محصورة فی الواقع ، ومعرفته من لا یقدر علی إحداثه ، واختلاف الصانعین فی جودة الطبع وعدمها ، ومقدار الاکتساب . وهذه الکیفیّة هی ترجیع خاص معهود ، ومطرب مؤثّر فی النفس سروراً أو حزناً ، وهو المراد ب_ « خوانندگی » ، ونحوها إن أرید بها وما یشبهها المعانی المعهودة عند أهل الخبرة بهذا الشأن .

وهیهنا نوع آخر من حسن الصوت بالقرآن یحصل من حال القارئ إذا ترقّی فی مقامات القراءة من هذا العالم إلی عالم السرور والبهاء والقدس ، فإنّه یُحدِثُ لقراءته ملاحةً وحسناً ، ویتلبّس بها کلامه بحیث یبتهج به السامع ابتهاجاً روحانیّاً لصدوره من عالم البهجة والحسن والجمال ، وظهور حال المتکلّم وصفاته فی الکلام ، کما یظهر حزنه وسروره فیه بحیث سری منه إلی السامع ، کما یؤثّر الغناء فی ذلک ، وکما أنّه إذا خرج عن القلب دخل فی القلب . ویُشبه أن یکون هذا النمط من الحسن هو ما کان لداود وعلیّ بن الحسین والباقر علیهم السلام علی ما روی فی الأخبار ، أو نمط أعلی من ذلک یشابهه فی الروحانیّة ، وذلک بخروج القرآن عن لسان المتکلّم علی ما هو علیه من البهاء والکمال الروحانی ، أو عن مبدئه الّذی له الجمال المطلق .

وممّا ذکر یظهر أنّه لا یختصّ تحسین الصوت بالقرآن والترجیع به بالتغنّی به ، بل لیس لتلک الأخبار الواردة ظهور تامّ فی جوازه فضلاً عن رجحانه ، فالخروج بها عن إطلاق ما دلّ علی حرمته جرأة تامّة ، خصوصاً بملاحظة ما رواه الکلینی بسنده عن عبد اللّه بن سنان ، عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : « قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إقرأوا القرآن بألحان العرب وأصواتها ، وإیّاکم ولحون أهل الفسق وأهل الکبائر ! فإنّه سیجیء من بعدی أقوام یرجّعون القرآن ترجیع الغناء

ص:277

والنوح والرهبانیّة ، لا یجوز تراقیهم ، قلوبهم مقلوبة وقلوب من یعجبه شأنهم»(1)(2) .

وقال ولده العلاّمة آیة اللّه أبو المجد الشیخ محمد الرضا النجفی الاصفهانی قدس سره فی رسالته الخاصة بهذا الموضوع : « الروضة الغنّاء فی تحقیق معنی الغناء» : « الغناء : صوت الإنسان الذی من شأنه إیجاد الطرب بتناسبه لمتعارف الناس .

والطرب : هو الخفة التی تَعْتَری الإنسان فتکاد أن تذهب بالعقل وتفعل فعل المسکر لمتعارف الناس أیضاً ... ثمّ قال بعد صفحة : تقیید الصوت بصوت الإنسان لیس إلاّ لمتابعة العرف الذی هو المرجع فی معرفة موضوع الأدلة ، فإنّ أصوات البلابل وإن تناسبتْ وأطربتْ لا تُسمّی غناءً .

وبقید التناسب یخرج ما أوجب الطرب بغیره من حسن الصوت اللغوی ذاتاً أو لحسن

صاحبه أو لحسن ألفاظه ومعانیه ونحو ذلک .

وبقید المتعارف یخرج الخارج عنه ، فلا اعتبار بمن هوکالجماد لا یُطْربُه أحسن الألحان ، کما أنّه لا اعتبار بمن یطرب بأدنی سببٍ ، والحال فیه کالحال فی المسکر ... .

وبقولی : « فتکاد أن تذهب الخ» یخرج الطرب الخفیف ، إذ لا اعتبار به کما لا اعتبار بالفرح والنشاط الحاصلین من المشروبات المفرّحة ما لم یبلغ مرتبة یزیل العقل عن المتعارف . وبالجملة : الطرب فی الغناء کالسکر فی الشراب ، والعلّة فی تحریمه عین العلّة فیه ، وهو إزالة العقل . ومن فسّر الغناء بالإطراب وما یشتق منه فلقد أحسن وأصاب ، فمراده هو الذی عرفت لا مطلق الطرب ... .

وفذلکة القول : أنّ الغناء هو الصوت المتناسب الذی من شأنه بما هو متناسب أن

ص:278


1- (1) الکافی ج 2 ، باب ترتیل القرآن بالصوت الحسن ، ص 614 ، ح 3 ؛ ورواه أیضاً الطبرسی قدس سره فی مجمع البیان ، ج 1 ، المقدمة ، الفن السابع ، ص 16 ، عن حذیفة بن الیمان ، عنه صلی الله علیه و آله وسلم ؛ والشیخ البهائی قدس سره فی کشکوله ، ج 2 ، ص 16 ، مرسلاً عن أبی عبد اللّه علیه السلام عنه صلی الله علیه و آله وسلم ؛ وهکذا فی الوسائل 6 / 210 ح 1 ، باب 24 من أبواب قراءة القرآن .
2- (2) مجد البیان فی تفسیر القرآن / (185 _ 183) .

یوجد الطرب ، أعنی الخفة بالحدِّ الذی مرّ ... »(1) .

ومن عجیب التعاریف للغناء ما نسب إلی المؤسس الحائری من دخالة القصد فیه وقال : « ... قد یکون المقصود الأصلی للإنسان قراءة القرآن أو الدعاء أو المرثیة ، فیقصد تبعاً لهذا المقصود علی الوجه الأتم إلی تحسین صوته وترجیعه وترقیقه عند قراءته ، وقد یکون الأمر بالعکس . فالمقصود الأصلی إظهار حسن الصوت لأجل أن یتفرّج به نفسه والحاضرون ، فیتوسّل إلی تمشیة هذا المقصود إلی قراءة القرآن أو دعاء أو مرثیة أو أشعار من المثنوی وغیره ... فالمدعی شهادة الوجدان والعرف بالفرق بین هذین القسمین فی التسمیة باسم الغناء ... ولو فرض إتحاد القسمین فی جمیع کیفیات الصوت وکونهما بمرتبة واحدة مِنْ الحُسن ، ومن المعلوم عدم تأتی الفرق بینهما حینئذ إلاّ مِنْ قبل إصالیة القصد وتبعیته» .

ثمّ استدرک علی نفسه بعد صفحة : « نعم ، لا مضایقة من کون بعض أفراد الصوت غناءً بحسب الذات لا یتغیر عن الغنائیة ولو فیما کان المقصود الأصلی هو المقروء ، کما لا یبعد ذلک فی ما یُسمی ب_ « تصنیف» ، لکن ما ذکرنا من الدوران مدار القصد هو الشائع فی غالب الأصوات الحسنة»(2) .

وأخذ المحقق الایروانی فی تعریف الغناء المحرَّم أربعة اُمور : « بطلان الکلام فی معناه وهواشتماله علی المدّ ، ثمّ الترجیع ، ثمّ الإطراب ، فإذا ارتفع أحد الأربع ارتفع التحریم»(3) .

وقال المحقق الخوئی : «- إنّ الغناء المحرَّم عبارة عن الصوت المرجع فیه علی سبیل اللهو ، فکلّ صوت کان صوتاً لهویاً ومعدوداً فی الخارج من ألحان أهل الفسوق والمعاصی فهو غناء محرّم ... ثمّ إنّ الضابطة المذکورة إنّما تتحقق بأحد أمرین علی سبیل مانعة الخلو :

الأوّل : أن تکون الأصوات المتصفة بصفة الغناء مقترنة بکلام لا یُعدّ عند العقلاء إلاّ باطلاً ، لعدم اشتماله علی المعانی الصحیحة ، بحیث یکون لکلِّ واحد من اللحن وبطلان المادّة

ص:279


1- (1) الروضة الغناء فی تحقیق معنی الغناء ، المطبوعة ضمن مجموعة الرسائل المکتوبة فی الغناء والموسیقی 2 / (1514 _ 1508) طبع قم نشر مرصاد عام 1418 ق .
2- (2) المکاسب المحرمة / (168 _ 166) .
3- (3) حاشیة المکاسب 1 / 179 .

مدخل فی تحقق معنی السماع والغناء ... .

الثانی : أن یکون الصوت بنفسه مصداقاً للغناء وقول الزور واللهو المحرّم ، کألحان أهل الفسوق والکبائر التی لا تصلح إلاّ للرقص والطرب ، سواء تحققت بکلمات باطلة أم تحققت بکلمات مشتملة علی المعانی الراقیة کالقرآن ونهج البلاغة والأدعیة ، نعم : وهی فی هذه الاُمور المعظمة وما أشبهها أبغض لکونها هتکاً للدین بل قد ینجر إلی الکفر والزندقة ... وعلی الجملة لا ریب أنّ للصوت تأثیراً فی النفوس ، فإن کان إیجاده للحزن والبکاء وذکر الجنة والنار بقراءة القرآن ونحوه لم یکن غناء لیحکم بحرمته ، بل یکون القارئ مأجوراً عند اللّه ، وإن کان ذلک للرقص والتلهی کان غناءً وسماعاً ومشمولاً للروایات المتواترة الدالة علی حرمة الغناء واللّه العالم»(1) .

وقال المحقق الخمینی قدس سره تبعاً لأستاذه جدنا أبی المجد قدس سره فی تعریف الغناء : « بأنّه صوت الإنسان الذی له رقة وحسن ذاتی ولو فی الجملة وله شأنیّة إیجاد الطرب بتناسبه لمتعارف الناس ، فخرج بقید الرقة والحسن صوت الأبحّ الردیء الصوت . وإنّما قلنا له شأنیة الإطراب ، لعدم اعتبار الفعلیة بلا شبهة ... وقید التناسب لأجل أن الصوت الرقیق الرخیم إن لم یکن فیه التناسب الموسیقی لا یکون مطرباً ولا غناءً بل لا یتصف بالحسن حقیقة ، فالمدّ الطویل لایکون غناءً ولامطرباً ولو کان فی کمال الرقة والرخامة ... »(2) .

وقال الفقیه السبزواری : « ... إنّ الغناء لها إضافة إلی الصوت وإضافة إلی السامع ولابدّ وأن یشیر فی تفسیره إلی الإضافتین فهی : کیفیة خاصة فی الصوت طبیعیّاً کانت أو صناعیة توجب نحو طرب فی السامع یناسب مجالس اللهو ومحافل الاستئناس والفرح ویلائم مع آلات الملاهی واللعب .

والطرب والفرح أیضاً من الوجدانیات التی تدرک ولا توصف ، فیُسمی المغنیین والمغنیّات بالمطربین والمطربات ، کما یوصف نفس الأصوات أیضاً یقال : أطربنا غناء فلان أو

ص:280


1- (1) مصباح الفقاهة 1 / (313 _ 311) .
2- (2) المکاسب المحرمة 1 / 202 .

فلانة ، بل یطلق علی المرأة الحلوة الجمیلة لفظ « طروب» أیضاً إطلاقاً شائعاً . والطرب هو الإهتزاز فرحاً ... والطرب والفرح بحسب أصل اللغة والوجدان أعم من أن یکون ما یحصل منه حلالاً أو حراماً ، اختیاریاً أو غیر اختیاریٍ .

ثمّ إنّ المنساق ممّا ورد فی تفسیر قول الزور ولهو الحدیث ... إنّما هو کیفیة الصوت بالکیفیات الخاصة ، بقرینة تفاهم العرف من تلک الروایات لا خصوصیات الکلمات التی یتغنی بها .

نعم ، لو کانت تلک الکلمات معنونة بالعناوین الباطلة _ کالکذب _ وما یوجب تهییج الشهوة المحرَّمة ونحو ذلک من المفاسد تحرم من تلک الجهات أیضاً .

الثانیة : النسبة بین مجرد تحسین الصوت والغناء المحرَّم عموم من وجه ، إذ ربّ صوت حسن لا ینطبق علیه الغناء المحرّم ، وربّ غناء محرّم لا ینطبق علیه الصوت الحسن ، لأن لحسن الصوت مراتب کثیرة جداً ، وکذا الطرب والترجیع والغناء أیضاً لها مراتب کثیرة علی ما یشهد به الوجدان وفصّل فی الفنون المعدة لذلک .

الثالثة : المرجع فی تشخیص هذا الموضوع أهل الخبرة ومتعارف الناس کما صرح به فی الجواهر ، ومع الشک فی الصدق فمقتضی الأصل الموضوعی والحکمی عدم الغناء وعدم الحرمة من حیث الصوت ، وأما من حیث الآت اللهویة المحفوفة به فتحرم من تلک الجهة ، ولکن الأحوط الاجتناب فی الشبهة الموضوعیة أیضاً»(1) .

وقال شیخنا الاُستاذ _ مدظله _ : « لا ینبغی التأمل فی کون الغناء عرفاً هی الکیفیة للصوت ، ولا دخل فی صدقه بطلان معنی الکلام وعدمه ، ولذا مَنْ سمع مِنْ بعید صوتاً یکون فیه الترجیع الخاص المناسب للرقص وضرب الأوتار یحکم بأنّه غناءٌ وإن لم یتمیّز عنده مواد الکلام ولعلَّ . هذا هو المراد مِنْ قولهم : بأنّه مدّ الصوت المشتمل علی الترجیع المطرب ، بأن یکون مرادهم تطویل الصوت بنحو خاصٍ ، أی تطویله بترجیعه وتردیده فی الحلق ، بنحو یقتضی الطرب ، أی یناسبه . والطرب حالة تعرض النفس من شدّة الفرح والحزن ، وحقیقته

ص:281


1- (1) مهذب الأحکام 16 / 115 و 114 .

خروج النفس عن اعتدالها ، ولذا ربّما یفعل الإنسان فی ذلک الحال ما لا یفعله فی غیره ، وعلی

کلٍّ فإن أحرز فی مورد کون الکیفیة غناءً فهو وإلاّ فمقتضی الأصل الإباحة ... »(1) .

أقول : هذا ما ذهب إلیه شیخنا الأستاذ الفقیه آیة اللّه المیرزا جواد التبریزی _ مدظله العالی _ فی بحث مکاسبه وما کتبه فی إرشاده ، ولکن فی بحثه عن کتاب الشهادات عدل عنه وأخذ فی تعریف الغناء بطلان معنی الکلام ومضمونه ومحتواه بحیث لو لم یکن باطلاً لم یصدق علی الصوت أنّه غناءٌ علی ما کتبته من تقریرات بحثه فی کتاب الشهادات(2) ، ولکن لم یدرجه فی کتابه « اُسس القضاء والشهادات » المطبوع ، ولعلّ هذا أمارة عدوله عنه .

والمختار من مجموع ما ذکرناه من کلمات اللغویین والفقهاء والأعلام : أنّ الغناء کیفیة خاصة للصوت ، وهی : « صوت الإنسان الذی من شأنه إیجاد الطرب بتناسبه لمتعارف الناس»(3) أو ما یُسمی فی العرف غناءً ، وربّما یقارن بأشیاء اُخری نحو : المدّ والترجیع ورفع الصوت ، وبطلان المحتوی ومضمون الکلام ومعناه ، وآلات الملاهی والمعازف وغیرها .

والطرب : هو الخفة التی تعتری الإنسان من شدّة الفرح أو الحُزن وتوجب خروج النفس عن اعتدالها فتکاد أن تذهب بالعقل ، ولذا ربّما یفعل حینئذ ما لا یفعله فی غیر هذه الحالة . والمراد به شأنیة إیجاد الطرب لا فعلیته ، فلا فرق بین الطرب القلیل أو الکثیر .

وأخذ التناسب فی التعریف یُخرج ما اُوجب الطرب بغیره من حسن الصوت ذاتاً أو حسن ألفاظه ومعانیه أو حسن صاحبه ونحوها .

وقید « ما یُسمی فی العرف غناءً » یدخل کلّما یخرج من تعریفنا _ علی فرض وجوده - والعرف الصحیح یعترفون بأنّه غناء ، وظهر منه أنّ المدار الأصلی فی صحة تعریف الغناء هو العرف لا هذا التعریف المذکور ، وهو إنّما یعتبر کالعون للعرف لا کَلاًّ علیه بحیث یمکنه معارضته ، فالحکم حکم العرف لو فارقه .

فظهر ممّا ذکرنا أنّ الغناء کیفیّة للصوت والمحتوی ومضمون الکلام لا یدخل فیه ، ولذا

ص:282


1- (1) إرشاد الطالب 1 / 179 .
2- (2) کتاب الشهادات / 32 بقلمی وهو مخطوط .
3- (3) هذا القسم من التعریف مأخوذ من جدنا أبی المجد فی رسالته « الروضة الغنّاء فی تحقیق معنی الغناء» .

یمکن التغنّی بالمضامین الحقّ ، نحو : القرآن الکریم ورثاء الحسین علیه السلام ومدح الأئمة علیهم السلام ونحوها .

نعم ، لو کان المضمون کِذباً أو تشبیباً بالمرأة أو تهییجاً للشهوة المحرَّمة ونحوها من المحرّمات ، یحرم من هذه الجهات أیضاً وصارت الحرمة مضاعفة .

هذا ما ظهر لنا مِنْ تعیین موضوع الغناء وتعریفه ، والأمر مؤکول إلی العرف فی البدایة والنهایة ، وبه نختم المقام الأوّل .

المقام الثانی : أدلة حرمة الغناء

اشارة

الأدلة الأربعة تدلّ علی حرمة الغناء :

1 _ الإجماع

الأصحاب متفقون علی حرمة الغناء ومجمعون علی تحریمه ، ولعلّ أوّل من نبّه علی الإجماع هو شیخ الطائفة ، قال فی خلافه : « الغناء محرّم ، یفسق فاعله وتردّ شهادته . وقال أبوحنیفة ومالک والشافعی : هو مکروه .

وحکی عن مالک أنّه قال : هو مباح ، والأوّل هو الأظهر ، لأنّه سئل عن الغناء فقال : هو فعل الفسّاق عندنا .

وقال أبو یوسف : قلتُ لأبی حنیفة فی شهادة المغنّی والنائح والنائحة ؟ فقال : لا أقبل شهادتهم .

وقال إبراهیم بن سعد الزهری : هو مباح غیر مکروه ، وبه قال عبید اللّه بن الحسن العنبری .

وقال أبو حامد : ولا أعرف أحداً من المسلمین حرّم ذلک ولم أعرف مذهبنا .

دلیلنا : إجماع الفرقة وأخبارهم ... »(1) .

ص:283


1- (1) الخلاف 6 / 305 مسألة 54 .

أقول : وهکذا ادعی الإجماع فی حرمة الغناء فی مسألة(1) بعد هذه المسألة وقال فی المبسوط : « ... فالغناء عندنا محرّم یفسق فاعله وتردُّ شهادته ، وقال بعضهم هو مکروه ... »(2) .

والمحقق الأردبیلی قال : « الظاهر أنّه لا خلاف حینئذٍ فی تحریمه وتحریم الاُجرة علیه وتعلّمه وتعلیمه واستماعه»(3) .

وقال المحقق السبزواری : « ولا خلاف عندنا فی تحریم الغناء فی الجملة»(4) .

وقال صاحب الحدائق : « لا خلاف فی تحریمه فیما أعلم»(5) .

وقال الشیخ جعفر : « هو [ أی الغناء ] وتعلّمه وتعلیمه بفعله لا بجنسه وفصله (واستماعه) مراعیّاً صفته أو لا ، دون مجرد سماعه (وأجر المغنیة) حرام لنفسه ، إجماعاً محصّلاً ومنقولاً نقلاً متواتراً ، ومَنْ حرّمه لأجل الملاهی ودخول الرجال علی النساء ونحوهما قائلاً بإباحته لنفسه(6) مخالف للإجماع بل الضرورة من المذهب ، لأنّ حاله کحال الزنا عند الإمامیة ... »(7) .

وقال سید الریاض بعد تعریف الغناء : « علیه إجماع العلماء کما حکاه بعض الأجلاء وهو الحجة»(8) .

وقال الفاضل النراقی : « الدلیل علیها [ أی علی حرمة الغناء ] هو الإجماع القطعی بل

ص:284


1- (2) الخلاف 6 / 307 مسألة 55 .
2- (3) المبسوط 8 / 223 .
3- (4) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 57 .
4- (5) الکفایة 1 / 428 .
5- (1) الحدائق 18 / 101 .
6- (2) وهو الفیض الکاشانی فی مفاتیح الشرائع 2 / 21 مفتاح 465 .
7- (3) شرح القواعد 1 / 193 .
8- (4) ریاض المسائل 8 / 155 .

الضرورة الدینیة ... »(1) .

وقال السید العاملی : « وأمّا حکمه فلا خلاف کما فی مجمع البرهان فی تحریمه وتحریم الاُجرة علیه وتعلّمه وتعلیمه واستماعه ، سواء کان ذلک فی قرآن أو دعاء أو شعر أو غیرها ، حتّی قام المحدث الکاشانی والفاضل الخراسانی فنسجا علی منوال الغزالی وأمثاله من علماء العامة وخصّا الحرام منه بما اشتمل علی محرَّم من خارج مثل اللعب بآلات اللهو ودخول الرجال والکلام فی الباطل ... »(2) .

وقال صاحب الجواهر : « بلا خلاف أجده فیه بل الإجماع بقسمیه علیه ... »(3) .

وهذا المقدار یکفی فی ثبوت الإجماع علی حرمة الغناء ، نعم : یمکن الإشکال فیه بکونه مدرکیّاً .

ولا یبعد دعوی کون حرمة الغناء من ضروریات المذهب کما اعترف به الشیخ جعفر(4) والفاضل النراقی(5) ، فحینئذ یرتفع الإشکال ویتمّ الاستدلال .

2 _ العقل

حیث أنّ الطرب الحاصل من الغناءِ کالسُکر الحاصل من الشراب وهما یوجبان إزالة العقل ولذا یفعل فی هذه الحالة أو شدّتها مالا یفعل فی غیرها ، فالعقل یحکم بالإجتناب عنه ولو فی بعض مصادیقه ، وبقاعدة الملازمة یجری الحکم الشرعی علی طبقه ، فالعقل حاکم بحرمة الغناء فی الجملة .

ولم أر أحداً من الأصحاب تعرض لهذا الإستدلال التام ، وللّه الحمد .

3 _ الکتاب

خَمْسُ آیات من القرآن الکریم بضمیمة الروایات الواردة فی ذیلها تدلّ علی حرمته :

ص:285


1- (5) مستند الشیعة 14 / 129 .
2- (6) مفتاح الکرامة 12 / 172 .
3- (7) الجواهر 22 / 44 .
4- (8) شرح القواعد 1 / 193 .
5- (9) مستند الشیعة 14 / 129 .

الاُولی : قوله تعالی : «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاْءَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ»(1) .

قد ذکر فی عدّة من الروایات تفسیر قول الزور بالغناء .

منها : صحیحة زید الشحام قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن قول اللّه عزّ وجلّ «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاْءَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» فقال : الرجس من الاُوثان الشطرنج ، وقول الزور الغناء(2) .

ومنها : صحیحة حماد بن عثمان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن قول الزور ، قال : منه قول الرجل للذی یُغنّی : « أحسنت »(3) .

ومنها : صحیحة هشام عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الرجس من الأوثان الشطرنج ، وقول الزور الغناء ، الحدیث(4) .

ومنها : خبر أبی بصیر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن قول اللّه تبارک وتعالی : «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاْءَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» قال : الغناء(5) .

ومنها : صحیحة ابن أبی عمیر عن بعض أصحابه عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی قول اللّه

عزّ وجلّ : «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاْءَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» قال : الرجس من الاُوثان الشطرنج ، وقول الزور الغناء(6) .

ومنها : خبر عبد الأعلی قال : سألت جعفر بن محمد علیه السلام عن قول اللّه عزّ وجلّ : «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاْءَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» قال : الرجس من الاُوثان

ص:287


1- (1) سورة الحج / 30 .
2- (2) الکافی 6 / 435 ح 2 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 3 / 881 ح 2 ومختصره فی وسائل الشیعة 17 / 303 ح 2 .
3- (3) معانی الأخبار / 349 ح 2 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 3 / 882 ح 6 ووسائل الشیعة 17 / 309 ح21 .
4- (4) تفسیر القمی 2 / 84 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 3 / 882 ح 9 ووسائل الشیعة 17 / 310 ح 26 .
5- (5) الکافی 6 / 431 ح 1 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 3 / 881 ح 1 ووسائل الشیعة 17 / 305 ح 9 .
6- (1) الکافی 6 / 436 ح 7 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 3 / 881 ح 3 ووسائل الشیعة 17 / 305 ح 8 .

الشطرنج ، وقول الزور الغناء ، الحدیث(1) .

ومنها : خبر أبی موسی عیسی بن أحمد عن الإمام الهادی علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن الباقر علیه السلام : فی قوله : «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الاْءَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ»قال : الرجس الشطرنج ، وقول الزور الغناء(2) .

ومنها : خبر عبد اللّه بن أبی بکر محمد بن عمرو بن حزم قال : قمت إلی متوضَّأ لی ، فسمعتُ جاریةً لجارٍ لی تغنّی وتضرب ، فبقیتُ ساعة أسمع ، قال : ثمّ خرجتُ ، فلما أن کان اللیل دخلت علی أبی عبد اللّه علیه السلام ، فحین استقبلنی قال : الغناء اجتنبوا ، الغناء اجتنبوا ، الغناء اجتنبوا ، اجتنبوا قول الزور . قال : فما زال یقول : الغناء اجتنبوا ، الغناء اجتنبوا ، قال : فضاق بی المجلس ، وعلمتُ أنّه یعنینی ، فلما خرجتُ قلتُ لمولاه مُعْتَب : واللّه ما عنی غیری(3) .

ومنها : روایة زید النرسی فی أصله عن أبی عبد اللّه علیه السلام : «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» الغناء ، وإنّ المؤمن عن جمیع ذلک لفی شغل ، الحدیث(4) .

الثانیة : قوله تعالی : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ اللَّهِ بِغَیْرِ عِلْمٍ وَیَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِکَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِینٌ»(5) .

قد وردت فی ذیلها عدّة من الروایات مفسِّرة بالغناء :

منها : حسنة محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال : سمعته یقول : الغناء ممّا وعد اللّه عزّ وجلّ علیه النار ، وتلا هذه الآیة : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن

ص:287


1- (2) معانی الأخبار / 349 ح 1 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 3 / 881 ح 5 ووسائل الشیعة 17 / 308 ح20 .
2- (3) أمالی الطوسی . المجلس الحادی عشر ح 22 / 294 الرقم 575 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 3 / 882 ح10 .
3- (4) أمالی الطوسی . المجلس الثالث والأربعون ح 3 / 720 الرقم 1519 ونقل عنه مختصراً فی وسائل الشیعة 17 / 309 ح 24 .
4- (5) أصل زید النرسی / 51 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 214 ح 13 .
5- (6) سورة لقمان / 6 .

سَبِیلِ اللَّهِ بِغَیْرِ عِلْمٍ وَیَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِکَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِینٌ»(1) .

ومنها : خبر مهران بن محمد عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سمعته یقول : الغناء ممّا قال اللّه : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ اللَّهِ»(2) .

ومنها : خبر الوشاء قال : سمعت أبا الحسن الرضا علیه السلام یقول : سُئل أبو عبد اللّه علیه السلام عن الغناء ؟ فقال : هو قول اللّه عزّ وجلّ : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ اللَّهِ»(3) .

ومنها : خبر الحسن بن هارون قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : الغناء مجلسٌ لا ینظرُ اللّه إلی أهله ، وهو ممّا قال اللّه عزّ وجلّ : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ اللَّهِ»(4) .

ومنها : خبر عبد الأعلی عن الصادق علیه السلام _ فی حدیث _ قلت : قوله عزّ وجلّ : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ» قال : منه الغناء(5) .

ومنها : خبر أبی بصیر قال : سألت أبا جعفر علیه السلام عن کسب المغنیّات ، فقال : التی یدخل علیها الرجال حرام ، والتی تُدْعی إلی الأعراس لیس به بأس ، وهو قول اللّه عزّ وجلّ : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ اللَّهِ»(6) .

ومنها : ما ورد فی الفقه الرضوی : إعلم أنّ الغناء ممّا وعد اللّه علیه النار فی قوله : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ اللَّهِ بِغَیْرِ عِلْمٍ وَیَتَّخِذَهَا هُزُواً

ص:288


1- (1) الکافی 6 / 431 ح 4 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 4 / 362 ح 2 ووسائل الشیعة 17 / 304 / ح 6 .
2- (2) الکافی 6 / 431 ح 5 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 4 / 362 ح 3 ووسائل الشیعة 17 / 305 / ح 7 .
3- (3) الکافی 6 / 432 ح 8 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 4 / 362 ح 4 ووسائل الشیعة 17 / 306 ح 11 .
4- (4) الکافی 6 / 433 ح 16 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 4 / 362 ح 5 ووسائل الشیعة 17 / 307 ح 16 .
5- (5) معانی الأخبار / 349 ح 1 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 3 / 882 ح 5 و 4 / 362 ح 6 ووسائل الشیعة 17 / 308 ح 20 .
6- (6) الکافی 5 / 119 ح 1 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 4 / 361 ح 1 ووسائل الشیعة 17 / 120 ح 1 .

أُولَئِکَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِینٌ»(1) .

ومنها : مرسلة القاضی نعمان المصری عن الصادق علیه السلام أنّه سُئل عن قول اللّه عزّ وجلّ : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ اللَّهِ» الآیة قال ، قال أبو جعفر علیه السلام : هو الغناء وقد تواعد اللّه علیه بالنار(2) .

ومنها : مرسلة ابن أبی جمهور الأحسائی قال : روی ابن عباس وابن مسعود فی تفسیر قوله تعالی : «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» وقوله تعالی : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ» إنّه الغناء(3) .

ومنها : مرسلة الزمخشری عن أبی اُمامة قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لا یحلّ تعلیم المغنیّات ولا بیعُهُنّ ولا شِراؤهُنّ ولا التجارة فیهنَّ وثمنهنَّ حرام ، وما اُنزِلتْ علیَّ هذه الآیة إلاّ فی مثل هذا الحدیث : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ اللَّهِ» . ثمّ قال : والذی بعثنی بالحقّ ما رفع رجلٌ عقیرة(4) صوته بالغناء إلاّ بعث اللّه تعالی علیه عند ذلک شیطانَیْن : علی هذا العاتق واحد ، وعلی هذا العاتق واحد ، یضربان بأرجُلِهما فی صدره حتّی یکون هو الذی یسکت(5) .

تنبیهٌ : اعلم أن المستفاد من هذه الروایات الواردة فی ذیل الآیة الشریفة أنّ الغناء من المعاصی الکبیرة ، لأنّ الوراد فی حسنة محمد بن مسلم : « الغناء ممّا وعد اللّه علیه النار» ونحوها فی غیرها ، بل نفس تطبیق الغناء علی الآیة الشریفة یدلّ علی أنّها من الکبائر ، لأنّ الوارد فی آخر الآیة الشریفة قوله تعالی : «أُولَئِکَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِینٌ» والعذاب المهین لا یجری إلاّ فی حق الکبیرة ، فثبت أنّ الغناء من المعاصی الکبیرة . ولعلّ هذا سرّ ذکر الأصحاب قدس سرهم الغناء من نواقض العدالة فی کتاب الشهادات ، فراجع کلامهم حتّی یتبین لک الأمر ، وصرح صاحب

ص:289


1- (7) فقه الرضا علیه السلام / 281 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 213 ح 9 .
2- (8) دعائم الإسلام 2 / 207 ح 757 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 212 ح 2 .
3- (1) عوالی اللآلی 1 / 244 ح 173 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 215 ح 18 .
4- (2) عَقیرَةُ الرجل : صوته إذا غَنی أو قرأ أو بَکی .
5- (3) ربیع الأبرار 2 / 569 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 4 / 362 ح 7 .

الریاض(1) بأنّ الغناء من الکبائر بدلالة الآیة الشریفة . وللّه الحمد .

ویؤید کون الغناء من الکبائر بل تدلّ علیه معتبرة مسعدة بن زیاد عن أبی عبداللّه علیه السلام فی حدیث : قم فاغتسل وسَل ما بدالک فإنک کنت مقیماً علی أمر عظیم ، ما کان أسوء حالک لو متّ علی ذلک ، أحمد اللّه وسَلْه التوبة ، الحدیث(2) .

ویؤیده أیضاً خبر الأعمش عن الصادق علیه السلام أنّه قال فی عدّ الکبائر : والملاهی التی تصدّ عن ذکر اللّه عزّ وجلّ مکروهة کالغناء وضرب الأوتار ، الحدیث(3) .

الثالثة : قوله تعالی : «وَالَّذِینَ لاَ یَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا کِرَاماً»(4) .

وردت تفسیرها بالغناء فی عدّة من الروایات :

منها : صحیحة أبی الصباح عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی قوله عزّ وجلّ : «وَالَّذِینَ لاَ یَشْهَدُونَ الزُّورَ» قال : الغناء(5) .

ومنها : صحیحة محمد بن مسلم وأبی الصباح الکنانی عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی قول اللّه عزّ وجلّ : «وَالَّذِینَ لاَ یَشْهَدُونَ الزُّورَ» قال : هو الغناء(6) .

ومنها : خبر أبی أیوب الخزاز قال : نزلنا بالمدینة ، فأتینا أبا عبد اللّه علیه السلام فقال : أین نزلتم ؟ فقلنا : علی فلان ، صاحب القیان ، فقال : کونوا کراماً ، فو اللّه ما علمنا ما أراد به ، وظننّا أنّه یقول : تفضّلوا علیه ، فعُدنا إلیه ، فقلنا له : لا ندری ما أردتَ بقولک : « کونوا کراماً » ، فقال : أما سمعتم قول اللّه عزّ وجلّ فی کتابه : «وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا کِرَاماً»(7) .

ص:290


1- (4) ریاض المسائل 15 / 265 .
2- (5) وسائل الشیعة 3 / 331 ح 1 وسیأتی تمامها .
3- (6) وسائل الشیعة 15 / 331 ح 36 .
4- (1) سورة الفرقان / 72 .
5- (2) الکافی 6 / 431 ح 6 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 4 / 153 ح 1 ووسائل الشیعة 17 / 304 ح 3 .
6- (3) الکافی 6 / 433 ح 13 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 4 / 154 ح 2 ووسائل الشیعة 17 / 304 ح 5 .
7- (4) الکافی 6 / 432 ح 9 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 4 / 154 ح 3 .

أقول : القیان جمع القینة ، وکلّ عبد هو عند العرب قینٌ والأمة قینةٌ ، وبعض الناس یظن القینة المغنیّة خاصةً ویؤیده هذه الروایة .

ومنها : خبر محمد بن أبی عباد _ وکان مشتهراً بالسماع ویشرب النبیذ _ قال : سألت الرضا علیه السلام عن السماع فقال : لأهل الحجاز فیه رأیٌ وهو فی حیّز الباطل واللهو ، أما سمعت اللّه عزّ وجلّ یقول : «وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا کِرَاماً»(1) .

ومنها : مرسلة القاضی نعمان المصری رفعه عن جعفر بن محمد علیه السلام أنّه سُئل عن قول اللّه عزّ وجلّ : «وَالَّذِینَ لاَ یَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا کِرَاماً» قال : من ذلک الغناء والشطرنج(2) .

ومنها : مرسلة اُخری له عن جعفر بن محمد علیه السلام أنّه بلغه قدوم قومٍ قدموا من الکوفة فنزلوا فی دار مغنٍ ، فقال لهم : کیف فعلتم هذا ؟ قالوا : ما وجدنا غیرها یابن رسول اللّه ، وما علمنا إلاّ بعد أن نزلنا ، فقال : أما إذا کان ذلک فکونوا کراماً ، فإنّ اللّه عزّ وجلّ یقول : «وَإِذَا

مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا کِرَاماً»(3) .

ومنها : مرسلة الطبرسی فی قوله تعالی : «وَالَّذِینَ لاَ یَشْهَدُونَ الزُّورَ» عن أبی جعفر علیه السلام وأبی عبد اللّه علیه السلام : هو الغناء(4) .

قال العلامة السید هاشم البحرانی قدس سره بعد نقل هذه الروایة الأخیرة : « ومثله رواه الشیبانی عنهما فی نهج البیان»(5) .

الرابعة : قوله تعالی : «وَالَّذِینَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ»(6) .

بضمیمة ما ورد فی تفسیر علی بن إبراهیم القمی عن الصادق علیه السلام فی حدیث : وقوله :

ص:291


1- (5) عیون أخبار الرضا علیه السلام 2 / 128 ح 5 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 308 ح 19 .
2- (6) دعائم الإسلام 2 / 208 ح 763 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 213 ح 7 .
3- (1) دعائم الإسلام 2 / 209 ح 766 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 220 ح 1 .
4- (2) مجمع البیان 7 / 283 ونقل عنه فی تفسیر فی البرهان 4 / 154 ح 5 ومرآة العقول 22 / 302 .
5- (3) تفسیر البرهان 4 / 154 ذیل ح 5 .
6- (4) سورة المؤمنون / 3 .

«وَالَّذِینَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ» یعنی عن الغناء والملاهی ، الحدیث(1) .

الخامسة : قوله تعالی : «وَلاَ تَقْفُ مَا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ کُلُّ أُولئِکَ کَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً»(2) .

وقد فسّرت فی عدّة من الروایات بأنّ استماع الغناء من المحرَّمات التی یُسأل عنها یوم القیامة :

منها : معتبرة مسعدة بن زیاد قال : کنت عند أبی عبد اللّه علیه السلام فقال له رجل : بأبی أنت واُمّی إنّنی أدخل کنیفاً لی ولی جیران عندهم جوار یتغنّین ویضربن بالعود ، فربّما أطلتُ الجلوس استماعاً منّی لهنَّ ، فقال : لا تفعل ، فقال الرجل : واللّه ما آتیهنَّ إنّما هو سماع أسمعه باُذنی ، فقال : للّه أنت ، أما سمعتَ اللّه عزّ وجلّ یقول : «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ کُلُّ أُولئِکَ کَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً» . فقال : بلی واللّه لکأنّی لم أسمع بهذه الآیة من کتاب اللّه من أعجمیٍّ ولا عربیٍّ لاجرم إنّنی لا أعود إن شاء اللّه ، وإنّی استغفر اللّه ، فقال له : قم فاغتسل وسَل ما بدالک ، فإنّک کنتَ مقیماً علی أمرٍ عظیم ما کان أسوء حالک لو متّ علی ذلک ، أحمد اللّه وسَلْه التوبة من کلِّ ما یکره ، فإنّه لا یکره إلاّ کلّ قبیح ، والقبیح دَعْه لأهله فإنّ لکلٍّ أهلاً(3) .

أقول : رواها الصدوق مرسلاً فی الفقیه 1 / 80 ح 177 والشیخ مرسلاً فی التهذیب

1/116 ح 36 والعیاشی فیتفسیره 3 / 52 ح 76 . وورد فی الفقه الرضوی / 281 أیضاً .

وقال العلامة المجلسی قدس سره « قوله علیه السلام « للّه أنت» إرفاق وإلطاف کقولهم « للّه أبوک» أی ترید أن تکون للّه وموافقاً لرضاه تعالی وتتکلّم بهذا الکلام»(4) .

ومنها : مرسلة العیاشی رفعه عن الحسن قال : کنتُ اُطیل القعود فی المخرج لأسمع غناء بعض الجیران . قال : فدخلت علی أبی عبد اللّه علیه السلام فقال لی : یا حسن «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ کُلُّ أُولئِکَ کَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً» السمع وما وعی ، والبصر وما رأی ، والفؤاد

ص:292


1- (5) تفسیر القمی 2 / 88 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 4 / 14 ح 9 .
2- (6) سورة الإسراء / 36 .
3- (7) الکافی 6 / 432 ح 10ونقل عنه فی تفسیر البرهان 3 / 532 ح 3 ووسائل الشیعة 3 / 331 ح 1 .
4- (1) مرآة العقول 22 / 303 .

وما عَقَد علیه(1) .

ومنها : مرسلة القاضی نعمان المصری رفعه عن جعفر بن محمد علیه السلام أنّ رجلاً سأله عن سماع الغناء ، فنهی عنه وتلا قول اللّه عزّ وجلّ : «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ کُلُّ أُولئِکَ کَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً» وقال : یُسأل السمع عمّا سمع ، والفؤاد عمّا عقد ، والبصر عمّا أبصر(2) .

4 _ السنة

تواترت الروایات من السنة الشریفة علی حرمة الغناء مضافاً إلی ما ذکرتُها فی ذیل الآیات الشریفة :

منها : صحیحة زید الشحام قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : بیت الغناء لا تؤمن فیه الفجیعة ، ولا تجاب فیه الدعوة ، ولا یدخله الملک(3) .

ومنها : صحیحة معمر بن خلاد عن أبی الحسن الرضا علیه السلام قال : خرجت وأنا اُرید داود بن عیسی بن علی وکان ینزل بئر میمون وعلیَّ ثوبان غلیظان ، فرأیت عجوزاً ومعها جاریتان ، فقلت : یا عجوز أتباع هاتان الجاریتان ؟ فقالت : نعم ولکن لا یشتریهما مثلک ، قلت : ولم ؟ قالت : لأنّ إحداهما مغنیّة والاُخری زامرة ، فدخلت علی داود بن عیسی فرفعنی وأجلسنی فی مجلسی ، فلما خرجتُ مِنْ عنده قال لأصحابه : تعلمون مَنْ هذا ؟ هذا علی بن موسی الذی یزعم أهل العراق أنّه مفروض الطاعة(4) .

ومنها : خبر أبی اُسامة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : الغناء عشُ النفاق(5) .

وفی الوسائل بدّل « العشّ » بالغش بالغین .

ومنها : خبر إبراهیم بن محمد المدینی عمّن ذکره عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سُئل عن

ص:293


1- (2) تفسیر العیاشی 3 / 52 ح 74 ونقل عنه فی تفسیر البرهان 3 / 534 ح 7 ووسائل الشیعة 17 / 311 ح29 .
2- (3) دعائم الإسلام 2 / 210 ح 770 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 221 ح 2 .
3- (4) الکافی 6 / 433 ح 15 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 303 ح 1 .
4- (5) الکافی 6 / 478 ح 4 ونقل عنه مختصراً فی وسائل الشیعة 17 / 304 ح 4 .
5- (6) الکافی 6 / 431 ح 2 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 305 ح 10 .

الغناء وأنا حاضر فقال : لا تدخلوا بیوتاً اللّه معرض عن أهلها(1) .

ومنها : خبر یونس قال : سألت الخراسانی علیه السلام وقلت : إنّ العباس ذکر أنّک ترخّص فی الغناء ، فقال : کذب الزندیق ، ما هکذا قلتُ له ، سألنی عن الغناء ، فقلتُ له : إنّ رجلاً أتی أبا جعفر علیه السلام فسأله عن الغناء ، فقال : یا فلان إذا میّز اللّه بین الحقّ والباطل فأنّی یکون الغناء ؟ فقال : مع الباطل ، فقال : قد حکمت(2) .

رواها الصدوق بسند صحیح فی عیون اُخبار الرضا علیه السلام 2 / 14 ح 32 ونقلت عنه فی الموسوعة 8 / 191 ح 26 .

ومنها : خبر یاسر الخادم عن أبی الحسن علیه السلام قال : مَن نزّه نفسه عن الغناء فإنّ فی الجنة شجرة یأمر اللّه عزّ وجلّ الریاح أن تحرّکها فیسمع لها صوتاً لم یسمع بمثله ، ومَنْ لم یتنزّه عنه لم یسمعه(3) .

ومنها : صحیحة عنبسة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : استماع الغناء واللهو ینبت النفاق فی القلب کما ینبت الماء الزرع(4) .

ومنها : خبر سعید بن محمد الطاطری عن أبیه عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سأله رجل عن بیع الجواری المغنیات ، فقال : شراؤهنَّ وبیعهنَّ حرام وتعلیمهنَّ کفرٌ واستماعهنَّ نفاق(5) .

ومنها : خبر الحسن بن علی الوشاء قال : سُئل أبو الحسن الرضا علیه السلام عن شراء المغنیة فقال : قد تکون للرجل الجاریة تلهیه وما ثمنها إلاّ ثمن کلب ، وثمن الکلب سحت ، والسحت فی النار(6) .

ومنها : خبر نصر بن قابوس قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : المغنیة ملعونة ،

ص:294


1- (1) الکافی 6 / 434 ح 18 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 306 ح 12 .
2- (2) الکافی 6 / 435 ح 25 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 306 ح 13 .
3- (3) الکافی 6 / 434 ح 19 ونقلتُ عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 188 ح 13 .
4- (4) الکافی 6 / 434 ح 23 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 188 ح 14 .
5- (5) الکافی 5 / 120 ح 5 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 189 ح 19 .
6- (6) الکافی 5 / 120 ح 4 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 190 ح 22 .

ملعون مَنْ أکل کسبها(1) .

ومنها : خبر إبراهیم بن أبی البلاد قال : أوصی إسحاق بن عمر عند وفاته بجوار له مغنیات أن نبیعهنَّ ونحمل ثمنهنّ إلی أبی الحسن علیه السلام . قال إبراهیم : فبعت الجواری بثلاثمائة ألف درهم وحملتُ الثمن إلیه ، فقلتُ له : إنّ مولی لک یقال له إسحاق بن عمر قد اُوصی عند موته ببیع جوار مغنیّات وحمل الثمن إلیک وقد بعتهنَّ وهذا الثمن ثلاثمائة ألف درهم ، فقال : لا حاجة لی فیه ، إنّ هذا سحت ، وتعلیمهنَّ کفر ، والاستماع منهنّ نفاق ، وثمنهنَّ سحت(2) .

ومنها : خبر الحسن بن هارون قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : الغناء یورث النفاق ویعقّب الفقر(3) .

ومنها : خبر أبی بکر الحضرمی عن أحدهما علیهماالسلام قال : الغناء عُش النفاق ، والشراب مفتاح کلّ شرّ ، ومدمن الخمر کعابد وثن ، مکذّب بکتاب اللّه ، لو صدّق کتاب اللّه لحرّم حرام اللّه(4) .

ومنها : خبر نصر بن قابوس قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : المنجم ملعون ، والکاهن ملعون ، والساحر ملعون ، والمغنیّة ملعونة ، ومَن آواها وأکل کسبها ملعون ، الحدیث(5) .

ومنها : مرسلة الصدوق عن الصادق علیه السلام أنّه قال : شرّ الأصوات الغناء(6) .

ومنها : صحیح علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر قال : سألته عن الرجل یتعمّد الغناء یُجلس إلیه ؟ قال : لا(7) .

ص:296


1- (7) الکافی 5 / 120 ح 6 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 190 ح 23 .
2- (1) الکافی 5 / 120 ح 7 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 190 ح 24 .
3- (2) الخصال 1 / 24 ح 84 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 309 ح 23 .
4- (3) علل الشرائع / 476 ح 3 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 191 ح 27 .
5- (4) الخصال 1 / 297 ح 67 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 191 ح 28 .
6- (5) المقنع / 154 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 309 ح 22 .
7- (6) مسائل علی بن جعفر / 148 ح 186 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 312 ح 32 .

ومنها : مرسلة العیاشی عن جابر بن عبد اللّه عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : کان إبلیس أوّل من تغنّی وأوّل من ناح وأوّل من حدا ، لمّا أکل آدم من الشجرة تغنّی ، فلما هبط حدا ، فلما استقر علی الأرض ناح یُذکّره ما فی الجنة(1) .

ومنها : مرسلة اُخری للعیاشی رفعه عن الحسن بن محبوب عن أبی ولاّد قال : قلت

لأبی عبد اللّه علیه السلام : جعلت فداک ، إنّ رجلاً من أصحابنا ورعاً مسلماً کثیر الصلاة قد ابتُلی بحبّ اللهو وهو یسمع الغناء ؟ فقال : أیمنعه ذلک من الصلاة لوقتها ، أو من صوم أو من عیادة مریض أو حضور جنازة أو زیارة أخ ؟

قال : قلت : لا ، لیس یمنعه ذلک من شیءٍ من الخیر والبِرّ ، قال : فقال : هذا من خطوات الشیطان ، مغفور له ذلک إن شاء اللّه ، الحدیث(2) .

بتقریب : أنّ الإمام علیه السلام عدّ سماع الغناء من خطوات الشیطان والمعاصی ولکن اللّه یغفر للمؤمن هذا الذنب إن یشاء . فالروایة بأحسن وجه تدلّ علی حرمة الغناء مطلقاً .

ومنها : مرسلة القاضی نعمان المصری عن الصادق علیه السلام أنّه سأل رجلاً ممّن یتصل به عن حاله فقال : جعلت فداک ، مرّ بی فلان أمس فأخذ بیدی وأدخلنی منزله وعنده جاریة تضرب وتغنی ، فکنت عنده حتّی أمسینا ، فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : ویحک ، أما خفتَ أمر اللّه أنْ یأتیک وأنت علی تلک الحال ، إنّه مجلس لا ینظر اللّه إلی أهله ، الغناء أخبث ما خلق اللّه ، الغناء شرّ ما خلق اللّه ، الغناء یورث النفاق ، الغناء یورث الفقر(3) .

ومنها : خبر محمد بن محمد بن الأشعث بإسناده عن جعفر بن محمد علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن علی بن أبی طالب علیه السلام قال : طرق طائفة من بنی إسرائیل لیلاً عذاب ، فأصبحوا وقد فقدوا أربعة أصناف : الطبالین والمغنین ، الحدیث(4) .

ومنها : مرسلة صاحب جامع الأخبار رفعه إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : الغناءُ

ص:296


1- (7) تفسیر العیاشی 1 / 128 ح 26 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 17 / 310 ح 28 .
2- (1) تفسیر العیاشی 2 / 389 ح 42 ، ذیل الآیة 24 من سورة الرعد .
3- (2) دعائم الإسلام 2 / 207 ح 759 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 212 ح 4 .
4- (3) الجعفریات / 169 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 214 ح 12 .

رقیّة الزنا(1) .

الروایات فی هذا المجال کثیرة جداً ، فإن شئت راجع الکافی 6 / 431 ، والوافی 17 / 205 ، ووسائل الشیعة 17 / 303 ، ومستدرک الوسائل 13 / 212 ، وجامع أحادیث الشیعة 22 / 229 ، وکتابی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 185 .

المقام الثالث : هل حرمة الغناء مختص بالکلام الباطل ؟

هل حرمة الغناء مطلق ، أی سواء فیها بطلان الکلام وفساد مضمونه ومحتواه أو

حقیّته ، أو تکون الحرمة مختصة بصورة بطلان الکلام وما یُتغنّی به ، فإذا تغنّی بما یکون حقّاً وصحیحاً فلا حرمة حینئذٍ .

ذهب المشهور إلی الإطلاق والبعض إلی التقید ، نحو الفاضل النراقی قال : « إنّ المراد بما یُعصی به من الغناء أو عمل الحرام منه [ إمّا ] هو ما یتکلّم بالباطل ویقترن بالملاهی ونحوهما ، وحینئذٍ فعدم حرمة المطلق واضح ... »(2) .

واستدلوا علی التقیید بوجوه :

منها : قوله تعالی : «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ»(3) .

بتقریب : أنّ الظاهر من الآیة الشریفة لزوم الاجتناب من مقول الزور ، لأنّ اتصاف القول بالزور لا یصح إلاّ باتصاف مقوله بالزور ، ومقول الزور لا یکون إلاّ باطلاً فی نفسه وفاسداً فی محتواه .

ویؤیده صحیحة حماد بن عثمان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن قول الزور ، قال : منه قول الرجل للذی یُغنّی : « أحسنت »(4) .

بتقریب : أن کلمة « أحسنت » توجب ترغیب المغنی فی غنائه المحرَّم وتشویقه إلیه ،

ص:297


1- (4) جامع الأخبار / 433 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 214 ح 14 .
2- (1) مستند الشیعة 14 / 140 .
3- (2) سورة الحج / 30 .
4- (3) وسائل الشیعة 17 / 309 ح 21 .

فتدخل هذه الکلمة الباطلة والمشوقة للمحرّم فی عنوان الباطل . فیظهر بهذه الصحیحة أنّ قول الزور لابدّ وأن یکون باطلاً فی مضمونه ومحتواه .

ویؤیده أیضاً مرسلة الصدوق قال : سأل رجل علی بن الحسین علیه السلام عن شراء جاریة لها صوت ؟ فقال : ما علیک لو اشتریتها فذکّرتک الجنة _ یعنی _ بقراءة القرآن والزهد والفضائل التی لیست بغناء ، فأمّا الغناء فمحظور(1) .

بتقریب : أن الإمام أخرج صوت الجاریة من الغناء إذا أوجب التذکّر للجنة ، فتدلّ الروایة علی أنّ الغناء یجب أن یکون مضمونه باطلاً وفاسداً . وهکذا التفسیر الوارد فیها حتّی لو کان من الصدوق رضی الله عنه ولم یکن من الروایة کما هو الظاهر ، فتدلّ علی خروج قراءة القرآن والزهد وفضائل أئمة أهل البیت علیهم السلام وما شابهها من الغناء المحرَّم . فالغناء ما یکون محتواه باطلاً وفاسداً .

وفیه : أنه إذا تأملت فیما سردناه علیک من الروایات الواردة فی تفسیر الآیة الشریفة ظهر لک أنّ الأئمة علیهم السلام طبقوا قول الزور علی الغناء حکومةً ، لأنه قد مرّ منّا فی بحث سبّ المؤمن(2) من ظهور « الزور » فی الباطل ، ولکن الأئمة حکموا بأنّ الغناء مطلقاً من الباطل ، فیجب الاجتناب عنه ، ولم یفصلّوا بین التغنی بالمضامین الصحیحة والفاسدة ، الحقَّة والباطلة .

وأمّا صحیحة حماد بن عثمان فکلمة « أحسنت» الواردة فیها لم تکن من الباطل المطلق ، نعم : حیث وقع الترغیب والتشویق علی مطلق الغناء صار من الباطل ، ووقوعه فی قبال مطلق الغناء یوجب بطلان هذه الکلمة ، فیظهر من نفس هذا التطبیق أنّ مطلق الغناء یکون محرّم ، لأنّ الإمام علیه السلام لم یفصل فیها بین الغناء ، فهذه الصحیحة علی خلاف مااستدل علیه المستدِّل ، دالة علی حرمة مطلق الغناء ، لأنّ الإمام علیه السلام لم یفصل بأنّ کلمة « أحسنت» إذا وقعت فی قبال التغنّی بالباطل فتکون من قول الزور وإذا وقعت فی قبال التغنّی بالمضامین الصحیحة فلیست من قول الزور . بل حکم مطلقاً بأنّها إذا وقعت فی قبال المغنّی صارت من

ص:298


1- (4) وسائل الشیعة 17 / 122 ح 2 . الباب 16 من أبواب ما یکتسب به .
2- (1) راجع صفحة 189 من هذا المجلد .

قول الزور ، فتدلّ بأحسن وجه علی حرمة مطلق الغناء .

وأمّا مرسلة الصدوق - بعد الغمض عن سندها - فان السائل لم یسأل عن التغنّی بل عن جاریة تکون لها صوت ، أعنی لها حسن الصوت الذاتی ، ومن المعلوم أنّ حسن الصوت غیر الغناء . فلا بأس باشتراء جاریة لها حسن الصوت الذاتی وتذکّر صاحبها بالجنة والزهد وفضائل أئمة أهل البیت علیهم السلام وتقرأ له القرآن بصوتها الحسن . ولذا قال صاحب الوسائل قدس سره فی ذیلها : « إنّ المراد لا بأس بحسن الصوت الذی لا یصل إلی حد الغناء ، فإنّه أعم منه»(1) .

وهکذا فسّرها الصدوق بغیر الغناء وقال فی آخرها « فأمّا الغناء فمحظور »(2) .

والحاصل ، ظهر لک بما ذکرناه عدم تمامیة هذا الوجه من الاستدلال .

ومنها : قوله تعالی : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ اللَّهِ بِغَیْرِ عِلْمٍ»(3) .

بتقریب : أن الظاهر أنّ المراد باللهو هو الباطل ، وإضافة اللهو إلی الحدیث من قبیل إضافة الصفة إلی موصوفهاٌ فصار معناها الحدیث اللهو ، یعنی الحدیث الباطل . وحیث فسر

فی الروایات بالغناء ، یشمل ما یکون مضمونه باطلاً کما یشمل ما إذا تغنّی بالحقِّ ، نحو : التذکّر بالجنة والتشویق إلی العبادة والترغیب إلی المعروف . فالآیة الشریفة لا تشمل الغناء بالمضامین الصحیحة .

بل حیث ورد فیها « لیضلّ عن سبیل اللّه» فیخرج منها الغناء المتعارف ، لأنّه لا یوجب إضلال الناس ، فإنّما یوجب إضلال الناس إذا تغنّی بالباطل ، فالآیة الشریفة ظاهرة فی حرمة التغنّی بالباطل فقط .

وفیه : أن « اللهو » فی الآیة الشریفة مضاف إلی الحدیث ، فصار معناه اللهو فی الحدیث ، أعنی ما یکون فی کیفیته وأدائه من اللهو ، فیدخل الغناء المتعارف ، حیث أنّ أداءه من اللهو . وکذا یشمل التغنّی بالمضامین الصحیحة ، لأنّ نفس هذه الکیفیة والأداء أیضاً من

ص:299


1- (2) وسائل الشیعة 17 / 123 .
2- (3) وسائل الشیعة 17 / 123 .
3- (4) سورة لقمان / 6 .

اللهو . فالکلّ داخل فی الآیة الشریفة ، ولذا وردت فی الروایات المفسرة الماضیة تطبیق الغناء بها من دون تقیید کما مرّت منّا .

ومنها : قوله تعالی : «وَالَّذِینَ لاَ یَشْهَدُونَ الزُّورَ»(1) .

بتقریب : أنّ عباد الرحمن لا یجتنبون من المحرَّمات فقط ، بل إنهم یجتنبون من کثیرٍ من المکروهات ، فلا تدلّ علی حرمة الغناء أصلاً . بلا فرق فی ذلک بین التغنّی بالمضامین الباطلة والصحیحة .

وفیه : نعم عباد الرحمن یجتنبون من کثیر من المکروهات ولکن لا یشهدون فی الآیة الشریفة بمعنی لا یحضرون ، وحیث وردت فی الروایات بعدم الحضور فی مجلس الغناء مطلقاً حتّی فی مرسلة القاضی النعمان الثانیة(2) حیث سأل الإمام علیه السلام عن جماعة من الشیعة إنّهم کیف نزلوا فی دار المغنّی ؟ قالوا : ما وجدنا غیرها وما علمنا إلاّ بعد أن نزلنا ، فأمرهم علیه السلام بالمرور والخروج من الدار ، کیف یمکن حملها علی الکراهة .

والظاهر من الروایات الواردة فی ذیل الآیة الشریفة أنّ الغناء مطلقاً من المحرَّمات التی یجتنب عباد الرحمن منها ولا یشهدون مجلسه .

ویدلّ علی ما ذکرناه من أنّ التغنّی بالمضامین الصحیحة أیضاً من المحرّمات عدّة من الروایات المعتبرة :

منها : حسنة بل موثقة عبد الأعلی بن أعین العجلی [ البجلی ن خ ] قال : سألت أبا

عبد اللّه علیه السلام عن الغناء وقلت : إنّهم یزعمون أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم رخص فی أن یقال : جئناکم جئناکم حیونا حیونا نحیکم ، فقال : کذبوا ، إنّ اللّه عزّ وجلّ یقول : «وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالاْءَرْضَ وَمَا بَیْنَهُمَا لاَعِبِینَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن کُنَّا فَاعِلِینَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَی الْبَاطِلِ فَیَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَکُمُ الْوَیْلُ مِمَّا تَصِفُونَ»(3) ثمّ قال : ویل

ص:300


1- (1) سورة الفرقان / 72 .
2- (2) مستدرک الوسائل 13 / 220 ح 1 .
3- (1) سورة الأنبیاء / (18 _ 16) .

لفلان ممّا یصف ، رجل لم یحضر المجلس(1) .

بتقریب : أن سند الروایة حسن ، لأن المراد بعبدالأعلی المذکور فیها هو ابن أعین کما مرّ منّا بقرینة روایة یونس بن یعقوب عنه ، وهو (أی عبد الأعلی) فی أعلی مراتب الحسن بل هو ثقة . فصار سند الروایة موثقاً بابن فضال .

وأمّا دلالتها علی حرمة مطلق الغناء فواضحة ، لأنّ مضمون هذا الغناء لم یکن باطلاً ومع ذلک حکم الإمام علیه السلام بحرمته وکذّب رخصة رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی ذلک ، فالغناء حرام مطلقاً بدلالة هذه الموثقة .

ومنها : صحیحة الریان بن الصلت قال : سألت الرضا علیه السلام یوماً بخراسان فقلت : یا سیدی إنّ هشام بن إبراهیم حکی عنک أنّک رخّصت له فی استماع الغناء ؟ فقال : کذب الزندیق ، إنّما سألنی عن ذلک فقلت له : إنّ رجلاً سأل أبا جعفر علیه السلام عن ذلک فقال أبو جعفر علیه السلام : إذا میّز اللّه بین الحقّ والباطل فأین یکون الغناء ؟ فقال : مع الباطل ، فقال له أبو جعفر علیه السلام : قد قضیت(2) .

حیث حکم الإمام علیه السلام بأنّها من الباطل ویجب الاجتناب عنه مطلقاً ، بلا فرق بین التغنّی بالحقِّ أو الباطل .

ومنها : صحیحة علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال : سألته عن الرجل یتعمّد الغناء یجلس إلیه ؟ قال : لا(3) .

حیث لم یفصل الإمام بین التغنّی بالحقِّ أو الباطل .

ومنها : صحیحة إبراهیم بن أبی البلاد قال : قلت لأبی الحسن الأوّل علیه السلام : جعلت

فداک إنّ رجلاً من موالیک عنده جوار مغنیّات قیمتهنّ أربعة عشر ألف دینار وقد جعل لک

ص:301


1- (2) وسائل الشیعة 17 / 307 ح 15 .
2- (3) عیون أخبار الرضا علیه السلام 2 / 14 ح 32 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 191 ح 26 وروی عنه أیضاً فی وسائل الشیعة 17 / 306 ح 14 .
3- (4) وسائل الشیعة 17 / 312 ح 32 .

ثلثها ، فقال : لا حاجة لی فیها ، إنّ ثمن الکلب والمغنیة سحت(1) .

حیث لم یفصل الإمام علیه السلام بین أنّهنَّ یغنین بالحقِّ أو الباطل .

ومنها : حسنة محمد بن عثمان العمری بخط صاحب الزمان علیه السلام فی توقیعاته الشریفة : ... وثمن المغنیة حرام(2) .

ومنها : خبر الحسن بن علی الوشاء قال : سُئل أبو الحسن الرضا علیه السلام عن شراء المغنیة ؟ قال : قد تکون للرجل الجاریة تلهیه ، وما ثمنها إلاّ ثمن الکلب ، وثمن الکلب سحت ، والسحت فی النار(3) .

أقول : فیظهر لک من هذه الروایات وممّا سردناه علیک فی ذیل الآیات والسنة المتواترة أنّ الغناء حرام مطلقاً ، بلا فرق بین أنّ ما یتغنّی به کان حقّاً أو باطلاً . وهذا تمام الکلام فی هذا المقام .

المقام الرابع : هل حرمة الغناء ذاتیٌّ أو عرضیٌّ ؟

الغناء بذاته من المحرّمات أو أنّه بواسطة اقترانه ببعض المحرّمات - نحو : دخول الرجال علی النساء ، وتکلّم المغنّیات بالباطل ، وتلاعبهنَّ بآلات الملاهی ، ومثلها - صار من المحرّمات الشرعیة ، بحیث لو لم تکن هذه المحرّمات العارضیة لم یکن الغناء بذاته محرَّماً . فالغناء علی هذا القول من المباحات الشرعیة ، ولکن لاقترانه غالباً بالمحرَّمات صار من المحرَّمات العرضیة .

ذهب إلی الأوّل أعنی الغناء حرام بذاته المشهور ، بل الإجماع من الطائفة المحقّة . وخالفهم فی ذلک وذهب إلی الثانی جماعة من العامة سبق ذکر أقوالهم فی نقل الشیخ الطائفة عنهم فی الخلاف(4) ومنهم : الغزالی فی إحیاء علوم الدین(5) وتبعه منّا جماعة ، منهم : السید

ص:302


1- (1) وسائل الشیعة 17 / 123 ح 4 . الباب 16 من أبواب ما یکتسب به .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 123 ح 3 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 124 ح 6 .
4- (4) الخلاف 6 / 305 مسألة 54 ، وقد مرت منا فی صفحة 284 من هذا المجلد .
5- (5) إحیاء علوم الدین 6 / 137 .

ماجد البحرانی _ وهو من معاصری الشیخ بهاء الدین العاملی واجتمع به فی دار السلطنة

أصفهان فأعجب به شیخنا البهائی ، وبینه وبین الشیخ الإجازة المدبّجة وتوفی فی اللیلة الحادیة والعشرین من شهر رمضان بدار العلم شیراز عام 1028 ودُفن فی مشهد السید أحمد بن الإمام الکاظم علیه السلام (1) .

وتلمیذه محمد محسن الفیض الکاشانی المتوفی عام 1091 والمولی محمد باقر السبزواری المتوفی 1090 صاحب الکفایة ، واستجوده الشیخ حسن بن علی السنقری المتوفی بعد عام 1322 فی رسالته فی الغناء(2) .

فلابدّ لنا من ملاحظة أدلة هذا القول فنقول :

قال الشیخ فی الاستبصار بعد نقل الروایات المجوّزة للغناء فی الأعراس وجواز کسب المغنیة فیها : « فالوجه فی هذه الأخبار الرخصة فی من لا تتکلّم بالأباطیل ولا تلعب بالملاهی من العیدان وأشباهها ولا بالقصب وغیره ، بل تکون ممّن تزف العروس وتتکلّم عندها بإنشاد الشعر والقول البعید مِن الفحش والأباطیل ، فأمّا مَنْ عدا هؤلاء ممّن یتغنین بسائر أنواع الملاهی فلا یجوز علی حالٍ سواء کان فی العرائِس أو غیرها»(3) .

استفاد المحدث الکاشانی من هذا البیان للشیخ أمراً لا یرتضیه صاحبه وقال : « والذی یظهر من مجموع الأخبار الواردة فیه اختصاص حرمة الغناء وما یتعلّق به من الأجر والتعلیم

ص:303


1- (1) ذکره العلامة النوری فی خاتمة مستدرک الوسائل 20 / (239 _ 236) .
2- (2) المطبوعة فی میراث فقهی ، غناء ، موسیقی 2 / 1112 وما بعدها ، وهو من تلامیذ الشیخ هادی الطهرانی رحمهما اللّه . وأمّا انتساب هذا القول إلی أستاده الشیخ هادی الطهرانی قدس سره المتوفی 1321 غیر تام ، لأنّه قال فی أواخر رسالته فی الغناء المطبوعة فی المصدر 2 / 1094 : « ولکن التحقیق أنّ فهم هؤلاء الفحول الأخیار العالمین بالأسرار یوجب ظهور تلک الأخبار فیما ادعوه ، لا أنّ عدم دلالتها فی نفسها یمنع من کشف اتفاقهم عن رضا المعصوم علیه السلام ، فالتحقیق حرمة الغناء فی نفسه بالأخبار والآیات والإجماع ، أما الأخبار فبمعونة فهم الأصحاب ، وأمّا الآیات فبمعونة الأخبار ، وأمّا الإجماع فلتصریح کلّ الفقهاء بحرمته فی نفسه إلاّ قلیل یصلح کلامه للتأویل» .
3- (3) الاستبصار 3 / 92 .

والاستماع والبیع والشراء کلّها بما کان علی النحو المعهود المتعارف فی زمن بنی اُمیة وبنی العباس من دخول الرجال علیهنّ وتکلمهنّ بالأباطیل ولعبهنّ بالملاهی من العیدان والقضیب وغیرها ، دون ما سوی ذلک کما یُشعر به قوله علیه السلام : « لیست بالتی یدخل علیها الرجال » . ثمّ ذکر کلام الشیخ فی الاستبصار وقال : ویُستفاد من کلامه أنّ تحریم الغناء إنّما هو لاشتماله علی أفعال محرّمة ، فإن لم یتضمّن شیئاً من ذلک جاز ، وحینئذ فلا وجه لتخصیص الجواز بزفّ العرائس ، ولا سیما وقد وردت الرخصة به فی غیرها ، إلاّ إنْ یقال : أنّ بعض

الأفعال لا یلیق بذوی المروءات وإن کان مباحاً ، فالمیزان فیه حدیث : مَنْ أصغی إلی ناطق فقد عبده(1) ، وقول أبی جعفر صلوات اللّه علیه : إذا میّز اللّه بین الحقّ والباطل فأین یکون الغناء(2) . وعلی هذا فلا بأس بسماع التغنّی بالأشعار المتضمنة ذکر الجنة والنار والتشویق إلی دار القرار ووصف نعم اللّه الملک الجبار وذکر العبادات والترغیب فی الخیرات والزهد فی الفانیات ، ونحو ذلک کما اُشیر إلیه فی حدیث الفقیه بقوله علیه السلام : فذکّرتک الجنة(3) ، وذلک لأنّ هذه کلّها ذکر اللّه تعالی ، وربّما تقشعرّ منه جلود الذین یخشون ربهم ثمّ تلین جلودهم وقلوبهم إلی ذکر اللّه . وبالجملة لا یخفی علی ذوی الحجی بعد سماع هذه الأخبار تمییز حقّ الغناء من باطله ، وأنّ أکثر ما یتغنّی به المتصوفة فی محافلهم من قبیل الباطل»(4) .

وقال المحقق السبزواری : « ... لأنّ الشائع فی ذلک الزمان الغناء علی سبیل اللهو من الجواری المغنیّات وغیرهنّ فی مجالس الفجور والخمور والعمل بالملاهی والتکلّم بالباطل وإسماعهنّ الرجال وغیرها ، فحمل المفرد علی تلک الأفراد الشائعة فی ذلک الزمان غیر بعید ثمّ ذکر عدّة من الروایات واستفاد منها لمختاره وقال : فإذن لا ریب فی تحریم الغناء علی سبیل اللهو والاقتران بالملاهی ونحوهما ، ثمّ إن ثبت إجماع فی غیره کان متّبعاً ، وإلاّ بقی حکمه علی

ص:304


1- (1) الکافی 6 / 434 ح 24 ونقل عنه فی الوافی 17 / 216 ح 32 .
2- (2) وسائل الشیعة 17 / 306 ح 13 .
3- (3) وسائل الشیعة 17 / 122 ح 2 .
4- (4) الوافی 17 / (223 _ 218) .

أصل الإباحة ، وطریق الاحتیاط واضح »(1) .

ویمکن أن یُستدل لهم بعدّة من الروایات :

منها : صحیحة أبی بصیر قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : أجر المغنیة التی تزفّ العرائس لیس به بأس ، ولیست بالتی یدخل علیها الرجال(2) .

بتقریب : أنّ الحرمة لیست فی الغناء بل الحرمة یختص بدخول الرجال علی النساء وغیره من المحرَّمات التی تتبعه الغناء ، وإلاّ نفس الغناء فلا بأس به .

ومنها : صحیحة علی بن جعفر عن أخیه علیه السلام قال : سألته عن الغناء هل یصلح فی الفطر والأضحی والفرح ؟ قال : لا بأس به ما لم یزمر به(3) .

بتقریب : أنّ الغناء لا بأس به إذا لم یقترن بآلات الملاهی نحو المزمار وغیره ، فنفس الغناء مباح ، بلا فرق بین الأعیاد والفرح وغیرها لعدم احتمال الفرق .

والجمع بین هذه الصحیحة وماضیها : بأنّ العرس وقع فی الفطر أو الأضحی کما احتمله صاحب الوسائل(4) قدس سره ، لم یکن جمعاً عرفیاً ولم یوجد له شاهد جمع ، فلا یصغی إلیه .

ومنها : مرسلة الصدوق قال : سأل رجلٌ علی بن الحسین علیه السلام عن شراء جاریة لها صوت ؟ فقال : ما علیک لو اشتریتها فذکّرتک الجنة(5) .

بتقریب : أنه إذا غنت الجاریة بما فیه ذکر الجنّة ونحوها فلا بأس به ، فظهر عدم حرمة الغناء ذاتاً ، بل الغناء لاقترانه غالباً بالمحرَّمات یصیر منها عرضاً .

ومنها : خبر عبد اللّه بن الحسن الدینوری عن أبی الحسن علیه السلام فی حدیث : قال : قلت : جعلت فداک فأشتری المغنیة أو الجاریة تحسن أن تغنّی اُرید بها الرزق لا سوی ذلک ؟

ص:305


1- (5) الکفایة 1 / 434 و 433 .
2- (6) وسائل الشیعة 17 / 121 ح 3 . الباب 15 من أبواب ما یکتسب به .
3- (7) وسائل الشیعة 17 / 122 ح 5 .
4- (1) وسائل الشیعة 17 / 122 .
5- (2) وسائل الشیعة 17 / 122 ح 2 . الباب 16 من أبواب ما یکتسب به .

قال : اشتر وبع(1) .

بتقریب : أن جواز بیع الجاریة المغنیة یدلّ علی جواز عملها وهو الغناء.

ومنها : ما ذکره الشیخ فی المبسوط حیث قال : « ومن قال الغناء مباح استدلَّ بما روی عن عائشة أنّها قالت : کانت عندی جاریتان تغنّیان ، فدخل أبو بکر فقال : مَن قرر الشیطان فی بیت رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ؟ فقال النبی صلی الله علیه و آله وسلم : دعها ، فإنّها أیّام عید .

وقال عمر : الغناء زاد الراکب .

وکان لعثمان جاریتان تغنّیان باللیل ، فإذا جاء وقت السحر قال : امسکا ، فهذا وقت الاستغفار»(2) .

وتقریب الاستدلال عندهم واضح .

ومنها : خبر عبد اللّه بن سنان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال النبی صلی الله علیه و آله وسلم : لکلِّ شیء حلیة وحلیة القرآن الصوت الحسن(3) .

بتقریب : أنه ظهر من الروایة أنّ التغنّی بالقرآن جائز ، فنفس الغناء لیس من

المحرّمات بل مقارناته من المحرَّمات غالباً .

ومنها : خبر عبد اللّه التمیمی عن الرضا علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : حسّنوا القرآن بأصواتکم ، فإنّ الصوت الحسن یزید القرآن حسناً(4) .

بالتقریب الذی مرّ فی سابقه .

ومنها : خبر أبی بصیر قال : قلت لأبی جعفر علیه السلام : إذا قرأتُ القرآن فرفعتُ صوتی جاءنی الشیطان فقال : إنّما ترائی بهذا أهلک والناس . قال : یا أبا محمد ، إقرأ قراءة ما بین القراءتین تسمع أهلک ، ورجّع بالقرآن صوتک ، فإنّ اللّه عزّ وجلّ یحبّ الصوت الحسن یرجّع

ص:306


1- (3) وسائل الشیعة 17 / 122 ح 1 .
2- (4) المبسوط 8 / 223 .
3- (5) وسائل الشیعة 6 / 211 ح 3 . الباب 24 من أبواب قراءة القرآن .
4- (1) وسائل الشیعة 6 / 212 ح 6 .

فیه ترجیعاً(1) .

بتقریب : أن الترجیع بالقرآن عبارة اُخری عن التغنّی به ، فکیف یمکن أنّ یحبّ اللّه تعالی التغنّی بالقرآن وهو حرام ، فتدلّ الروایة علی جواز التغنّی بالقرآن ، حیث أن عدم مدخلیة القرآن فی الغناء ، فیجوز الغناء إلاّ إذا اقترن بالمحرّمات ، وحینئذ نفس المقترنات حرام لا الغناء .

ولکن فی جمیع هذه الروایات نظرٌ بیّنٌ :

وفیه : أولاً : بأنّ الإجماع قد سبقهم ولحقهم ، فلا یسمع إلی ما ذکروه .

وثانیاً : علی فرض تمامیة هذه الروایات سنداً ودلالة تعارض مع ما ذکرناه سابقاً فی أدلة حرمة الغناء ، وبعد المعارضة تطرح هذه الطائفة الأخیرة ، لأنّها موافقة للعامة وأنت تعرف بأنّ الرشد فی خلافهم ، ولذا ورد فی مقبولة عمر بن حنظلة عن أبی عبد اللّه علیه السلام : « ما خالف العامة ففیه الرشاد»(2) .

وثالثاً : بعد الإغماض عن سندها ودلالتها یمکن حملها علی التقیة أیضاً لموافقتها للعامة ، وقد قال فی المقبولة : « فما وافق حکمه حکم الکتاب والسنة وخالف العامة فیؤخذ به ، ویترک ما خالف حکمه حکم الکتاب والسنة ووافق العامة »(3) .

ورابعاً : یمکن المناقشة فی دلالة هذه الروایات أو سندها علی سبیل منع الخلو :

أمّا صحیحة أبی بصیر : فهی من أدلة استثناء حرمة الغناء فی العرس مع مراعاة عدّة

من الشروط ، ویأتی البحث حولها فی المقام الآتی ، أعنی مستثنیات الغناء .

وأمّا صحیحة علی بن جعفر : فیمکن حملها علی التقیة أو طرحها والأخذ بالطائفة المحرّمة ، أو حملها علی خلاف ظاهرها ، بأنّ یکون من المحتمل فیها حسن الصوت الذی لم یصل إلی حدِّ الغناء کما هو المتعارف بین المؤمنین فی الأعیاد المذهبیة ، بل هو المتعین بعد ثبوت أدلة حرمة الغناء .

ص:307


1- (2) وسائل الشیعة 6 / 211 ح 5 .
2- (3) وسائل الشیعة 27 / 106 ح 1 . الباب 9 من أبواب صفات القاضی .
3- (4) وسائل الشیعة 27 / 106 ح 1 .

وأمّا مرسلة الصدوق : فتحمل علی حسن الصوت الذاتی واستعماله بتوسط الجاریة للتذکّر بالجنة والترغیب إلی العبادات ونحوها ، وإشکال سندها واضح .

وأمّا خبر عبد اللّه بن الحسن الدینوری : فجواز بیع الجاریة المغنیة لا یدلّ علی جواز استماع الغناء ، ولذا قال الشیخ فی المبسوط : « فأمّا ثمن المغنیّات فلیس بحرام إجماعاً ، لأنّها تصلح لغیر الغناء من الاستمتاع بها وخدمتها»(1) .

والروایة ضعیفة سنداً بعبد اللّه بن الحسن الدینوری ، ولیس له فی الفقه إلاّ هذه الروایة ، وهو مهمل .

وأمّا ما ذکره الشیخ فی المبسوط قال قدس سره فی ردّه : « قالوا : وهذا کلّه محمول علی نشید الأعراب مثل الحداء وغیر ذلک ، وعندنا أنّ هذه أخبار آحاد لا یلتفت إلیها وفعل من لا یجب إتباعه»(2) .

أقول : ما ذکره أخیراً من قوله « عندنا » إلی آخره ، تام .

وأمّا خبر عبد اللّه بن سنان : فلا یدلّ علی جواز الغناء ولا علی جواز التغنّی بالقرآن ، بل یدلّ علی استحباب قراءة القرآن بصوت الحسن فقط ، وسندها ضعیف .

وأمّا خبر عبد اللّه التمیمی : فسنده ضعیف ودلالته أضعف من سنده ، والإشکال فیه یظهر من سابقته .

وأمّا خبر أبی بصیر : فالترجیع الوارد فیه غیر الترجیع الغنائی وبحدِّ لم یصل إلیه ، مضافاً إلی ما مرّ فی تعریف الغناء من أنّ الترجیع لیس من مقومات الغناء ، وعلی هذا مطلق الترجیع فی القرآن لیس به بأس ، والروایة تدلّ علیه ، وسندها ضعیف بعلی بن أبی حمزة البطائنی .

وخامساً : علی فرض تمامیة سند هذه الروایات ودلالتها ، وردت فی قبالها روایات

أکثر وأشهر ، فلابدّ من الأخذ بها علی طبق ما ورد فی مقبولة عمر بن حنظلة عن أبی

ص:308


1- (1) المبسوط 8 / 223 .
2- (2) المبسوط 8 / 223 .

عبد اللّه علیه السلام : « ... المجمع علیه عند أصحابک فیؤخذ به مِنْ حکمنا ویترک الشاذ الذی لیس بمشهور عند أصحابک ، فإنّ المجمع علیه لا ریب فیه»(1) .

والحاصل ، حرمة الغناء فی الشریعة المقدسة والمذهب الحقّ ذاتی إجماعاً ، ولذا قال الشیخ جعفر قدس سره : « ومن حرّمه لأجل الملاهی ودخول الرجال علی النساء ونحوهما قائلاً بإباحته لنفسه مخالف للإجماع بل الضرورة من المذهب ، لأنّ حاله کحال الزنا عند الإمامیة»(2) .

وتبعه تلمیذه السید العاملی فقال : « ... والأولی بأهل التحصیل أن لا یلتفتوا إلی ردّ مثل هذه الأباطیل ، إنْ هی إلاّ آراء باردة ومذاهب فاسدة مخالفة لمذهب الشیعة ، کنّا نعیب علی العامة والصوفیة فما راعنا إلاّ وبعض الإمامیة قد استحسن تلک الترهات وأکبّ علی تلک الخرافات»(3) .

وقال تلمیذه الآخر صاحب الجواهر : « ... بل یمکن دعوی کونه (أی حرمة الغناء ذاتیّاً) ضروریّاً فی المذهب ، فمن الغریب ما وقع لبعض متأخری المتأخرین تبعاً للمحکی عن الغزالی من عدم الحرمة فیما لم یقترن بمحرّم خارجی کالضرب بالعود والکلام بالباطل ونحو ذلک ... ومن هنا کان الإطناب فی إفساد ذلک مِنْ تضییع العمر بما لا ینبغی»(4) .

وقال المحقق الخوئی فی إحدی نقوده علی هذا القول : « إذا کان تحریم الغناء إنّما هو للعوارض المحرّمة کان الإهتمام بالمنع عنه فی هذه الروایات لغواً محضاً ، لورود النهی عن سائر المحرّمات بأنفسها»(5) .

وهذا الإشکال متین جداً نحو الإشکالات الماضیة ، ویظهر بما ذکرنا أنّ حرمة الغناء ذاتیٌّ ولو لم یقترن بغیره من المعاصی .

ص:309


1- (1) وسائل الشیعة 27 / 106 ح 1 .
2- (2) شرح القواعد 1 / 193 .
3- (3) مفتاح الکرامة 12 / 173 .
4- (4) الجواهر 22 / 45 و 44 .
5- (5) مصباح الفقاهة 1 / 308 .

المقام الخامس : مستثنیات الغناء

اشارة

قبل الورود فی البحث عن المستثنیات لابدّ لنا من نقل کلام ونقده حتّی ظهر لک إمکان

وقوع الاستثناء فی المقام :

قال الشیخ جعفر : « ... قد ظهر ممّا مرّ أنّه لا ینبغی صدور الاستثناء من أهل النظر ، کیف لا ؟ وتحریم الغناء کتحریم الزنا أخباره متواترة وأدلته متکاثرة عُبّر عنه بقول الزور ولهو الحدیث فی القرآن ، ونادت الأخبار بأنّه المحرّک علی الفجور والعصیان ، فکان تحریمه من الاُمور العقلیة التی لا تقبل تقییداً ولا تخصیصاً بالکلیة . وکیف یخطر بالبال أو یجری فی الخیال أن یقع مثل هذا الکلام من سادات الأنام الآمرین بترک الشبهات خوفاً من الوقوع فی المحرَّمات ، مع أنّه مؤذن بجواز ما فیه معظم اللهو عن ذکر المعاد ومدنٍ إلی الزنا واللواط اللذین هما رأس الفساد ... »(1) .

وتبعه تلمیذه السید العاملی فقال : « ثمّ إنّا قد نقول : أنّ تحریم الغناء کتحریم الزنا أخباره متواترة وأدلته متکاثرة عبّر عنه بقول الزور ولهو الحدیث فی القرآن ونطقت الروایات بأنّه الباعث علی الفجور والفسوق ، فکان تحریمه عقلیّاً لا یقبل تقییداً ولا تخصیصاً ، والأخبار الواردة فی ذلک محمولة علی التقیة فلیلحظ ذلک»(2) .

أقول : ولکن الحقّ أنّ أدلة حرمة الغناء سمعیة والروایات مطلقة ، فیجوز تقییده بها إن ثبتت فی مورد والحکم بجوازها فی ذلک المورد الخاص ویؤید ما ذکرناه بیان صاحب الجواهر(3) فی نقد کلام اُستاذه ، فراجعه إن شئت .

وقد ذکروا فی مقام الاستثناء من حرمة الغناء موارد :

1 _ التغنی بالقرآن

قد استدلوا علی جواز التغنّی بالقرآن عدة مِن الروایات :

ص:310


1- (1) شرح القواعد 1 / 200 .
2- (2) مفتاح الکرامة 12 / 179 .
3- (3) الجواهر 22 / 50 .

منها : ما رواه العامة عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : تغنّوا به ، فمن لم یتغنَّ بالقرآن فلیس منّا»(1) .

ومنها : ما نقل الطبرسی عنهم فی تفسیره : « عبد الرحمن بن السائب قال : قدم علینا سعد بن أبی وقاص ، فأتیته مسلّماً علیه ، فقال : مرحباً یا ابن أخی ، بلغنی أنّک حسن الصوت

بالقرآن ، قلت : نعم والحمد اللّه ، قال : فإنّی سمعتُ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم یقول : إنّ القرآن نزل بالحُزْن ، فإذا قرأتموه فابکوا ، فإن لم تبکوا فتباکوا وتغنّوا به ، فمن لم یتغنّ بالقرآن فلیس منّا»(2) .

أقول : ورواها صاحب جامع الأخبار / 131 ح 16 ونقل عنه فی بحار الأنوار 92 / 188 ح 12 وفی مستدرک الوسائل 4 / 273 ح 7 .

ومنها : خبر أبی بصیر الماضی آنفاً(3) .

أقول : لا یتمّ الاستدلال بهذه الروایات مِنْ وجوه :

أولاً : ضعف إسنادها ، لأنّ الأولان منهما عامیان والثالث ضعیف بعلی بن أبی حمزة البطائنی .

ثانیاً : لیس المراد بالتغنّی بالقرآن رفع الصوت به غناءً ، بل المراد به الاستغناء بالقرآن ، کما ظهر ما ذکرنا بالمراجعة إلی کتب اللغة والتفسیر والحدیث والفقه :

قال ابن الأثیر : « وفی حدیث القرآن « مَن لم یتغنّ بالقرآن فلیس منّا» أی لم یستغن به عن غیره . یقال : تَغَنَّیْتُ وتغانَیْتُ واستغنیتُ . وقیل : أراد مَنْ لم یجهر بالقراءة فلیس منّا . وقد جاء مفسراً .

وفی حدیث آخر « ما أذن اللّه لشیءٍ کإذنه لنبیٍّ یتغنّی بالقرآن یَجْهَرُ به» .

قیل : إنّ قوله « یَجْهَرُ به» تفسیر لقوله « یتغنّی به» .

ص:311


1- (4) سنن ابن ماجة 1 / 424 ح 1337 .
2- (1) مجمع البیان 1 / 16 .
3- (2) وسائل الشیعة 6 / 211 ح 5 .

وقال الشافعی : معناه تحسین(1) القراءة وترقیقُها ... »(2) .

وقال الطبرسی بعد نقل الروایة : « وتأول بعضهم تغنّوا به بمعنی استغنوا به ، وأکثر العلماء علی أنّه تزیین الصوت وتحزینه ... »(3) .

وقال الصدوق بإسناده إلی النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : « لیس منّا من لم یتغن بالقرآن ، ومعناه : لیس منّا من لم یستغن به ، ولا یذهب به إلی الصوت . وقد روی أنّ من قرأ القرآن فهو غنیً لا فقر بعده . وروی أنّ من اُعطی القرآن فظن أنّ أحداً اُعطی أکثر ممّا اُعطی فقد عظّم

صغیراً وصغّر کبیراً . فلا ینبغی لحامل القرآن أن یری أنّ أحداً من أهل الأرض أغنی منه ولو ملک الدنیا برحبها ، ولو کان کما یقوله قوم : أنّه الترجیع بالقراءة وحسن الصوت لکانت العقوبة قد عظمت(4) فی ترک ذلک أن یکن مَنْ لم یرجّع صوته بالقراءة فلیس مِنْ النبی صلی الله علیه و آله وسلم حین قال : (لیس منّا مَنْ لم یتغن بالقرآن) »(5) .

قال الشریف المرتضی یرفعه « عن عبد اللّه بن نهیک أنّه دخل علی سعد فی بیته فإذا مثال(6) رثّ(7) ومتاع رثّ ، فقال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لیس منّا من لم یتغن بالقرآن . قال أبو عبیدة : فذکر المتاع الرث والمثال الرث یدلّ علی أن التغنّی بالقرآن : الاستغناء به عن الکثیر من المال»(8) .

وقال الشیخ فی المبسوط : « وروی عنه [ أی عن رسول اللّه ] صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : لیس منّا مَنْ لم یتغنَّ بالقرآن ، وقیل فی أحد تأویلاته یعنی : یحسن صوته به ، وقیل : معناه یستغنی به من

ص:312


1- (3) فی الهروی : تحزین .
2- (4) النهایة 3 / 391 .
3- (5) مجمع البیان 1 / 16 .
4- (1) أی کثرت .
5- (2) معانی الأخبار / 279 ونقل عنه مختصراً فی مستدرک الوسائل 4 / 273 ح 7 .
6- (3) المثال : الفراش .
7- (4) الرث : السقط من متاع البیت .
8- (5) أمالی الشریف المرتضی 1 / 24 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 4 / 273 ح 9 .

غنی المال ... »(1) .

وقال الفاضل الأصبهانی : « ... فقد فسر التغنّی فیه [ أی فی القرآن [بالإستغناء ، کما روی : أنَّ من قرأ القرآن فهو غنی لا فقر بعده ... »(2).(3) .

فظهر ممّا ذکرنا أنّ المراد بالتغنّی بالقرآن لیس إلاّ الاستغناء به ، لا رفع الصوت به غناءً . ویؤید ما ذکرناه نفی قراءة القرآن غناءً فی عدّة من الروایات وأنّ هذا الفعل یأتی به اُناس فی آخر الزمان إثماً وعصیاناً .

منها : حسنة عبد اللّه بن سنان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إقرأوا القرآن بألحان العرب وأصواتها ، وإیّاکم ولحون أهل الفسق وأهل الکبائر ، فإنّه سیجیء مِنْ بعدی أقوام یرجّعون القرآن ترجیع الغناء والنوح والرهبانیة لا یجوز تراقیهم ، قلوبهم مقلوبة ، وقلوب من یعجبه شأنهم(4) .

سند الروایة حسنٌ ، لأن المراد بابراهیم الأحمر هو إبراهیم بن إسحاق الأحمری النهاوندی ، وضعّفه جمع ولکن قال المامقانی : الأظهر حسنه . والمراد بعبد اللّه بن حماد هو الأنصاری من شیوخ أصحابنا ، ولا أقل من حسنه لو لم یکن ثقة . فالسند صار بهما حسناً .

ومنها : مرسلة القطب الراوندی عن الحسن بن علی علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إقرأوا القرآن بألحان العرب وأصواتها ، وإیّاکم ولحون أهل الفسق وأهل الکبائر ، فإنّه سیجیء مِنْ بعدی أقوام یرجّعون القرآن ترجیع الغناء والنوح ، قلوبهم مفتونة وقلوب من یعجبه شأنهم(5) .

وقال صاحب جامع الأخبار مرفوعاً عن حذیفة بن الیمان قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إقرأوا القرآن بلحون العرب وأصواتها ، وإیّاکم ولحون أهل الفسق وأهل الکبائر ، وسیجیء

ص:313


1- (6) المبسوط 8 / 227 .
2- (7) وسائل الشیعة 6 / 178 ح 3 . الباب 6 من أبواب قراءة القرآن .
3- (8) کشف اللثام 10 / 294 .
4- (9) وسائل الشیعة 6 / 210 ح 1 الباب 24 من أبواب قراءة القرآن .
5- (1) مستدرک الوسائل 4 / 272 ح 1 .

قوم من بعدی یرجّعون بالقرآن ترجیع الغناء والرهبانیة والنوح لا یجاوز حناجرهم ، مفتونة قلوبهم وقلوب الذین یعجبهم شأنهم(1) .

رواها الطبرسی فی مجمع البیان 1 / 16 والشیخ بهاء الدین فی کشکوله 2 / 5 .

فعلی هذا لا یتم دلیل استثناء حرمة الغناء فی القرآن ، فالتغنّی بالقرآن حرام بل أعظم حرمة من التغنی بغیره ، لأنّ فیه نوع استخاف وإهانة بالمقدسات ، وهکذا الأمر فی الأدعیة والأذکار والزیارات ونحوها .

وفی هذا المجال أیضاً راجع إلی ما کتبه جدی العلامة آیة اللّه الحاج الشیخ محمد حسین النجفی الأصفهانی المتوفی عام 1308 فی تفسیره(2) من الفرق بین تحسین الصوت بالقرآن والترجیع به وبینهما وبین التغنّی بالقرآن ، حتّی یظهر لک الحال وکلامه هو الفصل فی المقام .

2 _ مراثی ائمة أهل البیت علیهم السلام

الظاهر أنّ أوّل من تعرض لهذا الاستثناء المحقق الثانی المتوفی عام 940 ، قال فی جامع المقاصد : « واستثنی بعضهم مراثی الحسین علیه السلام کذلک»(3) .

وقال المحقق الأردبیلی : « وقد استثنی مراثی الحسین علیه السلام أیضاً ، دلیله أیضاً غیر واضح ... ویؤیده أنّ البکاء والتّفجّع علیه علیه السلام مطلوب ومرغوب وفیه ثواب عظیم ، والغناء معین علی ذلک وأنّه متعارف دائماً فی بلاد المسلمین فی زمن المشایخ إلی زماننا هذا من غیر نکیر ، وهو یدلّ علی الجواز غالباً . ویؤیده جواز النیاحة بالغناء وجواز أخذ الاُجرة علیها .ثمّ استدل بالروایات المجوِّزة الواردة فی النیاحة ، ثمّ قال : ویؤیده أنّ التحریم للطرب علی الظاهر ، ولهذا قُیّد بالمطرب ولیس فی المراثی الطرب ، بل لیس إلاّ الحزن ، وأکثر هذا یجری فی استثناء مطلق المراثی ، وکأنّه تُرک للظهور .

وبالجملة ، عدم ظهور دلیل التحریم والأصل وأدلة جواز النیاحة مطلقاً بحیث یشمل

ص:314


1- (2) جامع الأخبار / 130 ح 11 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 4 / 272 ح 3 .
2- (3) مجد البیان فی تفسیر القرآن / 184 .
3- (4) جامع المقاصد 4 / 23 .

الغناء بل الظاهر أنّها لا تکون إلاّ معه ، یفید الجواز ، واللّه یعلم .

ولکن لابدّ مِنْ قصد التفجّع والندبة علیه علیه السلام فی الغناء بمرثیته لا غیر ، وهو ظاهر»(1) .

وقال المحقق السبزواری : « وعن بعضهم استثناء مراثی الحسین علیه السلام وهو غیر بعید»(2) .

ومن الذین تبعهم فی هذا الإستثناء هو الفاضل النراقی فی مستند الشیعة(3) .

وأنت تری أنّ الأصحاب ذکروا مراثی الامام الحسین علیه السلام فقط ، ولکن حیث کلّهم أنّ نور واحد عممنّا العنوان فی جمیعهم .

ولکن أنکر الاستثناء جماعة من الأصحاب ، ولعل الإنکار هو القول المشهور :

ومن المنکرین صاحب الحدائق ، قال : « وبعضهم استثنی مراثی الحسین علیه السلام أیضاً قال ، فی الکفایة : وهو غیر بعید . أقول : بل هو بعید غایة البعد ، لما عرفت ممّا قدمناه من الأخبار المتکاثرة ، إلاّ أنّ ما ذکره جید علی مذهبه فی المسألة ممّا قدمنا نقله عنه»(4) .

ومنهم : الوحید البهبهانی قال فی تعلیقه علی مجمع الفائدة والبرهان : « فی أمثال زماننا نری النکیر ، ونری أنّه لا ینفع ولا ینجع ، ونری أنّه ربما یتقون من الناس والعوام ، فلعلّ السابق کان کذلک ، بل لا ندری أنّه فیما سبق کانوا یغنّون فی المراثی ، فضلاً عن تعارف ذلک بینهم ، وخصوصاً مع دعوی عدم النکیر ، مع أنّ المشایخ صرحوا فی کتبهم بالحرمة من غیر

استثناء أصلاً ، واستثنوا الحِداء والزفّة والعرس للمغنیة ولم یستثنوا شیئاً إلاّ ما نسب إلی نادر منهم .

وربما یتمسّک بقول الصادق علیه السلام للمنشد الذی کان یقرأ عنده : « إقرأ کما کنت تقرأ عندکم بالعراق»(5) ، وفیه أیضاً تأمل ظاهر ، لعدم معلومیة المراد وأنّه کان یغنّی بالعراق

ص:315


1- (1) مجمع الفائدة والبرهان 8 / (63 _ 61) .
2- (2) الکفایة 1 / 434 .
3- (3) مستند الشیعة 14 / (146 - 144) .
4- (4) الحدائق 18 / 117 .
5- (1) کامل الزیارات / 104 و 105 ح 1 و 5 .

فتدبر» .

ثمّ قال معلقاً علی قوله : « ویؤیده جواز النیاحة بالغناء» : « لا تأمل فی أنّ النوحة حلال علی کلِّ میت ، سیما علی الحسین علیه السلام ، فلو کان فی الغناء فهو مستثنی وإلاّ فلا استثناء ولا معارضة ، ولعلّه کذلک ، إذ لا یقال فی العرف : أنّه یغنّی ، وإنّ النوحة غناءٌ ، والعرف مقدّم علی اللغة کما حقق . مع أنّ جواز النوحة بلا مضایقة وعدم جواز الغناء مطلقاً ، یؤید التقدیم هنا . وبالجملة ، لم یظهر کون النوحة غناءً حتّی یتوجه ما یقوله ، ویحتاج إلی ارتکاب خلاف الظاهر والتخصیص الذی هو مخالف للأصل ، ومجرد کونه معیناً علی البکاء لا یصلح للتخصیص ، إذ ربما یحصل الإعانة بالأفعال المحرّمة»(1) .

ومنهم : سید الریاض فی کتابه(2) .

ومنهم : جدنا الشیخ جعفر فی شرحه علی القواعد(3) وتلمیذاه وهما صاحبا المفتاح(4) والجواهر(5) .

ومنهم : تلمیذ صاحب الجواهر السید علی آل بحر العلوم قدس سره فی برهان الفقه فی بحث النوح(6) .

ومنهم : الشیخ الأعظم فی المکاسب المحرمة(7) .

أقول : لابدّ من متابعة هؤلاء الأعلام ، لأنّ المرثیة تدخل تحت عنوان النوح ، وسوف یأتی فی هذا الکتاب فی محلّه أنّ النوح علی کلّ میت جائز وعلی الأئمة المعصومین علیهم السلام

مستحب .

ص:316


1- (2) حاشیة مجمع الفائدة والبرهان / 30 و 29 .
2- (3) ریاض المسائل 8 / 157 .
3- (4) شرح القواعد 1 / 194 .
4- (5) مفتاح الکرامة 12 / 177 .
5- (6) الجواهر 22 / 51 .
6- (7) برهان الفقه _ کتاب التجارة / 20 .
7- (8) المکاسب المحرمة / 39 الطبع الحجری _ (1 / 308 وما بعدها) .

ثمّ هل یمکن الإتیان بالرثاء والنوح مع الغناء أولا ؟ الظاهر إمکانه ، بل وقوعه ، لأنه قد مرّ أنّ الغناء هو کیفیة خاصة للصوت ، والمحتوی لیس دخیلاً فی معناه . وأیضاً قد مرّ أنّ الطرب الحاصل من الغناء أعمّ من السرور والحزن ، فحینئذ یمکن الإتیان بالمرثیة والنوح علی طریق الغناء ولکنه صار به حراماً ، فلا یمکن الإتیان بالمستحب وهو مرثیة الأئمة علیهم السلام مع الحرام وهو الغناء .

والروایات الآمرة برثائهم خالیة عن استعمال الغناء فیها ، فهو بحرمته باقٍ . والسیرة المستمرة من المسلمین تنفی استعمال الغناء فی المرثیة . وکون الغناء معیناً علی البکاء - وإن کان فی الجملة صحیحاً - ولکن لا یمکن الاستفادة به فی شیءٍ حتّی المحرّمات الشرعیة للإعانة علی البکاء کما هو واضح .

فما ذکره أصحاب جامع المقاصد ومجمع الفائدة والکفایة ومستند الشیعة فی المقام غیر تام ، فلا یتم عندنا استثناء مراثی الأئمة علیهم السلام من حرمة الغناء کما علیه المشهور ، واللّه سبحانه هو العالم .

3 _ العرائس

قد نسب إلی المشهور استثناء حرمة الغناء فی الأعراس :

قال الشیخ فی النهایة : « ولا بأس بأجر المغنیة فی الأعراس ، إذا لم یُغَنَّین بالأباطیل ولا یَدْخُلْنَ علی الرجال ولا یَدْخُلُ الرجالُ علیهنّ»(1) .

وهکذا ذهب إلی الجواز المحقق فی النافع(2) .

وقال العلامة فی التذکرة : « أمّا المغنیة فی الأعراس فقد ورد رخصة بجواز کسبها إذا لم تتکلّم بالباطل ولم تلعب بالملاهی ولم یدخل الرجال علیها »(3) .

ص:317


1- (1) النهایة / 367 .
2- (2) المختصر النافع / 116 .
3- (3) تذکرة الفقهاء 12 / 140 .

أقول : ونحوها فی القواعد(1) ونهایة الإحکام(2) واختاره فی المختلف(3) واستدل له .

وقال فی التحریر : « الغناء حرام وتعلیمه وأجر المغنیة کذلک ، وقد وردت رخصة بإباحة أجر المغنیة فی العرائس إذا لم تتکلّم بالباطل ولا تلعب بالملاهی کالعیدان والقصب ، بل تکون ممّن تزفّ العروس وتتکلّم عندها بإنشاد الشعر والقول البعید عن الفحش والباطل ، وما عدا ذلک حرام فی العرس وغیره»(4) .

وذهب إلی هذا الاستثناء جماعة من الأعلام ، نحو : الفاضل المقداد فی التنقیح الرائع(5) وتلمیذه الشیخ شمس الدین محمد بن شجاع القطان الحلّی فی معالم الدین فی فقه آل یاسین(6) والشهید فی الدروس(7) والمحقق الثانی فی جامع المقاصد(8) والشهید الثانی فی المسالک(9) والروضة(10) والمحقق الأردبیلی فی مجمع الفائدة والبرهان(11) والمحقق السبزواری فی الکفایة(12) والبحرانی فی الحدائق(13) وسید الریاض(14) والفاضل النراقی(15) والسید العاملی(16) وصاحب

ص:319


1- (4) قواعد الأحکام 2 / 8 .
2- (5) نهایة الإحکام 2 / 496 .
3- (6) مختلف الشیعة 5 / 18 .
4- (1) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 259 مسألة 3012 .
5- (2) التنقیح الرائع 2 / 11 .
6- (3) معالم الدین فی فقه آل یاسین 1 / 330 .
7- (4) الدروس 3 / 162 .
8- (5) جامع المقاصد 4 / 23 .
9- (6) مسالک الأفهام 3 / 126 .
10- (7) الروضة البهیة 3 / 213 .
11- (8) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 59 .
12- (9) الکفایة 1 / 434 .
13- (10) الحدائق 18 / 116 .
14- (11) ریاض المسائل 8 / 157 .
15- (12) مستند الشیعة 14 / 141 .
16- (13) مفتاح الکرامة 12 / 175 .

الجواهر(1) وتلمیذه صاحب برهان الفقه(2) والشیخ الأعظم فی المکاسب المحرمة(3) .

هذا هو القول المشهور فی المقام وهو الجواز وفی قباله قولان آخران :

الأوّل : الحرمة مطلقاً حتّی بالنسبة إلی الغناء فی الأعراس ، والقائل به : أبو الصلاح الحلبی فی الکافی(4) وابن إدریس الحلی فی السرائر(5) وفخر المحققین فی الإیضاح(6) .

وعدّ العلامة فی المختلف المفید وسلاّر من القائلین بالتحریم ، حیث قال : « وقال المفید : کسب المغنیات حرام وتعلّم ذلک وتعلیمه حرام فی شرع الإسلام(7) وأطلق ولم یفصّل . وکذا قال سلاّر(8)»(9) .

ومن القائلین بالحرمة جدنا الشیخ جعفر کاشف الغطاء فی شرحه علی القواعد(10) .

الثانی : کراهة الغناء فی العرس ، ذهب إلیه القاضی ابن البراج(11) وقال فی المفتاح : « لعلّه أراد التحریم ، لأنّه من القدماء ولسانهم فی الکراهیة معلوم»(12) .

قد استدلوا علی جواز التغنّی فی الأعراس بعدّة من الروایات :

منها : صحیحة أبی بصیر قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : أجر المغنیة التی تزفّ العرائس

ص:319


1- (14) الجواهر 22 / 49 .
2- (15) برهان الفقه . کتاب التجارة / 18 .
3- (16) المکاسب المحرمة / 40 من الطبع الحجری _ (1 / 313) .
4- (17) الکافی فی الفقه / 280 .
5- (18) السرائر 2 / 224 .
6- (19) ایضاح الفوائد 1 / 405 .
7- (1) المقنعة / 588 .
8- (2) المراسم / 170 .
9- (3) مختلف الشیعة 5 / 19 .
10- (4) شرح القواعد 1 / 199 .
11- (5) المهذب 1 / 346 .
12- (6) مفتاح الکرامة 12 / 176 .

لیس به بأس ، ولیست بالتی یدخل علیها الرجال(1) .

ومنها : خبر آخر لأبی بصیر عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : المغنیة التی تزف العرائس لا بأس بکسبها(2) .

ویمکن تصحیح سند هذا الخبر ، لأنّ العدّة فیهم ثقات وأحمد بن محمد ثقة والحسین بن سعید ثقة [ علی فرض وجوده فی السند ] ، والإشکال فی السند لیس إلاّ من جهة حکم الحنّاط ، وهو الحکم بن أیْمن الحنّاط ، قال النجاشی : « روی عن أبی عبد اللّه علیه السلام وأبی الحسن علیه السلام »(3) وقال الشیخ « له أصل»(4) ، ولیس له توثیق ولکن روی عنه ابن أبی عمیر وصفوان بسند صحیح فی الکافی 2 / 24 ح 1 و 4 / 391 ح 3 .(5) وعلی مبنی أنّ المشایخ الثلاثة لا یروون ولا یرسلون إلاّ عن ثقة فالرجل صار من الثقات ، ولکن فیه ما لا یخفی . ومن

الممکن أن نذهب إلی أنّ النجاشی دیدنه نقل المطاعن الواردة فی الشخص کما اعترف به السید الداماد(6) ، وحیث لم یذکر له طعناً فالرجل صار من المعاریف ، حیث ینقل عنه المشایخ وله أصل ، فیمکن القول بحسنه واعتباره .

ومنها : خبر ثالث لأبی بصیر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن کسب المغنیات ؟ فقال : التی یدخل علیها الرجال حرام ، والتی تدعی إلی الأعراس لیس به بأس ، وهو قول اللّه عزّ وجلّ : «وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ اللَّهِ»(7) .

ومنها : مرسلة القاضی نعمان المصری رفعه عن أبی جعفر علیه السلام : إنّ رجلاً من شیعته أتاه فقال : یابن رسول اللّه وردتُ المدینة فنزلت علی رجل أعرفه ولا أعرفه بشیءٍ من اللهو ،

ص:320


1- (7) وسائل الشیعة 17 / 121 ح 3 . الباب 15 من أبواب ما یکتسب به .
2- (8) وسائل الشیعة 17 / 121 ح 2 .
3- (9) رجال النجاشی / 137 الرقم 354 .
4- (10) فهرست کتب الشیعة وأصولهم / 160 الرقم 246 .
5- (11) الموسوعة الرجالیة المیسّرة / 170 .
6- (1) الرواشح السماویة / 115 ، الراشحة السابعة عشر .
7- (2) وسائل الشیعة 17 / 120 ح 1 .

فإذا جمیع الملاهی عنده ، وقد وقعت فی أمر ما وقعت فی مثله ، فقال علیه السلام له : أحسن جوار القوم حتّی تخرج من عندهم ، فقال : یابن رسول اللّه فما تری فی هذا الشأن ؟ قال : أمّا القینة التی تتخذ لهذا فحرام ، وأمّا ما کان فی العرس وأشباهه فلا بأس به(1) .

القینة : الأمة المغنیّة .

الأصحاب افتوا علی طبق هذه الروایات وقیدوا بها إطلاق أدلة حرمة الغناء ، فلا بأس بأخذها والإفتاء علی طبقها والذهاب إلی جواز الغناء فی العرس .

أمّا الشرائط الثلاثة التی اشترطوها فهی خارجة عن الغناء ، وهی محرّمات اُخری ولم تنحصر فی الثلاثة بل یمکن عدّها إلی ثلاثین ، فهذه الاُمور الثلاثة من التکلّم بالباطل والتلاعب بالملاهی ودخول الرجال علی المغنیة بنفسها من المحرّمات ، لا أنّها قیود للحکم بجواز التغنّی فی الأعراس .

نعم ، لابدّ من الاجتناب عنها کغیرها من المحرّمات ، ولذا لا أثر لها فی الروایات المجوِّزة إلاّ عدم دخول الرجال علیها فی صحیحة أبی بصیر(2) ، وهو عنوان مشیر إلیها بأنّها غیر المغنیة المتعارفة عند أهل الغناء .

ولکن لابدّ فی الجواز من التوقف علی العرس ، وهو الزفاف _ أی إهداء العروس إلی زوجها حتّی یدخل بها _ دون الختان ونحوه ، وهکذا علی المغنیة دون المغنّی لانحصار أدلة

الجواز .

ویأتی منّا عدم تمامیة استثناء الضرب بالدف فی العرس والختان من حرمة آلات اللهو والموسیقی ، فانتظر .

4 _ الحُداءُ
اشارة

وهو سَوْق الإبل بالغناء لها ، استثناه جماعة من الأصحاب من حرمة الغناء :

ص:321


1- (3) مستدرک الوسائل 13 / 91 ح 2 .
2- (4) وسائل الشیعة 17 / 121 ح 3 .

منهم : الشیخ قال : « وأمّا الحُداء - وهو الشعر الذی تحثُّ به العرب الإبل علی الإسراع فی السیر - فهو مباح ، وهو ممدود ، لأنّه من الأصوات کالدُعاءٍ والنِداء والثُغاءٍ(1) والرُغاءٍ(2) ، وفیه لغتان حُداء وحِداء والضم أقیس لأنّ أوائل الأصوات مضمومة کالدُعاء والثُغاء والخُوار(3) ، والکسر جائز کالغِناء والنِداء . وإنّما قلنا إنّه مباح لما رواه ابن مسعود قال : کان مع رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم لیلة نام فی الوادی حادیان .

وروی عن عائشة أنّها قالت : کنّا مع رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی سفر وکان عبد اللّه بن رواحة جیّد الحداء وکان مع الرجال ، وکان أنجشة مع النساء ، فقال النبی صلی الله علیه و آله وسلم لعبد اللّه بن رواحة : حرّک بالقوم ، فاندفع یرتجز فتبعه أنجشة فاعتنقت الإبل ، فقال صلی الله علیه و آله وسلم لأنجشة : رویدک رفقاً بالقواریر ، یعنی النساء .

وروی أنّ النبی صلی الله علیه و آله وسلم کان فی سفر فأدرک رکباً من تمیم معهم حادٍ ، فأمرهم بأن یحدوا وقال : إنّ حادینا نام آخر اللیل ، فقالوا : یا رسول اللّه نحن أوّل العرب حداء بالإبل ، قال : وکیف ؟ قالوا : کانت العرب تغیر بعضها علی بعض ، فأغار رجل منّا علی إبل فاستاقها فتبددت الإبل ، فغضب علی غلامه فضربه بالعصا فأصابت یده ، فنادی وایداه ، فجعلت الإبل تجتمع فقال له : هکذا فقل _ یعنی قل : وایداه _ فقال ، والنبی یضحک . فقال : من أنتم ؟ قالوا : من مضر ، فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : ونحن من مضر ، فکیف کنتم أوّل العرب ؟ فانتسب رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم تلک اللیلة حتّی بلغ بالنسب إلی مضر ، وضحک النبی صلی الله علیه و آله وسلم من قولهم « نحن أوّل العرب حداء » ، ثمّ قالوا : نحن من مضر ، فقال النبی صلی الله علیه و آله وسلم ونحن أیضاً من مضر فکیف کنتم أوّل العرب حداء »(4) .

ص:322


1- (1) صوت الشاة .
2- (2) رغاءُ البعیر أو النُعام أوالضبع : صوته وضجّته .
3- (3) صوت البقرة .
4- (4) المبسوط 8 / 225 و 224 .

وتبعه أعلام الطائفة ، منهم : المحقق فی شهادات الشرائع(1) والعلامة فی شهادات القواعد(2) والشهید فی شهادات الدروس(3) والشهید الثانی فی المسالک(4) والأردبیلی فی مجمع الفائدة(5) ، وقال المحقق السبزواری : « المشهور بین الأصحاب استثناء الحداء _ وهو سوق الإبل بالغناء لها _ ولا أعلم حجة علیه إلاّ أنْ یقال بعدم شمول أدلة المنع له»(6) .

وقال الفاضل النراقی : « الحق فیه : عدم الحرمة للأصل وعدم ثبوت الحرمة الکلیّة »(7) .

ولکن لعلّ المشهور علی خلافهم ، لعدم وجود مستند لهذا الاستثناء ، ومن القائلین بالحرمة : صاحب الحدائق واعترف ب_ « أنّ المسألة خالیة عن النص»(8) . والفاضل الأصبهانی(9) والوحید(10) والشیخ جعفر(11) وتلمیذیه السید العاملی(12) وصاحب الجواهر(13) وتلمیذه صاحب برهان الفقه(14) وسید الریاض(15) والشیخ الأعظم(16) .

ص:323


1- (1) الشرائع 4 / 128 .
2- (2) قواعد الأحکام 3 / 495 .
3- (3) الدروس 2 / 126 .
4- (4) مسالک الأفهام 3 / 126 .
5- (5) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 59 .
6- (6) الکفایة 1 / 434 .
7- (7) مستند الشیعة 14 / 144 .
8- (8) الحدائق 18 / 116 .
9- (9) کشف اللثام 10 / 294 .
10- (10) حاشیة مجمع الفائدة والبرهان / 28 .
11- (11) شرح القواعد 1 / 203 .
12- (12) مفتاح الکرامة 12 / 177 .
13- (13) الجواهر 22 / 50 .
14- (14) برهان الفقه _ کتاب التجارة / 18 طبع الحجری .
15- (15) ریاض المسائل 8 / 157 .
16- (16) المکاسب المحرمة / 40 طبع الحجری _ (1 / 313) .

وأمّا مستند القائلین بالجواز هو ما روی العامة عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم (1) کما مرّ فی کلام الشیخ .

والروایة بل الروایات کماتری عامیة لم تنقل من طرقنا ، فلا یمکن الاعتماد علیها

والحکم بها بالجواز .

ولکن ورد فی معتبرة السکونی عن جعفر بن محمد علیه السلام عن آبائه علیهم السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : زاد المسافر الحُداء ، والشعر ما کان منه لیس فیه جفاء(2) .

الروایة تدلّ علی جواز الحداء ولکن یعارضها الروایتان :

أولاهما : خبر الفضل الهاشمی عن بعض مشیخته عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : أما یستحیی أحدکم أن یغنّی علی دابّته وهی تسبّح(3) .

وثانیتهما : مرفوعة بعض أصحابنا قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : لا تضربوها علی العثار واضربوها علی النفار . وقال : لا تغنّوا علی ظهورها ، أما یستحیی أحدکم أن یغنّی علی ظهر دابّة وهی تسبّح(4) .

ومن المعلوم أنّ الأخیرتان مخالفتان للعامة ، فلابدّ من الأخذ بهما والحکم علی طبقهما من عدم جواز الحُداء والتغنّی علی ظهر الدابة .

لاسیما أنّ راوی الروایة الاُولی السکونی وهو من قضاة العامة فیحتمل فیها التقیة . ولعله لأجل التعارض أو الحمل علی التقیة أعرض جماعة من الأصحاب قدس سرهم عن هذه المعتبرة .

نعم ، لو قلنا بأنّ الحُداء قسیم للغناء بشهادة العرف فیکون خارجاً عن موضوع الغناء

ص:324


1- (17) سنن البیهقی 10 / 227 .
2- (1) وسائل الشیعة 11 / 418 ح 1 . الباب 37 من أبواب آداب السفر _ المحاسن 2 / 103 ح 75 .
3- (2) وسائل الشیعة 11 / 419 ح 2 _ المحاسن 2 / 124 ح 146 .
4- (3) المحاسن 2 / 468 ح 98 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 11 / 419 ح 3 .

لاعن حکمه ، فیمکن القول فیه بالجواز ، کما قاله الشیخ جعفر(1) وتلمیذاه صاحبا مفتاح الکرامة(2) والجواهر(3) . وکما یظهر من الشیخ الطائفة(4) قبلهم حیث لم یأخذ فی تعریفه الغناء کما سبق ذکره والفاضل الأصبهانی حیث یقول : « ... ما لم یخرج إلی حد الغناء ... ولکن لابدّ من أن لا یخرج إلی حد الغناء لانتفاء الدلیل علی حلّه حینئذٍ»(5) .

وعلی هذا _ یعنی لو قلنا بأنّه قسیم للغناء _ یمکن التعدی من الإبل إلی البغال والحمیر ،

وأمّا لو قلنا بأنّه من الغناء واستثنی من حرمته فلا یتعدی من الإبل إلی البغال والحمیر ، واللّه هو العالم .

وبهذا البیان تمّ المقام الخامس فی المستثنیات وللّه الحمد .

فروعٌ
اشارة

ثم إنّ هاهنا فروعاً لابدّ من التنبیه علیها :

الأوّل :

قال الشیخ جعفر قدس سره : « ویقوی أیضاً خروج أصوات عملة السفن عند مباشرة الأعمال ، وترجیع الاُمّهات لنوم الأطفال ، والنداء لتحریض الرجال علی القتال ، والأصوات المشجیة فی المناجاة ، والأصوات الغیر المشتملة علی الحروف کالهلهلة(6) علی النحو المعروف . ومن الحزم اجتناب الشبهات خصوصاً عند اشتباه الموضوعات»(7) .

ص:325


1- (4) شرح القواعد 1 / 205 .
2- (5) مفتاح الکرامة 12 / 177 .
3- (6) الجواهر 22 / 51 .
4- (7) المبسوط 8 / 224 .
5- (8) کشف اللثام 10 / 294 .
6- (1) هلهل الصوت : رجّعه .
7- (2) شرح القواعد 1 / 205 .

وقال السید العاملی : « وأمّا الرقص والهلاهل والروید(1) فی غیر حال الحرب وحضّ الرجال علی القتال فالحزم اجتنابه ، بل لعلّه یحرم فعله ، لأنّه من اللهو أو الباطل ، والحازم یجتنب الشبهات خصوصاً عند اشتباه الموضوعات»(2) .

وقال صاحب الجواهر : « نعم لا بأس بالهلهولة علی الظاهر لکونها صوتاً من غیر لفظ والغناء من الألفاظ ، وأمّا التردید المسمی بالحوراب فی عرفنا فربّما ظهر من بعض مشایخنا(3) معلومیة حلّیته فی حال الحرب وحثّ الرجال علی القتال المحلّل ، نعم قال : « الحزم اجتنابه واجتناب الرقص والهلهولة فی غیر ذلک ، بل لعلّه یحرم فعله لأنّه من اللهو أو الباطل ، والحازم یجتنب الشبهات خصوصاً عند اشتباه الموضوعات » .

وفیه : أنّه مع فرض عدم اندراجه فی الغناء یمکن فرضه فیما لا یدخل فی اللعب واللهو ، أمّا مع فرض اندراجه فیه فیشکل جوازه فیه(4) ، فضلاً عن غیره من الأحوال لإطلاق أدلة

النهی ، بل قد اقترنت بمؤکدات تقتضی إرادة جمیع الأفراد علی وجه أظهر دلالة من العموم اللغوی ، فتأمل جیداً ، واللّه العالم »(5) .

وقال تلمیذه السید علی آل بحرالعلوم فی برهان الفقه : « ولو أوجد الغناء المحرَّم من غیر ألفاظ ممیزة بل کان مجرد صوت علی لهجة الغناء فالظاهر حرمته ، لأنّ اللفظ غیر معتبرة فی حقیقة الغناء ، بل هو من کیفیات الصوت ، وفی جواهر الأستاد : « لا بأس بالهلهولة علی الظاهر لکونها صوتاً من غیر لفظ والغناء من الألفاظ» . وفیه : ما عرفت بل ادعی هو : « إتفاق الجمیع » فی صدر المسألة « علی أنّه من مقولات الأصوات أو کیفیاتها »(6) قال : « ولا ینافی ذلک عدّه من لهو الحدیث وقول الزور ونحوها ممّا یمکن کون المراد منه أنّه کذلک باعتبار هذه

ص:326


1- (3) رُوَید : مصدر أرْود مُصغّراً تصغیر الترخیم ، یقال : رویداً : أی مهلاً .
2- (4) مفتاح الکرامة 12 / 179 .
3- (5) إشارة إلی کلام صاحب المفتاح .
4- (6) أی فی الحرب .
5- (1) الجواهر 22 / 51 .
6- (2) الجواهر 22 / 44 .

الکیفیة الخاصة »(1) ، فلو اشتملت الهلهولة علی المدّ والترجیع المطرب المعتبر فی الغناء مثلاً تحرم أیضاً»(2) .

أقول : الحقّ موافقة صاحب برهان الفقه قدس سره من عدم مدخلیة الألفاظ فی الغناء ، فعلی هذا لو أوجد الغناء من غیر ألفاظ ممیزة یکون حراماً ، فظهر ممّا ذکرنا حکم کثیر من الفروع المذکورة ، نحو : الهلاهل والروید والحوراب .

نعم ، الأمر یدور مدار صدق الغناء عرفاً ، ففی کلّ مورد یصدق فهو غناء حتّی فی أصوات عملة السفن أو ترجیع الاُمّهات لنوم الأطفال والأصوات المشجیة فی المناجاة ونحوها یحکم بحرمتها ، وکلّ مورد لم یصدق تجری البراءة .

وکلّما کان حراماً لا یجوّزه الحرب إلاّ أن یطرأ علیه عنوانٌ ثانویٌ ، نحو لزومه فی الحرب بحیث ینحصر طریق غلبة المسلمین به .

وسیأتی حکم الرقص ضمن هذه الفروع فانتظر ، واللّه سبحانه هو العالم .

الثانی :

الغناء کما یحرم إذا أتی به المغنّی وحده أو المغنّیة وحدها سواء انضم به آلات الملاهی أم

لا ، کذلک یحرم إذا أتی به المغنیان أو المغنون ، أو المغنیتان أو المغنیات ، أو جماعة من المغنین والمغنیات معاً ، کلّ ذلک یحرم لإطلاق أدلة الغناء .

الثالث : استماع الغناء حرام

التغنّی من المحرّمات الشرعیة واستماعه أیضاً لا سماعه ، ولذا کثیر من الأصحاب فی ذکر تعاریفهم للغناء قیدوا حرمته بالاستماع ، نحو : الشیخ(3) والمحقق(4) والعلامة فی تذکرته(5)

ص:328


1- (3) الجواهر 22 / 45 .
2- (4) برهان الفقه ، کتاب التجارة / 19 .
3- (1) المبسوط 8 / 214 .
4- (2) الشرائع 4 / 117 .
5- (3) تذکرة الفقهاء 12 / 140 .

وتلخیص مرامه(1) وعدّ من المکاسب المحرّمة فی نهایته : « الغناء واستماعه وأجر المغنیة»(2) ، والشهید(3) وثانیه(4) والأردبیلی(5) والشیخ جعفر(6) وغیرهم .

ویدلّ علی حرمة الاستماع عدّة من الروایات .

منها : صحیحة علی بن جعفر عن أخیه موسی بن جعفر علیه السلام قال : سألته عن الرجل یتعمّد الغناء یجلس إلیه ؟ قال : لا(7) .

ومنها : خبر عبد اللّه بن أبی بکر محمد بن عمرو بن حزم(8) .

ومنها : معتبرة مسعدة بن زیاد(9) .

ومنها : صحیحة عنبسة(10) .

ومنها : خبر سعید بن محمد الطاطری عن أبیه(11) .

ومنها : خبر سعید بن إبراهیم بن أبی البلاد(12) .

ومنها : مرسلة القاضی نعمان المصری(13) .

وعلی هذا استماع الغناء حرام لا سماعه واللّه العالم .

ص:328


1- (4) تلخیص المرام فی معرفة الأحکام / 311 .
2- (5) نهایة الإحکام فی معرفة الأحکام 2 / 469 .
3- (6) الدروس 3 / 162 .
4- (7) مسالک الأفهام 14 / 180 .
5- (8) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 57 .
6- (9) شرح القواعد 1 / 193 .
7- (10) وسائل الشیعة 17 / 312 ح 32 .
8- (11) أمالی الطوسی . المجلس 43 ح 3 / 720 ونقل عنه مختصراً فی وسائل الشیعة 17 / 309 ح 24 .
9- (12) وسائل الشیعة 3 / 331 ح 1 .
10- (13) موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 188 ح 14 .
11- (14) موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 189 ح 19 .
12- (15) موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 190 ح 24 .
13- (1) مستدرک الوسائل 13 / 212 ح 4 .
الرابع :

استماع الغناء حرام مطلقاً ، سواء کان عارفاً بلسان المغنیة وعَرِفَ معانی کلامها أو لم یکن کذلک ، وسواء کان ظهر للمستمع مفردات کلامها وتبیین حروفها وتمیّز بین کلماتها وتعیین مقالتها أو لم یظهر ، کلّ ذلک حرام لإطلاق أدلة حرمة استماع الغناء .

ومن هنا لو تغنّت المغنّیة بلسان آخر وهو یستمع إلیها یکون حرام وإن لم یکن من أهل اللسان ، واللّه العالم .

الخامس : حرمة أجر المغنّی والمغنّیة

قال شیخ الطائفة : « کسب المغنیّات وتعلّم الغناء حرام»(1) . ثمّ استدرک بعد صفحة : « ولا بأس بأجر المغنیة فی الأعراس إذا لم یغنین بالأباطیل ولا یدخلن علی الرجال ولا یدخل الرجال علیهن»(2) .

وتبعه أعلام الطائفة أعلی اللّه مقامهم وکلمتهم ، وتدلّ علیه - مضافاً إلی القاعدة الکلیة « من عدم إباحة أعواض المحرّمات» وحرمة اُجورها _ وادعی فی الجواهر تواتر الأدلة علی هذه القاعدة ووضوحها(3) - عدّة من الروایات :

منها : خبر نضر بن قابوس قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : المغنیة ملعونة ، ملعون من أکل کسبها(4) .

ورواه الصدوق فی الخصال / 297 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 91 ح 3 .

ومنها : خبر أبی بصیر قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن کسب المغنیات ؟ فقال : التی یدخل علیها الرجال حرام ، والتی تدعی إلی الأعراس لیس به بأس ، وهو قول اللّه عزّ وجلّ :

ص:329


1- (2) النهایة / 365 .
2- (3) النهایة / 367 .
3- (4) الجواهر 22 / 50 .
4- (5) وسائل الشیعة 17 / 121 ح 4 .

«وَمِنَ النَّاسِ مَن یَشْتَرِی لَهْوَ الْحَدِیثِ لِیُضِلَّ عَن سَبِیلِ اللَّهِ»(1) .

ومنها : مرسلة الصدوق قال : روی أنّ أجر المغنّی والمغنّیة سحت(2) .

ومنها : مرسلة الأحسائی عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه نهی عن الغناء وعن شراء المغنیات وقال : إنّ اُجورهنّ من السحت ، الحدیث(3) .

وقد ورد الحکم بأن کسب المغنیة حرام فی المقنع / 362 والهدایة / 314 والفقه الرضوی / 251(4) . ولم یناقش فیها أحدٌ من الأصحاب .

السادس : تعلیم وتعلّم الغناء بفعله

قال الشیخ : « ... وتعلّم الغناء حرام»(5) .

وقال ابن إدریس : « وکسب المغنیات وتعلّم الغناء [ وتعلیمه ] حرام»(6) .

وقال العلامة : « الرابع : ما نص الشارع علی تحریمه عیناً ک_ ... والغناء وتعلیمه واستماعه وأجر المغنیة»(7) . ونحوها فی القواعد(8) والتحریر(9) .

وقال الشهید : « الغناء فیحرم فعله وتعلّمه وتعلیمه واستماعه والتکسب به ... »(10) .

وقال الأردبیلی : « الظاهر أنه لاخلاف حینئذٍ فی تحریمه وتحریم الاُجرة علیه وتعلّمه

ص:330


1- (6) وسائل الشیعة 17 / 120 ح 1 .
2- (1) وسائل الشیعة 17 / 307 ح 17 .
3- (2) عوالی اللآلی 1 / 261 ح 42 ونقل عنه فیمستدرک الوسائل 13 / 215 ح 19 .
4- (3) کلّها من الطبعات الحدیثة .
5- (4) النهایة / 365 .
6- (5) السرائر 2 / 222 .
7- (6) تذکرة الفقهاء 12 / 140 .
8- (7) قواعد الأحکام 2 / 8 .
9- (8) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 259 .
10- (9) الدروس 3 / 162 .

واستماعه»(1) .

وقال الشیخ جعفر : « وهو وتعلّمه وتعلیمه بفعله لا بجنسه وفصله واستماعه ... وأجر المغنیة حرام لنفسه»(2) .

وتدلّ علیه عدّة من الروایات :

منها : خبر سعید بن محمد الطاطری عن أبیه عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سأله رجل عن بیع الجواری المغنیات ، فقال : شراؤهنّ وبیعهنَّ حرام وتعلیمهنّ کفرٌ واستماعهنَّ نفاق(3) .

ومنها : خبر ابراهیم بن أبی البلاد عن أبی الحسن علیه السلام وفیه : « وتعلیمهنّ کفرٌ ، الحدیث»(4) .

ومنها : مرسلة القاضی نعمان المصری عن الصادق علیه السلام أنّه قال : لا یحلّ بیع الغناء ولا شراؤه واستماعه نفاق وتعلّمه کفر(5) .

ومنها : مرسلة الزمخشری عن أبی أمامة قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لا یحلّ تعلیم المغنیات ، الخبر(6) .

أقول : إن کان التعلیم للتغنّی واستماعه وفعله فیکون حراماً وإن کان لبیان الجنس والفصل وتوصیفه فیکون جائزاً ، للأصل کما یظهر من جدنا الشیخ جعفر والمحقق الخوئی(7) قدس سرهما .

السابع : یجوز بیع الجواری المغنیات

قال الشیخ : « فأمّا ثمن المغنیات فلیس بحرام إجماعاً ، لأنّها تصلح لغیر الغناء من

ص:331


1- (10) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 57 .
2- (11) شرح القواعد 1 / 193 .
3- (1) موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 189 ح 19 .
4- (2) موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 190 ح 24 .
5- (3) مستدرک الوسائل 13 / 221 ح 3 .
6- (4) البرهان فی تفسیر القرآن 4 / 362 ح 7 .
7- (5) مصباح الفقاهة 1 / 318 .

الاستمتاع بها وخدمتها »(1) .

قال العلامة الحلی : « ویجوز بیع الجاریة المغنیة وإن کان الغناء أکثر منافعها ، إذ لا یخرج بهذه الصفة عن المالیة . ولو کانت تساوی ألفاً وباعتبار الغناء تساوی ألفین ، فاشتراها بألفین ولولا الغناء لم تطلب إلاّ بألف ، فالوجه الصحة ، أمّا لو اشتراها بشرط الغناء المحرّم بطل »(2) .

قد وردت عدّة من الروایات فی المنع عن بیعهنَّ :

منها : التوقیع الذی ورد بسند معتبر عن مولانا صاحب الزمان (عج) وفیه : « ثمن المغنیة حرام»(3) .

وهذا التوقیع رواه فی وسائل الشیعة 17 / 123 ح 3 عن الصدوق عن محمد بن عصام الکلینی وهو مهمل . فسند الصدوق ضعیف . ولکن سند الشیخ حسن بل معتبر .

ومنها : صحیحة إبراهیم بن أبی البلاد قال : قلت لأبی الحسن الأوّل علیه السلام : جعلت فداک إنّ رجلاً من موالیک عنده جوار مغنّیات قیمتهنَّ أربعة عشر ألف دینار وقد جعل لک ثلثها ، فقال : لا حاجة لی فیها ، إنّ ثمن الکلب والمغنیة سحت(4) .

ومنها : خبره عن أبی الحسن علیه السلام وفیه : وثمنهنّ سحت(5) .

ومنها : خبر الحسن بن علی بن الوشاء قال : سُئل أبوالحسن الرضا علیه السلام عن شراء المغنیة ؟ قال : قد تکون للرجل الجاریة تلهیه ، وما ثمنها إلاّ ثمن کلب وثمن الکلب سحت والسحت فی النار(6) .

ومنها : خبر سعید بن محمد الطاطری عن أبیه عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سأله رجل

ص:332


1- (6) المبسوط 8 / 223 .
2- (7) نهایة الإحکام 2 / 467 .
3- (8) الغیبة للشیخ الطوسی / 177 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 92 ح 2 .
4- (1) وسائل الشیعة 17 / 123 ح 4 .
5- (2) وسائل الشیعة 17 / 123 ح 5 .
6- (3) وسائل الشیعة 17 / 124 ح 6 .

عن بیع الجواری المغنیات ؟ قال : شراؤهنّ وبیعهنّ حرام ، الحدیث(1) .

ومنها : غیرها من الروایات(2) .

والکلّ محمول علی دخالة الغناء فی البیع ، بحیث أن یکون باع أو اشتری الجاریة المغنیة بثمن أرفع وأزید من الجاریة العادیة لأجل الغناء المحرَّم .

ولکن إذا اشتراها بقصد خدمتها أو الاستمتاع بها أو أنّها جاریة من دون دخالة قصد الغناء أو مع دخالة قصد الغناء الذی لیس بحرام نحو الأعراس ، فالبیع صحیح ومن دون أداء الزیادة بجهة غنائها أو معها .

وتدلّ علی ما ذکرنا بعض من الروایات :

منها : خبر عبد اللّه بن الحسن الدینوری قال : قلت لأبی الحسن علیه السلام : جعلت فداک ما تقول فی النصرانیة اشتریها وأبیعها من النصرانی ؟ فقال : اشتر وبع ، قلت : فأنکح ؟ فسکت عن ذلک قلیلاً ، ثمّ نظر إلیَّ وقال وشبه الإخفاء : هی لک حلال .

قال : قلت : جعلت فداک فاشتری المغنیة أو الجاریة تحسن أن تغنّی أرید بها الرزق لا

سوی ذلک ؟ قال : اشتر وبع(3) .

ومنها : مرسلة الصدوق قال : سأل رجل علی بن الحسین علیه السلام عن شراء جاریة لها صوت ؟ فقال : ما علیک لو اشتریتها فذکّرتک الجنة(4) .

والحاصل ، یجوز بیع الجواری المغنیات من دون النظر إلی غنائهنّ وملاحظته أو مع الاستفادة منه علی جهة الحلال ، نحو : التغنّی فی الأعراس فقط . والروایات المانعة تحمل علی بیعهنّ لغنائهنّ الذی یستفاد منه فی الحرام . واللّه العالم بالأحکام .

الثامن : الموسیقی
اشارة

استعمال آلات الملاهی والمعازف ، والموسیقی وهی صوت یخرج من بعضها حرام ،

ص:333


1- (4) وسائل الشیعة 17 / 124 ح 7 .
2- (5) راجع مستدرک الوسائل 13 / 92 .
3- (1) وسائل الشیعة 17 / 122 ح 1 .
4- (2) وسائل الشیعة 17 / 122 ح 2 .

وأفتی به الأصحاب قدس سرهم ، منهم المفید ذهب إلی حرمة عمل هذه الأشیاء والإکتساب بها والتصرف فیها(1) .

ومنهم : أبو الصلاح الحلبی قال فی الکافی : « یحرم آلات الملاهی کالعود والطنبور والمزمار وأمثال ذلک وإعمالها للإطراب بها والغناء کلّه»(2) .

ومنهم : شیخ الطائفة قال فی مبسوطه وعدّ من الأصوات المحرّمة : « الثانی : محرّم وهو صوت الأوتار والنایات والمزامیر کلّها ، فالأوتار العود والطنابیر والمعزفة والرباب ونحوها ، والنایات والمزامیر معروفة ، وعندنا کذلک محرَّم تردّ شهادة الفاعل والمستمع . ثمّ ذکر روایتین تأییداً لکلامه قدس سره ثمّ قال : فإذا ثبت أنّ استماعه محرَّم إجماعاً فمن استمع إلی ذلک فقد ارتکب معصیة مجمعاً علی تحریمها ، فمن فعل ذلک أو استمع إلیه عمداً ردّت شهادته »(3) .

وقال فی النهایة : « ومنها (أی من المکاسب المحرّمة) عمل جمیع أنواع الملاهی والتجارة فیها والتکسب بها ، مثل العیدان والطنابیر وغیرهما من أنواع الأباطیل محرّمٌ محظورٌ »(4) .

ومنهم : ابن إدریس الحلی عدّ من المکاسب المحرّمة : « وآلات جمیع الملاهی علی اختلاف ضروبها من الطبول والدفوف والزمر وما یجری مجراه والقضیب والسیر والرقص

وجمیع ما یطرب من الأصوات والأغانی وما جری مجری ذلک والخبال علی اختلاف وجوهه وضروبه وآلاته»(5) .

وقال ابن زهرة : « وأجر عمل المحرّمات من الملاهی وآلات القمار وغیر ذلک من کل محرّم حرام ... کلّ ذلک بدلیل إجماع الطائفة وطریق الإحتیاط »(6) .

ص:334


1- (3) المقنعة / 587 .
2- (4) الکافی / 281 .
3- (5) المبسوط 8 / 214 .
4- (6) النهایة / 363 .
5- (1) السرائر 2 / 215 .
6- (2) غنیة النزوع / 399 .

وقال المحقق : « الثانی : ما یحرم لتحریم ما قُصد به کآلات اللهو ، مثل العود والزمر ... »(1) .

ومنهم : العلامة فی کتبه عدّ فی التذکرة من التجارات المحرّمة : « کلّ ما یکون المقصود منه حراماً کآلات اللهو کالعود ... »(2) .

وقال فی التحریر : « یحرم التکسب بکلِّ ما یکون المقصود منه حراماً کآلات اللهو مثل العود والزمر »(3) .

وقال فی النهایة : « وما لا منفعة فیه نظر الشرع ، کآلات الملاهی مثل المزمار والطنبور وغیرها إن کان ممّا لا یعدّ الرض مالاً لم یجز بیعها ، لأنّ المنفعة فیها لما کانت محرّمة شرعاً اُلحقت بالمنافع المعدومة حسّاً ، وإن عدّ الرض مالاً جاز بیعها قبل الرض للمنفعة المتوقعة . ویحمتمل المنع ، لأنّها علی هیئتها آلة الفسق ولا یقصد بها غیره مادام الترکیب ... »(4) .

وقال فی المنتهی : « ویحرم عمل الأصنام وغیرها من هیاکل العبادة المبتدعة وآلات اللهو کالعود والزّمر وآلات القمار کالنرد والشطرنج والأربعة عشر وغیرها من آلات اللعب بلا خلاف بین علمائنا فی ذلک»(5) .

وقال الشهید : « وثانیها : ما حرم لغایة کالعود والملاهی من الدف والمزمار والقصب والرقص والتصفیق وآلات القمار ... »(6) .

وقال المحقق الثانی : « ... فإنّ آلات اللهو الغرض الأصلی منها علی هذا الوضع

المخصوص هو المحرَّم ، وإن أمکن الانتفاع بها علی حالتها فی أمر آخر فهو مع ندرته أمر غیر مقصود بحسب العادة ، ولا أثر لکون رضاضها بعد تکسیرها ممّا ینتفع به فی المحلّل ویعدّ مالاً ،

ص:335


1- (3) شرائع الإسلام 2 / 10 و 9 .
2- (4) تذکرة الفقهاء 12 / 139 .
3- (5) تحریر الأحکام الشرعیة 2 / 258 مسألة 3010 .
4- (6) نهایة الأحکام 2 / 467 .
5- (7) منتهی المطلب 2 / 1011 .
6- (8) الدروس 3 / 166 .

لأنّ بذل المال فی مقابلها وهی علی هیئتها بذل له فی المحرّم الذی لا یعدّ مالاً عند الشارع .

نعم ، لو باع رضاضها الباقی بعد کسرها قبل أن یکسرها وکان المشتری موثوقاً بتقواه وأنّه یکسرها أمکن القول بصحة البیع»(1) .

قال الشهید الثانی : « ... کما یحرم فعل الغناء یحرم استماعه ، کما یحرم استماع غیره من الملاهی ... »(2) .

وقال أیضاً : « آلات اللهو ونحوها وإن لم یکن الانتفاع بها فی غیر الوجه المحرّم ولم یکن لِمکسورها قیمة فلا شبهة فی عدم جواز بیعها ، لانحصار منفعتها فی المحرَّم ، وإن أمکن الانتفاع بها فی غیر الوجه المحرَّم علی تلک الحالة منفعة مقصودة واشتراها لتلک المنفعة ، لم یبعد جواز بیعها ، إلاّ أنّ هذا الفرض نادر ، فإنّ الظاهر أنّ ذلک الوضع المخصوص لا ینتفع به إلاّ فی المحرَّم غالباً والنادر لا یقدح . ومن ثَمَّ أطلقوا المنع من بیعها . ولو کان لمکسورها قیمة وباعها صحیحة لتکسر وکان المشتری ممّن یوثق بدیانته ففی جواز بیعها وجهان . وقوّی فی التذکرة جوازه مع زوال الصفة ، وهو حسن ، والأکثر أطلقوا المنع»(3) .

وقال المحقق الأردبیلی : « الثانی ممّا یحرم بیعه والتکسب به : ما یحرم لتحریم ما یُقصد به کآلات اللهو مثل الدفوف والمزامیر والعود وغیرها وکآلات القمار ...ودلیل تحریم الکلِّ : الإجماع»(4) .

وقال صاحب الحدائق : « لاخلاف بین الأصحاب فی تحریم عمل آلات اللهو والتکسب بها وبیعها ، مثل العود والدفوف والطبول والمزامیر ونحوها ممّا ذکر ... وبالجملة فلا ریب فی تحریم البیع بقصد تلک الأغراض المحرَّمة بل مطلقاً أیضاً ، حیث أنّه لا غرض یترتب علی هذه الأشیاء إلاّ ذلک . أما لو أمکن الانتفاع بها فی غیر ذلک فیحتمل الجواز ، إلاّ أنّه فرض نادر ، فیمکن التحریم مطلقاً ، بناءً علی أنّ الغرض المتکرر المترتب علی تلک الآلات إنّما هو ما

ص:336


1- (1) جامع المقاصد 4 / 15 .
2- (2) مسالک الأفهام 14 / 180 .
3- (3) مسالک الأفهام 3 / 122 .
4- (4) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 41 .

ذکرنا ، فلا یلتفت إلی الأفراد النادرة الوقوع . نعم : لو کان الغرض من البیع کسرها مثلاً

وبیعت لأجل ذلک ، فالظاهر أنّه لا ریب فی الجواز إذا کان المشتری ممّن یوثق به فی ذلک ... »(1) .

وقال الفاضل الأصبهانی : « وکذا یحرم عندنا استماع أصوات آلات اللهو کالزمر _ وهو مصدر اُرید به الآلة أو الفاعل مجازاً لما یقال لآلته المزمار والزمارة _ والعود والصنج والقصب وغیرها ، ویفسق فاعله ومستمعه ... »(2) .

وقال السید الطباطبائی : « الثانی : الآلات المحرّمة کالعود والطبل والزمر ... بإجماعنا المستفیض النقل فی کلام جماعة من أصحابنا ، وهو الحجة»(3) .

وادعی جدنا الشیخ جعفر علی فساد معاملة هذه الآلات : الإجماع فی شرحه علی القواعد(4) .

وقال الفاضل النراقی : « ما یُقصد منه المحرَّم کالآت اللهو من الدف والقصب والمزمار والطنبور و ... لا خلاف فی حرمة بیعها والتکسب بها ، ونقل الإجماع _ کما قیل _ به مستفیض ، بل هو إجماع محقق ، وهو الحجة فیه ... »(5) .

وقال صاحب الجواهر بعد أن ذکر حرمة التکسب بآلات اللهو مثل العود والزمر : « بلا خلاف أجده فیه ، بل الإجماع بقسمیه علیه والنصوص ... »(6) .

أقول : فظهر ممّا ذکرنا من کلمات الأصحاب أنّ عمل آلات الملاهی واستعمالها والاستماع إلیها والتکسب بها وبیعها کلّها محرّمة عندهم إجماعاً منقولاً مستفیضاً بل متواتراً بل محصَّلاً .

ص:337


1- (1) الحدائق 18 / 201 و 200 .
2- (2) کشف اللثام 10 / 295 .
3- (3) ریاض المسائل 8 / 140 .
4- (4) شرح القواعد 1 / 156 .
5- (5) مستند الشیعة 14 / 88 .
6- (6) الجواهر 22 / 25 .

وتدلّ علی حرمة استعمال آلات اللهو ، المسماة بآلات الموسیقی عدّة من الروایات :

منها : صحیحة معمر بن خلاد عن أبی الحسن الرضا علیه السلام قال : خرجتُ وأنا اُرید داود بن عیسی بن علی وکان ینزل بئر میمون وعلیَّ ثوبان غلیظان ، فرأیتُ عجوزاً ومعها جاریتان فقلت : یا عجوز أتباع هاتان الجاریتان ؟ فقالت : نعم ، ولکن لایشتریهما مثلک ، قلت : ولم ؟ قالت : لأن أحداهما مغنّیة والاُخری زامرة ، فدخلتُ علی داود بن عیسی فرفعنی

وأجلسنی فی مجلسی ، فلما خرجت من عنده قال لأصحابه : تعلمون من هذا ؟ هذا علی بن موسی الذی یزعم أهل العراق أنّه مفروض الطاعة(1) .

ومنها : معتبرة مسعدة بن زیاد قال : کنتُ عند أبی عبد اللّه علیه السلام فقال له رجل : بأبی أنت واُمّی إنّنی أدخل کنیفاً لی ولی جیران عندهم جوار یتغنین ویضربن بالعود ، فربّما أطلتُ الجلوس استماعاً منّی لهنّ ، فقال : لا تفعل ، فقال الرجل : واللّه ما آتیهنَّ إنّما هو سماع أسمعه باُذنی ، فقال : للّه أنت ، أما سمعت اللّه عزّ وجلّ یقول : «إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ کُلُّ أُولئِکَ کَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً»(2) ؟ فقال : بلی واللّه لکأنّی لم أسمع بهذه الآیة من کتاب اللّه من أعجمیٍّ ولا عربیٍّ ، لاجرم إنّنی لا أعود إن شاء اللّه ، وإنّی أستغفر اللّه ، فقال له : قم فاغتسل وسَلْ ما بدا لک ، فإنّک کنتَ مقیماً علی أمر عظیم ما کان أسوء حالک لو متَّ علی ذلک ، أحمد اللّه وسَلْه التوبة من کلِّ ما یکره ، فإنّه لا یکره إلاّ کلّ قبیحٍ ، والقبیحُ دَعْه لأهله لکلٍّ أهلاً(3) .

ومنها : خبر الأعمش عن جعفر بن محمد فی حدیث شرائع الدین قال : والکبائر محرَّمة ، وهی الشرک باللّه _ إلی أن قال : _ والملاهی التی تصدّ عن ذکر اللّه عزّ وجلّ مکروهة کالغناء وضرب الاُوتار والإصرار علی صغائر الذنوب(4) .

ومنها : معتبرة الفضل بن شاذان عن الرضا علیه السلام فی کتابه إلی المأمون قال : واجتناب

ص:338


1- (1) الکافی 6 / 478 ح 4 ونقل عنه مختصراً فی وسائل الشیعة 17 / 304 ح 4 .
2- (2) سورة الإسراء / 36 .
3- (3) الکافی 6 / 432 ح 10 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 3 / 331 ح 1 .
4- (4) وسائل الشیعة 15 / 331 ح 36 . الباب 46 من أبواب جهاد النفس .

الکبائر وهی _ إلی أن قال : _ والإشتغال بالملاهی والإصرار علی الذنوب(1) .

ومنها : صحیحة أو موثقة إسحاق بن جریر قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : إنّ شیطاناً یقال له : « القَفَنْدَر » ، إذا ضُرب فی منزل الرجل أربعین صباحاً بالبرط ، دخل علیه الرجال وضع ذلک الشیطان کلّ عضو منه علی مثله من صاحب البیت ، ثمّ نفخ فیه نفخة فلا یغار بعدها حتّی تؤتی نساؤه فلا یغار(2) .

رواها الکلینی بسند صحیح فی الکافی 5 / 536 ح 5 وبسند موثق فیه أیضاً 6 / 433 ح 14 ، ونقل عن الأخیر فی وسائل الشیعة 17 / 312 ح 1 .

ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : أنهاکم عن

الزفن والمزمار وعن الکوبات والکبرات(3) .

الزفن : الرقص . الکوب : الطبل الصغیر . الکَبَر : الطبل .

قال الفیض فی بیان ذیل الحدیث : « الزّفن : اللعب والدف ، ویزفنون : یرقصون . والمزمار : مال یزمر به ، والزّمر : التغنّی فی القصب ، ومزامیر داود ما کان یتغنّی به من الزبور . والکوبة : بالضم یقال للنرد والشطرنج والطبل الصغیر والبربط . والکَبَر محرّکة : الطبل»(4) .

ومنها : حسنة أبی الربیع الشامی قال : سئل أبو عبد اللّه علیه السلام عن الخمر ؟ فقال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إنّ اللّه بعثنی رحمةً للعالمین ولأمحق المعازف والمزامیر واُمور الجاهلیة والأوثان ، الحدیث(5) .

والسند حسن بخالد بن جریر وأبی الربیع الشامی وهو خلید أو خالد بن اُوفی ، والأخیر فی أوّل مراتب الحُسْن . فالسند معتبر عندنا .

ومنها : خبر محمد بن الریان قال : احتال المأمون علی أبی جعفر علیه السلام بکلّ حیلة فلم

ص:339


1- (5) وسائل الشیعة 15 / 329 ح 33 .
2- (6) وسائل الشیعة 17 / 312 ح 1 . الباب 100 من أبواب ما یکتسب به .
3- (1) وسائل الشیعة 17 / 313 ح 6 .
4- (2) الوافی 17 / 211 .
5- (3) الکافی 6 / 396 ح 1 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 11 / 154 ح 2 .

یمکنه فیه شیء ، فلما اعتلَّ وأراد أن یبنی علیه ابنته دفع إلیّ مائتی وصیفة من أجمل ما یکون ، إلی کلِّ واحدة منهنَّ جاماً فیه جوهر یستقبلن أبا جعفر علیه السلام إذا قعد فی موضع الأخیار ، فلم یلتفت إلیهنَّ ، وکان رجل یقال له : مخارق صاحب صوت وعود وضرب طویل اللحیة ، فدعاه المأمون فقال : یا أمیر المؤمنین إن کان فی شیءٍ من أمر الدنیا فأنا اُلفیک أمره ، فقعد بین یدی أبی جعفر علیه السلام فشهق مخارق شهقةً اجتمع علیه أهل الدار وجعل یضرب بعود ویغنّی ، فلما فعل ساعةً وإذا أبو جعفر لا یلتفت إلیه لا یمیناً ولا شمالاً ، ثمّ رفع إلیه رأسه وقال : اتق اللّه یا ذا العثنون . قال : فسقط المضراب من یده والعود ، فلم ینتفع بیدیه إلی أن مات . قال : فسأله المأمون عن حاله قال : لمّا صاح بی أبو جعفر فزعت فزعةً لا اُفیق منها أبداً(1) .

العثنون : اللحیة أو ما فضل منها بعد العارضین أو طولها .

ومنها : مرسلة الشیخ عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : إنّ اللّه حرّم علی اُمتی الخمر والمیسر والمرز والکوبة والقنین . فالمرز : شراب الذرة ، والکوبة الطبل ، والقنین : البربط ، والتفسیر فی الخبر(2) .

منها : مرسلة اُخری له عن محمد بن علی المعروف بابن الحنفیّة عن علی علیه السلام أنّ النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : إذا کان فی اُمّتی خمس عشرة خصلة حلّ بهم البلاء : إذا اتخذوا الغنیمة دولة ، والأمانة مغنماً ، والزکاة مغرماً ، وأطاع الرجل زوجته ، وجفا أباه ، وعقّ اُمّه ، ولبسوا الحریر ، وشربوا الخمر ، واشتروا المغنیّات والمعازف ، وکان زعیم القوم أرذلهم ، وأکْرَمَ الرجل السوء خوفاً منه ، وارتفعت الأصوات فی المساجد ، وسبّ آخر هذه الاُمّة أوّلها _ وفی بعضها _ ولعن آخر هذه الاُمّة أوّلها ، فعند ذلک یرقبون ثلاثاً : ریحاً حمراء وخسفاً ومسخاً(3) .

وقد فاتت الروایة عن صاحب « مسند محمّد ابن الحنفیة» المطبوع فی مجلة علوم الحدیث العدد الخامس عشر / 151 .

تلک عشرة کاملة من الروایات التی تدلّ بإطلاقها علی حرمة الموسیقی ، وأنت إن

ص:340


1- (4) الکافی 1 / 494 ح 4 ونقلتُ عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 11 / 155 ح 5 .
2- (5) المبسوط 8 / 224 .
3- (1) المبسوط 8 / 224 .

فحصت تجد أکثر من ثلاثین روایة فی هذا المجال(1) ، والروایات تدلّ علی حرمة الموسیقی مطلقاً والفرق بین الموسیقی اللهوی وغیره والموسیقی الکلاسیک وغیره والموسیقی الأصیل وغیره وأمثال هذه التفاصیل فی غیر محلّه ، مضافاً إلی ثبوت الإجماع فی المقام علی الحرمة الذی مرّ فی ضمن کلمات القوم ، فیظهر الحکم بحرمة الموسیقی مطلقاً .

نعم ، ما یُضرب فی الحرب والعزاء خارج عنه بلا إشکال ، لانصراف الأدلة عنه . واللّه سبحانه هو العالم .

تنبیهٌ

ظهر ممّا ذکرنا أنّ استعمال آلات الملاهی والمعازف والموسیقی حرام ، وکذا صنعها وأخذ الاُجرة فی قبال صنعها وبیعها وشراؤها واستعمالها وأخذ الاُجرة فی قبال استعمالها والتکسب فیها ، کلّ ذلک حرام ، لما مرّ من القاعدة الکلیّة « إنّ اللّه إذا حرّم شیئاً حرّم ثمنها » ، « وإنّ اللّه إذا حرّم شیئاً حرم أخذ الاُجرة وأخذ العوض فی قبالها » . فکلّ هذه الأفعال من الصنع والبیع والاستعمال وأخذ الاُجرة فی قبالها والتکسب فیها یکون حراماً .

وقد مرّت فی کلمات الأصحاب آنفاً الإشارة إلی ما ذکرناه والإفتاء علی طبقها ، واللّه

العالم .

نعم ، الظاهر أنّ اقتناءها فقط مع الأمن من الفساد لا بأس به .

التاسع : استثناء الدّف فی العرس والختان

قد مرّ منّا حرمة الموسیقی مطلقاً ، فهل یثبت استثناء الدف فی العرس والختان من هذه الحرمة أم لا ؟

ذهب شیخ الطائفة إلی ثبوت الاستثناء علی وجه الکراهیة : « الغناء محرّم ، سواء کان

ص:341


1- (2) راجع إن شئت الوافی 17 / 205 ووسائل الشیعة 17 / 312 ومستدرک الوسائل 13 / 215 وجامع أحادیث الشیعة 22 / 244 وکتابی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 11 / 154 .

صوت المغنّی أو بالقصب أو بالأوتار _ مثل : العیدان الطنابیر والنایات والمعازف وغیر ذلک _ وأمّا الضرب بالدّف فی الأعراس والختان فإنّه مکروه»(1) .

أقول : ولکنّه لم یستدل للإستثناء فی کتابه الخلاف .

وقال فی المبسوط : « وأمّا المباح [ أی من الأصوات المباحة عند العامة [فالدف عند النکاح والختان ، لما روی ابن مسعود أنّ النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : أعلنوا النکاح واضربوا علیها بالغربال ، یعنی الدف .

وروی أنّه صلی الله علیه و آله وسلم قال : فصل ما بین الحلال والحرام الضرب بالدف عند النکاح .

وعندنا أنّ ذلک مکروه ، غیر أنّه لا تردّ به شهادته ، فأمّا فی غیر الختان والعرس فمحرَّم»(2) .

قال المحقق فی کتاب الشهادات : « واللعب بالشطرنج تردّ به الشهادة ، وکذا الغناء وسماعه والعمل بآلات اللهو وسماعها ، والدف إلاّ فی الإملاک(3) والختان ... »(4) .

وقال فی الشرائع فی عدّ نواقض العدالة : « السادسة : الزّمر والعود والصنج وغیر ذلک من آلات اللهو حرام یفسق فاعله ومستمعه ، ویکره الدّف فی الإملاک والختان خاصةً»(5) .

وقال العلامة : « وکذا یحرم استماع آلات اللهو کالزمر والعود والصنج والقصب وغیرها ، ویُفسَّق فاعله ومستمعه ، ولا بأس بالدف فی الأعراس والختان علی کراهیة»(6) .

وقال فی التحریر : « العود والزمر والصنج والطنبور والمعزفة والرباب والقضیب وغیر ذلک من جمیع آلات اللهو حرام یفسق فاعله ومستمعه ، أمّا الدف فیکره فی الإملاک والختان

ص:342


1- (1) الخلاف 6 / 307 المسألة 55 .
2- (2) المبسوط 8 / 224 .
3- (3) قال فی الریاض 15 / 268 : الإملاک بالکسر : العرس والزفاف .
4- (4) المختصر النافع / 287 کتاب الشهادات .
5- (5) الشرائع 4 / 117 .
6- (6) قواعد الأحکام 3 / 495 کتاب الشهادات .

خاصةً ویحرم فی غیرهما»(1) .

وقال فی الإرشاد : « وترد شهادة ... ومستمع الزمر والعود والصنج ، والدف إلاّ فی الإملاک والختان خاصةً وجمیع آلات اللهو ... »(2) .

وتبع الشیخ علی بن محمد القمی السبزواری شیخ الطائفة الطوسی فی کتابه الخلاف بعین عبارته وقال : « وأمّا الضرب بالدّف فی الأعراس والختان فإنّه مکروه»(3) .

قال الشهید فی بحث نواقض العدالة : « ... واللآهی بالعود والزمر والطنبور وشبهه فاعلاً ومستمعاً ، وکذا الدف بصنج وغیره ، إلاّ فی الإملاک والختان فیکره المجرد عن الصنج»(4) .

وقال المحقق الثانی : « وإنّما یحرم من الملاهی ما لا یجوز مثله فی العرس ، فالدف الذی لا صنج فیه ولا جلاجل له یجوز لعبها به علی الظاهر لاستثنائه»(5) .

وقال ثانی الشهیدین : « واستثنی منه (أی من حرمة الغناء) ... وآخرون ومنهم المصنف فی الدروس فعله للمرأة فی الأعراس إذا لم تتکلم بباطل ولم تعمل بالملاهی ولو بدف فیه صنج لابدونه ( یعنی الغناء فی الأعراس مع الدف إذا لم یکن مع الصنج لیس بحرام) ولم یسمع صوتها أجانب الرجال ولا بأس به»(6) .

وقال صاحب الریاض بعد نقل قول بالحرمة من الحلی والتذکرة ونفی البعد عنه فی الکفایة کما یأتی کلامهم : « ولا ریب أنّه أحوط وإن کان فی تعینه نظر ، لاشتهار القول الأوّل فتویً بل وعملاً أیضاً . فتأمل جدّاً . فینجیر به سند الخبرین(7) جبراً یصلحان معه لتخصیص

ص:343


1- (1) تحریر الأحکام الشرعیة 5 / 251 مسألة 6627 .
2- (2) إرشاد الأذهان 2 / 157 .
3- (3) جامع الخلاف والوفاق / 616 .
4- (4) الدروس 2 / 126 .
5- (5) جامع المقاصد 4 / 24 .
6- (6) الروضة البهیة 3 / 213 .
7- (7) أی النبویان المذکوران فی المبسوط 8 / 224 .

العمومات المستدل بها علی المنع ، سیما مع اعتضادهما بفحوی المعتبرین _ وفیهما الصحیح _

المبیحین لأجر المغنیة فی العرائس ، بناءً علی أشدّیة حرمة الغناء لتصریح النص بکونه من الکبائر ، ولا کذلک اللهو کما عرفته ممّا مضی .

ویجبر أخصیتهما من المدعی باختصاصهما بالنکاح دون الختان بعدم القائل بالفرق بینهما ، سیما مع عدم تعقل الفرق وقوّة دعوی کون مناط الجواز قطعیّاً مشترکاً بینهما هذا ... ثمّ إنّ إطلاق الخبرین کالعبارة وغیرها یقتضی عدم الفرق فی الدف المحلَّل بین کونه ذات صنج أو غیره ، وقیّده الشهید والمحقق الثانی بالثانی ، وربّما یظهر من المسالک عدم الخلاف فیه ، فإن تمّ وإلاّ _ کما هو الظاهر لإطلاق أکثر العبائر _ فالإطلاق متعیَّن .

والمراد بالصنج هنا ما یجعل فی إطار الدف من النحاس المدوّرة صغاراً کما عن المطرزی(1) ، وأما أصله فهو الذی یتخذ من صفر یضرب أحدهما بالآخر کما عنه وعن الجوهری(2) ، وهو من آلات اللهو ، وفی الحدیث : « إیّاک والصوانج فإنّ الشیطان یرکض معک والملائکة تنفر عنک»(3)(4) .

أقول : هذا غایة ما یمکن أن یُستدل به لثبوت الإستثناء ، ولکن قبل البحث حول الأدلة لابدّ من ذکر آراء القائلین بالحرمة وعدم ثبوت الإستثناء ، ومنهم :

القاضی ابن البراج فی المهذب ، عدّ من المکاسب المکروهة : « وأجر المغنیات فی الأعراس إذا لم یغنین بالأباطیل والضرب»(5) .

أقول : أی لم یکن غناؤهنّ مع الضرب ، وإطلاق کلامه وعدم وجود استثناء الدف فیه یُشعر بل یدلّ علی ثبوت الحرمة عنده .

وقال الشیخ نفسه فی وصایا المبسوط : « وإن أوصی فقال : أعطوه دفّاً من دفوفی فإنّه

ص:344


1- (1) المغرب 1 / 309 .
2- (2) الصحاح 1 / 325 .
3- (3) أصل زید النرسی / 51 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 216 ح 4 .
4- (4) ریاض المسائل 15 / 270 و 269 .
5- (5) المهذب 1 / 346 .

تصحّ الوصیة ، لأنّ الدف له منفعة مباحة ، لما روی عنه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : أعلنوا هذا النکاح واضربوا علیه بالدف ، وعلی مذهبنا لا یصح لأن ذلک محظور استعماله»(1) .

أقول : إنّ هذا الکلام من الشیخ کأنّه عدول منه عمّا ذکره فی شهادات خلافه ومبسوطه ، مع التصریح بأنّ هذه الوصیة علی مذهبنا لا تصح ، لأنّ استعمال الدف محظور أی

حرام . ولذا اختار ابن إدریس هذا الکلام من أقوال الشیخ وقال بعد نقل کلامه : « ونعم ما قال ، لأنّه من اللهو واللعب ، وإن کان قد روی روایة شاذّة بأنّه مکروه ولیس بمحظور»(2) .

ومنهم : العلامة فی التذکرة رجّح القول بالحرمة محتجاً « بأنّ اللّه عزّ وجلّ حرّم اللهو واللعب وهذا منه»(3) .

ومنهم : المحقق السبزواری قال بعد منع ابن إدریس والعلامة الحلی من ثبوت الاستثناء : « وهو غیر بعید»(4) .

ومنهم : الفاضل الأصبهانی قال بعد نقل الأقوال فی المقام : « الأقوی الحرمة کما فی التذکرة ، لعموم النصوص الناهیة وکثرتها وعدم صلاحیة ما ذکر لتخصیصها»(5) .

ومنهم : السید العاملی قال : « والأقوی فی ذلک عندنا الحرمة»(6) .

واستشکل صاحب الجواهر فی الإستثناء وقال : « ... صرح جماعة _ کما قیل _ بجواز لعبها فی العرس بالدف الذی لا صنج فیه ولا جلاجل وإن کان هو لا یخلو من إشکال ... »(7) .

ومنهم : کلُّ من لم یذکر هذا الاستثناء فهو قائل بالحرمة وعلی هذا المشهور قائلون

ص:345


1- (6) المبسوط 4 / 20 .
2- (1) السرائر 3 / 205 .
3- (2) تذکرة الفقهاء 2 / 581 السطر 14 ، الطبع الحجری .
4- (3) الکفایة 2 / 752 .
5- (4) کشف اللثام 2 / 193 الطبع الحجری و 10 / 296 .
6- (5) مفتاح الکرامة 12 / 176 .
7- (6) الجواهر 22 / 49 .

بالحرمة خلافاً لما ادعاه سید الریاض ، فلا یمکن جبر ضعف سند النبویین المذکورین فی کلام الشیخ فی المبسوط والمراسیل المذکورة فی کتاب القاضی نعمان المصری(1) والأحسائی(2) لم یثبت به شیئاً .

وبالجملة ، ثبوت الشهرة بفتوی المحققیْن والشهیدین وصاحب الریاض - وهم خمسة فقط - فی غایة الإشکال ، فالأقوی فی المقام تبعاً للمشهور هو الحرمة ونفی هذا الإستثناء ، واللّه سبحانه هو العالم .

العاشر : الرقص والتصفیق

التصریح بحرمة الرقص جاء فی کلمات بعض الأصحاب قدس سرهم :

منهم : ابن إدریس الحلی قال : « وآلات جمیع الملاهی علی اختلاف ضروبها من الطبول والدفوف وما یجری مجراه والقضیب والسیر والرقص وجمیع ما یطرب من الأصوات والأغانی وما جری مجری ذلک ... »(3) . وعدّ جمیع ذلک من المکاسب المحرّمة .

ومنهم : الشهید قال : « وما حرم لغایته کالعود والملاهی من الدف والمزمار والقصب والرقص والتصفیق ... »(4) .

ومنهم : السید العاملی قال : « وأما الرقص والهلاهل والروید فی غیر حال الحرب وحضّ الرجال علی القتال فالحزم اجتنابه ، بل لعلّه یحرم فعله ، لأنّه من اللهو أو الباطل ، والحازم یجتنب الشبهات خصوصاً عند اشتباه الموضوعات»(5) .

وقال صاحب الجواهر : « مع فرض اندارجه [ أی اندراج هذه الاُمور المذکورة فی کلام صاحب المفتاح ] فیه [ أی فی اللعب واللهو ] فیشکل جوازه فیه ]أی فی الحرب ] فضلاً

ص:346


1- (7) دعائم الإسلام 2 / 204 ح 749 وما بعدها ح 750 وح 752 .
2- (8) عوالی اللآلی 1 / 260 ح 41 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 218 ح 14 .
3- (1) السرائر 2 / 215 .
4- (2) الدروس 3 / 166 .
5- (3) مفتاح الکرامة 12 / 179 .

عن غیره من الأحوال ، لإطلاق أدلة النهی ، بل قد اقترنت بمؤکدات تقتضی إرادة جمیع الأفراد علی وجه أظهر دلالة من العموم اللغوی ، فتأمل جیداً واللّه العالم»(1) .

أقول : ما ذکره صاحب الجواهر یغنینا عن الاستدلال ، لأنّ الرقص یدخل فی اللهو واللعب بلا ریب ، فحینئذ تشمله مؤکدات أدلة النهی التی تقتضی إرادة جمیع الأفراد ، ولذا عدّ تلمیذه صاحب برهان الفقه مجلس الرقص من مجالس اللهو وحکم برجحان الإبتعاد من تلک المجالس مطلقاً(2) .

ومنهم : الشیخ الأعظم قال فی بحث اللهو : « ویدخل فی ذلک (أی اللهو الحرام) الرقص والتصفیق والضرب بالطشت بدل الدف و ... »(3) .

ما الدلیل علی حرمة الرقص ؟

الأوّل : اللهو حرام فی الشریعة المقدسة ، وأدلة حرمته مطلقة ، والرقص یعدّ من اللهو

عرفاً ، فیحکم بحرمته . کما أشار إلی هذا الاستدلال صاحبا المفتاح والجواهر فی کلامهما الماضیین .

الثانی : تدلّ علی حرمة الرقص بعض الروایات والنصوص :

منها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : أنهاکم عن الزفن والمزمار وعن الکوبات والکبرات(4) .

والمراد بالزفن فیها هو الرقص . وقد مرّ کلام صاحب الوافی(5) بأنّه فسّره بالرقص . وقال العلامة المجلسی فی مرآته : « قال فی الصحاح : الزفن : الرقص ، وقال فی القاموس : الکوبة بالضم : النرد والشطرنج والطبل الصغیر المخصّر ، والفهر والبربط . وقال : الکبر

ص:347


1- (4) الجواهر 22 / 51 .
2- (5) برهان الفقه . کتاب التجارة / 38 الطبع الحجری .
3- (6) المکاسب المحرمة / 54 الطبع الحجری _ (2 / 47) .
4- (1) وسائل الشیعة 17 / 313 ح 6 .
5- (2) الوافی 17 / 211 .

بالتحریک : الطبل »(1) .

ومنها : خبر سلیم بن بلال المدنی عن الرضا علیه السلام عن آبائه علیهم السلام قال : إنّ إبلیس کان یأتی الأنبیاء من لدن آدم علیه السلام إلی أن بعث اللّه المسیح یتحدّث عندهم ویسألهم ، ولم یکن بأحد منهم أشدّ اُنساً منه بیحیی بن زکریا ، فقال له یحیی _ إلی أن قال : _ فما هذا الجرس الذی بیدک ؟ قال : هذا مجمع کلّ لذّة من طنبور وبربط ومِعْزَفَةٍ وطبل ونای وصرنای ، وإنّ القوم یجلسون علی شرابهم فلا یستلذّونه ، فأحرک الجرس فیما بینهم فإذا سمعوه استخفهم الطرب ، فمن بین مَنْ یرقص ومِنْ بین مَنْ یفرقع أصابه ومن بین مَنْ یشق ثیابه ، الحدیث(2) .

ومنها : مرسلة الأحسائی عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه نهی عن الضرب بالدف والرقص ، وعن اللعب کلّه ، وعن حضوره ، وعن الاستماع إلیه ، ولم یجز ضرب الدف إلاّ فی الإملاک والدخول ، بشرط أن یکون فی البکر ولا یدخل الرجال علیهنَّ(3) .

فدلالة الروایات علی حرمة الرقص واضحة ، فحینئذ یحکم بحرمة الرقص مطلقاً ، حیث لم یذکر فی الروایات وغیرها من الأدلة وکلمات القوم التفریق فی الرقص ، فالرقص حرام مطلقاً ، ولا فرق بین رقص المرأة للنساء والرجل للرجال ، وهکذا بلا فرق بین رقص المرأة لزوجها ، کلّ ذلک یکون حراماً .

والعجب من بعض الفقهاء(4) قدس سره حیث حکم بحرمة رقص ولکن رخص رقص الزوجة لزوجها تمسکاً بأنّه من الاستمتاع ویجوز للرجل أن یستمتع بزوجته حیث شاء .

وأنت تعرف أنه إن ذهبنا إلی حرمة الرقص ، لا یجوّزه الاستمتاع کما لا یجوّز الاستمتاع الغناء وآلات الملاهی وضرب الأوتار وشرب الخمور ونحو ذلک .

ص:348


1- (3) مرآة العقول 22 / 302 .
2- (4) أمالی الطوسی . المجلس الثانی عشر ح 32 / 338 الرقم 692 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 11 / 159 ح 18 .
3- (5) مستدرک الوسائل 13 / 218 ح 14 .
4- (1) وهو السید المحقق الخوئی قدس سره فی فتاواه .

وأمّا التصفیق - وإن حکم الشهید فی الدروس(1) بحرمته وتبعه الشیخ الأعظم(2) - ولکن حیث لم یدل علیه دلیل خاص علی نفس التصفیق فتجری البراءة ویحکم بجوازه .

ولکن ظاهر الشهید والشیخ الأعظم أنّهما یدخلانه تحت عنوان اللهو المحرَّم فإن صدق علیه عنوان اللهو لا یبعد الحکم بحرمته وإلاّ فلا .

وأمّا التصفیق فی المساجد والحسینیّات والمهدیّات وکلِّ ما وقف للعبادة ونحوها فلا یجوز التصفیق فیها ، لأنّه خروج فیها عن وقفیتها ، والوقوف علی حسب ما یوقفها أهلها .

وأمّا التصفیق فی المجالس المنسوبة إلی أئمة أهل البیت علیهم السلام فی موالیدهم وأعیادهم أیضاً لا یجوز ، لعدم مناسبته مع هذه المجالس الروحانیّة النورانیّة الألهیّة .

إلی هنا تمّ بحث الغناء وفروعه ، وللّه الحمد وهو العالم بأحکامه .

ص:349


1- (2) الدروس 3 / 166 .
2- (3) المکاسب المحرمة / 54 _ (2 / 47) .

الغِیبة

اشارة

یقع الکلام فی الغیبة ضمن مقامات :

المقام الأوّل : موضوعها

لابدّ لنا من ملاحظة کلمات اللغویین والفقهاء فی هذا المجال :

قال أحمد بن فارس : « الغابة : الأجَمة ، والجمع غاباتٌ وغابٌ ، وسمّیت لأنّه یغاب فیها . والغِیبة : الوَقیعة فی الناس من هذا ، لأنّها لا تقال إلاّ فی غیبته»(1) .

وقال ابن منظور : « الغیبة : من الإغتیاب ، واغتاب الرجل صاحبه إغتیاباً إذا وقع فیه ، وهو أن یتکلّم خلف إنسان مستور بسوءٍ ، أو بما یَغُمُّه لو سمعه وإن کان فیه ، فإن کان صدقاً فهو غیبة ، وإن کان کذباً فهو البَهْتُ والبهتان ، کذلک جاء عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم ، ولا یکون ذلک إلاّ من ورائه ، والإسم : الغِیبة ... وروی عن بعضهم أنّه سمع : غابه یَغِیبُهُ إذا عابه ، وذکر منه ما یَسُوءُه ... »(2) .

وقال الفیومی : « ... واغتابه اغتیاباً : إذا ذکره بما تُکرُهُ من العیوب وهو حقٌّ ، والإسم الغِیبة فإن کان باطلاً فهو الغیبة فی بُهْتٍ ... »(3) .

وقال فی الصحاح : « أن یتکلّم خلف إنسان مستور بما یغمّه لو سمعه ، فإن کان صدقاً یُسمّی غِیبة ، وإن کان کذباً سمُّی بهتاناً»(4) .

وقال الفیروزآبادی : « غابه : عابه وذکره بما فیه من السوء ، کاغتابه . والغیبة بالکسر

ص:350


1- (1) معجم مقاییس اللغة 4 / 403 .
2- (2) لسان العرب 10 / 152 .
3- (3) المصباح المنیر / 458 .
4- (4) الصحاح 1 / 196 .

فِعْلة منه ، تکون حسنة أو قبیحة»(1) .

وقال ابن الأثیر : « الغیبة : وهو أن یُذکَر الإنسان فی غیبته بسوءٍ وإن کان فیه ، فإذا

ذَکَرْتَه بما لیس فیه فهو البَهْت والبهتان»(2) .

وقال الطریحی : « اغتابه اغتیاباً : إذا وقع فیه ، والإسم الغیبة بالکسر ، وهو أن یتکلّم خلف إنسان مستور بما یغمّه لو سمعه ، فإن کان صدقاً سمی غیبة وإن کان کذباً سمّی بهتاناً ، وتصدیق ذلک ما روی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم ... »(3) .

هذه کلمات اللغویین فی المقام ، وأمّا الفقهاء فیقولون فی تعریفها :

قال الشریف المرتضی : « الغیبة : ذم المرء بعینه فی غیبته لغیر حقٍّ له أو ما یجری مجری الذم بما لو سمعه کرهه»(4) .

وقال الشیخ الطوسی فی تفسیره : « فالغیبة ذکر العیب بظهر الغیب علی وجه تمنع الحکمة منه . ویُروی فی الخبر إذا ذکرت المؤمن بما فیه ممّا یکرهه اللّه فقد اغتبته ، وإذا ذکرته بما لیس فیه فقد بهته»(5) .

وقال الطبرسی فی تفسیره جوامع الجامع : « یقال : غابه واغتابه کغاله واغتاله ، والغیبة من الاغتیاب کالغیلة من الاغتیال ، وهی ذکر السوء فی الغیبة ، وسئل النبی صلی الله علیه و آله وسلم عن الغیبة فقال : أن تذکر أخاک بما یَکْرَه ، فإن کان فیه فقد اغتَبْتَه وإن لم یکن فیه فقد بَهَتَّه»(6) .

وقد قسّم الشهید فی قواعده الغیبة إلی ظاهرة وخفیّة وأخفی ، وعدّ من الثانی الإشارة والتعریض ، ومن الثالث أن یذمّ نفسه بترک طرائق لینبّه علی عورات غیره ...(7) .

ص:351


1- (5) القاموس المحیط 1 / 112 _ (والطبع الحجری مادة الغیب) .
2- (1) النهایة فی غریب الحدیث والأثر 3 / 399 .
3- (2) مجمع البحرین / 130 الطبع الحجری .
4- (3) رسالة الحدود والحقائق المطبوعة فی رسائل الشریف المرتضی 3 / 279 .
5- (4) التبیان 9 / 350 .
6- (5) جوامع الجامع 4 / 157 .
7- (6) القواعد والفوائد 2 / 147 و 148 قاعدة 206 ونقل عنه فی مفتاح الکرامة 12 / 213 .

قال أبو الحسین ورام بن أبی فراس المالکی الأشتری المتوفی عام 605 : « واعلم أنّ الغیبة أن تذکر أخاک بما یکرهه ، سواء ذکرت نقصاناً فی بدنه أو نسبه أو فی خُلقه أو فی فعله أو فی دینه أو فی دنیاه وحتّی فی ثوبه ، فأمّا فی بدنه فتذکر العمش والحول والقصر والقرع(1) والطول والسواد والصفرة وجمیع ما یُتصوَّر أن یوصف به ممّا یکرهه ، وأمّا النسب بأن یقول أبوه نبطیٌّ أو هندیٌّ أو فاسقٌ أو خسیسٌ أو شیءٌ ممّا یکرهه کیف کان ، وأمّا الخُلق بأن یقول له سیّی ء الخُلق بخیل متکبر مراء شدید الغضب عاجز ضعیف القلب متهور وما یجری مجراه ،

وأمّا أفعاله المتعلّقة بالدین کقولک : سارق وکذّاب وشارب خمر وخائن وظالم ومتهاون بالصلاة والزکاة ولا یحسن الرکوع والسجود ولا یحترز عن النجاسات ولیس بارّاً بوالدیه ولا یضع الزکاة فی مواضعها ، وأمّا فعله المتعلّق بالدنیا کقولک : إنّه قلیل الأدب یتهاون بالناس ، ولا یری لأحدٍ حقّاً علی نفسه ویری لنفسه حقّاً ، وإنّه کثیر الکلام کثیر الأکل وإنّه نؤوم وینام إلی غیر وقته ویجلس فی غیر موضعه ، وأمّا فی ثوبه فإنّه واسع الکُم ، طویل الذیل ، وسخ الثیاب .

وقال قوم : لا غیبة فی الدین ، لأنّه ذمّ ما ذمه اللّه فذکره بالمعاصی ، وذمّه یجوز ، بدلیل ما روی أنّه ذکر لرسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم امرأة وکثرة صومها وصلاتها لکنّها تؤذی جیرانها ، فقال : هی فی النار ، وذکر له امرأة اُخری بأنّها بخیلة ، فقال : فما خیرها إذن ، وهذا فاسد لأنّهم کانوا یذکرون ذلک بحاجتهم إلی الأحوال بالسؤال ولم یکن غرضهم التنقّص ، والدلیل علیه إجماع الاُمّة ... »(2) .

وقال المحقق الثانی : « الغیبة : هی بکسر الغین المعجمة ، وحدّها علی ما فی الأخبار : أن یقول المرء فی أخیه ما یکرهه _ لو سمعه _ ممّا فیه ، وکذا ما فی حکم القول : من الإشارة بالید وغیرها من الجوارح أو التحاکی بفعله أو قوله کمشیة الأعرج . وقد یکون بالتعریض مثل قول القائل : أنا لا أفعل کذا معرضاً بمن یفعله ، ولو قال ذلک فیه بحضوره فتحریمه أغلظ ، وإن

ص:352


1- (7) العمش : ضعف الرؤیة مع سیلان الدمع فی أکثر الأوقات . القرع : مرض جلدیٌّ یسقط شعر الرأس .
2- (1) تنبیه الخواطر ونزهة النواظر / 125 .

کان ظاهرهم أنّه لیس غیبة .

وضابط الغیبة : کلّ فعل یُقصد به هتک المؤمن والتفک به ، أو إضحاک الناس منه ، فأمّا ما کان لغرض صحیح فلا یحرم ، کنصیحة المستشیر ، والتظلم وسماعه ، والجرح والتعدیل ، وردّ من ادّعی نسباً لیس له ، والقدح فی مقالةٍ أو دعوی باطلة خصوصاً فی الدین ، وغیر ذلک » .

ویوجد فی کلام بعض الفضلاء : أنّ من شرطها أن یکون متعلَّقها محصوراً وإلاّ فلا تعدّ غیبة ، فلو قال عن أهل بلدة غیر محصورة ما لو قاله عن شخص واحد مثلاً یُعدّ غیبةٌ ، لم یحتسب غیبة »(1) .

وقال ثانی الشهیدین فی کشف الریبة عن أحکام الغیبة : « الغِیبة : _ بکسر الغین المعجمة وسکون الیاء المثناة التحتانیة وفتح الباء الموحدة _ اسم لقولک : اغتاب فلانٌ فلاناً إذا

اُوقع فیه فی غیبته ، والمصدر الاغتیاب ، یقال : إغتابه إغتیاباً ، والاسم : الغیبة . هذا بحسب المعنی اللغوی ، وأمّا بحسب الاصطلاح فلها تعریفان :

أحدهما المشهور ، وهو : ذکر الإنسان حال غیبته بما یکره نسبته إلیه ممّا یعدّ نقصاناً فی العرف بقصد الإنتقاص والذمّ . واحترز بالقید الأخیر _ وهو قصد الإنتقاص _ عن ذکر العیب للطبیب مثلاً أو لإستدعاء الرحمة من السلطان فی حقِّ الزَمِن والأعمی بذکر نقصانهما . ویمکن الغناء عنه بقید کراهیة نسبته إلیه .

والثانی : التنبیه علی ما یکره نسبته إلیه إلی آخره . وهو أعمّ من الأوّل ، لشمول مورده اللسان والإشارة والحکایة وغیرها ، وهو أولی لما سیأتی من عدم قصر الغیبة علی اللسان »(2) .

وقال العلامة المجلسی فی تعریف الغیبة : « ... وأمّا بحسب عرف الشرع فهو ذکر الإنسان المعیّن أو من بحکمه فی غیبته بما یکره نسبته إلیه ، وهو حاصل فیه ویعدّ نقصاً فی

ص:353


1- (2) جامع المقاصد 4 / 27 .
2- (1) کشف الریبة عن أحکام الغیبة المطبوع فی ضمن المصنفات الأربعة / 29 .

العرف بقصد الإنتقاص والذم قولاً أو إشارة أو کنایة ، تعریضاً أو تصریحاً ، فلا غیبة فی غیر معیّن ، کواحد مبهم غیر محصور کأحد أهل البلد .

وقال الشیخ البهائی قدس سره : وبحکمه لإدراج المبهم من محصور کأحد قاضیی البلد فاسق مثلاً ، فإنّ الظاهر أنّه غیبة ولم أجد أحداً تعرّض له . انتهی .

وقولنا « فی غیبته » لإخراج ما إذا کان فی حضوره ، لأنّه لیس بغیبة وإن کان إثماً لإیذائه ، إلاّ بقصد الوعظ والنصیحة ، والتعرض حینئذ أولی إن نفع .

وقولنا « بما یکره » لإخراج غیبة من لا یکره نسبة الفسق ونحوه إلیه ، بل ربّما یفرح بذلک ویعدّه کمالاً .

وقولنا « وهو حاصل فیه » لإخراج التهمة وإن کانت أشدّ .

وقولنا « ویعدّ نقصاً » لإخراج العیوب الشائعة التی لا تعدّ فی العرف نقصاً ، وفی الفسوق الشائعة التی لا یعدّها أکثر الناس نقصاً مع کونها مخفیّة وعدم مبالاته بذکرها وعدم عدّ أکثر الناس نقصاً لشیوعها ، ففیه إشکال ، والأحوط ترک ذکرها وإن کان ظاهر الأصحاب جوازه .

وقولنا « بقصد الانتقاص » لخروج ما إذا کان للطبیب لقصد العلاج وللسلطان

للترحم أو للنهی عن المنکر»(1) .

وقال صاحب الحدائق فی تعریف الغیبة : « القول بما یکرهه ویغیظه وإن کان حقّاً»(2) .

وقال الشیخ جعفر قدس سره : « الغیبة بالإضافة إلی المؤمنین _ واللام عوضها بقرینة السوق _ العقلاء منهم والممیّزین من أولادهم بذکر معایبهم مع الرضا وبدونه أو ذکر ما یغمّهم ویحزنهم مع ذکر العیب وعدمه أو ذکرهما معاً علی اختلاف الآراء فی معناها بین العلماء ، وعلی القول بأنّها مطلق الذکر فلابدّ من التقیید لترتب الحظر . ویُعتبر کونهامن مقولة الکلام کما علیه بعض الأعلام ، أو جمیع ما یفید مفاده من فعل أو تعریض أو إشارة أو تغییر عادة . وفی المغتاب

ص:354


1- (1) مرآة العقول 10 / 407 .
2- (2) الحدائق 18 / 146 .

_ اسم مفعول _ عدم الحضور وإنْ تشارکا فی لزوم المحظور . وخلاف الکذب لئلا تدخل فی البهتان وتخرج عن الإسم وإن کان أشدّ فی العصیان . وحیث اختلف فیها کلام الأساطین من الفقهاء واللغویین فالمرجع إلی العرف الذی هو المیزان مع اختلاف کلام اللغویین فی التفسیر والتبیان»(1) .

وقال الفاضل النراقی : « الغیبة ... وهی أن یُذکر إنسانٌ مِنْ خلفه بما هو فیه من السوء ، فلو لم یکن من خلفه لم یکن غیبته ، کما هو مقتضی مادّة اللفظ»(2) .

وذکر المحقق الإیروانی اُموراً فی حقیقة الغیبة ، ملخصها : « الأوّل : أن یکون المذکور سوءً خَلقیّاً أو خُلقیّاً أو اعتباریّاً أو شرعیّاً ، فلو ذُکر شخصٌ بغیر ذلک لم یکن غیبةً ، کما إذا ذکره بفعل المباحات أو بالمواظبة علی النوافل أو التهجّد أو حمل الصدقات فی اُطراف الثیاب إلی الفقراء فی جوف اللیل لم یکن ذلک من الغیبة وإن کره ذکره بذلک . فإنّ مجرد کراهته الذکر لا یدرجه فی الغیبة وإنْ حرم من جهة الإیذاء .

الثانی : أن یکون ممّا یسوء المغتاب _ بالفتح _ فلو ذکر سوءً لا یسوء المغتاب لخصوصیة فی المغتاب _ بالفتح _ أو فی المغتاب _ بالکسر _ لم یکن ذلک من الغیبة .

الثالث : أن یکون ذکره فی مقام التنقیص .

الرابع : أن یکون المذکور عیباً مستوراً علی الناس ، أمّا لو کان ظاهراً لم یکن ذکره غیبةً .

الخامس : وجود المخاطب ، فلو ذکره بلا مخاطب فلا غیبة .

السادس : ذکر المغتاب _ بالفتح _ علی وجه یرتفع عنه الجهالة والإبهام رأساً ، فلو ذکر مجهولاً بسوءٍ مردّدٍ بین أطراف غیر محصورة _ کواحد من البشر أو من أهل البلد _ أو ذکر مجهولاً مردّداً بین أطراف محصورة _ کمسمّی بزیدٍ المردّد بین اثنین _ لم یکن ذلک غیبةً .

ولو شک فی تحقق شیءٍ من القیود المعتبرة فی الغیبة أو فی موضوع الحرمة لزم الحکم

ص:355


1- (3) شرح القواعد 1 / 221 .
2- (4) مستند الشیعة 14 / 159 .

بالجواز »(1) . انتهی ملخصاً .

قالت العلویة الأمینیة الأصفهانیة (1308_ 1403) : « الغیبة : أن تذکر أخاک فی غیابه بما یکرهه ممّا یُعدّ نقصاناً فی العرف بقصد الإنتقاص . وقید « بقصد الانتقاص » لخروج ما إذا کان ذکر العیب للطبیب بقصد العلاج أو للسلطان بقصد الاسترحام أو للحاکم بقصد رفع الظلم أو غیر ذلک ، من الموارد التی لا یکون فیها قصدُ ذمّ وانتقاص .

وبعض آخر قیّد التعریف بقید آخر وهو « کونه بحیث یعدُّ نقصاناً فی العرف» ، فإن لم یعدّ نقصاناً فی العرف کالعیوب الشائعة بین الناس ولو کانت مخفیّة لم تکن من الغیبة المحرّمة ، وفیه نظر ... »(2) .

وقال المحقق الخوئی فی تعریف الغیبة : « هو أن تقول فی أخیک ما ستره اللّه علیه ، وأمّا فی المقدار الزائد فیرجع إلی الاُصول العملیة ، وقد ذکر هذا فی جملة من الروایات ، وهی وإن کانت ضعیفة السند ولکن مفهومها موافق للذوق السلیم والفهم العرفی ، ویؤیده ما فی لسان العرب وغیره من أنّ الغیبة أن تتکلّم خلف إنسان مستور بسوء أو بما یغمّه لو سمعه ، بل ینطبق علیه جمیع تعاریف الفقهاء وأهل اللغة ، لکونه المقدار المتیقَّن من مفهوم الغیبة کما عرفت ، وقد اُشیر إلیه فی بعض أحادیث العامة ... »(3) .

وقد اختار شیخنا الاُستاذ _ مدظله _ تعریف اُستاذه الخوئی قدس سره فی إرشاده وقال : « حدّ الغیبة کشف ما ستره اللّه علی المؤمن من عیبه ... »(4) .

وقال الفقیه السید عبد الأعلی السبزواری قدس سره : « وخلاصة الکلام : أنّ کراهة القول والمقول والإنتقاص وکشف الستر فی الجملة من مقومات الغیبة بحسب اللغة والأخبار

والإعتبار ... »(5) .

ص:356


1- (1) الحاشیة علی المکاسب 1 / (199 _ 195) .
2- (2) أربعین الهاشمیة / 347 الطبعة الثانیة فی عام 1379 ق .
3- (3) مصباح الفقاهة 1 / 326 .
4- (4) إرشاد الطالب 1 / 194 .
5- (1) مهذب الأحکام 16 / 123 .

أقول : حیث ورد تعریف الغیبة فی الروایات فلابدّ من ملاحظتها بعد المرور علی تعاریف أهل اللغة والفقهاء ، بحیث یظهر تعریفها بلا فرق بین أنّ لها معنی عرفی متداول بین أهل العرف غیر متلقّی من الشرع - کما فی مثل الهجاء والمدح والسبّ والتعییر کما علیه بعض ولعلّه هو المشهور - أو أنّها من المجعولات الشرعیة وتعریفات أهل اللغة راجعة إلی تعیین ما تعلّمه أهل العرف من الشرع کما علیه بعض آخر ومنهم المؤسس الحائری(1) قدس سره . لأنه بعد ثبوت التقیید الشرعی لابدّ من تقیید التعاریف العرفیة به کما لا یخفی . وأمّا الروایات الواردة فی تعریفها فهی تکون متعددة :

منها : معتبرة أو صحیحة داود بن سرحان قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الغیبة ، قال : هو أن تقول لأخیک فی دینه ما لم یفعل ، وتبثّ علیه أمراً قد ستره اللّه علیه لم یقم علیه فیه حدّ(2) .

رجال السند کلّهم ثقات إلاّ معلی بن محمد البصری وإن قلنا بوثاقته کما علیه المحقق الخوئی فی معجم رجال الحدیث(3) . فالروایة صحیحة الإسناد ، وإن قلنا باعتباره وأنّ الرجل من المعاریف ولم یرد فیه قدح کما علیه شیخنا الأستاذ _ مدظله _(4) فهی معتبرة الإسناد .

ومنها : معتبرة عبد الرحمن بن سیابة قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : الغیبة أن تقول فی أخیک ما ستره اللّه علیه ، وأمّا الأمر الظاهر فیه مثل الحِدَّة والعجلة فلا ، والبهتان أن تقول فیه ما لیس فیه(5) .

رجال السند کلّهم ثقات إلاّ عبد الرحمن بن سیابة ، والرجل مورد وثوق الإمام علیه السلام فی

ص:357


1- (2) المکاسب المحرمة / 193 لشیخنا آیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی قدس سره .
2- (3) الکافی 2 / 375 ح 3 ونقلت عنه فی کتابی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 219 ح 2 ونقل عن الکافی فی وسائل الشیعة 12 / 288 ح 1 . الباب 154 من أبواب العشرة .
3- (4) معجم رجال الحدیث 18 / 258 .
4- (5) نقل عنه فی الموسوعة الرجالیة المیسرة / 470 الرقم 6084 .
5- (6) الکافی 2 / 358 ح 7 ونقلت عنه فی کتابی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 219 ح 3 ونقل عن الکافی فی الوسائل 12 / 288 ح 2 .

الأمانة ، لأنّه قسّم دنانیر أبی عبد اللّه علیه السلام بین عیالات من استشهد مع عمّه زید سلام اللّه علیه(1) ، وأسند عنه الشیخ الطوسی فی رجاله(2) وحکم العلامة المجلسی بمدحه فی

الوجیزة(3) ، وهو من مشایخ ابن أبی عمیر(4) ومن المذکورین مع الواسطة فی کامل الزیارات(5) ، وله 37 روایة فی الکتب الأربعة(6) ، فالرجل من المعاریف لم یرد فیه قدح فثبت به وثاقته ولا أقل من اعتباره ، ولذا حکم العلامة المامقانی بوثاقته علی الأقوی فی التنقیح(7) وشیخنا الأستاذ _ مدظله _ فی الإرشاد(8) . وبما ذکرنا ظهر ضعف ما استظهره شیخنا التستری قدس سره فی قاموسه(9) من مذمومیته ، واللّه العالم بالحال .

والروایة رواها الصدوق بسنده المعتبر عن عبد الرحمن فی کتابیه الأمالی المجلس الرابع والخمسین ح 17 / 417 الرقم 550 ومعانی الأخبار / 184 ح 1 ، ونقل عنهما صاحب الوسائل 12 / 282 ح 14 . الباب 152 من أبواب أحکام العشرة .

ومنها : صحیحة یحیی بن عبد الرحمن الأزرق الأنصاری قال : قال لی أبو الحسن علیه السلام : من ذکر رجلاً من خلفه بما هو فیه ممّا عرفه الناس لم یغتبه ، ومن ذکره من خلفه بما هو فیه ممّا لا یعرفه الناس اغتابه ، ومن ذکره بما لیس فیه فقد بهته(10) .

ورجال السند کلّهم ثقات ، لأنّ « العباس بن عامر بن رَباح أبو الفضل الثقفی القَصْبانی

ص:358


1- (7) کما فی اختیار معرفة الرجال / 338 الرقم 622 .
2- (8) رجال الطوسی / 230 الرقم 120 .
3- (1) الوجیزة فی علم الرجال / 101 الرقم 1019 .
4- (2) کما فی إرشاد الطالب 1 / 193 .
5- (3) کامل الزیارات / 79 ح 1 الباب 23 .
6- (4) الموسوعة الرجالیة المیسرة / 255 الرقم 3131 .
7- (5) نتائج التنقیح / 83 .
8- (6) إرشاد الطالب 1 / 193 .
9- (7) قاموس الرجال 6 / 116 .
10- (8) الکافی 2 / 358 ح 6 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 220 ح 4 ونقل عن الکافی فی الوسائل 12 / 289 ح 3 .

الشیخ الصدوق الثقة کثیر الحدیث له کتب» کما قاله النجاشی(1) ، والراوی الأخیر أیضاً ثقة ، وهکذا البواقی ثقات فالسند صحیح .

ومنها : ما رواه الشیخ بسنده المتصل إلی أبی الأسود الدؤلی عن أبی ذر رضی الله عنه فی حدیث طویل قال : قلت : یا رسول اللّه ما الغیبة ؟ قال : ذکرک أخاک بما یکرهه ، قلت : یا رسول اللّه فإن کان فیه ذاک الذی یذکر به ؟ قال : إعلم إذا ذکرته بما هو فیه فقد اغتبته ، وإذا

ذکرته بما لیس فیه فقد بهتّه ، الحدیث(2) .

ومنها : ما رواه العیاشی فی تفسیره عن عبد اللّه بن حماد الأنصاری عن عبد اللّه بن سنان قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : الغیبة أن تقول فی أخیک ما هو فیه ممّا قد ستره اللّه علیه ، فأمّا إذا قلت ما لیس فیه فذلک قول اللّه : «فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِیناً»(3)(4) .

ومنها : ما رواه ورام بن أبی فراس وثانی الشهیدین مرفوعاً عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قال : هل تدرون ما الغیبة ؟ قالوا : اللّه ورسوله أعلم ، قال : ذکرک أخاک بما یکره ، قیل : أرأیت إن کان فی أخی ما أقول ؟ قال صلی الله علیه و آله وسلم : إن کان فیه ما تقول اغتبته وإن لم یکن فیه فقد بهتَّه(5) .

أقول : الذی یظهر للمتأمل من هذه الروایات أنّ الغیبة کشف ما ستره اللّه علی المؤمن بما فیه ولکن لم یعرفه الناس ، ومن الطبیعی أنّ هذا الکشف یوجب کراهته وغمّه غالباً .

المقام الثانی :

اشارة

الأدلة الأربعة تدلّ علی حرمة الغیبة :

الأوّل : الاجماع

حرمة الغیبة فی الجملة إجماعیٌّ بین المسلمین ، بل هی من ضروریات الدین ، واعترف

ص:359


1- (9) رجال النجاشی / 281 الرقم 744 .
2- (1) أمالی الطوسی . المجلس التاسع عشر ح 1 / 537 الرقم 1162 ونقل عنه فی الوسائل 12 / 280 ح 9 .
3- (2) سورة النساء / 112 .
4- (3) تفسیر العیاشی 1 / 442 ح 272 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 12 / 286 ح 22 .
5- (4) تنبیه الخواطر ونزهة النواظر المعروف بمجموعة ورام / 126 وکشف الریبة عن أحکام الغیبة / 11 .

بها جمع من الأصحاب قدس سرهم :

منهم : العلامة فی التذکرة قال : « ... وکذا یحرم هجاء المؤمنین والغیبة ، قال اللّه تعالی : «وَلاَ یَغْتَب بَّعْضُکُم بَعْضاً أَیُحِبُّ أَحَدُکُمْ أَن یَأْکُلَ لَحْمَ أَخِیهِ مَیْتاً»(1) و ... بلا خلاف فی ذلک کلّه»(2) .

ومنهم : ثانی الشهیدین قال : « وتحریم الغیبة فی الجملة إجماعیٌّ ، بل هی کبیرةٌ موبقةٌ ، للتصریح بالتوعدّ علیها بالخصوص فی الکتاب والسنة ... »(3) .

ومنهم : الشیخ جعفر قدس سره قال : « الأدلة الأربعة متفقة علی حظرها ... »(4) .

ومنهم : الفاضل النراقی قال : « ثمّ إنّه لا ریب فی حرمة الغیبة ، ویدلّ علیها الإجماع والکتاب والسنة ... »(5) .

ومنهم : السید جواد العاملی ، عدّ حرمتها وحرمة التکسب بها من الضروریات(6) .

ومنهم : السید علی آل بحر العلوم قال : « فاعلم أنّ حرمتها باتفاق النص والفتوی بل الأدلة الأربعة علیها متطابقة ... »(7) .

ومنهم : الشیخ الأعظم فی متن المکاسب المحرّمة قال : « الغیبة حرام بالأدلة الأربعة»(8) .

ومنهم : المحقق الخوئی قال : « ... بل حرمتها من ضروریات الدین وممّا قام علیه

ص:360


1- (5) سورة الحجرات / 12 .
2- (6) تذکرة الفقهاء 12 / 144 ذیل مسألة 649 .
3- (7) کشف الریبة / 30 .
4- (8) شرح القواعد 1 / 222 .
5- (1) مستند الشیعة 14 / 161 .
6- (2) راجع مفتاح الکرامة 12 / 212 .
7- (3) برهان الفقه ، کتاب التجارة / 21 طبع الحجری .
8- (4) المکاسب المحرمة / 40 الطبع الحجری _ (1 / 315) .

إجماع المسلمین ... »(1) .

الثانی : الکتاب

تدلّ علی حرمة الغیبة أربعة من آیات کتاب اللّه العزیز وهی :

1 _ قوله تعالی : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا کَثِیراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ یَغْتَب بَّعْضُکُم بَعْضاً أَیُحِبُّ أَحَدُکُمْ أَن یَأْکُلَ لَحْمَ أَخِیهِ مَیْتاً فَکَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِیمٌ»(2) .

شبّه اللّه تعالی المؤمن بالأخ والغیبة بأکل لحمه حالکونه میتاً ، یعنی عدم شعور المؤمن حال الغیبة بها شُبّه بالموت ، فکما أن أکل لحم الأخ المؤمن میتاً حرام کذلک الغیبة . واستفادة الحرمة من الآیة واضحة ، مضافاً إلی النهی الوارد فی الآیة عن الغیبة قبل التشبیه .

ولذا قال الشیخ فی معنی الآیة الشریفة : « معناه أنّ مَنْ دُعی إلی أکل لحم أخیه فعافته نفسه ، فکرهته من جهة طبعه ، فإنّه ینبغی إذا دعی إلی عیب أخیه فعافته نفسه من جهة عقله ، فینبغی أن یکرهه ، لأنّ داعی العقل أحقّ أن یتبع من داعی الطبع ، لأنّ داعی الطبع أعمی وداعی العقل بصیر ، وکلاهما فی صفة الناصح ، وهذا من أحسن ما یدلّ علی ما ینبغی أن

یجتنب من الکلام . وفی الکلام حذف ، وتقدیره أیحبّ أحدکم أن یأکل لحم أخیه میتاً فیقولون : لا ، بل عافته نفوسنا ، فقیل لکم : فکرهتموه ، فحذف لدلالة الکلام علیه»(3) .

ویوید ما ذکرناه شأن نزول الآیة الشریفة ، قال الشیخ الطبرسی : « ورُوی أنّ أبا بکر وعمر بعثا سلمان إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم لیأتی لهما بطعام ، فبعثه إلی اُسامة بن زید وکان خازن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم علی رحله ، فقال : ماعندی شیءٌ ، فعاد إلیهما ، فقالا : بخل اُسامة ولو بعثنا سلمان إلی بئر سُمَیحة(4) لغار ماؤُها . ثمّ انطلقا إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فقال لهما : مالی أری خُضْرَةَ اللحم فی أفواهکما ؟ قالا : یا رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ما تناولنا الیوم لحماً ، قال : ظَلمتُم ، تأکلون لحم

ص:361


1- (5) مصباح الفقاهة 1 / 318 .
2- (6) سورة الحجرات / 12 .
3- (1) التبیان 9 / 350 .
4- (2) بئر بالمدینة .

سلمانَ واُسامةَ ، فنزلت»(1) .

أقول : ذکر هذه الروایة فی مجمع البیان 9 / 135 أیضاً ، ولکن فیه لم یسمهما .

2 _ قوله تعالی : «وَیْلٌ لِّکُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ»(2) .

بتقریب : أنه قد یقال فی تعریف الهُمَزة بأنّها : الکثیر الطعن علی غیره بغیر حقٍّ العائب له بما لیس بعیب لجهله وسفهه وشدّه إقدامه علی مکاره غیره کما فی التبیان(3) ، وتبعه صاحب مجمع البیان(4) . والطعن والعیب کما یمکن أن یکون بحضور المطعون والمعیوب ، یمکن أن یکون بغیابه والأخیر هو الغالب ، وهو لیس إلاّ الغیبة ، فالآیة الشریفة تشمل بإطلاقها علی حرمة الغیبة فی الجملة .

ویؤید هذا التقریب تفسیر ابن عباس الهُمَزة بالطّعان ، واللمزة بالمغتاب(5) ، وتفسیر الطبرسی الهمزة بالذی یکسر أعراض الناس بالغض منهم واغتیابهم ، واللمزة بالذی یطعن فیهم ، وقال : « هذا وعید من اللّه لکلِّ مغتابٍ عیّابٍ مشّاءٍ بالنمیمة مُفرِّق بین الأحبّة»(6) .

ولکن الإنصاف : أنّ بین العنوانین عموم وخصوص من وجه ، وبعض أفراد الغیبة داخل فی عنوان الهمزة أو اللمزة ، فدلالة هذه الآیة الشریفة علی حرمة الغیبة غیر تامة ، کما

ذکره المحقق الخوئی قدس سره فی المصباح(7) .

3 _ قوله تعالی : «إِنَّ الَّذِینَ یُحِبُّونَ أَن تَشِیعَ الْفَاحِشَةُ فِی الَّذِینَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِیمٌ فِی الدُّنْیَا وَالاْآخِرَةِ وَاللَّهُ یَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»(8) .

ص:362


1- (3) جوامع الجامع 4 / 158 ونقل عنه فی تفسیر کنز الدقائق 9 / 612 .
2- (4) سورة الهمزة / 1 .
3- (5) التبیان 10 / 407 .
4- (6) مجمع البیان 10 / 537 .
5- (7) نقل عنه فی التبیان 10 / 407 .
6- (8) جوامع الجامع 4 / 535 .
7- (1) مصباح الفقاهة 1 / 319 .
8- (2) سورة النور / 19 .

بتقریب : أن ظاهر الآیة الشریفة یدلّ علی حرمة شیوع الفاحشة بین المؤمنین لاحبّها فقط(1) ، لأنّ الحبّ بذاته لا یمکن أن یکون من المحرّمات التی تتعلق بالأفعال .

نعم ، الحبّ إذا برز إلی مرحلة الظهور والفعل - نحو دعوة المؤمنین إلی الفواحش وتحریضهم علیها صار - من المحرّمات ، ولذا قال الشیخ : « إنّ الذین یحبون ، یؤثرون ، أن تشیع الفاحشة أی تظهر الأفعال القبیحة»(2) . ومن جملة إشاعة الفواحش بعض مصادیق الغیبة ، فتکون محرّمة .

ویؤید ما ذکرناه صحیحة ابن أبی عمیر عن بعض أصحابه عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : من قال فی مؤمن ما رأته عیناه وسمعته اُذناه فهو مِنْ الذین قال اللّه عزّ وجلّ : «إِنَّ الَّذِینَ یُحِبُّونَ أَن تَشِیعَ الْفَاحِشَةُ فِی الَّذِینَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِیمٌ»(3) .

والروایة منقولة بسند صحیح عن الصدوق إلی محمد بن حمران عن الصادق علیه السلام ، وبهذا السند صارت صحیحة(4) . والعجب غفلة الفاضل النراقی عن هذا السند وعبّر عنها بمرسلة ابن أبی عمیر(5) .

الآیة الشریفة تدلّ بوضوح علی أنّ الغیبة من المعاصی الکبیرة حیث وعد اللّه علیه العذاب الألیم فی الدنیا والآخرة .

4 _ قوله تعالی : «لاَّ یُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَکَانَ اللّهُ سَمِیعاً عَلِیماً»(6) .

بتقریب : أنّ اللّه تعالی لا یحبّ القول بالسوءِ جهراً ، أی یحرم القول بالسوءِ وإظهاره

إلاّ من المظلوم ، ومن الواضح أنَّ الغیبة تدخل فی القول بالسوء عرفاً فتحرم .

ص:363


1- (3) کما هو ظاهر المحقق الخوئی بل صریحه فی مصباح الفقاهة 1 / 319 .
2- (4) التبیان 7 / 419 .
3- (5) وسائل الشیعة 12 / 280 ح 6 .
4- (6) وسائل الشیعة 12 / 280 ح 6 .
5- (7) مستند الشیعة 14 / 161 .
6- (8) سورة النساء / 148 .

ویؤید ما ذکرناه مرسلة العیاشی عن أبی الجارود عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : الجهر بالسوء مِن القول أن یُذکر الرجل بما فیه(1) .

ومِنْ المعلوم أنّ جُلّ ذکر الرجل بما فیه یکون فی غیبته لولا کلّه ، فالغیبة تدخل فی الآیة الشریفة وتحرم بها .

وأمّا الإشکال علی الاستدلال بالآیة الشریفة - بأنّ عدم المحبوبیة أعمّ من الحرمة ومن الکراهة المصطلحة کما ففی مصباح الفقاهة(2) - ففی غیر محلّه ، لأنّ اللّه تعالی فی کتابه یکون فی مقام الجعل والتشریع ، وفی هذا المقام الحبّ یلازم المصلحة والوجوب وعدمه یلازم المفسدة والحرمة .

فکلمة «لاَّ یُحِبُّ اللّهُ» یُحمل علی الحرمة ، ولذا حکم الأصحاب قدس سرهم بحرمة الجهر بالقول السوء واستثنی منها المظلوم فقط .

ولذا قال الشیخ : « والتأویل فیه لا یحبّ اللّه أن یجهر أحدٌ لأحدٍ بالسوء من القول إلاّ من ظُلم ، فلا حرج علیه أنْ یخبر بما اُسیء إلیه»(3) .

وقال الطبرسی : « فإنّ المحبة إذا تعلقت بالفعل فمعناها الإرادة»(4) .

فالمظلوم لا حرج علیه بأن یجهر بالسوء ، وأمّا غیره فثبت علیه الحرج ، یعنی أنّه یعصی إذا جهر بالسوء . والإرادة فی مقام التشریع إذا تعلقت بالکراهة تفید معنی الحرمة فالآیة الشریفة دالة علی حرمة الغیبة . واللّه العالم بکتابه العزیز وأسراره .

الثالث : الروایات المتواترة

مضافاً إلی ما مرّ ذکره من الروایات فی تعریف الغیبة تدلّ علی حرمتها متواتر الروایات :

منها : موثقة سماعة بن مهران عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال : من عامل الناس فلم

ص:364


1- (1) تفسیر العیاشی 1 / 454 ح 300 ونقل عنه فی البرهان 2 / 194 ح 2 .
2- (2) مصباح الفقاهة 1 / 319 وقبله المحقق الإیروانی فی حاشیة المکاسب 1 / 192 .
3- (3) التبیان 3 / 372 .
4- (4) مجمع البیان 2 / 131 .

یظلمهم وحدَّثهم فلم یکذبهم ووعدهم فلم یخلفهم کان ممّن حرمت غیبته وکملت مروءته وظهر عدله ووجبت اُخوته(1) .

ومنها : حسنة سلیمان بن خالد عن أبی جعفر علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : ألا اُنبّئکم بالمؤمن ؟ مَنْ ائتمنه المؤمنون علی أنفسهم وأموالهم ، ألا اُنبّئکم بالمسلم ؟ من سلم المسلمون من لسانه ویده ، والمهاجر مَن هجر السیئات وترک ما حرّم اللّه ، والمؤمن حرامٌ علی المؤمن أنْ یظلمه أو یخذله أو یغتابه أو یدفعه دفعةً(2) .

رجال السند کلّهم ثقات ، والمذکور فی الکافی الشریف الحسن بن علی وهو ابن فضال بدل الحسین بن علی الموجود فی الوسائل وهو ثقة جلیل ، إلاّ أبی کَهْمَس وهو الهیثم بن عبد اللّه حسّنه العلامة المامقانی قدس سره فی نتائج التنقیح(3) وما ذکر فی الموسوعة الرجالیة المیسرة(4) من أنّ العلامة المجلسی حسّنه فی الوجیزة ، غیر تام ، لأنّه قال فی الوجیزة : « أبو کهمس کنیة لمجاهیل»(5) وقال : « هیثم بن عبید أبو کهمس ، اُسند عنه»(6) . ولعلّ الرجلین والکتابین قد خلط فی المسودة من الکتاب . وبالجملة الرجل عندنا حسنٌ ، فالروایة به حسنة سنداً .

ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : الغیبة أسرع فی دین الرجل المسلم من الآکلة فی جوفه . قال : وقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : الجلوس فی المسجد انتظار الصلاة عبادة ما لم یُحْدِث ، قیل : یا رسول اللّه وما یحدث ؟ قال : الاغتیاب(7) .

ومنها : معتبرة عمرو بن خالد عن زید بن علی عن آبائه علیهم السلام عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال :

ص:365


1- (5) وسائل الشیعة 12 / 278 ح 2 .
2- (1) الکافی 2 / 235 ح 19 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 12 / 278 ح 1 .
3- (2) نتائج التنقیح / 164 .
4- (3) الموسوعة الرجالیة المیسرة / 542 .
5- (4) الوجیزة / 209 .
6- (5) الوجیزة / 195 .
7- (6) وسائل الشیعة 12 / 280 ح 7 و 8 وفی الکافی 2 / 356 ح 1 کلاهما یکونان حدیثاً واحداً وهو الصحیح .

تحرم الجنة علی ثلاثة : علی المنّان ، وعلی المغتاب ، وعلی مدمن الخمر(1) .

رجال السند کلّهم ثقات حتّی الحسین بن علوان ، لأنّه یمکن رجوع توصیف الثقة فی کلام النجاشی إلیه حیث یقول : « کوفی عامی وأخوه الحسن یکنی أبا محمد ثقة ، رویا عن أبی عبد اللّه علیه السلام »(2) کما استظهره المحقق الخوئی(3) قدس سره ونقل العلامة عن ابن عقده انّه قال : « إنّ

الحسن کان أوثقُ من أخیه وأحمدُ عند أصحابنا»(4) .

وهذا الکلام من العلامة یقوی رجوع کلمة « الثقة » فی کلام النجاشی إلی الحسن کما هو الظاهر ، ولکنّه یدلّ علی توثیق الحسین أیضاً ولکن الحسن اُوثق منه وأحمد ، ولذا حکم بتوثیقه العلامة المجلسی قدس سره مع إقراره بأنّه غیر إمامیٍّ علی الأظهر(5) . فالرجل لو لم یکن ثقة ، یکون معتبراً عندنا ، والروایة صارت به معتبرة .

ومنها : خبر نوف البکّالی قال : أتیتُ أمیر المؤمنین علیه السلام وهو فی رَحبة مسجد الکوفة ، فقلت : السلام علیک یا أمیر المؤمنین ورحمة اللّه وبرکاته ، فقال : وعلیک السلام یا نوف ورحمة اللّه وبرکاته ، فقلت له : یا أمیر المؤمنین عظنی ، فقال : یا نوف أحْسِنْ یُحْسَنُ إلیک ، فقلت : زدنی یا أمیر المؤمنین ، فقال : إرحم تُرْحَم ، فقلت : زدنی یا أمیر المؤمنین ، قال : یا نوف قُلْ خیراً تُذْکَر بخیر . فقلت : زدنی یا أمیر المؤمنین ، قال : اجتنب الغیبة فإنّها إدام کلاب النار . ثمّ قال : یا نوف کَذَبَ مَنْ زَعَم أنّه وُلِدَ من حلالٍ وهو یأکُل لُحوم الناس ، وکذب من زعم أنّه وُلِدَ من حلالٍ وهو یحبُّ الزنا ، وکذب من زعم أنّه یعرف اللّه عزّ وجلّ وهو مُجْتَرِی ءٌ علی معاصی اللّه کلّ یوم ولیلة ، الحدیث(6) .

ص:366


1- (7) وسائل الشیعة 12 / 281 ح 10 .
2- (8) رجال النجاشی / 52 الرقم 116 .
3- (9) معجم رجال الحدیث 6 / 31 .
4- (1) ترتیب خلاصة الأقوال / 165 الرقم 23 طبع الآستانة المقدسة الرضویة .
5- (2) الوجیزة / 64 .
6- (3) أمالی الصدوق . المجلس السابع والثلاثون ح 9 / 277 الرقم 308 ونقل عنه مختصراً فی وسائل الشیعة 12 / 283 ح 16 .

ومنها : خبر أسباط بن محمد یرفعه إلی النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : الغیبة أشدّ من الزنا ، فقیل : یا رسول اللّه ولم ذلک ؟ قال : أمّا صاحب الزنا فیتوب فیتوب اللّه علیه ، وأمّا صاحب الغیبة فیتوب فلا یتوب اللّه علیه حتّی یکون صاحبه الذی یحلّه(1) .

ومنها : خبر سیف بن عمیرة عن الصادق علیه السلام أنّه قال : إنّ للّه تبارک وتعالی علی عبده المؤمن أربعین جُنَّة ، فمتی أذنب ذنباً کبیرة رفع عنه جُنّته ، فإذا اغتاب أخاه المؤمن بشیءٍ یعلمه منه انکشفت تلک الجنّن عنه ویبقی مهتک الستر ، فیفتضح فی السماء علی ألسنة الملائکة وفی الأرض علی ألسنة الناس ، ولا یرتکب ذنباً إلاّ ذکروه ، تقول الملائکة الموکلون به : یا ربّنا قد بقی عبدک مهتک الستر وقد أمرتنا بحفظه ، فیقول عزّ وجلّ : ملائکتی لو أردتُ بهذا العبد خیراً ما فضحته ، فارفعوا أجنحتکم عنه ، الحدیث(2) .

ومنها : مرسلة ثانی الشهیدین فی خبر معاذ الطویل المشهور عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم : إنّ الحفظة تصعد بعمل العبد وله نور کشعاع الشمس ، حتّی إذا بلغ السماء الدنیا والحفظة تستکثر عمله وتزکیّه ، فإذا انتهی إلی الباب ، قال الملک الموکَّل بالباب : اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه ، أنا صاحب الغیبة ، أمرنی ربّی أن لا أدع عمل من یغتاب الناس یتجاوزنی إلی ربّی(3) .

ومنها : مرسلة ورام بن أبی فراس عن أنس قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : مررت لیلة اُسری بی علی قوم یخمشون وجوهَهم بأظفارههم ، فقلت : یا جبرئیل من هؤلاء ؟ فقال : هؤلاء الذین یغتابون الناس ویقعون فی أعراضهم(4) .

ومنها : مرسلة القطب الراوندی رفعه إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : مَنْ اغتاب مؤمناً فکأنّما قتل نفساً متعمداً(5) .

ص:367


1- (4) وسائل الشیعة 12 / 284 ح 18 .
2- (5) الاختصاص / 220 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 226 ح 26 .
3- (1) کشف الریبة / 30 .
4- (2) تنبیه الخواطر ونزهة النواظر / 123 .
5- (3) لب اللباب / مخطوط ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 125 ح 48 .

تلک عشرة کاملة من الروایات ، فإن شئت أکثر ممّا ذکرناه فراجع الوافی 5 / 977 ووسائل الشیعة 12 / 278 ومستدرک الوسائل 9 / 113 وجامع أحادیث الشیعة 20 / 518 وکتابی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 219 وکتابی الآخر ألف حدیث فی المؤمن / 103 و 192 .

الرابع : حکم العقل

العقل مستقل بقبح الغیبة ، لأنّها ظلم وإیذاء فی حقِّ المؤمن ، وبقاعدة الملازمة یتبعه الحکم الشرعی بحرمتها .

المقام الثالث : فروعٌ

اشارة

لابدّ من التنبیه علیها :

الأوّل : حرمة الغیبة منحصرة بالمؤمن

ذهب المشهور إلی أنّ حرمة الغیبة تختص بالمؤمن ، وخالفهم بعض الأصحاب قدس سرهم ، کما هو ظاهر الشهید فی قواعده(1) وصریح المقدس الأردبیلی حیث یقول : « الظاهر أنّ عموم أدلة

تحریم الغیبة من الکتاب والسنة یشمل المؤمنین وغیرهم ، فإنّ قوله تعالی : «وَلاَ یَغْتَب بَّعْضُکُم بَعْضاً» إمّا للمکلَّفین کلّهم أو المسلمین فقط ، لجواز غیبة الکافر ولقوله تعالی بعده : «لَحْمَ أَخِیهِ مَیْتاً»وکذا الأخبار فإنّ أکثرها بلفظ الناس أو المسلم . [ ثمّ ذکر عدة من الروایات ثمّ قال : [وبالجملة ، عموم أدلة الغیبة وخصوص ذکر المسلم یدلّ علی التحریم مطلقاً وأنّ عرض المسلم کدمه وماله ، فکما لا یجوز أخذ مال المخالف وقتله لا یجوز تناول عرضه الذی هو الغیبة ، وذلک لایدل علی کونه مقبولاً عند اللّه ، کعدم جواز أخذ ماله وقتله کما فی الکافر ... »(2) .

ص:368


1- (4) القواعد والفوائد 2 / 147 و 148 قاعدة 206 ونقل عنه صاحب مجمع الفائدة والبرهان 8/ 78 بلفظ « أظن أنّی رأیت فی قواعد الشهید أنّه یجوز غیبة المخالف من حیث مذهبه ودینه الباطل وکونه فاسقاً من تلک الجهة لا غیرها ، مثل أنْ یقال : أعمی ونحوه» .
2- (1) مجمع الفائدة والبرهان 8 / 77 و 78 .

وهو ظاهر الشهید الثانی فی دیباجة رسالته کشف الریبة حیث یقول : « ... فلمّا رأیتُ أکثر أهل هذا العصر ممّن یتّسم(1) بالعلم ویتّصف بالفضل وینسب إلی العدالة ویترشح للرئاسة یحافظون علی أداء الصلوات والدؤوب(2) فی الصیام وکثیر من العبادات والقربات ، ویجتنبون جملة من المحرّمات کالزنا وشرب الخمر نحوهما من القبائح الظاهرات ، ثمّ هم _ مع ذلک _ یصرفون کثیراً من أوقاتهم ویتفکّهون فی مجالسهم ومحاوراتهم ویغذون نفوسهم بتناول أعراض إخوانهم من المؤمنین ونظرائهم من المسلمین ، ولا یعدّونه من السئیات ولا یحذرون معه من مؤاخذة جبّار السماوات ... »(3) . ثمّ ذکر بعض الروایات الواردة فی حرمة الغیبة بالنسبة إلی الناس والمسلمین فی مقدمته بعد صفحة .

ولکن الشهید الثانی نفسه صرّح فی الروضة(4) بتخصیص الحکم بالمؤمن .

والمحقق السبزواری(5) حیث نقل کلام الأردبیلی بلفظ بعض المتأخرین ولکن لم یتعرض لردِّه ولا للقدح فیه .

ولکن أوّل من أنکر هذا القول علیهم من الذین کلامهم وکتبهم بأیدینا وذهبوا إلی تخصیص الحکم بالمؤمن ، هو الشیخ حسن ابن الشهید الثانی حیث یقول فی أجوبة المسائل

التی سأله عنها بعض السادة الکرام(6) ، قال : « لا ریب فی اختصاص تحریم الغیبة بمن یعتقد الحقّ ، فإنّ أدلة الحکم غیر متناولة لأهل الضلال ... »(7) .

ص:369


1- (2) اتّسم الرجل : إذا جعل لنفسه سمةً یعرف بها .
2- (3) الدأب : الجدّ والتعب والشأن والملازمة للشیء . الدؤوب : کثیر الملازمة .
3- (4) کشف الریبة / 29 .
4- (5) الروضة البهیة 3 / 214 .
5- (6) الکفایة 1 / 436 .
6- (1) وهو السید محمد بن جویبر المدنی ، کما ذکره العلامة الطهرانی تحت عنوان « جوابات المسائل المدنیات» فی الذریعة 5 / 233 .
7- (2) نقل عنه المجلسی فی مرآة العقول 10 / 423 وبحار الأنوار 72 / 235 .

ثمّ تبعه الأصحاب منهم : صاحب الحدائق(1) والوحید البهبهانی فی حاشیته علی مجمع الفائدة والبرهان(2) وصاحب الریاض(3) والشیخ جعفر فی شرح القواعد(4) والفاضل النراقی فی المستند(5) وصاحبا مفتاح الکرامة(6) والجواهر(7) والشیخ الأعظم فی المکاسب المحرمة(8) والسید علی آل بحر العلوم(9) قدس سرهم .

والحق فی المقام تخصیص الحرمة بالمؤمن ، وهو الذی أقرّ بولایة مولانا وإمامنا أمیر المؤمنین علیه صلوات المصلین والأئمة المعصومین من ولده علیهم السلام من أوّلهم إلی آخرهم وهو القائم المنتظر المهدی الإمام الثانی عشر عجل اللّه تعالی فرجه الشریف وروحی وأرواح العالمین لتراب مقدمه الفداء(10) .

والوجه فی ذلک تخصیص الآیة الواردة فی سورة الحجرات بخطاب المؤمنین والضمیر الوارد فی «لاَ یَغْتَب بَّعْضُکُم بَعْضاً»(11) راجع إلیهم ، مضافاً إلی التشبیه بالأخ الذی لا یتمّ إلاّ فی المؤمن .

وهکذا ما ورد فی معتبرة داود بن سرحان(12) ومعتبرة عبد الرحمن بن سیابة(13) فی

ص:370


1- (3) الحدائق 18 / 148 وما بعدها .
2- (4) حاشیة مجمع الفائدة والبرهان / 32 .
3- (5) ریاض المسائل 8 / 162 .
4- (6) شرح القواعد 1 / 221 .
5- (7) مستند الشیعة 14 / 162 .
6- (8) مفتاح الکرامة 12 / 213 .
7- (9) الجواهر 22 / 62 .
8- (10) المکاسب المحرمة / 40 الطبع الحجری _ (1 / 319) .
9- (11) برهان الفقه . کتاب التجارة / 20 طبع الحجری .
10- (12) کتابة هذه الأسطر وقعت فی لیلة النصف من شعبان 1425 وهی لیلة مولده (عج) وللّه الحمد .
11- (13) سورة الحجرات / 12 .
12- (14) وسائل الشیعة 12 / 288 ح 1 .
13- (15) وسائل الشیعة 12 / 288 ح 2 .

تعریف الغیبة : « أن تقول فی أخیک» ، والأخ لا یطلق فی أحادیثنا إلاّ فی المؤمن . وغیرهما من

الروایات الماضیة .

فلابدَّ من تخصیص المطلقات الواردة بلفظ « الناس» و « المسلم» بهذه المقیّدات والحکم باختصاص الحرمة بالمؤمن کما علیه المشهور .

ویؤید ما ذکرناه تعریفنا عن الغیبة فراجعه .

فعلی ما ذکرنا من أنکر واحداً من الأئمة علیهم السلام یخرج عن عنوان المؤمن فلا یشمله الحکم ، لما ورد فی صحیحة عبد اللّه بن مسکان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : من أنکر واحداً من الأحیاء فقد أنکر الأموات(1) .

وهذه الصحیحة تدلّ علی أنّ إنکار واحد منهم علیهم السلام فی حکم إنکار کلّهم علیهم السلام ، فحینئذ تختص الحرمة فی المقام بالشیعة الإمامیة الإثنی عشریة ، واللّه العالم .

الثانی : هل یشمل الحکم الصبی من المؤمنین أم لا ؟

الموضوع الوحید فی حرمة الغیبة هو المؤمن ، وحیث یمکن صدقه علی الصبی الممیز - بل یمکن أن یکون إیمانه أکمل وأفضل وأعلی درجة مِنْ مراتب إیمان بعض البالغین - فلذا یلحق بالمؤمن فیحرم غیبته ، وأفتی به الشیخ جعفر(2) والشیخ الأعظم(3) قدس سرهما . وأمّا إذا لم یصدق علیه المؤمن لصباوته أو جنونه فیخرج عن الحکم .

وأمّا خروج الصبی الممیز من قلم التکلیف نفیه عنه إجماعیٌ بین المسلمین ، فلا یصغی إلی ما ذکره المحقق الأردکانی قدس سره فی المقام بأنه : « لو عُدّ أطفال المؤمنین منهم فی الآیة تغلیباً للزم شمول الخطاب لهم فیحرم علیهم الغیبة ... ولا یظن بأحدٍ أنْ یلتزم بشمول الخطاب لهم ، فتأمل»(4) .

ص:371


1- (1) کمال الدین وتمام النعمة / 410 ح 1 ونقلتُ عنه فی کتابی الأربعون حدیثاً فی مَنْ یملاء الأرض قسطاً وعدلاً / 51 الحدیث 20 .
2- (2) شرح القواعد 1 / 221 .
3- (3) المکاسب المحرمة / 41 الطبع الحجری _ (1 / 319) .
4- (4) غنیة الطالب 1 / 148 .

وذهبت إلی عدم حرمة غیبة الصغیر صاحبة الأربعین الهاشمیة(1) قدس سرهم ، وقد مرّ منّا عدم تمامیة هذا القول .

الثالث : هل یشترط فی حرمة الغیبة تأثر المغتاب ؟

تدلّ علی اشتراط تأثر المغتاب بعض الروایات الماضیة ، نحو خبر أبی ذر عن

رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی تعریف الغیبة : ذکرک أخاک بما یکرهه ، الحدیث(2) .

ومرسلة ورام وثانی الشهیدین عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی تعریفها : ذکرک أخاک بما یکره ، الحدیث(3) .

وقد اُخذ هذا الشرط فی کلام جماعة مِن الأصحاب ، کالشریف المرتضی والشیخ والطبرسی وورام والمحقق الکرکی والمجلسی والعلویة الأمینیة فیما نقلت عنهم آنفاً ، والشیخ الأعظم حیث یقول : « لعلّه من جهة أنّ الإطلاقات منصرفة إلی مَنْ یتأثر لو سمع»(4) .

وتبعه المحقق الإیروانی(5) فی ثانی مقومات الغیبة حیث مرّ کلامه فراجعه ، والمحقق الأردکانی فی غنیة الطالب(6) .

ولکن الظاهر أنّ الکراهة المذکورة فی النبویین - مع الغض عن ضعف إسنادهما - تحمل علی الغالب ، کما اعترف بذلک المؤسس الحائری قدس سره (7) ، فلا یمکن أخذها فی التعریف ، لإلغاء القید الغالبی فی التعاریف والموضوعات .

فاشتراط التأثر أو الکراهة فی المغتاب _ بالفتح _ فی غیر محلّه وغیر تام .

الرابع : هل یعتبر فی الغیبة قصد الهتک أو إضحاک الناس ؟

قال العلامة المولی محمد مهدی النراقی : « الغیبة إنّما تحرم إذا قصد بها هتک عرضه أو

ص:372


1- (5) الأربعین الهاشمیة / 378 .
2- (1) وسائل الشیعة 12 / 280 ح 9 .
3- (2) مجموعة ورام / 126 وکشف الریبة / 11 .
4- (3) المکاسب المحرمة / 41 _ (1 / 320) .
5- (4) حاشیة المکاسب 1 / 196 .
6- (5) غنیة الطالب 1 / 148 .
7- (6) المکاسب المحرمة / 197 لشیخنا آیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی قدس سره .

إضحاک الناس منه ، وأمّا إذا کان ذلک لغرض صحیح لا یمکن التوصل إلیه إلاّ به فلا تحرم»(1) .

أقول : الظاهر أنّ الغیبة فعلٌ خارجیٌ لا یدور مدار القصد ولیست من الاُمور القصدیة ، فما ذکره قدس سره غیر تام . نعم : فی موارد یجوز الغیبة ویدلّ علیه الأدلة ، نحو : ذکر العیب للطبیب بقصد العلاج ، أو للقاضی بقصد رفع الظلم وطرح الدعوی ، أو لأِرباب الحکم والسلطة بقصد الإسترحام وغیرها ، وفی هذه الموارد یصدق عنوان الغیبة ولکنّها تجوز ولا تحرم .

وبالجملة ، لا یُعتبر فی صدق الغیبة قصد الهتک أو إضحاک الناس ، ولذا ناقش الفاضل

النراقی کلام والده فی المستند ویقول : « وفی إطلاقه نظر ، والظاهر الاقتصار فی الجواز فیما ورد فی جوازه رخصة خصوصاً أو عموماً ... »(2) .

الخامس : ذکر الأوصاف الظاهرة أو العادیة لم تکن من الغیبة

قد مرّ فی تعریف الغیبة أنّها : کشف ما ستره اللّه علی المؤمن بما فیه ولکن لم یعرفه الناس . وعلی هذا التعریف ذکر الأوصاف الظاهرة والاُمور العادیة حیث لم یصدق علیه کشف الستر فلیس بغیبةٍ .

فإذا ذُکر الرجل بأنّه یأکل ویشرب وینام ویشتغل ونحوها من الاُمور العادیة فلا بأس به .

وإذا ذُکر الرجل بأنّه مریض أو صحیح ، أو طویل أو قصیر ، أو أعمی أو بصیر ، ونحوها من الاُمور الظاهرة التی یعرفها الناس ولیست تخفی علیهم فلا بأس بها . وتؤید ما ذکرناه بل تدلّ علیه معتبرة عبد الرحمن بن سیابة(3) .

ربما یخطر بالبال تنافی بعض الروایات مع ما ذکرناه ، نحو مرسلتا عائشة :

أولاهما : أنّها قالت : إنّی قلت لإمرأة وأنا عند رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إنّ هذه لطویلة

ص:373


1- (7) جامع السعادات 2 / 320 .
2- (1) مستند الشیعة 14 / 164 .
3- (2) وسائل الشیعة 12 / 288 ح 2 .

الذیل ، فقال : إلفظی إلفظی(1) ، فلفظت بضعة من لحم(2) .

وثانیتهما : أنّها قالت : دخلت علینا إمرأة فلمّا ولّت أو مأت بیدی أنّها قصیرة فقال النبی صلی الله علیه و آله وسلم : قد اغتبتیها ، ونهانی عن مثل ذلک(3) .

وقد یناقش فیهما : أولاً : بأنّهما ضعیفتا السند لإرسالهما ولم تنقلا من طرقنا بل هما عامیان کما فی الدر المنثور 7 / 575 .

وثانیاً : یمکن أنّها قالت فی حقِّهما شیئاً غیر الأمرین الظاهرین ، فیصیر کلامها به غیبة ، ثمّ حذفته فی الروایة عمداً أو سهواً ، ومثله عن مثلها غیر بعید .

وثالثاً : لا یمکن إثبات شیءٍ بهاتین المرسلتین ، بعد ثبوت تعریف الغیبة بالروایات المعتبرة بأنّها الکشف ، وحیث لم یصدق الکشف علی ذکر الأوصاف الظاهرة والاُمور العادیة

فذکرهما لیسا بغیبة .

فلذا ذکروا فی مستثنیات الغیبة : أن یکون الإنسان معروفاً باسم یُعرب عن غیبته کالأعرج والأعمش والأشتر ونحوها . قالوا : فلا إثم علی مَنْ یقول ذلک ، فقد فعل العلماء ذلک لضرورة التعریف کما فی الحدائق(4) .

نعم : قد یکون ذ کر الأوصاف الظاهرة والاُمور العادیة محرّماً ، لانطباق شیءٍ من العناوین المحرَّمة علیه ، کالتعییر والهجاء والسبّ والهتک والظلم وغیرها ، فحینئذ یکون حراماً من هذه الجهات(5) . ویمکن أن تحمل المرسلتان علی هذه الجهات أیضاً .

السادس : الغیبة لا تنحصر باللسان

کلّما یفهم منه نقصان الغیر ویعرّف ما یستر علیه ویکشف ستره به یدخل فی تعریف الغیبة ، فما ذُکر فی تعریف الغیبة من لغة « الذکر» المراد به معناه العام ، فیدخل فیه القول أو

ص:374


1- (3) اللفظ : الرمی والدفع ، أی استفرغی وادفعی من فمک .
2- (4) مجموعة ورام 1 / 126 .
3- (5) مجموعة ورام 1 / 126 ، وکشف الریبة / 37 إلی قوله : اغتبتیها .
4- (1) الحدائق 18 / 169 .
5- (2) کما ذکره المحقق الخوئی فی مصباح الفقاهة 1 / 328 .

الفعل أو الکتابة أو التصریح أو الإشارة أو التعریض أو الغمز أو الإیماء أو الرمز أو الحرکة أو الحکایة ، لأنّ المدار فی الغیبة کشف ما ستره اللّه ولا خصوصیة للکاشف ، فبأیّ طریق من الطرق یکشف الستر یصدق علیه الغیبة . فراجع إن شئت فی هذا المجال مستند الشیعة(1) .

السابع : المغتاب لابدّ أن یکون معلوماً

المغتاب _ بالفتح _ لابدّ بأن یکون معلوماً عند السامع والمخاطب علی وجه یرتفع عنه الجهالة والإبهام ، فلو ذکر المغتاب _ بالفتح _ مجهولاً بین أطراف غیر محصورة - کواحد من أهل البلد أو السوق أو التجار أو أهل العلم بحیث لا یتمکن المخاطب من تطبیق المقول علی أحدهم - فلیس بغیبة .

نعم ، یمکن أن ینطبق علیه عنوان محرَّم آخر ، کالإیذاء والسخریة وغیرهما .

وهکذا یمکن أن یکون غیبة إذا قال : أهل البلد الفلانی کذا وأهل الصنف الفلانی کذا ، لأنّه یعدّ غیبة بعدد أفراد البلد والصنف ، لانحلال الکلی بعدد أفراده . فلذا صار غیبة جمیعهم إذا صدق علیه الکشف ، وأمّا إذا کان بحیث لا یصدق علیه الکشف لاشتهاره بین الناس فلا یکون غیبة .

وأمّا إن ذُکر المغتابُ _ بالفتح _ بین أطراف محصورة - کمسمی بزید المردّد بین إثنین أو

أحد قضاة البلد وفیه ثلاثة أو خمسة من القضاة - هل یعدّ من الغیبة أم لا ؟

ذهب المحقق الإیروانی(2) وتبعه السید الخوئی(3) بأنه لیس بغیبة ، ولکن الإنصاف أنّه من الغیبة ، لصدق الکشف ویمکن التعیین مجملاً علیهما أو علی الثلاثة أو الخمسة ونحوها . ووافقنا علی هذا الشیخ بهاء الدین محمد العاملی حیث یقول : « وبحکمه لإدراج المبهم من محصور کأحد قاضی البلد فاسق مثلاً ، فإنّ الظاهر أنّه غیبة ولم أجد أحداً تعرض له»(4) .

ص:375


1- (3) مستند الشیعة 14 / 163 .
2- (1) حاشیة المکاسب 1 / 198 .
3- (2) مصباح الفقاهة 1 / 329 .
4- (3) نقل عنه العلامة المجلسی فی مرآة العقول 10 / 407 .

وعمّنا آیة اللّه الشیخ محمد علی النجفی المتوفی عام 1318 فی رسالته فی المعاصی الکبیرة(1) واللّه العالم .

الثامن : الغیبة من الکبائر

إذا تأملت فی الآیات والروایات الماضیة تجد فی نفسک السکون والإقرار بأنّ الغیبة من الذنوب الکبائر ، وصرح بکونها من الکبائر جماعة من الأصحاب ، منهم : الشهید الثانی(2) .

قد یقال : إنّ الکبیرة کلّ ذنب وعد اللّه علیه بالعذاب فی کتابه ، وقد نسب هذا القول إلی المشهور ، وقد وعد اللّه فی کتابه بالعذاب الألیم للمغتاب _ بالکسر _ کما مرّ عند بیان الآیات الدالة علی حرمة الغیبة .

ومن نظر فی الروایات الماضیة والآتیة تیّقن بأنّها من الکبائر :

منها : صحیحة برید بن معاویة العجلی عن أبی جعفر علیه السلام قال : وجدنا فی کتاب علیٍّ علیه السلام أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قال _ وهو علی منبره _ والذی لا إله إلاّ هو ما اُعطی مؤمن قطّ خیر الدنیا والآخرة إلاّ بحسن ظنّه باللّه ورجائه له وحُسن خُلقه والکفّ عن اغتیاب المؤمنین ، والذی لا إله إلاّ هو لا یعذِّب اللّه مؤمناً بعد التوبة والاستغفار إلاّ بسوء ظنّه باللّه وتقصیره من رجائه وسوء خُلقه واغتیابه للمؤمنین ، والذی لا إله إلاّ هو لا یحسن ظنّ عبد مؤمن باللّه إلاّ کان اللّه عند ظنِّ عبده المؤمن ، لأنّ اللّه کریم بیده الخیرات ، یستحیی أن یکون عبده المؤمن قد أحسن به الظن ثمّ یُخلف ظنّه ورجاءه ، فأحسنوا باللّه الظن وارغبوا إلیه(3) .

وروی نحوها فی الفقه الرضوی / 360 .

ومنها : خبر حفص بن غیاث عن الصادق علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن علی علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : أربعة یؤذون أهل النار علی ما بهم من الأذی ، یُسْقَون من الحمیم والجحیم ینادون بالویل والثُّبور ، یقول أهل النار بعضهم لبعض : ما بال هؤلاء الأربعة قد

ص:376


1- (4) معاصی کبیرة / 58 الطبع الحجری . فارسیٌ .
2- (5) کشف الریبة / 30 .
3- (6) الکافی 2 / 71 ح 2 باب حسن الظن باللّه عزّ وجلّ .

آذونا علی ما بنا من الأذی ؟ فرجلّ مُعلَّق فی تابوت من جمر ، ورجل یَجُرّ أمعاءَه ، ورجلٌ یسیل فوه قیحاً ودَماً ، ورجلٌ یأکُلُ لحمه .

فیقال لصاحب التابوت : ما بال الأبعد قد آذانا علی ما بنا من الأذی ؟ فیقول : إنّ الأبعد مات وفی عنقه أموال الناس ، ولم یجد لها فی نفسه أداءً ولا وفاءً .

ثم یُقال للذی یجرُّ أمعاءه : ما بال الأبعد قد آذانا علی ما بنا من الأذی ؟ فیقول : إنّ الأبعد کان لا یبالی أین أصاب البول من جسده .

ثم یقال : للذی یسیل فُوه قَیحاً ودَماً : ما بال الأبعد قد آذانا علی ما بنا من الأذی ؟ فیقول : إنّ الأبعد کان یُحاکی ، فینظُر إلی کلِّ کلمةٍ خبیثةٍ فیُسْنِدها ویحاکی بها .

ثم یقال للذی یأکل لحمه : ما بال الأبعد قد آذانا علی ما بنا من الأذی ؟ فیقول : إنّ الأبعد کان یأکل لحوم الناس بالغیبة ویمشی بالَّنمیمة(1) .

ورواه فی عقاب الأعمال / 295 والشهید الثانی فی کشف الریبة / 33 . وأمّا معنی « الأبعد » فقال الجزری : « إنّ رجلاً جاء فقال : إنّ الأبعد قد زنا ، معناه المتباعد عن الخیر والعصمة ، یقال : بَعِدَ _ بالکسر _ فهو باعد أی هلک ، والأبعد : الخائن أیضاً»(2) .

ومنها : خبر علقمة عن الصادق علیه السلام فی حدیث قال : ولقد حدّثنی أبی علیه السلام عن أبیه علیه السلام عن آبائه علیهم السلام أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم قال : مَن اغتاب مؤمناً بما فیه لم یجمع اللّه بینهما فی الجنة أبداً ، ومن اغتاب مؤمناً بما لیس فیه فقد انقطعت العِصمة بینهما ، وکان المغتاب فی النار خالداً فیها وبئس المصیر ، الحدیث(3) .

ورواه صاحب جامع الأخبار / 412 ح 9 .

ومنها : مرسلة ورام عن أنس قال : خطبنا رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فذکر الربا وعظّم شأنه ،

فقال : إنّ الدرهم یُصیبه الرجل من الربا أعظم عند اللّه فی الخطیئة من ست وثلاثین زنیة

ص:377


1- (1) أمالی الصدوق . المجلس الخامس والثمانون ح 21 / 676 الرقم 919 .
2- (2) النهایة فی غریب الحدیث والأثر 1 / 140 ونقل عنه فی بحار الأنوار 8 / 281 (3 / 563) .
3- (3) أمالی الصدوق . المجلس الثانی والعشرون ح 3 / 164 الرقم 163 .

یزنیها الرجل ، وأربی الربا عرض الرجل المسلم(1) .

ومنها : مرسلة اُخری له عن جابر قال : کنّا مع رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فی مسیر فأتی علی قبرین یعذَّب صاحبهما ، فقال : إنّهما لا یعذّبان فی کبیرة ، أمّا أحدهما فکان یغتاب الناس ، وأمّا الثانی فکان لا یستبریء من بوله ، ودعا بجریدة رطبة أو جریدتین فکسرهما ، ثمّ أمر بکلِّ کسرٍ فغُرستْ علی قبر ، فقال صلی الله علیه و آله وسلم : أما إنّه سیهوّن من عذابهما ما کانتا رطبتین ، أو ما لم یبسا(2) .

أقول : « إنّهما لا یعذبان فی کبیرة » یعنی أنّهما لا یعذبان بجهة ارتکاب الأعمال الکبیرة عند الناس وفی أعیانهم ، لا المعاصی الکبیرة کما هو واضح .

ومنها : مرسلة ثالثة له عن الباقر علیه السلام قال : إذا کان یوم القیامة أقبل قومٌ علی اللّه عزّ وجلّ فلا یجدون لأنفسهم حسنات ، فیقولون : إلهنا وسیّدنا ما فعلتْ حسناتُنا ؟ فیقول اللّه عزّ وجلّ : أکلتها الغیبة ، فإنّ الغیبة لتأکل الحسنات کما تأکل النار الحطب(3) .

روی نحوها المفید فی الروضة کما نقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 124 ح 42 .

ومنها : مرسلة القطب الراوندی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم : إنّه نظر فی النار لیلة الإسراء فإذا قوم یأکلون الجیف ، فقال : یا جبرئیل مَنْ هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الذین یأکلون لحم الناس(4) .

ومنها : مرسلة اُخری له عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : إنّی لأعرف أقواماً تدخل النار فی أفواههم وتخرج من أدبارهم ، یسمع لها بطونهم دویّ کالسیل ، فقیل : مَنْ هم یا رسول اللّه ؟ قال : الذین یغتابون الناس(5) .

ومنها : مرسلة أبی القاسم الکوفی عن علی علیه السلام قال : من اغتاب مؤمناً حبسه فی طینة

ص:378


1- (1) تنبیه الخواطر ونَزْهَة النواظر / 124 .
2- (2) تنبیه الخواطر ونَزْهَة النواظر / 124 .
3- (3) تنبیه الخواطر ونَزْهَة النواظر / 345 .
4- (4) لب اللباب / مخطوط ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 125 ح 43 .
5- (5) لب اللباب / مخطوط ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 125 ح 45 .

خبال ثلاثین خریفاً . قیل : وما طینة خبال ؟ قال : ما یصیر طیناً من صدید فروج الزوانی(1) .

ومنها : مرسلة صاحب جامع الأخبار عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : من اغتاب مسلماً أو مسلمة لم یقبل اللّه تعالی صلاته ولا صیامه أربعین یوماً ولیلة إلاّ أن یغفر له صاحبه .

وقال صلی الله علیه و آله وسلم : من اغتاب مسلماً فی شهر رمضان لم یؤجر علی صیامه(2) .

تلک عشرة کاملة من الروایات المتواترة تدلّ بوضوح علی أنّ الغیبة من المعاصی الکبیرة ، لأنّ الثابت بها التوعید للعذاب علیها ، فصارت من الکبائر . ولا ینظر إلی ضعف أسناد بعضها ، لأنّ هذا المضمون ورد متواتراً فیها وأفتی المشهور علی طبقها ، أعنی علی أنّ الغیبة من الکبائر الموبقة . نستعیذ باللّه تعالی منها ومن غیرها وعصمنا اللّه وإیّاکم منها وهو العاصم .

التاسع : استماع الغیبة حرام

ذهبوا إلی حرمة استماع الغیبة ، وقد اُدعی علیها عدم الخلاف(3) بل الإجماع(4) واستدلوا لِترک ذکره فی کلمات الأصحاب بظهوره(5) ، وقد أفتی بحرمة استماعها الشهید الثانی فی الروضة(6) وکشف الریبة(7) والشیخ یوسف فی الحدائق(8) والشیخ جعفر فی شرح القواعد(9) وتلمیذاه صاحبا المفتاح(10) والجواهر(11) والشیخ الأعظم(12) والسید علی آل

ص:379


1- (6) کتاب الأخلاق / مخطوط ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 114 ح 6 .
2- (1) جامع الأخبار / 412 ح 7 و 8 .
3- (2) کما فی المکاسب المحرمة / 46 (1 / 359) للشیخ الأعظم ، والجواهر 22 / 71 .
4- (3) کما فی مهذب الأحکام 16 / 128 للفقیه السید عبد الأعلی السبزواری .
5- (4) کما فی مفتاح الکرامة 12 / 219 ، وبرهان الفقه . کتاب التجارة / 23 الطبع الحجری .
6- (5) الروضة البهیة 3 / 214 .
7- (6) کشف الریبة / 39 .
8- (7) الحدائق 18 / 159 .
9- (8) شرح القواعد 1 / 231 .
10- (9) مفتاح الکرامة 12 / 129 .
11- (10) الجواهر 22 / 71 .
12- (11) المکاسب المحرمة / 46 _ (1 / 359) .

بحر العلوم(1) والمحقق الإیروانی(2) والمؤسس الحائری(3) والعلویة الأمینیة(4) والمحقق الأردکانی(5) والفقیه السبزواری(6) قدس سرهم .

ولکن ناقش فی الحرمة المحقق الخوئی ، لعدم تمامیة المستند عنده(7) ، وذهب إلی الجواز ،

وتبعه تلمیذاه شیخنا الأستاذ(8) والفقیه القمی(9) _ مدظلهما_ .

والعمدة ملاحظة الأدلة ، فقد استدلوا للحرمة بعدّة من الروایات :

منها : خبر مناهی النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم نهی عن الغیبة والاستماع إلیها ونهی عن النمیمة والاستماع إلیها ، الحدیث(10) .

والروایة وإن کانت ضعیفة الإسناد ولکن دلالتها علی الحرمة التکلیفیة واضحة . وأمّا ذیلها المذکور فیها : « ألا ومن تطوّل علی أخیه فی غیبة سمعها فیه فی مجلس فردّها عنه ردّ اللّه عنه ألف باب من الشرِّ فی الدنیا والآخرة ، فإن هو لم یردّها وهو قادر علی ردّها کان علیه کوزر من اغتابه سبعین مرّة»(11) ، فلیست قرینة بأنّ المراد من الاستماع فی الصدر هو الاستماع مع عدم الرد فقط(12) ، لأنّ کل منهما موضوع فارد کما یظهر من ملاحظة المتن .

ومنها : صحیحة عبد الأعلی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : من

ص:380


1- (12) برهان الفقه ، کتاب التجارة / 23 .
2- (13) حاشیة المکاسب 1 / 212 .
3- (14) المکاسب المحرمة / 231 لآیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی قدس سره .
4- (15) أربعین الهاشمیة / 363 .
5- (16) غنیة الطالب 1 / 159 .
6- (17) مهذب الأحکام 16 / 128 .
7- (18) مصباح الفقاهة 1 / 357 .
8- (1) إرشاد الطالب 1 / 209 .
9- (2) عمدة المطالب 1 / 286 .
10- (3) وسائل الشیعة 12 / 282 ح 13 .
11- (4) وسائل الشیعة 12 / 282 ح 13 .
12- (5) کما علیه المحقق الخوئی 1 / 358 .

کان یؤمن باللّه والیوم الآخر فلا یجلس فی مجلس یُسبُّ فیه إمامٌ أو یُغتاب فیه مسلمٌ ، إنّ اللّه یقول فی کتابه : «وَإِذَا رَأَیْتَ الَّذِینَ یَخُوضُونَ فِی آیَاتِنَا» إلی قوله : «مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِینَ»(1)(2) .

وروی ابن إدریس من کتاب ابن قولویه عن عبد الأعلی مثله(3) .

وهذه الصحیحة کافیة لاثبات المطلوب دلالةً وسنداً .

ومنها : معتبرة حمران عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال فی حدیث : ورأیت الغیبة تستملح ویبشّر بها الناس بعضهم بعضاً ، الحدیث(4) .

ومن الواضح أن البشارة بالغیبة یستلزم استماعها مرّتین من المُبَشِّر والمُبَشَّر .

ومنها : مرسلة المفید قال : نظر أمیر المؤمنین علیه السلام إلی رجل یغتاب رجلاً عند الحسن

ابنه علیه السلام ، فقال : یا بنیّ نزّه سمعک عن مثل هذا ، فإنّه نظر إلی أخبث ما فی وعائه فأفرغه فی وعائک(5) .

ومنها : مرسلة الشهید نقلاً عن روضة المفید عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : الغیبة کفر والمستمع لها والراضی بها مشرک . قلت : فإن قال ما لیس فیه ؟ فقال : ذاک بهتان(6) .

ومنها : مرسلة أبی الفتوح الرازی عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : السامع للغیبة أحد المغتابین(7) .

ورواها ثانی الشهیدین مرسلاً عن علی علیه السلام (8) .

ص:381


1- (6) سورة الأنعام / 68 .
2- (7) تفسیر القمی 1 / 204 ونقل عنه فی بحار الأنوار 72 / 264 ح 9 .
3- (8) السرائر 3 / 639 .
4- (9) الکافی 8 / 40 ونقلت عنه فی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 8 / 221 ح 10 .
5- (1) الاختصاص / 225 .
6- (2) مستدرک الوسائل 9 / 133 ح 6 .
7- (3) مستدرک الوسائل 9 / 133 ح 7 .
8- (4) کشف الریبة / 39 .

ومنها : مرسلة القطب الراوندی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : من سمع الغیبة ولم یغیّر کان کمن اغتاب ، ومن ردّ عن عرض أخیه المؤمن کان له سبعون ألف حجاب من النار(1) .

ومنها : مرسلة الشهید الثانی عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : المستمع أحد المغتابین(2) .

ورواها ورّام فی مجموعته / 127 .

ومنها : مرسلة ورّام بن أبی فراس عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : الساکت شریک المغتاب(3) .

ومنها : مرسلة الآمدی عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : مستمع الغیبة کقائِلِها(4) .

تلک عشرة کاملة من الروایات وفیها الصحیحة ، وادعاء جعل جمیعها خلاف العقل السلیم فهذا المضمون ثبت صدورها عن أئمتنا علیهم السلام ، وهی تدلّ علی حرمة استماع الغیبة لا سماعها ، ولا تلازم بین حرمة الغیبة وحرمة استماعها کما لا یخفی(5) .

العاشر : وجوب ردّ غیبة المؤمن

عدّة من الروایات تدلّ علی وجوب ردّ غیبة المؤمن :

منها : حسنة أبی الورد عن أبی جعفر علیه السلام قال : من اغتیب عنده أخوه المؤمن فنصره وأعانه نصره اللّه وأعانه فی الدنیا والآخرة ، ومن اغتیب عنده أخوه المؤمن فلم ینصره ولم یعنه ولم یدفع عنه وهو یقدر علی نصرته وعونه إلاّ خفضه اللّه فی الدنیا والآخرة(6) .

قد حکم العلامة المجلسی قدس سره بأنّ أبی الورد ممدوح فی الوجیزة(7) ولذا وصفتُ الروایة بالحسنة . ورواها البرقی فی المحاسن 1 / 188 ح 96 بسنده عن أبی الورد .

ص:382


1- (5) مستدرک الوسائل 9 / 133 ح 8 .
2- (6) کشف الریبة / 39 .
3- (7) مجموعة ورام / 127 .
4- (8) غرر الحکم ح 9760 .
5- (9) راجع مصباح الفقاهة 1 / 361 .
6- (1) وسائل الشیعة 12 / 291 ح 2 . الباب 156 من أبواب أحکام العشرة .
7- (2) الوجیزة / 210 الرقم 2284 .

ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : مَنْ ردّ عن عرض أخیه المسلم وجبت له الجنة البتة(1) .

ومن مصادیق الردّ عن عرض الأخ ، هو الردّ عن غیبته .

ومنها : معتبرة بل صحیحة إبراهیم بن عمر الیمانی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : ما من مؤمن یعین مؤمناً مظلوماً إلاّ کان أفضل من صیام شهر واعتکافه فی المسجد الحرام ، وما من مؤمن ینصر أخاه وهو یقدر علی نصرته إلاّ نصره اللّه فی الدنیا والآخرة ، وما من مؤمن یخذل أخاه وهو یقدر علی نصرته إلاّ خذله اللّه فی الدنیا والآخرة(2) .

الصحیحة تدل بإطلاقها علی وجوب ردّ غیبة المؤمن لأنّه من مصادیق نصرته وعدم خذلانه .

ومنها : ما ورد فی خبر وصیة النبی صلی الله علیه و آله وسلم للوصی علیه السلام : یا علی ، من اغتیب عنده أخوه المسلم فاستطاع نصره فلم ینصره خذله اللّه فی الدنیا والآخرة(3) .

ومنها : ما ورد فی خبر آخر خطبة خطبها النبی صلی الله علیه و آله وسلم بالمدینة أنّه قال فیها : ومن ردّ عن أخیه غیبة سمعها فی مجلس ردّ اللّه عنه ألف باب من الشر فی الدنیا والآخرة ، فإن لم یردَّ عنه وأعجبه کان علیه کَوِزْرِ مَن اغتاب(4) .

ومنها : خبر مناهی النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : ألا ومن تطوَّل علی أخیه فی غیبة سمعها فیه فی مجلس فردّها عنه ردّ اللّه عنه ألف باب من الشرّ فی الدنیا والآخرة ، فإن هو لم یردّها وهو قادر علی ردّها کان علیه کَوِزْرِ من اغتابه سبعین مرّة(5) .

ومنها : خبر وصیة النبی صلی الله علیه و آله وسلم لأبی ذر أنّه قال : یا أبا ذر مَنْ ذبّ عن أخیه المؤمن الغیبة کان حقّاً علی اللّه أن یعتقه من النار . یا أبا ذر من اغتیب عنده أخوه المؤمن وهو یستطیع

ص:383


1- (3) وسائل الشیعة 12 / 292 ح 3 .
2- (4) وسائل الشیعة 12 / 292 ح 4 .
3- (5) وسائل الشیعة 12 / 291 ح 1 .
4- (6) وسائل الشیعة 12 / 292 ح 5 .
5- (7) الفقیه 4 / 15 ونقلت عنه فی کتابی ألف حدیث فی المؤمن / 192 ح 1 .

نصره فنصره ، نصره اللّه عزّ وجلّ فی الدنیا والآخرة ، وإن خذله وهو یستطیع نصره خذله اللّه فی الدنیا والآخرة(1) .

ومنها : ما رواه المفید(2) والطوسی(3) بإسنادهما عن أبی الدرداء قال : نال رجل مِنْ عرض رجل عند النبی صلی الله علیه و آله وسلم ، فردّ رجل من القوم علیه ، فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : من ردّ عن عرض أخیه کان له حجاباً من النار .

ومنها : خبر أبی محمد القاسم بن محمد بن جعفر العلوی عن أبیه عن آبائه علیهم السلام عن علیٍّ علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : للمسلم علی أخیه ثلاثون حقّاً لا براءة له منها إلاّ بالأداء أو العفو ، یغفر زلّته ، ویرحم عبرته ، ویستر عورته ، ویقبل عثرته ، ویقبل معذرته ، ویردّ غیبته ، ویدیم نصیحته ، ویحفظ خلّته ، الحدیث(4) .

ومنها : مرسلة القطب الراوندی رفعه عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : من سمع الغیبة ولم یغیّر کان کمن اغتاب ، ومن ردّ عن عرض أخیه المؤمن کان له سبعون ألف حجاب من النار(5) .

تلک عشرة کاملة من الروایات المستفیضة الدالة علی وجوب ردّ غیبة المؤمن ، والمراد من ردّ الغیبة هو نصرة المغتاب وتنزیهه عن تلک الوقیعة ، بأنّ یقال : العیب لیس إلاّ ما عابه اللّه من المعاصی إذا کان العیب یرجع إلی الاُمور الدنیویة ، أو یخرج العیب عن کونه معصیة إن کان یرجع إلی الأمور الدینیة ، وإن لم یقبل التوجیه والخروج عن کونه معصیة ، یقال : بعدم ثبوت الأمر فی حقِّه وعدم قبوله .

ومن الواضح أنّ ردّ الغیبة یرجع بالمآل إلی إسکات المغتاب _ بالکسر _ وهو لیس إلاّ

ص:384


1- (1) وسائل الشیعة 12 / 293 ح 8 .
2- (2) أمالی المفید . المجلس الأربعون ح 2 / 337 ونقلتُ عنه فی کتابی ألف حدیث فی المؤمن / 194 ح 6 .
3- (3) أمالی الطوسی . المجلس الرابع ح 31 / 115 الرقم 177 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 12 / 293 ح 7 .
4- (4) وسائل الشیعة 12 / 212 ح 24 . الباب 122 من أبواب أحکام العشرة ، وجامع أحادیث الشیعة 20 / 326 ح 18 (الطبعة الحدیثة) .
5- (5) مستدرک الوسائل 9 / 133 ح 8 .

النهی عن المنکر واللّه العالم .

تنبیهٌ : قال الشیخ محمد بهاء الدین العاملی : « ولا یبعد أن یجعل استماع غیبة المؤمن لقصد ردّها مجوّزاً ، ولم أجد أحداً جوّز ذلک ، وتجویزه قویٌّ »(1) .

أقول : وهو فی محلّه .

الحادی عشر : هل یجوز غیبة الراضی باغتیابه ؟

فی جواز غیبة مَنْ یکون راضیاً باغتیابه وأعلن ذلک أو نعلم من الخارج برضائه وجهان ، الظاهر واللّه سبحانه هو العالم - عدم الجواز ، لأنّا نعلم بحرمة الغیبة ثمّ نشک بعد العلم برضائه ، هل الحرمة باقیة أم لا ؟ نستصحب بقاء حرمة الغیبة . هذا بالنسبة إلی الأصل العملی . مضافاً إلی أنّ الإطلاقات الواردة فی أدلة الغیبة تعمّ فرضی رضی المغتاب (بالفتح) وعدمه ، وبهذه الإطلاقات نحکم بحرمة غیبة الراضی باغتیابه .

لاسیما أنّ المستفاد من الأدلة أنّ الغیبة وحرمتها ذو الوجهین وذو الحقین : حقٌّ ووجهٌ بالنسبة إلی المغتاب (بالفتح) وبه صارت الغیبة من حقوق الناس ولذا یجب الاستحلال والاستعفاء منه کما یأتی توضیح ذلک فی الفرع الآتی إن شاء اللّه تعالی ، وحیث یکون راضیاً قبل الاغتیاب أو بعده ترتفع الحرمة بالنسبة إلی هذا الوجه .

ولکن للغیبة حقٌّ ووجهٌ آخر بالنسبة إلی اللّه تعالی حیث حرّمه والإتیان بها خروج عن نواهی اللّه عزّ وجلّ وعصیانه . وهذا الوجه سُمّی بحقِّ اللّه فی الغیبة ، ورضی المغتاب (بالفتح) لایرفعه ولذا علی المغتاب (بالکسر) بعد الاستعفاء من المغتاب (بالفتح) أو قبله الإستغفار من اللّه تعالی والتوبة إلیه وطلب العفو منه .

فعلی ما ذکرناه رضی المغتاب (بالفتح) لا یجوّز الغیبة وهی باقیة علی حرمتها ، لأنّها تعدّ من عصیان اللّه تعالی وارتکاب معاصیه والإتیان بنواهیه . أعاذنا اللّه منها .

ولذا قال المحقق الخوئی فی بحث مستثنیات الغیبة : « إنّ رضاه (أی رضی المغتاب

ص:385


1- (1) الأربعون حدیثاً / 406 طبع جماعة المدرسین .

بالفتح) لا یرفع الحرمة التکلیفیة »(1) .

الثانی عشر : کفارة الغیبة

یمکن أن یقال فی بیان کفارة الاغتیاب وجوه :

الأوّل : الاستحلال من المغتاب (بالفتح) .

الثانی : الاستغفار له . ذهب إلی وجوبه جمع من الأعلام ، نحو : أصحاب الحدائق(2)

وشرح القواعد(3) ومفتاح الکرامة(4) .

الثالث : کلا الأمرین معاً . نقله العلامة المامقانی عن بعض مشایخه کما فی المصباح(5) ، وهو مختار المؤسس الحائری(6) .

الرابع : أحدهما علی سبیل التخییر .

الخامس : التفصیل بین وصول الغیبة إلی المغتاب فکفارتها الاستحلال منه ، وبین عدم وصولها إلیه فکفارتها الاستغفار له فقط . ذهب إلیه جمع من الأصحاب کالشهید الثانی(7) والعلامة المجلسی(8) والمحقق الطوسی فی التجرید(9) وتبعه شارحاه العلامة(10) والقوشجی(11) .

السادس : التفصیل بین إمکان الاستحلال منه وبین عدمه لموت أو بُعد مکان أو کون الإعتذار موجباً لإثارة الفتنة والإهانة . فعلی الأوّل یجب الاستحلال منه ، وعلی الثانی یجب

ص:386


1- (2) مصباح الفقاهة 1 / 353 .
2- (3) الحدائق 18 / 159 .
3- (1) شرح القواعد 1 / 232 .
4- (2) مفتاح الکرامة 12 / 220 .
5- (3) مصباح الفقاهة 1 / 334 .
6- (4) المکاسب المحرمة / 214 لآیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی .
7- (5) کشف الریبة / 78 .
8- (6) مرآة العقول 10 / 433 .
9- (7) تجرید الاعتقاد / 307 .
10- (8) کشف المراد / 422 .
11- (9) شرح التجرید للقوشجی / 389 سطر 26 .

الاستغفار له . ألحقه ثانی الشهیدین(1) بالتفصیل المتقدم وهو مورد إحتیاط شیخنا الأعظم الأنصاری(2) ومختار صاحبة الأربعین الهاشمیة(3) .

السابع : عدم وجوب شیءٍ منهما فی جمیع الصور ، بل الواجب علی المغتاب (بالکسر) الاستغفار لنفسه والتوبة من ذنبه . وهو مختار صاحب الجواهر(4) وتبعه تلمیذه السید علی آل بحر العلوم(5) والمحقق الخوئی(6) قدس سره .

کما أنّ هذا التقسیم من الوجوه السبعة له(7) ، ویمکن زیادة وجهین آخرین وهما :

الثامن : أنّ الغیبة من حقوق اللّه وحقوق الناس معاً ، فبالنسبة إلی حقِّ اللّه یسقط بالاستغفار لنفس المغتاب (بالکسر) ، وبالنسبة إلی حقِّ الناس والمغتاب (بالفتح) ، الأحوط الإسترضاء ، ومع عدم الإمکان یستغفر له وهذا هو مختار جمع من الأصحاب منهم : الفقیه السید عبد الأعلی السبزواری(8) ، وهذا هو القول المختار عندنا فی کفارة الإغتیاب .

التاسع : التوبة بالنسبة إلی نفس المغتاب (بالکسر) مع وجوب الجمع بین الأمرین ، أی الإستغفار والإسترضاء معاً من المغتاب (بالفتح) . ذهب إلیه المحقق الإیروانی(9) .

ما هو الأصل العملی فی المقام ؟

علی فرض عدم ثبوت الدلیل اللفظی فی المقام فهل الأصل العملی یقتضی البراءة أو

ص:387


1- (10) کشف الریبة / 79 .
2- (11) المکاسب المحرمة / 44 طبع الحجری (1 / 341) .
3- (12) الأربعین الهاشمیة / 375 .
4- (13) الجواهر 22 / 72 .
5- (14) برهان الفقه . کتاب التجارة / 23 طبع الحجری .
6- (15) مصباح الفقاهة 1 / 335 .
7- (16) مصباح الفقاهة 1 / 331 .
8- (1) مهذب الأحکام 16 / 136 .
9- (2) حاشیة المکاسب 1 / 202 .

الإحتیاط ؟ ذهب المحقق الخوئی(1) إلی الأوّل ، والمحقق الإیروانی(2) والمؤسس الحائری(3) إلی الثانی .

والصحیح أنّ الأصل العملی فی المقام هو الإحتیاط ، لأنّ بعد وقوع الغیبة وثبوت کونها من المحارم بل من الکبائر یترتب العقاب علی المغتاب (بالکسر) ویتوجه إلیه النار ، فحینئذ یجب علیه التخلص من العقاب والنار بحکم العقل وتحصیل القطع بالأمن والبرأة منه ، فلابدّ له إلاّ من الاتیان بکلِّ شیءٍ یحتمل دخله فی البراءة من العقاب والأمن منه من الإستغفار لنفسه وللمغتاب (بالفتح) والإستحلال منه . وهذا یفیدنا بأنّ الأصل العملی فی المقام هو الإحتیاط لا البراءة .

والذی یسهّل الخطب أنّ الأمر فی المقام لم یصل إلی الأصل العملی ، لأنه إن ثبت بالدلیل اللفظی لزوم الاستغفار للمغتاب (بالفتح) أو الإستحلال منه أو کلاهما فهو وإلاّ یرجع إلی الإطلاقات والعمومات الواردة فی أدلة التوبة ، وبها یثبت أنّ الاستغفار للمغتاب (بالکسر) نفسِهِ والتوبة بینه وبین ربّه یکفی للأمن من العذاب والتخلص من العقاب . وقد نبّه علی هذا البیان شیخنا الأستاذ _ مدظله _ فی الإرشاد وهو متین جداً(4) .

وهذه العمومات والإطلاقات کثیرة جداً نذکر لک نموذج منها حتّی یرضی نفسک بها :

منها : موثقة سلیمان بن خالد عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : «إِنَّ اللّهَ لاَ یَغْفِرُ أَن یُشْرَکَ بِهِ وَیَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِکَ لِمَن یَشَاء»(5) الکبائر فما سواها ، قال قلت : دخلتْ الکبائر فی الاستثناء ؟ قال : نعم(6) .

ومنها : معتبرة بل صحیحة اسحاق بن عمار قال : قلت : لأبی عبد اللّه علیه السلام : الکبائر

ص:388


1- (3) مصباح الفقاهة 1 / 331 .
2- (4) حاشیة المکاسب 1 / 201 .
3- (5) المکاسب المحرمة / 214 لآیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی .
4- (6) إرشاد الطالب 1 / 197 .
5- (1) سورة النساء / 48 و 116 .
6- (2) الکافی 2 / 284 ح 18 ونقلت عنه فی کتابی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 2 / 277 ح 2 .

فیها استثناء أن یغفر لمن یشاء ؟ قال : نعم(1) .

ومنها : صحیحة أبی عبیدة الحذاء قال : سمعت أبا جعفر علیه السلام یقول : إنّ اللّه تعالی أشدّ فرحاً بتوبة عبده من رجل أضلّ راحلته وزاده فی لیلة ظلماء فوجدها فاللّه أشدّ فرحاً بتوبة عبده من ذلک الرجل براحلته حین وجدها(2) .

ومنها : صحیحة أبی بصیر قال : قلت لأبی عبد اللّه علیه السلام : «یَا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَی اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً»(3) ؟ قال : هو الذنب الذی لا یعود فیه أبداً ، قلت : وأیّنا لم یعد ؟ فقال : یا أبا محمد إنّ اللّه یحبّ من عباده المفتّن التواب(4) .

ومنها : غیرها من العمومات والإطلاقات الواردة فی أدلة التوبة ، فإن شئت راجع إلی کتابی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 2 / (284 _ 257) .

ما هو دلیل الاستحلال من المغتاب (بالفتح) ؟

قد استدلوا علی وجوب الاستحلال بعدّة من الروایات :

منها : خبر أسباط بن محمد یرفعه إلی النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : الغیبة أشدّ من الزنا ، فقیل : یا رسول اللّه ولم ذلک ؟ قال : أما صاحب الزنا فیتوب اللّه علیه ، وأمّا صاحب الغیبة فیتوب فلا یتوب اللّه علیه حتّی یکون صاحبه الذی اغتابه یُحلّه(5) .

دلالة الروایة علی لزوم الاستعفاء والاستحلال واضحة ، ولکن فی سندها ضعفٌ ورفعٌ .

ومنها : خبر وصیة النبی صلی الله علیه و آله وسلم لأبی ذر أنّه قال فیها : یا أباذر إیّاک والغیبة ، فإنّ الغیبة أشدّ من الزنا . قلت : ولم ذاک یا رسول اللّه ؟ قال : لأنّ الرجل یزنی فیتوب إلی اللّه علیه ،

ص:389


1- (3) الکافی 2 / 284 ح 19 ونقلت عنه فی کتابی موسوعة احادیث أهل البیت علیهم السلام 2 / 277 ح 3 .
2- (4) الکافی 2 / 435 ح 8 ونقلت عنه فی کتابی موسوعة احادیث أهل البیت علیهم السلام 2 / 259 ح 6 .
3- (5) سورة التحریم / 8 .
4- (6) الکافی 2 / 432 ح 4 ونقلت عنه فی کتابی موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 2 / 258 ح 4 .
5- (7) وسائل الشیعة 12 / 284 ح 18 .

والغیبة لا تغفر حتّی یغفرها صاحبها ، الحدیث(1) .

دلالتها واضحة ، وفی سندها ضعف .

ومنها : خبر القاسم بن محمد بن جعفر العلوی عن أبیه عن آبائه عن علی علیهم السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : للمسلم علی أخیه ثلاثون حقاً لا براءة له منها إلاّ بالأداء أو العفو . ثمّ ذکرها علی التفصیل ، ثمّ قال : سمعت رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم یقول : إنّ أحدکم لیدع من حقوق أخیه شیئاً فیطالبه به یوم القیامة فیقضی له وعلیه(2) .

الروایة ضعیفة سنداً ودلالةً لاشتمالها علی حقوق لا قائل بوجوب أدائها ، والظاهر أنّها حقوق أخلاقیة ینبغی للمسلم أن یراعیها ویواظب علیها ، بل هی فی الجملة من مقتضیات طبع العقلاء والبشر فی اُمورهم الإجتماعیة ، حتّی مع قطع النظر عن الشریعة والدین ، ویأتی منّا توضیحه فی خاتمة هذا المبحث عند البحث عن حقوق الإخوان .

ومنها : مرسلة جابر وأبی سعید قالا : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إیّاکم والغیبة ، فإنّ الغیبة أشدّ من الزنا ، إنّ الرجل یزنی ویتوب فیتوب اللّه علیه ، وإنّ صاحب الغیبة لا یغفر له حتّی یغفر له صاحبه(3) .

دلالتها واضحة ، وفی سندها إرسال .

ومنها : مرسلة القطب الراوندی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : عقوبة الغیبة أشدّ من الزنا . قیل : ولم یا رسول اللّه ؟ قال : لأنّ صاحب الزنا یتوب فیغفر اللّه [ له ] ، ولا تغفر الغیبة إلاّ أن یحلّله صاحبه(4) .

سندها مرسل ودلالتها واضحة .

ومنها : مرسلة سعید بن جبیر عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم قال : یؤتی بأحد یوم القیامة یوقف

بین یدی اللّه ویدفع إلیه کتابه فلا یَری حسناته ، فیقول : إلهی لیس هذا کتابی فإنّی لا أری فیها

ص:390


1- (1) وسائل الشیعة 12 / 280 ح 9 .
2- (2) وسائل الشیعة 12 / 212 ح 24 .
3- (3) مستدرک الوسائل 9 / 118 ح 21 .
4- (4) مستدرک الوسائل 9 / 130 ح 3 .

طاعتی ، فیقال : إنّ ربّک لا یضلّ ولا ینسی ، ذهب عملک باغتیاب الناس ، ثمّ یؤتی بآخر ویدفع إلیه کتابه فیری فیها طاعات کثیرة ، فیقول : إلهی ما هذا کتابی فإنّی ما عملت هذه الطاعات ، فیقول : إنّ فلاناً اغتابک فدفعت حسناته إلیک(1) .

الروایة لا تدلّ علی وجوب الاستحلال ، وفی سندها إرسال .

ومنها : مرسلة المفید عن الباقر علیه السلام أنّه قال : إذا کان یوم القیامة أقبل قوم علی اللّه عزّ وجلّ فلا یجدون لأنفسهم حسنات ، فیقولون : إلهنا وسیدنا ما فعلت حسناتنا ؟ فیقول اللّه عزّ وجلّ : أکلتها الغیبة ، إنّ الغیبة تأکل الحسنات کما تأکل النار الحلفاء(2) .

الحلفاء : نبات معروف ، الروایة لا تدلّ علی لزوم الاستحلال وفی سندها إرسال .

ومنها : مرسلة القطب الراوندی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : یعطی رجل کتابه فیری حسنات لم یکن عملها ، فیقول : یا ربّ مِنْ أین هذا لی ؟ فیقول : هذا ممّا اغتابک وأنت لا تشعر ، ویدفع لآخر کتاب فیقول : ما هذا کتابی ، فیقول اللّه : بلی ولکن ذهب عملک باغتیابک الناس(3) .

سند الروایة مرسلة ، ولا تدلّ علی لزوم الاستحلال .

ومنها : مرسلة صاحب مصباح الشریعة عن الصادق علیه السلام : الغیبة تأکل الحسنات کما تأکل النار الحطب(4) .

الروایة لا تدلّ علی لزوم الاستحلال ، وسندها مرسل أیضاً .

ومنها : قال الشهید الثانی : روی عن بعضهم أنّ رجلاً قال له : إنّ فلاناً قد اغتابک ، فبعث إلیه طبقاً من الرطب ، وقال : بلغنی أنّک قد أهدیت إلیّ حسناتک فأردتُ أن اُکافئک علیها ، فاعذرنی فإنّی لا أقدر أن اُکافئک علی التمام(5) .

ص:391


1- (1) مستدرک الوسائل 9 / 121 ح 30 .
2- (2) مستدرک الوسائل 9 / 124 ح 42 .
3- (3) مستدرک الوسائل 9 / 125 ح 49 .
4- (4) مستدرک الوسائل 9 / 118 ح 19 .
5- (5) کشف الریبة / 79 .

الروایة عامیة منقولة فی إحیاء علوم الدین 3 / 154 لأبی حامد الغزالی مع إرسالها وإضمارها ، ولا تدلّ علی وجوب الاستحلال .

ومنها : مرسلة الشهید الثانی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : مَنْ کانت لأخیه عنده مظلمة فی عرضٍ أو مالٍ فَلْیَتَحِلِّلَها منه قبل أن یأتی یوم لیس هناک دینار ولا درهم ، یؤخذ من حسناته ، فإن لم یکن له حسنات اُخذ من سیئات صاحبه فتزید علی سیئاته(1) .

الروایة عامیة منقولة فی البخاری 2 / 865 و 5 / 2394 ، ولکن دلالتها علی وجوب الاستحلال واضحة .

ومنها : مرسلة صاحب جامع الأخبار عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : مَن اغتاب مسلماً أو مسلمة لم یقبل اللّه تعالی صلاته ولا صیامه أربعین یوماً ولیلة ، إلاّ أن یغفر له صاحبه(2) .

دلالتها علی لزوم الاستحلال واضحة ، ولکن فی سندها إرسال .

ومنها : ما روی فی مصباح الشریعة عن الصادق علیه السلام أنّه قال : فإن إغتبتَ فبلغ المغتاب ، فلم یبق إلاّ أن تستحلَّ منه ، وإن لم یبلغه ولم یلحقه عِلْمُ ذلک فاستغفر له(3) .

الروایة مرسلة سنداً ، واضحة الدلالة علی لزوم الاستحلال بعد وصول الغیبة إلی المغتاب (بالفتح) ، وإن لم یصل لزم الاستغفار له . فهذه الروایة من أدلة الوجه الخامس من وجوه کفارة الاغتیاب . وفی الجملة تدلّ علی لزوم الاستحلال .

ومنها : ما ورد فی الدعاء التاسع والثلاثین من أدعیة الصحیفة السجادیة الشریفة : « اللهم وأیّما عبد من عبیدک أدرکه منّی دَرَکٌ أو مَسَّهُ مِنْ ناحیتی أذیً أو لَحِقَهُ بی أو بسببی ظلمٌ فَفُتُّه بحقّهِ أو سَبَقْتُهُ بمَ_ظْلِمَتِهِ فصلِّ علی محمد وآله وأرْضِهِ عنّی مِنْ وُجْدِکَ وأوْفِهِ حَقَّهُ من عندک ثمّ قِنی ما یوجب له حُکْمُکَ وخَلِّصنی ممّا یحکم به عدلُکَ ، فإنّ قوتی لا تَسْتَقِلُّ بنقمتک وإنّ طاقتی لا تنهض بسخطک ، فإنّک إن تُکافِنی بالحقِّ تُهْلِکنی وإلاّ تَغَمَّدنی تُوبِقْنی»(4) .

ص:392


1- (1) کشف الریبة / 78 .
2- (2) مستدرک الوسائل 9 / 122 ح 34 .
3- (3) مصباح الشریعة / 32 ونقل عنه فی بحار الأنوار 72 / 242 (29 / 264) .
4- (4) الصحیفة السجادیة . الدعاء 39 فی طلب العفو والرحمة .

الصحیفة الشریفة وصلت إلینا بأسناد صحیحة ، فلا یمکن المناقشة فی سندها ، لا سیما بعد تلقیها بالقبول عند الأصحاب . نعم یمکن المناقشة فی دلالتها :

أولاً : بأنّ الفعل الصادر من الإمام علیه السلام لا یدلّ علی الوجوب ، لکونه أعم من الوجوب والاستحباب .

وثانیاً : الدعاء لا یدلّ علی لزوم الاستحلال من المغتاب (بالفتح) بل ناجی

الإمام علیه السلام ربّه ، بأنّ اللّه تعالی یرضیه ویوفی حقّه من عنده ، وهذا غیر لزوم الاستعفاء والاستحلال من المغتاب (بالفتح) ، وإن کان فیه إشارة ضمنیة أو دلالة إلتزامیة بلزوم هذا . وإن تمت هذه الاشارة أو الدلالة فیتم المطلوب وإلاّ فلا .

ومنها : دعاء یوم الإثنین من ملحقات الصحیفة الشریفة ، قال علیه السلام فیها :

« وأسئلُکَ فی مظالم عبادک عندی ، فأیّما عبدٍ من عبیدک أو أمَةٍ من إمائک کانت له قبلی مظلمةٌ ظَلَمْتُها إیّاه فی نفسه أو فی عرضه أو فی ماله أو فی أهله ووَلَدِهِ أو غیبةٌ اغْتَبتُهُ بها أو تَحامُلٌ علیه بمیلٍ أو هَویً أو أنَفَةٍ أو حمیّةٍ أو رِئاءٍ أو عَصَبیّةٍ ، غائِباً کان أو شاهداً ، وحیّاً کان أو میّتاً فَقَصُرَتْ یَدی وضاقَ وُسْعی عن ردّها إلیه والتَّحَلُّل منه ، فأسألکَ یا من یملکُ الحاجاتِ وهی مستجیبةٌ لمشیّتِهِ ومُسْرِعةٌ إلی إرادته أن تصلّی علی محمد وعلی آل محمد وأن تُرْضِیَهُ عنّی بما شئتَ وتَهَبَ لی من عندک رحمةً إنّه لا یَنْقُصُکَ المغفرة ولا تَضُرُّک الموهبة یا أرحم الراحمین»(1) .

وهذا الدعاء الشریف کالنص علی لزوم الاستحلال والاستعفاء من المغتاب (بالفتح) ، ولا یمکن المناقشة فی إسنادها ، فلابدّ من الأخذ به .

المستفاد من أدعیة الصحیفة الشریفة وغیرها من الروایات - وإن یمکن المناقشة فی إسناد بعضها ودلالة بعضها الآخر - ومن الجمیع بعد بلوغها إلی حدّ الاستفاضة إن لم نقل بوجوب الاستحلال والإستعفاء مِن المغتاب (بالفتح) لا أقل من أنّه هو الأظهر والأولی والأحوط ، ولکن إن لایصیر ذلک سبباً لمزید الإهانة أو الإیذاء أو إثارة الفتنة أو جلب

ص:393


1- (1) دعاء یوم الاثنین من ملحقات الصحیفة السجادیة .

الضغائن ، ویمکن الاستعفاء مع الإبهام مع خوف هذه الاُمور ، کما نبّه علیه الشیخ الأکبر فی شرحه علی القواعد(1) .

قال الشهید الثانی : « ویُستحبّ للمعتذر إلیه قبول العذر والمحالّة استحباباً مؤکداً ، قال اللّه تعالی : «خُذِ الْعَفْوَ»(2) الآیة ، فقال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : یا جبرئیل ما هذا العفو ؟ فقال : إنّ اللّه یأمرک أن تعفو عمّن ظلمک ، وتَصِلَ مَنْ قطعک ، وتعطی مَنْ حَرَمَک(3) .

وفی خبر آخر : إذا جثی الاُمم بین یدی اللّه تعالی یوم القیامة نودوا : لیقم من کان أجْرُهُ

علی اللّه ، فلا یقوم إلاّ من عفی فی الدنیا»(4)(5) .

دلیل الاستغفار للمغتاب (بالفتح)

قد استدلوا علی وجوب الاستغفار له بعدّة من الروایات :

منها : خبر حفص بن عمر الکوفی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : سُئل النبی صلی الله علیه و آله وسلم ما کفارة الاغتیاب ؟ قال : تستغفر اللّه لمَن اغتبتَهُ کلّما ذکرتَهُ(6) .

الروایة ضعیفة سنداً بحفص بن عمر الکوفی ، لعدم ثبوت وثاقته کما هو الظاهر وإن لم یثبت أنّه الکوفی ، لأنّه مشترک بین أفراد لا توثیق لهم . والظاهر أنّ المراد ب_ « کلّما ذکرتَهُ » أی کلّما ذکرتَ المغتاب (بالفتح) تستغفر له ، أو کلّما ذکرت الاغتیاب . ویناقش فی دلالتها بأنّها « خلاف الضرورة ولم یلتزم به فقیه فیما نعلم وإن ذکره بعض أهل الأخلاق ، وعلیه فتحمل الروایة علی الجهات الأخلاقیة» کما فی المصباح(7) .

ص:394


1- (2) شرح القواعد 1 / 232 .
2- (3) سورة الأعراف / 199 .
3- (4) التبیان 5 / 63 .
4- (1) إحیاء العلوم الدین 3 / 154 .
5- (2) کشف الریبة / 79 .
6- (3) وسائل الشیعة 12 / 290 ح 1 الباب 155 من أبواب أحکام العشرة .
7- (4) مصباح الفقاهة 1 / 333 .

نعم ، بناءً علی کون النسخة « کما ذکرته» کما نقل العلامة المجلسی فی المرآة(1) والبحار(2) عن بعض النسخ فلا یرد علیها هذا الإشکال .

وممّا یؤید هذه النسخة الأخیرة - أی « کما ذکرته» - الروایة الآتیة :

ومنها : خبر أنس بن مالک عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : کفارة الإغتیاب أن تستغفر لمن اغتبتَهُ(3) .

ومنها : مرسلة الشهید الثانی والمجلسی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : کفارة مَنْ اغتبته أن تستغفر له(4) .

ومنها : خبر محمد بن محمد بن الأشعث فی الجعفریات بإسناده عن جعفر بن محمّد علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن علی علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : مَن ظلم أحداً فعابه ،

فلیستغفر اللّه له کما ذکره فإنّه کفارة له(5) .

ومن المعلوم أنّ الغیبة داخلة فی العیب والظلم ، فعلی المغتاب (بالکسر) الاستغفار للمغتاب (بالفتح) کما تدلّ علیه الروایة ، ولکنّها ضعیفة الإسناد .

ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : من ظلم أحداً وفاته فلیستغفر اللّه له فإنّه کفارة له(6) .

قال العلامة المجلسی : ( « ففاته » أی لم یدرکه لیطلب البراءة ویرضیه ، ولعلّه محمول علی ما إذا لم یکن حقّاً مالیّاً کالغیبة وأمثالها ، وإلاّ فیجب أن یتصدّق عنه ، إلاّ أن یقال :

ص:395


1- (5) مرآة العقول 10 / 431 .
2- (6) بحار الأنوار 72 / 242 (29 / 462) .
3- (7) أمالی المفید . المجلس الحادی والعشرون ح 7 / 171 وأمالی الطوسی . المجلس السابع ح 27 / 192 الرقم 325 ونقل عن الأول فی مستدرک الوسائل 9 / 130 ح 2 .
4- (8) کشف الریبة / 78 وبحار الأنوار 72 / 242 (29 / 462) .
5- (1) الجعفریات / 228 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 130 ح 1 .
6- (2) وسائل الشیعة 16 / 53 ح 5 . الباب 78 من أبواب جهاد النفس .

التصدق عنه أیضاً طلب مغفرة له )(1) .

أقول : الغیبة تدخل فی الظلم ، وحیث لم یتمکن المغتاب (بالکسر) من الإستحلال والإسترضاء والإستعفاء من المغتاب (بالتفح) لموته أو غیره ، یجب علیه الإستغفار له . وحیث أن روایات الاستغفار کلّها ضعاف إلاّ هذه الروایة وورد فیها الترتیب وعلّل الاستغفار بالفوت وعدم التمکن بالاستحلال من المظلوم ، فلابدّ من أخذها مرتباً .

فذلکة الکلام فی کفارة الاغتیاب : یجب علی المغتاب (بالکسر) الاستحلال والاسترضاء والاستعفاء من المغتاب (بالفتح) أوّلاً ، وإن لم یتمکن منه لموته أو لإثارة الفتنة أو لشدّة الإیذاء والإهانة فیجب حینئذ الاستغفار له ، وعلی کلِّ تقدیر یجب علیه أیضاً الاستغفار لنفسه والتوبة من ذنبه إلی اللّه تعالی ، واللّه العالم .

المقام الرابع : مستثنیات الغیبة

اشارة

قد ذکروا فی هذا المقام اُموراً :

الأوّل : المتجاهر بالفسق

یجوز غیبة الفاسق المتجاهر والمعلن لفسقه فی الجملة ، وإنّما الخلاف بین أصحابنا بین تقیید هذا الجواز بالذنب الذی یتجاهر به _ کما ذهب إلیه الشهید فی القواعد والفوائد(2) والمحقق الثانی فی رسائله(3) والشهید الثانی فی کشف الریبة(4) وصاحب الجواهر(5) والمؤسس

الحائری(6) والمحقق الخوئی(7) _ أو أنّ الجواز مطلق ، بأن تجوز غیبته ولو فیما لم یتجاهر به کما هو

ص:396


1- (3) مرآة العقول 10 / 308 .
2- (4) القواعد والفوائد 2 / 148 .
3- (5) رسائل المحقق الکرکی 2 / 45 .
4- (6) کشف الریبة / 51 .
5- (7) الجواهر 22 / 69 .
6- (1) المکاسب المحرمة / 222 لآیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی .
7- (2) مصباح الفقاهة 1 / 341 .

ظاهر کلام جملة من الأصحاب _ کما فی الحدائق(1) _ وذهب إلیه أصحاب شرح القواعد(2) والمستند(3) وبرهان الفقه(4) ومهذب الأحکام(5) وإرشاد الطالب(6) .

والذی یظهر من الشیخ الأعظم التفصیل بین المعاصی التی هی دون ما تجاهر فیه فی القبح وبین غیرها ، فیجوز اغتیابه فی الأوّل ولا یجوز فی الثانی . وهذا التفصیل من إبداعاته ومتفرداته ، ومثّل له بقوله : « ... فمن تجاهر باللواط _ والعیاذ باللّه _ جاز اغتیابه بالتعرض للنساء الأجانب ، ومن تجاهر بقطع الطرق جاز اغتیابه بالسرقة ، ومن تجاهر بکونه جلاّد السلطان یقتل الناس وینکّل بهم جاز اغتیابه بشرب الخمر ، ومن تجاهر بالقبائح المعروفة جاز اغتیابه بکلِّ قبیحٍ ... »(7) .

والعمدة فی المقام ملاحظة الأدلة وما یُستفاد منها ، نحو :

حسنة هارون بن الجهم عن الصادق علیه السلام قال : إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له ولا غیبة(8) .

رجال السند کلّهم ثقات إلاّ أحمد بن هارون وهو حسنٌ ، وبه عبّرنا عن الروایة بالحسنة . ودلالتها علی جواز غیبة المتجاهر بالفسق مطلقاً ظاهرة ، حیث لم تقیّد الجواز بشیءٍ بل أطلقته . وقوله علیه السلام « فلا حرمة له ولا غیبة » ، یعنی بعد التجاهر بالفسق وهتک الشریعة علانیّةً فلا حرمة لهذا الهاتک المتجاهر ، فیجوز غیبته مطلقاً لذهاب حرمته .

ومنها : خبر أبی البختری عن الصادق علیه السلام عن أبیه علیه السلام قال : ثلاثة لیس لهم حرمة :

ص:397


1- (3) الحدائق 18 / 166 .
2- (4) شرح القواعد 1 / 166 .
3- (5) مستند الشیعة 14 / 167 .
4- (6) برهان الفقه . کتاب التجارة / 22 طبع الحجری .
5- (7) مهذب الأحکام 16 / 130 .
6- (8) إرشاد الطالب 1 / 202 .
7- (9) المکاسب المحرمة / 44 الطبع الحجری (1 / 346) .
8- (10) وسائل الشیعة 12 / 289 ح 4 . الباب 154 من أبواب أحکام العشرة .

صاحب هوی مبتدع ، والإمام الجائر ، والفاسق المعلن بالفسق(1) .

والروایة ضعیفة سنداً بأبی البختری ، وهو وهب بن وهب الذی کان کذّاباً عامیّاً قاضیّاً متروک العمل فیما یختص به . والعجب من ابن الغضائری حیث یقول : « إلاّ أنّ له عن جعفر بن محمد علیه السلام أحادیث کلّها یوثق بها»(2)(3) . وإنْ تمّ ما ذکره ابن الغضائری صارت الروایة موثق بها ، ولکن فیه ما لا یخفی . وأمّا دلالتها علی الجواز مطلقاً واضحة .

ومنها : روایة السید فضل اللّه الراوندی فی نوادره بإسناده عن موسی بن جعفر علیه السلام عن آبائه علیهم السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : أربعةٌ لیس غیبتهم غیبةً : الفاسقُ المُعْلِنُ بفسقه ، والإمامُ الکذّابُ إن أحسنتَ لم یشکر وإن أسأتَ لم یَغْفُر ، والمتفکّهونَ بالاُمّهات ، والخارجُ من الجماعة الطاعنُ علی اُمتی الشاهُر علیها سیفه(4) .

ومنها : مرسلة القطب الراوندی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : لا غیبة لثلاثة : سلطان جائر ، وفاسق معلن ، وصاحب بدعة(5) .

ومنها : مرسلة المفید عن الرضا علیه السلام قال : من ألقی جلباب الحیاء فلا غیبة له(6) .

رواها ابن شعبة الحرانی فی تحف العقول / 45 مرسلاً عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم .

الظاهر أنّ المراد بها : من هتک ستره وأعلن فسقه فلا غیبة له .

ومنها : مرسلة الشهید الثانی رفعه عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : لا غیبة لفاسق(7) .

رواها ابن أبی جمهور الأحسائی فی عوالی اللآلی 1 / 438 ح 153 مع زیادة « أو فی

ص:398


1- (1) وسائل الشیعة 12 / 289 ح 5 .
2- (2) مجمع الرجال 6 / 198 للمولی عنایة اللّه بن علی القهبائی .
3- (3) رجال ابن الغضائری / 100 الرقم 151 ، ولکن فی المطبوعة : « إلاّ أنّ له عن جعفر بن محمد أحادیث کلّها لا یوثق بها» .
4- (4) النوادر / 133 ح 171 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 128 ح 2 .
5- (5) مستدرک الوسائل 9 / 128 ح 1 .
6- (6) مستدرک الوسائل 9 / 129 ح 3 .
7- (7) کشف الریبة / 51 .

فاسق »(1) .

والروایة تحمل علی الفاسق المعلن بقرینة ما سبقها .

وهذه الروایات بإطلاقها وظاهرها تدلّ علی جواز غیبة الفاسق المتجاهر مطلقاً ، أی بلا فرق بین ما تجاهر به وغیره ، وبلا فرق بین دون ما تجاهر به وغیره ، کما علیه جملة من

الأصحاب قدس سرهم .

نعم ، لو أبدی المتجاهر عذراً شرعیّاً لما تجاهر به ، وادعاه ، قبل منه ، فحینئذ لا یجوز غیبته . وهکذا لو ارتکب الحرام الواقعی لشبهة حکمیة أو موضوعیة بأن یأکل مثلاً لحم الأرانب باعتقاد إباحتها بحسب اجتهاده أو اجتهاد مَنْ یقلده ، أو شرب الخمر باعتقاد أنّها ماءٌ ، ووطئ إمرأة أجنبیة باعتقاد أنّها زوجته ، وقتل المؤمن باعتقاد أنّه مهدور الدم ، ففی جمیع هذه الموارد إذا تمّ له أو لمقلَّده الاجتهاد أو لم یکن مقصِّراً ، کان معذوراً ، فلا یجوز غیبته لعدم ظهور فسقه مع هذه المعاذیر .

تنبیهٌ : قال صاحب الحدائق : « وکیف کان فالظاهر أنّ حکام الجور والظلمة وأتباعهم المتظاهرین بالظلم والفسق وأخذ أموال الناس واللعب بالباطل - کما هو معروف الآن فی جمیع الأصقاع والبلدان من الشیعة وغیرهم - من هذا القبیل ، بل من أظهر أفراد هذه الأخبار»(2) .

أقول : مضافاً إلی ما ذکره قدس سره إنّهم یدخلون فی عنوان الإمام الجائر والإمام الکذّاب والسلطان الجائر وغیرها من العناوین الواردة فی الروایات الماضیة ، فلذا یجوز غیبتهم مطلقاً . أعاذنا اللّه وإیّاکم من شرّهم وظلمهم وجورهم وفسقهم وأتباعهم وأنصارهم والراضین بأفعالهم وأعمالهم .

الثانی : التظلّم

یجوز للمتظلّم عند من یرجو إزالة ظلمه غیبة الظالم بذکر الظلم .

ص:399


1- (8) کما نقل عنه فی مستدرک الوسائل 12 / 129 ح 6 .
2- (1) الحدائق 18 / 167 .

وقال المحقق السبزواری بعد عنوانه المسألة : « ولعلّ الأحوط الإقتصار علی قدر الحاجة»(1) .

قد استدلوا علی هذا الإستثناء بعدّة من الآیات والروایات :

منها : قوله تعالی : «لاَ یُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَکَانَ اللّهُ سَمِیعاً عَلِیماً»(2) .

من المعلوم أنّ الغیبة تدخل فی القول بالسوء ، فجوّزتها الآیة الشریفة للمظلوم ، فله غیبة الظالم وإظهار جرائمه وآثامه ومعایبه عند من یرجو أن یتمکن من رفع الظلم عنه لا

مطلقاً(3) ، لأنّ ظهور الآیة الشریفة جواز التظلم لرفع الظلم وإلاّ صار عمله عبثاً لا یفیده شیئاً ، والعقلاء یتوقفون عند الأعمال التی لا فائدة لهم فیها .

ولذا قیّد بعض الأصحاب(4) قدس سرهم العنوان بقیدین :

الأوّل : یختص الجواز عند من یرجو رفع الظلم عنه لا عند کلّ أحدٍ .

الثانی : یجوز له غیبة الظالم بذکر ظلمه فقط لا غیره .

والحق أخذ القیدین فی المقام ، لعدم ثبوت الإطلاق فی الأدلة المجوّزة بعد انعقاد القدر المتیقَّن فی المقام ، وهو فرض القیدین .

وبالجملة ، فالآیة الشریفة تکفی دلیلاً فی جواز غیبة الظالم للمظلوم ، ولکن مع القیدین

ص:400


1- (2) الکفایة 1 / 436 .
2- (3) سورة النساء / 148 .
3- (1) والعجب من المحقق الخوئی فی مصباحه 1 / 434 وتبعه شیخنا الاُستاذ - مد ظله - فی إرشاده 1 / 205 حیث ذهبا إلی الإطلاق .
4- (2) نحو أصحاب کشف الریبة / 49 ومفتاح الکرامة 12 / 218 والجواهر 22 / 66 ، والمحققون الشیخ الأعظم والإیروانی والسبزواری ، وصرحوا بالثانی فی المکاسب المحرمة / 44 (1 / 348) والحاشیة علی المکاسب 1 / 210 ، ومهذب الأحکام 16 / 132 ، وکثیر منهم صرح بالأوّل منهم : أصحاب الکفایة 1/436 والحدائق 18 / 160 والمستند 14 / 168 وبرهان الفقه . کتاب التجارة / 22 والمؤسس الحائری فی المکاسب المحرمة / 225 والمحقق الأردکانی فی غنیة الطالب 1 / 158 .

المذکورین ، من دون احتیاج إلی الروایات الشریفة الواردة فی ذیلها .

ومنها : الآیات الواردة فی سورة الشوری ، وهی قوله تعالی : «وَالَّذِینَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْیُ هُمْ یَنتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَیِّئَةٍ سَیِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَی اللَّهِ إِنَّهُ لاَ یُحِبُّ الظَّالِمِینَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِکَ مَا عَلَیْهِم مِّن سَبِیلٍ * إِنَّمَا السَّبِیلُ عَلَی الَّذِینَ یَظْلِمُونَ النَّاسَ وَیَبْغُونَ فِی الاْءَرْضِ بِغَیْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِکَ لَهُم عَذَابٌ أَلِیمٌ»(1) .

بتقریب : ظهور الآیة الثانیة منها فی جواز الإعتداء علی الظالم والانتقام منه ، نحو قوله تعالی : «فَمَنِ اعْتَدَی عَلَیْکُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَیْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَی عَلَیْکُمْ»(2) ، ولکن ظهور الآیات الثلاث لا ینکر فی المقام . وتفسیر الآیات الشریفة بالقائم عجل اللّه تعالی فرجه الشریف کما فی بعض الروایات(3) الواردة فی ذیلها ، لا ینافی ما ذکرناه ، لأنّها من باب تعیین المصداق وتنقیح الصغری لا الإنحصار .

ومنها : قوله تعالی فی سورة الشعراء وفی ذمّهم حیث استثنی من المذمومین «إِلاَّ

الَّذِینَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَکَرُوا اللَّهَ کَثِیراً وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَیَعْلَمُ الَّذِینَ ظَلَمُوا أَیَّ مُنقَلَبٍ یَنقَلِبُونَ»(4) .

بتقریب : أن الآیة الشریفة جوّز الانتصار للمظلوم ودفع الظلم عنه مطلقاً ، بلا فرق بین غیبة الظالم وحضرته ، سواء کان بالشعر أو النثر .

ومنها : صحیحة ثعلبة بن میمون عمّن ذکره عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : کان عنده قومٌ یحدّثهم إذ ذکر رجلٌ منهم فوقع فیه وشکاه ، فقال له أبو عبد اللّه علیه السلام : وأنّی لکَ بأخیک کلِّه _ وأیُّ الرجال المهذّب(5) .

ص:401


1- (3) سورة الشوری / (42 _ 39) .
2- (4) سورة البقرة / 194 .
3- (5) راجع فی هذا المجال البرهان فی تفسیر القرآن 4 / 829 .
4- (1) سورة الشعراء / 227 .
5- (2) الکافی 2 / 651 ح 1 باب الإغضاء _ أی الإغماض _ ونقل عنه فی وسائل الشیعة 12 / 85 ح 1 . الباب 56 من أبواب أحکام العشرة .

بتقریب : أنّ الرجل شکا بعض إخوانه فی الدین ، والإمام علیه السلام لم ینه عنه بل قال : « أنّی لک بأخیک کلِّه» ، أی لم یوجد الأخ الکامل التام فی هذا الزمان ولا یحصل إلاّ نادراً وتوقّع ذلک کتوقع أمر محال ، فارض عن الناس بالقلیل ، حیث لم یؤدوا حقوق الاُخوة والأمر یکون علیک سهلاً ، ثمّ تمسک الإمام علیه السلام بقطعة من مصراع هذا البیت :

ولستَ بمستبق أخاً لا تلمه علی شعث ، أیُّ الرجال المهذبُ

وبهذا البیان یظهر أنّ الإمام علیه السلام لم ینه الرجل عن الشکایة والوقوع فی أخیه ، والظاهر أنّه فی مقام بیان التظلم والشکوی عنه ، فأقرّه الإمام علیه السلام علی شکایته ولکن سلاّه بأنّ الأخ التام الکامل والرجال المهذبین لا یوجدون فی هذا العصر ، فدلالة الروایة تامة ولکن فی سندها إرسال ظاهر .

ومنها : خبر هارون بن عمرو المجاشعی عن الصادق علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : لَیّ الواجد بالدِّین یُحلّ عرضه وعقوبته ، ما لم یکن دینه فیما یکره اللّه عزّ وجلّ(1) .

دلالة الروایة واضحة ، لأنّ لیّ(2) الواجد - أی مطله عن أداء الدین مع التمکن علیه - یحلّ عرضه ، لأنه قد ورد عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : مَطَل الغنیِّ ظلمٌ(3) .

ماطله بحقّه : أی سوّفه بوعد الوفاء ، وهذا ظلم ، وهذا الامتناع یحلّ عرض الممتنع ،

لأنّه ظلم ، فالظلم یحلّ عرض الظالم للمظلوم ، ولکن فی سندها ضعفٌ .

ومنها : مرسلة الشهید الثانی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال : لصاحب الحقّ مقالٌ(4) .

الروایة عامیة رویت فی البخاری 2 / 2183 وسنن الترمذی 3 / 608 وإحیاء علوم الدین 3 / 152 ، ودلالتها مجملة .

ومنها : مرسلة الأحسائی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال لهند بنت عتبة _ امرأة أبی سفیان _

ص:402


1- (3) أمالی الطوسی . المجلس الثامن عشر ح 53 / 520 الرقم 1146 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 333 ح 4 . الباب 8 من أبواب الدین والقرض .
2- (4) اللَّیّ : مطل الدَّین .
3- (5) الفقیه 4 / 380 ح 5819 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 333 ح 3 .
4- (1) کشف الریبة / 49 .

حین قالت : إنّ أبا سفیان رجل شحیح لا یعطینی وولدی ما یکفینی ، فقال لها : خُذی لکِ ولولدک ما یکفیک بالمعروف(1) .

دلالة الروایة غیر تامة ، لأنّ أبا سفیان لم یکن محرَّم الغیبة عندنا ، بل هو منافق کافر کما صرح به صاحب الحدائق(2) قدس سره ، أو یکون معلناً بالبخل ویضرب به المثل کما عن بعض(3) ، وفی سندها إرسالٌ .

ومنها : غیر ذلک من الروایات ولکن فی دلالة الآیات کفایة فی المقام .

فذلکة القول : یجوز غیبة الظالم للمظلوم فی مقام التظلم عند من یرجو إزالة ظلمه ، وبالنسبة إلی الظلم الذی ظلمه فقط ، لعدم ثبوت الإطلاق فی الأدلة المجوّزة کما مرّ ، واللّه سبحانه هو العالم .

تنبیهٌ : هل یجوز الغیبة فی ترک الأولی أم لا ؟

قد استدلوا علی جوازها بعدّة من الروایات :

منها : معتبرة حماد بن عثمان قال : دخل رجل علی أبی عبد اللّه علیه السلام فشکا إلیه رجلاً من أصحابه ، فلم یلبث أن جاء المشکّو ، فقال له أبو عبد اللّه علیه السلام : ما لفلان یشکوک ؟ فقال له : یشکونی إنّی استقضیتُ منه حقّی . قال : فجلس أبو عبد اللّه علیه السلام مغضباً ، ثمّ قال : کأنّک إذا استقضیت حقّک لم تسی ء ، أرأیت ما حکی اللّه عزّ وجلّ فی کتابه : «یَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ»(4) ، أتری أنّهم خافوا اللّه أن یجور علیهم ، لا واللّه ما خافوا إلاّ الإستقضاء ، فسمّاه

اللّه عزّ وجلّ سوء الحساب ، فمن استقضی به فقد أساء(5) .

معلی بن محمد البصری من المعاریف ولم یثبت قدحه ، فهو معتبر عندنا وصار سند

ص:403


1- (2) عوالی اللآلی 1 / 438 ح 155 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 129 ح 4 .
2- (3) الحدئق 18 / 162 .
3- (4) نحو : المؤسس الحائری فی المکاسب المحرمة / 228 والمحقق الخوئی فی مصباح الفقاهة 1 / 352 .
4- (5) سورة الرعد / 21 .
5- (1) الکافی 5 / 100 ح 1 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 348 ح 1 الباب 16 من أبواب الدین والقرض .

الروایة به معتبراً .

وأمّا دلالتها : الإستقضاء : طلب الحقّ والقضاء ، وحیث أنّ الرجل من أصحاب الصادق علیه السلام طلب حقّه أو دینه من الشاکی فلم یظلمه ، إلاّ فی فرض إعساره وعدم تمکنه من الأداء ، فحینئذ لو استقضی منه فقد ظلمه . ودخلت المعتبرة فی أدلة جواز الغیبة فی فرض التظلم ، لأنّ الواجد یجب علیه أداء الدین ولا یجوز له التأخیر .

هذا کلّه بناءً علی أنّ « النسخة الاستقضاء » بالضاد المعجمة کما فی نسخة الکافی المطبوع والوسائل وهکذا فی نقل الشیخ الطوسی(1) من الروایة وإن کان فی سنده ضعف بمحمد بن یحیی الصیرفی لأنّه إمامیٌ مجهولٌ .

وأمّا بناءً علی أنّ نسخة الروایة « الإستقصاء » بالصاد المهملة کما نقل فی هامش الکافی المطبوع عن بعض النسخ واختاره المحدث الفیض فی الوافی(2) ونقل هذه النسخة ، ونقله العلامة المجلسی عن بعض النسخ القدیمة فی مرآة العقول(3) .

والاستقصاء فی الحقِّ : البلوغ إلی الغایة فی المطالبة ، والدقة التامة فیه إلی حدّ النهایة ، ومن المعلوم أنّ ذلک قد یؤدی إلی الهتک والظلم فیکون حراماً ، فالمعتبرة علی کلا النسختین صارت من أدلة جواز الغیبة فی فرض التظلم ، ولا تدلّ علی ما نحن فیه من جواز الغیبة فی ترک الاُولی .

والظاهر - واللّه العالم - أنّ نسخة الاستقصاء بالصاد المهملة هی الصحیحة ، لما ورد فی صحیحة حماد بن عثمان المرویة فی معانی الأخبار(4) بالصاد المهملة . وهکذا نقلت الروایة فی تفسیر علی بن إبراهیم القمی(5) وتفسیر العیاشی عن حماد بن عثمان(6) وعن محمد بن

ص:404


1- (2) التهذیب 6 / 194 ح 50 .
2- (3) الوافی 18 / 801 .
3- (4) مرآة العقول 19 / 54 .
4- (5) معانی الأخبار / 246 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 18 / 349 ح 3 .
5- (6) تفسیر القمی 1 / 363 .
6- (7) تفسیر العیاشی 2 / 388 ح 39 .

عیسی(1) والسرائر لابن إدریس الحلی(2) ومشکاة الأنوار لسبط الطبرسی(3) .

ومنها : مرسلة العیاشی عن الفضل بن أبی قُرّة عن أبی عبد اللّه علیه السلام فی قول اللّه تعالی : «لاَّ یُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوْءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ»(4) ، قال : من أضاف قوماً فأساء ضیافتهم فهو ممّن ظلم ، فلا جناح علیهم فیما قالوا فیه(5) .

الظاهر أنّ المراد من إساءة الضیافة هو الهتک والإهانة اللذان یعدان من الظلم ، وإلاّ لم یصح تطبیق الآیة الشریفة علیها . وعلی هذا فالروایة من أدلة جواز الغیبة فی التظلم ، ولکن فی سندها إرسالٌ .

ونظیرها فی الدلالة والسند الروایة الآتیة :

ومنها : مرسلة الطبرسی عن أبی عبد اللّه علیه السلام أنّه قال فی ذیل الآیة الشریفة : إنّه الضیف ینزل بالرجل فلا یُحسِنُ ضیافَتَه ، فلا جُناح علیه فی أنْ یذکره بسوء ما فعله(6) .

وبالجملة ، حیث لم یدل دلیل علی جواز الغیبة فی ترک الاُولی واستثناؤه عن حرمة الغیبة ، فتبقی علی حرمتها الاُولی ، واللّه سبحانه هو العالم .

الثالث : نُصح المستشیر

قد استدلوا علی جواز الغیبة فی نصح المستشیر بعدّة من الروایات :

منها : صحیحة عبد اللّه بن سنان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : أتی رجل أمیر المؤمنین علیه السلام فقال له : جئتُک مستشیراً ، إنّ الحسن والحسین وعبد اللّه بن جعفر خطبوا إلیّ ، فقال أمیر المؤمنین علیه السلام : المستشار مؤتمن ، أمّا الحسن فإنّه مِطْلاق للنساء ، ولکن زوّجها

ص:405


1- (8) تفسیر العیاشی 2 / 388 ح 40 .
2- (9) السرائر 3 / 571 .
3- (10) مشکاة الأنوار 1 / 231 ح 492 طبع مؤسسة آل البیت ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 13 / 405 ح 1 .
4- (1) سورة النساء / 148 .
5- (2) تفسیر العیاشی 1 / 453 ح 299 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 12 / 289 ح 6 .
6- (3) مجمع البیان 3 / 201 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 12 / 290 ح 7 .

الحسین فإنّه خیر لابنتک(1) .

ومنها : خبر عمر بن یزید عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : من استشار أخاه فلم ینصحه محض الرأی سلبه اللّه عزّ وجلّ رأیه(2) .

ومنها : خبر عبد اللّه بن سلیمان النوفلی عن الصادق علیه السلام أنّه کتب إلی عبد اللّه

النجاشی : أخبرنی یا عبد اللّه ، أبی علیه السلام عن آبائه علیهم السلام عن علی بن أبی الطالب علیه السلام عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم ، أنّه قال : من استشاره أخوه المؤمن ، فلم یمحضه النصیحة سلبه اللّه لبّه(3) .

ومنها : خبر عبایة قال : کتب علی علیه السلام إلی محمد _ وإلی أهل مصر _ وذکر الکتاب إلی أن قال : وانصح لمن استشارک(4) .

ومنها : مرسلة الأحسائی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم أنّه قال لفاطمة بنت قیس حین شاورتْه فی خُطّابها : أمّا معاویة فرجلٌ صُعْلُوک لامال له ، وأما أبوجهم فلا یضع العصا عن عاتقه(5) .

الروایة عامیة رویت فی مسلم 2 / 1114 الباب 6 من کتاب الطلاق وسنن أبی داود 1 / 532 وسنن الترمذی 3 / 440 وکنز العمال 3 / 411 ، ورواها الشهید الثانی فی کشف الریبة / 51 . الصُعْلُوک : الفقیر .

الروایات بلغت إلی حدِّ الاستفاضة ، وفیها الصحیحة الدالة علی وجوب نصح المستشیر ، فإذا تزاحم مع حرمة الغیبة یقدّم نصح المستشیر . بل لو لم نقل فی جمیع الموارد یصح أن نقول فی أکثر موارد أن النصح للمستشیر یلازم الغیبة ، فإذا وجب نصحه ارتفعت حرمة الغیبة ، لعدم إمکان الجمع بینهما . وقد أفتی جماعة من الأصحاب بل المشهور علی طبقها . فلیس لنا بدّ إلاّ موافقتهم .

ص:406


1- (4) وسائل الشیعة 12 / 43 ح 1 . الباب 23 من أبواب أحکام العشرة .
2- (5) وسائل الشیعة 12 / 44 ح 2 .
3- (1) مستدرک الوسائل 8 / 346 ح 1 . الباب 22 من أبواب أحکام العشرة .
4- (2) مستدرک الوسائل 8 / 346 ح 2 .
5- (3) عوالی اللآلی 1 / 438 ح 155 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 129 ح 5 .
تنبیهٌ : هل یجوز الغیبة فی مطلق النصح أم لا ؟

یُعلم من الروایات المعتبرة المتعددة وجوب مطلق النصح :

منها : صحیحة عیسی بن أبی منصور عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : یجب للمؤمن علی المؤمن النصیحة له فی المشهد والمغیب(1) .

ومنها : صحیحة معاویة بن وهب عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : یجب للمؤمن علی المؤمن النصیحة له فی المشهد والمغیب(2) .

ومنها : صحیحة أبی عبیدة الحذاء عن أبی جعفر علیه السلام قال : یجب للمؤمن علی المؤمن النصیحة(3) .

ومنها : معتبرة السکونی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إنّ أعظم الناس منزلة عند اللّه یوم القیامة أمشاهم فی أرضه بالنصیحة لخلقه(4) .

ومنها : موثقة سماعة قال : سمعت أبا عبد اللّه علیه السلام یقول : أیّما مؤمن مشی فی حاجة أخیه فلم یناصحه فقد خان اللّه ورسوله(5) .

ونظیرها موثقة اُخری له(6) .

هذه الروایات ونظائرها الکثیرة تدلّ علی وجوب نصیحة المؤمن ، فإذا تزاحم النُصح مع حرمة الغیبة یؤخذ بأقواهما مصلحة وملاکاً ، فإذا کان ترک النصح یوجب تلف النفس أو هتک العرض أو فساد الدِّین أو ذهاب المال الکثیر ، یقدّم علی حرمة الغیبة بلا إشکال ، واللّه العالم .

ص:407


1- (4) وسائل الشیعة 16 / 381 ح 1 . الباب 35 من أبواب فعل المعروف .
2- (5) وسائل الشیعة 16 / 381 ح 2 .
3- (6) وسائل الشیعة 16 / 381 ح 3 .
4- (1) وسائل الشعیة 16 / 382 ح 5 .
5- (2) وسائل الشیعة 16 / 383 ح 2 . الباب 36 من أبواب فعل المعروف .
6- (3) وسائل الشیعة 16 / 384 ح 6 .
الرابع : الاستفتاء

من موارد جواز الغیبة الاستفتاء ، ولکن إذا توقف علی ذکر المغتاب (بالفتح) بأن یقول للمفتی : ظلمنی أبی أو أخی أو فلان فکیف طریقی فی الخلاص .

وإذا أمکن الاستفتاء بغیر الغیبة فلا تجوز الغیبة ، ولذا قال المحقق السبزواری : « والأسلم هاهنا التعریض ، بأن یقول : ما قولک فی رجل ظلمه أبوه أو أخوه ؟ . ثمّ قال بعد الاستدلال بخبر هند : وفی هذا الحکم إشکال إذا کان سبیل إلی التعریض وعدم التصریح»(1) .

وتبع السبزواریُ الشهید الثانی فی لزوم التعریض إن أمکن فی کشف الریبة(2) .

ویمکن الاستدلال علی هذا الاستثناء بوجوه :

الأوّل : استمرار طریقة الاستفتاء علی ذلک فی طول القرون والأعصار وعند الأجیال فی الأمصار ولم ینفه أحد . وذکر هذا الاستدلال الشیخ جعفر قدس سره فی شرحه علی القواعد(3) ، وتلمیذه صاحب الجواهر(4) .

الثانی : الاستفتاء داخل فی التظلم ورفع الظلم ، فإذا جازت الغیبة فی مقام التظلم جاز الاستفتاء مع الغیبة ، لأنّها من موارد التظلم . وذکر هذا الاستدلال صاحب الجواهر واختاره(5) .

وأنت تری بأنّ هذا الاستدلال علی نحو الموجبة الجزئیة تام لا علی نحو الموجبة الکلیة .

الثالث : الأدلة الشرعیة نقلیة کانت أو عقلیة بل ضرورة المذهب تدلّ علی وجوب تعلّم الأحکام الشرعیة التی تکون فی معرض الإبتلاء بها ، فحینئذ إذا توقف ذلک علی ترک واجب أو إرتکاب حرام فإنّ العمل علی طبق أقوی الملاکین . ومن المعلوم أنّ التعلّم أهم من

ص:408


1- (4) الکفایة 1 / 436 و 437 .
2- (5) کشف الریبة / 50 .
3- (6) شرح القواعد 1 / 225 .
4- (7) الجواهر 22 / 67 .
5- (1) الجواهر 22 / 67 .

ارتکاب الغیبة ، لأنّ ترک التعلّم ینجر إلی اضمحلال الدین ، وذکر هذا الاستدلال المحقق الخوئی فی مصباحه(1) .

الرابع : عدّة من الروایات الدالة علی جواز الاستفتاء لو استلزمت الغیبة :

منها : صحیحة عبد اللّه بن سنان عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : جاء رجلٌ إلی رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم فقال : إنّ اُمّی لا تدفع ید لامس ، فقال : فاحبسها ، قال : قد فعلت ، قال : فامنع من یدخل علیها ، قال : قد فعلت ، قال : قیّدها ، فإنّک لا تبرُّها بشیءٍ أفضل من أن تمنعها من محارم اللّه عزّ وجلّ(2) .

بتقریب : أنّ الرجل ذکر اُمّه واستغابها بذکر أنّها زانیة ، وسأل عن النبی أنّها هی الزانیة ، لأنّه یحتمل الفرق بین وظیفته بالنسبة إلی اُمّه وغیرها ، فالروایة تدلّ علی جواز الغیبة فی مقام الاستفتاء إذا توقفت علیها .

وأمّا الإشکال فی دلالتها بأنّ « من المحتمل کون اُمّ السائل کافرة ، ولا أصل یقتضی إسلامها ، ولا یعلم غلبة مسلمی المدینة حین السؤال حتّی یحکم بمقتضی الغلبة باسلامها» کما عن المؤسس الحائری(3) غیر تام

أولاً : بأنّ هذا الاحتمال خلاف ظاهر الصحیحة ، لاسیما مع ملاحظة التعلیل الوارد فی ذیلها .

وثانیاً : لا داعی للمسلم فی نهی الکافرة عن الزنا ، لأنّ الداعی إلی إسلامها أقوی من ذلک ، ولو کانت کافرة لابدّ أن یسأل ابنه عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم کیف یدعوها إلی الإسلام ثمّ کیف ینهیها عن الزنا ؟ !

وأمّا الإشکال فی دلالتها : فبأنّ الأم علی هذه الکیفیة الخاصة متجاهرة بالزنا ، فحینئذ تدخل فی الاستثناء الأوّل ، أعنی المتجاهر بالفسق . کما علیه المحققون الإیروانی(4)

ص:409


1- (2) مصباح الفقاهة 1 / 351 .
2- (3) وسائل الشیعة 28 / 150 ح 1 . الباب 48 من أبواب حد الزنا .
3- (4) المکاسب المحرمة / 229 لآیة اللّه الشیخ محمد علی الأراکی قدس سره .
4- (1) الحاشیة علی المکاسب 1 / 211 .

والخوئی(1) والأردکانی(2) غیر تام أیضاً ، لأنّ التجاهر بالزنا شیءٌ وعدم دفع ید لامس شیءٌ آخر ، بینهما عموم وخصوص من وجه .

وهکذا الإشکال علیها بأنّ المرأة لم تکن معروفة عند النبی صلی الله علیه و آله وسلم فیجوز غیبتها لعدم معروفیتها کما عن المحقق الخوئی(3) ، أیضاً لا یتمّ ، لأنّ العلم بعنوان اُمومة الرجل یستلزم التعیین ، وهذا المقدار من التعیین یکفی فی التعریف .

وبالجملة ، الاستدلال بالصحیحة تام عندنا ، فتدلّ علی جواز الغیبة فی الاستفتاء ، ولکن لا مطلقاً بل إذا توقف الاستفتاء علیها .

ومنها : مرسلة الأحسائی عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم فی جواب هند بنت عتبة إمرأة أبی سفیان الماضیة(4) .

وقد مرّ منّا الإشکال فی دلالتها وسندها .

ومنها : خبر محمد بن مسلم عن أبی جعفر علیه السلام قال : قضی أمیر المؤمنین علیه السلام فی امرأة زنت وشردت أن یربطها إمام المسلمین بالزوج کما یربط البعیر الشارد بالعقال(5) .

بتقریب : أنّ ثبوت الزنا والشرود - أی النفر والفرار من البیت - عند إمام المسلمین لا یتمّ إلاّ بغیبتها .

وفیه : أن فی سندها ضعف بعبد اللّه بن هلال ، وفی دلالتها أیضاً إشکال لإمکان ثبوتهما بالبیّنة الشرعیة الأربعة فی الأوّل والثانیة فی الثانی ، وإن کان هذا الثبوت خلاف ظاهرها ، وإلاّ یجب حدّ الزنا علیها .

وبالجملة ، یثبت بالوجوه الأربعة الماضیة جواز الغیبة إذا توقف الاستفتاء علیها ، واللّه سبحانه هو العالم .

ص:410


1- (2) مصباح الفقاهة 1 / 352 .
2- (3) غنیة الطالب 1 / 158 .
3- (4) مصباح الفقاهة 1 / 352 .
4- (5) عوالی اللآلی 1 / 438 ح 155 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 129 ح 4 .
5- (6) وسائل الشیعة 28 / 148 ح 1 . الباب 44 من أبواب حد الزنا .
الخامس : النهی عن المنکر

هل تجوز الغیبة عند النهی عن المنکر إذا توقف علیها ، أم لا ؟ وعلی الأوّل فیجب الوقیعة فی بعض العصاة حتّی یرتدعوا عن معصیتهم کما عن شرح القواعد(1) فحینئذ یجب الغیبة .

ولکن زاد صاحب الجواهر علی کلام اُستاده قدس سرهما : « ولکن ینبغی فی هذا أیضاً مراعاة المیزان ، إذ مع فرض کونه من التعارض بین الأدلة فهو من وجه کما هو واضح»(2) .

وکیف ما کان فقد استدلوا علی هذه الاستثناء بوجوه :

الأوّل : الغیبة هنا إحسان فی حقّ فاعل المنکر ، لأنّها وإن اشتملت علی إهانته وهتکه ولکن توجب نجاته من المهلکة الأبدیة والعذاب الاُخروی .

وفیه : أولاً : الدلیل هنا أخص مِن المدعی ، إذ ربّما لا یرتدع المغتاب بالفتح عن فعل المنکر ولم یترکه .

وثانیاً : الغیبة محرّمة علی المغتاب بالکسر ، ولا یجوز الإحسان بالأمر الحرام ، فهل یتوهم أحدٌ جواز الإحسان بالمال المغصوب أو المسروق ؟ ! وورد فی الآیة الشریفة : «إِنَّمَا یَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِینَ»(3) .

الثانی : عمومات أو إطلاقات أدلة وجوب النهی عن المنکر تشمل المقام فیجب .

وفیه : لا یجوز ردع المنکر بالمنکر لانصراف الأدلة عن ذلک ، وإلاّ جاز ردع الزناة بالزنا بأعراضهم وردع السراق بسرقة أموالهم ، ولم یتفوه به أحدٌ .

نعم ، فی موارد خاصة ثبت جواز دفع المنکر بالمنکر ، نحو جواز شتم المبدع والوقیعة فیه والبهت علیه ، بل وجوبها کما یدلّ علیه صحیحة داود بن سرحان(4) الماضیة فی بحث السبّ وأفتی بها الأصحاب قدس سرهم .

ص:411


1- (1) شرح القواعد 1 / 228 .
2- (2) الجواهر 22 / 69 .
3- (3) سورة المائدة / 27 .
4- (4) وسائل الشیعة 16 / 267 ح 1 . الباب 39 من ابواب الامر والنهی .

الثالث : المغتاب (بالفتح) إذا ترتب ترکه المنکر علی غیبته رضی بها ، وبعد رضایته فلا حرمة .

وفیه : أولاً : ثبوت رضایته محل تأمل بل منع .

وثانیاً : قد سبق فی الفرع الحادی عشر من فروع هذا البحث حرمة غیبة مَنْ رضی بغیبته ، لأنّ رضاه لا یرفع الحرمة التکلیفیة ، فراجع لتفصیله إلی هذا الفرع .

فحینئذ الأدلة قاصرة عن ثبوت جواز الغیبة إذا توقف علیها النهی عن المنکر . نعم فی موارد خاصة تجوز الغیبة ، وهی الموارد التی نعلم من الخارج بأنّ الردع عن المنکر وجب بأیِّ طریق کان ومِنْ أیّ شخص وقع ، وهذا لم یتفق إلاّ إذا کان المنکر من الاُمور الخطیرة ، نحو : قتل النفوس ، وهتک الأعراض المحترمة ، وأخذ الأموال الخطیرة وغیرها . ولعلّ هذا البیان هو مراد صاحب الجواهر فیما نقلناه عنه فی أول هذا البحث ، واللّه العالم .

السادس : ذکر المبتدعة

تجوز غیبة المبدع فی الدین الذی یخشی من إضلاله للناس ، ویجوز ذکرهم بالسوء وتصانیفهم ومناقضتهم حذراً من میل نفوس الناس إلیهم وظهور فسادهم فی العباد .

ذکر هذا الاستثناء جماعة من الأصحاب ، منهم : الشهید(1) وثانیه(2) والسبزواری(3) والمحدث البحرانی قال : « ومنهم الصوفیة»(4) والشیخ جعفر(5) وتلمیذاه السید العاملی(6) والشیخ النجفی(7) والشیخ الأعظم(8) والسید علی آل بحر العلوم(9) قدس سرهم .

ص:412


1- (1) القواعد والفوائد 2 / 151 و 147 قاعدة 206 .
2- (2) کشف الریبة / 50 ضمن : الرابع : تحذیر المسلم من الوقوع فی الخطر والشرّ .
3- (3) الکفایة 1 / 437 .
4- (4) الحدائق 18 / 164 .
5- (5) شرح القواعد 1 / 228 .
6- (6) مفتاح الکرامة 12 / 219 .
7- (7) الجواهر 22 / 68 .
8- (8) المکاسب المحرمة / 45 _ (1 / 353) .
9- (9) برهان الفقه . کتاب التجارة / 22 .

وتدلّ علیه صحیحة داود بن سرحان(1) وخبر أبی البختری(2) الماضیتان ، ومرفوعة محمد بن جمهور العمی قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إذا ظهرت البدع فی اُمتی فلیظهر العالم

علمه ، فمن لم یفعل فعلیه لعنة اللّه(3) .

ومرسلة السبزواری صاحب الکفایة حیث یقول : وفی الخبر : من کمال الدین الوقوع فی أهل الریبة(4) .

ومرسلة السید فضل اللّه الراوندی فی نوادره(5) الماضیة .

وغیرها من الروایات المذکورة فی مستدرک الوسائل 12 / (324 _ 317) . الباب 37 من أبواب الأمر والنهی وما یناسبها .

فلابدّ من الأخذ بها والإفتاء علی طبقها واللّه العالم .

السابع : جرح الشهود والرواة

قد اتفق الأصحاب قدس سرهم علی جواز اغتیاب الرواة بجرحهم وتضعیفهم حفظاً للدین ، صیانةً للشریعة ، ومن ثَمَّ وضع العلماء الکتب الرجالیة وقسّموا الرواة إلی الثقات والمجروحین ، وذکروا أسباب جرحهم غالباً من کون الروای کذّاباً أو وضّاعاً للحدیث ، وعلی ذلک جرت عادة السلف الصالح ولم ینکر علیهم أحدٌ . وبذلک یُعرف ترجیح الروایة بعدالة الراوی وخلافها ، وأعدلیته وخلافها وإلاّ لانسد باب التعادل والترجیح الذی هو من أعظم أبواب الإجتهاد .

وقد ورد عن الأئمة علیهم السلام ذم بعض الرواة من الکذّابین والغالّین وغیرهما من الفرق المنحرفة .

وقد اتفقوا علی جواز اغتیاب الشهود وجرحهم وإظهار فسقهم بل إقامة البیّنة علی ذلک صوناً لأموال الناس وأعراضهم وأنفسهم وحقوقهم ، وعلی ذلک دیدن الفقهاء والحکّام

ص:413


1- (10) وسائل الشیعة 16 / 267 ح 1 .
2- (11) وسائل الشیعة 12 / 289 ح 5 .
3- (1) وسائل الشیعة 16 / 269 ح 1 .
4- (2) الکفایة 1 / 437 .
5- (3) النوادر / 133 ح 171 ونقل عنه فی مستدرک الوسائل 9 / 128 ح 2 .

علی الناس والقضاة فی الأعصار والأمصار .

قد صرح بهذه الاستثناء أصحاب کشف الریبة(1) والکفایة(2) والحدائق(3) وشرح القواعد(4) ومفتاح الکرامة(5) والمستند(6) والجواهر(7) والمکاسب المحرمة(8) وقال فیها :

« الإجماع دل علی جوازه» وبرهان الفقه(9) .

الثامن : دفع الضرر عن المغتاب (بالفتح )

یجوز الاغتیاب لدفع الضرر عن المغتاب بالفتح فی دم أو عرض أو مال أو ضرر ، فحینئذٍ غیبته جائزة لدفع الاُمور المذکورة عنه ، وقد رضی المغتاب (بالفتح) بذلک ، ولأنّ دفع الضرر عنه أهم فی الشریعة المقدسة مِنْ ستر ما فیه من العیوب .

وقد استدلوا علی ذلک بما ورد عن الأئمة علیهم السلام فی الطعن فی بعض الثقات من الرواة ومشایخهم وفقهائهم حفظاً لهم وصیانة علیهم ، ویشهد علیه صحیحة عبد اللّه بن زرارة المرویة فی رجال الکشی عن الصادق علیه السلام أنّه قال له : إقرأ منّی علی والدک السلام وقل له : إنّی إنّما أعیبک دفاعاً منّی عنک ، الحدیث(10) .

ونحوها ممّا ورد فی طعن الهشامَیْن ابنی الحکم(11) وسالم(12) وغیرهم من ثقات الرواة .

ص:414


1- (4) کشف الریبة / 51 .
2- (5) الکفایة 1 / 438 .
3- (6) الحدائق 18 / 165 .
4- (7) شرح القواعد 1 / 226 .
5- (8) مفتاح الکرامة 12 / 218 .
6- (9) مستند الشیعة 14 / 168 .
7- (10) الجواهر 22 / 68 .
8- (11) المکاسب المحرمة / 45 الطبع الحجری _ (1 / 354) .
9- (1) برهان الفقه . کتاب التجارة / 22 الطبع الحجری .
10- (2) اختیار معرفة الرجال المعروف برجال الکشی / 138 الرقم 221 .
11- (3) اختیار معرفة الرجال المعروف برجال الکشی / 278 الرقم 496 و 497 و 498 و 499 .
12- (4) اختیار معرفة الرجال المعروف برجال الکشی / 284 الرقم 503 .

فإن شئت راجع رجال الکشی .

ولکن یمکن أن یناقش فی دلالتها : بأنه لیس فیهم عیب دینیٌ أو غیر دینیٌ لیکون ذکره غیبة ، فمقالة الإمام علیه السلام فی حقِّهم لیس من الغیبة ، بل ذمّهم الإمامُ علیه السلام وتبرأ منهم لحفظ دمائهم ودفع الأخطار عنهم . فقدح الإمام علیه السلام فی أمثالهم یدلّ علی رفعة شأنهم وعظم مقامهم عنده ، بحیث لا یرضی علیه السلام بضررهم وخوفهم والتعرض علیهم من جانب الأعداء والظالمین .

اللهم إلاّ أن یقال : إنّ الروایات تدلّ علی جواز التهمة والبهتان علیهم لوجود المصلحة وهی حفظهم من شر الأعداء والظالمین ، فإذا جاز الإفتراء والبُهت علیهم بطریق اُولی جاز اغتیابهم .

ومع ذلک کلّه هذا الاستثناء تام . ولعلّ أوّل مَنْ نبّه علیه صاحب الحدائق(1) ثمّ تبعه

أصحابنا منهم : الشیخ جعفر(2) وتلمیذاه(3) والشیخ الأعظم(4) والسید علی آل بحر العلوم(5) وغیرهم . قدس اللّه أسرارهم .

التاسع : من ادّعی نسباً لیس له

یجوز اغتیاب مَنْ ادعی نسباً لیس له إذا ترتب علیه أثر شرعی من المواریث والنفقات والأنکحة وغیرها لئلا تختل هذه الاُمور ، وأمّا إذا لم یترتب علی الدعوی أثر شرعیٌ بل ادعاه لصیانة نفسه أو عرضه أو ماله من الظالم فلا تجوز الغیبة بردّ هذه الدعوی .

العاشر : القدح فی مقالة باطلة

یجوز القدح فی مقالة باطلة ولو استلزم ذلک غیبة القائل ، لأنّ حفظ الحقِّ اُولی من احترام القائل . ومن هنا ظهر بأنَّ ذکر المناقشات العلمیّة وطرح آراء أصحاب النظر والردَّ علیهم فی جمیع العلوم الدینیّة والدنیویّة یجوز ولم یدخل فی حرمة الإغتیاب ، واللّه العالم .

ص:415


1- (5) الحدائق 18 / 167 .
2- (1) شرح القواعد 1 / 227 .
3- (2) مفتاح الکرامة 12 / 218 ، والجواهر 22 / 68 .
4- (3) المکاسب المحرمة / 45 الطبع الحجری _ (1 / 354) .
5- (4) برهان الفقه . کتاب التجارة / 22 الطبع الحجری .
الحادی عشر : تفضیل أرباب الفنون والعلماء

یجوز تفضیل بعض الصنّاع وأرباب الفنون والعلماء بعضهم علی البعض وإن استلزم انتقاص الآخر ، لتوقف الفرض الأهم علیه ، وعلی هذا دیدن الأصحاب فی تعیین الأعلم والمرجع .

الثانی عشر : ذکر العیب ثمّ تعقیبه بما یدلّ رفعه

یجوز ذکر المعایب والمناقص لشخص ثمّ تعقیبها بما یدلّ علی رفعها ورجوعه عنها وعود کماله ، کالنقل عن الحرِّ وأضرابه ، ولکن بشرط أن یکون هذا النقل موعظة لغیره ، وأمّا إذا کان موجباً لهتک المنقول فقط فالحرمة باقیّة بلا ریب .

الثالث عشر : ذکر عیوب المرأة

یجوز ذکر عیوب المرأة فی النکاح لئلا یترتب علیه التدلیس ، وکذا ذکر عیوب المملوک لإسقاط الخیار .

الرابع عشر : ذکر التابع والقریب تأدیباً لهم

یجوز ذکر عیوب أولاده وعیاله وأتباعه الملحقین به تأدیباً لهم وخوفاً علیهم من الوقوع فیما هو أعظم منه ، لأنّ الحکمة والمصلحة والسیرة تقتضی ذلک .

وغیر ذلک من الموارد التی ذکروها بعنوان الاستثناء ، فقد ذکر الشیخ جعفر قدس سره فی شرحه علی القواعد(1) سبعاً وعشرین مورداً . فراجعه إن شئت وإن کان بعض الموارد یخرج عن الغیبة موضوعاً لا حکماً .

وبالجملة ، فی کلِّ مورد کان للغیبة غرض صحیح یرجع إلی المغتاب بالکسر أو الفتح أو غیرهما ، وکان ذلک الغرض والمصلحة أهم من احترام المؤمن والستر علیه ، یؤخذ به ویحکم بجواز الغیبة فی ذلک المورد الخاص ، ولذا قال المحقق الثانی فی بحث الغیبة : « فأما ما کان لغرض صحیح فلا یحرم ، کنصیحة المستشیر والتظلم وسماعه و ... »(2) .

ص:416


1- (1) شرح القواعد 1 / (231 _ 223) .
2- (2) جامع المقاصد 4 / 27 .

فالمدار فی جواز الغیبة وجود مصلحة وغرض أهم من مصلحة حرمة المؤمن والستر علیه ، وعلی هذا النهج یمشی فی جمیع موارد التزاحم فی الواجبات والمحرّمات ، سواء کانت مِنْ حقوق اللّه تعالی أم مِنْ حقوق الناس . وهذه قاعدة مهمّة لا تحصی ثمراتها فی الفقه فاغتنمها ، واللّه سبحانه هو العالم . وهذا تمام الکلام فی المقام الرابع من البحث وهو مستثنیات الغیبة والحمد للّه أولاً وآخراً .

المقام الخامس : تضاعف عقاب المغتاب (بالکسر )

قد یتضاعف عقاب المغتاب بالکسر إذا کان ممّن یمدح المغتاب بالفتح فی حضوره ، لأنّه حینئذ یدخل فی کون الإنسان ذا لسانین ویُسمی منافقاً ویترتب علیه عقابه ، ویترتب علیه عقاب الغیبة أیضاً ، وربّما یترتب علیه عقاباً ثالثاً وهو عقاب الکذب إذا مدحه فی حضوره بما لیس فیه . وهذا واضح لا ریب فیه .

ولکن العمدة فی المقام أدلة حرمة کون الإنسان ذا لسانین ، أعنی لسان ذمٍّ فی الغیاب ولسان مدحٍ فی الحضور . وأمّا هذا المدح إن لم یکن فی الممدوح فصار کذباً ، وإنْ کان فیه إذا کان مسبوقاً أو ملحوقاً بالذمِّ یدخل المادح فی ذی لسانین ویترتب علیه حرمته وعقابه ، وتدلّ علی حرمته عدّة من الروایات المستفیضة :

منها : موثقة عمرو بن خالد عن زید بن علی عن آبائه علیهم السلام عن علی علیه السلام قال : قال

رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : یجیء یوم القیامة ذو الوجهین دالعاً لسانه فی قفاه وآخر من قدّامه ، یلتهبان ناراً حتّی یلهبا جسده ، ثمّ یقال له : هذا الذی کان فی الدنیا ذا وجهین ولسانین ، یُعرف بذلک یوم القیامة(1) .

دلع لسانه : أی أخرجه من فمه .

ومنها : خبر ابن أبی یعفور عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : مَنْ لقی المسلمین بوجهین ولسانین جاء یوم القیامة وله لسانان من نار(2) .

ص:417


1- (1) وسائل الشیعة 12 / 258 ح 5 . الباب 143 من أبواب أحکام العشرة .
2- (2) وسائل الشیعة 12 / 256 ح 1 .

ومنها : خبر الزهری عن أبی جعفر علیه السلام قال : بئس العبد یکون ذا وجهین وذا لسانین ، یطری أخاه شاهداً ویأکله غائباً ، إن اُعطی حسده ، وإن ابتلی خذله(1) .

وللعلامة المجلسی توضیح فی شرح هذین الحدیثین فراجع إن شئت مرآة العقول 10/353 .

ومنها : خبر أبی هریرة قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : إنّ شر الناس عند اللّه یوم القیامة ذو الوجهین(2) .

ومنها : خبر الصدوق بسنده المتصل إلی آخر خطبة خطبها النبی صلی الله علیه و آله وسلم بالمدینة وفیها : ... ومَنْ کان ذا وجهین وذا لسانین کان ذا وجیهن وذا لسانین یوم القیامة ، الحدیث(3) .

والروایات فی تحریم کون الإنسان ذا لسانین وذا وجهین فوق حدِّ الاستفاضة بل یمکن إدعاء تواترها إجمالاً ، فراجع فی هذا المجال إن شئت الکافی 2 / 343 والوافی 5 / 937 وبحار الأنوار 72 / 202 ووسائل الشیعة 12 / 256 ومستدرک الوسائل 9 / 69 وجامع أحادیث الشیعة 17 / 176 (من الطبعة الحدیثة) وکتابنا موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 4 / 74 .

ثمّ إنّ النسبة بین الغیبة وبین ذی اللسانین هی العموم من وجه ، فإنّه قد توجد الغیبة ولا یوجد ذو اللسانین ، وقد یوجد ذو اللسانین ولا توجد الغیبة ، کأن یمدح المقول فیه حضوراً ویذمّه بالسب والفحش والبهتان غیاباً ، وقد یجتمعان کما هو واضح .

فائدة : النسبة بین الغیبة والبهتان هی التباین ، لأنّه قد ذکرنا فی تعریف الغیبة أنّها

کشف ما ستره اللّه علی الأخ المؤمن ، وأمّا البهتان فکما سبق فی بعض الأخبار نحو معتبرة عبد الرحمن بن سیابة(4) وصحیحة یحیی بن عبد الرحمن الأزرق الأنصاری(5) « ذکرک أخاک بما لیس فیه » ، فهما متباینان مصداقاً ومفهوماً .

ص:418


1- (3) وسائل الشیعة 12 / 257 ح 2 .
2- (4) وسائل الشیعة 12 / 259 ح 6 .
3- (5) وسائل الشیعة 12 / 259 ح 8 .
4- (1) وسائل الشیعة 12 / 288 ح 2 .
5- (2) وسائل الشیعة 12 / 289 ح 3 .

فعلیه ما ورد فی خبر علقمة بن محمد عن الصادق علیه السلام من قوله : ومن اغتاب مؤمناً بما لیس فیه فقد انقطعت العصمة بینهما وکان المغتاب فی النار خالداً فیها وبئس المصیر(1) .

مع ضعف أسنادها یحمل علی ضرب من التجوز والمسامحة .

نعم ، بناءً علی مقالة بعض الأصحاب - ولعلّه هو المشهور - من أنّ الغیبة ذکرک أخاک بما یکرهه فیمکن اجتماع الغیبة والبهتان فی بعض الموارد ، فصارت النسبة بینهما عموماً وخصوصاً من الوجه .

والظاهر أن عقاب التهمة والبهتان أشد من عقاب الغیبة ، لاشتمالهما علی الفریة والهتک معاً .

هذا تمام الکلام فی بحث الغیبة ، ثم إنّ الشیخ الأعظم الأنصاری قدس سره فی خاتمة هذا المبحث تعرض لحقوق الإخوان فإنّا نتبع أثره ، فنقول :

ص:419


1- (3) وسائل الشیعة 12 / 285 ح 20 .

خاتمة : حقوق الإخوان

اشارة

قبل أن أذکر لک حقوقهم یحسن تعریف الاُخوّة ، فقد قال اللّه تعالی : «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَیْنَ أَخَوَیْکُمْ»(1) وقد وردت فی الروایات المستفیضة بأنّ المؤمن أخو المؤمن(2) ، والمراد بها هو الإشتراک فی الإنتساب إلی أبٍ واحدٍ روحانی ، وهو صاحب الشریعة المقدسة صلی الله علیه و آله وسلم کما نبّه علیه المحقق الإیروانی(3) . بل هو مع صاحب الولایة وهو أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب علیه السلام وأحد عشر من اُولاده المعصومین علیهم السلام ، کما ورد فی الحدیث الصحیح عن النبی صلی الله علیه و آله وسلم : « أنا وعلیٌّ أبوا هذه الاُمّة»(4) .

فعلی هذا جمیع المؤمنین یکونون إخوة .

وأمّا حقوقهم :

قد وردت فی عدّة من الروایات :

منها : رسالة الحقوق للإمام زین العابدین علی بن الحسین السجاد علیه السلام المذکورة مرسلاً فی تحف العقول(5) المشتملة علی خمسین حقّاً ، ورواها الصدوق مع اختلاف بسند

ص: 420


1- (1) سورة الحجرات / 10 .
2- (2) راجع کتابی ألف حدیث فی المؤمن / الحدیث 178 و 179 و 182 و 963 .
3- (3) الحاشیة علی المکاسب 1 / 216 .
4- (4) رواها الصدوق بسنده الموثق فی ثلاثة من کتبه : عیون أخبار الرضا علیه السلام 2 / 85 ح 29 ومعانی الأخبار / 52 ح 3 وعلل الشرائع 1 / 127 ح 2 ، وبسنده فی أمالیه . المجلس الرابع ح 6 / 65 الرقم 30 ، ورواها أیضاً بسند صحیح ابن شاذان القمی أستاد الکراجکی فی مائة منقبة (المناقب) / 46 المنقبة الثانیة والعشرون _ ورواها أیضاً السروی فی المناقب 2 / 300 وغیرهم فی غیرها .
5- (5) تحف العقول / (272 _ 255) .

ضعیف فی الخصال(1) ، ورواها مختصراً بسند حَسَنٍ فی الفقیه(2) .

ولکن لهذه الرسالة الشریفة سنداً صحیحاً ذکره النجاشی فی ترجمة أبی حمزة الثمالی ، قال : « وله رسالة الحقوق عن علی بن الحسین علیهماالسلام أخبرنا أحمد بن علی قال : حدثنا الحسن بن حمزة قال : حدثنا علی بن ابراهیم عن أبیه عن محمد بن الفضیل عن أبی حمزة عن علی بن

الحسین علیه السلام »(3) .

فعلی ما ذکرنا صارت رسالة الحقوق صحیحة الإسناد ، ونبّه علی تصحیح سندها المحدث النوری(4) قدس سره ، وحیث کانت مفصلة فعلیک بمراجعتها .

ومنها : صحیحة مرازم عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : ما عُبد اللّه بشیءٍ أفضل من أداء حقّ المؤمن(5) .

والروایة تدلّ علی أنّ أداء حقوق المؤمن من المستحباب الأکیدة التی لها ثواب عظیم .

ومنها : صحیحة أبی المَغْراء حمید بن المثنی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : المسلم أخو المسلم لا یظلمه ولا یخذله ولا یخونه ، ویحقّ علی المسلمین الاجتهاد فی التواصل والتعاون علی التعاطف ، والمواساة لأهل الحاجة ، وتعاطف بعضهم علی بعض حتّی تکونوا کما أمرکم اللّه عزّ وجلّ رحماء بینکم متراحمین مغتمّین لما غاب عنکم من أمرهم علی ما مضی علیه معشر الأنصار علی عهد رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم (6) .

ومنها : معتبرة بل صحیحة إبراهیم بن عمر الیمانی عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : حقّ المسلم علی المسلم : أن لا یشبع ویجوع أخوه ، ولا یروی ویعطش أخوه ، ولا یکتسی ویعری أخوه ، فما أعظم حقّ المسلم علی أخیه المسلم . وقال : أحبّ لأخیک المسلم ما تحبّ لنفسک ،

ص:421


1- (6) الخصال 2 / (570 _ 564) .
2- (7) الفقیه 2 / (626 _ 618) الرقم 3214 .
3- (1) رجال النجاشی / 84 من الطبعة الحجریة (115 الرقم 296 من طبعة جماعة المدرسین) .
4- (2) مستدرک الوسائل 11 / 169 .
5- (3) وسائل الشیعة 12 / 203 ح 1 . الباب 122 من أبواب أحکام العشرة .
6- (4) وسائل الشیعة 12 / 203 ح 2 .

وإن احتجت فسله ، وإن سألک فأعطه ، لا تملّه خیراً ، ولا یملّه لک ، کن له ظهراً فإنّه لک ظهرٌ ، إذا غاب فاحفظه فی غیبته ، وإذا شهد فزره وأجلّه وأکرمه فإنّه منک وأنت منه ، وإن کان علیک عاتباً فلا تفارقه حتّی تسلّ سخیمته ، وإن أصابه خیر فاحمد اللّه ، وإن ابتلی فاعضده ، وإن تمحّل له(1) فأعنه ، وإذا قال الرجل لأخیه : « اُف » انقطع ما بینهما من الولایة ، وإذا قال له : « أنت عدوّی » کفر أحدهما ، فإذا اتّهمه إنماث الإیمان فی قلبه کما ینماث(2) الملح فی الماء . وقال : بلغنی أنّه قال : إنّ المؤمن لیزهر نوره لأهل السماء کما تزهر نجوم السماء لأهل الأرض . وقال : إنّ المؤمن ولیُّ اللّه یعینه ویصنع له ، ولا یقول علیه إلاّ الحقّ ولا یخاف غیره(3) .

قال الفیض : « ولعلّ المراد بقوله لا تمله خیراً ولا یمل لک : لا تسأمه مِنْ جهة إکثارک الخیر له ولا یسأم هو من جهة إکثاره الخیر لک ، یقال : مللته ومللت منه : إذا سأمه . والسّلُّ : انتزاعک الشیء وإخراجه فی رفق کالإسلال . والسخیمة : الحقد . تمحل له : أی کید ، یقال رجل محلّ أی ذو کید ، ومحلّ بفلان : إذا سعی به إلی السلطان ، والِمحال بالکسر : الکید»(4) .

ومنها : موثقة علی بن عقبة عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : للمسلم علی المسلم من الحقِّ أن یسلّم علیه إذا لقیه ، ویعوده إذا مرض ، وینصح له إذا غاب ، ویسمّته إذا عطس ، ویجیبه إذا دعاه ، ویتبعه إذا مات(5) .

ومنها : معتبرة مسعدة بن صدقة عن الصادق علیه السلام قال : قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : للمؤمن علی المؤمن سبعة حقوق واجبة من اللّه عزّ وجلّ : الإجلال له فی غیبته ، والودّ له فی صدره ، والمواساة له فی ماله ، وأن یحرم غیبته ، وأن یعوده فی مرضه ، وأن یشیّع جنازته ، وأن لا یقول فیه بعد موته إلاّ خیراً(6) .

ص:422


1- (5) تمحّل له : کید .
2- (6) ینماث : یذاب .
3- (7) الکافی 2 / 170 ح 5 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 12 / 206 ح 8 .
4- (1) الوافی 5 / 560 .
5- (2) وسائل الشیعة 12 / 270 ح 9 .
6- (3) وسائل الشیعة 12 / 208 ح 13 .

ومنها : صحیحة عبد اللّه بن مسکان عن أبی جعفر علیه السلام أنّه قال : أحبّ أخاک المسلم وأحبّ له ما تحبّ لنفسک ، واکره له ما تکره لنفسک ، إذا احتجت فسله وإذا سألک فاعطه ، ولا تدّخر عنه خیراً فإنّه لا یدّخر عنک ، کن له ظهراً فإنّه لک ظهر ، إن غاب فاحفظه فی غیبته ، وإن شهد فزره وأجلّه وأکرمه ، فإنّه منک وأنت منه ، وإن کان علیک عاتباً فلا تفارقه حتّی تسلّ سخیمته وما فی نفسه ، فإذا أصابه خیر فاحمد اللّه ، وإن ابتلی فاعضده وتمحّل له(1) .

السخیمة : الضغینة ، یقال : سللتُ سخیمتَهُ باللطف والترضی ، جمعها سَخَائِم .

ومنها : معتبرة مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد علیه السلام عن أبیه علیه السلام : أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم أمرهم بسبع ونهاهم عن سبع : أمرهم بعیادة المرضی واتّباع الجنائز وإبرار القسم وتسمیت العاطس ونصر المظلوم وإفشاء السلام وإجابة الداعی ، ونهاهم عن التختم بالذهب والشرب فی آنیة الذهب والفضة وعن المیاثر(2) الحمر وعن لباس الإستبرق والحریر والقَزّ والاُرجوان(3) .

ومنها : صحیحة عیسی بن أبی منصور قال : کنت عند أبی عبد اللّه علیه السلام أنا وابن أبی یعفور وعبد اللّه بن طلحة ، فقال ابتداءً منه : یا ابن أبی یعفور ، قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم : ست خصال مَنْ کنَّ فیه کان بین یدی اللّه تعالی وعن یمین اللّه تعالی . فقال ابن أبی یعفور : وما هی جعلت فداک ؟ قال : یحبّ المرء المسلم لأخیه ما یحبّ لأعزّ أهله علیه ، ویکره المرء المسلم لأخیه ما یکره لأعزّ أهله علیه ، ویناصحه الولایة . فبکی ابن أبی یعفور وقال : کیف یناصحه الولایة ؟ قال : یا ابن أبی یعفور ، إذا کان منه بتلک المنزلة بثّه همّه ، ففرح لفرحه إن هو فرح وحزن لحزنه إن هو حَزِن ، وإن کان عنده ما یفرّج عنه فرّج عنه وإلاّ دعا اللّه له . قال : ثمّ قال أبو عبد اللّه علیه السلام : ثلاث لکم وثلاث لنا : أن تعرفوا فضلنا وأن تطأوا عقبنا وأن تنتظروا عاقبتنا ، فمن کان هکذا کان بین یدی اللّه تعالی ، فیستضیء بنورهم من هو أسفل منهم . وأمّا

ص:423


1- (4) وسائل الشیعة 12 / 210 ح 19 .
2- (5) المیاثر : جمع میثرة ، وهی ما یوضع علی ظهر الفرس لیحول بین الفارس وظهر الفرس . والمیاثر الحمراء من مراکب العجم ، وهی من دیباج أو حریر . (الصحاح 2 / 844) .
3- (6) قرب الإسناد / 71 ح 228 ونقل عنه صدرها فی وسائل الشیعة 12 / 213 ح 25 .

الذین عن یمین اللّه فلو أنّهم یراهم مَنْ دونهم لم یهنأهم العیش ممّا یرون مِنْ فضلهم . فقال ابن أبی یعفور : ما لهم لا یرون وهم عن یمین اللّه ؟ فقال : یا ابن أبی یعفور إنّهم محجوبون بنور اللّه ، أما بلغک الحدیث أنّ رسول اللّه صلی الله علیه و آله وسلم کان یقول : إنّ للّه خلقاً عن یمین العرش بین یدی اللّه وعن یمین اللّه تعالی وجوههم أبیض من الثلج وأضوء من الشمس الضاحیة ، یسأل السائل ما هؤلاء ؟ فیقال : هؤلاء الذین تحابّوا فی جلال اللّه(1) .

وللفیض بیانٌ بذیل هذا الحدیث فراجعه إن شئت . وقال العلامة المجلسی : « ومناصحة الولایة : خلوص المحبّة عن الغش والعمل بمقتضاها ... . الثلاث الأول : الحبّ والکراهة والمناصحة ، وقیل : الفرح والحزن والتفریج ، ولا یخفی بُعده . ثمّ بیّن علیه السلام الثلاث الذی لهم علیهم السلام بقوله :

_ أن « تعرفوا فضلنا » أی علی سائر الخلق بالإمامة والعصمة ووجوب الطاعة ، ونعمتنا علیکم بالهدایة والتعلیم والنجاة من النار واللحقوق بالأبرار .

_ و« أن تطؤوا عقبنا » أی تتابعونا فی الأقوال والأفعال ولا تخالفونا فی شیءٍ .

_ و« أن تنتظروا عاقبتنا » أی ظهور قائمنا وعود الدولة إلینا فی الدنیا ، أو الأعم منها ومن الآخرة کما قال : اللّه تعالی : «وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِینَ»(2)»(3) .

ومنها : خبر معلی بن خنیس عن أبی عبد اللّه علیه السلام قال : قلت له : ما حقّ المسلم علی المسلم ؟ قال : له سبع حقوق واجبات ما منهنّ حقٌ إلاّ وهو علیه واجب ، إنْ ضیّع منها شیئاً خرج من ولایة اللّه وطاعته ولم یکن للّه فیه من نصیب . قلت له : جعلت فداک وما هی ؟ قال : یا معلّی إنّی علیک شفیق أخاف أن تضیّع ولا تحفظ ، وتعلم ولا تعمل . قال : قلت له : لا قوة إلاّ باللّه ، قال :

أیسر حقِّ منها أن تحبَّ له ما تحبُّ لنفسک وتکره له ما تکره لنفسک .

والحقّ الثانی : أن تجتنب سخطه وتتّبع مرضاته وتطیع أمره .

ص:424


1- (1) الکافی 2 / 172 ح 9 ونقل عنه فی الوافی 5 / 562 ح 11 .
2- (2) سورة القصص / 83 .
3- (3) مرآة العقول 9 / 42 .

والحقّ الثالث : أن تعینه بنفسک ومالک ولسانک ویدک ورجلک .

والحقّ الرابع : أن تکون عینه ودلیله ومرآته .

والحقّ الخامس : [ أن ] لا تشبع ویجوع ، ولا تروی ویظمأ ، ولا تلبس ویعری .

والحقّ السادس : أن یکون لک خادمٌ ولیس لأخیک خادمٌ فواجب أن تبعث خادمک فیغسل ثیابه ویصنع طعامه ویمهّد فراشه .

والحقّ السابع : أن تبرّ قَسَمه وتجیب دعوته وتعود مریضه وتشهد جنازته ، وإذا علمت أنّ له حاجة تبادر إلی قضائها ولا تلجئه أن یسألکها ولکن تبادره مبادرة ، فإذا فعلت ذلک وصلتْ ولایتک بولایته وولایته بولایتک(1) .

سند الروایة ضعیف بعبد اللّه بن بکیر الهَجَری ، لأنّه مهمل ولیس له فی الکتب الأربعة إلاّ هذه الروایة فقط ، ولکن یمکن الحکم باعتباره بسند الشیخ الطوسی فی أمالیه . المجلس الرابع ح 3 / 98 الرقم 149 ، ورجال سنده کلّهم ثقات إلاّ محمد بن الفیض . وعلی فرض أنّه التِّیْمی تِیْم الرباب حسّنه العلامة المجلسی فی ذکر طریق الصدوق إلیه(2) ، ویروی عنه ابن أبی عمیر فی الصحیح(3) ، فهو من مشایخه وعلی القول بوثاقة مشایخ ابن أبی عمیر فهو یدخل فی الثقات .

وعلی ما ذکرنا تدخل الروایة فی الروایات الحسان . والمراد بإبرار قسمه : قبوله .

وتلک عشرة کاملة من الروایات المعتبرة فی حقوق الإخوان وإن شئت أکثر من هذا فراجع الکافی 2 / 169 والوافی 5 / 557 وبحار الأنوار 71 / 221 ووسائل الشیعة 12/203

ومستدرک الوسائل 9 / 39 وکتابَیَّ موسوعة أحادیث أهل البیت علیهم السلام 1 / 166 وألف حدیث فی المؤمن / 173 .

ثمّ فلیعلم : بأن ظهور هذه الروایات فی الاستحباب واضحٌ ، وحیث لا یمکن للمؤمن الإتیان بجمیع هذه الحقوق بالنسبة إلی جمیع إخوانه المؤمنین ، فیقع التزاحم فی مرحلة

ص:425


1- (1) الکافی 2 / 169 ح 2 ونقل عنه فی وسائل الشیعة 12 / 205 ح 7 .
2- (2) الوجیزة / 246 الرقم 322 .
3- (3) الموسوعة الرجالیة المیسرة / 445 الرقم 5724 ینقله عن الوحید البهبهانی قدس سره .

الامتثال ، فیؤتی بالأهم فالأهم کما یظهر من المحقق الخوئی(1) وشیخنا الاُستاذ(2) _ مدظله _ .

ویمکن أن یقال : بتخصیص هذه الروایات بالمؤمن العارف بهذه الحقوق المؤدّی ، لها وأمّا المؤمن المضیّع لها فلم یرد تأکد استحبابها فی حقّه ، لأنّ التهاتر کما یقع فی الأموال یقع فی الحقوق المستحبة أیضاً ، کما یظهر من الشیخ الأعظم(3) .

ویمکن أن یُستدل له : بما رواه الرضی مرسلاً عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : مَنْ قضی حَقَّ مَنْ لا یقضی حَقَّهُ فَقَدْ عَبَدَهُ(4) .

وبالنبوی : لا خیر فی صحبة من لا یری لک من الحقِّ مثل ما تری له(5) .

وأمّا استدلال الشیخ الأعظم بما ذکر من الروایات فیتم مع ملاحظة هذه القرینة ، وهی :

للأخ علی الأخ حقوق ، فإذا قام بها صدق فی إداء الاُخوة ، فصار صدیقاً ویدخل فی عنوان الصداقة ، وأمّا إذا لم یقم لها ولا یصدق فی أدائه فلا یکون صدیقاً ویدخل فی الإخوان المکاشرة(6) ، وورد ذکرهم بأنّ : « ما هؤلاء بإخوة»(7) أو « ما هذا لک بأخٍ»(8) ونحوها .

وعلی هذا الأخ الصدیق فی أدائه لحقوق الاُخوة هو الذی قام بوظائفها ، علی المؤمن أن یؤدی حقوقها . وأمّا الأخ الذی یدعی الاُخوة فقط ولم یقم بوظائفها ، فلم یؤکّد استحباب القیام بحقوقها .

والحاصل ، رحجان القیام بأداء الحقوق بالنسبة إلی الجمیع مطلق غیر مقید بقیام

ص: 426


1- (1) مصباح الفقاهة 1 / 368 .
2- (2) ارشاد الطالب 1 / 213 .
3- (3) المکاسب المحرمة 1 / 366 طبع مجمع الفکر الإسلامی .
4- (4) نهج البلاغة . الحکمة 164 .
5- (5) نهج الفصاحة / 522 ح 2493 _ ونقل عنه بعض أساتیذنا _ مدظله _ فی رسالته فی الحقوق / 111 .
6- (6) راجع وسائل الشیعة 12 / 13 ح 1 . الباب 3 من أبواب أحکام العشرة .
7- (7) وسائل الشیعة 12 / 26 ح 1 . الباب 14 من أبواب أحکام العشرة .
8- (8) وسائل الشیعة 12 / 27 ح 3 .

الآخر ، ولکن عدم قیام الآخر بأداء الحقوق بعد قیام هذا رافع لشدّة الرجحان ولتأکّد رجحانها . کما نبّه علیه المحقق الإیروانی(1) فی الجملة . واللّه سبحانه هو العالم .

إلی هنا إنتهی بحث الحقوق إجمالاً وللتفصیل مقام آخر . والحمد للّه أولاً وآخراً . وقد فرغنا من تدریسه فی النصف من ذی القعدة الحرام عام 1425 فی الحوزة العلمیة بإصبهان بمدرسة الصدر ، وأنا العبد هادی النجفی مصنف هذا الکتاب الشریف .

ص: 427


1- (1) الحاشیة علی المکاسب 1 / 216 .

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.