معرفه الله دراسه تحليليه في المعرفه العقليه والمعرفه الفطريه والفرق بينهما

اشارة

سرشناسه:علم الهدي، محمدباقر، 1331 - 1388.

عنوان و نام پديدآور:معرفه اللهدراسه تحليليه في المعرفه العقليه والمعرفه الفطريه والفرق بينهما/ تقريرا لمحاضرات محمدباقر علم الهدي؛ [مقرر] علي الرضوي.

مشخصات نشر:مشهد : منشورات الولايه، 1393.

مشخصات ظاهري:441 ص.

فروست:سلسله الدروس المعارفيه

شابك:978-964-6172-68-5

وضعيت فهرست نويسي:فاپا

يادداشت:عربي.

يادداشت:كتابنامه: ص. [437]- 442.

موضوع:خداشناسي (اسلام)

موضوع:شناخت (فلسفه اسلامي)

موضوع:الهيات

شناسه افزوده:رضوي، سيدعلي، 1352 -

رده بندي كنگره:BP217/8/ع77م6 1393

رده بندي ديويي:297/42

شماره كتابشناسي ملي:3615889

ص: 1

اشاره

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 2

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى عَلِيِّ بْنِ مُوسَى الرِّضَا الْمُرْتَضَى الْإِمَامِ التَّقِيِّ النَّقِيِ وَ حُجَّتِكَ عَلَى مَنْ فَوْقَ الْأَرْضِ وَ مَنْ تَحْتَ الثَّرَى الصِّدِّيقِ الشَّهِيدِ صَلاَةً كَثِيرَةً تَامَّةً زَاكِيَةً مُتَوَاصِلَةً مُتَوَاتِرَةً مُتَرَادِفَةً كَأَفْضَلِ مَا صَلَّيْتَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَوْلِيَائِكَ.

ص: 3

سلسلة الدروس المعارفيّة

معرفة اللّه

دراسة تحليليّة في المعرفة العقليّة والمعرفة الفطريّة والفرق بينهما

تقريراً لمحاضرات العلّامة الأستاذ الشيخ محمّدباقر علم الهدى

السيّد عليّ الرضويّ

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم

«اُدْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ»

يعد العلم والمعرفة أفضل وأكبر الثعم الإلهية المهداة لعباد الله الصالحين لأنه بالعلم يعينهم الله على عبوديته وبه يخضعون له، كما يعد ذلك من اكبر النعم التي بها يفتخرون في حياتهم الدنيا.

والعلماء الربانيون والعرفاء الإلهيون هم من يستضيئون بهدى الانبياء والأئمة إلي ولا يشعرون بالتعب أو الملل أبدأ في سلوك هذا الطريق. طريق العلم والعمل، ويتجبون الطرق الأخرى التي لا تنتهي بهم إلى نيل معارف الأئمة ال .

تهدف هذه المؤسسة التي تأسست بدافع إحیاء آثار هذه الثلة المخلصة التي تحملت على عاتقها مهمة الدفاع عن المعارف الوحيانية والعلوم الإلهية الأصيلة - إلى نشر هذا الفكر عبر الوسائل العصرية المتاحة ومن الله التوفيق.

عالم آل محمد

موسسه عالم آل محمد علیهم السلام للعارفیة

Info@alemalemohammad.com

ص: 5

اللَّهُمَّ کُنْ لِوَلِیِّکَ الحُجَهِ بنِ الحَسَن. صَلَواتُکَ علَیهِ و عَلی آبائِهِ فِی هَذِهِ السَّاعَهِ وَ فِی کُلِّ سَاعَهٍ وَلِیّاً وَ حَافِظاً وَ قَائِداً وَ نَاصِراً وَ دَلِیلًا وَ عَیْناًحَتَّى تُسْکِنَهُ أَرْضَکَ طَوْعاً وَ تُمَتعَهُ فِیهَا طَوِیلا

ص: 6

المقدّمة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه ربّ العالمين، وصلّى اللّه على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين، لا سيّما بقيّة اللّه في الأرضين الإمام الحجّة بن الحسن، فداه أرواح العالمين، واللعن الدائم على أعدائهم أبد الآبدين.

أمّا بعد، فهذه الأبحاث المرقومة مستوحاة من بيانات شيخنا الأستاذ العلّامة الشيخ محمّد باقر علم الهدى حفظه اللّه تعالى ورعاه الذي عكف نفسه غائصاً في بحار أنوار الأئمّة الأطهار:.

ولابدّ من ذكر أنّ أصل هذه الأبحاث كانت على ضوء كتاب «تنبيهات حول المبدأ والمعاد» لآية اللّه الميرزا حسن عليّ المرواريد1 ولنا أن نعبّر عن أبحاثه ب-«خارج التنبيهات» لبيانه حفظه اللّه كلّ شيء بالتفصيل. ثمّ استمرّت الحلقات الدراسيّة - حتى بعد إتمام الكتاب - مع شيخنا الأستاذ فكان مثالاً للمعلّم الحريص على تعليم تلميذه وتربيته، يأخذ بيد طالب العلم ويوصله إلى شاطئ المعرفة بحيث إن أخطأ الطالب لم ييئسه من المثابرة في تحصيل مقصوده، وإن أصاب شجّعه في السير. وقلّما يكون الأستاذ مربّيا، فللّه تعالى درّه وعليه أجره.

ولابدّ أن أنوّه بأنّ هذا الكتاب يحتوي - في مضامينه وصفحاته - على بعض ما

ص: 7

استفدته من بيانات سيّدنا الأستاذ آية اللّه السيّد عليّ رضا القدوسيّ ، وكذا إفادات شيخنا الأستاذ الميرزا جلال المرواريد حفظه اللّه تعالى ورعاه، فجزاهما اللّه تعالى خير الجزاء.

وفي الختام، أرجو من اللّه تعالى أن يتقبّل هذا الجهد المتواضع بأحسن القبول، ويجعلنا من أنصار الإمام الحجّة بن الحسن، روحي فداه، وأنصار دين جدّه.

عليّ الرضويّ

مشهد المقدّسة

1429 من المهجرة النبويّة الشريفة

ص: 8

المدخل

لا يخفى أنّ معرفة اللّه تعالى أصل كلّ معرفة، فلا تنفع المعارف من دونها إذ هي الأساس والأصل فلا يمكن الالتفات إلى أيّة معرفة من دون عرفان اللّه تعالى كما ورد في خطبة أميرالمؤمنين(ع):

* أوّل الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف وشهادة كلّ موصوف أنّه غيرالصفة .(1)

وقريب من ذلك ما ورد في التوحيد في رسالة الإمام الرضا(ع):

* أوّل الديانة معرفته، وكمال المعرفة توحيده، وكمال التوحيد نفي الصفات عنه لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف وشهادة الموصوف أنّه غير الصفة وشهادتهما جميعاً على أنفسهما بالبيّنة الممتنع منها الأزل .(2)

وقد ورد عن سيّدالشهداء(ع) ما ينبئ عن أهميّة المعرفة فلاحظ:

* في كنز الفوائد مسنداً عن مسلمة بن عطاء عن أبي عبداللّه الإمام الصادق(ع) قال: خرج الحسين بن عليّ ذات يوم على أصحابه فقال بعد الحمد للّه جلّ وعزّ والصلاة على محمّد رسوله(ص):

يا أيّها النّاس إنّ اللّه ما خلق العباد إلّا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته من سواه.

ص: 9


1- الإحتجاج: 1/199؛ بحارالأنوار : 4/247 ح5.
2- التوحيد للصدوق: 57 ح14؛ بحارالأنوار : 4/284 ح17.

فقال له رجل:بأبي أنت وأمّي يا ابن رسول اللّه ما معرفة الله؟

قال: معرفة أهل كلّ زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته .(1)

والظاهر أنّ المراد من قوله(ع): «فقال له رجل: بأبي أنت وأمّي يا ابن رسول اللّه ما معرفة الله؟ قال: معرفة أهل كلّ زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته» هو أنّ التذكّر به تعالى بكمالاته لا يمكن إلّا عبر تذكير الأنبياء وأوصيائهم، ولذا نرى أنّ التارك لسبيلهم لا يتمكّن من معرفة اللّه تعالى فلاحظ الخبر الآتي:

* عن الإحتجاج روي أنّ بعض أحبار اليهود جاء إلى أبي بكر فقال له: أنت خليفة رسول اللّه على الأمّة؟

فقال: نعم.

فقال: إنّا نجد في التوراة أنّ خلفاء الأنبياء أعلم أممهم، فخبّرني عن اللّه أين هو في السماء هو أم في الأرض؟

فقال له أبوبكر: في السماء على العرش.

قال اليهوديّ: فأرى الأرض خالية منه، فأراه على هذا القول في مكان دون مكان.

فقال له أبوبكر: هذا كلام الزنادقة، أعزب عنّي وإلّا قتلتك.

فولّى الرجل متعجّباً يستهزئ بالإسلام فاستقبله أميرالمؤمنين(ع) فقال له: يا يهوديّ، قد عرفت ما سألت عنه وما أجبت به، وإنّا نقول: إنّ اللّه عزّوجلّ أيّن الأين فلا أين له وجلّ من أن يحويه مكان وهو في كلّ مكان بغير مماسة ولا مجاورة، يحيط علماً بما فيها ولا يخلو شيء من تدبيره تعالى، وإنّي مخبرك بما جاء في كتاب من كتبكم يصدق بما ذكرته لك، فإن عرفته أتؤمن به؟

قال اليهوديّ: نعم.

قال: ألستم تجدون في بعض كتبكم أنّ موسى بن عمران كان ذات يوم جالساً إذ جاءه ملك من المشرق فقال له: من أين جئت؟ قال: من عند اللّه عزّوجلّ. ثمّ جاءه ملك من

ص: 10


1- كنز الفوائد : 1/328؛ بحارالأنوار: 5/312 ح1.

المغرب فقال له: من أين جئت؟ قال: من عند اللّه عزّوجلّ. ثمّ جاءه ملك آخر فقال له: من أين جئت؟ قال: قد جئتك من السماء السابعة من عند اللّه عزّوجلّ. وجاءه ملك آخر فقال: من أين جئت؟قال: قد جئتك من الأرض السابعة السفلى من عند اللّه عزّوجلّ. فقال موسى(ع): سبحان من لا يخلو منه مكان ولا يكون إلى مكان أقرب من مكان.

فقال اليهوديّ: أشهد أنّ هذا هو الحقّ المبين وأنّك أحقّ بمقام نبيّك ممّن استولى عليه .(1)

فأنت ترى أنّ أبابكر أخفق في معرفة أمّ المعارف وأصلها لتركه باب العلم وهو أميرالمؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب(ع) فإنّ الناس وإن كانوا عارفين باللّه تعالى بتعريفه كما دلّ عليه قوله تعالى: (فِطْرَةَ اللّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه)


1- الإحتجاج: 1/309؛ بحارالأنوار : 3/309 ح2.

(1) وقوله(ص): «كلّ مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهوّدانه وينصّرانه»(2) إلّا أنّهم لا يستغنون عن تذكير الأنبياء: وأوصيائهم كما بيّن ذلك مولى الموحّدين(ع) بقوله: «فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسيّ نعمته، ويحتجّوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ويروهم آيات المقدرة من سقف فوقهم مرفوع ومهاد تحتهم موضوع ومعايش تحييهم وآجال تفنيهم وأوصاب تهرمهم وأحداث تتتابع عليهم» .(3)

وقال(ع) في نهج البلاغة أيضاً: «فبعث محمّداً(ص) بالحقّ ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته، ومن طاعة الشيطان إلى طاعته بقرآن قد بيّنه وأحكمه ليعلم العباد ربّهم إذ جهلوه، وليقرّوا به إذ جحدوه، وليثبتوه بعد إذ أنكروه، فتجلّى سبحانه لهم في كتابه من غير أن يكونوا رأوه بما أراهم من قدرته وخوّفهم من سطوته، كيف محق من محق بالمثلات واحتصد من احتصد بالنقمات» .(4)

ص: 11


1- الروم : 30.
2- بحارالأنوار : 3/281 ح22.
3- نهج البلاغة: 43 الخطبة الأولى؛ بحارالأنوار : 11/60 ح70.
4- نهج البلاغة: 204 الخطبة 147؛ بحارالأنوار : 18/221 ح55.

وروى الصدوق مسنداً عن إسحاق بن غالب عن أبي عبداللّه عن أبيه قال، قال رسول الله(ص): «وابتعث فيهم النبيّين... وليعقل العباد عن ربّهم ما جهلوه فيعرفوه بربوبيّته بعد ما أنكروا ويوحّدوه بالإلهيّة بعد ما عضدوا» .(1)

وفي كتاب سليم بن قيس عن أبان بن أبي عياش عنه عن سلمان وأبي ذر والمقداد عن رسول الله(ص): «يا عليّ ما عُرف اللّه إلّا بي ثمّ بك، من جحد ولايتك جحد اللّه ربوبيّته» .(2)

وروى الكليني عن عدّة من أصحابنا عن الهيثم بن واقد عن مقرِّن قال سمعت أبا عبدالله(ع) يقول: جاء ابن الكوّاء إلى أميرالمؤمنين(ع) فقال أميرالمؤمنين(ع): «... إنّ اللّه - تبارك وتعالى - لو شاء لعرّف العباد نفسه ولكن جعلنا أبوابه وصراطه وسبيله والوجه الذي يؤتى منه فمن عدل عن ولايتنا أو فضّل علينا غيرنا فإنّهم عن الصراط لناكبون» .(3)

وروى الكليني أيضاً عن عدّة من أصحابنا عن بريد العجلي قال: سمعت أبا جعفر(ع) يقول: «بنا عُبد اللّه وبنا عُرف اللّه وبنا وُحّد اللّه تبارك وتعالى» .(4)

وروى أيضاً عن عدّة من أصحابنا عن أبي بصير عن أبي عبدالله(ع): «الأوصياء هم أبواب اللّه التي يؤتى منها ولولاهم ما عُرف الله» .(5)

وفي بصائر الدرجات عن عدّة من أصحابنا عن عليّ بن جعفر عن أخيه(ع): «إنّ اللّه خلقنا فأحسن خلقنا وصوّرنا فأحسن صورنا فجعلنا خُزّانه في سماواته وأرضه ولولانا ما عُرف الله» .(6)

ص: 12


1- التوحيد للصدوق: 44 ح4؛ بحارالأنوار: 4/288 ح19.
2- كتاب سليم: 2/853 ح41؛ بحارالأنوار: 22/148 ح141 عن كتاب سليم.
3- الكافي: 1/184 ح9؛ بصائر الدرجات: 1/497 ح8.
4- الكافي: 1/145 ح10؛ بحارالأنوار: 23/102 ح8.
5- الكافي: 1/193 ح2.
6- بصائر الدرجات: 1/105 ح9؛ بحارالأنوار: 26/107 ح10.

ومن هنا يتبيّن لك أنّ الموحّدين هم من انتحل مسلك الأنبياء وأوصيائهم:، وحذى حذوهم فليس كلّ من ادّعى المعرفة والتوحيد يكون عارفاً، ولذا لا تكون الأخبار الدالّة على مقامات الموحّدين شاملة لكلّ من يدّعي المعرفة بل تختصّ بسالكي طريق الأنبياء وأوصيائهم:، فتأمّل مليّاً.

* روى الصدوق في التوحيد عن عدّة من أصحابنا عن ابن عباس قال: قال رسول الله(ص): والذي بعثني بالحقّ بشيراً لا يعذّب اللّه بالنار موحّداً أبداً، وإنّ أهل التوحيد ليشفعون فيشفّعون. ثمّ قال(ص): إنّه إذا كان يوم القيامة، أمر اللّه تبارك وتعالى بقوم ساءت أعمالهم في دار الدنيا إلى النار، فيقولون: يا ربّنا كيف تدخلنا النار وقد كنّا نوحّدك في دار الدنيا وكيف تحرق بالنار ألسنتنا وقد نطقت بتوحيدك في دار الدنيا وكيف تحرق قلوبنا وقد عقدت على أن لا إله إلّا أنت أم كيف تحرق وجوهنا وقد عفرناها لك في التراب أم كيف تحرق أيدينا وقد رفعناها بالدعاءإليك؟!

فيقول اللّه جلّ جلاله: عبادي ساءت أعمالكم في دار الدنيا فجزاؤكم نار جهنّم.

فيقولون: يا ربّنا عفوك أعظم أم خطيئتنا؟

فيقول تبارك وتعالى: بل عفوي.

فيقولون: رحمتك أوسع أم ذنوبنا؟

فيقول عزّ وجلّ: بل رحمتي.

فيقولون: إقرارنا بتوحيدك أعظم أم ذنوبنا؟

فيقول تعالى: بل إقراركم بتوحيدي أعظم.

فيقولون: يا ربّنا فليسعنا عفوك ورحمتك التي وسعت كلّ شيء.

فيقول اللّه جلّ جلاله: ملائكتي وعزّتي وجلالي، ما خلقت خلقاً أحبّ إليّ من المقرّين بتوحيدي وأن لا إله غيري وحقّ عليّ أن لا أصلي أهل توحيدي أدخلوا عبادي الجنّة .(1)

* في البحار عن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمّد عن

ص: 13


1- التوحيد للصدوق: 29 ح31؛ بحارالأنوار : 3/2 ح1.

آبائه عن عليّ(ع) في قول اللّه عزّ وجلّ: (هَلْ جَزاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسان)(1) قال: سمعت رسول الله(ص) يقول: إنّ اللّه عزّوجلّ قال: ما جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلّا الجنّة .(2)

* روى الطوسيّ في الأمالي عن جماعة عن محمّد بن عليّ بن الحسن بن زيد عن الرّضا عن آبائه: قال: قال رسول الله(ص): التوحيد ثمن الجنة؛ الخبر .(3)

ثمّ إنّ ممّا ينبغي الإشارة اليه هو أنّ المعرفة هي محور تعالي الدرجات، فمن زادت معرفته ارتقت درجته فلاحظ:

* عن ابن أبي عمير رفعه إلى أحدهم: أنّه قال: بعضكم أكثرصلاة من بعض وبعضكم أكثر حجاً من بعض وبعضكم أكثر صدقة من بعض وأفضلكم أفضلكم معرفة .(4)

إذا عرفت ذلك نقول: إنّ لمعرفة اللّه تعالى طريقين:

الأوّل: العقل.

الثاني: الفطرة.

ولابدّ من بيان المعرفتين بالتفصيل كي لا يلتبس الأمر على طالب العلم، كما أنّه لابدّ من بيان وجوه الفرق بين المعرفتين ووجوه اشتراكهما.

منهج البحث في الكتاب:

ثمّ إنّ الإمام أميرالمؤمنين(ع) بيّن طريق معرفة اللّه تعالى وأنّه القرآن الكريم فلاحظ:

* عن مَسْعَدة عن جعفر بن محمّد عن أبيه أنّ رجلاً قال لأميرالمؤمنين(ع): هل تصف ربّنا نزداد له حبّاً وبه معرفة؟ فغضب وخطب الناس. فقال فيما قال: عليك يا عبداللّه بما

ص: 14


1- الرحمن: 60.
2- التوحيد للصدوق: 28 ح29؛ بحارالأنوار : 3/3 ح2.
3- الأمالي: 57 ح4؛ بحارالأنوار: 3/3 ح3.
4- صفات الشيعة: 15 ح28؛ بحارالأنوار : 3/14 ح38.

دلّك عليه القرآن من صفته وتقدّسك فيه الرسول من معرفته فائْتَمَّ به واستضئ بنور هدايته، فإنّما هي نعمة وحكمة أوتيتها فخذ ما أوتيت وكن من الشاكرين وما كلّفك الشيطان علمه ممّا ليس عليك في الكتاب فرضه ولا في سنّة الرسول وأئمّة الهداة أثره فكل علمه إلى اللّه ولا تقدّر عليه عظمة الله، واعلم يا عبداللّه أنّ الراسخين في العلم هم الذين أغناهم اللّه عن الاقتحام على السدد المضروبة دون الغيوب إقراراً بجهل ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب فقالوا آمنّا به كلّ من عند ربّنا، وقد مدح اللّه اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً، وسمّى تركهم التعمّق فيما لم يكلّفهم البحث عن كنهه رسوخاً .(1)

* وفي نهج البلاغة عنه(ع): واعلموا أنّه ليس من شيء إلّا يكاد صاحبه يشبع منه ويملّه إلّا الحياة فإنّه لا يجد في الموت راحة، وإنّما ذلك بمنزلة الحكمة التي هي حياة للقلب الميّت، وبصر للعين العمياء، وسمع للأذن الصمّاء، وريّ للظمآن، وفيها الغنى كلّه والسلامة، كتاب اللّه تبصرون به، وتسمعون به، وينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض، ولا يختلف في الله، ولا يخالف بصاحبه عن الله .(2)

ولذا سعينا أن تكون أبحاثنا في إطار المنهاج الذي بيّنه(ع) لنكون على الصراط المستقيم والطريق القويم وهو وليّ التوفيق.

ص: 15


1- بحارالأنوار : 3/257 ح1؛ تفسير العياشي: 1/163 ح5.
2- نهج البلاغة: 192 الخطبة 133؛ بحارالأنوار : 89/22 ح23.

الفصل الأوّل: المعرفة العقليّة

الباب الأوّل: معني المعرفة العقليّة إجمالاً

ص: 16

قال اللّه تعالى: (وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) .(1)

وفي الدعاء عن رسول الله(ص): يا من في السماء عظمته، يا من في الأرض آياته، يا من في كلّ شي ء دلائله، يا من في البحار عجائبه، يا من في الجبال خزائنه، يا من يبدأ الخلق ثمّ يعيده، يا من إليه يرجع الأمر كلّه، يا من أظهر في كلّ شي ء لطفه، يا من أحسن كلّ شي ء خلقه، يا من تصرّف في الخلائق قدرته .(2)

نصيب العاقل وحظّه من عقله في معرفة اللّه تعالى هو المعرفة بثبوت الكمالات من العلم والقدرة له ومعرفته متعاليا عن شبه الخلق.

أفاد شيخنا الأستاذ آية اللّه الميرزا حسن عليّ المرواريد1 بأنّ نصيب العاقل وحظّه من عقله في معرفة اللّه تعالى أمران:

أحدهما: المعرفة بحقانيّته وثبوته تعالى شأنه بما له من الكمالات من الحياة والعلم والقدرة في مقابل النفي لثبوته تعالى أو التعطيل لأحد كمالاته.

ثانيهما: معرفته تعالى متعاليا عن الشبه لخلقه ومباينا لهم بالبينونة الصفتيّة ولذلك

ص: 17


1- الرعد : 4.
2- البلد الأمين: 407.

يحكم العاقل بما له من نور العقل بامتناع دركه تعالى بالحواسّ الظاهرة والعقول والأفهام وتوهّم القلوب، وعليه لا يكون طريق معرفته بالتفكّر في ذاته تعالى وكمالاته.

والشاهد على ذلك كلّه هو الحجّة الباطنيّة التي ترجع حجّية جميع الحجج إليها. فمن تنبّه عبر تذكيرات الأنبياء: إلى نور العقل، يجد الأمرين بوضوح وإليك نصّ عبارته1:

نصيب العاقل وحظّه من عقله في باب معرفة اللّه تعالى بحكم هذه الحجّة الباطنة وتنبيه الحجج الظاهرة أمران:

أحدهما: المعرفة والاعتقاد بوجوده وثبوته تعالى شأنه بما له من الحياة والعلم والقدرة وغيرها من الكمالات، في مقابل النفي لوجوده تعالى أو لإحدى تلك الكمالات. وهذا معنى خروجه عن حدّ التعطيل والنفي، وهذا أوّل درجة المعرفة به.

ثانيهما: معرفة أنّه تعالى لا يشبه شيئا من المخلوقين، وأنّه مباين لهم في جميع أوصافهم ومنزّه عنها. ومن شؤون معرفة الأمر الثاني المعرفة بأنّه تعالى لا يدرك بالحواسّ الظاهرة والباطنة وبالعقول والعلوم والأفهام وتوهّم القلوب.

وهذا معنى خروجه عن حدّ التشبيه، فلذلك لا يجوز - بحكم العقل - التفكّر ف-ي ذاته، ولا التكلّم فيه بتوصيفه إلّا بما وصف به نفسه، ولا تسميته إلّا بما سمّي به نفسه .(1)

ولابدّ لنا من توضيح كلام شيخنا الأستاذ1 فنقول: لا يخفى دلالة الأثر على المؤثّر والآية على ذيها، فإنّ العاقل يحكم بلزوم وجود ذي الآية عند رؤيته للآية فلا ينبغي للعاقل مكابرة عقله بإنكار هذه البديهة الأوليّة وهل يشكّ عاقل عند رؤية بناء مشيّد بوجود البنّاء؟ وهل يرتاب اللبيب عند رؤيته للجناية بثبوت فاعل لها؟ كلّ ذلك لأنّ الأثر والآية تنادي بأعلى صوتها بوجود المؤثّر وذي الآية.

الفرق بين الآثار الدالّة علي المؤثّر و الآيات التكوينيّة الدالّة علي الخالق المتعال:

ص: 18


1- تنبيهات حول المبدأ والمعاد : 37.

نعم هناك فرق شاسع بين الآيات التكوينيّة الدالّة على خالقها وبين الآثار الطبيعيّة الدالّة على مؤثّرها وهو أنّ الآثار الطبيعيّة - كجناية الجاني وبناية البنّاء - تنتهي علاقتها مع صاحبها عند انتهاء الفعل، فالبناية لا تحتاج إلى وجود الفاعل بعد انتهائها. فلو مات البنّاء بعد البناء ومزّق كلّ ممزّق، لا تتأثّر البناية بذلك سلباً وكذا الأمر بالنسبة إلى الجناية فإنّ العلاقة بين الجاني والمجنيّ عليه تنقطع بعد الجناية فلا تكون هناك علاقة بينهما إلّا بمقدار دلالة الفعل على الفاعل، ولكن علاقة الآية التكوينيّة بخالقها تبقى ما دامت الآية موجودة لافتقارها إلى الخالق لحظة بلحظة وآناً فآناً، ذلك أنّ العاقل يرى افتقار الخلائق إلى الصانع بدءً ودواماً فمن كان وجوده رهناً لإرادة مولاه، لا يثبت له كيان إلّا بمشيّة الخالق المتعال.

إذا عرفت ذلك يتّضح لك وجه الاشتراك بين دلالة الآية التكوينيّة على ذيها مع دلالة الفعل على الفاعل مطلقا وهو الدلالة على ضرورة الفاعل عند رؤية الفعل - لحكم العقل بامتناع حدوث فعل من دون فاعل وآية من دون ذيها -، كما أنّه يتّضح لك وجه الافتراق بينهما - وهو احتياج الآية إلى الخالق المتعال لحظة بلحظة لأنّه قيّومها وبه كونها فبقاؤها مرتهن بإرادة مولاها، وكيانها معقود على مشيّة باريها ولذا تكون دلالتها على مولاها أتمّ وأشدّ من دلالة الفعل الطبيعي على فاعله -.

وممّا يتّضح للعاقل عند التأمّل في الآيات حياة الخالق المتعال إذ كيف يعقل أن يثبت للكائنات كيان وحياة ويكون كيانهم متوقّفاً على مشيّة الخالق لحظة بلحظة ومع ذلك يكون الخالق ميّتاً؟!

وممّا يتّضح للعاقل أيضاً هو أنّ الخالق لهذه الآيات لا يمكن أن يكون جاهلاً بل لابدّ له من العلم إذ كيف يعقل أن يخلق هذه الخلائق بهذه الدقّة من دون علم وحكمة؟ ففي الآيات دلالة على علم البارئ القدّوس.

ص: 19

وممّا يتّضح أيضاً هو حكمة الخالق تعالى، فإنّ في الآيات آثار الحكمة الإلهيّة فكيف يعقل أن يكون الفعل حكيماً مع فقدان فاعله للحكمة؟

وممّا يتّضح أيضاً ثبوت القدرة للخالق المتعال، فهل يعقل أن يخلق جميع هذه الكائنات صغيرها وكبيرها وحيوانها ونباتها وبرّيها وبحريها وعاقلها وجاهلها من دون قدرة؟

فلنشرع ببيان هذه الأمور مستمدّين العون من اللّه تعالى ومن أوليائه:.

الباب الثاني: الآيات الآفاقيّة

ص: 20

أمّا دلالة الآيات الآفاقيّة على الخالق المتعال:

قال اللّه تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ والْأَرْضِ واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهارِ والْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وما أَنْزَلَ اللّه مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وتَصْرِيفِ الرِّياحِ والسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ والْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) .(1)

* قال الإمام العسكري(ع): ل-مّا توعّد رسول اللّه(ص) اليهود والنواصب في جحد النبوّة والخلافة قال مردة اليهود وعتاة النواصب: من هذا الذي ينصر محمّداً وعليّاً على أعدائهما. فأنزل اللّه عزّوجلّ: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ والْأَرْضِ) بلا عمد من تحتها ولا علاقة من فوقها تحبسها من الوقوع عليكم.

وأنتم يا أيها العباد والإماء أسرائي وفي قبضي، الأرض من تحتكم لا منجى لكم منها إن هربتم والسماء من فوقكم، ولا محيص لكم عنها إن ذهبتم فإن شئت أهلكتكم بهذه، وإن شئت أهلكتكم بتلك. ثمّ ما في السماوات من الشمس المنيرة في نهاركم لتنتشروا في معايشكم، ومن القمر المضيء لكم في ليلكم لتبصروا في ظلماته وإلجاؤكم بالاستراحة بالظلمة إلى ترك مواصلة الكدّ الذي ينهك أبدانكم، (واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهارِ) المتتابعين الكادّين عليكم بالعجائب التي يحدثها ربّكم في عالمه من إسعاد وإشقاء وإعزاز وإذلال وإغناء وإفقار وصيف وشتاء وخريف وربيع وخصب وقحط وخوف وأمن، (والْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) التي جعلها اللّه مطاياكم لا تهدأ ليلاً ولا نهاراً ولا تقتضيكم

ص: 21


1- البقرة : 146.

علفاً ولا ماء، وكفاكم بالرياح مئونة تسيرها بقواكم التي كانت لا تقوم بها لو ركدت عنها الرياح لتمام مصالحكم ومنافعكم وبلوغ الحوائج لأنفسكم، (وما أَنْزَلَ اللّه مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ) وابلاً وهطلاً ورذاذاً لا ينزل عليكم دفعة واحدة فيغرقكم ويهلك معايشكم، لكنّه ينزل متفرقاً من علا حتى تعمّ الأوهاد والتلال والتلاع (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) فيخرج نباتها وثمارها وحبوبها، (وبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) منها ما هو لأكلكم ومعايشكم ومنها سباع ضارية حافظة عليكم لأنعامكم لئلّا تشذّ عليكم خوفاً من افتراسها لها، (وتَصْرِيفِ الرِّياحِ) المربية لحبوبكم المبلغة لثماركم النافية لركد الهواء والإقتار عنكم، (والسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ والْأَرْضِ) يحمل أمطارها ويجري بإذن اللّه ويصبها من حيث يؤمر (لَآياتٍ) دلائل واضحات (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يتفكّرون بعقولهم أنّ من هذه العجائب من آثار قدرته قادر على نصرة محمّد وعليّ وآلهما: على من يشاء . (1)

أقول: الإمام(ع) وإن كان في مقام بيان قدرة اللّه تعالى على نصر أنبيائه وأوليائه:، إلّا أنّه فسّر أيضاً الآية المباركة الدالّة على الخالق المتعال، فلابدّ من بيان دلالة الآية المباركة.

يستفاد من الآية المباركة أنّ هذه السماء العالية المرفوعة بلا عمد ولا علاقة من فوقها تمسكها، لدليل وآية على خالقها عند من له عقل يمكنه الإستنارة به.

* في نهج البلاغة عن أميرالمؤمنين(ع) في خطبة له: بل ظهر للعقول بما أرانا من علامات التدبير المتقن والقضاء المبرم. فمن شواهد خلقه؛ خلق السماوات موطدات بلا عمد قائمات بلا سند، دعاهنّ فأجبن طائعات مذعنات غير متلكّئات ولا مبطئات، ولولا إقرارهنّ له بالربوبيّة وإذعانهنّ بالطواعيّة لما جعلهنّ موضعاً لعرشه ولا مسكناً لملائكته ولا مصعداً للكلم الطيّب والعمل الصالح من خلقه؛ الخطبة .(2)

ص: 22


1- بحارالأنوار : 3/54 ح26.
2- نهج البلاغة: 262 الخطبة 182؛ بحارالأنوار : 4/313 ح40.

* وقال الإمام الصادق(ع): فنظرت العين إلى خلق مختلف متّصل بعضه ببعض، ودلّها القلب على أن لذلك خالقاً وذلك أنّه فكّر حيث دلّته العين على أن ما عاينت من عظم السماء وارتفاعها في الهواء بغير عمد ولا دعامة تمسكها وأنها لا تتأخر فتنكشط(1) ولا تتقدم فتزول ، ولا تهبط مرة فتدنوا ولا ترتفع فلا ترى .(2)

فماذا كان سيحصل لو كانت الأجرام السماويّة مرفوعة بأعمدة كما في سائر الأبنية؟ ألم تكن السماء تفقد نضارتها وجمالها؟ وكم عمود كان يجب أن يوتد في الأرض ليحفظ الفاصلة المبتغاة بينها وبين الشمس؟ وكم عمود كان ينبغي أن يستخدم لإبقاء نظام مجرّة درب اللُبانة؟ وكم عمود كان يجب أن يعمل لاستقرار العلاقة الموجودة بين المجرّات؟ وكم عمود كان من الضروريّ أن يغرس لحفظ السماء الأولى من انطباق السماء الثانية عليها وهكذا الى السماء السابعة؟ فماذا كان سيحصل لو كانت هيئة العالم كذلك؟ ألم يكن العالَم حينئذ شبيها بحبّات العنب المتّصلة بعنقودها لا يمكن لها أن تتنفّس لشدّة اتصال بعضها ببغض؟

ألا يستوجب ما نراه من رفع السماء بلا عَمَدٍ معرفة رافعه تعالى ومعرفة علمه وحكمته وقدرته؟

و لذا تكون السماوات والأرض من آيات اللّه تعالى.

قال اللّه تعالى: (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) .(3)

وقال تعالى: (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) .(4)

ص: 23


1- انكشط: انقطع.
2- نور الثقلين: 2/481.
3- الشورى : 29.
4- الروم : 22.

لا يقال: إنّ الذي يحفظ الفواصل بين الكرات هو قوّة مسمّاة بالقوّة الجاذبيّة.

لأنّه يقال: من ذا الذي أودع هذه القوّة في الكرات والمجرّات والسماوات؟ المودع لها ليس إلّا الخالق العالم الحكيم القادر.

وأمّا الحكمة في جريان الليل والنهار هي الإنتشار في النهار لطلب المعيشة والرزق والإستراحة في ظلم الليل كي لا ينهك الإنسان نفسه ويأخذ قسطاً من الراحة.

ثمّ إنّ الليل لا يكون ظلمة لا نور فيها دائماً بل أناره اللّه تعالى بالقمر المنير كي لا يكون حالك الظلام.

فماذا كان سيحصل لو كانت الكرة الأرضية مستنيرة دائماً؟ ألم تمت الحياة حينئذ لاحتراقها بالشمس التي تصخّها؟ ألم يكن الإنسان ينهك نفسه بالعمل دائماً؟

وماذا كان سيحصل لو انعكس الأمر فبقيت الكرة الأرضية ليلاً بلا نهار؟ ألم تمت الحياة فيها برداً؟ ألم يذهب بهجتها ورونقها؟

قال اللّه تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللّه عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللّه يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللّه عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللّه يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ * ومِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ والنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ولِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) .(1)

وقال تعالى: (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهارِ وما خَلَقَ اللّه فِي السَّماواتِ والْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) .(2)

وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ والنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) .(3)

ص: 24


1- القصص : 71 - 73.
2- يونس : 6.
3- يونس : 67.

أليس هذا من فعل حكيم عليم رحيم أن جعل لنا الليل والنهار دائبين كي نستفيد من النهار لمعاشنا ونستفيد من الليل لراحتنا؟

ثمّ إنّ الإمام(ع) نبّه إلى أنّ الليل والنهار لا يكونان متساويين دائماً بل تعرض عليهما حالات وعوارض كالفصول الأربعة والقحط والخصب، كما أنّ الإنسان يعرض عليه في طيّ الليالي والأيّام الأمن والخوف والعزّة والذلّة والغنى والفقر وكلّ ذلك يدلّ على الفعل العمديّ من الفاعل الحكيم القدير.

ثمّ إنّ الإمام(ع) فصّل الآية تفصيلاً مباركاً ببيان نعمة الفلك الجارية في البحار بإذن اللّه تعالى إذ لولا الرياح لما كانت لتجري كذلك، فأجراها اللّه تعالى وكفانا مؤونة إجرائها بالقوّة، والعجيب أنّ هذه الرياح لا تتلاشى ليلاً ولا نهاراً.

قال اللّه تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللّه لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) .(1)

وقال تعالى: (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) .(2)

هذا وقد بيّن(ع) مدى احتياجنا إلى المطر فينزله اللّه تعالى وابلاً ورذاذاً وطلّاً ويخرج به الثمار والحبوب فماذا كان سيحصل لو أنزله دفعة واحدة؟ ألم نكن من الغارقين حينئذ؟ ألم تهلك المعيشة؟

وماذا لو كان المطر أجاجاً؟ ألم يكن يقتل الزرع بدل أن يحيه؟

قال اللّه تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ) (3).

وماذا لو كان كلّ زرع يحتاج الى نوع خاصّ من الماء؟ أفهل كنّا سنحصل على هذه الألوان من الفواكه والبقل؟

ص: 25


1- لقمان : 31.
2- الشورى : 32.
3- الواقعة : 70 - 68.

قال اللّه تعالى: (وفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وزَرْعٌ ونَخِيلٌ صِنْوانٌ وغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ ونُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) .(1)

فمع أنّ الماء واحد والأرض واحدة إلّا أنّ الثمرة أشكال مختلفة وألوان باسقة وقد فُضّل بعضها على بعض! وكيف كانت معيشتنا لتكون إذا ل-م تنبت الأرض - بسبب وحدة ال-ماء ووحدة الأرض - إلّا نوعاً واحداً من الثمار؟ أليس ذلك دليلاً على الخالق الرحيم بعباده العالم باحتياجاتهم العارف بلطائف الأمور؟

ثمّ إنّ من آيات اللّه تعالى العجيبات هو قبول الأرض للماء والحياة، فلو كانت السماء ماطرة ولكن كانت الأرض غير قابلة للماء لما حييت بعد أن كانت ميّتة.

قال اللّه تعالى: (ومِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ ورَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .(2)

ثمّ منّ علينا الإمام(ع) مرّة أخرى وبيّن أهمّية الدوابّ للإنسان حتى السباع منها فإنّه لولاها لما هابت الأنعام الفرار من أصحابها ولكنّها ل-مّا رأت السباع هابتها فبقيت في يد الإنسان.

ثمّ أشار(ع) إلى أهمّية الرياح فإنّه لولاها لما تربّت الحبوب ولبقي الهواء راكداً.

وأخيراً نبّه إلى حكمة الغيوم والغياث وكيف أنّها تحمل الماء من مكان إلى الآخر ولا تهطل إلّا بإذن اللّه تعالى. ثمّ بيّن أنّ الإنسان العاقل لو رأى هذه الآيات وتدبّر فيها لأيقن بقدرة اللّه تعالى على نصرة أوليائه:.

قال اللّه تعالى: (ومِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ ولِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ولِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ ولِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) .(3)

ص: 26


1- الرعد : 4.
2- فصّلت : 39.
3- الروم : 46.

وقال تعالى: (ومِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وطَمَعاً ويُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) .(1)

وقال تعالى: (واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهارِ وما أَنْزَلَ اللّه مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (2).

وقال تعالى: (وهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً ومِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ والزَّيْتُونَ والرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ ويَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (3).

يا تُرى ماذا كان سيحصل لو كانت السماء رتقاً غير مفتوقة؟

ألم تمت الأرض البعيدة عن المياه لتعسّر وصول الماء إليها؟

ألم يستلزم ذلك العسر والحرج في معيشة الإنسان؟

ألم يستوجب ذلك الاستيطان حول الأنهار فقط؟

ألم يستلزم ذلك الحرب والقتال وسفك الدماء للوصول إلى الماء العذب؟

فلولا هذه الغياث التي ليست هي إلّا غوثاً للمجتمع البشريّ، لكان البشر بأمسّ الحاجة إلى العيش قرب الأنهار وهو عسر عسير.

أنت ترى كيف تشير هذه الآيات إلى الحيّ القيّوم بدلالة العقل ذلك أنّه حاكم على ضرورة الخالق الحكيم الحيّ القادر عند رؤية هذه الآيات الباهرات.

أفهل يشكّ عاقل مستنير بنور عقله بدلالة هذه الآيات على ذيها؟

وهل يُعقل أن يكون كلّ ذلك متكوّناً من تلقاء نفسه ومن دون مدبّر عليم حكيم قدير؟

ص: 27


1- الروم : 24.
2- الجاثية : 5.
3- . الأنعام : 99.

* عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدّه عليّ بن الحسين عن أبيه عن أميرالمؤمنين(ع) أنّ رسول الله(ص) أتاه ناس من أياد، فقال لهم: ويحكم! ما فعل قسّ بن ساعدة؟

قالوا: مات يا رسول الله.

فقال(ص): ما أحد كان من أهل الجاهليّة كان أحبّ إليّ أن ألقاه منه لشيء سمعته منه في سوق، وأنا مع عمّي أبي طالب غلام، سمعته والناس حوله، وهو يقول: أيّها الناس، إنّي قد بلغت سنّاً، فاسمعوا مقالتي: أرى سماءً مبنيّةً، وأرى شمساً مَضحيّةً، وأرى قمراً بدريّاً، وأرى نجوماً تسري، وأرى جبالاً مَرسيّةً، وأرى أرضاً مَدحُوّةً، وأرى ليلاً ونهاراً ومطراً وشتاءً وصيفاً ونباتاً، وأرى مَن مات لا يرجع، فلا أدري رَضوا فقاموا، أم سخطوا فناموا! أمّا بعد؛ فإنّ لهذه الأشياء ربّاً يدبّرُها ل-من عقل في اختلاف هذه الأشياء .(1)

* وعنه(ع) في دعائه بعد صلاة الليل: أشهد أنّ السماوات والأرض وما بينهما آيات تدل عليك، وشواهد تشهد بما إليه دعوت. كلّ ما يؤدى عنك الحجّة ويشهد لك بالربوبيّة، موسوم بآثار نعمتك ومعالم تدبيرك. علوت بها عن خلقك. فأوصلت إلى القلوب من معرفتك ما آنسها من وحشة الفكر، وكفاها رجم الاحتجاج، فهي مع معرفتها بك، وولهها إليك، شاهدة بإنّك لا تأخذك الأوهام، ولا تدركك العقول ولا الأبصار .(2)

الباب الثالث: الآيات الأنفسيّة

ص: 28


1- الجعفريات: 174، موسوعة العقائد: 3/118.
2- شرح النهج: 20/275، موسوعة العقائد: 3/120.

قال اللّه تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً ومِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ ولِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى ولَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) .(1)

* روى محمّد بن سنان قال حدّثنا المفضل بن عمر قال الإمام الصادق(ع) في حديث المفضّل: أوّل ذلك تصوير الجنين في الرحم حيث لا تراه عين ولا تناله يد ويدبّره حتى يخرج سويّاً مستوفياً جميع ما فيه قوامه وصلاحه من الأحشاء والجوارح والعوامل إلى ما في تركيب أعضائه من العظام واللحم والشحم والمخّ والعصب والعروق والغضاريف. فإذا خرج إلى العالم، تراه كيف ينمي بجميع أعضائه وهو ثابت على شكل وهيئة لا تتزايد ولا تنقص إلى أن يبلغ أشدّه إن مدّ في عمره أو يستوفي مدّته قبل ذلك. هل هذا إلّا من لطيف التدبير والحكمة؟ الخبر .(2)

هذا الخبر الشريف يشير إلى تصوير اللّه تعالى الجنين في رحم أمّه. فمع أنّ أفضل الرسّامين لا يُجيد تصوير الأشياء في الظلام، إلّا أنّ اللّه تعالى صوّر الجنين حينما كان في ظلمات ثلاث في رحم أمّه لا تمسّه يد جاعل غير الخلّاق العليم كما قال تعالى: (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ)(3) فهل يُعقل أن تكون صورة الوليد المملوءة

ص: 29


1- غافر : 67.
2- بحارالأنوار : 3/68 ح1
3- آل عمران : 6.

بالبراءة مصوَّرة من دون مصوِّر؟

وهل يُعقل أن يكون المصوّر للجنين جاهلاً لا علم له بفنّ التصوير؟

وهل يُعقل أن يكون عاجزاً لا يقدر على شيء؟

كلّا وألف كلّا، فإنّه لا يعقل أن يكون هذا التصوير الرائع غاية الروعة من دون مصوّر عليم حكيم يعلم أين يضع عين الجنين ويجمّلهما بالرمش والحاجب وأين يجعل أنفه وفي أيّ موضع يرسم فمه حتى حينما يخرج لا يكاد للعقلاء الناظرين إليه أن يقولوا شيئاً سوى (تَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) .(ع)(1)

فلاحظ ما بيّنه الإمام الصادق(ع) في الحكمة من الجفن.

وروى محمّد بن سنان قال حدّثنا المفضل بن عُمر... قال الإمام الصادق(ع): تأمّل يا مفضّل الجفن على العين كيف جعل كالغشاء والأشفار كالأشراج وأولجها في هذا الغار وأظلّها بالحجاب وما عليه من الشعر؛ الخبر .(2)

وقال(ع): انظر الآن يا مفضّل إلى هذه الحواسّ التي خصّ بها الإنسان في خلقه وشُرّف بها على غيره، كيف جعلت العينان في الرأس كالمصابيح فوق المنارة ليتمكّن من مطالعة الأشياء ولم تجعل في الأعضاء التي تحتهن كاليدين والرجلين فتعرضها الآفات وتصيبها من مباشرة العمل والحركة ما يعلّلها ويؤثّر فيها وينقص منها، ولا في الأعضاء التي وسط البدن كالبطن والظهر فيعسر تقلبها واطّلاعها نحو الأشياء. فلمّ-ا لم يكن لها في شيء من هذه الأعضاء موضع كان الرأس أسنى المواضع للحواسّ وهو بمنزلة الصومعة لها، فجعل الحواس خمساً، تلقى خمساً لكي لا يفوتها شيء من المحسوسات، فخلق البصر ليدرك الألوان فلو كانت الألوان ولم يكن بصر يدركها لم يكن منفعة فيها؛ الخبر .(3)

فيا تُرى، كيف كانت حياة الإنسان لتكون لو كانت الأعين موضوعة تحت الأقدام؟

ص: 30


1- المؤمنون : 14.
2- بحارالأنوار : 3/73 ح1؛ توحيد المفضل: 65.
3- بحارالأنوار : 3/69 ح1؛ توحيد المفضل: 59.

أو كانت موضوعة خلف الأبدان في الأظهر؟

أليس وضع كلّ شيء في المحلّ الأنسب ممّا يدلّ على عمدٍ في التدبير وحكمة لا تنكر؟

وماذا لو لم يكن للإنسان عينان يستطيع بهما الرؤية ودرك الأمور؟

وهل كانت تجدي هذه الألوان الخلاّبة المطبوعة على الأشياء؟

وهل كان ينتفع بالنظر إلى جمال الخلقة؟

وعلى هذا فقس سائر الحواسّ، أليست هذه الصنيعة تدلّ دلالة واضحة على الخالق القيّوم الخبير القدير الحكيم العليم؟

وأنّى يمكن للعاقل إنكار جميع هذه الحقائق؟

فهل ذلك إلّا هراء وجحود وإنكار للحقّ والحقيقة؟!

وقال(ع): يا مفضّل، من غيّب الفؤاد في جوف الصدر وكساه المدرعة التي هي غشاؤه وحصّنه بالجوانح وما عليها من اللحم والعصب لئلّا يصل إليه ما ينكؤه؟ الخبر .(1)

فليت شعري ماذا كان سيحصل لو كان الفؤاد موضوعاً محلّ إحدى الأذنين؟

هل كان ليسلم من الآفات والضربات والصفعات طوال الحياة العادية التي يعيشها الإنسان؟

وهل كان باستطاعة الإنسان أن يحافظ على حياته؟

فسبحانه من إله ما أعلمه وأبهره!

وقال(ع): فأوّل ذلك ما يدبّر به الجنين في الرحم وهو محجوب في ظلمات ثلاث؛ ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة حيث لا حيلة عنده في طلب غذاء، ولا دفع أذى ولا استجلاب منفعة ولا دفع مضرة، فإنّه يُجري إليه من دم الحيض ما يغذوه كما يغذو الماء النبات، فلا يزال ذلك غذاءه حتى إذا كمل خلقه واستحكم بدنه وقوي أديمه على

ص: 31


1- . بحارالأنوار : 3/73 ح1؛ توحيد المفضل: 63.

مباشرة الهواء وبصره على ملاقاة الضياء هاج الطلق بأمّه فأزعجه أشدّ إزعاج وأعنفه حتى يولد. وإذا ولد صرف ذلك الدم الذي كان يغذوه من دم أمّه إلى ثدييها، فانقلب الطعم واللون إلى ضرب آخر من الغذاء وهو أشدّ موافقة للمولود من الدم فيوافيه في وقت حاجته إليه، فحين يولد قد تلمّظ وحرّك شفتيه طلباً للرضاع فهو يجد ثديي أمّه كالإداوتين المعلّقتين لحاجته إليه فلا يزال يغتذي باللبن ما دام رطب البدن رقيق الأمعاء ليّن الأعضاء، حتى إذا تحرّك واحتاج إلى غذاء فيه صلابة ليشتدّ ويقوى بدنه طلعت له الطواحن من الأسنان والأضراس ليمضغ به الطعام فيلين عليه ويسهل له إساغته؛ الخبر .(1)

أقول: ورد في دعاء أبي حمزة الثمالي المروي عن سيّد الساجدين(ع) هذه العبارة «أنا الصغير الذي ربّيته»(2) فإنّها بالرغم من قصرها إلّا أنّها بليغة غاية البلاغة فالإمام(ع) يشير إلى أيادي القدرة والرحمة الإلهيّة عليه حيث ربّاه من صغره فمن يا تُرى الذي ربّانا صغاراً؟ ومن الذي سوّانا كباراً؟ ومن الذي عطف علينا أشدّ العطف فتكفّل لنا بأرزاقنا؟ وهل يمكن للجنين الصغير أن ينمو في رحم من دون عمد وإرادة من خالق قيّوم؟ فمن الذي أوصل إليه الغذاء المناسب حتى يكبر؟ ومن الذي دفع عنه الضرّ حينذاك؟ ومن الذي أخرجه من ظلمة المشيمة والرحم إلى عالم الدنيا؟ ومن الذي جعل ثديي أمّه يدرّان عليه باللبن كي لايموت جوعاً؟ ومن الذي علّمه أنّ عليه أن يتغذّى من فمه في طليعة ولادته بعد أن كان يتغذّى عبر سرّته في رحم أمّه؟ ومن الذي جعل له الأسنان في الوقت المناسب؟ وهل يُعقل أن تكون جميع هذه الأفعال الحكيمة التي كلّها حياتيّة بالنسبة للجنين حاصلة بالصدفة ومن دون عمد وتدبير من خالق قيّوم عليم حكيم قدير غنيّ؟! ألا يدلّ العقل - الذي به قوام حجّية سائر الحجج - على امتناع حصول واحدة من هذه الأشياء من دون صانع حكيم عليم ناهيك عن جميعها؟!

ص: 32


1- . بحارالأنوار : 3/62 ح1؛ توحيد المفضل: 48.
2- إقبال الأعمال: 1/165؛ بحارالأنوار : 95/87 ح2.

و ممّا يدلّ على العمد في تدبير العالم وحكمة الصانع الحكيم هو ما نراه من أفعال حكيمة لا يمكن الغضّ عنها.

ونختم هذا الفصل بما ورد من صحف إدريس ففي بحارالأنوار:

* فاز - يا أخنوخ - من عرفني، وهلك من أنكرني، عجباً لمن ضلّ عنّي وليس يخلو في شئ من الأوقات منّي، كيف يخلوا وأنا أقرب إليه من ك-لّ ق-ريب، وأدنى إليه من حبل الوريد، ألست - أيّها الإنسان العظيم عند نفسه في بنيانه، القويّ لدى همّته في أركانه - مخلوقاً من النطفة المذرة، ومخرجاً من الأماكن القذرة، تنحطّ من أصلاب الآباء كالنخاعة إلى أرحام النساء، ثمّ يأتيك أمري فتصير علقة، لو رأتك العيون لاستقذرتك، ولو تأملتك النفوس لعافتك، ثمّ تصير بقدرتي مضغة لا حسنة في المنظر، ولا نافعة في المخبر، ثم أبعث إليك أمراً من أمري، فتخلق عضواً عضواً وتقدر مفصلاً مفصلاً، من عظام مغشيّة، وعروق ملتوية، وأعصاب متناسبة، ورباطات ماسكة، ثم يكسوك لحماً ويلبسك جلداً تجامع من أشياء متبائنة، وتخلق من أصناف مختلفة.

فتصير بقدرتي خلقاً سوياً لا روح فيك تحركّك... فأنفخ فيك الروح، وأهب لك الحياة، فتصير باذني إنساناً، لا تملك نفعاً ولا ضراً، ولا تفعل خيراً ولا شراً، مكانك من أمّك تحت السرِّة، كأنّك مصرور في صرّة إلى أن يلحقك ما سبق منّي من القضاء، فتصير من هناك إلى وسع الفضاء، فتلقى ما قدرك من السعادة أو الشقاء، إلى أجل من البقاء متعقب لا شك بالفناء، أأنت خلقت نفسك، وسوّيت جسمك، ونفخت روحك.

إن كنت فعلت ذلك. وأنت النطفة المهينة، والعلقة المستضعفة، والجنين المصرور في صرّة، فأنت الآن في كمال أعضائك وطراءة مائك وتمام مفاصلك، وريعان شبابك، أقوى وأقدر، فاخلق لنفسك عضواً آخر، استجلب قوّة إلى قوّتك، وإن كنت أنت دفعت عن نفسك في تلك الأحوال طارقات الأوجاع والأعلال، فادفع عن نفسك الآن أسقامك، ونزّه عن بدنك آلامك، وإن كنت أنت نفخت الروح في بدنك وجلبت الحياة التي تمسكك، فادفع الموت إذا حلّ بك، وابق يوماً واحداً عند حضور أجلك.

ص: 33

فإن لم تقدر أيّها الانسان على شيء من ذلك، وعجزت عنه كلّه، فاعلم أنّك حقاً مخلوق، وأنّي أنا الخالق، وأنّك أنت العاجز، وأنّي أنا القوي القادر، فاعرفني حينئذ واعبدني حقّ عبادتي ، واشكر لي نعمتي أزدك منها، واستعذ بي من سخطتي أعذك منها، فانّي أنا اللّه الذي لا أعبأ بما أخلق، ولا أتعب ولا أنصب فيما أرزق، ولا ألغب، إنّما أمري إذا أردت شيئاً أن أقول له كن فيكون .(1)

الباب الرابع: خلق الإنسان على ألوان وأشكال ولهجات مختلفة

ص: 34


1- بحارالأنوار: 92/454 نقلاً عن ابن متّويه.

قال اللّه تعالى: (ومِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ والْأَرْضِ واخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) .(1)

* قال الإمام الصادق(ع) في حديث المفضّل: اعتبر لم لا يتشابه الناس واحد بآخر كما يتشابه الوحوش والطير وغير ذلك، فإنّك ترى السرب من الظباء والقطا تتشابه حتى لا يُفرّق بين واحد منها وبين الأخرى، وترى الناس مختلفة صورهم وخلقهم حتى لا يكاد اثنان منهم يجتمعان في صفة واحدة، والعلّة في ذلك أنّ الناس محتاجون إلى أن يتعارفوا بأعيانهم وحلاهم لما يجري بينهم من المعاملات وليس يجري بين البهائم مثل ذلك فيحتاج إلى معرفة كل واحد منها بعينه وحليته. ألا ترى أنّ التشابه في الطير والوحش لا يضرّهما شيئاً وليس كذلك الإنسان فإنّه ربما تشابه التوأمان تشابهاً شديداً فتعظم المؤونة على الناس في معاملتهما حتى يعطى أحدهما بالآخر ويؤخذ أحدهما بذنب الآخر. وقد يحدث مثل هذا في تشابه الأشياء فضلا عن تشابه الصورة فمن لطف لعباده بهذه الدقائق التي لا تكاد تخطر بالبال حتى وقف بها على الصواب إلّا من وسعت رحمته كل شيء؛ الخبر .(2)

هذه من النعم الإلهيّة الجسيمة وكلّ نعمه جسيمة، فماذا كان سيحصل لو لم يكن الناس على أشكال وألوان؟

هل كانت الحياة تستقيم ولو ليوم واحد؟

ص: 35


1- الروم : 22.
2- بحارالأنوار: 3/87 ح1؛ توحيد المفضل: 87.

وهل كان بإمكان الخلائق أن يميّزوا بين المعتدي والمعتدى عليه، وبين البائع والمشتري وبين الحاكم والمحكوم وهكذا؟

وهل كان باستطاعة الزوج أن يميّز بين زوجته وبين سائر النساء وكذا العكس؟

أو هل كان يسقيم حجر على حجر عندئذ!؟

وماذا كان سيحصل لو لم يكن اختلاف في نبرة الأصوات؟

هل كان بوسع الإنسان أن يميّز بين الناس عبر الأصوات؟

أفلا يدلّ ذلك على الصانع؟

أوليس ذلك من الآيات الدالّة على علمه وحكمته؟

أوهل يمكن لعاقل أن ينكر العمد في التدبير بعد التدبّر في هذه الأمور؟

أولا يتجلّى لنا معنى كلام سيّد الشهداء(ع) في دعاء عرفة المروي في إقبال الأعمال «أنّ مرادك منّي أن تتعرّف إليّ في كلّ شيء حتى لا أجهلك في شيء»(1) ؟ أوليست هذه الخليقة التي نراها تنادي بأعلى صوتها بحقّانيّة باريها وثبوت حكمته ونفوذ أمره وعلوّ سلطانه وعظم شأنه وجلالة قدره؟

الباب الخامس: احتياج الإنسان إلى نور العقل والعلم

ص: 36


1- اقبال الأعمال: 1/348؛ بحارالأنوار : 95/225 ح3.

قال اللّه تعالى: (فَتَعالَى اللّه الْمَلِكُ الْحَقُّ ولا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وقُلْ ربّ زِدْنِي عِلْماً) .(1)

* في المستدرك عن تحف العقول عن رسول الله(ص)أنّه قال: إنّما يدرك الخير كلّه بالعقل ولا دين لمن لا عقل له .(2)

* وعن تحف العقول في وصيّة موسى بن جعفر(ع) لهشام: إنّ ضوء الروح العقل؛ الخبر .(3)

* وعن الكافي قال أبوعبدالله(ع): دعامة الإنسان العقل، والعقل منه الفطنة والفهم والحفظ والعلم وبالعقل يكمل وهو دليله ومبصره ومفتاح أمره، فإذا كان تأييد عقله من النّور كان عالماً حافظاً ذاكراً فطناً فهماً فعلم بذلك كيف ولم وحيث وعرف من نصحه ومن غشّه. فإذا عرف ذلك عرف مجراه وموصوله ومفصوله وأخلص الوحدانيّة للّه والإقرار بالطّاعة. فإذا فعل ذلك كان مستدركاً لما فات ووارداً على ما هو آت يعرف ما هو فيه ولأيّ شيء هو هاهنا ومن أين يأتيه وإلى ما هو صائر وذلك كلّه من تأييد العقل .(4)

أقول: هذا شأن العقل فإنّه ضوء الروح ونور من نور يُقذَف في قلب من شاء اللّه

ص: 37


1- طه : 114.
2- مستدرك الوسائل : 11/209 ح23؛ تحف العقول: 54.
3- بحارالأنوار : 1/153 ح29؛ تحف العقول: 391.
4- الكافى : 1/25 ح23؛ بحارالأنوار: 1/90 ح17.

تعالى أن ينوّره به فيكون مكلّفاً، وبه يدرك الخير كلّه فلا سبيل إلى الخير إلّا به، ولولاه لما كان لأحد دين فعليه اعتماد الإنسان في مسائله كلّها ومنه يكون الفطنة وسرعة الإدراك للأمور وبه يحفظ الإنسان ما يريده من المعلومات ومنه يكون الكشف لبعض الحقائق ولذا يكون كمال المرء معقوداً على العقل وهو الدليل له على الأمور كلّها.

فمن كان واجداً لنور العقل، عرف الكيفيّات والخصوصيّات في المخلوق وعرف رابطة الأشياء بعضها ببعض ممّا يوصل إلى معرفة الرابط لها بالإرادة العمديّة، وعرف أيضاً علّة الأمور وحكمتها وصار عالماً بالحيثيّات المختلفة وأين يجب عليه صرف النعم الإلهيّة، وأين يجب عليه كفّ نفسه عن التصرّف في ملك الغير، وكذا عرف من غشّه ومن نصحه لمعرفته بمعنى الغشّ والنصح بالعقل ومن علم ذلك علم مجراه وأنّه في دنيا زائلة، وعرف موصوله وما يوجب وصله إلى رضا الحقّ وما يفصله عن الحقّ والحقيقة، وأخلص الوحدانيّة للّه تعالى وأقرّ بطاعته لعرفانه بنور العقل أنّه هو المدبّر لا أحد غيره.

فإن أخلص الوحدانيّة وأقرّ بطاعته ولزومها واستدرك ما فاته من الخير ذلك أنّ الخير بيد اللّه تعالى وهو قادر على تبديل السيئة بالحسنة، وورد على ما هو آت من النعيم الأبديّ والعيش الرغد وعرف أنّ ما هو فيه ليس إلّا لعباً ولهواً، فلا يحزن على شيء فاته من أمور الدنيا الدنيّة وزخرفها، وعرف الغاية من إتيانه إلى الدنيا وأنّها دار بلاء ومحنة وتجديد للإمتحان ومن أين يأتيه كلّ هذه الأمور وإلى ما هو صائر من آخرة هي دار القرار ومحل الإستقرار.

فيا تُرى، ماذا كان سيحلّ بالإنسان إذا كان فاقداً للعقل الذي منه كلّ خير ومنه الحفظ والعلم والفطنة والشجاعة والبسالة والرحمة والسكينة وغيرها من الخيرات وبه يثاب ويعاقب؟

بل كيف كان يؤول أمره إذا فقد الحفظ وحده؟

هل كان يستطيع أن يحفظ طريق منزله ومن آذاه ومن أحسن إليه؟

ص: 38

هل كان بإمكانه أن يستذكر أقرب الناس إليه؟

هل كان بوسعه أن يقيّد العلم؟

ومن الطرف الآخر، لو كان حافظاً لكلّ شيء بحيث لا يغيب عنه مثقال ذرّة منها، هل كان بإمكانه أن يعيش مع أنّ الدنيا دار البلاء والمِحَن؟

وهل كان يستطيع النوم والراحة بعد أن كان حافظاً لكلّ بليّة نزلت به؟

أوَلا يدلّ وجود الحفظ والنسيان معاً في الإنسان على وحدة الخالق العالِ-م باحتياج المخلوق للحفظ والنسيان معاً؟

أوليس ذلك دليلاً على الصانع وعلمه وحكمته وقدرته وجميع كمالاته؟ ما لكم كيف تحكمون؟

روى محمّد بن سنان قال حدّثنا المفضل بن عمر قال: قال الإمام الصادق(ع) في حديث المفضّل: تأمّل يا مفضّل هذه القوى التي في النفس وموقعها من الإنسان، أعني الفكر والوهم والعقل والحفظ وغير ذلك. أفرأيت لو نقص الإنسان من هذه الخِلال الحفظ وحده كيف كانت تكون حاله، وكم من خلل كان يدخل عليه في أموره ومعاشه وتجاربه إذا لم يحفظ ما له وعليه وما أخذه وما أعطى وما رأى وما سمع وما قال وما قيل له، ولم يذكر من أحسن إليه ممّن أساء به، وما نفعه مما ضرّه، ثمّ كان لا يهتدي لطريق لو سلكه ما لا يحصى ولا يحفظ علماً ولو درسه عمره ولا يعتقد ديناً ولا ينتفع بتجربة ولا يستطيع أن يعتبر شيئاً على ما مضى بل كان حقيقا أن ينسلخ من الإنسانية أصلاً، فانظر إلى النعمة على الإنسان في هذه الخِلال وكيف موقع الواحدة منها دون الجميع وأعظم من النعمة على الإنسان في الحفظ، النعمة في النسيان فإنّه لو لا النسيان لما سلا أحد عن مصيبة ولا انقضت له حسرة ولا مات له حقد ولا استمتع بشيء من متاع الدنيا مع تذكّر الآفات ولا رجا غفلة من سلطان ولا فترة من حاسد. أفلا ترى كيف جعل في الإنسان الحفظ والنسيان وهما مختلفان متضادّان وجعل له في كلّ منهما ضرباً من المصلحة وما عسى أن يقول الذين قسّموا الأشياء بين خالقين متضادّين في هذه الأشياء المتضادّة المتباينة وقد تراها

ص: 39

تجتمع على ما فيه الصلاح والمنفعة؛ الخبر .(1)

أقول: الظاهر أنّ المراد من كون الفكر والوهم والعقل والحفظ من قوى النفس هو أنّ النفس الإنسانيّة تقوى بهذه الأمور فلولاها لما قويت لا أنّ النفس عين هذه القوى لوضوح دلالة «القوى التي في النفس» على تغاير القوى والنفس.

فتحصّل من ذلك أنّ الخلائق آيات تدلّ على الخالق المتعال وعلى علمه وحكمته وقدرته ذلك أنّه لا يعقل أن يكون صنع من دون صانع وفعل من دون فاعل ومخلوق من دون خالق فمن تأملّ في الكائنات يستيقن بثبوت الصانع لها.

* عن الإحتجاج عن هشام بن الحكم أنّه قال: كان من سؤال الزنديق الذي أتى أباعبدالله(ع) قال: ما الدليل على صانع العالم؟

فقال أبوعبدالله(ع): وجود الأفاعيل التي دلّت على أنّ صانعها صنعها، ألا ترى أنّك إذا نظرت إلى بناء مشيّد مبنيّ علمت أنّ له بانياً وإن كنت لم تر الباني ولم تشاهده؛ الخبر .(2)

أقول: فهذه الأفاعيل آيات تنادي بأعلى صوتها بثبوت الصانع لها كما أنّ البناء يشير إلى بنّائه وكما أنّ العقل يكشف عن امتناع البناية من دون بنّاء كذلك يحكم بامتناع الخلق من دون خالق.

* وفي تحف العقول قال أميرالمؤمنين(ع): افترقت فدلّت على مفرقها وتباينت فأعربت عن مباينها، بها تجلّى صانعها للعقول، وبها احتجب عن الرؤية، وإليها تحاكم الأوهام، وفيها أثبت غيره، ومنها أنيط الدليل، وبها عرّفها الإقرار، بالعقول يعتقد التصديق بالله، وبالإقرار يكمل الإيمان به، لا ديانة إلّا بعد معرفة، ولا معرفة إلّا بإخلاص، ولا إخلاص مع التشبيه؛ الخبر .(3)

ص: 40


1- بحارالأنوار : 3/80 ح1؛ توحيد المفضل: 75.
2- الإحتجاج: 2/332؛ بحارالأنوار : 3/29.
3- تحف العقول: 66؛ وكذا في التوحيد للصدوق: 39 عن أبا الحسن الرضا(ع).

فترى أنّ افتراق الكائنات بعضها عن بعض يدلّ على المفرّق وتباينها يدلّ على المباين لها وبها تجلّى الصانع الحكيم للعقول فالعقل يكشف كشفاً لا ريب فيه بضرورة الصانع لهذه الكائنات.

* وفي الكافي في خطبة أميرالمؤمنين(ع): ظهر في العقول بما يُرى في خلقه من علامات التدبير؛ الخطبة .(1)

فظهوره للعقول إنّما هو لأجل أنّها تكشف عن آثار التدبير في الخليقة، فهو الذي يبريها ويربّيها ويتكّفل برزقها ويرزقها بوفقها ويعطيها ما به تستطيع العيش في الدنيا. فمن ذا الذي يخلق الجنين في رحم الأمّ؟

ومن ذا الذي يربّيه ويتكفّل به وبرزقه؟

ومن ذا الذي خلق الطير في الهواء والحوت في البحر وهوامّ الأرض ودوابّها؟

ومن ذا الذي أحوج بعضها إلى بعض بحيث يُرى بذلك تمام الصنع والتدبير؟

فهل يُعقل أن يكون كلّ ما نراه وليد الصدفة العمياء الفاقدة للشعور؟!

وهل يمكن قبول مثل هذا الكلام بالنسبة لبناء مبنيّ في غاية الدقّة؟!

بل هل يمكن قبول ذلك بالنسبة لحجر مرميّ في السماء فنلتزم بكونه مرميّ من تلقاء نفسه؟! هلّا تعقلون!

* وروى الشيخ الطوسي في الأمالي مسنداً عن سلمان عن مولانا أميرالمؤمنين(ع) ل-مّا قال له الجاثليق في مناظرته: فخبرني عنه تعالى أمدرك بالحواس عندك، فيسلك المسترشد في طلبه استعمال الحواس، أم كيف طريق المعرفة به إن لم يكن الأمر كذلك؟ فقال أمير المؤمنين(ع) تعالى الملك الجبّار أن يوصف بمقدار، أو تدركه الحواس، أو يقاس بالناس، والطريق إلى معرفته صنائعه الباهرة للعقول، الدالّة ذوي الاعتبار بما هو عنده مشهود ومعقول .(2)

ص: 41


1- الكافي : 1/141 ح7؛ بحارالأنوار: 4/265 ح14.
2- الأمالي للطوسي: 220؛ بحارالأنوار: 10/56 ح2؛ موسوعة العقائد: 3/121.

* وفي خطبة لمولانا أميرالمؤمنين(ع): لم يُطلع العقول على تحديد صفته ولم يحجبها عن واجب معرفته، فهو الذي تشهد له أعلام الوجود على إقرار قلب ذي الجحود؛ الخطبة .(1)

فمع أنّ العقل لا يستطيع تحديد صفة اللّه تعالى ولا يقدر على تحديد قدرته وعلمه وحكمته لأنّها لا متناهية إلّا أنّه غير محجوب عن المعرفة الواجبة عليه وهي معرفته بالآيات والعلامات، ول-مّا كانت آياته تعالى كثيرة لا يمكن إحصاؤها وكانت واضحة الدلالة على الصانع المتعال شهدت على إقرار القلوب - حتى الكثيرة الجحود - باللّه تعالى لوضوح الأمر غاية الوضوح.

* وروى محمّد بن سنان قال حدّثنا المفضّل بن عمر عن الصادق(ع): إنّ العقل يعرف الخالق من جهة توجب عليه الإقرار ولا يعرفه بما يوجب له الإحاطة بصفته. فإن قالوا فكيف يكلّف العبد الضعيف معرفته بالعقل اللطيف ولا يحيط به؟ قيل لهم: إنّما كُلّف العباد من ذلك ما في طاقتهم أن يبلغوه وهو أن يوقنوا به. ويقفوا عند أمره ونهيه، ولم يكلّفوا الإحاطة بصفته؛ الخبر .(2)

فالعاقل قادر على معرفته عبر الآيات وإخراجه عن الحدّين أعني النفي والتشبيه وهذا هو تكليف العاقل، فإنّه مكلّف بما هو قادر عليه وهو النظر في الآيات والتأمّل فيها ليقرّ بعد ذلك بالخالق المتعال لها، فمعرفة العقل بالخالق ليست معرفة بذاته القدّوس إنّما هو إقرار بالخالق الغائب عن الحواسّ من جهة امتناع المصنوع من دون صانع ولذا يستلزم عليه أن يقرّ به تعالى ويقف عند أمره ونهيه كما أنّ عليه أن لا يسعى لمعرفة ذاته القدّوس بالعقل لامتناع ذلك بحكم العقل.

* وفي نهج البلاغة عن أميرالمؤمنين(ع): وأقام من شواهد البيّنات على لطيف صنعته وعظيم قدرته ما انقادت له العقول معترفة به، ومسلَّمة له، ونعقت في أسماعنا دلائله على

ص: 42


1- بحارالأنوار : 4/308 ح36؛ نهج البلاغة: 88 الخطبة 49.
2- بحارالأنوار : 3/146 ح1؛ توحيد المفضل: 180.

وحدانيّته .(1)

* وفي جامع الأخبار سُئل(ع) عن إثبات الصانع؟

فقال(ع): البعرة تدلّ على البعير والروثة تدل على الحمير وآثار القدم تدل على المسير، فهيكل علويّ بهذه اللطافة ومركز سفليّ بهذه الكثافة كيف لا يدلّان على اللطيف الخبير؟! (2)

فإذا دلّت الآثار - عموماً ومن غير تخصيص - على مؤثّرها فكيف لا تدلّ الآثار التي نراها ونرى مصنوعيّتها على اللطيف الخبير؟! فهل يُعقل أن تتكوّن السماوات السبع والأرضون من دون صانع حكيم عليم؟!

* وفي بحارالأنوار قال(ع): بصنع اللّه يُستدلّ عليه وبالعقول تعتقد معرفته وبالتفكّر تثبت حجّته معروف بالدلالات مشهور بالبيّنات؛ الخبر .(3)

فالإستدلال على الخالق وكمالاته من العلم والحكمة والقدرة والسبوحيّة يكون بالصنع، والإعتقاد يكون بالعقول، فمن كان عاقلاً وتنبّه عقله بتنبيه المنبّهين من السبات وثار بإثارة النبيّ وأهل بيته الأخيار: وتذكّر بتذكيرهم، يرى دلالة الصنع على الصانع وعلى كمالاته فإنّه معروف بهذه الدلالات ومشهور بالبيّنات الموضحات لكونه حقّاً لا ريب فيه.

* وفي الإحتجاج في خطبة شريفة عنه(ع): ولو فكّروا في عظيم القدرة وجسيم النعمة لرجعوا إلى الطريق وخافوا عذاب الحريق ولكن القلوب عليلة والأبصار مدخولة؛ الخطبة .(4)

فالتفكير في الخلائق التي تدلّ على قدرته تعالى وكذا التفكير فيما نراه من النعم الجسيمة يوجب الرجوع إلى طريق التوحيد والخوف من عذاب الحريق، إلّا أنّ

ص: 43


1- نهج البلاغة: 236 الخطبة 165.
2- بحارالأنوار : 3/55 ح27؛ جامع الأخبار: 4.
3- بحارالأنوار : 3/55 ح28؛ جامع الأخبار: 4.
4- الإحتجاج: 1/204؛ بحارالأنوار : 3/26 ح1.

القلوب عليلة بالأهواء والأبصار مدخولة لا ترى الحقّ لتتّبعه بسبب الطبع عليها بعد أن تركت الإيمان به تعالى عن علم واستيقان.

* وفي الإحتجاج قال(ع) في خطبة أخرى: دليله آياته ووجوده إثباته؛ الخطبة .(1)

* وقال(ع): الحمد للّه الدالّ على وجوده بخلقه .

فالدليل على الحيّ القيّوم هو هذه الآيات الباهرات وأمّا وجوده فالعقل لا يعرف شيئاً منه لامتناع ذلك على العقول إلّا أنّه يثبته وينفي البطلان لما يرى من الآيات الدالّة عليه تعالى.

* وروى الطبرسي في الإحتجاج قال(ع): فالويل لمن أنكر المقدّر وجحد المدبّر. زعموا أنّهم كالنبات، ما لهم زارع ولا لاختلاف صورهم صانع لم يلجئوا إلى حجّة فيما ادّعوا، ولا تحقيق لما وعوا. وهل يكون بناء من غير بان؟ أو جناية من غير جان؟ الخطبة .(2)

فإنكار المدبّر لا يكون إلّا من الجهل فهل يُعقل أن لا يكون لاختلاف صور الناس صانع؟ فكما لا يُعقل أن يكون البناء من غير بانٍ كذلك لا يعقل أن يكون الخلق من غير خالق.

* وقال(ع) في خطبة له: كفى بإتقان الصنع لها آية، وبمركِّب الطبع عليها دلالة، وبحدوث الفطر عليها قدمة، وبأحكام الصنعة لها عبرة؛ الخطبة .(3)

ص: 44


1- الإحتجاج: 1/201؛ بحارالأنوار : 4/253 ح7.
2- الإحتجاج: 1/205؛ بحارالأنوار : 3/26 ح1.
3- عيون أخبار الرضا(ع): 1/122 ح15؛ بحارالأنوار : 4/222 ح2.

* وقال(ع) في خطبة أخرى: ظهرت في البدائع التي أحدثها آثار صنعته وأعلام حكمته؛ الخطبة .(1)

* وروى الصدوق في التوحيد عن مسعدة بن صدقة قال سمعت أبا عبداللّه يقول: ... وقال(ع): وظهرت في بدائع الذي أحدثها آثار حكمته وصار كلّ شيء خلق حجّة له ومنتسباً إليه. فإن كان خلقاً صامتاً، فحجّته بالتدبير ناطقة فيه؛ الخطبة .(2)

فالبدائع تشير إلى حكمة اللّه تعالى لما فيها من أفعال حكيمة لا يمكن لغير الحكيم أن يأتي بها والخلق حجّة له ومنتسب إليه كانتساب الفعل إلى الفاعل. فكما لا يُعقل أن يكون فعل من دون فاعل، كذا لا يُعقل أن تكون هذه الأشياء من دون فاعل وعليه تكون هذه الأشياء ناطقة بربوبيّة اللّه تعالى لأنّها مدبَّرة مربوبة والعقل يرى آثار التدبير فيها فإنّها تقلّب من حال إلى حال وصغر إلى كبر وموت إلى حياة وحياة إلى موت وضعف إلى قوّة وقوّة إلى ضعف.

* وقال(ع): الحمد للّه المتجلّي لخلقه بخلقه والظاهر لقلوبهم بحجّته .(3)

فإنّه تعالى ظهر لخلقه وتجلّى لهم بسبب خلقه الخلقَ الدالَّ على خالقه فمن رأى الخلق يرى أنّ له خالقا.

ولا يخفى أنّه ليس المراد من هذه العبارة المباركة ما رامت إثباته العرفاء - من أنّه تعالى تجلّى في خلقه فخلقه هو وهو خلقه - إذ بيان الإمام(ع) مبتنٍ على المفروغيّة من الخالق والمخلوق فالمتجلّي يفارق المتجلّي له فتأمّل جيّداً.

* في عيون الأخبار قال الإمام الرّضا(ع): يستدلّ عليه بخلقه؛ الخبر .(4)

* كتب المفضّل بن عمر الجعفي إلى أبي عبداللّه جعفر بن محمّد الصادق(ع)، يعلمه أنّ أقواماً ظهروا من أهل هذه الملة يجحدون الربوبيّة ويجادلون على ذلك ويسأله أن يردّ عليهم قولهم ويحتجّ عليهم فيما ادعوا بحسب ما احتج به على غيرهم.

فكتب أبوعبدالله(ع): بسم اللّه الرّحمن الرّحيم. أمّا بعد، وفّقنا اللّه وإيّاك لطاعته

ص: 45


1- نهج البلاغة: 126 الخطبة 91؛ بحارالأنوار : 54/106 ح90.
2- التوحيد للصدوق: 48 ح13؛ بحارالأنوار : 4/276 ح16.
3- نهج البلاغة : 155 الخطبة 108؛ بحارالأنوار: 34/240 ح999.
4- عيون أخب-ار ال-رضا(ع): 1/175 ح1؛ بح-ارالأنوار : 10/315 باب19 مناظرات الرضّا علي بن موسى صلوات اللّه عليه واحتجاجه على أرباب الملل المختلفة والأديان المتشتّتة في مجلس المأمون.

وأوجب لنا بذلك رضوانه برحمته. وصل كتابك تذكر فيه ما ظهر في ملّتنا وذلك من قوم من أهل الإلحاد بالربوبيّة قد كثرت عدّتهم واشتدّت خصومتهم، وتسأل أن أصنع للردّ عليهم والنقض لما في أيديهم كتاباً على نحو ما رددت على غيرهم من أهل البدع والاختلاف. ونحن نحمد اللّه على النعم السابغة والحجج البالغة والبلاء المحمود عند الخاصّة والعامّة، فكان من نعمه العظام وآلائه الجسام التي أنعم بها، تقريره قلوبهم بربوبيّته، وأخذه ميثاقهم بمعرفته وإنزاله عليهم كتاباً فيه شفاء لما في الصدور من أمراض الخواطر ومشتبهات الأمور، ولم يدع لهم ولا لشيء من خلقه حاجة إلى من سواه واستغنى عنهم وكانَ اللّه غَنِيّاً حَمِيداً.

ولعمري ما أتي الجهّال من قبل ربّهم وإنّهم ليرون الدلالات الواضحات والعلامات البيّنات في خلقهم وما يعاينون في ملكوت السماوات والأرض والصنع العجيب المتقن الدالّ على الصانع، ولكنّهم قوم فتحوا على أنفسهم أبواب المعاصي وسهّلوا لها سبيل الشهوات فغلبت الأهواء على قلوبهم، واستحوذ الشيطان بظلمهم عليهم وكذلك يطبع اللّه على قلوب المعتدين، والعجب من مخلوق يزعم أنّ اللّه يخفى على عباده وهو يرى أثر الصنع في نفسه بتركيب يبهر عقله وتأليف يبطل حجّته، ولعمري لو تفكّروا في هذه الأمور العظام لعاينوا من أمر التركيب البيّن ولطف التدبير الظاهر ووجود الأشياء مخلوقة بعد أن لم تكن، ثمّ تحولها من طبيعة إلى طبيعة وصنيعة بعد صنيعة ما يدلّهم ذلك على الصانع، فإنّه لا يخلو شيء منها من أن يكون فيه أثر تدبير وتركيب يدلّ على أنّ له خالقاً مدبّراً وتأليف بتدبير يهدي إلى واحد حكيم .(1)

بيّن الإمام(ع) بأنّ الدلالات على الصانع الحكيم قائمة، إلّا أنّ الناس فتحوا على أنفسهم أبواب المعاصي فغلبت الأهواء على قلوبهم، فكيف ينكر المخلوق ربّه مع ما يرى من أثر الصنع في نفسه؟!

ص: 46


1- بحارالأنوار : 3/152 ح1.

* في الإحتجاج للطبرسي عن أبي عبدالله(ع): إنّ الأشياء تدلّ على حدوثها من دوران الفلك بما فيه وهي سبعة أفلاك، وتحرّك الأرض ومن عليها، وانقلاب الأزمنة واختلاف الوقت والحوادث التي تحدث في العالم من زيادة ونقصان وموت وبلى واضطرار النفس إلى الاقرار بأنّ لها صانعاً ومدبّراً، أما ترى الحلو يصير حامضاً والعذب مرّاً، والجديد بالياً، وكلّ إلى تغيّر وفناء؟ (1)

* وروى الكليني في الكافي عن عدّة من أصحابنا عن أبي جعفر(ع): كفى لأولي الألباب بخلق الربّ المسخِّر، وملك الربّ القاهر، وجلال الربّ الظاهر، ونور الربّ الباهر، وبرهان الربّ الصادق، وما أنطق به ألسن العباد، وما أرسل به الرسل، وما أنزل على العباد دليلاً على الربّ .(2)

فظهر بحمد اللّه تعالى أنّه لا سبيل لإنكار الصانع لكشف العقل ضرورةً ثبوته بعد رؤية آياته وعلاماته كما قال الإمام الصادق(ع): «لو رأيت تمثال الإنسان مصوّراً على حائط وقال لك قائل إنّ هذا ظهر هنا من تلقاء نفسه لم يصنعه صانع أكنت تقبل ذلك؟! بل كنت تستهزئ به فكيف تنكر هذا في تمثال مصوَّر جماد ولا تنكر في الإنسان الحيّ الناطق»(3) فإنّه ل-مّا كان الإعتقاد به تعالى واجباً على جميع العقلاء لابدّ أن يكون الوصول إلى معرفته تعالى بالعقل من الأُمور البديهيّة السهلة، وقد عرفت أنّه لا ريب في دلالة الأثر على المؤثّر والآية على ذيها.

ص: 47


1- الإحتجاج: 2/338؛ بحارالأنوار: 10/166 ح2.
2- الكافي: 1/82 ح6؛ الفصول المهمّة: 1/140 ح1 [42].
3- توحيد المفضّل : 87؛ بحارالأنوار: 3/88 ح1.

الباب السادس: علم الخالق تعالى

ص: 48

قال اللّه تعالى: (ألا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللّطيف الْخَبِيرُ) .(1)

وقال تعالى: (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) .(2)

وقال تعالى: (إِنَّ ربّك هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ) .(3)

وقال تعالى: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَ-ها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) .(4)

وقال تعالى: (أَوَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ) .

وقال تعالى: (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِالْعَلِيمِ) .(5)

* في عيون أخبار الرضا(ع) مسنداً قال أميرالمؤمنين(ع) في قول اللّه عزّ وجلّ: (هُوَ الَّذِي خَلَقَلَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعا ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ

ص: 49


1- الملك : 14.
2- الأنعام : 96.
3- الحجر : 86.
4- يس : 38.
5- يس : 81.

عَلِيمٌ)(1) قال: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) لتعتبروا به وتتوصلوا به إلى رضوانه وتتوقوا به من عذاب نيرانه (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) أخذ في خلقها وإتقانها (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ولعلمه بكلّ شيء علم المصالح فخلق لكم كلّ ما في الأرض لمصالحكم يا بني آدم .(2)

من الواضح أنّ هذا الخلق لا يمكن أن يكون مخلوقاً من دون علم وحكمة، فهل يعقل أن يكون الخالق فاقداً للعلم؟

ألا يعلم من خلق هذا الخلق بهذه الدقّة وهي التي لا يمكن الوصول إليها بعقولنا؟

ألا يعلم من خلق السماوات السبع ومن الأرض مثلهنّ وخلق الإنسان والحيوان والجماد والنبات والحيّ والميّت وما يُرى وما لايُرى؟

أوَ هل يعقل استقامة حجر على حجر من دون علم؟

فتبّاً وتعساً وخيبة لمن أنكر العمد في التدبير والعلم في التقدير.

ثمّ إنّه لو تأمّل العاقل في الكائنات وما تحمل من دقّة لوصل إلى معارف شامخة، فماذا كان سيحصل لو كانت قوّة الجاذبيّة أقوى بقليل ممّا هي عليه الآن؟ ألم تلتصق الذرّات ببعضها حتى لا تستطيع التنفّس؟ وما ذا كان سيحصل لو كانت قوّة الجاذبيّة أضعف بقليل؟ ألم تكن الأشياء تتفتّت حتى لا يبقى منها شيء؟ فهل يُعقل أن يكون صانع الكون فاقداً للعلم؟ كلّا وألف كلّا.

نعم العقل لا يعرّفنا كيفيّة تعلّق علمه بالكائنات إذ لا كيف لذلك فإنّه تعالى عالم بالأشياء قبل كونها وعلمه بها قبل كونها كعلمه بها بعد كونها وعلمه تعالى عين ذاته وذاته سبّوحة عن كشف العقل إلّا أنّ العقل يدلّنا على عالميّته وإن كان الإيمان بعد ذلك إقراراً بالغيب.

الباب السابع: حكمة الخالق تعالى

ص: 50


1- فصّلت : 12.
2- عيون أخبار الرضا(ع): 2/13 ح29؛ بحارالأنوار : 3/40 ح14.

قال اللّه تعالى: (ومِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ والْأَرْضِ واخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) .(1)

* روى المجلسيّ في البحار عن الإمام الصادق(ع): اعتبر لم لا يتشابه الناس واحد بالآخر كما تتشابه الوحوش والطير وغير ذلك، فإنّك ترى السرب من الظباء والقطا تتشابه حتى لا يفرق بين واحد منها وبين الأخرى، وترى الناس مختلفة صورهم وخلقهم حتى لا يكاد اثنان منهم يجتمعان في صفة واحدة. والعلّة في ذلك أنّ الناس محتاجون إلى أن يتعارفوا بأعيانهم وحلاهم لما يجرى بينهم من المعاملات وليس يجري بين البهائم مثل ذلك، فيحتاج إلى معرفة كلّ واحد منها بعينه وحليته. ألا ترى أنّ التشابه في الطير والوحش لا يضرّها شيئاً، وليس كذلك الإنسان فإنّه ربما تشابه التوأم تشابهاً شديداً فتعظم المئونة على الناس في معاملتهما حتى يعطى أحدهما بالآخر ويؤخذ أحدهما بذنب الآخر، وقد يحدث مثل هذا في تشابه الأشياء فضلاً عن تشابه الصور. فمن لطف بعباده بهذه الدقائق التي لا تكاد تخطر بالبال حتى وقف بها على الصواب إلّا من وسعت رحمته كلّ شيء .(2)

قد عرفت سابقاً أنّ اختلاف الصور يدلّ على المصوّر وعرفت الحكمة في ذلك فإنّه لو لم يكن هذا الإختلاف لما استقامت حياة الإنسان أفلا يدلّ ذلك على حكمة الصانع المتعال؟

ص: 51


1- الروم : 22.
2- توحيد المفضّل : 87؛ بحارالأنوار: 3/87 ح1.

* وروى أيضاً في البحار عن الإمام الصادق(ع) في حديث المفضّل: يا مفضّل أوّل العبر والدلالة على الباري جلّ قدسه تهيئة هذا العالم وتأليف أجزائه ونظمها على ما هي عليه. فإنّك إذا تأمّلت العالم بفكرك وخبرته بعقلك، وجدته كالبيت المبنيّ المعدّ فيه جميع ما يحتاج إليه عباده. فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض ممدودة كالبساط، والنجوم مضيئة كالمصابيح، والجواهر مخزونة كالذخائر، وكلّ شيء فيها لشأنه معدّ. والإنسان كالمملّك ذلك البيت والمخوّل جميع ما فيه، وضروب النبات مهيأة لمآربه وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه ومنافعه، ففي هذا دلالة واضحة على أنّ العالم مخلوق بتقدير وحكمة ونظام وملائمة، وأنّ الخالق له واحد وهو الذي ألفه ونظّمه بعضاً إلى بعض جلّ قدسه .(1)

أوَلا يدلّ هذا النظام على المنظّم الحكيم؟

فهل يُعقل أن تكون هذه الأفعال الحكيمة من تهيئة العالم وإعطاء الإنسان ما يحتاجه غير دالّة على حكمة الصانع؟

ماذا كان سيحصل لو كانت الدنيا على مانراها إلّا أنّها كانت فاقدة للهواء؟

أوَلا يدلّ وجود الهواء على حكمة الصانع؟

ماذا كان سيحصل لو كان الإنسان مخلوقاً من دون غذاء مناسب له؟

ماذا كان سيحصل لو كانت الرياح مفقودة في العالم؟

ماذا كان سيحصل لو كان المطر أجاجا؟

هناك أسئلة نظير ما سألناه يفوق عددها المليارات تشير إلى حكمة الصانع الحكيم.

* روى الص-دوق في الت-وحيد عن الفض-ل بن شاذان: قال سمعت الرضا علي بن موسى8 يقول في دعائه: سبحان من خلق الخلق بقدرته، أتقن ما خلق بحكمته، ووضع

ص: 52


1- بحارالأنوار: 3/66 ح1.

كلّ شيء منه موضعه بعلمه. سبحان من يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وما تُخْفِي الصُّدُورُ ولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ .(1)

إتقان الخلق وسدّ ثغوره لا يكون إلّا بالحكمة ول-مّا رأينا آثار الحكمة في الخلق أيقنا بحكمة الخالق فالكون متكامل ومترابط بحيث لا نجد للخلل فيه موضعاً وكلّ شيء فيه موضوع لحاجة وسبب وهذا يدلّنا على الحكمة البالغة وأنّه تعالى عالم بارتباط الأشياء بعضها ببعض وما يلزم لذلك الارتباط، فلا تجد شيئاً موضوعاً من غير حكمة ولا ما يلزم أن يكون ولا يكون فسبحانه من إله ما أحكمه!

ص: 53


1- التوحيد للصدوق: 138 ح10؛ بحارالأنوار : 4/85.

الباب الثامن: قدرة الخالق تعالى

ص: 54

قال اللّه تعالى: (واللّه خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ ومِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ ومِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللّه ما يَشاءُ إِنَّ اللّه عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .(1)

وقال تعالى: (الْحَمْدُ للّه فاطِرِ السَّماواتِ والْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللّه عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .(2)

وقال تعالى: (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وإِناثاً ويَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) .(3)

وقال تعالى: (اللّه الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ ومِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللّه عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وأَنَّ اللّه قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) .(4)

* وفي خطبة لأميرالمؤمنين(ع): المستشهد بآياته على قدرته؛ الخطبة .(5)

أقول: يظهر للعاقل - بعد التأمّل في الآيات - قدرة اللّه تعالى وأنّه لا يعجزه شيء فإنّ من نظر بنور العقل إلى هذه الآيات العظام من السماوات السبع والأرضين والشمس والقمر والجبال والأنهار والإنسان والحيوان والطير والزواحف والحيتان والنبات و غير ذلك من الآيات الباهرات يصل إلى هذه النتيجة وهي قدرة الخالق على أن يفعل ما يشاء.

ص: 55


1- النور : 45.
2- فاطر : 1.
3- الشورى : 50.
4- . الطلاق : 12.
5- الكافى : 1/139ح5؛ بحارالأنوار: 4/284 ح17.

أوَ هل يُعقل أن يكون خالق السماوات السبع التي لا نستطيع أن نعرف مدى نهايتها عاجزاً؟ كلّا وألف كلّا.

أوَ هل يُعقل أن يكون خالق الجنين في رحم الأمّ وبتلك الدقّة واللطافة عاجزاً؟كلّا وألف كلّا.

أوَ هل يُعقل أن يكون خالق الجبال الراسيات والسهول والقفار والبحار عاجزاً؟ كلّا وألف كلّا.

أوَ هل يُعقل أن يكون خالق الملائكة وجاعلهم أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع عاجزاً؟ كلّا وألف كلّا.

أوَ هل يُعقل أن يكون خالق هذا النظام وهذا الكون عاجزاً عن خلق نظام مثله بل أحسن منه؟ كلّا وألف كلّا. ذلك أنّه لا حدّ لقدرته بحكم العقل الحاكم بقدرته عند رؤيته للآيات.

قال اللّه تعالى: (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ويَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وما ذلِكَ عَلَى اللّه بِعَزِيزٍ) .(1)

* وفي خطبة لمولانا أميرالمؤمنين(ع): علم ما خلق وخلق ما علم لا بالتفكير ولا بعلم حادث أصاب ما خلق، ولا شبهة دخلت عليه فيما لم يخلق، لكن قضاء مبرم وعلم محكم وأمر متقن؛ الخطبة .(2)

فعدم خلقه خلقاً آخر غير هذا الخلق ليس لشبهة دخلت عليه ما استطاع لأجلها خلق ما أراد خلقه، بل هو قضاء مبرم وأمر محكم ورأي عازم على عدم خلق ما لم يخلق وله أن يخلق ما شاء متى شاء كيف شاء وإنّه على كلّ شيء قدير فسبحانه من إله ما أقدره! فلابدّ لنا من أن نقول ما بيّنه مولى الموحّدين(ع): «الحمد للّه الذي أظهر من آثار سلطانه وجلال كبريائه ما حيّر مُقَلَ العيون من عجائب قدرته»(3) وكذا «وما الذي نرى من خلقك

ص: 56


1- فاطر : 17 - 16.
2- . الكافي: 1/136 ح1؛ بحارالأنوار : 4/270 ح15.
3- . نهج البلاغة : 308 الخطبة 193؛ بحارالأنوار: 74/314 ح15.

ونعجب له من قدرتك ونصفه من عظيم سلطانك وما تغيّب عنّا منه وقصرت أبصارنا عنه وانهت عقولنا دونه وحالت ستور الغيب بيننا وبينه أعظم» .(1)

* في عيون أخبار الرضا(ع) عن أبي الحسن الرضا(ع) قال: قلت له: لم خلق اللّه عزّوجلّ الخلق على أنواع شتّى، ولم يخلقهم نوعاً واحداً؟

فقال : لئلّا يقع في الأوهام أنّه عاجز فلا تقع صورة في وهم ملحد إلّا وقد خلق اللّه عزّوجلّ عليها خلقاً، ولا يقول قائل: هل يقدر اللّه عزّوجلّ على أن يخلق على صورة كذا وكذا إلّا وجد ذلك في خلقه تبارك وتعالى فيعلم بالنظر إلى أنواع خلقه أنّه على كلّ شئ قدير .(2)

ثمّ إنّه لابدّ من الإشارة إلى أنّ هذا الخلق إن كان دليلاً على قدرته تعالى إلّا أنّ ذلك ليس منتهى قدرته تعالى بل لا حدّ لقدرته فإنّه «على كلّ شيء قدير».

* قال مولانا أميرالمؤمنين(ع): سبحانك ما أعظمَ ما نرى من خلقك وما أصغر عظيمةٍ في جنب قدرتك وما أهولَ ما نرى من ملوكتك وما أحقر ذلك فيما غاب عنّا من سلطانك .(3)

هذا وقد بسطنا الكلام حول قدرة اللّه تعالى في بحث البداء وكذا في أبحاثنا حول الجبر والتفويض وإثبات الأمر بين الأمرين، فراجع.

ص: 57


1- نهج البلاغة : 225 الخطبة 185.
2- بحارالأنوار: 3/41 ح15 عن عيون أخبار الرضا(ع): 2/75 ح1.
3- نهج البلاغة : 158 الخطبة 107؛ بحارالأنوار: 4/318 ح43.

الباب التاسع: أجحود بعد اليقين؟!

ص: 58

قال اللّه تعالى: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللّه الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لايَعْقِلُونَ) .(1)

وقال تعالى: (ولَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللّه قُلِ الْحَمْدُ للّه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) .(2)

إنّ عجبي لا ينقضي ممّن أنكر الحقّ بعد العيان وكابر عقله بعد حكمه بلزوم الصانع للمصنوع كيف سوّغت له نفسه هذا الجحود؟!

أمِنَ الصحيح أن ينكر العاقل الحقائق؟ هل يجوز اللّجاج مع الواقع؟ هل يمكن إنكار دلالة الصنع على الصانع؟

أوَ ليس ذلك دحض للعقل الصريح؟

أوَ ليس ذلك أسرُ العقل تحت الأهواء؟

أوَ هل يمكن إنكار احتياجنا إلى الخالق؟

أوَ هل يجوز إنكار فقرنا وفاقتنا إليه في كلّ لحظة؟

أوَ هل نستطيع أن نستغني عنه ولو لحظة واحدة؟

أوَ هل يمكن لنا القيام بأنفسنا؟

أوَ هل يمكن لنا الفرار من حكومته؟

أوَ هل يمكننا الإستغناء عن رزقه؟

ص: 59


1- الانفال : 22.
2- العنكبوت : 63.

أوَ هل يمكننا دفع الموت والمرض والنوم والجهل والذلّ والإستكانة وكلّ صفات الخلق المحتاج إلى الخالق عن أنفسنا؟

* من خطبة لمولانا أميرالمؤمنين(ع): كلّ شيء خاشع له، وكلّ شيء قائم به، غنى كلّ فقير، وعزّ كلّ ذليل، وقوّة كلّ ضعيف، ومفزع كلّ ملهوف؛ الخطبة .(1)

* وفي خطبة له(ع): ولا يستغني عنك من تولّى عن أمرك؛ الخطبة .(2)

* وفي البحار في مناجاة مولانا زين العابدين(ع): اللّهم عبدك الضعيف الفقير ومسكينك اللهيف المستجير عالم أنّ في قبضتك أزمّة التدبير، ومصادر المقادير عن إرادتك، وأنّك أقمت بقدسك حياة كلّ شيء، وجعلته نجاة لكلّ حيّ، فارزقه من حلاوة مصافاتك ما يصير به إلى مرضاتك، وهب له من خشوع التذلّل وخضوع التقلّل في رهبة الإخبات وسلامة المحيي والممات ما تحضره كفاية المتوكّلين، وتميّزه به رعاية المكفولين؛ الخبر .(3)

فإنّه تعالى حقّ لا ريب فيه كما قال مولانا أميرالمؤمنين(ع): «هو اللّه الملك الحقّ المبين أحقّ وأبينُ ممّا ترى العيون» .(4)

ومن الواضح أشدّ الوضوح أنّ العاقل إذا نظر إلى نفسه يرى آثار المصنوعيّة فيها؛ من البدء والنهاية والتدبير والكفاية والطول والعرض وجميع صفات الخليقة. فإذا ظهرت لنا مصنوعيّتنا، ثبت الإحتياج إلى الصانع. فمن قامت آيات المصنوعيّة فيه وتراءت آثار الخليقة فيه، لا يمكنه إنكار الصانع لقضاء العقل باستحالة المصنوع من دون صانع.

* عن الإحتجاج عن هشام بن الحكم قال: دخل ابن أبي العوجاء على الصادق(ع) فقال

ص: 60


1- نهج البلاغة: 158 الخطبة 109؛ بحارالأنوار : 4/317 ح43.
2- نهج البلاغة: 158 الخطبة 109؛ بحارالأنوار : 4/317 ح43.
3- بحارالأنوار : 91/157 ح22.
4- نهج البلاغة : 217 الخطبة 153؛ بحارالأنوار: 61/323 ح2.

له الصادق(ع): يا ابن أبي العوجاء أنت مصنوع أم غير مصنوع؟

قال: لست بمصنوع.

فقال له الصادق(ع): فلو كنت مصنوعاً كيف كنت؟ فلم يحر ابن أبي العوجاء جواباً، وقام وخرج .(1)

أقول: و قريب من ذلك ما في الكافي فلاحظ:

* دخل ابن أبي العوجاء على الصادق(ع) إلى أن قال(ع): أمصنوع أنت أو غير مصنوع؟

فقال عبد الكريم بن أبي العوجاء: بل أنا غير مصنوع.

فقال له العالم(ع): فصف لي لو كنت مصنوعاً كيف كنت تكون؟ فبقي عبدالكريم مليّاً لا يحير جواباً وولع بخشبة كانت بين يديه وهو يقول طويل عريض عميق قصير متحرّك ساكن كلّ ذلك صفة خلقه.

فقال له العالم: فإن كنت لم تعلم صفة الصّنعة غيرها فاجعل نفسك مصنوعا لما تجد في نفسك ممّا يحدث من هذه الأمور .(2)

فترى أنّ الزنديق لم يجد بدّاً من إثبات الصانع بعد تسليم وجود آية المصنوعيّة في نفسه أوَ هل يمكنه إنكار الصانع مع وجدان المصنوعيّة؟!

* في البحار قال الإمام الصادق(ع): يا مفضّل إنّ الشكّاك جهلوا الأسباب والمعاني في الخلقة، وقصرت أفهامهم عن تأمّل الصواب والحكمة فيما ذرأ البارئ جلّ قدسه وبرأ من صنوف خلقه في البرّ والبحر والسهل والوعر، فخرجوا بقصر علومهم إلى الجحود وبضعف بصائرهم إلى التكذيب والعنود حتى أنكروا خلق الأشياء، وادّعوا أنّ كونها بالإهمال لاصنعة فيها ولا تقدير ولا حكمة من مدبّر ولا صانع، تعالى اللّه عمّا يصفون. و(قاتَلَهُمُ اللّه أَنَّى يُؤْفَكُونَ) فهم في ضلالهم وعماهم وتحيّرهم بمنزلة عميان دخلوا داراً قد

ص: 61


1- الإحتجاج : 2/333.
2- الكافي : 1/76 ح2؛ بحارالأنوار: 3/46 ح20.

بنيت أتقن بناء وأحسنه، وفرشت بأحسن الفرش وأفخره، وأعدّ فيها ضروب الأطعمة والأشربة والملابس والمآرب التي يحتاج إليها لا يُستغنى عنها، ووضع كلّ شيء من ذلك موضعه على صواب من التقدير وحكمة من التدبير، فجعلوا يتردّدون فيها يميناً وشمالاً ويطوفون بيوتها إدباراً وإقبالاً محجوبة أبصارهم عنها لا يبصرون بنية الدار وما أعدّ فيها، وربما عثر بعضهم بالشيء الذي قد وضع موضعه وأعدّ للحاجة إليه وهو جاهل بالمعنى فيه ولما أعدّ ولماذا جعل كذلك فتذمّر وتسخّط وذمّ الدار وبانيها. فهذه حال هذا الصنف في إنكارهم ما أنكروامن أمر الخلقة وثبات الصنعة. فإنّهم ل-مّا غربت أذهانهم عن معرفة الأسباب والعلل في الأشياء صاروا يجولون في هذا العالم حيارى ولا يفهمون ما هو عليه من إتقان خلقته وحسن صنعته وصواب تهيئته؛ الخبر .(1)

أوَ هل يمكن إنكار الخالق لهذا الكون المملوء بالآيات البيّنات على الصانع الحكيم؟

أوَ لا تدلّ هذه الآيات المصنوعة والتي نجد مصنوعيّتها على صانعها؟

نعم، إن عاند الحقّ معاند وأنكره لأجل اللجاج معه فذاك أمر آخر ولكن يجب أن يشكّك في نفسه وكونها قبل التشكيك في الصانع للعالَ-م ذلك أنّ الأدلّة على الصانع كثيرة جدّاً بحيث لا ينكرها حتى الأطفال المميّزين إذا نبّهوا.

أوَ هل يقبل الطفل المميّز بأن يكون هناك بناء مبنيّاً من غير بنّاء؟

* في الإحتجاج عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: ولو فكّروا في عظيم القدرة وجسيم النعمة، لرجعوا إلى الطريق وخافوا عذاب الحريق، ولكن القلوب عليلة والأبصار مدخولة... إلى أن قال(ع): فالويل لمن أنكرالمقدر وجحد المدبّر. زعموا أنّهم كالنبات ما لهم زارع ولا لاختلاف صورهم صانع، لم يلجئوا إلى حجّة فيما ادّعوا ولا تحقيق لما وعوا، وهل يكون بناء من غير بان أو جناية من غير جان؛ الخطبة .(2)

ص: 62


1- بحارالأنوار : 3/59 ح1.
2- . الإحتجاج: 1/204؛ بحارالأنوار : 3/26 ح1.

فالتفكير في الخلقة يوجب وجدان مصنوعيّتها وأنّ لها مدبّراً عليماً حكيماً قديراً ولكن ماذا عسانا أن نصنع بعليل القلب؟!

أوَ هل يمكن أن نجبره على قبول الحقّ بعد العيان؟

كلّا، قد تبيّن الرشد من الغيّ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ولكن لهم الويلات ولا حجّة لهم كي يلجئوا إليها سوى جحد الحقّ وإماتة العقل الذي هو حجّة بذاته وكاشف لضرورة ثبوت الصانع للمصنوعات، فإن أصرّوا على مقالتهم «فتبّاً وخيبةً وتعساً لمنتحلي الفلسفة كيف عميت قلوبهم عن هذه الخلقة العجيبة حتى أنكروا التدبير والعمد فيها» .(1)

هذا وقد حاول البعض إرجاع الكائنات كلّها إلى الطبيعة فنجيب عليهم بما أجابه مولانا الصادق(ع) فلاحظ خبر المفضّل في البحار:

* ... قال المفضّل: فقلت يا مولاي إنّ قوماً يزعمون أنّ هذا من فعل الطبيعة فقال: سلهم عن هذه الطبيعة أهي شيء له علم وقدرة على مثل هذه الأفعال أم ليست كذلك. فإن أوجبوا لها العلم والقدرة، فما يمنعهم من إثبات الخالق فإنّ هذه صنعته، وإن زعموا أنّها تفعل هذه الأفعال بغير علم ولا عمد وكان في أفعالها ما قد تراه من الصواب والحكمة علم أنّ هذا الفعل للخالق الحكيم وأنّ الذي سمّوه طبيعة هو سنّة في خلقه الجارية على ما أجراها عليه .(2)

فالمستفاد من هذا الخبر الشريف أنّ الأشياء التي نراها مصنوعات مدبّرات لقيام آية المصنوع فيها، ولذا لابدّ لها من صانع عليم حكيم قدير فإن كان المراد من الطبيعة في كلامهم هو الصانع العامد في التدبير العليم الحكيم القدير فهو المطلوب، وإن كان المراد من الطبيعة هو هذه السنن والقوانين التي نراها، فلابدّ أيضاً من الإقرار بالصانع لأنّه ينبغي - بحكم العقل - لهذه القوانين والأسباب من مسبّب عليم حكيم

ص: 63


1- . بحارالأنوار : 3/57 ح1.
2- بحارالأنوار : 3/67 ح1.

قدير؛ الخبر.

ثمّ إنّ بعض من قصر فكره وقلّ عقله يبدي الإعجاب بالتأمّل في الكون والكائنات ومع ذلك تراه لا يصغي لمقالة الأنبياء: المنبّهين للحقائق والموقظين العقول من رقدة السبات.

* عن الإحتجاج عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر(ع): في قوله تعالى و(مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) قال فمن لم يدلّه خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ودوران الفلك بالشمس والقمر والآيات العجيبات على أنّ وراء ذلك أمرا هو أعظم منه (فَهُوَ في الْآخِرَةِ أَعْمى) (1)قال: فهو عمّا لم يعاين أعمى وأضل سبيلاً .(2)

و حاصل الخبر - واللّه تعالى العالم - أنّ من لم تدلّه هذه الكائنات على الصانع وعلمه وحكمته وقدرته مع أنّ دلالتها بالعيان واضحة لا يستطيع الإيمان باليوم الآخر والقيامة والجنّة والنار والنعيم والعقاب لغيابه عن الحواسّ.

الباب العاشر: نظريّة التطوّر والردّ عليها

ص: 64


1- الإسراء: 72.
2- . الإحتجاج: 2/320؛ بحارالأنوار : 3/28 ح1.

هي نظرية قائمة على بعض الدراسات في عالم التكوين يستنتج منها - على حسب زعمهم - تطوّر الكائنات الحيّة وظهور ميزات جديدة فيها من جيل إلى آخر، ويؤدّي ذلك - في النهاية - إلى تغيير وتحسين مواصفات النوع الأوّل، وهذا يؤدّي إلى نشوء نوع جديد من الكائنات الحيّة. فهناك نوع واحد موجود أساساً إلّا أنّه تطوّروتنوّع عبر الأزمان الطويلة. وعليه يكون لكلّ الكائنات سلف مشترك هو الأساس لها.

استدلّوا على نظريّتهم بدراسات أقاموها على سلسلة من الكائنات فتوصلوا فيها إلى وجود ارتباط بين جميع الكائنات وهي الأصول المشتركة بين جميع هذه الأنواع.

و قام بعض من لا علم له بمساندة هذه النظريّة وسعى بذلك إلى أن يهدم واقعيّة الخلق والخالق استنادا إلى هذه النظريّة الدالّة على السلف المشترك.

و يرد عليهم بأمور:

1 - لو سلّمنا لهذه الفرضيّة التي أسّست ابتناء على بعض الدراسات القائمة على بعض الكائنات، نقول: ما الدليل على أزلّية الجدّ المشترك لجميع الكائنات؟ ذلك أنّ قبوله للتطوير خير شاهد على احتياجه وفقره وبالنتيجة حدوثه فإنّ القديم لا يتجزّأ ولا ينقسم ولا يتطوّر بحكم العقل.

2 - لو سلّمنا لهذه الفرضيّة وقبلنا أنّ جينات الكائن الأوّل بدأت بالتطوّر حتى حصلت هذه الكائنات التي نراها اليوم، فنقول: إذا كان هناك برنامج في بطن الخلايا نسمّيه بالجينات وهو الذي يكون له طفرة نوعيّة، فلابدّ من عدّ تلك الطفرة من الأفعال

ص: 65

و حينئذ يطرح هذا السؤال «من الفاعل لهذا الفعل؟» أوَ هل يعقل أن يكون فعل من دون فاعل؟

3 - هل يعقل أن يكون تصوير الجنين في رحم الأمّ والفرخ في البيضة والحبّ في الأرض وكون السماوات السبع وما فيها والأرضين ومن عليها، وليد برنامج الجينات ومن دون مبرمج ومدبّر لها؟!

بعبارة أخرى: لا يمكن الإصغاء إلى هذه النظريّة عقلاً، ذلك أنّ العقل حاكم باحتياج المصنوع إلى الصانع في كلّ لحظة فإنّنا نرى بعقولنا أيادي قدرته تعالى ورحمته وفضله ونلمس إرادته ومشيّته وتدبيره فإنّه هو الذي يهب الذكور والإناث ويجعل من يشاء عقيماً، وهو الذي في شأن جديد كلّ يوم.

4 - لا يمكن أن تكون هذه الحكمة المستعلمة في الكائنات وليدة الطبيعة فإنّ الطبيعة العمياء لا يعقل أن تأتي بأفعال كالتي نراها، ولذا عارض بعض علماء الغرب هذه النظريّة ونظّروا نظريّة جديدة تدعى ب- «نظريّة التطوير الذكيّ» "smartevelution" وهي قائمة على أنّ العالم معقّد جدّاً ولا بدّ له من صانع ذكيّ وقد أثبتوا ذلك بصورة علميّة.

لاحظ هذه العبارات المأخوذة من موسوعة "wikki pidia" الإنترنيتيّة.

يبحث مؤيّدو التصميم الذكيّ عن دليل ما يسمّونه «علامات الذكاء»: وهي الخصائص الفيزيائيّة ف-ي الشيء التي تدلّ على مصمّمه. على سبيل المثال، إذا وجد أحد علماء الآثار تمثالاً مصنوعاً من الحجر ف-ي حقل، سيستنتج أنّ التمثال قد صُنع،بعد ذلك سيبحث بشكل منطقيّ لتحديد صانع التمثال. لكنّه أيضاً لن يبرر بنفس الادّعاء إذا وجد قطعة صخرية عشوائيّة الشكل ومن نفس الحجم.

يستشهد مؤيّدو النظريّة بما يسمى «علامات الذكاء» وهي تتضمّن التعقيد غيرالقابل للاختزال complexity) (irreducible آليّات الإعلام mechanisms)

ص: 66

(information والتعقيد المخصّص complexity) (specified ويجادل هؤلاء بأنّ الأنظمة الحيّة تُظهر واحداً أو أكثر من هذه العلامات؛ ومنها يستنتجون أنّ بعض جوانب الحياة قد صُمّمت.

ويقول مؤيّدو النظريّة إنّه بالرغم من عدم وجود أدلّة محسوسة بشكل مباشر تدلّ على طبيعة «المصمّم الذكيّ» أو الخالق، فإنّه يمكن اكتشاف آثاره على الطبيعة.

يقول «ديمبسكي» عن علامات الذكاء: «مؤيّدو التصميم الذكيّ يعتبرونه كبرنامج للبحث العلميّ يحقّق ف-ي آثار المسبّب الذكيّ. لاحظ أنّ التصميم الذكيّ يدرس آثار المسبّب الذكيّ وليس المسبّب الذكيّ نفسه». على ضوء ذلك، وبما أنّه لا يمكن اختبار هويّة المؤثّرات خارج نظام مغلق من داخله، تقع الأسئلة التي تتعلّق بهويّة المصمّم خارج حدود المفهوم.

موضوع التصميم أصبح خامس براهين الأكويني الخمسة لإثبات وجود اللّه الخالق، ولاحقاً من قبل ويليام بالي WilliamPaley ف-ي كتابه NaturalTheology(2081), حيث استمر باستخدام مماثلة صانع الساعات watchmakeranalogy, التي ما تزال تُستخدم حتى اليوم ف-ي حجج التصميم الذكيّ.

ف-ي أوائل القرن التاسع عشر، قادت مثل هذه الحجج إلى تطوير ما يُدعى اليوم بالإلهيّات الطبيعيّة Naturaltheologyأي دراسة علم الأحياء ضمن البحث عن «عقل الإله» "mindofGod" (طريقته ف-ي خلق وترتيب الكون).

هذه الحركة أنعشت من جديد حركة جمع المستحاثات والعينات البيولوجية التي أدّت إلى نظريّة التطوّر التي صاغها داروين ف-ي كتابه أصل الأنواع. نفس النهج لكن بافتراض أنّ مصمماً إلهيّاً قد وضع عمليّة التطوّر ف-ي مسارها قاد لتشكّل ما يُدعى اليوم بنظريّة التطوّر الإلهيّ

ص: 67

theisticevolution وهو اعتقاد بأنّ نظريّة التطوّر والعلوم الحديثة متوافقة تماما مع فكرة وجود خالق فوق طبيعي.

ف-ي أواخر القرن العشرين، بدأت حركة التصميم الذكيّ كتطوّر ضمن الإلهيّات الطبيعيّة التي تبحث عن تغيير ف-ي أسس العلوم والتنقيب ف-ي نظريّة التطوّر وصياغتها. يمكن اعتبار التصميم الذكيّ كنوع من نظريّة ثوريّة تحاول توسيع النظريّات القديمة لتفسير النتائج الجديدة (من مكتشفات حديثة وتطور علم الإحاثة) لكن الحجج الأساسيّة تبقى نفسها: النظم المعقدة تقتضي وجود مصمّم ولايمكن وجودها اعتباطا. ومن الأمثلة التي أستخدمت سابقاً ف-ي هذا السياق: العين (أو النظام الإبصاري)، الجناح المرّيش لطيران الطيور، أما حالياً فهناك أمثلة بيوكيميائيّة مثل: وظائف البروتين، تخثر الدم، وسياط الجراثيم؛ انتهى ما أردنا نقله.

وكيفما كان، لا أظنّ أنّ عاقلاً يصغي لفرضيّة التطوّر ذلك أنّها لا تستقيم لإثبات عدم استناد الكون إلى خالق عليم حكيم قدير.

ولا ينقضي عجبي أبدا من بعض من لا حظّ لهم من العلم والمعرفة(1) حينما قال بأنّ هذا العالم معقّد جدّاً والربّ لا يستطيع أن يخلقه مع ما فيه من التعقيد، ثمّ ادّعى أنّه لا يخصّص الربّ في كلامه بدين أو عقيدة، بل يقصد أنّ الربّ مطلقاً لا يستطيع أن يخلق عالَماً بهذه الدقّة وهذا التعقيد، ثمّ ادّعى بأنّ العلم الحديث لم يثبت وجود الربّ!

سبحان اللّه! ما ألجأه إلى إنكار الربّ تعالى أخذنا الى الإقرار بالصانع الحكيم. فهل يعقل أن يستند البناء ذو الطابق الواحد إلى بنّاء ولا يستند البناء ذو الطوابق العديدة إلى مهندس بارع! ما لكم كيف تحكمون؟!

ص: 68


1- هو الفيلسوف الغربيّ ريتشارد دوكنز صاحب كتاب وهم الإله "The God Delusion".

ثمّ إنّه من الواضح أنّنا لا نحتاج إلى تأسيس نظريّات رياضيّة وفيزيائيّة معقّدة لإثبات احتياج الفعل إلى فاعل والأثر إلى مؤثّر والمصنوع إلى صانع، أوَ هل يحتاج إثبات لزوم وجود البنّاء للبناء إلى نظريّة فيزيائيّة معقّدة؟! أوَ هل يحتاج إثبات وجود الرامي للحجر المرميّ إلى قواعد رياضيّة؟! أوَ هل يحتاج في إثبات العلم والقدرة والحكمة للبنّاء الماهر إلى النظريّة النسبيّة لأنيشتين أو سائر نظرياته أو إلى نظريّات فيثاغورس أو غيرها من النظريّات؟!

نعم من أراد إنكار ما يراه كلّ عاقل بنور العقل - من احتياج الفعل الحكيم إلى فاعل حكيم قدير - يحتاج إلى إقامة نظريّات عديدة كي يشبّه الأمر على العاقل فيدخله في حيّز التشكيك بعد أن كان متنوّراً بنور العقل.

وأمّا إطلاقه في كلامه بحيث يشمل إشكاله مطلق الربّ في جميع الأديان فهو تحكّم وادّعاء من غير دليل فإنّه لا يخفى على المتتبّع في الأديان أنّها تشبّه الخالق بالمخلوق فيخرج بذلك الربّ عن السبّوحيّة والقدّوسيّة وما كان كذلك يكون محتاجاً كاحتياج الخلق إلى الخالق ومن الواضح أنّه لا يصلح لخلق الكون.

وأمّا على مذهب الحقّ وهو مذهب أهل البيت: المذكّر بالقرآن ونور العقل لا يكون الخالق - الذي يثبت وجوده بالآيات الدالّة عليه - شبيهاً بالخلق بوجه من الوجوه - كما ستعرف إن شاء اللّه - ولذا لابدّ من الإقرار به لدلالة الآيات عليه ودلالتها على عدم شباهته بالمخلوقات ول-مّا كان تعالى علم كلّه وقدرة كلّه يكون ربّاً خالقاً رازق قيّوماً.

وبعبارة أخرى: ل-مّا كان موجوداً لدلالة الآيات عليه ول-مّا كانت الآثار تدلّ على علم وقدرة وسبّوحيّة المؤثّر لابدّ من الإعتقاد بانتساب خلق الكون إليه فلا يمكن الإصغاء إلى ما قيل من أنّ العالم معقّد جدّاً ولا يمكن للربّ أن يخلقه، إذ الربّ الغير شبيه بالخلق الذي هو علم كلّه وقدرة كلّه قادر على خلق الكون مع ما فيه من التعقيد.

ص: 69

الباب الحادي عشر: سبّوحيّة اللّه تعالى عن مضاهاة الخليقة ورابطته مع التوحيد

ص: 70

قال اللّه تعالى: (فاطِرُ السَّماواتِ والْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً ومِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) .(1)

إنّ من نظر بنور عقله إلى الكائنات يرى مصنوعيّتها، وحقيقة المصنوعيّة هو الإحتياج إلى الخالق المتعالي عن صفاتها، ذلك أنّ العقل كاشف عن حقيقة المخلوق الذي هو عين الفقر والإحتياج إلى الغير، فالإحتياج ذاتيّ للمخلوق وإنّه محتاج إلى الغير حتى في شيئيّته وكيانه وليس قائماً بذاته فإنّه كان بعد أن لم يكن.

ومن الواضح أنّ ذلك «الغير» الذي ما من مخلوق إلّا وهو محتاج إليه لو كان مثل الكائنات ومضاهيهم في الصفات - من البدء والنهاية والحدّ وجريان الزمان عليه ووجدانه العلم بعد الجهل وفقدانه العلم بعد أن صار عالماً والفقر والإستكانة والإحتياج وغيرها من صفات الخليقة التي يعرفها كلّ عاقل بنور العقل - لصار مخلوقاً فقيراً محتاجاً مثلهم، ولتحوّل دليلاً على عزيز قيّوم عليم بذاته قدير ذاتاً. وبما أنّ الخليقة فقيرة ومحتاجة ذاتاً إلى قيّوم يكون هو القائم عليها والرافع لاحتياجاتها، فلابدّ - بحكم العقل - أن يكون الخالق لها - الذي لا يمكن إنكاره لدلالة صنيعته عليه - مبايناً لها في الصفات، متعالياً عمّا تحتاج إليه، وقادراً ذاتاً على رفع حوائجها.

وبناء على ذلك لابدّ - بحكم العقل - أن يكون الخالق للكائنات مبايناً لها ويكون

ص: 71


1- الشورى : 11.

خلواً منها وتكون هي خلواً منه، وأن لا يجري عليه كلّ ما جرى عليها وأجراه، ولا يطلق عليه السكون والحركة، ولا يلتمس له وراء ولا أمام، ولا يكون ذا بدء ونهاية، ولا يكون محتاجاً إلى أيّ شيء. وبكلمة واحدة لا يكون مثلها في أيّ شيء ولايضاهيها في صفة من صفاتها أزلاً وأبداً.

ومعنى ذلك أن يكون الخالق عين الكمال وعين العلم وعين القدرة فإنّه عالم بالشيء قبل وجوده بذاته القدّوس، وقادر على ما يريد ولا يعجزه شيء أبداً، وحيّ قبل كلّ حيّ وحيّ بعد كلّ حيّ وحيّ حين لا حيّ وحيّ يبقى ويفنى كلّ حيّ، وإنّه تعالى فوق الزمان ولا يجري عليه شيء منه أبداً، وكيف يجري عليه وهو الذي أجراه بخلقه المخلوق الأوّل! وإنّه لا يحيط به مكان لعظمته عن صفة من يحيط به المكان.

ولأجل عدم مشابهته تعالى - بحكم العقل - لخليقته لا يمكن أن يقع في مهبّ تيّار إدراك العقل ليصير معقولاً ومعلوماً، ولا يمكن الإحاطة بصفته؟ ولا يمكن توّهمه ولا توصيفه، كلّ ذلك لأنّ التوصيف والتعقّل يقع على الكائنات، وبما أنّ اللّه تعالى أعلى وأجلّ منها، يحكم العقل بامتناع تعقّله وتوصيفه.

وقد أفاد شيخنا الأستاذ حسن عليّ المرواريد في كتابه حول هذا الموضوع ما هذا نصّه:

الأمر الثاني:

- وهي: معرفة أنّه تعالى لا يشبه شيئا من المخلوقين ومباين لهم ف-ي ذاتهم وأوصافهم ومنزّه عنها - فهي العمدة ف-ي باب معرفة اللّه تعالى، وبه تمتاز المعارف الإلهيّة الحقّة عن غيرها. وأمّا الأمر الذي أشرنا إليه ف-ي بعض التنبيهات السابقة - وهي مصنوعيّة العالم بما فيه، واحتياج المصنوع إلى الصانع - فإنّه ممّا لا ينبغي خفاؤه على أحد من العقلاء. وقد أتمّ اللّه حجّته ف-ي ذلك بما مرّ ذكره من الآيات المباركة ونحوها، كما قال اللّه

ص: 72

تعالى ف-ي كتابه: (أَفِي اللّه شَكٌّ فَاطِر السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)(1) . وكذا الرسول الأكرم والأئمّة المعصومون صلوات اللّه عليهم، ف-ي ما روي عنهم.

وطريق معرفة الأمر الثاني: النظر الدقيق والتفكّر العميق ف-ي ذات المخلوق والمصنوع وسنخ حقيقته، وف-ي معنى الشيئيّة بالغير والحقيقية بالغير، وأنّ الشيء بالغير وإن كان شيئاً منشأً للآثار ولكنّه ليس بشيء بحقيقة الشيئيّة، بل هو محض الفقر والإحتياج ف-ي شيئيّته وثبوته وبقائه وتأثيره وتأثّره إلى الغير. ثمّ التذكّر بأنّ كلّ ما يدرك حقيقته بإحاطة العقل والعلم، وبالحواسّ الظاهرة والباطنة من الجواهر وما يعرضها من الأعراض والحركات بمعناها العام، التي عرفت أنّها من سنخ المخلوق الواضح احتياجه إلى الخالق، لو كان الخالق من سنخه وبأوصافه لجرى الحكم المذكور، أي الإحتياج إلى الخالق، فيه أيضاً، وهو خلاف حقيقته.

فيحكم العقل أي يظهر به، أنّ الذي ليس بمخلوق ليس من سنخ المخلوق ولا يشبهه، ولا يجري فيه ما يجري فيه، كما سيأتي مزيد بيان له إن شاء اللّه تعالى .(2)

إذا عرفت ذلك يتبيّن لك المراد من قوله(ص) «من عرف نفسه فقد عرف ربّه»(3) فإنّ المراد منه هو أنّ من عرف نفسه بالمخلوقيّة فإنّه يعرف ربّه بالخالقيّة، ومن عرف نفسه بالضعف يعرف ربّه بالقدرة الذاتيّة، ومن عرف نفسه بالجهل يعرف ربّه بالعلم والكمال كما ورد في الأخبار أنّه «بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له وبتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له»(4) وأنّه «مستشهد بحدوث الأشياء على أزليّته» وأنّه «الدالّ على قدمه

ص: 73


1- ابراهيم : 10.
2- تنبيهات حول المبدأ والمعاد : 53.
3- مصباح الشريعة: 1 ح13الباب الخامس في العلم؛ بحارالأنوار : 2/32 ح22.
4- الكافي: 1/138 ح4؛ بحارالأنوار : 4/229 و305 و 57/178 و 74/311.

بحدوث خلقه وبحدوث خلقه على وجوده»(1) وأنّه «الدالّ على قدمه بحدوث خلقه وباشتباههم على أن لا شبه له... مستشهد بحدوث الأشياء على أزليّته وبما وسعها به من العجز على قدرته وبما اضطرّها من الغناء على دوامه»(2) فالمراد من المعرفة بالربّ تعالى الحاصلة استتباعا لمعرفة النفس هي معرفة كمالاته عند معرفة ضعف المخلوق وعجزه ووجدان هذه الحقيقة الهامّة... وهكذا.

* فعن هشام بن الحكم أنّه قال: كان من سؤال الزنديق الذي أتى أبا عبدالله(ع): قال ما الدليل على صانع العالم؟

فقال أبو عبدالله(ع): وجود الأفاعيل التي دلّت على أنّ صانعها صنعها. ألا ترى أنّك إذا نظرت إلى بناء مشيّد مبنيّ، علمت أنّ له بانياً وإن كنت لم تر الباني ولم تشاهده.

قال: وما هو؟

قال(ع): هو شيء بخلاف الأشياء، أرجع بقولي شيء إلى إثباته وأنّه شيء بحقيقة الشيئيّة، غير أنّه لا جسم ولا صورة ولا يحسّ ولا يجسّ ولا يدرك بالحواسّ الخمس، لا تدركه الأوهام ولا تنقصه الدهور ولا يغيّره الزمان.

قال السائل: فإنّا لم نجد موهوماً إلّا مخلوقاً.

قال أبو عبدالله(ع): لو كان ذلك كما تقول لكان التوحيد منّا مرتفعاً. فإنّا لم نكلّف أن نعتقد غير موهوم، لكنّا نقول كلّ موهوم بالحواسّ مدرك بها تحدّه الحواسّ ممثّلاً فهو مخلوق. ولابدّ من إثبات صانع الأشياء خارجاً من الجهتين المذمومتين: إحداهما، النفي إذ كان النفي هو الإبطال والعدم. والجهة الثانية، التشبيه بصفة المخلوق الظاهر التركيب والتأليف. فلم يكن بدّ من إثبات الصانع لوجود المصنوعين والاضطرارمنهم إليه أنّهم مصنوعون وأنّ صانعهم غيرهم وليس مثلهم إذ كان مثلهم شبيها بهم في ظاهر التركيب والتأليف وفي ما يجري عليهم من حدوثهم بعد أن لم يكونوا، وتنقّلهم من صغر إلى كبر

ص: 74


1- نهج البلاغة: 269 الخطبة 185؛ بحارالأنوار : 4/261 ح9 و54/29 ح105 و46 و87/138 ح7.
2- نهج البلاغة : 269 الخطبة 185؛ بحارالأنوار: 4/261 ح9.

وسواد إلى بياض وقوّة إلى ضعف وأحوال موجودة لا حاجة بنا إلى تفسيرها لثباتها ووجودها.

قال السائل: فأنت قد حدّدته إذا ثبتّ وجوده.

قال أبو عبد الله(ع): لم أحدّده ولكن أثبته إذ لم يكن بين الإثبات والنفي منزلة.

قال السائل: فقوله (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى).

قال أبو عبدالله(ع): بذلك وصف نفسه وكذلك هو مستول على العرش بائنٌ من خلقه، من غير أن يكون العرش حاملاً له، ولا أنّ العرش محلّ له، لكنّا نقول هو حامل للعرش وممسك للعرش، ونقول في ذلك ما قال: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ والْأَرْضَ)(1) فثبتنا من العرش والكرسيّ ما ثبّته. ونفينا أن يكون العرش والكرسيّ حاوياً له، وأن يكون عزّوجلّ محتاجاً إلى مكان أو إلى شيء ممّا خلق، بل خلقه محتاجون إليه.

قال السائل: فما الفرق بين أن ترفعوا أيديكم إلى السماء وبين أن تخفضوها نحو الأرض؟

روى الطبرسي عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله(ع) قال: ذلك في علمه وإحاطته وقدرته سواء، ولكنّه عزّوجلّ أمر أولياءه وعباده برفع أيديهم إلى السماء نحو العرش لأنّه جعله معدن الرزق، فثبّتنا ما ثبّته القرآن والأخبار عن الرسول(ص) حين قال: ارفعوا أيديكم إلى اللّه عزّوجلّ وهذا تجمع عليه فرق الأمّة كلّها .(2)

أقول: بيّن الإمام(ع) بأنّ الآيات دليل على خالقها، والأفاعيل براهين على فاعلها، ولابدّ من إثباته تعالى لوجود المصنوعين كما يحكم العقل بضرورة البنّاء عند رؤية البناء وإن لم ير الباني.

ثمّ بيّن(ع) بأنّه تعالى شيء بحقيقة الشيئيّة أي شيء قائم بذاته وليس قائماً بالغير وهو شيء بخلاف الأشياء، ولذا لا يحسّ ولا يجسّ ولا يدرك بالحواسّ الخمس ولا

ص: 75


1- البقرة: 255.
2- الإحتجاج: 2/332؛ بحارالأنوار : 3/30 ح3.

تدركه الأوهام ولا تنقصه الدهور ولا يغيّره الزمان.

ولمّا قال السائل بأنّ الإثبات يستلزم المخلوقيّة، أجاب الإمام(ع) بأنّ الأمر ليس كذلك. فإنّه لابدّ من الإثبات للصانع لوجود المصنوعين، ولو كان الإثبات يستلزم المخلوقيّة لاستلزم ذلك رفع التوحيد عنّا، ولكن لابدّ من إثبات الصانع لوجود المصنوعين، ولا بدّ من الإعتقاد بأنّه ليس كمثله شيء لأنّه لو كان تعالى مثلهم ومضاهيا لهم في الصفات، لصار مخلوقا.

ول-مّا توهّم الراوي أنّ إثباته تعالى وإخراجه من العدم يستلزم التحديد، أجاب الإمام(ع) بأنّ الإثبات لا يستلزم التحديد بل لابدّ من الإثبات لما نرى من الصنع الدالّ على صانعه.

والظاهر أنّ توهّم الراوي التحديد من الإثبات نشأ لأجل أنّ الإثبات إخراج من العدم إلى الواقعيّة، وهذا يستلزم التحديد إلّا أنّ هذا التوهّم خاطئ إذ الإثبات مع عدم التشبيه ليس تحديداً.

والحاصل من هذا الخبر أنّ العقل يحكم بلزوم الصانع لثبوت المخلوقين، كما أنّه يحكم بضرورة سبوحيّته عن صفة المخلوق ذلك أنّه تعالى لو كان يحمل صفاتهم لصار مثلهم في ظاهر التركيب والتأليف ولتحوّل مخلوقا، مع أنّ العقل يحكم ضرورةً بثبوت الخالق لجميع هذه الكائنات وهذا هو المراد من إخراجه تعالى عن الجهتين المذمومتين الإبطال والتشبيه.

* روى الصدوق مسنداً عن القاسم بن أيوب العلوي عن الإمام الرضا(ع) إلى أن قال: بها تجلّى صانعها للعقول، وبها احتجب عن الرؤية، وإليها تحاكم الأوهام، وفيها أثبت غيره، ومنها أنيط الدليل، وبها عرّفها الإقرار. بالعقول يعتقد التصديق بالله، وبالإقرار يكمل الإيمان به، لا ديانة إلّا بعد معرفة، ولا معرفة إلّا بإخلاص، ولا إخلاص مع التشبيه، ولا نفي مع إثبات الصفات للتشبيه. فكلّ ما في الخلق لا يوجد في خالقه، وكلّ ما يمكن فيه يمتنع في صانعه. لا تجري عليه الحركة والسكون، وكيف يجري عليه ما هو أجراه أو يعود فيه ما

ص: 76

هو ابتدأه إذا لتفاوتت ذاته ولتجزّأ كنهه ولأمتنع من الأزل معناه ولما كان للبارئ معنى غير المبروء. ولوحّد له وراء إذا حدّ له إمام. ولو التمس له التمام إذا لزمه النقصان. كيف يستحقّ الأزل من لا يمتنع من الحدث؟ وكيف ينشئ الأشياء من لا يمتنع من الإنشاء؟ إذا لقامت فيه آية المصنوع ولتحوّل دليلاً بعد ما كان مدلولاً عليه؛ الخبر .(1)

أقول: إنّ الإمام(ع) بيّن بأنّ اللّه تعالى تجلّى للعقول بالصنيعة. فلمّا كان العقل حاكما بلزوم الصانع عند رؤية المصنوع صار خلْقَه المصنوعات سبباً لتجلّيه تعالى للعقول.

ثمّ أفاد(ع) بأنّ الإخلاص لا يكون مع التشبيه وأنّه لا يقع النفي عن النقيصة عن اللّه تعالى إذا شبّهوه بخلقه.

ثمّ بيّن(ع) بأنّ كلّ ما يكون في المخلوق لا يكون في خالقه بل كلّ ما يمكن فيه يمتنع في خالقه لسبوحيّته تعالى عن صفة الكائنات التي ذاتها العجز والضعف فكيف يمكن أن يجري فيه ما هو أجراه وخلقه، إذا لقامت آية المخلوق فيه وتحوّل إلى مخلوق محتاج إلى الخالق المتعال، ولذا صار دليلاً بعد أن كان مدلولاً عليه.

والحاصل: إنّ الإمام(ع) بيّن بأنّ العقل يحكم بامتناع جريان صفات المخلوق عليه، ذلك أنّ من جرت عليه تلك الصفات صار مخلوقا بجريانها والحال أنّ العقل يحكم بلزوم الصانع للمخلوقات.

* روى العلّامة المجلسي أنّه سئل من الإمام الصّادق(ع) عن التوحيد والعدل فقال: التوحيد أن لا تجوّز على ربّك ما جاز عليك والعدل أن لا تنسب إلى خالقك ما لامك عليه .(2)

بيان: المراد من التوحيد هو نفي صفات الخلائق عن الخالق. فإذا لم يجوّز الإنسان على الربّ تعالى ما جاز على العباد - من الحدوث والزوال والخطأ والنسيان والموت

ص: 77


1- التوحيد للصدوق: 1/34 ح3؛ بحارالأنوار : 4/230 ح3.
2- . إعلام الورى : 291؛ بحارالأنوار: 4/264 ح13.

والعجز والفقر وغيرها ممّا يعرفه كلّ عاقل بنور العقل - يصير موحّداً إذ بنفيه صفات الخلائق عن اللّه تعالى يكون اللّه واحداً حقيقةً.

ثمّ اعلم أنّه قد وردت أخبار كثيرة تدلّ على لزوم إخراج اللّه تعالى عن الحدّين، وأثارت بذلك العقول وأيقظتها من سباتها فلاحظ الأخبار التالية:

* روى الصدوق عن الصوفي عن الروياني عن عبد العظيم الحسنيّ قال: دخلت على سيّدي عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب:. فلمّا بصر بي قال لي: مرحبا بك يا أبا القاسم أنت وليّنا حقّاً.

قال: فقلت له: يا ابن رسول اللّه إنّي أريد أن أعرض عليك ديني، فإن كان مرضيّاً ثبتت عليه حتى ألقى اللّه عزّوجلّ.

فقال: هاتها أبا القاسم.

فقلت: إنّي أقول إنّ اللّه تبارك وتعالى واحد لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، خارج من الحدّين حدّ الإبطال وحدّ التشبيه، وإنّه ليس بجسم ولا صورة ولا عرض ولا جوهر بل هو مجسّم الأجسام ومصوّر الصور وخالق الأعراض والجواهر وربّ كلّ شيء ومالكه وجاعله ومحدثه، وأنّ محمّداً عبده ورسوله خاتم النّبيّين فلا نبيّ بعده إلى يوم القيامة، وأقول أنّ الإمام وال-خليفة ووليّ الأمر بعده أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب، ثمّ الحسن، ثمّ الحسين، ثمّ عليّ بن الحسين، ثمّ محمّد بن عليّ، ثمّ جعفر بن محمّد، ثمّ موسى بن جعفر، ثمّ عليّ بن موسى، ثمّ محمّد بن عليّ، ثمّ أنت يا مولاي.

فقال(ع): ومن بعدي الحسن ابني، فكيف للنّاس بالخلف من بعده؟

قال فقلت: وكيف ذلك يا مولاي؟

قال: لأنّه لا يرى شخصه ولا يحلّ ذكره باسمه حتى يخرج فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.

قال فقلت: أقررت وأقول إنّ وليّهم وليّ الله، وعدوّهم عدوّ الله، وطاعتهم طاعة الله، ومعصيتهم معصية الله، وأقول أنّ المعراج حقّ، والمساءلة في القبر حقّ، وأنّ الجنّة حقّ،

ص: 78

والنّار حقّ، والصّراط حقّ، والميزان حقّ، وأنّ السّاعة آتية لا ريب فيها، وأنّ اللّه يبعث من في القبور، وأقول أنّ الفرائض الواجبة بعد الولاية الصلاة والزكاة والصوم والحجّ والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فقال عليّ بن محمّد(ع): يا أباالقاسم هذا واللّه دين اللّه الذي ارتضاه لعباده، فاثبت عليه ثبّتك اللّه بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة .(1)

* روى العلّامة المجلسيّ عن المحاسن عن محمّد بن عيسى عمن ذكره رفعه قال: سئل أبو جعفر(ع)، أيجوز أن يقال للّه إنّه موجود؟ قال: نعم، تخرجه من الحدّين حدّ الإبطال وحدّ التشبيه .(2)

* روى الكلينيّ عن حمّاد بن عثمان عن عبدالرحيم بن عتيك القصير قال: كتبت على يدي عبدالملك بن أعين إلى أبي عبدالله(ع) أنّ قوماً بالعراق يصفون اللّه بالصّورة وبالتخطيط، فإن رأيت - جعلني اللّه فداك - أن تكتب إليّ بالمذهب الصحيح من التوحيد.

فكتب إليّ: سألت - رحمك اللّه - عن التوحيد وما ذهب إليه من قبلك فتعالى اللّه الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، تعالى عمّا يصفه الواصفون المشبّهون اللّه بخلقه المفترون على اللّه.

فاعلم - رحمك اللّه - أنّ المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من صفات اللّه جلّ وعزّ، فانف عن اللّه تعالى البطلان والتشبيه فلا نفي ولا تشبيه، هو اللّه الثابت الموجود، تعالى اللّه عمّا يصفه الواصفون، ولا تعدوا القرآن فتضلّوا بعد البيان .(3)

بيّن الإمام(ع) أنّ المذهب في التوحيد هو الإثبات من دون تشبيه وقد عرفت أنّ ذلك هو حكم العقل الذي هو حجّة بذاته ولا يخطأ في كشفه فلابدّ من إثباته تعالى من دون تشبيه، وهذا هو التوحيد ذلك أنّه تعالى إذا كان مباينا عن المخلوق وسبّوحا

ص: 79


1- كمال الدين: 2/379 ح1؛ بحارالأنوار : 3/268 ح3.
2- المحاسن: 1/240 ح220؛ بحارالأنوار : 3/265 ح29.
3- الكافى : 1/100 ح1؛ الوافي: 1/405 ح325.

عن الشبه، يكون واحدا حقيقةً فالتوحيد هو تمييزه تعالى عن خلقه.

* روى العلّامة المجلسي عن احتجاج عن أميرالمؤمنين(ع) في خطبة له: دليله آياته، ووجوده إثباته، ومعرفته توحيده، وتوحيده تمييزه من خلقه، وحكم التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة، إنّه ربّ خالق غير مربوب مخلوق ما تصوّر فهو بخلافه. ثمّ قال بعد ذلك: ليس بإله من عرف بنفسه، هو الدالّ بالدليل عليه والمؤدّي بالمعرفة إليه؛ الخطبة .(1)

بيّن الإمام(ع) أنّ المراد من التوحيد هو تمييز اللّه تعالى عن خلقه ومن الواضح أنّ المراد من التمييز ليس هو بينونته عن الخلق بالبينونة العزليّة لاستلزامه استقلال المخلوق عن الخالق وهو محال بحكم العقل الكاشف لاحتياج المخلوق إلى الصانع الحكيم دائماً ومن دون انقطاع، بل المراد من البينونة هي البنيونة الصفتيّة وهي امتناع جريان صفات المخلوق عليه تعالى، ولذا لابدّ من الإعتقاد بإله منزّه عن صفة الخلائق، ولذا لا يكون الطريق إلى معرفته بالتصوّر، بل ما تصوّر فإنّ اللّه تعالى بخلافه، فإنّ المعروفيّة بالنفس تكون معروفيّة ووقوعا تحت أمواج تيّار إدراك العقل مع أنّ العقل كاشف لامتناع جريان صفة المخلوق عليه تعالى، و مع ذلك لا تنسدّ باب المعرفة من غير تشبيه لأنّه تعالى هو الذي يدلّ على نفسه بالآيات ويعرّف نفسه بالكمالات والسبوحيّة والقدّوسيّة.

نعم يحتمل أن يكون المراد من البينونة العزليّة هو انفصاله تعالى عنهم مكانا، وبما أنّ ذلك يستلزم صيرورته تعالى مكانيّاً، نفى الإمام(ع) بينونته عنهم بالبينونة العزليّة.

* روى العلّامة المجلسي عن الإحتجاج عن أميرالمؤمنين(ع): أوّل عبادة اللّه معرفته، وأصل معرفته توحيده، ونظام توحيده نفي الصفات عنه، جلّ أن تحلّه الصفات لشهادة العقول أنّ كلّ من حلّته الصفات مصنوع وشهادة العقول أنّه جلّ جلاله صانع ليس بمصنوع؛ الخبر .(2)

ص: 80


1- الإحتجاج: 1/201؛ بحارالأنوار : 4/253.
2- الإحتجاج: 1/200؛ بحارالأنوار : 4/253 ح6.

* وروى الصدوق عن القاسم بن أيوب العلوي عن الإمام الرضا(ع) إلى أن قال: أوّل عبادة اللّه معرفته، وأصل معرفة اللّه توحيده، ونظام توحيد اللّه نفي الصفات عنه لشهادة العقول أنّ كلّ صفة وموصوف مخلوق وشهادة كلّ موصوف أنّ له خالقاً ليس بصفة ولا موصوف، وشهادة كلّ صفة وموصوف بالاقتران، وشهادة الاقتران بالحدث، وشهادة الحدث بالإمتناع من الأزل الممتنع من الحدث. فليس اللّه عرف من عرف بالتشبيه ذاته، ولا إيّاه وحدّ من اكتنهه، ولا حقيقته أصاب من مثّله، ولا به صدّق من نهّاه، ولا صمد صمْده من أشار إليه، ولا إيّاه عنى من شبّهه، ولا له تذلّل من بعّضه، ولا إيّاه أراد من توهّمه، كلّ معروف بنفسه مصنوع، وكلّ قائم في سواه معلول، بصنع اللّه يستدل عليه، وبالعقول تعتقد معرفته، وبالفطرة تثبت حجّته؛ الخبر .(1)

بيان: واضح أنّ العبادة التي هي بمعنى منتهى الخضوع - بحيث لا يجوز ولا ينبغي إلّا للمالك بالملكيّة الحقيقيّة - لا تتأتّى إلّا بالمعرفة، فلا يمكن التواضع والخضوع للربّ تعالى حقيقة من دون معرفته حقيقةً ولذا كانت الخطوة الأولى في العبادة هي المعرفة.

وأمّا المعرفة فلابدّ من عرفانه تعالى حقيقة وهي عرفانه بالتوحيد ونظام المعرفة بالتوحيد هو نفي الصفات عنه تعالى، والظاهر أنّ المراد من النفي هو إمّا نفي التوصيفات - لورود الصفة في اللغة بمعنى التوصيف - وإمّا بمعنى نفي صفات الكائنات عنه تعالى والمؤدّى والمقصود واحد كما لا يخفى.

والوجه في نفي الصفات عنه هو شهادة العقول أنّ الصفة والموصوف مخلوقان فصفة الضعف مخلوقة بخلق المخلوق لأنّه ضعيف ذاتاً، فالعقل شاهد على مخلوقيّة الصفة والموصوف كما أنّ الموصوف ينادي بأعلى صوته باحتياجه إلى الخالق المتعال عن صفته.

ثمّ بيّن الإمام(ع) أنّ معرفته تعالى منحصرة في معرفته بالسبّوحية عن صفة المخلوقين فليس اللّه عرف من عرف بالتشبيه ذاته، ولا إيّاه وحّد من اكتنهه إذ إمكان الإكتناه من صفات المخلوق، فلو جرى ذلك على الخالق لتحوّل الخالق مخلوقاً

ص: 81


1- التوحيد للصدوق: 1/34 ح2؛ بحارالأنوار : 4/227 ح3.

وأصبح في عدادهم وذلك يستلزم الإعتقاد بآلهة متعدّدة بعدد الخلائق.

وأمّا قوله(ع) «و لا حقيقته أصاب من مثّله» أي جعل له مثيلاً إذ حقيقة اللّه تعالى هي الوحدانيّة، وحقيقة الوحدانيّة هي التنزّه عن صفة المخلوق.

ثمّ إنّه قد يتوهّم أنّه لا تلازم بين معرفته وبين معرفة توحيده لورود بعض الخطب والأخبار في بيان أنّ كمال المعرفة معرفته بالتوحيد فلاحظ:

* روى الكليني عن فتح بن عبداللّه مولى بني هاشم قال كتبت إلى أبو إبراهيم الإمام موسى بن جعفر8 إلى أن قال: أوّل الدّيانة به معرفته، وكمال معرفته توحيده، وكمال توحيده نفي الصّفات عنه بشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف وشهادة الموصوف أنّه غير الصّفة وشهادتهما جميعاً بالتّثنية الممتنع منه الأزل؛ الخبر .(1)

* وروي العلّامة المجلسي عن أميرالمؤمنين(ع)إلى أن قال: أوّل الدين معرفته وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة. فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله، ومن أشار إليه فقد حدّه، ومن حدّه فقد عدّه، ومن قال فيم فقد ضمنه، ومن قال علام فقد أخلا منه. كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم، مع كلّ شيء لا بمقارنة، وغير كلّ شيء لا بمزايلة، فاعل لا بمعنى الحركات والآلة، بصير إذ لا منظور إليه من خلقه، متوحّد إذ لا سكن يستأنس به ولا يستوحش لفقده. أنشأ الخلق إنشاء، وابتدأه ابتداء، بلا رويّة أجالها، ولا تجربة استفادها، ولا حركة أحدثها، ولا همامة نفس اضطرب فيها. أجّل الأشياء لأوقاتها، ولاءم بين مختلفاتها، وغرّز غرائزها، وألزمها أشباحها، عالماً بها قبل ابتدائها، محيطاً بحدودها وانتهائها، عارفاً بقرائنها وأحنائها .(2)

ولكن هذا التوهّم باطل جدّاً كما عرفت، فإنّ المعرفة غير منفكّة جزماً عن التوحيد إلّا أنّه يمكن أن يكون أحد الموحّدين متذكّراً بأصل ثبوت الصانع وغافلاً عن معرفته

ص: 82


1- الكافى : 1/140 ح6؛ بحارالأنوار: 4/284 ح17.
2- الإحتجاج: 1/198؛ بحارالأنوار : 4/247 ح5.

بالتوحيد بعدُ. ومن الواضح أنّ هذه المعرفة معرفة ناقصة ولابدّ من تكميلها بمعرفة توحيده.

والشاهد على بطلان هذا التوهّم - وأنّه ليس المراد من هذه الأخبار وأمثالها بيان إمكان معرفته تعالى ولو متصّفاً بصفة الخلائق إلّا أنّ الكمال هو معرفته بالتوحيد - هو بيان أنّه تعالى لا يشبه شيئاً من صفات المخلوق، فلا يقارن به بوجه من الوجوه في ذيل تلك الأخبار والخطب الشريفة فلاحظ.

* روى المحدّث الحرّ العامليّ عن الصقر بن دلف عن ياسر الخادم قال: سمعت الإمام أباالحسن عليّ بن موسى الرضا(ع) يقول: من شبّه اللّه بخلقه فهو مشرك، ومن نسب إليه ما نهى عنه فهو كافر .(1)

أقول: هذا الخبر الشريف يدلّ دلالة واضحة على أنّ تشبيه اللّه تعالى بخلقه يوجب الشرك ذلك أنّ التشبيه كما يستلزم نفي سبّوحيّته - التي هي بمعنى تنزّهه عن المخلوق وشؤونه - يستوجب عدّه في عداد سائر الكائنات وهذا يستلزم جعلها في عداد الخالق لها وهذا هو الشرك بعينه ليس إلّا.

* روى الصدوق عن ابن بُطة عن عدة من أصحابنا عن اليقطينيّ قال: قال لي الإمام أبو الحسن(ع): ما تقول إذا قيل لك أخبرني عن اللّه عزّوجلّ أشيء هو أم لا شيء هو؟

قال: فقلت له: قد أثبت عزّوجلّ نفسه شيئاً حيث يقول (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللّه شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ)(2) فأقول إنّه شيء لا كالأشياء، إذ في نفي الشيئيّة عنه إبطاله ونفيه.

قال لي: صدقت وأصبت. ثمّ قال الرضا(ع): للناس في التوحيد ثلاثة مذاهب: نفي، وتشبيه، وإثبات بغير تشبيه. فمذهب النفي لا يجوز، ومذهب التشبيه لا يجوز لأنّ اللّه تبارك وتعالى لا يشبهه شيء، والسبيل في الطريقة الثالثة إثبات بلا تشبيه .(3)

ص: 83


1- الإحتجاج: 2/410؛ وسائل الشّيعة : 28/339.
2- الأنعام: 19.
3- . التوحيد للصدوق: 1/107 ح8؛ بحارالأنوار : 3/262 ح19.

أقول: الظاهر أنّ سؤال الإمام من الراوي إنّما هو لبيان أنّ اللّه تعالى حقّ ولا يمكن نفي شيئيّته وقد أجاب اليقطينيّ بأنّ النفي لا يجوز لكونه إبطالاً وأقرّه الإمام(ع)، ولذا يكون المراد من النفي في كلام الإمام(ع) الإبطال واللّه تعالى العالم.

نعم من الممكن أن يكون كلام الإمام(ع) غير مرتبط بالسؤال والجواب الواردين قبله، وبناء على ذلك يحتمل أن يكون المراد من «النفي» في الخبر هو نفي المخلوق فيكون المراد من التوحيد - بناء على هذا المسلك الذي أبطله الإمام(ع) - هو وحدانيّة الخالق بانطوائه في جميع الكائنات، فليس في الدار غيره ديّار، وليست الكائنات إلّا تجلّيّاً من تجليّات الوجود المطلق ولكنّ الإنصاف أنّ ظهور «النفي» في نفي المخلوق بعيد.

ثمّ إنّ الإمام(ع) بيّن بأنّ المذهب الصحيح في التوحيد هو الإثبات من دون تشبيه فالتوحيد الحقيقي هو إثباته تعالى من دون تشبيه له بالكائنات.

* روى العلامة المجلسي عن ابن البختري وهب بن وهب القرشي عن الإمام الصادق(ع) عن أبيه الإمام الباقر(ع) أنّه قال: الأحد الفرد المتفرّد والأحد والواحد بمعنى واحد وهو المتفرّد الذي لا نظير له، والتوحيد الإقرار بالوحدة وهو الإنفراد والواحد المتباين الذي لا ينبعث من شيء ولا يتّحد بشيء، ومن ثمّ قالوا إنّ بناء العدد من الواحد وليس الواحد من العدد لأنّ العدد لا يقع على الواحد بل يقع على الاثنين، فمعنى قوله (اللّه أَحَدٌ) أي المعبود الذي يأله الخلق عن إدراكه والإحاطة بكيفيّته، فرد بإلهيّته، متعال عن صفات خلقه .(1)

بيان: بيّن الإمام(ع) بأنّ المراد من الأحد هو المتفرّد الذي لا نظير له، والتوحيد هو الإقرار بالوحدة له تعالى.

ثمّ إنّ الإمام(ع) بيّن بأنّ المراد من قوله تعالى «اللّه أَحَد» هو المعبود الذي يأله الخلق عن إدراكه إذ الإدراك لا يقع إلّا على المخلوق وأمّا الخالق المباين للمخلوق

ص: 84


1- . بحارالأنوار: 3/222 ح12؛ تفسير كنز الدقائق: 14/508 ذيل الآية الأولى من سورة الإخلاص.

في الصفات لا يقع في مهبّ الإدراك أبداً، ولذا يأله الخلائق عن دركه ويتحيّرون فيه أبداً ولا يمكنهم الإحاطة بكيفيّته لعلوّه عن صفات الخلق التي منها إمكان إحاطة العقل والوهم والفهم به.

قوله(ع): «والواحد المتباين الذي لا ينبعث من شيء ولا يتّحد بشيء» يدلّ على أنّ اللّه سبحانه لم يخرج من شيء ولم ينبعث منه، بذلك يبطل ما ذهب إليه البشر من كون الكائنات مترشّحة من ذات الباري تعالى وهو عينها فعدم الانبعاث يبطل كون كل شيء هو اذ هي تجلّ من تجلّياته وهو عينها فكأنّه انبعث من شيء.

وقوله(ع): «ولم يتّحد بشيء» يدلّ على بطلان ما ذهب إليه البشر من القول بوحدة اللّه بخلقه.

وإليك بعض أقوالهم:

قال الملّا صدرا: ظهر وانكشف أنّ كلّما يقع عليه اسم الوجود ليس إلّا شأناً من شؤون الواحد القيّوم ولمعة من لمعات نور الأنوار. فما وضعناه أوّلاً بحسب النظر الجليل من أن ف-ي الوجود علّة ومعلولاً أدّى بنا أخيراً من جهة السلوك العلمي والنسك العقلي إلى أنّ المسمّى بالعلّة هو الأصل والمعلول شأن من شؤونه وطور من أطواره . ورجعت العلية والإفاضة إلى تطور المبدأ الأوّل بأطواره وتجليه بأنحاء ظهوراته .(1)

وقال أيضاً: فكما وفّقني اللّه تعالى بفضله ورحمته الاطلاع على الهلاك السرمدي والبطلان الأزلي للماهيات الامكانية والأعيان الجوازية فكذلك هداني ربّى بالبرهان النيّر العرشى إلى صراط مستقيم من كون الموجود والوجود منحصراً ف-ي حقيقة واحده شخصيه لا شريك له ف-ي الموجودية الحقيقية ولا ثاني له ف--ي العين وليس ف-ي دار الوجود غيره ديّار وكلّما يترائى ف-ي عالم الوجود أنّه غير الواجب المعبود فإنّما هو من ظهورات ذاته

ص: 85


1- المشاعر: 104.

وتجليات صفاته التي هي ف-ي الحقيقة عين ذاته كما صرّح به لسان بعض العرفاء بقوله فالمقول عليه سوى اللّه أو غيره أو المسمّى بالعالم هو بالنسبة إليه تعالى كالظلّ للشخص فهو ظلّ اللّه فهو عين نسبه الوجود إلى العالم فمحل ظهور هذا الظلّ الإلهي المسمّى بالعالم إنّما هو اعيان الممكنات عليها امتد الظلّ .(1)

قال ابن العربي: فسبحان من أظهر الأشياء وهي عينها .(2)

وغير ذلك من العبارات الصريحة الدالّة على أنّه تعالى عين الكائنات.

* روى الكليني مسنداً عن الحسن بن السَّري عن جابر بن يزيد الجعفيّ قال: سألت الإمام أباجعفر(ع) عن شيء من التّوحيد فقال: إنّ اللّه تباركت أسماؤه التي يدعى بها، وتعالى في علوّ كنهه، واحد توحّد بالتّوحيد في توحّده، ثمّ أجراه على خلقه، فهو واحد صمد قدّوس يعبده كلّ شيء، ويصمد إليه كلّ شيء، ووسع كلّ شيء علماً .(3)

بيّن الإمام(ع) أنّ اللّه تعالى واحد وإنّه في علوّ كنهه وعظمته واحد فلا أحد يضاهيه في علوّ كنهه تعالى عن المعلوميّة والمعقوليّة والمدركيّة وعن صفة المخلوق، وإنّه توحّد بالتوحيد في توحّده بالسبوحيّة والقدوسيّة عن عروض صفة الخليقة عليه، والظاهر أنّ المراد من التوحّد بالتوحيد نفس المراد من قوله تعالى (شَهِدَ اللّه أَنَّهُ لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِله إِلَّا هُوَ الْعَزِيز ُالْحَكِيمُ)(4) - واللّه تعالى العالم - والظاهر أنّ المراد من قوله(ع) «ثمّ أجراه على خلقه» هو أنّه تعالى واحد صمد أبداً وأزلاً وقد توحّد بالتوحيد إلّا أنّه تعالى بعد خلقه الخلق أجرى معرفته عليهم.

والحاصل: إنّ معنى التوحيد هو بينونته تعالى عن خليقته وصفاتهم وعلوّ كنهه عزّوجلّ.

* روى الصدوق عن حماد بن عثمان عن عبد الرحيم القصير قال: كتبت على يدي

ص: 86


1- الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة: 2/292.
2- الفتوحات المكية: 2/459.
3- الكافي : 1/123 ح2؛ بحارالأنوار: 3/220 ح10.
4- آل عمران : 18.

عبد الملك بن أعين إلى الإمام أبي عبدالله(ع) بمسائل، فيها أخبرني عن اللّه عزّوجلّ هل يوصف بالصورة وبالتخطيط؟ فإن رأيت - جعلني اللّه فداك - أن تكتب إليّ بالمذهب الصحيح من التوحيد. فكتب صلى اللّه عليه على يدي عبد الملك بن أعين: سألت - رحمك اللّه - عن التوحيد وما ذهب فيه من قبلك فتعالى اللّه الذي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ تعالى اللّه عمّا يصفه الواصفون المشبّهون اللّه تبارك وتعالى بخلقه، المفترون على الله. واعلم - رحمك اللّه - أنّ المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من صفات اللّه عزّوجلّ، فانف عن اللّه البطلان والتشبيه فلا نفي ولا تشبيه، هو اللّه الثابت الموجود، تعالى اللّه عمّا يصفه الواصفون، ولا تَعْدُ القرآن فتضلّ بعد البيان .(1)

أقول: صريح الخبر الشريف أنّ التوحيد متقوّم بعدم تشبيه اللّه تعالى بخلقه وهذا هو الصحيح من التوحيد كما أنّه صريح في رسم الطريق الواضح لمعرفة اللّه تعالى وهو القرآن الكريم.

* وروى أيضاً عن أحمد بن محمد بن يحيى العطار عن أبيه عن سهل قال: كتبت إلى الإمام أبي محمّد(ع) سنة خمس وخمسين ومائتين: قد اختلف يا سيّدي أصحابنا في التوحيد، منهم من يقول هو جسم، ومنهم من يقول هو صورة، فإن رأيت يا سيّدي أن تعلّمني من ذلك ما أقف عليه ولا أجوزه فعلت متطوّلاً على عبدك. فوقّع بخطّه(ع): سألت عن التوحيد وهذا عنكم معزول، اللّه تعالى واحد أحد صمد لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ خالق وليس بمخلوق، يخلق تبارك وتعالى ما يشاء من الأجسام وغير ذلك، ويصوّر ما يشاء وليس بمصوَّر، جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه وتعالى عن أن يكون له شبه، هو لا غيره لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهُوَالسَّمِيعُ الْبَصِيرُ .(2)

قال العلّامة المجلسي1:

«وهذا عنكم معزول» أي لا يجب عليكم التفكّر ف-ي الذات والصفات بل

ص: 87


1- التوحيد للصدوق: 1/102 ح15؛ بحارالأنوار : 3/261 ح12.
2- التوحيد للصدوق: 1/101 ح14؛ بحارالأنوار : 3/260 ح10.

عليكم التصديق بما وصف تعال-ى به نفسه .(1)

أقول: إنّ الإمام(ع) بيّن بأنّ اللّه تعالى متعال عن أن يكون له شبه وأنّه ليس كمثله شيء وهذا هو التوحيد.

قوله(ع): «هو لا غيره ليس كمثله شيء» أي لا أحد له صفة أن لا يكون له شبيه إلّا اللّه تعالى، فهو تعالى ليس كمثله شيء دون غيره.

* روى الصدوق عن الفتح بن يزيد الجرجاني عن أبي الحسن(ع) قال: سمعته يقول في اللّه عزّوجلّ: هُوَاللّطيف الْخَبِيرُ، السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، الواحد الأحد، الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ ولَمْ يُولَدْ، ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ، منشئ الأشياء، ومجسّم الأجسام، ومصوّر الصور، لو كان كما يقولون لم يُعرَف الخالق من المخلوق، ولا ال-مُنشِئ من ال-مُنْشَأ، فرق بين من جسّمه وصوّره وأنشأه إذ كان لا يشبهه شيء ولا يشبه هو شيئاً.

قلت: أجل جعلني اللّه فداك لكنّك قلت، الأحد الصمد وقلت، لا يشبه شيئاً واللّه واحد والإنسان واحد، أليس قد تشابهت الوحدانيّة؟

قال: يا فتح أحلت ثبّتك اللّه إنّما التشبيه في المعاني فأمّا في الأسماء فهي واحدة وهي دلالة على المسمّى، وذلك أنّ الإنسان وإن قيل واحد فإنّما يخبر أنّه جثّة واحدة وليس باثنين، فالإنسان نفسه ليس بواحد لأنّ أعضاءه مختلفة وألوانه مختلفة كثيرة غير واحدة، وهو أجزاء مجزّأ ليست بسواء، دمه غير لحمه، ولحمه غير دمه، وعصبه غير عروقه، وشعره غير بشره، وسواده غير بياضه، وكذلك سائر الخلق. فالإنسان واحد في الاسم لا واحد في المعنى واللّه جلّ جلاله واحد لا واحد غيره، لا اختلاف فيه ولا تفاوت ولا زيادة ونقصان. فأمّا الإنسان المخلوق المصنوع المؤلّف من أجزاءمختلفة وجواهر شتّى، غير أنّه بالاجتماع شيء واحد؛ الخبر .(2)

قد بيّن الإمام(ع) المراد من الوحدانيّة بأنّه تعالى مُنشأُ الأجسام وخالقها، وهذه الأجسام لا تضاهيه ولا تشابهه. فلو كان كما يقول البشر من ولادة الأشياء منه

ص: 88


1- بحارالأنوار : 3/261.
2- التوحيد للصدوق: 1/185 ح1؛ بحارالأنوار : 4/173 ح2.

وترشّحها عنه أو أيّ قول يكون فيه تشبيه بين الخالق والمخلوق، لم يعرف الخالق من المخلوق إذ ستجري عليه ما يجري على المخلوق ولتحوّل دليلاً بعد أن كان مدلولاً إليه، مع أنّ العقل حاكم بضرورة وجود الخالق عند رؤية المخلوق. فالقول بالولادة على جميع أنحائها - من خروج الشيء اللطيف منه كالبصر من العين وخروج الشيء الكثيف منه كالماء من القربة - مناف للوحدانيّة ذلك أنّه مستلزم للتشبيه بين الخالق وخلقه.

فتحصّل من ذلك أنّ العقل كاشف عن حقيقة المخلوق الذي ذاته الفقر والإحتياج إلى الخالق الغنيّ على الإطلاق وهذا هو المراد من حكم العقل بامتناع مضاهاة المخلوق لخالقه لامتناع المشابهة بين الضعيف بالذات والقويّ بالذات، واستحالة المساواة بين العاجز بالذات مع القادر بالذات، فالإعتقاد بالميز بين الخالق والمخلوق والبينونة بينهما بالبينونة الصفتيّة هو التوحيد الخالص الذي جاء به القرآن الكريم وبه وله ومن أجله بعث الأنبياء:.

وممّا ذكرنا يُعلم بطلان ما ذهب إليه الفلاسفة والعرفاء من اشتراك الوجود بين الخالق والمخلوق أو إمكان معرفته تعالى بالوجه بتصوّر الموجودات وانتزاع وجودها أو بوحدة الوجود والموجود وأنّ ليس في الدار غيره ديّار.(1)

فأمّا مسألة اشتراك الوجود بين الخالق والمخلوق وجعل الوجود إمّا واجباً أو ممكناً أو ممتنعاً فتبتني على أنّ ما كان حقيقته شيئاً بحقيقة الشيئيّة يشارك ما كان حقيقته شيئاً بالغير وهو محال عقلاً فليس هناك سنخيّة بين ما كان لأنّه كان وبين ما كان لأنّ اللّه أراد أن يكون فكيف يمكن جعل اللّه تعالى (الذي كان أزلاً وكوّن ما كان) قسيماً لما كان لأجل أنّ اللّه تعالى أراد أن يكون إذ لا وجه للإشتراك بينهما بوجه من الوجوه كي ينتزع منهما جامعاً فتأمّل مليّاً.

وأمّا معرفته تعالى عبر التصوّر بالوجه أي تصوّر الكائنات ثمّ نفي النقص عنها وتطبيق ذلك على اللّه تعالى فباطلة، إذ لازمها الاشتراك بين الخالق والمخلوق وهو

ص: 89


1- من هنا إلي آخر هذا الفصل ما ساعدني الأجل لعرضه علي شيخنا العلّامة رحمه اللّه.(علي الرضوي)

محال عقلاً، فما هو وجه الشبه بين العالم بذاته والجاهل ذاتاً؟ فهل هناك شبه بينهما؟ بل إنّ ما يعدّ كمالاً في المخلوق لا يعدّ إلّا نقصاً في الخالق، فالمخلوق خُلق جهولاً ثمّ أعطاه اللّه تعالى العلم فصار عالماً، فصيرورته عالماً إنّما كانت بإعطاء اللّه تعالى العلم له وهذا الكمال - أي صيرورته عالماً بالإعطاء - يعدّ نقصاً بالنسبة إلى الذي لا يكون علمه مكتسباً من أحد بل يكون عليم الذات. فكيف يمكن فرض الاشتراك والجامع بين اللّه - العالم بذاته - والمخلوق - الجاهل بذاته -؟! وبذلك يبطل ما ذكروه في المعرفة بالوجه فلاحظ عباراتهم فلاحظ:

قال الشيخ المطهّريّ:

إنّ القول بعدم إمكان تصوّر ذاته تعالى بوجه ليس فقط يستلزم عدم إمكان معرفته وإنّما يستلزم عدم إمكان إنكاره أيضاً بل وحتى الشكّ به. فإنّا ما لم نتصوّر الشيء بوجه لا يمكننا إنكار وجوده ولا يمكننا أن نشكّ ف-ي وجوده أيضاً بل و حتّى لا يمكننا أن ندّعى أنّنا لا يمكننا أن نتصوّره وذلك لأنّه ما لم نتصوّر الشيء لا يمكننا إنكار وجوده أو إنكار إمكان تصوّره فنحن نتصوّر اللّه ولا نتصوّره ف-ي نفس الوقت فتصوّره بجعله تحت عنوان عام انتزاعي مثل الخالق وعدم تصوّره لامتناع تصوّر كنه ذاته .(1)

أقول: استدلاله علي امكان تصوّر اللّه بعدم إمكان الحكم بامتناع تصوّره إلّا بناءً علي تصوّره في غاية الضعف. إذ الحكم بامتناع تصوّره لا يتوقّف علي تصوّره إنّما يتوقّف علي المعرفة بأنّه لا يتصوّر. ولعلّه وقع في هذه الشبهة لأجل اعتقاده بتوقّف

ص: 90


1- مجموعه آثار استاد مطهري: 6/1009 وإليك نصّ عبارته:اساساً اگر ذات حقّ به هيچ وجه قابل تصور نبود همان طور كه امكان معرفت و شناسايى و تصديق نداشت امكان انكار و بلكه شك هم نداشت. ما تا چيزى را به نحوى از انحاء تصور نكنيم نه مى توانيم وجودش را انكار كنيم و نه مى توانيم در وجودش شك كنيم؛ و حتى نمى توانيم مدعى شويم كه نمى توانيم او را تصور كنيم، زيرا تا چيزى را تصور نكنيم نمى توانيم منكر وجودش يا تصورش بشويم. پس ما خدا را هم تصور مى كنيم و هم تصور نمى كنيم، ما او را تحت يك عنوان عام انتزاعى از قبيل «خالق كل» تصور مى كنيم اما كنه ذاتش را تصور نمى كنيم.

المعرفة والعلم علي التصوّر الاصطلاحيّ ولكن المعرفة لا تتوقّف عليه بل تحصل بإعطاء اللّه نور العلم الكاشف للحقائق فعند اعطائه ذلك النور للعالم أن ينظر إلي الأشياء به و يعرفها من دون توسّط التصوّرات أو أنّها تحصل بإعطاء اللّه المعرفة للعاقل كما في معرفته تعالي فإنّه يعرّف نفسه للعاقل من دون توسّط العلم فيعرّفه سبّوحيته وقدوسيّته، وبعد معرفة العبد بربّه يحكم بمقتضي تلك المعرفة بامتناع تصوّره وأنّه أعلي وأجلّ من المخلوقات وأنّه مبائن لهم بالصفات.

وقال أيضاً:

إنّما الكلام ف-ي أنّه كيف يمكننا تصوّر الإطلاق الوجوديّ لذاته تعالى؟ إنّ تصوّر هذا الإطلاق لا يستلزم انعكاس واقعيّة هذا الإطلاق ف-ي الذهن ولا اتحاد ما ف-ي الذهن مع الخارج بل نتصوّر هذا الإطلاق بمساعدة النفي بأن نتصوّر مفهوم الوجود المشترك ثمّ نسلب شباهة وجود الباري ومماثلته مع سائر الموجودات ف-ي المحدودية وغيرها من الجهات وبهذه الكيفيّة نطبع ف-ي الذهن صورة من ذاته تعالى التي هي الوجود المطلق.

وبهذه الكيفيّة يمكن تصوّر اللامتناهي أيضاً بأن نفكّر ف-ي أنّ الفضاء متناه أم غير متناه؟ فإنّ مجرد هذا التساؤل ف-ي الذهن دليل على وجود صورة ذهنية لغير المتناهي كما للمتناهي مع أنّه لو أراد أن يتصوّر مصداق الفضاء اللامتناهي بحيث يجسد اللامتناهي ف-ي الذهن مع التحفّظ على واقيعيّة عدم تناهيه فإنّ ذلك غير ممكن لكن لو تصوّر الفضاء المحدود ثمّ تعقّل مفهوم الكلّي للفضاء ومفهوم المحدودية ثمّ أضاف مفهوم النفي والعدم إلى الفضاء المحدود فهذا الأمر ممكن ومعقول وقد تصوّر مفهوم الفضاء غير المحدود واقعاً.

إذاً لا يمكن للذهن أن يتصوّر اللامتناهي بشكل مباشر لكن يمكنه ذلك بشكل غير مباشر وبتعبير آخر لا يمكن للذهن أن يتخيّل غير المتناهي أي لا يمكنه أن يودعه ف-ي قوّة الخيال التي هي قوّة نصف

ص: 91

مجرّدة مع كونها وجميع مدركاتها ذات أبعاد لأنّ ذلك يستلزم وقوع بعد غير متناه ف-ي الذهن ف-ي آنٍ واحد وهذا غير ممكن ولا أقلّ من عدم إمكانه للنفوس العادية لكن لا مانع من تعقّل غير المتناهي عبر تركيب سلسلة من المفاهيم الكلّية التي هي ليست من سنخ الماهيّات بل من سنخ المفاهيم الانتزاعيّة.

إنّ الذهن يتشبّث ف-ي إدراك الحقائق التي لا يمكن إدراكها بشكل مباشر بهذه الوسائل أي أنّه يصل بطريق غير مستقيم إلى تصوّر معقول وصحيح .(1)

ص: 92


1- مجموعه آثار استاد مطهري: 6/1011 وإليك نصّ عبارته: سخن در اين است كه ما اطلاق وجودى ذات حق را در ذهن خود چگونه تصور مى كنيم؟ تصور اين اطلاق مستلزم اين نيست كه واقعيت اين اطلاق در ذهن منعكس شود يا ذهن ما خارجاً با آن متحد شود، بلكه ما اين اطلاق را با كمك «نفى» تصور مى كنيم به اين طرز كه مفهوم «وجود» مشترك را تصور مى كنيم و سپس شباهت و مماثلت وجود حق را با ساير وجودات در محدوديت و بعضى جهات ديگر از ذات حق سلب مى كنيم و به اين ترتيب از ذات حق كه وجود مطلق است تصورى در ذهن خود مى آوريم. تصور «لا يتناهى» نيز همين طور است. مثلاً در اين باره مى انديشيم كه فضا متناهى است يا غير متناهى؟ خود اين سؤال كه براى ذهن مطرح است دليل است كه ذهن همچنان كه تصورى از «متناهى» دارد، تصورى هم از «غير متناهى» دارد، در صورتى كه اگر ذهن بخواهد مصداق فضاى لايتناهى را تصور كند، يعنى بخواهد غير متناهى را نزد خود مجسم كند در حالى كه آن فضاى مجسم ذهنى واقعاً غير متناهى باشد امكان پذير نيست، ولى اگر ذهن فضاى محدود را در خود مجسم كند آنگاه مفهوم كلى «فضا» و هم مفهوم «محدوديت» را تعقل كند آنگاه مفهوم «نفى» و «عدم» را بر «فضاى محدود» اضافه كند امرى ممكن و معقول است و واقعاً مفهوم «فضاى نا محدود» را تصور كرده است. پس ذهن به طور مستقيم قادر نيست «غير متناهى» را تصور كند ولى به طور غير مستقيم قادر است؛ و به تعبير ديگر ذهن قادر نيست «غير متناهى» را «تخيل» كند يعنى در قوه خيال كه قوه اى نيمه مجرد است و خود و مدركاتش ذى بعد مى باشند آن را بگنجاند، زيرا مستلزم اين است كه ذهن در آن واحد بعدى غير متناهى در خود جاى دهد و اين غير ممكن است و لا اقل براى نفوس عادى غير ممكن است، اما مانعى نيست كه ذهن «غير متناهى» را تعقل كند يعنى با تركيب يك سلسله مفاهيم كلى، تصورى كه البته از نوع ماهيت نخواهد بود بلكه از نوع مفاهيم انتزاعى خواهد بود براى خود بسازد.

والاشكال الأساسيّ علي هذه الكلمات هو تشبيه وجود اللّه تعالي بوجود سائر المخلوقات فالمتصوَّر هو وجود المخلوق ومهما كانت المحاولة في نفي التشبيهات والنقص عن هذا المتصوّر فإنّها لا تجدي نفعاً إذ ذات الخالق مباين عن ذات المخلوق، ووجود القائم بنفسه يمتاز عن وجود القائم بغيره فلا يُعقل وجود أيّ اشتراك بينهما، فكيف يمكن تصوّر المخلوق وإسراء حكمه إلي الخالق المباين له في الصفات والمفارق ذاته في الإنّية؟!

فتصوّر الوجود المشترك ونفي بعض الجهات عنه يوجب تثبيت الاشتراك بين وجود الخالق والمخلوق وهذا مخالف للعقل الحاكم بالبينونة التامّة بين اللّه تعالي وخلقه.

وأمّا معرفته تعالى بأنّه عين الخلق ولو نفيت الحدّ والعدميّة عنهم لا يبقى إلّا اللّه تعالى وهذا هو التوحيد الحقيقي عندهم فهي من أشدّ أنواع الجهل والكفر. فلاحظ عباراتهم وقد تقدّم بعضها:

قال الملّا صدرا: إيّاك أن تزلّ قدمك من استماع هذه العبارات وتتوهّم نسبة الممكنات إليه تعالى بالحلول والاتحاد ونحوهما! هيهات أنّ هذا يقتضي الأثنينية ف-ي أصل الوجود! وعندما طلعت شمس الحقيقة وسطع نورها النافذ ف-ي أقطار الممكنات المنبسط على هياكل الماهيات ظهر وانكشف أنّ كلّ ما يقع عليه اسم الوجود ليس إلّا شأناً من شؤون الواحد القيّوم ولمعة من لمعات نور الأنوار. فما وضعناه أوّلاً بحسب النظر الجليل من أنّ ف-ي الوجود علّة ومعلولاً أدّى بنا أخيراً من جهة السلوك العلمي والنسك العقلي إلى أنّ المسمّى بالعلّة هو الأصل والمعلول شأن من شؤونه وطور من أطواره. ورجعت العلية والإفاضة إلى تطوّر المبدأ الأوّل بأطواره وتجلّيه بأنواع ظهوراته .(1)

أقول: صريح كلامه أنّه ليس في الدار غيره ديّار ولاحقيقة إلّا هو، ولازم ذلك وهم

ص: 93


1- المشاعر: 104.

ما نري سواه وليس هذا إلّا نفيّاً للخالقيّة والمخلوقيّة وإثباتاً للمخلوق وإعطاء سمات الحيّ القيّوم له إذ ما نراه من الكائنات ليست إلّامخلوقات ونفي الحدود عنها لايوجب تبدّل ذاتها.

وقال إبن العربيّ: فكان موسى أعلم من هارون لأنّه علم ما عبده اصحاب العجل ، لعلمه بأنّ اللّه قد قضى إلّا يعبد إلّا إيّاه: وما حكم اللّه بشيء إلّا وقع. فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر ف-ي إنكاره وعدم اتساعه. فإنّ العارف من يرى الحق ف-ي كلّ شيء، بل يراه عين كل شيء .(1)

قال صاحب تفسير الميزان:

فتحصّل أنّ الحسنة لكونها كمالاً وجودياً لابدّ وأن يستند إلى الكامل بالذات والسيئة لكونها نقص كمال وفقدان جمال لابدّ وأن يستند إلى الفاقد للكمال؛ وهو الانسان العاصي المتحول ف-ي حيطة قدرته تعالى بلا تفويض، لأنّ استحالة التفويض على مشرب التوحيد الأفعاليّ أظهر لوضوح امتناع تفويض الأمر الخارجي إلى صورة مرآتيّة لا حقيقة لها عدا حكاية ذي الصورة.

كما أنّ امتناع الجبر على هذا المشرب أيضاً أبين، لأنّ الإكراه إنّما يتصوّر ف-ي ما يكون هناك شيء موجود له اقتضاء وإرادة. وأمّا الصورة المرآتيّة التي لا واقعيّة لها عدا الإرائة والحكاية فلا مجال لفرض إكراهها وجبرها، كما أنّها لا مجال أيضاً لتفسير المنزلة بين المنزلتين على منهج الحكماء من توجيه العلّة القريبة والمتوسطة والبعيدة، إذ لا عليّة للصورة المرآتية أصلاً حتى يبحث عن كونها قريبة أو لا. ولذلك يظهر أمر آخر وهو أنّ عدّ التوحيد الأفعالي في سياق أقوال الأشاعرة المجبّرة والمعتزلة المفوّضة والحكماء الإماميّة القائلة بالأمر بين الأمرين غير منسجم، لأنّ

ص: 94


1- فصول الحكم: 1/192.

الإنسان وغيره من المممكنات على المباني الثلاث الأول موجود خارجي حقيقة وإن كان وجوده ضعيفاً فقيراً أو فقراً وربطاً محضاً لا ذات له إلّا الربط إلى الواجب الغني المحض إلّا أنّه على المشرب الرابع وهو التوحيد الأفعالي المبحوث عنه في العرفان النظريّ المشهود ف-ي العرفان العملي لا وجود له إلّا مجازاً، بحيث يكون إسناد الوجود إليه إسناداً إلى غير ما هو له نظير إسناد الجريان إلى الميزاب ف-ي قول من يقول: «جرى الميزاب» لأنّ الموجود الإمكاني على هذا المشرب صورة مرآتيّة لا وجود لها ف-ي الخارج وهي مع ذلك تحكى ذا الصورة حكاية صادقة. فحينئذ يصير معنى نفي الجبر والتفويض عن تلك الصورة وإثبات المنزلة الوسطى بين طرف-ي الإفراط والتفريط من باب السالبة بانتفاء الموضوع في الأولين ومن باب المجاز ف-ي الإسناد ف-ي الثالث لأنّ القول بأنّ تلك الصورة الحاكية التي لا وجود لها ف-ي الخارج ليست مجبورة ولا مفوّضاً إليها قضيّة سالبة بانتفاء موضوعها. والقول بأنّ تلك الصورة التي لا وجود لها في العين مختارة ف-ي فعلها قضيّة يكون إسناد محمولها إلى موضوعها مجازاً عقليّاً .(1)

أقول: كلامه وإن كان في باب نفي الجبر والتفويض وإثبات الأمر بين الأمرين ولكن تفسيره لذلك بالتفسير العرفانيّ يوضح لنا مقالة العرفاء ومرآتيّة الإنسان ووهمه، ولذا لا يكون نفي الجبر والتفويض عنه إلّا من باب السالبة بانتفاء الموضوع، إذ لا انسان كي يكون مجبوراً أو مفوّضاً إليه كما يكون إثبات الأمر بين الأمرين إليه من باب المجاز كإسناد الجريان إلي الميزاب إذ لا حقيقة له كي يُسند إليه أمر.

وبطلان هذه المقالة أظهر من الشمس في رابعة النهار إذ نحن نجد حقيقتنا ونجد أنّها قائمة بالغير وهو اللّه تعالي الذي يبايننا في الصفة والذي إنيّته تفريق بينه و بين خلقه فلا شباهة بين هذين الحقيقتين والرابطة بينهما هي الرابطة بين القائم بذاته والقائم بغيره.

ص: 95


1- . السنخية أم الاتحاد والعينية أم التباين: 110 نقلاً عن كتاب«عليّ بن موسى الرضا(ع) والفلسفة الإلهيّة».

وأمّا كلامه حول الجبر و التفويض فقد تعرّضنا له في كتابنا «سدّ المفر علي القائل بالقدر».

وف-ي تفسير المنير المعروف ب-«بيان السعادة» ف-ي تفسير قوله تعالى (وَقَضى رَبُّكَ ألَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ) (1):

ولمّا كان أجزاء العالم مظاهراً للّه الواحد الأحد القهّار بحسب أسمائه اللطيفة والقهرية كان عبادة الإنسان لأيّ معبود كانت، عبادة للّه اختياراً أيضاً... فالإنسان ف-ي عبادتها اختياراً للشيطان كالابليسيّة وللجنّ كالكهنة... والملائكة كأكثر الهنود وللذّكر والفرج كبعض الهنود القائلين بعبادة ذكر الإنسان وفرجه... كلّهم عابدون للّه من حيث لا يشعرون لأنّ كلّ المعبودات مظاهر له باختلاف أسمائه ولذلك قيل:

«اگر مؤمن بدانستي كه بت چيست؟

يقين كردي كه دين در بت پرستي است» (2)

... لكن تلك العبادة ل-مّا لم يكن بأمر تكليفي من اللّه لم يستحقّوا الأجر والثواب عليها بل استحقّوا العقوبة والعذاب . (3)

وقال آية اللّه الشيخ محمّد تقي الآملي رحمه اللّه:

اعلم أنّ القائل بالتوحيد إمّا يقول بكثرة الوجود والموجود جميعاً ويختصّ فرداً منها بالواجب وهذا هو الموافق لمذهب المشائين ومعتقد أكثر الناس الذين يتكلّمون بكلمة التوحيد لساناً ويعتقدون بها اجمالاً ويعبّر عن هذا التوحيد بالتوحيد العامي لأنّ أكثر الناس في هذا المقام وإمّا يقول بوحدة الوجود والموجود جميعاً قبال الطائفة الأولى بتمام المقابلة وهذا مذهب الصوفية وهم على طائفتين الأولى ما يكون هو ظاهر

ص: 96


1- الإسراء: 23.
2- ترجمته: لو كان يعلم المؤمن ما هو الصنم، لتيقّن أنّ الدين عبادة الصنم.
3- السنخيّة أم الاتحاد والعينيّة أم التباين: 135 نقلاً عن «بيان السعادة».

كلامهم ويدور في السنة جهلتهم من أنّ للوجود مصداقاً حقيقياً واقعياً وأنّه ليس إلّا واحداً وهذا الشيء الواحد يتشأن بشؤون مختلفة ويتطوّر بأطوار متكثّرة ففي السماء سماء وفي الأرض أرض وهكذا وليس له حقيقة أخرى مجرداً عن تلك المجالي وهذه الكثرات لا تنثلم بوحدته لأنّها أمور اعتباريّة وهذا هو المذهب المنسوب إلى جهلة الصوفية والثانية وهم الأكابر منهم القائلون بأنّ للوجود حقيقة مجرداً عن المجالى لكن الوجود بجميعه من المجرد عن المجالى وغيره واجب وليست مرتبته الواجبيّة عندهم مختصّة بمرتبة المجردة عن المجالى المعبّر عنها بمرتبة بشرط لا بل الكلّ من الدرة إلى الذرّة والقرن إلى القدم وجود الواجب مع كون ماعدى تلك المرتبة البشرط اللائية مفتقرة إلى تلك المرتبة بل عين الفقر إليها وإذا سئلوا بأنّ الفقر يناف-ي الوجوب يجيبون بعدم المنافات لأنّ هذا الفقر فقر إلى نفس الحقيقة والإفتقار المنافي مع الوجوب هو الفقر إلى غير الغير لا فقر الشيء إلى نفسه وهذا المذهب منسوب إلى أكابر الصوفية؛ ويظهر من صدر المتألهين ارتضائه في كتبه خصوصاً في مبحث العلّة والمعلول من الأسفار وبكون الوجود بجميعه واجباً من المجرد وغيره...من المجرّد وغيره .(1)

وقال أيضاً:

و إمّا يقول بوحدة الوجود والموجود جميعاً ف-ي عين كثرتهما أي كثرة الوجود والموجود وهو مذهب صدر المتألّهين والعرفاء الشامخين ويعبّرون عنه بتوحيد أخصّ الخواصّ .(2)

وقال الملّا صدرا:

هذا من الغوامض الإلهيّة التي يستصعب ادراكه إلّا على من آتاه اللّه من لدنه علماً وحكمة لكن البرهان قائم على أنّ كلّ بسيط الحقيقة كلّ

ص: 97


1- السنخيّة أم الاتحاد والعينيّة أم التباين: 142 نقلاً عن درر الفوائد: 1/87 - 88.
2- السنخيّة أم الاتحاد والعينيّة أم التباين: 143 نقلاً عن درر الفوائد: 1/89.

الأشياء الوجودية إلّا ما يتعلق بالنقائص والاعدام والواجب تعالى بسيط الحقيقة واحد من جميع الوجوه فهو كل الوجود كما أنّ كلّه الوجود.

أمّا بيان الكبرى: فهو أنّ الهوية البسيطة الإلهية لو لم يكن كل الأشياء لكانت ذاته متحصّلة القوام من كون شيء ولا كون شيء آخر فيتركّب ذاته ولو بحسب اعتبار العقل وتحليله من حيثيتين مختلفتين وقد فرض وثبت أنّه بسيط الحقيقة، هذا خلف .(1)

وحاصل الجواب عن هذه الكلمات والوجه في بطلان هذه العبارات أنّه لا يمكن تعقّل الاشتراك بين من كان شيئاً بحقيقة الشيئية وبين من كان شيئاً بالغير وكذا بين من كان عليم الذات وبين من كان جاهل الذات وهكذا اذ المفارقة بينهما ذاتيّة ولا يعقل المشاركة بينهما بأيّ نحو من المشاركة - كما مرّت الإشارة إلى ذلك -.

لا يقال: إنّ ما تقولون أنّه ضعيف وجاهل وفقير ليس إلّا الماهيّات وهي ليست إلّا أعدام ومن الواضح البينونة بين الوجود والعدم ولكن المشاركة والسنخيّة ليست إلّا بين الوجود فهو وجود كلّ شيء وجاعل كلّ شيء.

لأنّه يقال: الأعدام ليست حقائق والقول بالسنخيّة أو العينيّة بين وجود اللّه ووجود المخلوق - الذي هو حقيقة وله آثار - يوجب إبطال الخالقيّة والمخلوقيّة إذ الفرع المسانخ لا يباين الأصل ومن الواضح أنّ أصل الخالقيّة والمخلوقيّة ممّا لا يشكّ فيه عاقل هذا أوّلاً.

وثانياً: العقل يرى حقيقة المخلوق وأنّه شيء، إذ له آثار وأفعال كما أنّه يرى أنّ هذا المخلوق الذي له آثار فقير بالذات وجاهل بالذات والاشتراك بينه وبين عليم الذات باطل بالبداهة. وبعبارة أخرى إنّ العقل يكشف عن أنّ المخلوق الذي له آثار فقير بالذات ولا يمكن للماهيّة التي ليست أمراً وجوديّاً أن يكون لها آثاراً ويكشف أيضاً عن أنّ الذي له آثار فقير بالذات بحيث قد يكون قادراً بالغير إن وهبه تعالى القدرة، وقد

ص: 98


1- الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة: 8/110.

يكون عاجزاً لا يسطع على شيء إن سلبها إيّاه، وما كان حقيقته كذلك لا ينتسب سنخيّاً إلى ما كان قادراً بذاته، فتأمّل مليّاً.

أفاد شيخنا المحقّق آية اللّه الشيخ محمّد باقر الملكيّ1 في ردّ كلمات العرفاء:

ويرد عليه:

1 - إنّ فيه إلغاء مرتبة الإلهية والقيومية وتنزيله سبحانه ف-ي مرتبة من سواه ممّا يصدق عليه الشيء من خلقه، لوضوح أنّ ما هو قائم به تعالى، ليس ف-ي مرتبته تعالى كي يكون القول بشيء سواه تحديداً للّه سبحانه.

2 - يستحيل تنزله تعالى ف-ي مرتبة كلّ ما كان مصداقاً للوجود والشيء. ضرورة أنّ من مصاديق الوجود والشيء من هو وما هو مركوز ف-ي حاق الفقر والعجز والذلّة ومظلم الذات وميّت الذات. فأيّ مشاركة وسنخية بينه تعالى وبين هذه الأنداد والأضداد؟ وكيف يكون تنزيهه تعالى عن هذه المرتبة تحديداً له تعالى؟! وكيف يكون دليلاً على تناهيه وتحديده سبحانه؟! وضروري أنّ النسبة بينه تعالى وبين هذه المظلمات الذاتية بينونة حقيقية ولا مشاركة بينه تعالى وبينها بوجه من الوجوه. كما تقدّم عن مولانا الرضا صلوات اللّه وسلامه عليه: «وكنهه تفريق بينه وبين خلقه. وغيوره تحديد لما سواه». وكما تقدّم عن مولانا علي أميرالمؤمنين صلوات اللّه وسلامه عليه: «توحيده تمييزه. وحكم التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة». وما تقدّم عنهم صلوات اللّه عليهم من أنّ اللّه تعالى خلو من خلقه وخلقه خلو منه.

3 - إنّ معاشر الموحّدين من أمّة القرآن ومن أعاظم التوحيد الذين يعرفونه تعالى بحقيقة إيمانهم وعرفانهم ويعرفون ف-ي هذا الموقف الخطير الذي توجّهوا فيه بكليّتهم إلى اللّه سبحانه، أنّه تعالى يستحيل أن يتنزّل بمرتبة هذه الأخباث والأرجاس. ويعبدونه تعالى ف-ي نسكهم وعباداتهم ومناجاتهم وتضرعهم إليه. ويجدون أنّه تعالى مقدّس ومنزّه من أن يكون كلّ الأشياء. ويجدونه معبوداً ومستغاثاً ومستجاراً خارجاً عن الحدّين، حدّ

ص: 99

التعطيل والتشبيه. ويعرفون أنّ هذا التعريف من فعله تعالى قد تفضّل عليهم، ولا كيف لفعله.

4 - من تأمّل ف-ي القرآن الكريم يشهد ويعرف أنّ المتكلّم بهذا الكلام محيط بجميع العوالم وما فيها من الخلائق، ويتكلّم بكلام الكبراء والعظماء مثل أنا، نحن وإنا، ويخاطب جميع ما سواه من أهل العوالم بأنحاء من الخطابات ويوقفهم ف-ي موقف العبودية والمخلوقية. فتارة يتحنّن على أوليائه ويقرّبهم منه ويبشّرهم بكراماته وحنانه وفضله. وتارة يتكلّم مع أعدائه ويحذّرهم عن سخطه ويهدّدهم بسطواته. ويكلّم جميع خلقه بلطائف من البيان ويستصلحهم بالهداية والرشاد ويستيقظهم من سكراتهم ويستخرجهم من الضلالات والجهالات بعنوان ألوهيّته وكونه معبوداً وملجأ ومستغاثاً ومستجاراً. ومع هذا كلّه ليس ف-ي القرآن ما يوهّم أنّه تعالى كلّ الأشياء أو شبيه ذلك، ولو على نحو الإشارة والكناية. فهو سبحانه يحمد نفسه ويمجّدها ويعظّمها ويقدّسها عن كلّ سوء وشين.

5 - إنّ إطلاق لفظ الوجود والشيء عليه تعالى وعلى غيره، إنّما هو على سبيل الاشتراك اللفظي، كما صرّح عليه أئمّة أهل البيت:. وإنّ كلّ ما يوصف به المخلوق لا يوصف به الخالق. وكذلك كلّ ما يمجّد ويعظّم ويقدّس به تعالى، لا يطلق على غيره تعالى بما له من المعنى .(1)

وقال شيخنا الأستاذ الميرزا حسن عليّ المرواريد1:

صحّة هاتين الجملتين (بسيط الحقيقة كلّ الأشياء وليس بشيء منها) بحسب المفهوم لا إشكال فيها. إنّما الإشكال بل المنع الأكيد ف-ي كون جميع ما في دار التحقّق مصداقاً لهاتين الجملتين، لكونه مبتنياً على كون ما ف-ي عالم الوجود من الخالق والمخلوق حقيقة واحدة، وهو ممنوع أشدّ المنع.

ص: 100


1- توحيد الإماميّة: 211.

بل الواقع الذي هو من ضروريّات الأديان الإلهية أنّ ف-ي دار التحقق حقيقتين:

إحداهما: حقيقة قائمة بذاتها أزليّة أبديّة، وهو اللّه تعالى شأنه، الواحد الذي لا ثاني له ف-ي حقيقته، وذاته الأحد أي المنزّه عن التركيب مطلقاً، حتى من التركيب الاعتباري، أي التركيب من وجود وعدم غيره الذي هو من سنخ هذه الحقيقة. وبعبارة أخرى: التركيب ف-ي حقيقة الإله الذي هو عين العلم وعين القدرة على إبداع الأشياء وإيجادها بمشيئته وإرادته لا من شيء، أي لا من رشح وإشراق من نفسه، فإنّه عين التغيّر ف-ي الذات المنزّه عنه الذات الأزلي القائم بذاته، كما صرّح به أبوالحسن الرضا(ع): لا يتغيّر اللّه بانغيار المخلوق، كما لا يتحدّد بتحديد المحدود. ولا من مادّة أزليّة تكون مشاركة له ف-ي التحقّق والوجود. فإنّ الخلقة بأحد الوجوه الثلاثة ليست لا من شيء كما صرّحت به الروايات الكثيرة، كما سيأتي ذكرها إن شاء اللّه تعالى، لأنّ المراد من الشيء ف-ي قوله: «لا من شيء» إن كان هي المادّة الأزليّة فهو واضح البطلان، لأنّه عين الشرك. وإن كان المراد نفسه تعالى، بأن يكون خلقته إمّا بالفيضان والرشح وإمّا بالتطوّر والتشؤّن، ففي كلا الفرضين تكون الخلقة من الشيء بحقيقة الشيئيّة، وهو الذات الأزلي، فلا يصحّ التعبير بأنّه لا من شيء.

الحقيقة الثانية: حقيقة مخلوقة قائمة ذاتها بخالقها وشيء بالغير، نعني: عنوان كونه بالغير مأخوذ في ذاته، مبدَع لا من شيء، فاقد ذاته للعلم والقدرة وسائر الكمالات النوريّة، حادث بالحدوث الحقيقي، أنشأه الخالق تعالى شأنه بقدرته التي هي عين ذاته، وبمشيئته التي هي فعل له تعالى يُظهِر به قدرته.

والتطوّر الذي هو عين التغيّر، والرشح والإشراق الذي حقيقته الولادة، والمعروضيّة بالأعراض المختلفة، والاتصاف بالأوصاف

ص: 101

المتضادّة وغير المتضادّة من الطهارة، والقذارة، والطيب، والفونة، وحسن النظر، وقبحه، والنور والظلمة المحسوستين بالبصر، والمحسوسيّة بالحواسّ الظاهرة والباطنة، وقبول التصوّر بالصور الخارجيّة والذهنيّة وغيرها، كلّ ذلك في تلك الحقيقة الثانية التي وصفناها، لا ف-ي الذات الأقدس الربوبي جلّت عظمته.

والمباينة بين الحقيقتين المذكورتين بما لهما من الأوصاف الذاتية المذكورة من الواضحات.

وإطلاق لفظ الوجود على وجوديهما -- نظير إطلاق الشيء عليهما -- لا يقتضى وحدة الحقيقة والسنخ.

وبالجملة: هاتان الحقيقتان لمكان تباينهما لا يوجب وجود إحداهما محدوديّة الأخرى، ولا التركيب في الذات ولو اعتباراً.

فشبهة أنّ مقتضى كونه تعالى غير محدود وأنّه لا يخلو منه مكان إنكار وجود الغير وإلّا يلزم المزاحمة.. مندفعة أيضاً بما ذكر ف-ي دفع شبهة التحديد والتركيب، وهو أنّها تلزم إذا كان الأمران من سنخ واحد وحقيقة واحدة .(1)

لا يقال: لا يلزم من القول بوحدة الوجود والموجود التشبيه إذ الشبيه فرع الإثنينيّة.

لأنّه يقال أوّلاً: نفي التشبيه بين الخالق والمخلوق يدلّ على نفي الاتّحاد بالأولويّة القطعيّة إذ التشبيه منفيّ لسبّوحيّته عن الشبه بخلقه وقد بُيّن ذلك في الآيات كقوله تعالى (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمّا يَصِفُون) وفي الأخبار الكثيرة وإذا كان التشبيه منفيّاً عنه لأجل سبّوحيّته فيكون نفي الاتّحاد بينه وبين خلقه بأيّ نحو من الاتّحاد وبأيّ بيان كان بالأولويّة القطعيّة فهو سبّوح عن الشبه فكيف بالعينيّة! فلاحظ ما ذكره شيخنا المحقّق الملكيّ1 في ردّ ما ذكره الملّا صدرا:

ليت شعري كيف غفل هذا الفيلسوف الكبير ونزله تعالى عن مرتبة

ص: 102


1- تنبهات حول المبدأ والمعاد: 68.

الألوهية والقيوميّة إلى مرتبة ما هو قائم به سبحانه؟! كيف وهو سبحانه مهيمن على كل شيء وعلى كلّ نفس بما كسبت؟! ولا يكون شيء إلّا أن يكون أجل وأعلى مقاماً منه؟!

وكيف يكون هذاالمتطوّر سبوحاًقدّوساً مستتراً ف-ي نورالقدس؟!

على أنّا نسأل: ما حقيقة هذا التطوّر؟ هل كان تعالى متطوّراً من الأزل؟ أو لم يكن ثمّ تطور؟ فعلى كلّ الفرضين فما الفائدة والعائدة ف-ي هذا التطوّر؟ وهل كانت فيه تعالى نقيصة أو ضايعة أراد بالتطوّر استدراكها واستكمالها؟! وهل كان تعالى يتمنى منزلة ومكاناً كان فاقداً لها وأراد بالتطوّر نيلها ووجدانها؟! والتنزّل عن مرتبة القدس والكبرياء والعظمة لا يجوز للفاعل الحكيم الغير المجازف بأيّ فرضية افترضوها وبأيّ توجيه وجّهوه.

ونسأل أيضاً: هل كان التطوّر صادراً منه تعالى وكان تعالى فاعله بالعناية أو كان فاعله بالرضا؟ وعلى كلا الوجهين لا يكون التطوّر فعلاً عمدياً واختيارياً له تعالى لفائدة وغاية حكيمة معقولة. وكيف كان فهذه المقالة مخالفة للفطرة المقدّسة الإلهية التي لا تتبدّل ولا تتغيّر بهذه الفرضيات الوهمية. وهذه حجة اللّه الغالبة وبرهانه النوري على كلّ من خالفها وأعرض عنها .(1)

ثانياً: من رأى الأدلّة الدالّة على نفي التشبيه يعرف أنّها لم ترد بلسان نفي الحكم بنفي الموضوع، بل وردت في فرض وجود المخلوق في قبال وجود الخالق تعالى.

ثالثاً: ما دلّ على أنّ اللّه تعالى «خلو من خلقه وخلقه خلو منه» صريح في بطلان فرضيّة وحدة الوجود والموجود ولا يمكن تأويله بالتأويلات الباردة بوجه من الوجوه.

ص: 103


1- توحيد الإماميّة: 220.

الباب الثاني عشر: الأخبار الدالّة على بينونته تعالى عن الخلائق

ص: 104

إذا عرفت ما ذكرناه في مبحث عدم شباهته تعالى بخلقه، يتّضح لك أنّ اللّه تعالى يباين المخلوقات بينونة تامّة فلا هو في خلقه ولا خلقه فيه. وقد دلّت على ذلك أخبار كثيرة وإليك بعضها:

* روى الصدوق عن الحسن بن محمد النوفلي ثمّ الهاشمي قال أبو الحسن الرضا(ع): ليس هو في الخلق ولا الخلق فيه تعالى عن ذلك؛ الخبر .(1)

أقول: صريح هذا الخبر أنّ اللّه تعالى يباين الخلق الذين هم قائمون به تعالى بينونة تامّة وليس هو في خلقه ولا خلقه فيه بل هو هو وخلقه خلقه.

* روى أيضاً عن أبي جعفر أظنّه محمّد بن نعمان قال أبو عبدالله(ع): هو بائن من خلقه، محيط بما خلق علماً وقدرة وإحاطة وسلطاناً؛ الخبر .(2)

صريح الخبر أنّه تعالى مبائن عن الخلق ومحيط بهم إحاطة علم وقدرة.

* روى الكليني عن العباس بن عمرو عن هشام بن الحكم في حديث الزنديق الذي سأل أباعبدالله(ع) فكان من سؤاله أن قال له: فله رضا وسخط؟ فقال أبوعبدالله(ع): نعم، ولكن ليس ذلك على ما يوجد من المخلوقين وذلك أنّ الرضا حال تدخل عليه فتنقله من حال إلى حال، لأنّ المخلوق أجوف معتمل مركّب للأشياء فيه مدخل، وخالقنا لا مدخل للأشياء فيه لأنّه واحد واحديّ الذات واحديّ المعنى، فرضاه ثوابه، وسخطه عقابه، من غير

ص: 105


1- التوحيد للصدوق: 1/417 ح1؛ بحارالأنوار : 10/313 ح1.
2- التوحيد للصدوق: 1/132 ح15؛ بحارالأنوار : 3/323 ح20.

شيء يتداخله فيهيّجه وينقله من حال إلى حال، لأنّ ذلك من صفة المخلوقين العاجرين المحتاجين .(1)

الخبر الشريف نصّ في عدم مدخليّة شيء من الأشياء في اللّه تعالى بوجه من الوجوه.

* روى الكليني عن حماد بن عمرو النصيبي عن أبو عبدالله(ع): لا خلقه فيه ولا هو في خلقه؛ الخبر .(2)

يدلّ الخبر الشريف بنصّه على افتراقه عن خلقه وافتراق خلقه عنه.(3)

* روى الصدوق عن القاسم بن أيوب العلوي عن أبو الحسن الرضا(ع) إلى أن قال: وكنهه تفريق بينه وبين خلقه؛ الخبر .

أقول: الخبر الشريف صريح في أنّ كنهه تعالى وحقيقته هو التفريق بينه وبين خلقه لا نفي الخلق وإثبات حقيقة واحدة فاردة كما زعمه العرفاء.

* روى الكليني عن يونس عن أبي المفراء عن أبي جعفر(ع) قال: إنّ اللّه خلو من خلقه، وخلقه خلو منه، وكلّ ما وقع عليه اسم شيء فهو مخلوق ما خلا الله .(4)

بيان: نصّ الخبر الشريف يبيّن خلو الخلائق من الخالق وكذا العكس فليس اللّه تعالى هو الخلق ولا الخلق هو اللّه تعالى، فهناك مخلوق وخالق ولكن لا هو في المخلوق ولا المخلوق فيه تعالى.

* روى الكليني عن ابن مسكان عن زرارة بن أعين قال: سمعت أباعبدالله(ع) يقول: إنّ اللّه خلو من خلقه، وخلقه خلو منه، وكلّ ما وقع عليه اسم شيء ما خلا اللّه فهو مخلوق، واللّه خالق كلّ شيء تبارك الّذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير .(5)

ص: 106


1- . الكافي : 1/110 ح6؛ الوافي: 1/460 ح374.
2- الكافي : 1/91 ح2؛ بحارالأنوار: 4/286 ح18.
3- التوحيد للصدوق: 1/34 ح2؛ بحارالأنوار : 4/227 ح3.
4- لكافي : 1/82 ح3؛ بحارالأنوار: 4/149 ح4.
5- الكافي : 1/82 ح4؛ بحارالأنوار: 3/263 ح20.

* روى الصدوق عن عبد الأعلى عن أبي عبدالله(ع) إلى أن قال: ولا تدرك معرفة اللّه إلّا باللّه واللّه خلو من خلقه، وخلقه خلو منه؛ الخبر .(1)

* روى أيضاً عن القاسم بن أيوب العلوي عن أبي الحسن الرضا(ع) إلى أن قال: ومباينته إيّاهم مفارقته إنّيّتهم؛ الخبر .

الظاهر من هذه الخطبة المباركة أنّ المراد من المباينة مفارقته إنيّة الخلائق فللخلائق إنّيّة لا أنّها أعدام - كما التزم به بعض العرفاء - ولكنّ اللّه تعالى يبيانهم بالمفارقة مع إنّيّتهم.

* وروى أيضاً عن القاسم بن أيوب العلوي عنه(ع) إلى أن قال: فكلّ ما في الخلق لا يوجد في خالقه، وكلّ ما يمكن فيه يمتنع في صانعه؛ الخبر .(2)

الخبر الشريف نصّ في أنّ ما يوجد في الخلق يمتنع في الخالق ولذا يكون تعالى مبايناً لهم بالبينونة الصفتيّة.

* روى الكليني عن محمد بن يحيى عن أميرالمؤمنين(ع): الحمد للّه الواحد الأحد الصمد المتفرّد الذي لا من شيء كان ولا من شيء خلق. ما كان قدرة بان بها من الأشياء وبانت الأشياء منه؛ الخبر .(3)

* وروى أيضاً عنه(ع): حدّ الأشياء كلّها عند خلقه إبانة لها من شبهه وإبانة له من شبهها، لم يحلل فيها فيقال هو فيها كائن، ولم ينأ عنها فيقال هو منها بائن؛ الخبر .(4)

أقول: هذا الخبر الشريف يدلّ على أنّ محدوديّة الكائنات تنصّ على إبانة الخالق منها ولذا لا يكون حالّا فيها ولا هي حالّة فيه تعالى اللّه عن ذلك.

ص: 107


1- التوحيد للصدوق: 1/142 ح7؛ بحارالأنوار : 4/160 ح6.
2- التوحيد للصدوق: 1/40 ح2؛ بحارالأنوار : 4/230 ح3.
3- الكافى : 1/134 ح1؛ بحارالأنوار: 4/269 ح15.
4- . الكافي : 1/135 ح1؛ بحارالأنوار: 4/269 ح15.

* وروى العلامة المجلسي عن نهج البلاغة عنه(ع): ليس في الأشياء بوالج، ولا عنها بخارج؛ الخبر .(1)

* وروى الصدوق عن الهيثم بن عبداللّه الرُماني عن الإمام الرضا(ع) عن آبائه عن أميرالمؤمنين(ع): مباين لجميع ما أحدث في الصفات؛ الخبر .(2)

الخطبة الشريفة صريحة في المباينة الصفتيّة بين الخالق والمخلوق.

* روى العلامة المجلسي عن الإحتجاج عن أميرالمؤمنين(ع) قال في خطبة له: دليله آياته، ووجوده إثباته، ومعرفته توحيده، وتوحيده تمييزه من خلقه، وحكم التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة. إنّه ربّ خالق غير مربوب مخلوق، ما تُصوّر فهو بخلافه ثمّ قال بعد ذلك: ليس بإله من عُرف بنفسه، هو الدالّ بالدليل عليه، والمؤدّي بالمعرفة إليه .(3)

* وروى الصدوق عن الحارث الأعور عن أميرالمؤمنين(ع) قال: الذي بان من الخلق، فلا شيء كمثله؛ الخبر .(4)

* روى أيضاً عن فتح بن يزيد الجرجاني عن أبي الحسن الرضا(ع) إلى أن قال: لا يحجبه الحجاب، فالحجاب بينه وبين خلقه لإمتناعه ممّا يمكن في ذواتهم، ولإمكان ذواتهم ممّا يمتنع منه ذاته، ولإفتراق الصانع والمصنوع والرب والمربوب والحاد والمحدود، أحد لا بتأويل عدد؛ الخبر .(5)

فكلّ ما يمكن في ذواتهم يمتنع في الخالق المتعال وهذا هو الإفتراق بين الصانع والمصنوع والحادّ والمحدود.

* روى العلامة المجلسي عن تحف العقول عن الإمام الحسين بن علي8 إلى أن قال:

ص: 108


1- . نهج البلاغة: 274 الخطبة 186؛ بحارالأنوار : 4/254 ح8.
2- التوحيد للصدوق: 1/69 ح26؛ بحارالأنوار : 4/223 ح2.
3- الإحتجاج: 1/200؛ بحارالأنوار : 4/253 ح7.
4- التوحيد للصدوق: 1/31 ح1؛ بحارالأنوار : 4/266 ح14.
5- التوحيد للصدوق: 56 ح14؛ بحارالأنوار: 4/284 ح17.

هو في الأشياء كائن لا كينونة محظور بها عليه، ومن الأشياء بائن لا بينونة غائب عنها؛ الخبر .(1)

* روى الصدوق عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم قال: دخلت على أبي عبداللّه(ع)، فقال لي: أتنعت اللّه؟ قلت: نعم. قال: هات. فقلت: هو السميع البصير. قال: هذه صفة يشترك فيها المخلوقون. قلت: فكيف ننعته؟ فقال: هو نور لا ظلمة فيه، وحياة لا موت فيه، وعلم لا جهل فيه، وحقّ لا باطل فيه، فخرجت من عنده، وأنا أعلم الناس بالتوحيد .(2)

أقول: لمّا كانت حقيقة الخلائق الشيئيّة باللّه وكانت جاهلة بالذات وميّتة بالذات وعاجزة بالذات يكون وصفه(ع) الربّ تعالى بأنّه علم لا جهل فيه وحقّ لا باطل فيه ونور لا ظلمة فيه دالّاً على المباينة بين الخالق والمخلوق.

أفاد شيخنا الأستاذ آية اللّه المحقّق الملكيّ1 في ذيل قول الرّضا(ع) «له... حقيقة الإلهيّة إذ لا مألوه»:

لكن حيث إنّ هذه الروايات مسوقة لتنزيهه تعال-ى وغنائه عن المعلومات والمقدورات كي ينتزع من ناحية المعلومات والمقدورات حقيقة العلم والقدرة، فلا محالة يستفاد منها - بالملازمة البيّنة العقليّة - عدم وجود شيء مع اللّه سبحانه من سنخ ما يعلم ويسمع ويبصر ويؤله ويربّب ف-ي مرتبة الذات ف-ي الأزل .(3)

وحاصل الكلام أنّ اللّه تعالى يباين خلقه بالبينونة الصفتيّة فإنّه علم لا جهل فيه وهم جهل قد يحمّله اللّه تعالى العلم ساعة وقد يقبضه منهم أخرى. وعليه، يكون ادّعاء العينيّة بين الخالق وخلقه أو التجليّ بالكائنات أو الحلول كفر لا إيمان فيه وظلمة لا نور فيها كما هو أوضح من أن يخفى.

ص: 109


1- تحف العقول: 244؛ بحارالأنوار : 4/301 ح29.
2- التوحيد للصدوق: 1/146 ح14؛ بحارالأنوار : 4/70 ح16.
3- توحيد الإماميّة : 270.

الباب الثالث عشر: عدم امكان إدراك اللّه سبحانه

ص: 110

قال اللّه تعالى: (لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (1).

وروى الصدوق عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع عن أبي الحسن الرضا(ع) في تفسير الآية: لا تدركه أوهام القلوب فكيف تدركه أبصار العيون .(2)

إنّ اللّه تعالى مباين للخلائق وسبّوح عن صفاتهم ومنزّه عمّا كان يجري عليهم، ولذا يحكم العقل - بمعنى أنّ النفس تحكم في ظلّ استنارتها بنور العقل - بعدم إمكان دركه بالعقول والأوهام والتفكير والرويّات وإن كانت العقول ثاقبة بارعة وكان التفكير عميقاً ذلك أنّه غير مشابه للكائنات التي يمكن إدراكها بالتفكير والتعقّل فالعقل حاكم بسبوحيّته عن التعقّل وقدوسيّته عن درك الأوهام وعلوّه عن فكر المفكّرين.

* روى العلّامة المجلسيّ عن تحف العقول عن الإمام الحسين بن عليّ8 إلى أن قال: احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار، وعمّن في السماء احتجابه عمّن في الأرض؛ الخبر .(3)

فالاحتجاب عن العقول هو بنفس ملاك الإحتجاب عن الأبصار وهو علوّه تعالى عن الفهم والدرك مطلقا ولذا يكون تعالى كنهه السبّوحية والقدوسيّة، ومن كان كذلك

ص: 111


1- الأنعام : 103.
2- الأمالي للصدوق: 410، بحارالأنوار: 4/39 ح16.
3- . تحف العقول: 245؛ بحارالأنوار : 4/301 ح29.

يكون احتجابه عمّن في السماء نفس احتجابه عمّن في الأرض فارتفاع درجات المعرفة لا يوجب نيله بالعقول أبداً.

* روى أيضاً عن نهج البلاغة عن أميرالمؤمنين(ع): الحمد للّه الذي انحسرت الأوصاف عن كنه معرفته، وردعت عظمته العقولَ فلم تجد مساغاً إلى بلوغ غاية ملكوته؛ الخبر .(1)

فعظمة اللّه تعالى هي التي ردعت العقول مطلقا عن وجدان مساغاً إلى بلوغ غاية الملكوت فلاحظ الأخبار والخطب التالية:

* روى الصدوق عن يعقوب بن جعفر عن الإمام موسى بن جعفر8 إلى أن قال: إنّ اللّه تبارك وتعالى أجلّ وأعظم من أن يحدّ بيد أو رجل أو حركة أو سكون، أو يوصف بطول أو قصر، أو تبلغه الأوهام، أو تحيط بصفته العقول؛ الخبر .(2)

* روى سيّد ابن طاووس عن عبداللّه بن جعفر عن أميرالمؤمنين(ع) إلى أن قال: انحسرت العقول عن كنه عظمتك؛ الخبر .(3)

* وروى أيضاً عنه(ع) إلى أن قال: لا تبلغ العقول جلال عزّتك؛ الخبر .(4)

* وروى العلّامة المجلسي عن نهج البلاغة عن أميرالمؤمنين(ع): لم تبلغه العقول بتحديد فيكون مشبّها؛ الخبر .(5)

يظهر من هذا الخبر الشريف أنّ بلوغ العقول إليه بالتحديد يوجب مضاهاته تعالى بخليقته. وبما أنّه تعالى أجلّ منهم وأعظم من أن تبلغه صفاتهم، يكون بعيداً عن درك العقول أشدّ البعد.

* وروى الصدوق عن ابن المعتمر مسلم بن اوس عن أميرالمؤمنين(ع) إلى أن قال: ولا

ص: 112


1- نهج البلاغة: 216 الخطبة 155؛ بحارالأنوار : 4/317 ح42.
2- التوحيد للصدوق: 1/75 ح30؛ بحارالأنوار : 3/300 ح32.
3- مهج الدعوات: 1/105؛ بحارالأنوار : 92/243 ح31.
4- مهج الدعوات: 1/116؛ بحارالأنوار : 92/249 ح32.
5- نهج البلاغة: 217 الخطبة 155؛ بحارالأنوار : 4/317 ح42.

تقدّره العقول، ولا تقع عليه الأوهام. فكلّما قدّره عقل أو عرف له مثل، فهو محدود؛ الخبر .(1)

يظهر من هذا الخبر أنّ تقديره بالعقول والأوهام يوجب صيرورته محدوداً مخلوقاً. ومن الواضح أنّ العقول كاشفة بضرورة خالق للكائنات.

* وروى ابن أبي الحديد عن أميرالمؤمنين(ع) إلى أن قال: لا تدركك العقول؛ الخبر .(2)

* روى الصدوق عن محمّد بن زيد عن الإمام علي بن موسى8 إلى أن قال: لا تضبطه العقول؛ الخبر .(3)

* روى العلّامة المجلسي عن نهج البلاغة عن أميرالمؤمنين(ع) إلى أن قال: لم يطلع العقول على تحديد صفته، ولم يحجبها عن واجب معرفته؛ الخبر .(4)

فمع أنّ العقول غير محجوبة عن المعرفة اللازمة - من لزوم الخالق عند مشاهدة الخلق وضرورة علمه وحكمته وقدرته وامتناع مضاهاته للكائنات - إلّا أنّه مع ذلك ليس لها طريق إلى تحديد صفته تعالى ودركه وضبطه لجلاله وقدسه وعلوّه عن صفة المخلوق.

* روى العلّامة المجلسي عن مهج الدعوات عن الإمام السجّاد(ع): اللّهمّ إنّي دعوتك دعاء من عرفك وتبتل إليك، وآل بجميع بدنه إليك، سبحانك طوت الأبصار في صنعتك مديدتها، وثنت الألباب عن كنهك أعنتها، فأنت المدرك غير المدرك، والمحيط غير المحاط .(5)

بيّن الإمام(ع) أنّه يدعوا دعاء من عرفه ولكن مع ذلك لا يمكن لأحد إدراكه

ص: 113


1- التوحيد للصدوق: 1/77 ح5؛ بحارالأنوار : 4/294 ح22.
2- شرح نهج البلاغة : 20/255.
3- التوحيد للصدوق: 1/98 ح5؛ الكافي : 1/105 ح3.
4- . نهج البلاغة: 88 الكلام 49؛ بحارالأنوار : 4/308 ح36.
5- . مهج الدعوات: 1/49؛ بحارالأنوار: 82/216 ح1.

فمعرفته ليست بالإدراك بل هي بمعرفة أنّه لا يُدرك بتعريفه تعالى.

* وروى سيد ابن طاووس عن ابن عباس عن أميرالمؤمنين(ع) إلى أن قال: فمن تفكّر في ذلك رجع طرفه إليه حسيراً، وعقله مبهوتاً، وتفكّره متحيّراً؛ الخبر .(1)

ذلك أنّ التفكّر والتعقّل ليسا طريقاً إلى معرفته فليس اللّه عرف من عرف ذاته بالعقل.

* وروى الصدوق عن ابن المعتمر مسلم بن أوس عن أميرالمؤمنين(ع) إلى أن قال: لا تقدّره العقول؛ الخبر .(2)

* وروى العلّامة المجلسي عن روضة الواعظين عن أميرالمؤمنين(ع) إلى أن قال: تحيّرت العقول في أفلاك ملكوته؛الخبر .(3)

* وروى الكليني عن جابر بن يزيد عن أبي جعفر(ع) عن أميرالمؤمنين(ع) إلى أن قال: حجب العقول أن تتخيّل ذاته؛ الخبر .(4)

* وروى الصدوق عن الهيثم بن عبداللّه الكرماني عن عليّ بن موسى الرضا(ع) عن آبائه عن أميرالمؤمنين(ع) إلى أن قال: قد ضلّت العقول في أمواج تيّار إدراكه؛ الخبر .(5)

من الواضح أنّ عظمة اللّه تعالى التي لا حدّ ولا نهاية لها تستوجب ضلال العقول في إدراكه. فمن رام إدراك ذاته تعالى بالعقل، غرق في بحر عظمته تعالى.

* وروى أيضاً عن مسعدة بن صدقة عن أبا عبدالله(ع) عن أميرالمؤمنين(ع) إلى أن قال: غمضت مداخل العقول من حيث لا تبلغه الصفات لتنال علم إلهيّته. ردعت خاسئة وهي تجوب مهاوي سدف الغيوب، متخلّصة إليه سبحانه، رجعت إذ جبهت معترفة بأن-ّه لا

ص: 114


1- مهج الدعوات: 1/116؛ بحارالأنوار : 92/249 ح32.
2- التوحيد للصدوق: 1/77 ح34؛ بحارالأنوار : 4/294 ح22.
3- . روضة الواعظين: 1/37؛ بحارالأنوار : 3/298 ح24.
4- الكافي : 8/18 ح4؛ بحارالأنوار: 74/280 ح1.
5- التوحيد للصدوق: 1/69 ح26؛ بحارالأنوار : 4/222 ح2.

ينال بجور الاعتساف كنه معرفته؛ الخبر .(1)

فالعقول معترفة بأنّ دركه تعالى بالعقول ليس إلّا تكلّفاً وتعسّفاً فأنّى يمكن درك من لا تبلغه الصفات؟

فالعقول الطموحة الثاقبة تائهة في أدنى أداني عظمة الربّ تعالى.

* وروى الكليني عن محمّد بن يحيى عن أبي عبدالله(ع) عن أميرالمؤمنين(ع) إلى أن قال: وانقطع دون الرسوخ في علمه جوامع التفسير، وحال دون غيبه المكنون حجب من الغيوب، تاهت في أدنى أدانيها طامحات العقول في لطيفات الأمور، فتبارك اللّه الذي لا يبلغه بعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن؛ الخبر .(2)

فجميع الأنوار مقطوعة عن الرسوخ في علمه ولا يمكن للعقول الطموحة أن تصل إلى غيبه المكنون لحيلولة الحجب من الغيوب دون ذلك.

* روى الصدوق عن مسعدة بن صدقة عن أباعبدالله(ع) عن أميرالمؤمنين(ع) إلى أن قال: لا تقدّر عظمة اللّه على قدر عقلك، فتكون من الهالكين؛ الخبر .(3)

أوَ هل يمكن أن يقدّر عقل المخلوق عظمة الربّ الخالق!

* روى العياشي عن مسعدة بن صدقة عن الإمام جعفر بن محمّد عن أبيه8: أنّ رجلاً قال لأميرالمؤمنين(ع): هل تصف ربّنا نزداد له حبّا وبه معرفة؟ فغضب وخطب الناس فقال فيما قال: عليك يا عبداللّه بما دلّك عليه القرآن من صفته وتقدّمك فيه الرّسول من معرفته، فائتمّ به واستضئ بنور هدايته فإنّما هي نعمة وحكمة أوتيتها، فخذ ما أوتيت وكن من الشّاكرين، وما كلّفك الشيطان علمه ممّا ليس عليك في الكتاب فرضه، ولا في سنّة الرّسول وأئمّة الهدى أثره، فكل علمه إلى الله، ولا تقدّر عظمة اللّه على قدر عقلك فتكون من الهالكين. واعلم - يا عبداللّه - أنّ الراسخين في العلم هم الذين أغناهم اللّه

ص: 115


1- التوحيد للصدوق: 1/48 ح13؛ بحارالأنوار : 4/275 ح16.
2- الكافي : 1/134 ح1؛ بحارالأنوار: 4/269 ح15.
3- التوحيد للصدوق: 56 ح13؛ مستدرك الوسائل : 12/247 ح14016.

عن الاقتحام على السدد المضروبة دون الغيوب إقراراً بجهل ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فقالوا: آمنّا به كلّ من عند ربّنا، وقد مدح اللّه اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً، وسمّى تركهم التعمّق فيما لم يكلّفهم البحث عن كنهه، رسوخاً .(1)

فترى أنّ الإعتراف بالعجز عن دركه هو الرسوخ في العلم ذلك أنّ حقيقته تعالى السبّوحية عن الإدراكات طرّاً، وهذا هو روح التوحيد الذي جاء به القرآن الكريم وحملته:.

الباب الرابع عشر: عدم إمكان دركه بالأوهام

ص: 116


1- تفسير العياشي: 1/163؛ مستدرك الوسائل : 12/247 ح14016.

الظاهر أنّ المراد من الوهم هو الأبصار القلبيّة كما أفاد بعض الأعاظم(1)1 وهو المستفاد من الخبر التالي:

* روى العلّامة المجلسي عن العياشي عن الأشعث بن حاتم قال: قال ذوالرئاستين: قلت لأبي الحسن الرّضا(ع): جعلت فداك، أخبرني عمّا اختلف فيه النّاس من الرؤية، فقال بعضهم لا يُرى.

فقال: يا أباالعبّاس، من وصف اللّه بخلاف ما وصف به نفسه فقد أعظم الفرية على الله، قال اللّه (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصار وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارُ وَهُوَ اللَّطيفُ الْخَبير)(2) هذه الأبصار ليست هي الأعين إنّما هي الأبصار التي في القلوب، لا تقع عليه الأوهام ولا يدرك كيف هو .(3)

فالروح يدرك ببصره الروحانيّ ولكن هذا البصر لا يستطيع أن يقع على اللّه تعالى بوجه من الوجوه لعلّو الباري تعالى شأنه عن الإدراك بجميع أنواعه.

* روى صاحب المحاسن عن محمّد بن عيسى عن أبي هاشم الجعفري قال أخبرني الأشعث بن حاتم أنّه سأل الرضا(ع) عن شيء من التوحيد، فقال: ألا تقرأ القرآن؟

قلت: نعم.

قال: اقرأ (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) فقرأت فقال: وما الأبصار؟

قلت: أبصار العين.

ص: 117


1- هو شيخ مشايخنا آية اللّه الميرزا مهديّ الإصفهانيّ في كتابه معارف القرآن.
2- الأنعام: 103.
3- فسير العياشي: 1/373 ح79؛ بحارالأنوار : 4/53 ح29.

قال: لا إنّما عنى الأوهام لا تدرك الأوهام كيفيّته وهو يدرك كلّ فهم .(1)

* وروى الكليني عن الفتح بن يزيد الجرجاني عن أباالحسن الرضا(ع) إلى أن قال: إنّ الخالق لا يوصف إلّا بما وصف به نفسه، وأنّى يوصف الذي تعجز الحواسّ أن تدركه والأوهام أن تناله والخطرات أن تحدّه والأبصار عن الإحاطة به، جلّ عمّا وصفه الواصفون، وتعالى عمّا ينعته النّاعتون؛ الخبر .(2)

* روى العلّامة المجلسي عن نهج البلاغة عن أميرالمؤمنين(ع): لم تحط به الأوهام بل تجلّى لها بها، وبها امتنع منها، وإليها حاكمها؛ الخبر .(3)

بيان: ل-مّا كان الوهم بمعنى درك الروح وبصره - كما عرفت - يكون من الآيات الباهرات على معطيه وواهبه، ولذا يكون اللّه تعالى تجلّى بها للعاقل ويكون بها امتنع منها ذلك أنّ العقل كاشف عن عدم إمكان دركه تعالى بها.

* وروى العلّامة المجلسي عن نوف البكالي عن أميرالمؤمنين(ع) إلى أن قال: لا يدرك بوهم، ولا يقدّر بفهم؛ الخبر .

* وروى الكليني عن ابن اسحاق السبيعي عن الحارث الأعور عن أميرالمؤمنين(ع) إلى أن قال: لم تقع عليه الأوهام فتقدّره شبحاً ماثلاً؛ الخبر .(4)

* وروى العلّامة المجلسي عن نهج البلاغة عن أميرالمؤمنين(ع) إلى أن قال: الباطن بجلال عزّته عن فكر المتوهّمين؛ الخبر .(5)

* وروى أيضاً عن روضة الواعظين عن أميرالمؤمنين(ع): اتّقوا أن تمثّلوا بالربّ الذي لا

ص: 118


1- المحاسن: 1/239 ح215؛ بحارالأنوار : 3/308 ح46.
2- الكافي : 1/137 ح3؛ بحارالأنوار: 4/290 ح21.
3- نهج البلاغة: 269 الخطبة 185؛ بحارالأنوار : 4/261 ح9.
4- نهج البلاغة: 262 الخطبة 182؛ بحارالأنوار : 4/314 ح40.
5- . نهج البلاغة: 329 الخطبة 213؛ بحارالأنوار : 4/319 ح45.

مثل له، أو تشبّهوه من خلقه، أو تلقوا عليه الأوهام، أو تعملوا فيه الفكر وتضربوا له الأمثال، أو تنعتوه بنعوت المخلوقين، فإنّ لمن فعل ذلك ناراً .(1)

أقول: يظهر من هذا الخبر الشريف الإرتباط الوثيق بين إمكان الدرك وبين المخلوقيّة، فمن أمكن دركه يكون مخلوقاً مقدّراً واللّه تعالى غير مخلوق ولا يشبههم ولا يضاهيهم ولذا لا يمكن دركه.

* روى الصدوق عن عبداللّه بن جرير العبدي عن الإمام الصادق(ع) إلى أن قال: لا يقع عليه الوهم؛ الخبر .(2)

* روى سيّد ابن طاووس عن عبداللّه بن جعفر عن أميرالمؤمنين(ع) إلى أن قال: كلّت الأوهام عن تفسير صفتك؛ الخبر .(3)

* روى الصدوق عن مسعدة بن صدقة عن أباعبدالله(ع) عن أميرالمؤمنين(ع) إلى أن قال: فات لعلوّه على الأشياء مواقع رجم المتوهّمين، وارتفع عن أن تحوي كنه عظمته فهاهة رويّات المتفكّرين؛ الخبر .(4)

* روى أيضاً عن سهل عن الإمام أبي الحسن علي بن محمّد(ع) أنّه قال: إلهي تاهت أوهام المتوهّمين وقصر طرف الطارفين وتلاشت أوصاف الواصفين واضمحلّت أقاويل المبطلين عن الدرك لعجيب شأنك، أو الوقوع بالبلوغ إلى علوّك. فأنت الذي لا تتناهى، ولم يقع عليك عيون بإشارة ولا عبارة. هيهات ثمّ هيهات يا أوليّ يا وحدانيّ يا فردانيّ، شمخت في العلوّ بعزّ الكبر، وارتفعت من وراء كلّ غورة ونهاية بجبروت الفخر .(5)

أقول: الشموخ بعزّ الكبر والعظمة والجلال والعلوّ هو السبب في عدم إمكان دركه تعالى.

ص: 119


1- روضة الواعظين: 1/37؛ بحارالأنوار : 3/298 ح25.
2- التوحيد للصدوق: 1/59 ح17؛ بحارالأنوار : 3/298 ح26.
3- مهج الدعوات: 1/107؛ بحارالأنوار : 92/243 ح31.
4- التوحيد للصدوق: 1/50 ح13؛ بحارالأنوار : 4/275 ح16.
5- التوحيد للصدوق: 1/66 ح19؛ بحارالأنوار : 3/298 ح27.

* روى أيضاً عن مفضّل بن عمر عن الإمام الصادق(ع): كلّ ما وقع في الوهم، فهو بخلافه .(1)

* روى أيضاً عن الهيثم بن عبداللّه الرماني عن عليّ بن موسى الرضا(ع) عن أميرالمؤمنين(ع) إلى أن قال: ممتنع عن الأوهام أن تكتنهه، وعن الأفهام أن تستغرقه، وعن الأذهان أن تمتثله. قد يئست من استنباط الإحاطة به طوامح العقول، ونضبت عن الإشارة إليه بالاكتناه بحار العلوم، ورجعت بالصغر عن السموّ إلى وصف قدرته لطائف الخصوم؛ الخبر .(2)

* روى أيضاً عن عبداللّه بن جرير العبدي عن الإمام الصادق(ع) إلى أن قال: لا يقع عليه الوهم؛ الخبر .(3)

* روى أيضاً عن القاسم بن أيّوب العلوي عن الإمام أبي الحسن الرضا(ع) إلى أن قال: لا إيّاه أراد من توهّمه؛ الخبر .(4)

بيان: ل-مّا امتنع عن درك المتوهّمين يكون من رام توهّمه مريداً غيره تعالى.

* روى العلّامة المجلسي عن أعلام الدين عن الإمام الصادق(ع) لهشام بن الحكم: ألا أعطيك جملة في العدل والتوحيد؟

قال: بلى، جعلت فداك.

قال: من العدل أن لا تتّهمه، ومن التوحيد أن لا تتوَهّمه .(5)

أقول: الظاهر أنّ الوجه في كون عدم التوهّم من التوحيد هو الوصول إلى سبوحيّته عن صفة الكائنات ولذا يكون واحداً بالحقيقة كما أنّ من العدل أن لا ينسب العبد إليه

ص: 120


1- التوحيد للصدوق: 1/80 ح36؛ بحارالأنوار : 3/290 ح4.
2- التوحيد للصدوق: 1/70 ح26؛ بحارالأنوار : 4/222 ح2.
3- التوحيد للصدوق: 1/60 ح17؛ بحارالأنوار : 3/298 ح26.
4- التوحيد للصدوق: 1/35 ح2؛ بحارالأنوار : 4/228 ح3.
5- أعلام الدين (للديلمي): 318؛ بحارالأنوار : 5/58 ح106.

أنّه أجبر العباد على المعاصي ثمّ يعذّبهم عليها.

* روى أيضاً عن العياشي عن جابر ال-جُعفي عن الإمام محمّد بن علي8 إلى أن قال: جلّ عن أوهام المتوهّمين؛ الخبر .

* روى الكليني عن ابن رئاب عن الإمام أبي عبد الله(ع): من عبد اللّه بالتوهّم فقد كفر؛ الخبر .(1)

بيان: أي من توهّم شيئا ورام أنّه اللّه تعالى فخضع له فقد كفر.

* روى أيضاً عن إبراهيم بن محمّد الخزَّاز عن الإمام أبي الحسن الرضا(ع) إلى أن قال: ما توهّمتم من شيء فتوهّموا اللّه غيره؛ الخبر .(2)

أقول: المراد من هذا الخبر واضح لا يخفى فإنّه ليس مراد الإمام(ع) لزوم التوهّم في اللّه تعالى بل مراده نفي جميع التوهّمات عنه تعالى.

* روى الصدوق عن مسعدة بن صدقة عن أباعبدالله(ع) عن أميرالمؤمنين(ع) إلى أن قال: كذب العادلون باللّه إذ شبّهوه بمثل أصنافهم، وحلّوه حلية المخلوقين بأوهامهم، وجزّوه بتقدير منتج من خواطر هممهم، وقدّروه على الخلق المختلفة القوى بقرائح عقولهم. وكيف يكون من لا يقدّر قدره مقدِّراً في رويّات الأوهام، وقد ضلّت في إدراك كنهه هواجس الأحلام، لأنّه أجلّ من أن تحدّه ألباب البشر بالتفكير، أو تحيط به الملائكة على قربهم من ملكوت عزّته بتقدير، تعالى عن أن يكون له كفو فيشبه به، لأنّه اللطيف الذي إذا أرادت الأوهام أن تقع عليه في عميقات غيوب ملكه وحاولت الفكر المبرّات من خطر الوسواس إدراك علم ذاته وتولّ-هت القلوب إليه لتحوي منه مكيّفاً في صفاته وغمضت مداخل العقول من حيث لا تبلغه الصفات لتنال علم إلهيّته، ردعت خاسئة وهي تجوب مهاوي سدف الغيوب متخلّصة إليه سبحانه، رجعت إذ جبهت معترفة بأنّه لا ينال

ص: 121


1- تفسير العياشي: 1/59 ح94؛ بحارالأنوار : 3/291 ح6.
2- الكافي : 1/101 ح3؛ بحارالأنوار: 4/40 ح18.

بجور الاعتساف كنه معرفته، ولا يخطر ببال أولي الرويات خاطرة من تقدير جلال عزّته، لبعده من أن يكون في قوى المحدودين؛ الخطبة .(1)

أقول: بيّن الإمام(ع) أنّ من رام إعطاء صفة المخلوق للخالق بتوهّمه للربّ القدّوس فإنّه كاذب، ذلك أنّه تعالى لا يقدّر قدره في رويّات الأوهام ولا يدخله جميع الإدراكات أبداً؛ فإذا أرادت الأوهام أو العقول إدراكه، رجع من الطريق الذي مضى فيه متخلّصاً إليه تعالى مقرّاً بعدم إمكان دركه بأيّ وجه من الوجوه واعترفت بالذلّ والصغر أمام عظمة العظيم الذي لا تناهي لعظمته.

* روى أيضاً عن ابن المعتمر مسلم بن أوس عن أميرالمؤمنين(ع) إلى أن قال: حارت الأوهام أن يكيّف المكيّف للأشياء، ومن لم يزل بلا مكان ولا يزول باختلاف الأزمان ولا ينقلب شأناً بعد شأن، البعيد من حدس القلوب، المتعالي عن الأشباه والضروب، الوتر، علّام الغيوب؛ الخبر .(2)

* روى العلّامة المجلسي عن محمّد بن عيسى عن أبو هاشم الجعفريّ قال: قلت لأبي جعفر(ع): (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) .(3)

فقال: يا أباهاشم أوهام القلوب أدقّ من أبصار العيون. أنت قد تدرك بوهمك السند والهند والبلدان التي لم تدخلها ولا تدركها ببصرك، وأوهام القلوب لا تدركه، فكيف أبصار العيون .(4)

* روى الكليني عن أحمد بن محمّد عن أبي هاشم الجعفريّ عن الإمام أبي الحسن الرّضا(ع) قال: سألته عن اللّه هل يوصف؟

فقال: أما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى.

ص: 122


1- التوحيد للصدوق: 1/52 ح13؛ بحارالأنوار : 4/275 ح16.
2- التوحيد للصدوق: 1/77 ح34؛ بحارالأنوار : 4/294 ح22.
3- الأنعام: 103.
4- الكافي : 1/99 ح11؛ بحارالأنوار: 4/39 ح17.

قال: أما تقرأ قوله تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ)؟ قلت: بلى.

قال: فتعرفون الأبصار؟ قلت بلى.

قال: ما هي؟ قلت: أبصار العيون.

فقال: إنّ أوهام القلوب أكبر من أبصار العيون، فهو لا تدركه الأوهام، وهو يدرك الأوهام .(1)

والحاصل: إنّ أوهام القلوب لا تتمكّن من درك اللّه تعالى والسبب في ذلك هو علوّ شأنه تعالى عن كلّ درك.

ص: 123


1- الكافي : 1/98 ح10؛ بحارالأنوار: 4/39 ح16.

الباب الخامس عشر: التفكّر في اللّه تعالى كفر وزندقة

ص: 124

قال تعالى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّه قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) .(1)

أقول: الآية المباركة تمدح الذين يتفكّرون في خلق السماوات والأرض لا في خالقهما، فتأمّل جيّداً.

وممّا يكشفه العقل أيضاً هو عدم إمكان الإحاطة باللّه تعالى بالفكر ذلك أنّه تعالى منزّه عن صفة من يمكن أن يحاط بالتفكير.

* روى العلّامة المجلسي عن تحف العقول عن الإمام الحسين بن علي8 إلى أن قال: ولا تدركه العلماء بألبابها ولا أهل التفكير بتفكيرهم إلّا بالتحقيق إيقاناً بالغيب، لأنّه لا يوصف بشيء من صفات المخلوقين؛ الخبر .(2)

فالمستفاد من هذا الخبر الشريف أنّ الوجه في عدم إمكان الإحاطة به هو علوّه عن صفة المخلوق.

* روى الصدوق عن مسعدة بن صدقة عن أباعبدالله(ع) عن أميرالمؤمنين(ع) إلى أن قال: ارتفع عن أن تحوي كنه عظمته فهاهة رويّات المتفكرين؛ الخطبة .(3)

* روى العلّامة المجلسّي عن البلد الأمين عن أميرالمؤمنين(ع) إلى أن قال: محرّم على

ص: 125


1- آل عمران : 191.
2- تحف العقول: 244؛ بحارالأنوار : 4/301 ح29.
3- التوحيد للصدوق: 50 ح13؛ بحارالأنوار : 4/275 ح16.

بوارع ثاقبات الفطن تحديده، وعلى عوامق ثاقبات الفكر تكييفه؛ الخبر .(1)

* روى الصدوق عن أبي المعتمر مسلم بن أوس عن أميرالمؤمنين(ع) إلى أن قال: لا تحيطه الأفكار؛ الخبر .(2)

* روى سيد ابن طاووس عن عبداللّه بن جعفر عن أميرالمؤمنين(ع) إلى أن قال: فلا يبلغك بعد الهمم، ولا ينالك غوص الفكر؛ الخبر .(3)

* روى الكليني عن محمّد بن يحيى عن أبي عبدالله(ع) عن أميرالمؤمنين(ع) إلى أن قال: حار في ملكوته عميقات مذاهب التّفكير؛ الخبر .(4)

* روى سيد ابن طاووس عن عبداللّه بن عباس عن أميرالمؤمنين(ع) إلى أن قال: حار في ملكوتك عميقات مذاهب التفكير، فتواضعت الملوك لهيبتك، وعنت الوجوه بذلّ الاستكانة لك، وانقاد كلّ شيء لعظمتك، واستسلم كلّ شيء لقدرتك، وخضعت لك الرقاب، وكلَّ دون ذلك تحبير اللغات، وضلّ هنالك التدبير في تصاريف الصفات. فمن تفكّر في ذلك، رجع طرفه إليه حسيراً، وعقله مبهوراً، وتفكّره متحيّراً؛ الخبر .(5)

هذا، وقد وردت أخبار كثيرة في إرشاد العباد الى هذه الحقيقة وأنّ الطريق إلى معرفة اللّه تعالى ليس هو التعقّل أو التوهّم أو التفكير في ذاته القدّوس، وليست هذه الممنوعيّة مختصّة بفئة دون فئة أو مخلوق دون مخلوق بل الممنوعيّة ممنوعيّة ذاتيّة وهي بمعنى عدم إمكان الوصول إلى المعرفة به تعالى بالعقل والوهم والفكر مطلقاً ولذا لا يكون التفكّر به إلّا إلحاداً وزندقة وكفراً.

* روى العلّامة المجلسيّ عن محمّد بن هارون التلعكبري عن الإمام الصادق(ع) إلى أن

ص: 126


1- البلد الأمين : 92؛ بحارالأنوار: 87/138 ح7.
2- البلد الأمين : 92؛ بحارالأنوار: 87/138 ح7.
3- مهج الدعوات: 1/107؛ بحارالأنوار : 92/243 ح31.
4- الكافي : 1/134 ح1؛ بحارالأنوار: 4/269 ح15.
5- مهج الدعوات: 1/108؛ بحارالأنوار : 92/243 ح31.

قال: انقطعت عنه أفكار المتفكّرين، وعلا وتكبّر عن صفات الملحدين؛ الخبر .(1)

* وعن أميرالمؤمنين(ع): من تفكّر في ذات اللّه ألحد .(2)

* وعنه(ع): من تفكّر في ذات اللّه تزندق .(3)

* وعنه(ع): من تفكّر في عظمة اللّه أبلس .(4)

* روى الصدوق عن أبي الجارود عن الإمام أبي جعفر(ع) قال: دعوا التفكّر في الله، فإنّ التفكّر في اللّه لايزيد إلّا تيها، لأنّ اللّه لا تدركه الأبصار ولا تبلغه الأخبار .(5)

* روى أيضاً عن فضيل بن عثمان عن الإمام أبي عبدالله(ع) قال: دخل عليه قوم من هؤلاء الذين يتكلّمون في الربوبيّة، فقال: اتقوا اللّه وعظّموا اللّه ولا تقولوا ما لا نقول، فإنّكم إن قلتم وقلنا، متّم ومتنا، ثمّ بعثكم اللّه وبعثنا، فكنتم حيث شاء اللّه وكنّا .(6)

* روى الكليني عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر(ع) قال: إيّاكم والتفكّر في الله، ولكن إذا أردتم أن تنظروا إلى عظمته، فانظروا إلى عظيم خلقه .(7)

هذا الخبر الشريف - وكذا الخبر التالي - يشير إلى أنّ الوصول إلى معرفة اللّه تعالى ليس بالتفكّر في ذاته بل هو بالنظر الدقيق الى عظيم الخلقة.

* روى العلّامة المجلسي عن ابن عباس قال: دخل علينا رسول الله(ص) ونحن في المسجد، حلق حلق، فقال لنا: فيم أنتم؟

قلنا: نتفكّر في الشمس كيف طلعت، وكيف غربت.

ص: 127


1- مهج الدعوات: 1/179؛ بحارالأنوار : 83/314 ح67.
2- عيون الحكم: 449 ح7976؛ غرر الحكم : 82 ح1284.
3- عيون الحكم: 456 ح8255؛ غرر الحكم : 82 ح1285.
4- غرر الحكم : 82 ح1286.
5- التوحيد للصدوق: 1/457 ح13؛ وسائل الشيعة : 16/199 ح21340 - 17
6- التوحيد للصدوق: 1/457 ح15؛ وسائل الشيعة : 16/199 ح21341 - 18.
7- الكافي : 1/93 ح7؛ الوافي: 1/374 ح9.

قال: أحسنتم، كونوا هكذا تفكّروا في المخلوق ولا تفكّروا في الخالق، فإنّ اللّه خلق ما شاء لما شاء، وتعجبون من ذلك أنّ من وراء قاف سبع بحار كلّ بحار خمسمائة عام، ومن وراء ذلك سبع أرضين يضيء نورها لأهلها، ومن وراء ذلك سبعين ألف أمّة خلقوا على أمثال الطير هو وفرخه في الهواء، لا يفترون عن تسبيحة واحدة، ومن وراء ذلك سبعين ألف أمّة خلقوا من ريح، فطعامهم ريح وشرابهم ريح وثيابهم من ريح وآنيتهم من ريح ودوابّهم من ريح، لا تستقرّ حوافر دوابّهم إلى الأرض إلى قيام الساعة، أعينهم في صدورهم، ينام أحدهم نومة واحدة ينتبه ورزقه عند رأسه، ومن وراء ذلك ظلّ العرش، وفي ظلّ العرش سبعون ألف أمّة ما يعلمون أنّ اللّه خلق آدم ولا ولد آدم ولا إبليس ولا ولد إبليس وهو قوله (ويَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) (1)(2).

الباب السادس عشر: النهي عن التكلّم في ذات اللّه تعالى

ص: 128


1- النحل: 8.
2- . بحارالأنوار : 54/348 ح44.

قال تعالى: (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى) (1).

قد منع القرآن وحملته: عن التكلّم في ذات اللّه تعالى والوجه في ذلك هو امتناع الوصول إليه تعالى عبر التكلّم فيه.

* روى الكليني عن محمّد بن مسلم عن الإمام أبي عبدالله(ع): إنّ اللّه عزّ وجلّ يقول: (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى) فإذا انتهى الكلام إلى اللّه فامسكوا .(2)

* روى الصدوق عن عليّ بن حسّان الواسطي عن بعض أصحابنا عن زرارة قال: قلت للإمام أبي جعفر(ع): إنّ الناس قبلنا قد أكثروا في الصفة، فما تقول؟ قال: مكروه. أما تسمع اللّه يقول: (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) تكلّموا فيما دون ذلك .(3)

أقول: من الواضح أنّه ليس المراد من الكراهيّة في الخبر ما يقابل الاستحباب بل المراد منه المبغوضيّة وأنّه خلاف العقل.

* روى الكليني عن أبي بصير قال قال الإمام أبوجعفر(ع): تكلّموا في خلق اللّه ولا تتكلّموا في الله، فإنّ الكلام في اللّه لا يزداد صاحبه إلّا تحيّراً .(4)

* روى أيضاً في رواية أُخرى عن حريز عن الإمام الصادق(ع): تكلّموا في كلّ شيء، ولا تتكلّموا في ذات الله .(5)

ص: 129


1- . النجم : 42.
2- . الكافي : 1/92 ح2؛ بحارالأنوار: 3/264 ح22.
3- التوحيد للصدوق: 1/458 ح18؛ وسائل الشيعة : 16/200 ح21343 - 20.
4- الكافي : 1/92 ح1؛ وسائل الشيعة: 16/196 ح21330 - 7
5- الكافي : 1/92 ح1؛ وسائل الشيعة: 16/196 ح21331 - 8.

* روى العلّامة المجلسّي عن ابن عباس أنّ رسول الله(ص) خرج على أصحابه فقال: ما جمعكم؟ فقالوا: اجتمعنا نذكر ربّنا ونتفكّر في عظمته. فقال: لنتدركوا التفكّر في عظمته، ألا أخبركم ببعض عظمة ربّكم؟

قيل: بلى يا رسول الله.

قال: إنّ ملكاً من حملة العرش يقال له إسرافيل، زاوية من زوايا العرش على كاهله، قدماه في الأرض السابعة السفلى ورأسه في السماء السابعة العليا، في مثله من خليقة ربّكم تبارك وتعالى .(1)

* روى الصدوق عن ضُريس الكناسي قال قال الإمام أبو عبد الله(ع): إيّاكم والكلام في الله، تكلّموا في عظمته ولا تكلّموا فيه، فإنّ الكلام في اللّه لا يزداد إلّا تيهاً .(2)

أقول: الظاهر أنّه لا تعارض بين الخبرين الماضيين ذلك أنّ الأوّل يشير إلى التكلّم في عظمته تعالى وقدسه ولكنّ الثاني يشير إلى التكلّم في عظمته في قبال التكلّم في ذاته، ولذا يكون المراد من التكلّم في عظمته التكلّم في عظيم خلقه أو التكلّم حول سبّوحيته وعظمته عن إحاطه الأفكار به.

وبعبارة أخرى: إنّ المراد من النهي عن التكلّم في عظمته في الخبر الأوّل هو النهي عن التكلّم في ذاته القدّوس لعظمها عن التكلّم والتفكير والتعقّل. وأمّا الخبر الثاني فلمّا كان التكلّم في العظمة في قبال التكلّم في الذات، يُعرف أنّ المراد منه هو التكلّم في عظيم خلقه تعالى.

* روى الكليني عن محمّد بن مسلم قال قال الإمام أبوعبدالله(ع): يا محمّد إنّ النّاس لا يزال بهم المنطق حتى يتكلّموا في الله، فإذا سمعتم ذلك، فقولوا لا إله إلّا اللّه الواحد الذي ليس كمثله شيء .(3)

ص: 130


1- بحارالأنوار : 55/20 ح30.
2- التوحيد للصدوق : 457؛ وسائل الشيعة: 16/199 ح21342 - 19.
3- لكافي : 1/92 ح3؛ وسائل الشيعة: 16/194 ح21325 - 2.

الظاهر من الخبر أنّ التوحيد ينافي التكلّم في ذاته القدّوس لاستلزامه التشبيه كما عرفت.

قال اللّه تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) .(1)

* روى العلّامة المجلسي عن العياشي عن ربعي عن الإمام أبي جعفر(ع) في قول الله: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا) قال: الكلام في اللّه والجدال في القرآن، فأعرض عنهم؛ الخبر .(2)

أقول: لعلّ المراد من «آياتنا» في الآية المباركة - على حسب هذه الرواية - كمالاته التي هي عين ذاته، فإنّ الكمالات تكون آيات تدلّ عليه، ولذا فسّر الإمام(ع) الخوض في الآيات بالتكلّم عن اللّه تعالى، واللّه تعالى العالم.

ص: 131


1- الأنعام : 68.
2- تفسير العياشي: 1/362 ح31؛ بحارالأنوار : 3/260 ح7.

الباب السابع عشر: الوجه في عدم إمكان تعقّله تعالى وتوهّمه والتفكّر فيه

ص: 132

قال اللّه تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللّه حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) .(1)

* روى الصدوق عن سليمان بن مهران قال: سألت الإمام أباعبدالله(ع) عن قول اللّه عزّوجلّ: (وَالْأَرْضُ جَميعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) فقال: يعني ملكه لا يملكها معه أحد.

والقبض من اللّه تعالى في موضع آخر: المنع، والبسط منه: آلاء عطاء والتوسيع كما قال عزّ وجلّ: (وَاللّه يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون)(2) يعني يعطي ويوسع ويمنع ويضيق.

والقبض منه عزّ وجلّ في وجه آخر: الأخذ في وجه القبول منه كما قال: (وَيَأْخذ الصَّدَقات)(3) أي يقبلها من أهلها ويثيب عليها. قلت: فقوله عزّ وجلّ: (وَالسَّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمينِهِ) .(4)

قال: اليمين: اليد، واليد: القدرة والقوّة، يقول عزّوجلّ: والسّماوات مطويّات بقدرته وقوّته، سبحانه وتعالى عمّا يشركون .(5)

قد اتضح ممّا ذكرناه الوجه في عدم إمكان تعقّل اللّه تعالى وتوهّمه والتفكّر فيه وبما أنّ الأمر مهمّ في غاية الأهمّيّة - لوقوع الكثير من علماء البشر بسبب عدم الإعتناء

ص: 133


1- الزمر : 67.
2- البقرة: 245.
3- التوبة: 104.
4- الزمر: 67.
5- لتوحيد للصدوق: 1/162 ح2؛ بحارالأنوار : 4/2 ح3.

به في المهالك كما بيّنا ذلك في أبحاثنا في النقض على التوحيد البشريّ - رأينا أنّه من الضروري عقد باب خاصّ لبيان ذلك.

* وقال أميرالمؤمنين(ع): الحمد للّه الدالّ على وجوده بخلقه... لا تستلمه المشاعر، ولا تحجه السواتر لافتراق الصانع والمصنوع والحادِّ والمحدود والربّ والمربوب .(1)

فالوجه في عدم لمسه بالحواسّ والمشاعر هو افتراقه من خلقه.

* روى الصدوق عن مسعدة بن صدقة عن أباعبدالله(ع) عن أميرالمؤمنين(ع): لا يخطر ببال أولي الرويّات خاطرة من تقدير جلال عزّته لبعده من أن يكون في قوى المحدودين؛ الخبر .(2)

فالبعد عن أن يكون في قوى المحدودين هو السبب في عدم خطور خاطرة من تقدير جلال عزّته ببال اولى الرويّات.

* روى الصدوق عن أبوبكر الهذلي عن عكرمة قال: بينما ابن عباس يحدث الناس، إذ قام إليه نافع بن الأزرق فقال: يا ابن عباس، تفتي في النملة والقمّلة، صف لنا إلهك الذي تعبده. فأطرق ابن عباس إعظاما للّه عزّوجلّ وكان الإمام الحسين بن علي8 جالساً ناحية، فقال: إليّ يا ابن الأزرق. فقال: لست إيّاك أسأل. فقال ابن عباس: يا ابن الأزرق، إنّه من أهل بيت النبوّة، وهم ورثة العلم. فأقبل نافع بن أزرق نحو الإمام الحسين(ع) فقال له الحسين(ع): يا نافع، إنّ من وضع دينه على القياس لم يزل الدهر في الارتماس مائلاً عن المنهاج ظاعنا في الاعوجاج ضالّا عن السبيل قائلا غير الجميل. يا ابن الأزرق، أصف إلهي بما وصف به نفسه وأعرفه بما عرف به نفسه. لا يدرك بالحواسّ ولا يقاس بالناس، فهو قريب غير ملتصق، وبعيد غير متقص، يوحّد ولا يبعّض، معروف بالآيات، موصوف بالعلامات، لا إله إلّا هو الكبير المتعال .(3)

ص: 134


1- نهج البلاغة : 212 الخطبة 150؛ البرهان: 1/726 [2032]2.
2- التوحيد للصدوق: 1/48 ح13؛ بحارالأنوار : 4/275 ح16.
3- التوحيد للصدوق: 1/79 ح35؛ بحارالأنوار : 4/297 ح24.

أقول: إنّ الإمام(ع) بيّن بأنّ توصيف الربّ تعالى متوقّف على قياسه بالخلائق، وبما أنّه تعالى ليس كمثله شيء فلا يمكن توصيفه.

* روى الكليني عن جابر بن يزيد عن أبي جعفر(ع) عن أميرالمؤمنين(ع) إلى أن قال: الحمد للّه الّذي منع الأوهام أن تنال إلّا وجوده، وحجب العقول أن تتخيّل ذاته، لامتناعها من الشّبه والتشاكل بل هو الّذي لا يتفاوت في ذاته، ولا يتبعّض بتجزئة العدد في كماله؛ الخبر .(1)

صريح الخبر الشريف يدلّ على أنّ احتجاب العقول عن تخيّل الذات هو لأجل امتناع ذاته القدّوس من الشبه والتشاكل.

* روى الصدوق عن الهيثم بن عبداللّه الرماني عن عليّ بن موسى الرضا عن آبائه عن أميرالمؤمنين: إلى أن قال: لم يخل منه مكان فيدرك بأينيّة، ولا له شبح مثال فيوصف بكيفيّة، ولم يغب عن شيء فيعلم بحيثيّة، مباين لجميع ما أحدث في الصفات، وممتنع عن الإدراك بما ابتدع من تصريف الذوات؛ الخبر .(2)

أقول: ل-مّا كان تعالى مبايناً لجميع ما أحدث صفة يكون ممتنعاً عن الإدراك بما ابتدعه من الذوات المتصرّفة.

* روى الصدوق عن القاسم بن أيّوب العلوي عن الإمام أبي الحسن الرضا(ع): إنّما تحدّ الأدوات أنفسها، وتشيرالآلة إلى نظائرها؛ الخبر .(3)

* روى الكليني عن الفتح بن يزيد الجرجاني عن أباالحسن الرضا(ع) إلى أن قال: إنّ الخالق لا يوصف إلّا بما وصف به نفسه، وأنّى يوصف الذي تعجز الحواسّ أن تدركه، والأوهام أن تناله، والخطرات أن تحدّه، والأبصار عن الإحاطة به. جلّ عمّا وصفه الواصفون، وتعالى عمّا ينعته النّاعتون؛ الخبر .(4)

ص: 135


1- الكافي : 8/18 ح4؛ الوافي: 26/17 ح25365 - 1.
2- التوحيد للصدوق: 1/69 ح26؛ بحارالأنوار : 4/223 ح2.
3- التوحيد للصدوق: 1/34 ح2؛ بحارالأنوار : 4/230 ح3.
4- الكافي : 1/137 ح3؛ بحارالأنوار: 4/290 ح21.

بيّن الإمام(ع) بأنّ الوجه في عدم إمكان توصيفه تعالى هو عجز الحواسّ عن دركه والأوهام عن نيله والخطرات عن تحديده والأبصار عن الإحاطة به.

* روى العلّامة المجلسي عن عبداللّه بن جعفر عن أميرالمؤمنين(ع) إلى أن قال: ارتفعت عن صفة المخلوقين صفات قدرتك، وعلا عن ذلك كبرياء عظمتك؛ الخبر .(1)

أقول: ل-مّا كان تعالى مرتفعاً عن صفات الخليقة، يكون من المستحيل نيله بجميع الإدراكات.

* روى أيضاً عن مهج الدعوات عن أميرالمؤمنين(ع) إلى أن قال: كيف تدركك الصفات أو تحويك الجهات وأنت الجبّار القدّوس الذي لم تزل أزليّاً دائماً في الغيوب، وحدك ليس فيها غيرك ولم يكن لها سواك؛ الخبر .(2)

* روى أيضاً عن عبداللّه بن جعفر عن أميرالمؤمنين(ع) إلى أن قال: انحسرت العقول عن كنه عظمتك، وكيف توصف وأنت الجبار القدوس الذي لم تزل أزلياً دائماً في الغيوب، وحدك ليس فيها غيرك ولم يكن لها سواك؛ الخبر .(3)

بيّن الإمام(ع) أنّ الوجه في عدم إمكان وصفه هو أنّه تعالى جبّار قدّوس أزليّ.

* روى الصدوق عن سهل بن زياد عن الإمام أبي الحسن علي بن محمّد8 أنّه قال: إلهي تاهت أوهام المتوهّمين، وقصر طرف الطارفين، وتلاشت أوصاف الواصفين، واضمحلّت أقاويل المبطلين عن الدرك لعجيب شأنك أو الوقوع بالبلوغ إلى علوّك، فأنت الذي لا تتناهى، ولم يقع عليك عيون بإشارة ولا عبارة، هيهات ثمّ هيهات، يا أوليّ يا وحدانيّ يا فردانيّ، شمخت في العلوّ بعزّ الكبر، وارتفعت من وراء كلّ غورة ونهاية بجبروت الفخر .(4)

ص: 136


1- مهج الدعوات: 1/107؛ بحارالأنوار : 92/243 ح31.
2- مهج الدعوات: 1/126؛ بحارالأنوار : 92/261 ح34.
3- مهج الدعوات: 1/107؛ بحارالأنوار : 92/243 ح31.
4- التوحيد للصدوق: 1/66 ح19؛ بحارالأنوار : 3/298 ح27.

* روى الكليني عن عبدالأعلى مولى آل سام عن أبي عبدالله(ع) قال: إنّ يهوديّاً يقال له سبخت جاء إلى رسول الله(ص) فقال: يا رسول اللّه جئت أسألك عن ربّك فإن أنت أجبتني عمّا أسألك عنه وإلّا رجعت.

قال: سل عمّا شئت؟

قال:أين ربّك؟

قال: هو في كلّ مكان وليس في شيء من المكان المحدود.

قال: وكيف هو؟

قال: وكيف أصف ربّي بالكيف والكيف مخلوق واللّه لا يوصف بخلقه.

قال: فمن أين يعلم أنّك نبيّ الله؟

قال: فما بقي حوله حجر ولا غير ذلك إلّا تكلّم بلسان عربيّ مبين: يا سبخت، إنّه رسول الله(ص).

فقال سبخت: ما رأيت كاليوم أمراً أبين من هذا، ثمّ قال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأنّك رسول الله .(1)

بينّ رسول الله(ص) بأنّ اللّه تعالى لا يوصف بصفات الخليقة فكيف يوصف بالكيف والكيف مخلوق.

* روى أيضاً عن محمّد بن يحيى الخثعمي عن عبدالرّحمن بن عتيك القصير قال: سألت الإمام أباجعفر(ع) عن شيء من الصفة، فرفع يده إلى السّماء ثمّ قال: تعالى الجبّار تعالى الجبّار من تعاطى ما ثمّ هلك .(2)

علوّ الجبّار تعالى أوجب عدم إمكان وصفه.

* روى الصدوق عن ابن البختري وهب بن وهب القرشي عن الإمام محمّد بن علي الباقر8 إلى أن قال: «هو» اسم مشار ومكنّى إلى غائب. فالهاء تنبيه عن معنى ثابت،

ص: 137


1- الكافي : 1/94 ح9؛ بحارالأنوار: 17/373 ح28.
2- الكافي : 1/94 ح10؛ وسائل الشيعة: 16/196 ح[21332]9.

والواو إشارة إلى الغائب عن الحواسّ كما أنّ قولك هذا إشارة إلى الشاهد عند الحواسّ وذلك أنّ الكفّار نبّهوا عن آلهتهم بحرف إشارة الشاهد المدرك فقالوا: هذه آلهتنا المحسوسة المدركة بالأبصار، فأشر أنت يا محمّد إلى إلهك الذي تدعو إليه حتى نراه وندركه ولا نأله فيه. فأنزل اللّه تبارك وتعالى (قُلْ هُوَ اللّه أَحَدٌ) فالهاء تثبيت للثابت، والواو إشارة إلى الغائب عن درك الأبصار ولمس الحواس، واللّه تعالى عن ذلك بل هو مدرك الأبصار ومبدع الحواس .(1)

أقول: الغياب عن درك الأبصار - الحواسّ والأوهام والعقول - أوجب عدم إمكان الإشارة إليه.

* روى العلّامة المجلسي عن تحف العقول عن الإمام الحسين بن علي8: ليس بربّ من طرح تحت البلاغ؛ الخبر .(2)

وقوع الشيء تحت البلاغ يوجب إمكان تعقّله ومن كان كذلك لا يكون ربّاً قدّوساً عظيماً.

* روى أيضاً عنه7 إلى أن قال: ولا يقدر الواصفون كنه عظمته، ولا يخطر على القلوب مبلغ جبروته، لأنه ليس له في الأشياء عديل؛ الخبر .(3)

أقول: الوجه في عدم إمكان تقدير كنه عظمته هو أنّه وحدانيّ صمدانيّ وليس له في الأشياء عديل.

* روى العلّامة المجلسي عن نهج البلاغة في وصيّة مولانا مولى الموحّدين(ع) لولده الإمام الحسن المجتبى(ع): عظم عن أن تثبت ربوبيّته بإحاطة قلبٍ أو بصرٍ .(4)

* روى الصدوق عن الهيثم بن عبداللّه الرماني عن الإمام عليّ بن موسى الرضا(ع) عن

ص: 138


1- التوحيد للصدوق: 1/88 ح1؛ بحارالأنوار : 3/221 ح12.
2- تحف العقول: 244؛ بحارالأنوار : 4/301 ح29.
3- تحف العقول: 244؛ بحارالأنوار : 4/301 ح29.
4- نهج البلاغة : الكتاب 31؛ بحارالأنوار: 4/317 ح41.

أميرالمؤمنين(ع) إلى أن قال: لا كالأشياء فتقع عليه الصفات. قد ضلّت العقول في أمواج تيّار إدراكه؛ الخبر .(1)

أقول: بما أنّه تعالى متعال عن صفة المخلوق فلا يمكن أن تقع عليه توصيفات الخلائق ولذا لا يمكن تعقّله والإحاطة به.

* روى العلّامة المجلسي من تحف العقول عن الإمام الحسين بن علي8: لا يخطر على القلوب مبلغ جبروته لأنّه ليس له في الأشياء عديل؛ الخبر .(2)

فالوجه في عدم إمكان أن يخطر على القلوب مبلغ جبروته هو تعاليه عن صفة الخلائق.

* روى الكليني عن عبداللّه بن سنان عن الإمام أبي عبدالله(ع) قال: إنّ اللّه عظيم رفيع لا يقدر العباد على صفته، ولا يبلغون كنه عظمته. لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير. ولا يوصف بكيف ولا أين وحيث، وكيف أصفه بالكيف وهو الذي كيّف الكيف حتى صار كيفاً فعرفت الكيف بما كيّف لنا من الكيف؟ أم كيف أصفه بأين وهو الذي أيّن الأين حتى صار أيناً فعرفت الأين بما أيّن لنا من الأين؟ أم كيف أصفه بحيث وهو الذي حيّث الحيث حتى صار حيثاً فعرفت الحيث بما حيّث لنا من الحيث؟

فاللّه تبارك وتعالى داخل في كلّ مكان وخارج من كلّ شيء، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، لا إله إلّا هو العليّ العظيم وهو اللطيف الخبير .(3)

ل-مّا كان تعالى مكيّفاً للكيف فلا يمكن وصفه به وكذا الأين ومن الواضح أنّ البشر إذا رام توصيف ربّه تعالى لا يصفه إلّا بالكيف والأين.

* روى الكليني عن يعقوب بن جعفر الجعفري عن الإمام موسى بن جعفر8 إلى أن

ص: 139


1- التوحيد للصدوق: 1/69 ح26؛ بحارالأنوار : 4/222 ح2.
2- تحف العقول: 244؛ بحارالأنوار : 4/301 ح29.
3- الكافي : 1/103 ح12؛ بحارالأنوار: 4/297 ح26.

قال: فإن اللّه عزّوجلّ عن صفة الواصفين، ونعت الناعتين، وتوهّم المتوهّمين .(1)

جلاله وعزّته عن صفة الواصفين هو السبب في عدم إمكان دركه تعالى.

* روى العلّامة المجلسي قال الإمام الباقر(ع): اللّه معناه المعبود الذي أله الخلق عن درك مائيّته والإحاطة بكيفيّته، ويقول العرب أله الرجل إذا تحيّر في الشيء فلم يحط به علماً، ووله إذا فزع إلى شيء ممّا يحذره ويخافه فالإله هو المستور عن حواسّ الخلق .(2)

أقول: ل-مّا أله الخلق عن درك مائيّته وتحيّروا فيه فلا يمكنهم دركه تعالى ووصفه.

* روى الصدوق عن القاسم بن أيّوب العلوي عن الإمام أبي الحسن الرضا(ع) إلى أن قال: لا إيّاه وحّد من اكتنهه؛ الخبر .(3)

الخبر الشريف يدّل على أنّ اكتناه الربّ تعالى مناف للوحدانيّة وقد عرفت أنّ المراد من الوحدانيّة هو عدم مضاهاته تعالى للكائنات.

* روى العلّامة المجلسي عن نهج البلاغة عن أميرالمؤمنين(ع): الحمد للّه الذي انحسرت الأوصاف عن كنه معرفته، وردعت عظمته العقول، فلم تجد مساغاً إلى بلوغ غاية ملكوته؛ الخبر .(4)

أقول: الخبر الشريف يدلّ على انحسار التوصيفات عن كنه عظمته وردع عظمته تعالى العقول ولذا لا يمكنها البلوغ إلى غاية ملكوته تعالى.

* روى الصدوق عن محمّد بن مسلم أنّه قال للإمام أبي جعفر(ع): يزعمون أنّه بصير على ما يعقلونه؟

قال(ع): تعالى اللّه إنّما يعقل ما كان بصفة المخلوقين وليس اللّه كذلك .(5)

ص: 140


1- الكافي: 1/125 ح1؛ بحارالأنوار : 3/311 ح5.
2- بحارالأنوار : 3/222 ح12؛ تفسير كنز الدقائق: 14/507.
3- التوحيد للصدوق: 1/35 ح2؛ بحارالأنوار : 4/227 ح3.
4- . نهج البلاغة: 217 الخطبة 155؛ بحارالأنوار : 4/317 ح42.
5- التوحيد للصدوق: 144 ح9؛ بحارالأنوار: 4/69 ح14.

أقول: الخبر الشريف صريح في أنّ العقل لا يستطيع إدراك إلّا ما كان بصفة المخلوق واللّه تعالى أعلى وأجلّ من الخليقة وصفاتهم.

والمتحصّل من جميع ذلك هو أنّ عدم إمكان دركه تعالى بجميع الإدراكات إنّما هو لأجل علوّه عن صفة الخلائق وأنّه قدّوس سبّوح فإذا لم يمكن إدراكه تعالى بالعقول والأوهام فكيف يمكن إدراكه بالمعقولات والموهومات البشريّة فإنّ العقل الذي يدّعيه البشر ليس إلّا فعليّة النفس باستخراج النظريّات من الضروريّات وهذا ليس إلّا ظلمات بعضها فوق بعض فادّعاء دركه بالمعقولات بل الموهومات هو الضلال المبين الذي بعث لأجل هدمه الأنبياء:.

ص: 141

الباب الثامن عشر: عدم إمكان وصفه

ص: 142

قد عرفت أنّه لا يمكن للعقول والأوهام والأفكار أن تنال الربّ تعالى، ذلك أنّه أعلى وأجلّ من صفات الخليقة الذين يمكن أن تجري علهم الإدراكات. ول-مّا كان التوصيف متوقّفاً على الكشف والإدراك وكان تعالى أعلى وأجلّ من جميع الإدراكات امتنع وصفه، وعليه لا يمكن لمخلوق أن يصف ربّه تعالى بشيء من التوصيفات البشريّة.

(ما قَدَرُوا اللّه حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللّه لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) .(1)

(مَا اتَّخَذَ اللّه مِنْ وَلَدٍ وما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذا لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ ولَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللّه عَمَّا يَصِفُونَ) .(2)

(سُبْحانَ اللّه عَمَّا يَصِفُونَ) .(3)

(وَجَعَلُوا للّه شُرَكاءَ الْجِنَّ وخَلَقَهُمْ وخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) .(4)

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّه ما لا يَضُرُّهُمْ ولا يَنْفَعُهُمْ ويَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللّه قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّه بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ ولا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) .(5)

ص: 143


1- الحجّ : 74.
2- الصافات : 159.
3- المؤمنون : 91.
4- الأنعام : 100.
5- . يونس : 18.

(أَتى أَمْرُ اللّه فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) .(1)

(سُبْحانَهُ وتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرا) .(2)

(اللّه الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) .(3)

(وَما قَدَرُوا اللّه حَقَّ قَدْرِهِ والْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ والسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) .(4)

أفاد شيخنا الأستاذ آية اللّه المحقّق الملكيّ1 أنّ هذه الآيات المباركة تدلّ على تنزيهه تعالى عن توصيف المخلوق. والمراد من التوصيف الممتنع عليه تعالى هو نعته بصفة المخلوق. ولذا يشمل المنعُ كلَّ وصف وتعريف وتوضيح وعنوان وتسمية لامتناع ذاته القدّوس وكذا كمالاته - من العلم ولقدرة وما يدلّ على جلاله وكبريائه وأفعاله الحكيمة مثل الربوبيّة والرحمانيّة والرحيميّة وغيرها - من المعقوليّة والمعلوميّة ذلك أنّه تعالى قدّوس قدّوس وسبّوح سبّوح وكمالاته غير متناهية حقيقة، والتوصيف متوقّف على المعلوميّة والمكشوفيّة وهما ممنوعان في حقّه تعالى وإليك نصّ عبارته:

بيان: الآيات الكريمة دالّة على تنزيهه تعال-ى عمّا يصفون بحسب مواردها، أي عن التوصيفات والنعوت الجارية على ما سواه تعال-ى من المحدودين والمخلوقين من اتّخاذ الولد والبنين والبنات والشريك والندّ والضدّ وأمثال ذلك.

وتشمل - بإطلاقها - كلّ ما يصدق عليه أنّه وصف وتوصيف بحسب معناه اللغوي. قال صاحب القاموس: وصفه يصفه وصفاً وصفة: نعته... وأمّا

ص: 144


1- النحل : 1.
2- الاسراء : 43.
3- الروم : 40.
4- . الزمر : 67.

النحاة فإنّما يريدون بها النعت وهو اسم الفاعل والمفعول أو ما يرجع إليهما من طريق المعنى كمثل وشبه.

فعلى هذا، فالوصف المنهيّ عنه شامل لكلّ وصف وتعريف وتوضيح وعنوان وتسمية. فإنّ الأوصاف والعناوين كلّها مدركة معقولة مفهومة. فالموصوف بها إمّا أن يكون أمراً معقولاً ومعلوماً، فلا إشكال ولا محذور. وكذلك إذا كان أمراً مجهولاً، فتوصيفه بهذه التوصيفات تعريفه بها وحكاية عنه بها، فيكون تعريفاً للأمر الخفي المحدود بأمر محدود أجلى من الموصوف والمعرف. فإيقاع هذه العناوين والأوصاف بما لها من المعنى، لا يستحيل عليه ولا كونها معرفة إيّاه وحكاية عنه.

وأمّا إذا كان الموصوف ممّا يستحيل العلم به ودركه ونيله بالعلم الحضوريّ أو الحصوليّ، لشدّة قدسه وكونه نوريّ الذات وظاهر الذات ف-ي شدّة غير متناهية، أو لعدم تناهي الموصوف من حيث نفسه وجميع شؤونه وكمالاته، فيستحيل - بالضرورة - العلم به حضوراً أو حصولاً، لإمتناعه وتأبيه عن المعلوميّة، وهذا القدس والإمتناع من أجلّ نعوته تعالى وكمالاته، وكلّ نعوته جليلة. فليس امتناع العلم به من حيث كونه منغمراً ف-ي المجهوليّة وال-مُظلميّة، بل العقول الثاقبة والألباب الراسخة هالكة ومضمحلة ف-ي قبال الحقّ المبين الذي ملأ الدهر قدسه ويغشي الأبد نوره.

فمن رام التفكّر ف-ي ساحته، رجع عقله تائها ولبّه حيراناً، فلا يمكن أن ينال من قدسه ومجده شيئاً قليلاً ولا كثيراً بالعلم الحضوريّ أو الحصوليّ. ودركه بالمفاهيم العامّة ونيله بالعناوين الكلّيّة الذي سمّوه معرفة وتصوراً بالوجه، عين التوصيف المنهيّ عنه ومن أظهر مصاديقه. إذ هو متوقّف على القول بأنّ الألفاظ موضوعة ف-ي مقابل المفاهيم المعقولة ومتوقف أيضاً على ثبوت الإشتراك المعنوي وانطباق المفهوم عليه تعال-ى وعلى غيره ف-ي إطلاق واحد، وكلتا الدعويين أمران وهميّان وخلاف ما هو

ص: 145

التحقيق، لقيام ضرورة مذهب أهل البيت: بالبينونة الصفتيّة بين الخالق والمخلوق، وامتناع انطباق المفهوم المحدود على حقيقة غير متناهية من حيث النوريّة والظاهريّة. وقد أسلفنا الكلام ف-ي ذلك مستوفى ف-ي ما تقدّم. وضروريّ - عند أولي الألباب - أنّ تقديسه تعال-ى عن التوصيفات والتعريفات، لا يلازم نف-ي صفاته ونعوته التي هي كمال حقيقيّ لابدّ من إثباته ف-ي حقّه تعال-ى، سواء كانت من نعوته الذاتيّة مثل العلم والقدرة والحياة، أو ما يدلّ عليه جلاله وكبرياؤه أو أفعاله الحكمية وسننه القيمة الفاضلة، مثل الربوبيّة والرحمانيّة والرحيميّة وغيرها. فإنّ الصفة المنفية هي المعنى المصدريّ. يقال: وصف، يصف، صفة، مثل وعد، يعد، عدة. وجمعها صفات مثل عدات.

وأمّا صفاته تعال-ى، فهي أمور عينيّة واقعيّة. فالكلام ف-ي توصيف تلك النعوت والصفات عين الكلام ف-ي توصيف الذات أيضاً.

وبهذا البيان يتبيّن الفرق بين لفظ الصفات الواقعة تحت المنع وتنزيهه تعال-ى عنها وبين الصفات التي صرّح بثبوتها وإثباتها الكتاب والسنّة.

وأمّا إطلاق الأسماء اللفظيّة الواردة ف-ي الكتاب والسنّة وإجراؤها عليه تعال-ى، فحيث إنّها بالوضع الشخصيّ ف-ي مقابل الذات الخارجة عن الحدّين - التشبيه والتعطيل - لا ف-ي مقابل المفهوم الجزئيّ ولا ف-ي مقابل المفهوم الكلّيّ - كما هو كذلك عند القائلين بالاشتراك والتشكيك - فليس من باب التّوصيف المحرم المنهيّ عنه. فإنّ معرفة الموضوع له إنّما هو بتعريف نفسه خارجاً عن الحدّين منزّهاً ومصوناً عن التصوّر والتوهّم والتعقّل.

بداهة أنّ معرفته تعال-ى بتعريفه نفسه إل-ى عباده متأبّية عن المعلوميّة والمفهوميّة والمعقوليّة والموهوميّة والموصوفيّة. فمعرفة المسمّى قبل معرفة الاسم وف-ي مرتبة متقدّمة عليها. وقد سمّى اللّه تعال-ى نفسه بهذه الأسماء وأمر الناس أن يدعوه تعال-ى بها كما مرّ الإشارة إليه ف-ي رواية حنّان

ص: 146

ابن سدير المتقدّمة، حيث قال: معرفة عين الشاهد قبل صفته. ومعرفة صفة الغائب قبل عينه. ومرجع هذا الإطلاق والإجراء، هو تمجيده تعالى وتعظيمه وتكبيره لا كشفه عنه تعالى، على ما هو المتعارف ف-ي الدلالات. وكذلك ف-ي مرحلة الإفهام والتّفهيم والدّعوة إليه سبحانه بهذه الأسماء، ليس إلّا التذكّر به تعال-ى بذكر هذه الأسماء. فهو سبحانه هو الدالّ بالدّليل عليه والمؤدّي بالمعرفة إليه. فأسماء اللّه تعال-ى كلّها معارف ومعناها ومفادها نفس الذات الخارجة عن الحدّين ولا مفهوم لها غير الخارج. فالعارفون به تعال-ى يدعونه بهذه الأسماء ويمجّدونه بما يعرفونه من الكمالات غير المتناهيّة له تعال-ى .(1)

* وفي نهج البلاغة في خطبة لمولانا أميرالمؤمنين(ع): تعالى عمّا ينحلُه المحدّدون من صفات الأقدار ونهايات الأقطار وتأثّل (2)المساكن وتمكّن الأماكن فالحدّ لخلقه مضروب وإلى غيره منسوب .(3)

* روى الكليني عن ربعي بن عبداللّه عن الفضيل بن يسار قال: سمعت الإمام أباعبدالله(ع) يقول: إنّ اللّه لايوصف وكيف يوصف، وقد قال في كتابه: (وما قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ)(4) فلا يوصف بقدر إلّا كان أعظم من ذلك .(5)

* روى العلّامة المجلسي عن فقه الرضا(ع): إنّ أوّل ما افترض اللّه على عباده وأوجب على خلقه، معرفة الوحدانيّة. قال اللّه تبارك وتعالى (وما قَدَرُوا اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) يقول ما عرفوا اللّه حقّ معرفته .(6)

* روى الصدوق عن الفضيل بن يسار عن الإمام أبي عبدالله(ع): إنّ اللّه عزّوجلّ لا

ص: 147


1- توحيدالإماميّة : 222 - 224.
2- التأثّل: تأثّل مالاً أي اكتسبه واتّخذه وثمّره. (لسان العرب)
3- نهج البلاغة : الخطبة 161؛ بحارالأنوار: 4/307 ح35.
4- الحج: 74.
5- الكافي : 1/103 ح11؛ الوافي: 1/411 ح332.
6- فقه الرضا: 1/65؛ بحارالأنوار : 3/13 ح32.

يوصف. قال الراوي، وقال زرارة: قال أبو جعفر(ع): إنّ اللّه عزّوجلّ لا يوصف بعجز وكيف يوصف وقد قال في كتابه (وما قَدَرُوا اللّه حَقَّ قَدْرِهِ) فلا يوصف بقدرة إلّا كان أعظم من ذلك .(1)

* روى الكليني عن ربعي عن زرارة عن الإمام أبي جعفر(ع) قال سمعته يقول: إنّ اللّه عزّوجلّ لا يوصف وكيف يوصف وقال في كتابه (وما قَدَرُوا اللّه حَقَّ قَدْرِهِ) فلا يوصف بقدرة إلّا كان أعظم من ذلك وإنّ النبي(ص) لا يوصف وكيف يوصف، عبد احتجب اللّه عزّوجلّ بسبع وجعل طاعته في الأرض كطاعته في السماء، فقال (وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(2) ومن أطاع هذا فقد أطاعني ومن عصاه فقد عصاني وفوّض إليه. وإنّا لا نوصف، وكيف يوصف قوم رفع اللّه عنهم الرجس وهو الشك. والمؤمن لا يوصف، وإنّ المؤمن ليلقى أخاه فيصافحه فلا يزال اللّه ينظر إليهما والذنوب تتحاتّ عن وجوههما كما يتحاتّ الورق عن الشجر .(3)

قال العلاّمة المجلسي1:

(وَما قَدَرُوا اللّه حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عظّموا اللّه حقّ تعظيمه أو ما عرفوا اللّه حقّ معرفته، وما وصفوا اللّه حقّ وصفه كما هو الظاهر من هذا الخبر. «فلا يوصف بقدرة» كأنّه خصّ القدرة بالذكر لأنّها التي يمكن أن تعقل ف-ي الجملة من صفاته سبحانه، أو هو على المثال ويمكن أن يقرأ بالفتح أي بقدر وقد مر هذا الجزء من الخبر ف-ي كتاب التوحيد وفيه بقدر وهو أصوب .(4)

* روى الكليني عن عبدالأعلى موسى آل سام عن أبي عبدالله(ع) قال: إنّ يهوديّاً يقال

ص: 148


1- . التوحيد للصدوق: 1/127 ح6؛ بحارالأنوار : 4/142 ح8.
2- الحشر: 7.
3- الكافي: 2/182 ح16؛ بحارالأنوار : 73/30 ح26.
4- بحارالأنوار : 73/30.

له سبخت جاء إلى رسول الله(ص)، فقال: يا رسول اللّه جئت أسألك عن ربّك فإن أنت أجبتني عمّا أسألك عنه وإلّا رجعت.

قال: سل عمّا شئت؟

قال:أين ربّك؟

قال: هو في كلّ مكان وليس في شيء من المكان المحدود.

قال: وكيف هو؟

قال: وكيف أصف ربّي بالكيف والكيف مخلوق واللّه لا يوصف بخلقه.

قال: فمن أين يعلم أنّك نبيّ الله؟

قال: فما بقي حوله حجر ولا غير ذلك إلّا تكلّم بلسان عربيّ مبين: يا سبخت إنّه رسول الله(ص).(1)

فقال سبخت: ما رأيت كاليوم أمراً أبين من هذا، ثمّ قال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه وأنّك رسول الله .

* روى أيضاً عن إبراهيم بن عبدالحميد عن أبي حمزة قال: قال لي الإمام عليّ بن الحسين(ع): يا أباحمزة إنّ اللّه لا يوصف بمحدوديّة، عظم ربّنا عن الصفة، فكيف يوصف بمحدوديّة من لا يحدّ، ولا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير .(2)

* روى المفيد عن بكر بن صالح عن سليمان الجعفريّ قال: سمعت الإمام أباالحسن(ع) يقول لأبي: ما لي رأيتك عند عبدالرحمن بن يعقوب؟

قال: إنّه خالي.

فقال له الإمام أبوالحسن (ع): إنّه يقول في اللّه قولاً عظيماً يصف اللّه تعالى ويحدّه، واللّه لا يوصف، فإمّا جلست معه وتركتنا أو جلست معنا وتركته.

فقال: إنّ هو يقول ما شاء أيّ شيء عليّ منه إذا لم أقل ما يقول.

ص: 149


1- الكافي : 1/94 ح(ص)؛ الوافي: 1/360 ح281.
2- لكافي : 1/100 ح2؛ الوافي: 1/410 ح331.

فقال له الإمام أبوالحسن(ع): أما تخاف أن ينزل به نقمة فتصيبكم جميعاً؟ أما علمت بالذي كان من أصحاب موسى(ع) وكان أبوه من أصحاب فرعون، فلمّا ألحقت خيل فرعون موسى(ع) تخلّف عنه ليعظه ويدركه موسى وأبوه يراغمه حتى بلغا طرف البحر فغرقا جميعا، فأتى موسى الخبر، فسأل جبرئيل عن حاله فقال له: غرق رحمه اللّه ولم يكن على رأي أبيه ولكن النقمة إذا نزلت لم يكن لها عمّا قارب الذنب دفاع .(1)

* روى الصدوق عن عبدالأعلى عن العبد الصالح الإمام موسى بن جعفر(ع) قال: علم اللّه لا يوصف اللّه منه بأين ولا يوصف العلم من اللّه بكيف، ولا يفرد العلم من اللّه ولا يبان اللّه منه، وليس بين اللّه وبين علمه حدّ .(2)

* روى العلّامة المجلسي عن تحف العقول عن الإمام أبي الحسن الثالث(ع) قال: إنّ اللّه لا يوصف إلّا بما وصف به نفسه، وأنّى يوصف الذي تعجز الحواسّ أن تدركه والأوهام أن تناله والخطرات أن تحدّه والأبصار عن الإحاطة به؟ نأى في قربه، وقرب في نأيه، كيّف الكيف بغير أن يقال كيف، وأيّن الأين بلا أن يقال أين. هو منقطع الكيفيّة والأينيّة، الواحد الأحد، جلّ جلاله، وتقدّست أسماؤه .(3)

* روى الصدوق عن يونس بن عبدالرحمن عن الإمام موسى بن جعفر8: إنّ اللّه لا يوصف بمكان، ولا يجري عليه زمان .(4)

* وفي الكافي وغيره في أخبار كثيرة، واللّه لا يوصف بخلقه .(5)

* وفي التوحيد عن الإمام الكاظم(ع) أنّ اللّه لا يوصف بزمان ولامكان .(6)

ص: 150


1- أمالي (للمفيد): 112 ح36؛ مستدرك الوسائل : 8/349 ح9630.
2- التوحيد للصدوق: 1/138 ح16؛ بحارالأنوار : 4/86 ح22.
3- تحف العقول: 482؛ بحارالأنوار : 4/303 ح30.
4- التوحيد للصدوق: 1/175 ح5؛ بحارالأنوار : 54/285.
5- الكافي: 1/94 ح9؛ بحارالأنوار : 54/285.
6- التوحيد للصدوق: 1/183 ح20؛ بحارالأنوار : 54/285.

وحاصل الأدلّة أنّ اللّه تعالى لا يوصف بوصف المخلوق لعظمته وعلوّه عن توصيفاتهم ولشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف. ومن الواضح أنّ التوصيف فرع التعقّل، وبما أنّه تعالى - وكذا كمالاته وأفعاله - أجلّ من العقل وأعظم من جميع الإدراكات، فلا يمكن توصيفه فإنّ البشر لا يستطيع أن يصف الشيء إلّا بحسب قدرته وغاية قدرته العقل والعلم وهما لا يصلان إلى الربّ تعالى أبداً، فإنّه تعالى أنار بنوره كلّ ظلام وأظلم بظلمته كلّ نور، فالأنوار وإن كان بإمكانها كشف المخلوق إلّا أنّها ظلمة في قبال عظمة الربّ تعالى فلا فرق بينها وبين سائر الظلمات في قبال معرفة ذاته تعالى.

فإن عاند أحد ورام أنّه يستطيع أن يصفه بالوصف البشريّ نقول له ما قاله مولانا أميرالمؤمنين(ع): «بل إن كنتَ صادقا أيّها المتكلّف لوصف ربّك فصف جبرائيل وميكائيل وجنود الملائكة المقرّبين في حجرات القُدُس مرجحنين، متولّهة عقولهم أن يحدُّوا أحسن الخالقين، فإنّما يُدركُ بالصفات ذوو الهيئات والأدوات ومنينقض إذا بلَغَ أحدَ حدِّهِ بالفناء؛ الخطبة» .(1)

وكذا قوله(ع): «أيّها المخلوق السويّ، والمنشأ المرعيّ في ظلمات الأرحام، ومضاعفات الأستار. بدأت من سلالة من طين، ووضعت في قرار مكين، إلى قدر معلوم، وأجل مقسوم. تمور في بطن أمّك جنيناً لا تحير دعاء ولا تسمع نداء. ثمّ أخرجت من مقرّك إلى دار لم تشهدها، ولم تعرف سبل منافعها. فمن هداك لاجترار الغذاء من ثدي أمّك، وعرفك عند الحاجة مواضع طلبك وإرادتك. هيهات، إنّ من يعجزعن صفات ذي الهيئة والأدوات فهو عن صفات خالقه أعجز، ومن تناوله بحدود المخلوقين أبعد» .(2)

ص: 151


1- نهج البلاغة : 262 الخطبة 182؛ بحارالأنوار: 74/308 ح13.
2- هج البلاغة : 234 الخطبة 163؛ بحارالأنوار: 57/347 ح34.

الباب التاسع عشر: وصفه بما وصف به نفسه

ص: 152

يجدر بنا أن ننقل بعض الآيات التي وصف اللّه بها نفسه كي يتبيّن الفرق بين وصفه تعالى نفسه والتوصيفات البشريّة:

1 - (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) .(1)

2 - (وَللّه مَا فِي السَّماوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّه بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً) .(2)

3 - (بَدِيعُ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) .(3)

4 - (أَلاَ إِنَّ للّه مَا فِي السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) .(4)

5 - (اللّه يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) .(5)

6 - (إِن تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللّه كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) .

ص: 153


1- لبقرة : 29.
2- النساء : 126.
3- الأنعام : 101.
4- . النور : 64.
5- العنكبوت : 62.

7 - (أَوَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ بَصِيرٌ) .(1)

8 - (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللّه لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .(2)

9 - (مَا نَنَسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ) .(3)

10 - (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللّه جَمِيعاً إِنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .(4)

11 - (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللّه بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّه مِاْئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماًأَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامَكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .(5)

12 - (للّه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْتُخْفُوهُ يُحَاسِبَكُم بِهِ اللّه فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .(6)

13 - (قُلِ اللّهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .(7)

ص: 154


1- الملك : 19.
2- البقرة : 20.
3- البقرة : 106.
4- البقرة : 148.
5- البقرة : 259.
6- البقرة : 284.
7- آل عمران : 26.

14 - (قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمهُ اللّه وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .(1)

15 - (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّه هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّه شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَللّه مُلْكُ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .(2)

16 - (وَاللّه خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مَن مَاءٍ فَمِنْهُم مَن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللّه مَا يَشَاءُ إِنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .(3)

17 - (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .(4)

18 - (الْحَمْدُ للّه فَاطِرِ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُوْلِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍقَدِيرٌ) .(5)

19 - (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .(6)

20 - (أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللّه الَّذِي خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .(7)

ص: 155


1- آل عمران : 29.
2- المائدة : 17
3- النور : 45.
4- لعنكبوت : 20.
5- فاطر : 1.
6- فصّلت : 39.
7- الأحقاف : 33.

21 - (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللّه كَانَ تَوَّاباً رَحِيماً) .(1)

22 - (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ الَّلاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِن نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّه كَانَ غَفُوراً رَحِيماً) .(2)

23 - (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّه وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرَوا اللّه وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللّه تَوَّاباً رَحِيماً) .(3)

24 - (وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّه يَجِدِ اللّه غَفُوراً رَحِيماً) .(4)

25 - (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) .(5)

26 - (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولئِكَ يُبَدِّلُ اللّه سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللّه غَفُوراً رَحِيماً) .(6)

27 - (لِيَجْزِيَ اللّه الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّه كَانَ غَفُوراً رَحِيماً) .(7)

ص: 156


1- النساء : 16.
2- النساء : 23.
3- النساء : 64.
4- النساء : 110.
5- الإسراء : 66.
6- الفرقان : 70.
7- . الأحزاب : 24.

28 - (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) .(1)

29 - (وَللّه مُلْكُ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَكَانَ اللّه غَفُوراً رَحِيماً) .(2)

30 - (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) .(3)

31 - (وَقَالُوا الْحَمْدُ للّه الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) .(4)

32 - (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللّه عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللّه غَفُورٌ شَكُورٌ) .(5)

33 - (إِن تُقْرِضُوا اللّه قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّه شَكُورٌ حَلِيمٌ) .(6)

34 - (فَإِن زَلَلْتُمْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ) .(7)

35 - (فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللّه يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَو شَاءَ اللّه لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ) .(8)

36 - (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبَّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِيَنَّكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ) .(9)

ص: 157


1- الأحزاب : 43.
2- الفتح : 14.
3- فاطر : 30.
4- فاطر : 34.
5- الشورى : 23.
6- التغابن : 17.
7- البقرة : 209.
8- البقرة : 220.
9- البقرة : 260.

37 - (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللّه كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً) .(1)

38 - (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللّه وَاللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ) .(2)

39 - (إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّه إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَافِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَاتَحْزَنْ إِنَّ اللّه مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللّه سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللّه هِيَ الْعُلْيَا وَاللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ) .(3)

40 - (وَقَالُوا اتَّخَذَ اللّه وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) .(4)

41 - (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللّه إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّه وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللّه وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انْتَهُوا خَيْرا لَكُمْ إِنَّمَا اللّه إِلهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّماوَاتِ وَما فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللّه وَكِيلاً) .(5)

42 - (وَجَعَلُوا للّه شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ) .(6)

43 - (قَالُوا اتَّخَذَ اللّه وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّماوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عَندَكُم مِن سُلْطَانٍ بِهذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللّه مَا لَا تَعْلَمُونَ) .(7)

ص: 158


1- النساء : 56.
2- المائدة : 38.
3- التوبة : 40.
4- البقرة : 116.
5- . النساء : 171.
6- الأنعام : 100.
7- يونس : 68.

44 - (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ) .(1)

45 - (اللّه الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذلِكُم مِن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) .(2)

46 - (لَوْ أَرَادَ اللّه أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللّه الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) .(3)

أنت ترى أنّ هذه الأوصاف ليست إلّا تعظيماً وتقديساً وتسبيحاً للربّ تعالى وهي تختلف عن التوصيفات البشريّة.

لا يقال: قد وردت أخبار تدلّ على وصفه اللّه تعالى بما وصف به نفسه فيمكن أن نصف اللّه تعالى وليس الطريق إلى ذلك منغلقاً.

لأنّه يقال: إنّ هذه الأخبار قد وردت في سياق الأخبار الدالّة على عدم إمكان وصفه تعالى، فيكون توصيفه بما وصف به نفسه بمعزل عن التوصيف المنهيّ عنه لامتناع التوصيف الثاني عقلاً في حقّه تعالى، فليس وصفه بما وصف به نفسه توصيفاً بصفة المخلوق بل هو وصف بالسبوحيّة والقدّوسيّة والتأبّي عن صفات الخليقة وتوصيفاتهم، فحقيقة الوصف بما وصف به نفسه هي وصفه بعدم إمكان وصفه وبيان سبّوحيّته عن إحاطة العقول وتوهّم المتوهّمين، وهذا لا يكون إلّا بعد تعريفه نفسه القدّوس للخلائق تعريفا متعاليا عن المعلوميّة والمعقوليّة ولذا ترى أنّ الوصف الربّانيّ هو وصف مع نفي الجهات التي ترتبط بالمخلوق.

فإذا كان الكلام عن علمه سبحانه وصفوه بأنّه تعالى «علم لا جهل فيه» وإذا كان الكلام حول حياته وصفوه بأنّه تعالى «حياة لا موت فيه» و «حيّ قبل كلّ حي وحي مع كلّ

ص: 159


1- الانبياء : 26.
2- الروم : 40.
3- الزمر : 4.

حي وحي يبقى ويفني كلّ حي» وإذا كان الكلام حول سمعه تعالى وصفوه بأنّه «سميع لا بجارحة» وإذا كان الكلام حول كلامه تعالى وصفوه بأنّه «متكلّم لا بلسان» وإذا كان الكلام حول فاعليّته تعالى وصفوه بأنّه «فاعل لا بمعنى الحركات والآلة» وإذا كان الكلام حول كينونته وموجوديّته وصفوه بأنّه «كائن لا عن حدث موجود لا عن عدم» وهكذا - كما ستعرف ذلك بمزيد من التفصيل إن شاء اللّه تعالى -، فليس وصف اللّه تعالى نفسه وصفاً بالمعلوميّة والمعقوليّة بل هو وصف بالسبّوحيّة والقدّوسيّة والكمال والتنزّه عن صفة المخلوقين. وسيأتي عند البحث حول المعرفة الفطريّة ما ينفع في المقام، فانتظر.

الباب العشرون: أصفه بما وصف به نفسه

ص: 160

قد ظهر لك على ضوء ما ذكرناه استحالة توصيفه بصفات المخلوقين وأنّه لايوصف إلّا بما وصف نفسه، وإلى هذه الحقيقة الهامّة أرشدنا الرسول وآله:، وإليك بعض ما روي عنهم::

* روى الصدوق عن محمّد بن أبي زياد الجُدي قال حدّثني محمّد بن يحيى بن عمر بن عليّ بن أبي طالب قال: سمعت أباالحسن الرضا(ع) يتكلّم بهذا الكلام عند المأمون في التوحيد. قال ابن أبي زياد ورواه لي أيضاً أحمد بن عبداللّه العلويّ مولى لهم وخالاً لبعضهم عن القاسم بن أيوب العلوي أنّ المأمون ل-مّا أراد أن يستعمل الرضا(ع)، جمع بني هاشم فقال: إنّي أريد أن أستعمل الرضا على هذا الأمر من بعدي، فحسده بنو هاشم وقالوا تولّي رجلاً جاهلاً ليس له بصر بتدبير الخلافة، فابعث إليه يأتنا فترى من جهله ما تستدل به عليه.

فبعث إليه، فأتاه، فقال له بنو هاشم: يا أبا الحسن اصعد المنبر وانصب لنا علماً نعبد اللّه عليه. فصعد(ع) المنبر فقعد مليّاً لا يتكلّم مطرقاً، ثمّ انتفض انتفاضة واستوى قائماً وحمد اللّه وأثنى عليه وصلّى على نبيّه وأهل بيته ثمّ قال:

أوّل عبادة اللّه معرفته، وأصل معرفة اللّه توحيده، ونظام توحيد اللّه نفي الصفات عنه لشهادة العقول أنّ كلّ صفة وموصوف مخلوق، وشهادة كلّ موصوف أنّ له خالقاً ليس بصفة ولا موصوف، وشهادة كلّ صفة وموصوف بالإقتران، وشهادة الإقتران بالحدث، وشهادة الحدث بالإمتناع من الأزل الممتنع من الحدث. فليس اللّه عرف من عرف بالتشبيه ذاته، ولا إيّاه وحّد من اكتنهه، ولا حقيقته أصاب من مثّله، ولا به صدّق من نهّاه، ولا صمد

ص: 161

صمده من أشار إليه، ولا إيّاه عنى من شبهه، ولا له تذلّل من بعّضه، ولا إيّاه أراد من توهّمه.

كلّ معروف بنفسه مصنوع، وكلّ قائم في سواه معلول، بصنع اللّه يستدلّ عليه، وبالعقول تعتقد معرفته، وبالفطرة تثبت حجّته.

خلق اللّه الخلق، حجاب بينه وبينهم، ومباينته إيّاهم مفارقته إنيّتهم، وابتداؤه إيّاهم دليلهم على أن لا ابتداء له لعجز كل مبتدءٍ عن ابتداء غيره، وأدوه إيّاهم دليل على أن لا أداة فيه لشهادة الأدوات بفاقة المادين، فأسماؤه تعبير، وأفعاله تفهيم، وذاته حقيقة، وكنهه تفريق بينه وبين خلقه، وغيوره تحديد لما سواه. فقد جهل اللّه من استوصفه، وقد تعدّاه من اشتمله، وقد أخطأه من اكتنهه، ومن قال كيف فقد شبّهه، ومن قال لِ-مَ فقد عله، ومن قال متى فقد وقّته، ومن قال فيم فقد ضمّنه، ومن قال إلامَ فقد نهّاه، ومن قال حتى مَ فقد غيّاه، ومن غيّاه فقد غاياه، ومن غاياه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد وصفه، ومن وصفه فقد ألحد فيه، لا يتغيّر اللّه بانغيار المخلوق، كما لا ينحدّ بتحديد المحدود. أحد لا بتأويل عدد، ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجلّ لا باستهلال رؤية، باطن لا بمزايلة مباين لا بمسافة قريب لا بمداناة لطيف لا بتجسّم، موجود لا بعد عدم. فاعل لا باضطرار، مقدِّر لا بجول فكرة، مدبّر لا بحركة، مريد لا بهمامة، شاء لا بهمّة، مدرك لا بمجسّة، سميع لا بآلة، بصير لا بأداة، لا تصحبه الأوقات، ولا تضمنه الأماكن، ولا تأخذه السنات، ولا تحدّه الصفات، ولا تفيده الأدوات، سبق الأوقات كونه، والعدم وجوده، والابتداء أزله، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، وبتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له، وبمضادّته بين الأشياء عرف أن لا ضدّ له، وبمقارنته بين الأمور عرف أن لا قرين له. ضادّ النور بالظلمة، والجلاية بالبهم، والجسوء بالبلل، والصرد بالحرور، مؤلّف بين متعادياتها، مفرّق بين متدانياتها، دالّة بتفريقها على مفرِّقها، وبتأليفها على مؤلِّفها، ذلك قوله جلّ وعزّ (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(1) ففرّق بها بين قبل وبعد ليعلم ألّا قبل له ولا بعد، شاهده بغرائزها ألّا غريزة لمغرّزها، دالّة بتفاوتها ألّا تفاوت لمفاوتها، مخبرة بتوقيتها ألّا وقت

ص: 162


1- ذاريات: 49.

لموقتها، حجب بعضها عن بعض ليعلم ألّا حجاب بينه وبينها من غيرها، له معنى الربوبيّة إذ لا مربوب، وحقيقة الإلهيّة إذ لا مألوه، ومعنى العالم ولا معلوم، ومعنى الخالق ولا مخلوق، وتأويل السمع ولا مسموع، ليس مذ خلق استحقّ معنى الخالق، ولا بإحداثه البرايا استفاد معنى البارئيّة، كيف ولا تغيبه مُذ ولا تدنيه قد ولا يحجبه لعلّ ولا يوقّته متى ولا يشتمله حين ولا تقارنه مع، إنّما تحدّ الأدوات أنفسها، وتشير الآلة إلى نظائرها، وفي الأشياء يوجد أفعالها. منعتها مُذ القدمة، وحمتها قد الأزليّة، وجنّبتها لو لا التكملة. افترقت فدلّت على مفرّقها، وتباينت فأعربت عن مباينها، بها تجلّى صانعها للعقول، وبها احتجب عن الرؤية، وإليها تحاكم الأوهام، وفيها أثبت غيره، ومنها أنيط الدليل، وبها عرّفها الإقرار بالعقول. يعتقد التصديق بالله، وبالإقرار يكمل الإيمان به. لا ديانة إلّا بعد معرفة، ولا معرفة إلّا بإخلاص، ولا إخلاص مع التشبيه، ولا نفي مع إثبات الصفات للتشبيه، فكلّ ما في الخلق لا يوجد في خالقه، وكلّ ما يمكن فيه يمتنع في صانعه، لا تجري عليه الحركة والسكون، وكيف يجري عليه ما هو أجراه أو يعود فيه ما هو ابتدأه، إذا لتفاوتت ذاته، ولتجزّأ كنهه، ولأمتنع من الأزل معناه، ولما كان للبارئ معنى غير المبروء، ولو حدّ له وراء إذا حدّ له أمام، ولو التمس له التمام إذا لزمه النقصان. كيف يستحقّ الأزل من لا يمتنع من الحدث، وكيف ينشئ الأشياء من لا يمتنع من الإنشاء، إذا لقامت فيه آية المصنوع، ولتحوّل دليلاً بعد ما كان مدلولاً عليه. ليس في محال القول حجّة، ولا في المسألة عنه جواب، ولا في معناه له تعظيم، ولا في إبانته عن الخلق ضيم إلّا بامتناع الأزلي أن يثنى، وما لا بدأ له أن يبدأ لا إله إلا اللّه العليّ العظيم، كذب العادلون باللّه وضلّوا ضلالا بعيداً وخسروا خسراناً مبيناً، وصلّى اللّه على محمّد وآله الطاهرين .(1)

أقول: هذه الخطبة الشريفة من عيون الخطب المباركة لأئمة الهدى(ع) حيث إنّها تجمع بين العلم والبلاغة وهدم النظريّات البشريّة الفاسدة وقد وصف بها الإمام الرضا(ع) بها ربّه تعالى بما وصف به نفسه وإليك بيان بعض مقاطعها إجمالاً.

ص: 163


1- التوحيد للصدوق: 1/34 ح2؛ بحارالأنوار : 4/228 ح3.

من الواضح أنّ حقيقة معرفة اللّه تعالى توحيده فلا معرفة من دون معرفة التوحيد، ولذا يكون التوحيد أصل معرفته تعالى، ونظام هذا التوحيد قائم على نفي الصّفات عنه. ولعلّ المراد من نفي الصفات هو نفي التوصيفات إذ الصفة تأتي بمعنى التوصيف.

نعم من المحتمل أن يكون المراد من الصفة في العبارة هو «صفة الخلق».

والوجه في نفي التوصيفات البشريّة عنه هو شهادة العقول أنّ كلّ صفة وموصوف مخلوق، ذلك أنّ الصفة قائمة بالموصوف والموصوف محتاج إلى الصفة. ول-مّا كان لابدّ من الإقتران بين الصفة والموصوف وكان الإقتران شاهداً على الحدث، يكون الموصوف الذي قُرن بالصفة شاهداً على ربّه تعالى.

ثمّ بيّن الإمام(ع) بأنّ من عرف اللّه تعالى بالتشبيه فإنّه لم يعرف اللّه تعالى بل عرف غيره، ذلك أنّ حقيقة المعرفة هي معرفته تعالى متوحّداً بالألوهيّة ومعنى التوحيد هو نفي التشبيه كما عرفت. ول-مّا كان حقيقة التوحيد هو امتيازه سبحانه عن خليقته، يكون اكتناهه تعالى منافياً للتوحيد لأنّه مستلزم للتشبيه.

ثمّ بيّن(ع) أنّه لا إيّاه أراد من رام توهّمه لأنّ التوهّم مستلزم للمصنوعيّة، ولذا يكون المعروف بنفسه الواقع معلوماً لنور العلم مصنوعاً لا صانعاً قدّوساً.

ثمّ بيّن الإمام(ع) بأنّ المراد من مباينته تعالى للخلق هو المفارقة بينه تعالى وبينهم فلا هو خلقه ولا خلقه هو، بل هو مباين لهم تماماً ولذا يكون كنهه تعالى تفريقاً بينه وبين خلقه، فكنه الربّ تعالى تعاليه عن خليقته ولكن مع ذلك يكون غيوره تحديداً ل-ما سواه لا تحديداً لكمالات الربّ تعالى، فليس غيوره إيّاهم تحديداً له تعالى بل يكون تحديداً للخلق لافتقادهم الكمالات بالذات بالمغايرة مع الخالق القيّوم الذي هو عين الكمال. ول-مّا كان تعالى غير خلقه وخلقه غيرهم، لا يتغيّر تعالى بانغيارهم لمفارقته إنّيتهم.

ثمّ بيّن(ع) أنّ الطريق إلى معرفة الربّ تعالى بالعقل هو التأمّل في الكائنات فلمّا

ص: 164

رأى العقل أنّ للكائنات مشاعر حكم بامتناع المشاعر في حقّ الخالق المتعال لإمتناع اتّصافه بصفة المخلوق الضعيف، كما أنّ العقل ل-مّا رأى الجواهر حكم بامتناع كونه جوهراً كسائر الجواهر وهذا هو المراد من قولهم: «من عرف نفسه فقد عرف ربّه»(1) فهي المعرفة بالمخالفة.

ثمّ بيّن(ع) بأنّ كمالاته تعالى لا ترتبط بالخليقة فليس مذ خلق استحقّ معنى الخالقيّة بل هو قادر على الخلقة أزلاً ولذا يكون خالقاً بما له من القدرة على الخلق وهو عالم بما أنّه تعالى كشف للمعلوم قبل حصوله وهو إله وإن لم يكن متألّهاً وهكذا. فهو تعالى واجد لكمال الخالقيّة والإلهيّة والرازقيّة وغيرها من الكمالات وإن لم يكن هناك مخلوق ومتألّه ومرزوق فليست هذه الصفات صفاتاً بالقوّة قبل خلق الخلائق ورزقهم بل هي كمالات يتّصف بها اللّه تعالى قبل خلق الكائنات.

ثمّ بيّن(ع) بأنّ كلّ ما في الخلق من صفات لا يوجد في الخالق المتعال وكلّ ما يمكن فيه - وإن لم يكن الآن - يمتنع في اللّه تعالى ولذا لا تجري عليه السكون والحركة، أوَ هل يجري فيه ما هو أجراه؟!

وأنت ترى أنّ هذه التوصيفات ليست إلّا وصفاً بما وصف به نفسه لأنّها لا تشبّه اللّه تعالى بخلقه بل تنزّههه وتقدّسه عن جميع ما يمكن في الخليقة ومن أراد مزيد تفصيل لبيان الخطبة فليراجع ما أفاده العلّامة المجلسي1 في ذيلها.

* روى المجلسي في البحار عن أبي عبدالله(ع) في قوله: (كهيعص)(2) قال: هذه أسماء اللّه مقطعة. أما قوله: (كهيعص) قال اللّه هو الكافي الهادي العالم الصادق ذو الأيادي العظام وهو كما وصف نفسه تبارك وتعالى .(3)

أقول: فسّر الإمام(ع) (كهيعص) بالتفسير المذكور ثمّ قال بأنّه تعالى كما وصف

ص: 165


1- بحارالأنوار : 2/32 ح22.
2- . مريم: 1.
3- بحارالأنوار : 89/376 ح4.

نفسه فإنّه الكافي عباده وهاديهم والعالم بجميع الأمور والصادق الوعد وذو الأيادي الكثيرة على خلقه.

* قال الصدوق في توحيده عن أبي عبدالله(ع): في قوله عزّوجل (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلّا هُوَ رابِعُهُمْ ولا خَمْسَةٍ إِلّا هُوَ سادِسُهُمْ ولا أَدْنى مِنْ ذلِكَ ولا أَكْثَرَ إِلّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا)(1) فقال: هو واحد أحديّ الذات بائن من خلقه وبذلك وصف نفسه، وهو بكلّ شيء محيط بالإشراف والإحاطة والقدرة (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ ولا فِي الْأَرْضِ ولا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ ولا أَكْبَرُ)(2) بالإحاطة والعلم لا بالذات لأنّ الأماكن محدودة تحويها حدود أربعة فإذا كان بالذات لزمه الحواية .(3)

أنت ترى أنّ الإمام(ع) بأنّه تعالى أحديّ الذات وليس مركّباً (والظاهر أنّ معنى ذلك هو أنّه غير مركّب فإنّه يسمع بعين ما يرى) وبائن من خلقه فلا خلقه داخلون فيه ولا هو داخل فيهم بل هو هو، وهم به أصبحوا هم، فالخلق ثابتون وقائمون به وهو قائم بذاته وليس الخلق هو - كما توهّمه العرفاء - بل هم حقائق به قاموا وهو تعالى حقيقة قامت بنفسها وذلك هو وصفه نفسه بالسبوحيّة.

ثمّ بيّن الإمام(ع) أنّ إحاطته تعالى بالأشياء ليست كإحاطة شيء مادّي بآخر بل إحاطته بها إحاطة علم وقدرة، ذلك أنّ الإحاطة بالذات تستلزم صيرورته تعالى مادّيّ وهو محال بحكم العقل وهذا التوصيف توصيف بعين ما وصف به نفسه القدّوس.

فلاحظ أنّ هذا التوصيف ليس توصيفاً معلوميّاً بل إنّما هو توصيف مستتبع للوَلَه والحيرة والإذعان بسبوحيّته تعالى عن صفة الخليقة.

* وفيه أيضاً عن أبي عبدالله(ع) أنّه قال: اللّه غاية من غيّاه فالمغيّا غيرالغاية، توحّد بالربوبيّة ووصف نفسه بغير محدوديّة، فالذاكر اللّه غير الله، واللّه غير أسماء، وكلّ شيء

ص: 166


1- المجادلة: 7.
2- . سبأ: 3.
3- التوحيد للصدوق: 131 ح13؛ بحارالأنوار : 3/322 ح19.

وقع عليه اسم شيء سواه فهو مخلوق. ألا ترى قوله العزّة للّه العظمة للّه وقال (وَللّه الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها)(1) وقال (قُلِ ادْعُوا اللّه أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى)(2) فالأسماء مضافة إليه وهو التوحيد الخالص .(3)

أقول: صريح كلام الإمام(ع) أنّ اللّه تعالى وصف نفسه بغير محدوديّة فلا حدّ لعلمه ولا لقدرته ولا لسائر كمالاته.

* وفي تحف العقول في وصية أميرالمؤمنين(ع) للحسن المجتبى صلوات اللّه عليه: واعلم يا بنيّ أنّه لو كان لربك شريك لأتتك رسله، ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت أفعاله وصفاته، ولكنّه إله واحد كما وصف نفسه لايضادّه في ملكه أحد، ولا يزول أبداً، ولم يزل أوّلاً قبل الأشياء بلا أوليّة، وآخراً بعد الأشياء بلا نهاية، عظم عن أن تثبت ربوبيّته بإحاطة قلب أو بصر .(4)

قد عرفت أنّ المراد من الوحدانيّة هو عدم شباهة اللّه تعالى للخلائق، وعليه يكون وصفه تعالى نفسه بالوحدانيّة وصفاً لنفسه بعلوّه عن صفة المخلوقين، وهذا كما ترى عين السبّوحيّة والقدّوسيّة.

* وفي دعاء علي بن الحسين8 في ليلة القدر: يا باطناً في ظهوره، ويا ظاهراً في بطونه، يا باطناً ليس يخفى، يا ظاهراً ليس يرى، يا موصوفاً لا يبلغ بكينونيّته موصوف، ولا حدّ محدود، يا غائباً غير مفقود، ويا شاهداً غير مشهود، يطلب فيصاب، ولم يخل منه السماوات والأرض وما بينهما طرفة عين، لا يدرك بكيف، ولا يؤيّن بأين، ولا بحيث، أنت نور النور، وربّ الأرباب، أحطت بجميع الأمور، سبحان من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، سبحان من هو هكذا ولا هكذا غيره. ثمّ تدعو بما تريد .(5)

ص: 167


1- الأعراف: 180.
2- الإسراء: 110.
3- التوحيد للصدوق: 58 ح16؛ بحارالأنوار : 4/160 ح5.
4- تحف العقول: 72؛ بحارالأنوار : 4/317 ح41.
5- بحارالأنوار : 95/165 ح4.

أقول: إنّ وصفه تعالى بأنّه تعالى باطن في ظهوره وظاهر في بطونه عين التوصيف بما وصف به نفسه، فإنّ كلّ باطن لا يكون ظاهراً وكلّ ظاهر لا يكون باطناً إلّا أنّ اللّه تعالى بطن خفيّات الأمور مع أنّه تعالى ظاهر أشدّ الظهور بما أرانا من علامات التدبير المتقن.

ثمّ ناجى ربّه بأنّه تعالى موصوف إلّا أنّه لا يمكن أن يبلغ بكينونته موصوف فالموصوف لا يستطيع أن يبلغ كينونة الربّ تعالى.

ثمّ بيّن الإمام(ع) بأنّه غائب ولكنّه غير مفقود لكونه تعالى غائباً عن الحواسّ ولكن مع ذلك دلّ على نفسه بالآيات وبنفسه القدّوس.

ثمّ ناجى ربّه تعالى بأنّه شاهد غير مشهود ولكن مع أنّه غير مشهود إلّا أنّه إذا طلب واستغيث به يصاب إذ هو للملهوفين بموضع إغاثة وللراجين بموضع إجابة، والسماوات والأرضون لا تخلو منه لا لإحاطتها عليه بل لنفوذ علمه وسلطانه فيها.

ثمّ بيّن(ع) أنّه تعالى لا يدرك بكيف لكونه تعالى خالق الكيف كما عرفت ولا يؤيّن بأين لأنّ الأين من لوازم المخلوق كما أنّه تعالى لا يؤيّن بحيث بل هو نور النور فالأنوار تنوّرت به وهو نورها وربّ الأرباب وهو ليس كمثله شيء سبّوح سبّوح وهو هكذا ولا هكذا غيره فهذه الكمالات من خصائص ذاته ولا يشاركه بها أحد.

* في نهج البلاغة عن مولانا أميرالمؤمنين(ع): الحمد للّه الذي بطن خفيّات الأمور، ودلّت عليه أعلام الظهور، وامتنع على عين البصير، فلا عين من لم يره تنكره، ولا قلب من أثبته يبصره، سبق في العلوّ فلا شيء أعلى منه، وقرب في الدنوّ فلا شيء أقرب منه، فلا استعلاؤه باعده عن شيء من خلقه، ولا قربه ساواهم في المكان به. لم يطلع العقول على تحديد صفته، ولم يحجبها عن واجب معرفته، فهو الذي تشهد له أعلام الوجود على إقرار قلب ذي الجحود، تعالى اللّه عمّا يقول المشبّهون به والجاحدون له علوّاً كبيراً .(1)

ص: 168


1- نهج البلاغة: 87 الخطبة 49؛ بحارالأنوار : 4/308 ح36.

يستفاد من كلامه(ع) أنّ اللّه تعالى قد بطن خفيّات الأمور فهي لا تخفى عليه أبداً وقد دلّت عليه أعلام الظهور فالآيات دالّة عليه ومع ذلك امتنع تعالى على عين البصير. فالبصير الثاقب البصر لا يستطيع رؤيته ولكن مع ذلك لا يستطيع أحد إنكاره أبداً لظهوره، كما أنّ من أثبته لم يثبته بسبب إبصاره به لإمتناع ذلك عقلاً.

ثمّ بيّن(ع) بأنّه تعالى سبق الجميع في العلوّ فلا شيء أعلى وأجلّ وأرفع منه، وقرب في الدنوّ فلا شيء أقرب منه فهو مدبّر الأمور كلّها ولكن مع ذلك لا يكون استعلاؤه سبباً لمباعدته عن شيء لأنّ استعلاءِه ليس استعلاءً مكانيّاً كما أنّ قربه لم يوجب مساواة خلقه به تعالى في المكان، فكونه قريبا منهم لا يوجب إحاطة المكان عليه كما أحاط بهم.

فأنت ترى أنّ هذه التوصيفات لا تضاهي توصيفات البشر بوجه من الوجوه بل هي وصف له تعالى بما وصف به نفسه وصفا سبّوحاً وقدّوساً.

* وفي التوحيد عن جابر عن أبي جعفر(ع) قال: إنّ اللّه تبارك وتعالى كان ولا شيء غيره نوراً لا ظلام فيه، وصادقاً لا كذب فيه، وعالماً لا جهل فيه، وحيّاً لاموت فيه، وكذلك هو اليوم وكذلك لا يزال أبداً .(1)

من الواضح أنّ توصيفه تعالى بهذه التوصيفات لا تمسّ ذاته القدّوس بسوء، إنّما هي تنزيهه عن الظلمة والكذب والجهل والموت وإثبات النور والصدق والعلم والحياة له تعالى.

* وفيه عدّة من أصحابنا عن الإمام عليّ بن موسى الرضا عن آبائه عن الإمام الحسين بن علي: قال: خطب أميرالمؤمنين(ع) الناس في مسجد الكوفة فقال: الحمد للّه الذي لا من شيء كان، ولا من شيء كوّن ما قد كان، المستشهد بحدوث الأشياء على أزليّته، وبما وسمها به من العجز على قدرته، وبما اضطرّها إليه من الفناء على دوامه، لم يخل منه مكان فيدرك بأينيّة، ولا له شبح مثال فيوصف بكيفيّة، ولم يغب عن شيء فيعلم بحيثيّة، مباين

ص: 169


1- التوحيد للصدوق: 140 ح5؛ بحارالأنوار : 4/69 ح13.

لجميع ما أحدث في الصفات، وممتنع عن الإدراك بما ابتدع من تصريف الذوات، وخارج بالكبرياء والعظمة من جميع تصرّف الحالات، محرّم على بوارع ناقبات الفطن تحديده، وعلى عوامق ثاقبات الفكر تكييفه، وعلى غوائص سابحات النظر تصويره، لا تحويه الأماكن لعظمته، ولا تذرعه المقادير لجلاله، ولا تقطعه المقاييس لكبريائه، ممتنع عن الأوهام أن تكتنهه، وعن الأفهام أن تستغرقه، وعن الأذهان أن تمتثله، قد يئست من استنباط الإحاطة به طوامح العقول، ونضبت عن الإشارة إليه بالاكتناه بحار العلوم، ورجعت بالصغر عن السموّ إلى وصف قدرته لطائف الخصوم، واحد لا من عدد، ودائم لا بأمد، وقائم لا بعمد، وليس بجنس فتعادله الأجناس، ولا بشبح فتضارعه الأشباح، ولا كالأشياء فتقع عليه الصفات، قد ضلّت العقول في أمواج تيّار إدراكه، وتحيّرت الأوهام عن إحاطة ذكر أزليّته، وحصرت الأفهام عن استشعار وصف قدرته، وغرقت الأذهان في لجج أفلاك ملكوته، مقتدر بالآلاء، وممتنع بالكبرياء، ومتملّك على الأشياء، فلا دهر يخلقه، ولا وصف يحيط به. قد خضعت له رواتب الصعاب في محلّ تخوم قرارها، وأذعنت له رواصن الأسباب في منتهى شواهق أقطارها، مستشهد بكليّة الأجناس على ربوبيّته، وبعجزها على قدرته، وبفطورها على قدمته، وبزوالها على بقائه، فلا لها محيص عن إدراكه إيّاها، ولا خروج من إحاطته بها، ولا احتجاب عن إحصائه لها، ولا امتناع من قدرته عليها، كفى بإتقان الصنع لها آية، وبمركّب الطبع عليها دلالة، وبحدوث الفطر عليها قدمة، وبأحكام الصنعة لها عبرة، فلا إليه حدّ منسوب، ولا له مثل مضروب، ولا شيء عنه بمحجوب، تعالى عن ضرب الأمثال، والصفات المخلوقة علوّاً كبيراً، وأشهد أن لا إله إلّا هو إيماناً بربوبيّته وخلافاً على من أنكره، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله؛ الخطبة .(1)

أقول: بيّن الإمام(ع) في باب معرفة اللّه تعالى أموراً مهمّة ووصفه تعالى بما وصف به نفسه فوصفه أوّلاً بأنّه تعالى لم يتكوّن من شيء بل هو شيء بحقيقة الشيئيّة ولا من شيء كوّن ما قد كان بل خلقه إبداعاً وابتدأه ابتدءً بلا مثال ولا مادّة فليس خلق

ص: 170


1- . التوحيد للصدوق: 69 ح26؛ بحارالأنوار : 4/221 ح2.

الخلائق من شيء، ولو كان الأمر كما يقوله بعض علماء البشر من أنّ الخلق كان من شيء - بتطوّر الشيء بحقيقة الشيئيّة أو بترشّح الخلق منه - لاتّحد الخالق والمخلوق إذ لا شيء بحقيقة الشيئيّة إلّا هو. وهذا القول واضح البطلان لامتناع أن يكون الشيء بالغير جزءاً من الشيء بحقيقة الشيئيّة فإنّه ما أبعد المبتدَأ الضعيف من المبديء القويّ.

ثمّ بيّن(ع) بأنّه يستشتهد على أزليّة اللّه تعالى بحدوث الأشياء ذلك أنّ العقل يكشف عن امتناع الصنع من دون صانع كما أنّه حينما كشف العاقل بما له من النور المخلوقَ ورأى عجزه وضعفه وفقره يحكم بامتناع المشابهة بين الخالق والمخلوق ولذا يستشهد بحدوث الخلق على أزليّة الباري تعالى وبعجزهم على قدرته.

ثمّ بيّن(ع) بأنّه تعالى لم يخل منه مكان أبداً، ومن الواضح أنّه(ع) لم يرد بهذا الكلام إثبات إحاطة كلّ مكان به بل أراد بيان علوّه عن كلّ مكان، ولذا لا يخلو منه مكان. فمن دعاه في البحار الغامرات سمع ندائه، ومن ناجاه في القفار القاحلات أجابه.

ثمّ بيّن(ع) أنّه تعالى ليس له شبح مثال كي يوصف بكيفيّة بل هو تعالى مباين لجميع ما أحدثه وابتدعه صفة، ولذا يمتنع إدراكه بالعقول والأوهام والأفكار إلى آخر ما بيّنه(ع) من تسبيحه عن درك المدركين وتنزيهه عن صفة المخلوقين وبيان أنّ هذه الكائنات آيات تدلّ عليه دلالة لا ريب فيها.

* في تحف العقول عن الإمام الحسين بن علي8 أنّه قال: أيّها الناس اتّقوا هؤلاء المارقة الذين يشبّهون اللّه بأنفسهم يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل الكتاب بل هو اللّه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وهُوَ اللّطيف الْخَبِيرُ، استخلص الوحدانيّة والجبروت، وأمضى المشيّة والإرادة والقدرة والعلم بما هو كائن، لا منازع له في شيء من أمره، ولا كفو له يعادله، ولا ضدّ له ينازعه، ولا سميّ له

ص: 171

يشابهه، ولا مثل له يشاكله، لا تتداوله الأمور، ولا تجري عليه الأحوال، ولا تنزل عليه الأحداث، ولا يقدر الواصفون كنه عظمته، ولا يخطر على القلوب مبلغ جبروته، لأنّه ليس له في الأشياء عديل، ولا تدركه العلماء بألبابها، ولا أهل التفكير بتفكيرهم إلّا بالتحقيق إيقاناً بالغيب، لأنّه لا يوصف بشيء من صفات المخلوقين، وهو الواحد الصمد، ما تصوّر في الأوهام فهو خلافه، ليس بربّ من طرح تحت البلاغ، ومعبود من وجد في هواء أو غير هواء، هو في الأشياء كائن لا كينونة محظور بها عليه، ومن الأشياء بائن لا بينونة غائب عنها، ليس بقادر من قارنه ضدّ أو ساواه ندّ، ليس عن الدهر قدمه، ولا بالناحية أممه، احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار، وعمّن في السماء احتجابه عمّن في الأرض، قربه كرامته وبعده إهانته، لا يحلّه في، ولا توقّته إذ، ولا تؤامره إن، علوّه من غير نوقّل، ومجيئه من غير تنقّل، يوجد المفقود، ويفقد الموجود، ولا تجتمع لغيره الصفتان في وقت، يصيب الفكر منه الإيمان به موجوداً، ووجود الإيمان لا وجود صفة، به توصف الصفات لا بها يوصف، وبه تعرف المعارف لا بها يعرف، فذلك اللّه لا سميّ له سبحانه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ .(1)

بيان: حذّر سيّدالشهداء(ع) من الإلتزام بقول المارقة الذين شبّهوا اللّه تعالى بخليقته كما فعل أهل الكتاب. ثمّ بيّن بأنّ اللّه تعالى استخلص لنفسه الوحدانيّة، فلا واحد إلّا هو، وأمضى مشيّته في الأمور كلّها فلا رادّ لقضائه.

ثمّ بيّن(ع) بأنّه تعالى لا كفو له ولا نظير ولا يقدر الواصفون كنه عظمته تعالى ولا يخطر على القلوب مبلغ جبروته ذلك أنّه تعالى ليس له في الأشياء عديل فهو أعلى وأجلّ من الخلائق، وهذا هو السبب في عدم إمكان دركه بالعقول والألباب. نعم ل-مّا رأينا آثاره تعالى أقررنا به إيماناً بالغيب.

ثمّ بيّن(ع) بأنّه تعالى كائن في الأشياء ولكن لا كما يكون شيء في شيء فيصير

ص: 172


1- تحف العقول: 244؛ بحارالأنوار : 4/301 ح29.

محظوراً بالشيء المحيط به، وبائن عنها لا بينونة عزلة، وبيّن أنّ الوجه في احتجابه عن العقول هو نفس الوجه في احتجابه عن الأبصار، واحتجابه عمّن في السماء من المقرّبين بنفس اعتبار احتجابه عمّن في الأرض.

ثمّ بيّن(ع) بأنّ قربه ليس بقرب مكانيّ بل هو كرامة على من أراد قربه، وبعده مهانة لمن أراد مهانته.

ثمّ بيّن(ع) بأنّ علوّه تعالى ليس كعلوّ شيء على شيء ومجيئه ليس كمجيء شيء إلى شيء وهو تعالى يوجد المفقود ويفقد الموجود ولا تجتمع لغيره الصفتان.

ثمّ بيّن(ع) بأنّ الفكر لا يصيب من اللّه تعالى ذاته إنّما يصيب منه وجود الإيمان ولزومه، لدلالة الآيات عليه، فالفكر لا يستطيع نيل ذاته تعالى إنّما يستطيع أن يلزمنا الإيمان به بعد دلالة الآيات عليه.

* في الإحتجاج قال أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب(ع) في خطبته: لا يشمل بحدّ، ولا يحسب بعدّ، وإنّما تحدّ الأدوات أنفسها، وتشير الآلات إلى نظائرها، منعتها منذ القدمة وحمتها قد الأزليّة، وجنّبتها لولا التكملة. بها تجلّى صانعها للعقول، وبها امتنع من نظر العيون، لا تجري عليه الحركة والسكون، وكيف يجري عليه ما هو أجراه، ويعود فيه ما هو أبدأه، ويحدث فيه ما هو أحدثه إذا لتفاوتت ذاته، ولجزّأ كنهه ولأمتنع من الأزل معناه، ولكان له وراء إذا وجد له أمام، ولالتمس التمام إذا لزمه النقصان، وإذا لقامت آية المصنوع فيه، ولتحوّل دليلاً بعد أن كان مدلولاً عليه، وخرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه ما في غيره، الذي لا يحول ولا يزول ولا يجوز عليه الأفول، لم يلد فيكون مولوداً، ولم يولد فيصير محدوداً، جلّ عن اتخاذ الأبناء، وطهر عن ملامسة النساء، لا تناله الأوهام فتقدّره، ولا تتوهّمه الفطن فتصوّره، ولا تدركه الحواسّ فتحسّه، ولا تلمسه الأيدي فتمسّه، ولايتغيّر بحال، ولا يتبدّل بالأحوال، ولا تبليه الليالي والأيّام، ولا يغيّره الضياء والظلام، ولا يوصف بشيء من الأجزاء ولا بالجوارح والأعضاء، ولا بعرض من الأعراض، ولا بالغيريّة والأبعاض، ولا يقال له حدّ ولا نهاية، ولا انقطاع ولا غاية، ولا أنّ الأشياء تحويه فتقلّه أو تهويه، ولا أنّ

ص: 173

الأشياء تحمله فيميله أو يعدله، ليس في الأشياء بوالج، ولا عنها بخارج، يخبر لا بلسان ولهوات، ويسمع لا بخروق وأدوات، يقول ولا يلفظ، ويحفظ ولا يتحفّظ، ويريد ولا يضمر، يحبّ ويرضى من غير رقّة، ويبغض ويغضب من غير مشقّة، يقول ل-ما أراد كونه كُنْ فَيَكُونُ لا بصوت يقرع، ولا نداء يسمع، وإنّما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه، ومثله لم يكن من قبل ذلك كائناً، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً، لا يقال له كان بعد أن لم يكن، فتجري عليه الصفات المحدثات، ولا يكون بينها وبينه فصل، ولا له عليها فضل، فيستوي الصانع والمصنوع، ويتكافأ المبتدع والبديع، خلق الخلائق من غير مثال خلا من غيره، ولم يستعن على خلقها بأحد من خلقه، وأنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال، وأرساها على غير قرار، وأقامها بغير قوائم، ورفعها بغير دعائم، وحصنها من الأود والاعوجاج، ومنعها من التهافت والانفراج. أرسى أوتادها، وضرب أسدادها، واستفاض عيونها، وخد أوديتها، فلم يهن ما بناه، ولا ضعف ما قواه، وهو الظاهر عليها بسلطانه وعظمته، والباطن لها بعلمه ومعرفته، والعالي على كلّ شيء منها بجلاله وعزّته. لا يعجزه شيء منها طلبه، ولا يمتنع عليه فيغلبه، ولا يفوته السريع منها فيسبقه، ولا يحتاج إلى ذي مال فيرزقه. خضعت الأشياء له فذلّت مستكينة لعظمته، لا تستطيع الهرب من سلطانه إلى غيره فتمتنع من نفعه وضرّه، ولا كف ء له فيكافئه، ولا نظير له فيساويه. هو المفني لها بعد وجودها حتى يصير موجودها كمفقودها، وليس فناء الدنيا بعد ابتداعها بأعجب من إنشائها واختراعها، كيف ولو اجتمع جميع حيوانها من طيرها وبهائمها وما كان من مراحها وسائمها وأصناف أسناخها وأجناسها ومتبلّدة أممها وأكياسها على إحداث بعوضة ما قدرت على إحداثها، ولا عرفت كيف السبيل إلى إيجادها، ولتحيّرت عقولها في علم ذلك، وتاهت وعجزت قواها وتناهت ورجعت خاسئة حسيرة عارفة بأنّها مقهورة مقرّة بالعجز عن إنشائها، مذعنة بالضعف عن إفنائها، وأنّه يعود سبحانه بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه كما كان قبل ابتدائها، كذلك يكون بعد فنائها، بلا وقت ولا مكان ولا حين ولا زمان، عدمت عند ذلك الآجال والأوقات وزالت السنون والساعات، فلا شيء إلّا الواحد القهار الذي إليه مصير جميع الأمور. بلا

ص: 174

قدرة منها كان ابتداء خلقها، وبغير امتناع منها كان فناؤها، ولو قدرت على الامتناع لدام بقاؤها، لم يتكاءدّه صنع شيء منها إذ صنعه، ولم يؤده منها خلق ما برأه وخلقه، ولم يكوّنها لتشديد سلطان ولا لخوف من زوال ونقصان، ولا للاستعانة بها على ندّ مكاثر، ولا للاحتراز بها من ضدّ مشاور، ولا للازدياد بها في ملكه، ولا لمكاثرة شريك في شركة، ولا لوحشة كانت منه فأراد أن يستأنس إليها، ثمّ هو يفنيها بعد تكوينها لا لسأم دخل عليه في تصريفها وتدبيرها، ولا لراحة واصلة إليه، ولا لثقل شيء منها عليه، لا يملّه طول بقائها فيدعوه إلى سرعة إفنائها، لكنّه سبحانه دبّرها بلطفه، وأمسكها بأمره، وأتقنها بقدرته، ثمّ يعيدها بعد الفناء من غير حاجة منه إليها، ولا استعانة بشيء منها عليها، ولا لانصراف من حال وحشة إلى حال استيناس، ولا من حال جهل وعمى إلى حال علم والتماس، ولا من فقر وحاجة إلى غنى وكثرة، ولا من ذلّ وضعة إلى عزّ وقدرة .(1)

قوله(ع) «يخبر لا بلسان ولهوات ويسمع لا بخروق وأدوات يقول ولا يلفظ» يشير إلى الفرق البائن بين الخالق والمخلوق فإنّه تعالى يخبر ولكن لا بلسان ويسمع ولكن لا بخروق وأدوات ويقول ولكن لا بلفظ فإنّه تعالى أجل من صفات الخليقة وهذا وصف بما وصف به نفسه.

قوله(ع) «يحبّ ويرضى من غير رقّة ويبغض ويغضب من غير مشقّة» وصفه بما وصف به نفسه القدّوس فإنّه تعالى يحبّ ويرضى ولكن من غير رقّة كما في المخلوق بل رضاه ثوابه وغضبه ناره وعذابه.

قوله(ع) «لا يقال له كان بعد أن لم يكن فتجري عليه الصفات المحدثات ولا يكون بينها وبينه فصل ولا له عليها فضل فيستوي الصانع والمصنوع» يدلّ على توحّد اللّه تعالى في الأزليّة فإنّه تعالى لا يقال له كان بعد أن لم يكن بل كان قبل الكان فإنّه تعالى لو لم يكن كذلك لجرت عليه الصفات المحدثات ولا يكون بينه وبينها فصل وبينونة وله تعالى عليهم فضل ولاستلزم ذلك استواء الصانع والمصنوع والمبدع والبديع.

ص: 175


1- الإحتجاج: 1/201؛ بحارالأنوار : 4/254 ح8.

ثمّ بيّن(ع) بأنّه تعالى ظاهر على الخلائق بسلطانه فليس ظهوره عليهم كظهور شيء على شيء من المادّيات كما أنّه تعالى بطن خفيّاتها وبواطنها.

وأمّا علوّه عليها فهو لأجل جلاله وقدسه تعالى لا كعلوّ المادّيات بعضها على بعض.

* من خطبة له(ع)، الحمد للّه الذي لا تدركه الشواهد، ولا تحويه المشاهد، ولا تراه النواظر، ولا تحجبه السواتر، الدالّ على قدمه بحدوث خلقه، وبحدوث خلقه على وجوده، وباشتباههم على أن لا شبه له، الذي صدق في ميعاده، وارتفع عن ظلم عباده، وقام بالقسط في خلقه، وعدل عليهم في حكمه، مستشهد بحدوث الأشياء على أزليّته، وبما وسمها به من العجز على قدرته، وبما اضطرّها إليه من الفناء على دوامه. واحد لا بعدد، ودائم لا بأمد، وقائم لا بعمد، تتلقّاه الأذهان لا بمشاعرة، وتشهد له المرائي لا بمحاضرة، لم تحط به الأوهام بل تجلّى لها بها، وبها امتنع منها، وإليها حاكمها، ليس بذي كبر امتدت به النهايات فكبّرته تجسيماً، ولا بذي عظم تناهت به الغايات فعظّمته تجسيداً، بل كبر شأناً وعظم سلطاناً .(1)

أقول: بيّن الإمام(ع) بأنّه تعالى لا يرى ولا يحيط به مكان ولا تحجبه السواتر وهو الدالّ على قدمه بحدوث خلقه إلى آخر ما بيّنه روحي فداه وهو كما ترى ليس إلّا وصفاً بالسبّوحيّة.

* روى الصدوق في التوحيد عن عدّة من أصحابنا عن مسعدة بن صدقة قال: سمعت أبا عبدالله(ع) يقول: بينما أميرالمؤمنين(ع) يخطب على المنبر بالكوفة، إذ قام إليه رجل فقال: يا أميرالمؤمنين، صف لنا ربّك تبارك وتعالى لنزداد له حبّاً وبه معرفة. فغضب أميرالمؤمنين(ع) ونادى الصلاة جامعة، فاجتمع الناس حتى غصّ المسجد بأهله ثمّ قام متغيّر اللون، فقال:

الحمد للّه الذي لا يفره المنع، ولا يكديه الإعطاء، إذ كلّ معط منتقص سواه، المليء بفوائد النعم وعوائد المزيد، وبجوده ضمن عيالة الخلق فأنهج سبيل الطلب للراغبين إليه،

ص: 176


1- نهج البلاغة: 268 الخطبة 185؛ بحارالأنوار : 4/261 ح9.

فليس بما سئل أجود منه بما لم يسأل، وما اختلف عليه دهر فتختلف منه الحال. ولو وهب ما تنفّست عنه معادن الجبال وضحكت عنه أصداف البحار من فلزّ اللجين وسبائك العقيان ونضائد المرجان لبعض عبيده، لما أثّر ذلك في جوده، ولا أنفد سعة ما عنده، ولكان عنده من ذخائر الإفضال ما لا ينفده مطالب السؤال، ولا يخطر لكثرته على بال، لأنّه الجواد الذي لا تنقصه المواهب، ولا يبخله إلحاح الملحين، وإنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، الذي عجزت الملائكة على قربهم من كرسيّ كرامته وطول ولههم إليه وتعظيم جلال عزّه وقربهم من غيب ملكوته أن يعلموا من أمره إلّا ما أعلمهم، وهم من ملكوت القدس بحيث هم، ومن معرفته على ما فطرهم عليه أن قالوا (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).

فما ظنّك أيّها السائل بمن هو هكذا سبحانه وبحمده، لم يحدث فيمكن فيه التغيير والإنتقال، ولم يتصرّف في ذاته بكرور الأحوال، ولم يختلف عليه حقب الليالي والأيام، الذي ابتدع الخلق على غير مثال امتثله ولا مقدار احتذا عليه من معبود كان قبله، ولم تحط به الصفات فيكون بإدراكها إيّاه بالحدود متناهياً، وما زال لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ عن صفة المخلوقين متعالياً، وانحسرت الأبصار عن أن تناله فيكون بالعيان موصوفاً، وبالذات التي لا يعلمها إلّا هو عند خلقه معروفاً، وفات لعلوّه على الأشياء مواقع رجم المتوهّمين، وارتفع عن أن تحوي كنه عظمته فهاهة رويّات المتفكّرين، فليس له مثل فيكون ما يخلق مشبهاً به، وما زال عند أهل المعرفة به عن الأشباه والأضداد منزّهاً، كذب العادلون باللّه إذ شبّهوه بمثل أصنافهم، وحلّوه حلية المخلوقين بأوهامهم، وجزّوه بتقدير منتج من خواطر هممهم، وقدّروه على الخلق المختلفة القوى بقرائح عقولهم، وكيف يكون من لا يقدّر قدره مقدِّراً في رويّات الأوهام، وقد ضلّت في إدراك كنهه هواجس الأحلام، لأنّه أجلّ من أن تحدّه ألباب البشر بالتفكير، أو تحيط به الملائكة على قربهم من ملكوت عزّته بتقدير، تعالى عن أن يكون له كفو فيشبه به لأنّه اللطيف الذي إذا أرادت الأوهام أن تقع عليه في عميقات غيوب ملكه، وحاولت الفكر المبرّات من خطر الوسواس إدراك علم ذاته، وتولّ-هت

ص: 177

القلوب إليه لتحوي منه مكيّفا في صفاته، وغمضت مداخل العقول من حيث لا تبلغه الصفات لتنال علم إلهيته، ردعت خاسئة وهي تجوب مهاوي سدف الغيوب متخلّصة إليه سبحانه، رجعت إذ جبهت معترفة بأنّه لا ينال بجور الاعتساف كنه معرفته، ولا يخطر ببال أولي الرويّات خاطرة من تقدير جلال عزّته، لبعده من أن يكون في قوى المحدودين لأنّه خلاف خلقه، فلا شبه له من المخلوقين وإنّما يشبه الشيء بعديله، فأمّا ما لا عديل له فكيف يشبه بغير مثاله وهو البديء الذي لم يكن شيء قبله، والآخر الذي ليس شيء بعده، لا تناله الأبصار في مجد جبروته إذ حجبها بحجب لا تنفذ في ثخن كثافته، ولا تخرق إلى ذي العرش متانة خصائص ستراته، الذي صدرت الأمور عن مشيّته، وتصاغرت عزّة المتجبّرين دون جلال عظمته، وخضعت له الرقاب وعنت له الوجوه من مخافته، وظهرت في بدائع الذي أحدثها آثار حكمته، وصار كلّ شيء خلق حجّة له ومنتسباً إليه، فإن كان خلقاً صامتاً فحجّته بالتدبير ناطقة فيه، فقدّر ما خلق فأحكم تقديره، ووضع كلّ شيء بلطف تدبيره موضعه، ووجّهه بجهة فلم يبلغ منه شيء محدود منزلته، ولم يقصر دون الانتهاء إلى مشيته، ولم يستصعب إذ أمر بالمضيّ إلى إرادته بلا معاناة للغوب مسّه، ولا مكاءدة لمخالف له على أمره، فتمّ خلقه وأذعن لطاعته ووافى الوقت الذي أخرجه إليه إجابة، لم يعترض دونها ريث المبطئ ولا أناة المتلكّئ، فأقام من الأشياء أودها، ونهى معالم حدودها، ولاءم بقدرته بين متضادّاتها، ووصل أسباب قرائنها، وخالف بين ألوانها، وفرّقها أجناساً مختلفات في الأقدار والغرائز والهيئات، بدايا خلائق أحكم صنعها، وفطرها على ما أراد وابتدعها، انتظم علمه صنوف ذرئها، وأدرك تدبيره حسن تقديرها.

أيّها السائل، اعلم أنّ من شبه ربّنا الجليل بتباين أعضاء خلقه وبتلاحم أحقاق مفاصلهم المحتجبة بتدبير حكمته، أنّه لم يعقد غيب ضميره على معرفته ولم يشاهد قلبه اليقين بأنّه لا ندّ له، وكأنّه لم يسمع بتبرّي التابعين من المتبوعين وهم يقولون (تَاللّه إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) فمن ساوى ربّنا بشيء فقد عدل به، والعادل به كافر بما نزلت به محكمات آياته، ونطقت به شواهد حجج بيّناته، لأنّه اللّه الذي لم يتناه في

ص: 178

العقول فيكون في مهبّ فكرها مكيّفاً، وفي حواصل رويّات همم النفوس محدوداً مصرَّفاً، المنشئ أصناف الأشياء بلا رويّة احتاج إليها، ولا قريحة غريزة أضمر عليها، ولا تجربة أفادها من مرّ حوادث الدهور، ولا شريك أعانه على ابتداع عجائب الأمور، الذي ل-مّا شبهه العادلون بالخلق المبعَّض المحدود في صفاته، ذي الأقطار والنواحي المختلفة في طبقاته، وكان عزّوجلّ الموجود بنفسه لا بأداته، انتفى أن يكون قدّروه حقّ قدره، فقال تنزيهاً لنفسه عن مشاركة الأنداد، وارتفاعاً عن قياس المقدّرين له بالحدود من كفرة العباد (وَما قَدَرُوا اللّه حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) فما ذلك القرآن عليه من صفته فاتبعه، ليوصل بينك وبين معرفته، وائتم به، واستضئ بنور هدايته، فإنّها نعمة وحكمة أوتيتهما، فخذ ما أوتيت وكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ، وما دلّك الشيطان عليه ممّا ليس في القرآن عليك فرضه، ولا في سنّة الرسول وأئمّة الهدى أثره، فكل علمه إلى اللّه عزّوجلّ فإنّ ذلك منتهى حقّ اللّه عليك.

واعلم أنّ الراسخين في العلم هم الذين أغناهم اللّه عن الاقتحام في السدد المضروبة دون الغيوب، فلزموا الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فقالوا آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا فمدح اللّه عزّوجلّ اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً، وسمّى تركهم التعمق في ما لم يكلّفهم البحث عنه منهم رسوخاً، فاقتصر على ذلك، ولا تقدّر عظمة اللّه سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين .(1)

أقول: الوجه في غضب أميرالمؤمنين(ع) على الرجل هو أنّه طلب من الإمام(ع) أن يصف ربّه تعالى بوصف المخلوقين ولذا قام(ع) مصفرّ اللون فحمد اللّه تعالى وأثنى عليه وبيّن بأنّه تعالى لا يفره المنع من الإعطاء كما في الخلق حيث أنّهم يفرهم المنع، كما أنّه تعالى لا يصعب عليه الإعطاء والجود بل ليس بما سئل بأجود منه بما لم يسئل ذلك أنّ ما أنعم به على الخلائق من النعم أكثر بما لا يعلمه إلّا اللّه وأولياؤه الصالحون ممّا أعطاه إيّاهم إجابة لدعائهم.

ص: 179


1- التوحيد للصدوق: 48 ح13؛ بحارالأنوار : 4/274 ح16.

ثمّ بيّن(ع) بأنّه تعالى لا تمسّه صفات المخلوقين فإنّه تعالى ليس بمحدَث ولذا لا يمكن فيه التغيير، والأيّام والأحقاب لا تؤثّر فيه فإنّه تعالى أعلى وأجلّ من الخليقة وممّا يجري عليهم.

ثمّ بيّن(ع) بأنّه تعالى لم تحط به التوصيفات فيكون بسبب إدراكها إيّاه تعالى محدوداً متناهياً، فالتوصيفات البشريّة توجب درك الموصوف واللّه تعالى أعلى وأجلّ من جميع الإدراكات.

ثمّ بيّن(ع) بأنّه تعالى أعلى وأجلّ من توهّم المتوهّمين وفكر المتفكّرين، وأنّه تعالى لا شبيه له ولا نظير وهكذا عرفه من عرفه.

ثمّ نزّهه تعالى عن كلّ صفة من صفات الخلائق وقدّسه من أن تمسّه عقولهم وأفكارهم.

ثمّ بيّن(ع) دلالة الخلق عليه وعلى حكمته، وبيّن السبيل الواضح في معرفة اللّه تعالى وهو القرآن الكريم والسنّة النبويّة، وبيّن بأنّ غير ذلك تكلّف ومن إلقاء الشيطان فلابدّ من الرسوخ في العلم الذي هو الإيمان بالغيب وعدم التكلّف، إلى آخر كلامه(ع) المملوء بالتسبيح والتنزيه والتقديس.

* وفيه أيضاً عن محمّد بن أحمد بن يحيى عن بعض أصحابنا رفَعَه جاء رجل إلى الإمام الحسن بن علي8، فقال له: يا ابن رسول الله، صف لي ربّك حتى كأنّي أنظر إليه. فأطرق الحسن بن علي8 مليّاً ثم رفع رأسه فقال: الحمد للّه الذي لم يكن له أوّل معلوم، ولا آخر متناه، ولا قبل مدرك، ولا بعد محدود، ولا أمد بحتى، ولا شخص فيتجزّأ، ولا اختلاف صفة فيتناهى، فلا تدرك العقول وأوهامها ولا الفكر وخطراتها ولا الألباب وأذهانها صفته فيقول متى، ولا بديء ممّا، ولا ظاهر على ما، ولا باطن فيما، ولا تارك فهلّا، خلق الخلق فكان بديئاً بديعاً، ابتدأ ما ابتدع، وابتدع ما ابتدأ، وفعل ما أراد، وأراد ما استزاد، ذلكم اللّه ربّ العالمين .(1)

ص: 180


1- التوحيد للصدوق: 45 ح5؛ بحارالأنوار : 4/289 ح20.

هذا الكلام الرائع البليغ يوقظ الفطرة وينوّر الفكرة ويسبّح الجليل ويقدّس الربّ العظيم فإنّ الإمام المجتبى(ع) وصف الربّ تعالى بما وصف به نفسه فبيّن(ع) بأنّه تعالى لا بدء له ولا انتهاء، ولا تركيب له ولا اختلاف صفة، ولذا لا يمكن أن يدرك بالعقول ولا بالأوهام ولا بالفكر ولا بالخطرات وهو الذي خلق الخلق ابتداءً ابتداعاً فسبحانه من إله ما أقدسه!

* في مستدرك الوسائل مسنداً عن ابن أبي عمير قال: دخلت على سيّدي موسى بن جعفر8 فقلت له: يا ابن رسول الله، علّمني التوحيد. فقال: يا أبا أحمد لا تتجاوز في التوحيد ما ذكره اللّه تعالى ذكره في كتابه فتهلك. واعلم أنّ اللّه تبارك وتعالى واحد أحد صمد، لَمْ يَلِدْ فيورث، ولَمْ يُولَدْ فيشارك، ولم يتّخذ صاحبة ولا ولداً ولا شريكاً، وأنّه الحيّ الذي لا يموت، والقادر الذي لا يعجز، والقاهر الذي لا يغلب، والحليم الذي لا يعجل، والدائم الذي لا يبيد، والباقي الذي لا يفنى، والثابت الذي لا يزول، والغنيّ الذي لا يفتقر، والعزيز الذي لا يذلّ، والعالم الذي لا يجهل، والعدل الذي لا يجور، والجواد الذي لا يبخل، وأنّه لا تقدّره العقول، ولا تقع عليه الأوهام، ولا تحيط به الأقطار، ولا يحويه مكان، ولا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ، وهُوَ اللّطيف الْخَبِيرُ، ولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلّاهُوَ رابِعُهُمْ ولا خَمْسَةٍ إِلّا هُوَ سادِسُهُمْ ولا أَدْنى مِنْ ذلِكَ ولا أَكْثَرَ إِلّا هُوَمَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا، وهو الأوّل الذي لا شيء قبله، والآخر الذي لا شيء بعده، وهو القديم وما سواه مخلوق محدث، تعالى عن صفات المخلوقين علوّاً كبيراً .(1)

ممّا بيّنه الإمام(ع) هو أنّه تعالى أحد صمد حيّ لا يموت وقادر لا يعجز وقاهر لا يغلب وحليم لا يعجل وهكذا، ولا تقدّره العقول ولا تقع عليه الأوهام، وهذه التوصيفات ليست إلّا وصفاً بما وصف به نفسه القدّوس.

* ومن خطبة لمولانا أميرالمؤمنين(ع) في نهج البلاغة: الحمد للّه الذي لم تسبق له

ص: 181


1- . مستدرك الوسائل: 5/145؛ بحارالأنوار : 4/296 ح23.

حال حالاً فيكون أوّلاً قبل أن يكون آخراً، ويكون ظاهراً قبل أن يكون باطناً، كلّ مسمّى بالوحدة غيره قليل، وكلّ عزيز غيره ذليل، وكلّ قويّ غيره ضعيف، وكلّ مالك غيره مملوك، وكلّ عالم غيره متعلّم، وكلّ قادر غيره يقدر ويعجز، وكلّ سميع غيره يصمّ عن لطيف الأصوات ويصمّه كبيرها ويذهب عنه ما بعد منها، وكلّ بصير غيره يعمى عن خفي الألوان ولطيف الأجسام، وكلّ ظاهر غيره غير باطن، وكلّ باطن غيره غير ظاهر، لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطان، ولا تخوف من عواقب زمان، ولا استعانة على ندّ مثاور، ولا شريك مكاثر، ولا ضدّ منافر، ولكن خلائق مربوبون وعباد داخرون، لم يحلل في الأشياء فيقال هو فيها كائن، ولم ينأ عنها فيقال هو منها بائن، لم يؤوده خلق ما ابتدأ ولا تدبير ما ذرأ، ولا وقف به عجز عمّا خلق، ولا ولجت عليه شبهة في ما قضى وقدر، بل قضاء متقن وعلم محكم وأمر مبرم، المأمول مع النقم المرهوب مع النعم .(1)

قال العلّامة المجلسي1:

قوله(ع) «لم تسبق له حال حالاً» إمّا مبني على ما مرّ من عدم كونه تعالى زمانياً فإنّ السبق والتقدّم والتأخّر إنّما تلحق الزمانيّات المتغيّرات وهو تعالى خارج عن الزمان، أو المعنى أنّه ليس فيه تبدّل حال وتغيّر صفة بل كلّ ما يستحقّه من الصفات الذاتيّة الكماليّة يستحقّها أزلاً وأبداً فلا يمكن أن يقال: كان استحقاقه للأوليّة قبل استحقاقه للآخرية، أو كان ظاهراً ثمّ صار باطناً بل كان أزلاً متّصفاً بجميع ما يستحقّه من الكمالات وليس محلّاً للحوادث والتغيّرات، أو أنّه لا يتوقّف اتّصافه بصفة على اتصافه بأخرى بل كلّها ثابتة لذاته بذاته من غير ترتيب بينها، ولعلّ الأوسط أظهر .(2)

* وقال(ع) في نهج البلاغة: الحمد للّه العليّ عن شبه المخلوقين، الغالب لمقال الواصفين، الظاهر بعجائب تدبيره للناظرين، والباطن بجلال عزّته عن فكر المتوهّمين،

ص: 182


1- . نهج البلاغة: 96 الخطبة 65؛ بحارالأنوار : 4/308 ح37.
2- بحارالأنوار : 4/309.

العالم بلا اكتساب ولا ازدياد ولا علم مستفاد، المقدّر لجميع الأمور بلا رويّة ولا ضمير، الذي لا تغشاه الظلم، ولا يستضيء بالأنوار، ولايرهقه ليل، ولا يجري عليه نهار، ليس إدراكه بالإبصار، ولا علمه بالإخبار .(1)

* وقال(ع): سبق في العلوّ فلا شيء أعلى منه، وقرب في الدنوّ فلا شيء أقرب منه، فلا استعلاؤه باعده عن شيءٍ من خلقه، ولا قربه ساواهم في المكان به .(2)

فظهر ممّا نقلناه من كلمات المعصومين: أنّ وصفه بما وصف نفسه ليس إلّا وصفاً بالسبّوحيّة والقدّوسيّة والتمجيد والجلال والكبرياء وليس وصفاً بالتوصيفات البشريّة.

ص: 183


1- نهج البلاغة: 329 الخطبة 213؛ بحارالأنوار : 4/319 ح45.
2- نهج البلاغة : 87 الخطبة 49؛ بحارالأنوار: 4/308 ح36.

الباب الحادي والعشرون: المراد من أوليّته وآخريّته

ص: 184

قال اللّه تعالى: (هُوَ الأَوَّلُ وَالاْخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ) .(1)

* عن الإمام العسكري(ع): يا أوّل بلا أوليّة، يا آخر بلا آخريّة؛ الخبر .(2)

لاحظ أنّ أوليّة اللّه تعالى لا تضاهي أوليّة الخلائق بل هو أوّل بلا أوّلية فهو أزليّ وهو آخر بلا آخريّة فهو أبديّ فلا أوّليّته تدلّ على الإبتداء ولا آخريّته تدلّ على الإنتهاء، وهذا توصيف بما وصف به نفسه فلاحظ الخبر الآتي المبيّن لمعنى أوّليّته وآخريّته:

* روى الكليني عن فضيل بن عثمان عن ابن أبي يعفور قال: سألت أباعبدالله(ع) عن قول اللّه عزّوجلّ: (هُوَ الْأَوَّلُ والْآخِرُ) (3)وقلت: أمّا الأوّل فقد عرفناه وأمّا الآخر فبيّن لنا تفسيره. فقال: إنّه ليس شيء إلّا يبيد أو يتغيّر أو يدخله التغيّر والزوال أو ينتقل من لون إلى لون ومن هيئة إلى هيئة ومن صفة إلى صفة ومن زيادة إلى نقصان ومن نقصان إلى زيادة إلّا ربّ العالمين، فإنّه لم يزل ولا يزال بحالة واحدة، هو الأوّل قبل كلّ شيء، وهو الآخر على ما لم يزل، ولا تختلف عليه الصفات والأسماء كما تختلف على غيره مثل الإنسان الذي يكون تراباً مرّة ومرّة لحماً ودماً ومرّة رفاتاً ورميماً، وكالبسر الذي يكون مرّة بلحاً ومرّة بسراً ومرّة رطباً ومرّة تمراً فتتبدّل عليه الأسماء والصّفات واللّه جلّ وعزّ بخلاف ذلك .(4)

ص: 185


1- الحديد : 3.
2- مصباح المتهجد: 2/517؛ بحارالأنوار : 83/353.
3- الحديد: 3.
4- الكافي : 1/115 ح5؛ بحارالأنوار: 4/182 ح9.

* روى أيضاً عن محمّد بن حكيم عن ميمون البان قال: سمعت الإمام أباعبدالله(ع) وقد سئل عن الأوّل والآخر فقال: الأوّل لا عن أوّل قبله ولا عن بدء سبقه، والآخر لا عن نهايةكما يعقل من صفة المخلوقين، ولكن قديم أوّل آخر لم يزل ولا يزول بلا بدء ولا نهاية لا يقع عليه الحدوث ولا يحول من حال إلى حال خالق كلّ شيء .(1)

فترى أنّ الإمام(ع) يصف الربّ بما وصف به نفسه وهو وصف من دون تشبيه.

* روى الصدوق عن أبي المعتمر مسلم بن أوس عن أميرالمؤمنين(ع) إلى أن قال: الحمد للّه الذي هو أوّل بلا بديء ممّا؛ الخبر .(2)

فهو أوّل ولكن لم يُبْتَدأ من شيء بل هو أوّل حقيقة.

* روى الكليني عن الحسن بن عليّ بن أبي حمزة عن إبراهيم عن أبي عبدالله(ع) قال: إنّ اللّه تبارك اسمه وتعالى ذكره وجلّ ثناؤه سبحانه وتقدّس وتفرّد وتوحّد ولم يزل ولا يزال، وهو الأوّل والآخر والظاهر والباطن، فلا أوّل لأوّليّته، رفيعاً في أعلى علوّه، شامخ الأركان، رفيع البنيان، عظيم السلطان، منيف الآلاء، سنيّ العلياء، الذي عجز الواصفون عن كنه صفته، ولا يطيقون حمل معرفة إلهيّته، ولا يحدّون حدوده لأنّه بالكيفيّة لا يتناهى إليه .(3)

* روى أيضاً عن الحارث الأعور عن أميرالمؤمنين(ع): الأوّل قبل كلّ شيء ولا قبل له، والآخر بعد كلّ شيء ولا بعد له؛ الخبر .(4)

* في نهج البلاغة من خطبة لمولانا أميرالمؤمنين(ع): وأشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، الأوّل لا شيء قبله، والآخر لا غاية له، لا تقع الأوهام له على صفة، ولا تعقد القلوب منه على كيفيّة، ولا تناله التجزئة والتبعيض، ولا تحيط به الأبصار والقلوب .(5)

ص: 186


1- الكافي : 1/116 ح6؛ بحارالأنوار: 3/284 ح2.
2- التوحيد للصدوق: 78؛ بحارالأنوار: 4/293 ح22.
3- الكافي : 1/137 ح2؛ الوافي: 1/432 ح354.
4- الكافي : 1/141 ح7؛ بحارالأنوار: 4/264 ح14.
5- نهج البلاغة: 115 الخطبة 85؛ بحارالأنوار : 4/319 ح45.

* وفي خطبة أخرى: ليس لأوليّته ابتداء ولا لأزليّته انقضاء، هو الأوّل لم يزل والباقي بلا أجل .(1)

والحاصل من هذه الأخبار أنّ أوّليته تعالى لا تدلّ على البدء بل تدلّ على أزليّته كما أنّ آخريّته لا تدلّ على النهاية بل تدلّ على أبديّته وأنّه لا نهاية له.

ص: 187


1- نهج البلاغة : 232 الخطبة 163؛ بحارالأنوار: 4/306 ح35.

الباب الثاني والعشرون: إنّ اللّه تعالى لا يكيّف ولا يؤيّن

ص: 188

* روى العلّامة المجلسي عن محمّد بن عثمان بن سعيد عن مولانا صاحب العصر والزمان عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف: يا من لا يكيّف بكيف ولا يؤيّن بأين؛ الخبر .(1)

* روى الكليني عن عمّه أبي سميّة محمّد بن علي الكوفي الصيرفي عن محمّد بن عبداللّه الخراسانيّ خادم الإمام الرّضا(ع) قال: دخل رجل من الزنادقة على الإمام أبي الحسن(ع) وعنده جماعة فقال أبوالحسن(ع): أيّها الرّجل أرأيت إن كان القول قولكم - وليس هو كما تقولون - ألسنا وإيّاكم شرعاً سواء لا يضرّنا ما صلّينا وصمنا وزكّينا وأقررنا؟ فسكت الرّجل ثمّ قال أبوالحسن(ع): وإن كان القول قولنا - وهو قولنا - ألستم قد هلكتم ونجونا؟

فقال: رحمك اللّه أوجدني كيف هو وأين هو؟

فقال: ويلك إنّ الذي ذهبت إليه غلط، هو أيّن الأين بلا أين وكيّف الكيف بلا كيف، فلا يعرف بالكيفوفيّة ولا بأينونيّة، ولا يدرك بحاسّة، ولا يقاس بشيء.

فقال الرّجل: فإذا إنه لا شيء إذا لم يدرك بحاسّة من الحواسّ.

فقال الإمام أبوالحسن(ع): ويلك ل-مّا عجزت حواسّك عن إدراكه، أنكرت ربوبيّته، ونحن إذا عجزت حواسّنا عن إدراكه أيقنّا أنّه ربّنا بخلاف شيء من الأشياء.

قال الرّجل: فأخبرني متى كان؟

قال الإمام أبوالحسن(ع): أخبرني متى لم يكن فأخبرك متى كان.

قال الرّجل: فما الدليل عليه؟

ص: 189


1- إقبال الأعمال: 2/646؛ بحارالأنوار : 95/392 ح12.

فقال الإمام أبوالحسن(ع): إنّي ل-مّا نظرت إلى جسدي ولم يمكنّي فيه زيادة ولا نقصان في العرض والطول ودفع المكاره عنه وجرّ المنفعة إليه، علمت أنّ لهذا البنيان بانياً، فأقررت به مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته وإنشاء السحاب وتصريف الرياح ومجرى الشمس والقمر والنجوم وغيرذلك من الآيات العجيبات المبيّنات، علمت أنّ لهذا مقدّراً ومنشئاً .(1)

أقول: بيّن الإمام(ع) أنّ اللّه تعالى لا يؤيّن بأين بل هو خلق الزمان بلا أين فإنّ فعله تعالى لا يكيّف كما أنّ ذاته لا تكيّف بل إنّه تعالى كيّف الكيفيّات بلا كيف فلا كيف لفعله، فكيف يجري عليه ما هو أجراه؟

ول-مّا استشكل الزنديق بأنّ ما لا يدرك لا يمكن الإيمان به، أجابه(ع) بأنّ اليقين بأنّه الربّ - بعد أن شاهدنا آياته أو عرفناه بتعريف نفسه القدّوس - متوقّف على عدم دركه، فلو أمكن إدراكه لا يكون ربّاً.

ثمّ بيّن الإمام(ع) الآيات الدالّة على اللّه تعالى وأنّه أقرب الأشياء وممّا بيّنه هو آيتيّة النفس فإنّها لا تستطيع الزيادة من الخير إلّا بإذنه ولا تستطيع دفع الشرّ إلّا بإذنه كما أنّها لا تتمكّن من الزيادة في نفسها طولاً أو عرضاً وهذا لدليل على المربوبيّة.

* روى الكليني عن أحمد بن محمّد بن خالد عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال: جاء رجل إلى الإمام أبي الحسن الرّضا(ع) من وراء نهر بلخ فقال: إنّي أسألك عن مسألة فإن أجبتني فيها بما عندي قلت بإمامتك. فقال أبوالحسن(ع): سل عمّا شئت.

فقال: أخبرني عن ربّك، متى كان وكيف كان وعلى أيّ شيء كان اعتماده؟

فقال الإمام أبوالحسن(ع): إنّ اللّه تبارك وتعالى أيّن الأين بلا أين، وكيّف الكيف بلا كيف، وكان اعتماده على قدرته. فقام إليه الرجل فقبّل رأسه وقال: أشهد أن لا إله إلّا الله، وأنّ محمّداً رسول الله، وأنّ عليّاً وصيّ رسول الله(ص) والقيّم بعده بما قام به رسول الله(ص)، وأنّكم الأئمّة الصّادقون، وأنّك الخلف من بعدهم .(2)

ص: 190


1- الكافي : 1/78 ح3؛ بحارالأنوار: 3/36 ح12.
2- الكافي : 1/88 ح2؛ بحارالأنوار: 49/104 ح31.

* روى أيضاً عن عبداللّه بن سنان عن الإمام أبي عبدالله(ع) قال: إنّ اللّه عظيم رفيع لا يقدر العباد على صفته، ولا يبلغون كنه عظمته، لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وهُوَ اللّطيف الْخَبِيرُ، ولا يوصف بكيف ولا أين وحيث، وكيف أصفه بالكيف وهوالذي كيّف الكيف حتى صار كيفاً فعرفت الكيف بما كيّف لنا من الكيف؟! أم كيف أصفه بأين وهو الذي أيّن الأين حتى صار أيناً فعرفت الأين بما أيّن لنا من الأين؟! أم كيف أصفه بحيث وهو الذي حيّث الحيث حتى صار حيثاً فعرفت الحيث بما حيّث لنا من الحيث؟! فاللّه تبارك وتعالى داخل في كلّ مكان وخارج من كلّ شيء لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ لا إله إلّا هو العليّ العظيم وهو اللطيف الخبير .(1)

بيّن الإمام(ع) مخلوقيّة الكيف والأين والحيث والخالق لا يتّصف بما خلق ويمتنع عليه جريان صفات خليقته عليه، فهو موصوف بلا كيف ولا أين ولاحيث. ول-مّا كان تعالى هو الخالق لكلّ شيء يكون داخلاً فيه بكون ذلك الشيء تحت سلطنته وقدرته وخارجاً منه حقيقة وذاتاً ويدرِك الأبصار ولا تدركه لعلوّه وعظمته.

* روى أيضاً عن عبداللّه بن الحسن العلوي عن الفتح بن يزيد الجرجانيّ قال: ضمّني والإمام أبا الحسن(ع) الطريق في منصرفي من مكّة إلى خراسان وهو سائر إلى العراق، فسمعته يقول: من اتّقى اللّه يتّقى ومن أطاع اللّه يطاع. فتلطّفت في الوصول إليه، فوصلت فسلّمت عليه فردّ عليّ السلام ثمّ قال: يا فتح، من أرضى الخالق لم يبال بسخط المخلوق، ومن أسخط الخالق فقمن أن يسلّط اللّه عليه سخط المخلوق، وإنّ الخالق لا يوصف إلّا بما وصف به نفسه، وأنّى يوصف الذي تعجز الحواسّ أن تدركه والأوهام أن تناله والخطرات أن تحدّه والأبصارعن الإحاطة به. جلّ عمّا وصفه الواصفون، وتعالى عمّا ينعته الناعتون، نأى في قربه، وقرب في نأيه. فهو في نأيه قريب وفي قربه بعيد، كيّف الكيف فلا يقال كيف، وأيّن الأين فلا يقال أين، إذ هو منقطع الكيفوفيّة والأينونيّة .(2)

ص: 191


1- الكافي : 1/103 ح12؛ بحارالأنوار: 4/297 ح26.
2- الكافي : 1/137 ح3؛ بحارالأنوار: 4/290 ح21.

* روى العلّامة المجلسي عن الإحتجاج أنّه روي أنّ بعض أحبار اليهود جاء إلى أبي بكر فقال له: أنت خليفة رسول اللّه على الأمة؟

فقال: نعم.

فقال: إنّا نجد في التوراة أن خلفاء الأنبياء أعلم أممهم، فخبّرني عن اللّه أين هو في السماء هو أم في الأرض؟

فقال له أبوبكر: في السماء على العرش.

قال: اليهوديّ فأرى الأرض خالية منه، فأراه على هذا القول في مكان دون مكان!

فقال له أبوبكر: هذا كلام الزنادقة اعزب عني وإلّا قتلتك. فولّى الرجل متعجّباً يستهزئ بالإسلام، فاستقبله أميرالمؤمنين(ع) فقال له: يا يهوديّ قد عرفت ما سألت عنه وما أجبت به، وإنّا نقول إنّ اللّه عزّوجلّ أيّن الأين فلا أين له وجلّ من أن يحويه مكان وهو في كلّ مكان بغير مماسّة ولا مجاورة، يحيط علماً بما فيها ولا يخلو شيء من تدبيره تعالى، وإنّي مخبرك بما جاء في كتاب من كتبكم يصدق بما ذكرته لك فإن عرفته أتؤمن به؟

قال اليهوديّ: نعم.

قال: ألستم تجدون في بعض كتبكم أنّ موسى بن عمران كان ذات يوم جالساً إذ جاءه ملك من المشرق، فقال له: من أين جئت؟ قال: من عند اللّه عزّوجلّ. ثمّ جاءه ملك من المغرب، فقال له: من أين جئت؟ قال: من عند اللّه عزّوجلّ. ثمّ جاءه ملك آخر، فقال له: من أين جئت؟ قال: قد جئتك من السماء السابعة من عند اللّه عزّوجلّ. وجاءه ملك آخر، فقال: من أين جئت؟ قال: قد جئتك من الأرض السابعة السفلى من عند اللّه عزّوجلّ. فقال موسى(ع): سبحان من لا يخلو منه مكان ولا يكون إلى مكان أقرب من مكان.

فقال اليهودي: أشهد أنّ هذا هو الحقّ المبين، وأنّك أحقّ بمقام نبيّك ممّن استولى عليه .(1)

أقول: يظهر من هذا الخبر الشريف جهل أبي بكر بأوّل الدين وهو معرفة اللّه تعالى

ص: 192


1- الإحتجاج: 1/209؛ بحارالأنوار : 3/309 ح11.

فمن كان جاهلاً بأوّليّات الدين كيف له أن يدّعي مقام الخلافة؟!

ولمّا عرف اليهودي زيف أبي بكر، انتقد كلامه بأنّ اللّه تعالى لو كان على العرش لخلت الأرض منه فأدرك أميرالمؤمنين(ع) شرعة الهادي الرسول9 وقال لليهودي بأنّ اللّه تعالى لا يؤيّن بأين ولا يكيّف بكيف لأنّهما مخلوقان.

ثمّ بيّن(ع) بأنّ المراد من القول بأنّ اللّه تعالى في كلّ مكان هو إحاطته علما بكلّ مكان وهذا الكلام من روائع الكلم كما لا يخفى على العارف ولذا انبهر اليهودي به واعترف بولاية وليّ الله(ع).

* روى الصدوق عن عليّ بن أبي حمزة عن أبي بصير قال: جاء رجل إلى الإمام أبي جعفر(ع) فقال له: يا أباجعفر أخبرني عن ربّك متى كان؟

فقال: ويلك إنّما يقال لشيء لم يكن فكان متى كان، إنّ ربّي تبارك وتعالى كان لم يزل حيّاً بلا كيف، ولم يكن له كان ولا كان لكونه كيف، ولا كان له أين، ولا كان في شيء، ولا كان على شيء، ولا ابتدع لكانه مكاناً، ولا قوي بعد ما كون شيئاً، ولا كان ضعيفاً قبل أن يكون شيئاً، ولا كان مستوحشاً قبل أن يبدع شيئاً، ولا يشبه شيئاً مكوناً، ولا كان خلواً من القدرة على الملك قبل إنشائه، ويكون منه خلواً بعد ذهابه، لم يزل حيّاً بلا حياة، وملكاً قادراً قبل أن ينشئ شيئاً، وملكاً جبّاراً بعد إنشائه للكون، فليس لكونه كيف، ولا له أين، ولا له حد، ولا يعرف بشيء يشبهه، ولا يهرم لطول البقاء، ولا يصعق لشيء، ولا يخوفه شيء، تصعق الأشياء كلّها من خيفته، كان حيّاً بلا حياة حادثة، ولا كون موصوف، ولا كيف محدود، ولا أثر مقفو، ولا مكان جاور شيئاً، بل حيّ يعرف، وملك لم يزل له القدرة والملك، أنشأ ما شاء بمشيّئته، لا يحدّ ولا يبعّض، ولا يفنى، كان أوّلاً بلا كيف، ويكون آخراً بلا أين، وكُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلّا وَجْهَهُ لَهُ الْخَلْقُ والْأَمْرُ تَبارَكَ اللّه ربّ الْعالَمِينَ.

ويلك أيها السائل، إنّ ربّي لا تغشاه الأوهام، ولا تنزل به الشبهات، ولا يجار من شيء، ولا يجاوره شيء، ولا تنزل به الأحداث، ولا يسأل عن شيء يفعله، ولا يقع على شيء، ولا

ص: 193

تَأْخُذُهُ سِنَةٌ ولا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وما فِي الْأَرْضِ وما بَيْنَهُما وماتَحْتَ الثَّرى .(1)

فتحصّل من ذلك أنّ اللّه تعالى لا يوصف بالأين ولا بالكيف ولا بالحيث ذلك أنّها مخلوقات للّه تعالى ويمتنع جريانها عليه، ولذا لا بدّ من وصفه تعالى بعدم الأين وعدم الكيف وعدم الحيث، وهذا هو الوصف بما وصف به نفسه.

الباب الثالث والعشرون: أسماؤه تعبير وليست توصيفاً بالوصف البشريّ

ص: 194


1- التوحيد للصدوق: 1/173 ح2؛ بحارالأنوار : 4/299 ح28.

قال اللّه تعالى: (هُوَ اللّه الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللّه عَمَّا يُشْرِكُونَ) .(1)

* روى الصدوق عن محمّد بن عيسيى عن الحسين بن خالد عن الإمام أبي الحسن الرضا(ع) أنّه قال: اعلم علّمك اللّه الخير أنّ اللّه تبارك وتعالى قديم، والقدم صفة دلّت العاقل على أنّه لا شيء قبله ولا شيء معه في ديموميّته. فقد بان لنا بإقرار العامّة معجزة الصفة أنّه لا شيء قبل اللّه ولا شيء مع اللّه في بقائه، وبطل قول من زعم أنّه كان قبله شيء أو كان معه شيء في بقائه، لم يجز أن يكون خالقاً له لأنّه لم يزل معه فكيف يكون خالقاً لمن لم يزل معه؟! ولو كان قبله شيء كان الأوّل ذلك الشيء لا هذا وكان الأوّل أولى بأن يكون خالقاً للأوّل الثاني.

ثمّ وصف نفسه تبارك وتعالى بأسماء دعا الخلق إذ خلقهم وتعبّدهم وابتلاهم إلى أن يدعوه بها. فسمّى نفسه سميعاً بصيراً قادراً قاهراً حيّاً قيّوماً ظاهراً باطناً لطيفاً خبيراً قويّاً عزيزاً حكيماً عليماً وما أشبه هذه الأسماء.

فلمّا رأى ذلك من أسمائه الغالون المكذّبون وقد سمعونا نحدّث عن اللّه أنّه لا شيء مثله ولا شيء من الخلق في حاله، قالوا أخبرونا إذ زعمتم أنّه لا مثل للّه ولا شبه له، كيف شاركتموه في أسمائه الحسنى فتسمّيتم بجميعها؟ فإنّ في ذلك دليلاً على أنّكم مثله في حالاته كلّها أو في بعضها دون بعض إذ قد جمعتكم الأسماء الطيّبة؟

قيل لهم: إنّ اللّه تبارك وتعالى ألزم العباد أسماء من أسمائه على اختلاف المعاني وذلك

ص: 195


1- الحشر : 23.

كما يجمع الاسم الواحد معنيين مختلفين، والدليل على ذلك قول الناس الجائز عندهم السائغ، وهو الذي خاطب اللّه عزّوجلّ به الخلق فكلّمهم بما يعقلون ليكون عليهم حجّة في تضييع ما ضيّعوا. وقد يقال للرجل كلب وحمار وثور وسكّرة وعلقمة وأسد، كلّ ذلك على خلافه لأنّه لم تقع الأسماء على معانيها التي كانت بنيت عليها لأنّ الإنسان ليس بأسد ولا كلب، فافهم ذلك رحمك الله.

وإنّما تسمّى اللّه بالعالم لغير علم حادث علم به الأشياء واستعان به على حفظ ما يستقبل من أمره والرويّة في ما يخلق من خلقه ويفنيه ممّا مضى ممّا أفنى من خلقه، ممّا لو لم يحضره ذلك العلم ويغيبه كان جاهلاً ضعيفاً، كما أنّا رأينا علماء الخلق إنّما سمّوا بالعلم لعلم حادث، إذ كانوا قبله جهلة وربما فارقهم العلم بالأشياء فصاروا إلى الجهل، وإنّما سمّي اللّه عالماً لأنّه لا يجهل شيئاً، فقد جمع الخالق والمخلوق اسم العلم واختلف المعنى على ما رأيت.

وسمّي ربّنا سميعاً لا بجزء فيه يسمع به الصوت لا يبصر به كما أن جزءنا الذي نسمع به لا نقوى على النظر به، ولكنّه عزّوجلّ أخبر أنّه لا تخفى عليه الأصوات ليس على حدّ ما سمّينا به نحن، فقد جمعنا الاسم بالسميع واختلف المعنى.

وهكذا البصير لا بجزء به أبصر كما أنا نبصر بجزء منّا لا ننتفع به في غيره، ولكنّ اللّه بصير لا يجهل شخصاً منظوراً إليه فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى.

وهو قائم ليس على معنى انتصاب وقيام على ساق في كبد كما قامت الأشياء، ولكنّه أخبر أنّه قائم يخبر أنّه حافظ كقول الرجل القائم بأمرنا فلان وهو عزّوجلّ القائم على كلّ نفس بما كسبت، والقائم أيضاً في كلام الناس الباقي، والقائم أيضاً يخبر عن الكفاية كقولك للرجل قم بأمر فلان أي اكفه، والقائم منّا قائم على ساق فقد جمعنا الاسم ولم يجمعنا المعنى.

وأمّا اللطيف فليس على قلّة وقضافة وصغر ولكن ذلك على النفاذ في الأشياء والامتناع من أن يدرك، كقولك لطف عنّي هذا الأمر ولطف فلان في مذهبه وقوله يخبرك أنّه

ص: 196

غمض فبهر العقل وفات الطلب وعاد متعمّقاً متلطّفاً لا يدركه الوهم، فهكذا لطف اللّه تبارك وتعالى عن أن يدرك بحدّ أو يحدّ بوصف، واللطافة منّا الصغر والقلّة فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى.

وأمّا الخبير فالذي لا يعزب عنه شيء ولا يفوته ليس للتجربة ولا للاعتبار بالأشياء فتفيده التجربة والاعتبار علماً لولاهما ما علم، لأنّ من كان كذلك كان جاهلاً واللّه لم يزل خبيراً بما يخلق، والخبير من الناس المستخبر عن جهل المتعلّم وقد جمعنا الاسم واختلف المعنى.

وأمّا الظاهر فليس من أجل أنّه علا الأشياء بركوب فوقها وقعود عليها وتسنّم لذراها، ولكن ذلك لقهره ولغلبته الأشياء وقدرته عليها كقول الرجل ظهرت على أعدائي وأظهرني اللّه على خصمي يخبر عن الفلج والغلبة فهكذا ظهور اللّه على الأشياء. ووجه آخر أنّه الظاهر لمن أراده لا يخفى عليه شيء، وأنّه مدبّر لكلّ ما يرى فأيّ ظاهر أظهر وأوضح أمراً من اللّه تبارك وتعالى، فإنّك لا تعدم صنعته حيثما توجّهت وفيك من آثاره ما يغنيك، والظاهر منّا البارز بنفسه والمعلوم بحدّه فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى.

وأمّا الباطن فليس على معنى الاستبطان للأشياء بأن يغور فيها ولكن ذلك منه على استبطانه للأشياء علماً وحفظاً وتدبيراً كقول القائل أبطنته يعني خبرته وعلمت مكتوم سرّه، والباطن منّا بمعنى الغائر في الشيء المستتر فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى.

وأمّا القاهر فإنّه ليس على علاج ونصب واحتيال ومداراة ومكر كما يقهر العباد بعضهم بعضاً. فالمقهور منهم يعود قاهراً والقاهر يعود مقهوراً، ولكن ذلك من اللّه تبارك وتعالى على أنّ جميع ما خلق متلبّس به الذلّ لفاعله وقلّة الامتناع لما أراد به، لم يخرج منه طرفة عين غير أنّه يقول له كن فيكون فالقاهر منّا على ما ذكرت ووصفت فقد جمعنا الاسم واختلف المعنى.

وهكذا جميع الأسماء وإن كنّا لم نسمِّها كلّها فقد تكتفي للاعتبار بما ألقينا إليك، واللّه عوننا وعونك في إرشادنا وتوفيقنا .(1)

ص: 197


1- التوحيد للصدوق: 1/186 ح2؛ بحارالأنوار : 4/176 ح5.

أفاد شيخنا الأستاذ المحقّق آية اللّه الشيخ محمّد باقر الملكيّ1 بأنّ الإشتراك بين أسماء اللّه تعالى وأسماء الخلق اشتراك لفظي، لا معنوي لتوقّف الثاني على تصوّر الربّ تعالى في مرحلة إثباته وهو محال لأنّ التصوّر تابع لمنشأ انتزاعه وهو الموجودات المتصوّرة، وهذا عين التوصيف بما لم يصف به نفسه وإليك نصّ كلامه:

لا إشكال ف-ي أنّ القول بالاشتراك المعنويّ مستلزم لتصوّره تعالى ف-ي مرحلة إثباته وإطلاق الأسماء عليه سبحانه. والتشبّث ف-ي دفع الإشكال بأنّه تعالى يتصوّر بالمفاهيم العامّة، وتسمية ذلك معرفة بالوجه، لا يفيد ف-ي دفع الإشكال شيئاً. ضرورة أنّ منشأ انتزاع المفهوم العامّ هي الأشياء المحسوسة المحدودة المبائنة للّه تعالى، والأمر الانتزاعيّ تابع لمنشأ انتزاعه، وهو عين الإلتزام بتوصيف الخالق بصفة المخلوقين.

على أنّ هذا مخالف لجميع الآيات المباركة والروايات الشريفة الدالّة على أنّ أسماءه تعالى، بما لها من المعنى الشخصيّ القدسيّ، لا يجوز إطلاقها على غيره تعالى. قال تعالى: (وَلِلّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِ-ي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُون)(1) ، (قُلِ ادْعُوا اللّه أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيّاً مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنَى)(2) ، (اللّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنَى) (3)، (هُوَ اللّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنَى)(4) ، (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُالْحَكِيم)(5) ، (وَلِلّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم) .(6)

ص: 198


1- الأعراف: 180.
2- الإسراء: 110.
3- طه: 8.
4- الحشر: 24.
5- الروم: 27.
6- النحل: 60.

بيان: الآيات الكريمة -- خاصّة قوله تعالى: (وَلِلّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنَى) -- مسوقة لتمجيده تعالى بأنّه سبحانه ذو الأسماء الحسنى على نحو الاختصاص. والوجه ف-ي ذلك أنّ «أفعل» ف-ي صفاته تعالى منسلخ عن التفاضل. ضرورة أنّ التفاضل بين شيء وشيء إنّما يكون إذا كانا ف-ي عرض سواء وكان لكلّ منهما فضل. وحيث إنّه ليس ف-ي عرضه سبحانه شيء -- سواء كان له فضل أو لم يكن -- فلا محالة يكون المراد من الأحسن والحسنى ف-ي أسمائه تعالى شدّة حسنه سبحانه بلا حدّ ولا نهاية وإيقاعها عليه سبحانه يكون بتلك العناية. ومنه يعلم أنّه لا يجوز إطلاق هذه الأسماء بما لها من المعنى الشخصيّ على غيره تعالى.

قال العلّامة الطبرسي: وربّك الأكرم، أي: الأعظم كرماً فلا يبلغه كرم كريم. وقال السيّد ف-ي تفسير قول سيّد الساجدين(ع):«الدائم الأدوم»: «أي: البليغ الدوام. وأفعل هنا مجرّد عن معنى التفضيل. إذ لا يقاس بدوامه سبحانه دوام دائم فيفضل عليه». وقال أيضاً ف-ي تفسير قوله(ع): «الأوّل بلا أوّل كان قبله»: قد يقصد بأفعل تجاوز صاحبه وتباعده عن غيره ف-ي الفعل، لا بمعنى تفضيله بعد المشاركة ف-ي أصل الفعل، فيفيد عدم وجود أصل الفعل ف-ي غيره، فيحصل كمال التفضيل. وهو المعنى الأوضح ف-ي «أفعل» ف-ي صفاته تعالى.

وبهذا المعنى ورد قوله تعالى: (هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)(1) . وقول يوسف(ع): (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ)(2) . فالآيات الكريمة لا تفيد إلّا إثباتاً لحسن غير المتناهي على نحو الاختصاص بالوضع الشخصيّ له تعالى وتفرّده وتوحّده سبحانه بهذا النعت.

ص: 199


1- الروم: 27.
2- يوسف: 33.

روى الصدوق عن علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق رحمه اللّه مسنداً عن حنان بن سدير، عن الإمام أبي عبداللّه(ع) قال:... وللّه المثل الأعلى الذي لا يشبهه شيء ولا يوصف ولا يتوهّم. فذلك المثل الأعلى. ووصف الذين لم يؤتوا من اللّه فوائد العلم، فوصفوا ربّهم بأدنى الأمثال وشبّهوه بالمتشابه منهم ف-ي ما جهلوا به. فلذلك قال: (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً)(1) . فليس له شبه ولا مثل ولا عدل. وله الأسماء الحسنى التي لا يسمى بها غيره. وهي التي وصفها ف-ي الكتاب فقال: (فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ في أَسْمائِهِ)(2) جهلاً بغير علم. فالذي يلحد ف-ي أسمائه بغير علم، يشرك وهو لا يعلم ويكفر به وهو يظن أنّه يحسن. فلذلك قال: (وَما يُؤمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّه إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُون)(3) فهم الذين يلحدون ف-ي أسمائه بغير علم فيضعونها غير مواضعها .(4)

قال صاحب القاموس: ألحد: مال وعدل ومارى وجادل... وأشرك باللّه أو ظلم .(5)

أقول: المعنيان الأوّل هما فردان بارزان من الآية الكريمة ومتناسبان أيضاً مع قوله(ع): فيضعونها غير مواضعها، أي يميلون ويعدلون عن معاني أسمائه تعالى ويوقعونها على غيره سبحانه ويحرّفونها عن معناها الشخصيّ الموضوعة له ويطلقونها على غير ما هو الموضوع له، وهو اللّه سبحانه

ص: 200


1- الإسراء: 85.
2- لأعراف: 180.
3- يوسف: 106.
4- التوحيد للصدوق: 321 ح1؛ بحارالأنوار: 55/30 ح51.
5- القاموس المحيط: 1/335.

ونعوته وكمالاته.

فعلى هذا يكون سياق الآية الكريمة أنّ اللّه سبحانه أمر الناس أن يدعوه بالأسماء التي اختارها لنفسه، وذمّ الذين يضعون هذه الأسماء الكريمة ف-ي غير مواضعها.

وروى الصدوق عن محمّد بن علي ماجيلويه مسنداً عن الفتح بن يزيد الجرجاني، عن الإمام أبي الحسن(ع) قال: سمعته يقول ف-ي اللّه عزّوجلّ: هو اللطيف الخبير السميع البصير الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، منشئ الأشياء، ومجسّم الأجسام، ومصوّر الصور. لو كان كما يقولون، لم يعرف الخالق من المخلوق ولا المنشئ من المنشأ. لكنّه المنشئ. فرق بين من جسمه وصوره وأنشأه إذا كان لا يشبهه شيء ولا يشبه هو شيئاً.

قلت: أجل -- جعلني اللّه فداك -- لكنّك قلت: الأحد الصمد، وقلت: لا يشبه شيئاً. واللّه واحد، والإنسان واحد، أليس قد تشابهت الوحدانية؟!

قال: يا فتح، أحلت - ثبّتك اللّه تعالى - إنّما التشبيه ف-ي المعاني. فأمّا ف-ي الأسماء فهي واحدة. وهي دلالة على المسمّى. وذلك أن الإنسان وإن قيل: واحد، فإنما يخبر أنّه جثّة واحدة وليس باثنين... فالإنسان واحد ف-ي الاسم لا واحد ف-ي المعنى. واللّه جلّ جلاله واحد لا واحد غيره، لا اختلاف فيه، ولا تفاوت، ولا زيادة، ولا نقصان. فإنّما الإنسان المخلوق المصنوع المؤلّف من أجزاء مختلفة وجواهر شتّى غير أنّه بالاجتماع شيء واحد .(1)

وروى أيضاً عن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق المعروف بعلان

ص: 201


1- التوحيد للصدوق: 186 ح1؛ بحارالأنوار: 4/173 ح2.

مسنداً عن الحسين بن خالد، عن الإمام أبي الحسن الرضا(ع) أنّه قال: ...ثمّ وصف نفسه تبارك وتعالى بأسماء دعا الخلق -- إذ خلقهم وتعبدهم وابتلاهم -- إلى أن يدعوه بها. فسمّى نفسه سميعاً، بصيراً، قادراً، قائماً، قاهراً، حيّاً، قيّوماً، ظاهراً، باطناً، لطيفاً، خبيراً، قويّاً، عزيزاً، حكيماً، عليماً، وما أشبه هذه الأسماء. فلمّا رأى ذلك من أسمائه الغالون المكذّبون، وقد سمعونا نحدث عن اللّه أنّه لا شيء مثله ولا شيء من الخلق ف-ي حاله، قالوا: أخبرونا إذا زعمتم أنّه لا مثل للّه ولاشبه له، كيف شاركتموه ف-ي أسمائه الحسنى فتسمّيتم بجميعها؟! فإنّ ف-ي ذلك دليلاً على أنّكم مثله ف-ي حالاته كلّها، أو ف-ي بعضها دون بعض، إذ جمعتكم الأسماء الطيّبة.

قيل لهم: إنّ اللّه تبارك وتعالى ألزم العباد أسماءً من أسمائه على اختلاف المعاني. وذلك كما يجمع الاسم الواحد معنيين مختلفين. والدليل على ذلك قول الناس الجائز عندهم الشائع وهو الذي خاطب اللّه به الخلق وكلّمهم بما يعقلون، ليكون عليهم حجة ف-ي تضييع ما ضيّعوا. وقد يقال للرجل كلب وحمار، وثور، وسكرة، وعلقمة، وأسد، وكلّ ذلك على خلافه وحالاته، لم تقع الأسامي على معانيها التي كانت بنيت عليها، لأنّ الإنسان ليس بأسد ولا كلب. فافهم ذلك - رحمك اللّه -. وإنّما نسمّي اللّه عزّوجلّ بالعالم بغير علم حادث علم به الأشياء واستعان به على حفظ ما يستقبل من أمره والروية ف-ي ما يخلق من خلقه وبعينه ما مضى ممّا أفنى من خلقه ممّا لو لم يحضره ذلك العلم ويعنه، كان جاهلاً ضعيفاً. كما أنّ رأينا علماء الخلق إنّما سمّوا بالعالم لعلم حادث، إذ كانوا قبله جهلة، وربّما فارقهم العلم بالأشياء فصاروا إلى الجهل. وإنّما سمّي اللّه عالماً لأنّه لا يجهل شيئاً. فقد جمع

ص: 202

الخالق والمخلوق اسم العلم واختلف المعنى على ما رأيت.

وسمّي ربّنا سميعاً لا بجزء فيه يسمع به الصوت ولا يبصر به، كما أنّ جزأنا الذي نسمع به لا نقوى على النظر به. ولكنّه أخبر أنّه لا يخفى عليه الأصوات ليس على حد ما سمّينا نحن. فقد جمعنا الاسم بالسميع واختلف المعنى. وهكذا البصر... .(1)

وروى الكليني عن عليّ بن إبراهيم مسنداً عن محمّد بن مسلم، عن الإمام أبي جعفر(ع) أنّه قال ف-ي صفة القديم: إنّه واحد، صمد، أحدي المعنى، ليس بمعاني كثيرة مختلفة.

قال: قلت: جعلت فداك، يزعم قوم من أهل العراق أنّه يسمع بغير الذي يبصر ويبصر بغير الذي يسمع.

قال: فقال: كذبوا وألحدوا وشبّهوا. تعالى اللّه عن ذلك. إنّه سميع بصير يسمع بما يبصر ويبصر بما يسمع.

قال: قلت: يزعمون أنّه بصير على ما يعقلونه.

قال: فقال: تعالى اللّه. إنّما يعقل ما كان بصفة المخلوق. وليس اللّه كذلك .(2)

وروى المجلسي ف-ي الخبر المروي ف-ي التوحيد المشتهر بالإهليلجة، عن محرز بن سعيد النحوي مسنداً عن المفضل بن عمر الجعف-ي، عن الإمام أبي عبداللّه جعفر بن محمّد الصادق8:... قال: إنّ الذي جئت به لواضح. فكيف جاز للخلق أن يتسمّوا بأسماء اللّه تعالى؟

ص: 203


1- التوحيد للصدوق: 187 ح2؛ بحارالأنوار: 4/176 ح5.
2- الكافي: 1/108 ح1؛ بحارالأنوار: 4/69 ح14.

قلت:إنّ اللّه -- جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه -- أباح للناس الأسماء ووهبها لهم. وقد قال القائل من الناس للواحد. ويقول للّه: واحد. ويقول: قوي. واللّه تعال-ى قوي. ويقول: صانع. واللّه صانع. ويقول: رازق. واللّه رازق، ويقول، سميع بصير، واللّه سميع بصير. وما أشبه ذلك. فمن قال للإنسان: واحد، فهذا له اسم وله شبيه. واللّه واحد وهو له اسم ولا شيء له شبيه، وليس المعنى واحداً.

وأمّا الأسماء، فهي دلالتنا على المسمّى. لأنّا قد نرى الإنسان واحداً وإنّما نخبر واحداً إذا كان مفرداً. فعلم أنّ الإنسان ف-ي نفسه ليس بواحد ف-ي المعنى. لأنّ أعضاءه مختلفة وأجزاءه ليست سواءً، ولحمه غير دمه، وعظمه غير عصبه، وشعره غير ظفره، وسواده غير بياضه. وكذلك سائر الخلق. والإنسان واحد ف-ي الاسم وليس بواحد ف-ي الاسم والمعنى والخلق. فإذا قيل للّه، فهو الواحد الذي لا واحد غيره. لأنّه لا اختلاف فيه. وهو تبارك وتعالى سميع وبصير وقوي وعزيز وحكيم وعليم. فتعال-ى اللّه أحسن الخالقين .(1)

فهذه الآيات والروايات وأيضاً الروايات الدالّة على البينونة الصفتيّة بين الخالق والمخلوق، كلّها تدلّ على أنّ إطلاق أسمائه تعالى على غيره سبحانه، إنّما هو من باب الاشتراك اللفظي.

فإن قلت: يلزم على ما ذكرت تعطيل الأذكار والتسبيحات، والأوراد والأدعية والمناجاة، فإنّ الناس إنّما يخاطبونه تعال-ى ويناجونه بما يعقلون ويفهمون.

قلت: سرّ الإستشكال أنّ أهل الفلسفة لا يعرفون طريقاً إل-ى معرفته سبحانه إلّا المعرفة بالوجه وقالوا: إنّ المفاهيم العامّة المعقولة المتصوّرة

ص: 204


1- بحارالأنوار: 3/195.

للألفاظ وجه له تعال-ى ولكمالاته، فيسبّحونه ويمجّدونه بوساطة تلك المفاهيم العامّة المعقولة.

فلو انسدّ باب إيقاع الأسماء عليه تعال-ى، لانسدّ عندهم باب المعرفة وباب الأذكار والأوراد. والحال أنّه تعال-ى عرف إل-ى عباده نفسه بحقيقة التعريف وهو فعله تعال-ى ولا كيف لفعله. وإيقاع الأسماء والصفات عليه تعال-ى إنّما هو بعد تعريفه تعال-ى نفسه إل-ى عباده. وإنّه خلق الأسماء وسيلة بينه وبين خلقه ليتضرّعوا بها إليه ويدعوه بها ويعبدوه.

فأسماؤه تعال-ى تعبير وتذكرة وإرشاد إلى اللّه القدّوس الخارج عن الحدّين، الظاهر بذاته بعد مرتبة تعريفه تعال-ى نفسه إل-ى عباده، وليست إيقاعاً على الغائب المجهول. وإنّما يعرف نفسه إل-ى عباده من غير أن يوصف بالمعروفيّة ومن غير أن يكون معروفاً ومعقولاً بإحاطة العقول والأوهام، أو بتصوّره تعالى بالمفاهيم الكليّة، بل إنّما يعرفه من عرفه به تعال-ى، فهو المعرِف -- بالكسر -- لا المعرَف -- بالفتح -- والمعروف.

روى صاحب التحف عن الإمام الصادق(ع): قال:... من زعم أنّه يعرف اللّه بتوهّم القلوب، فهو مشرك. ومن زعم أنّه يعرف اللّه بالاسم دون المعنى، فقد أقرّ بالطعن. لأنّ الاسم محدث. ومن زعم أنّه يعبد الاسم والمعنى، فقد جعل مع اللّه شريكاً. ومن زعم أنّه يعبد المعنى بالصفة لا بالإدراك، فقد أحال على الغائب. ومن زعم أنّه يعبد الصفة والموصوف، فقد أبطل التوحيد. لأنّ الصفة غير الموصوف. ومن زعم أنّه يضيف الموصوف إل-ى الصفة، فقد صغّر الكبير. وما قدروا اللّه حقّ قدره.

قيل له: فكيف سبيل التوحيد؟

قال: باب البحث ممكن وطلب المخرج موجود. إنّ معرفة عين الشاهد

ص: 205

قبل صفته. ومعرفة صفة الغائب قبل عينه... .(1)

بيان: قال(ع): «باب البحث ممكن وطلب المخرج موجود». فالبحث والفحص عن التوحيد لكثرة أماراته ووفور علاماته والتخلّص عن الشبهات فيه، أمر ممكن عادي عند أهل العقل والإنصاف. وقوله(ع): «معرفة عين الشاهد قبل صفته». المراد من الشاهد هو اللّه سبحانه.

والعناية ف-ي التعبير هو تعريفه تعال-ى نفسه إل-ى عباده على نحو العيان والصراحة. وفيه تنصيص لما ذكرناه من أنّ إطلاق الأسماء والصفات عليه سبحانه، إنّما هو بعد تعريفه تعال-ى نفسه إل-ى عباده، وليس مبنى إيقاع الأسماء عليه سبحانه، إلّا بترخيص منه تعال-ى وأمره بأن يدعوه بالأسماء التي اختارها لنفسه.

وملاك أمره تعال-ى بهذا، هي معرفة الحق تعالى التي جرت سنّته تعال-ى الفاضلة الحسنة على تعريفه نفسه إل-ى عباده فضلاً وإحساناً. وهذا هو الدين القيّم الفطريّ. وليس معنى الإيقاع إلّا التذكّر بالحقّ المتعالي عن الحدّين، أو لتعظيمه وتمجيده وتقديسه .(2)

ومن جملة ما استدلّ به على هذا المطلب هو هذا الخبر المرويّ عن الإمام الرضا(ع) فإنّه يدلّ دلالة لا ريب فيها على أنّ إطلاق الإسم على اللّه تعالى يختلف عن إطلاقه على المخلوق. ف-«الظاهر» في اللّه تعالى يختلف عن «الظاهر» في المخلوق، كما أنّ «الباطن» فيه تعالى يفترق عن «الباطن» في الخليقة.

وكيف كان، فلا ريب في أنّ إطلاق «العالم» و «القادر» و «القاهر» وغيرها من أسمائه الحسنى عليه تعالى تختلف عن إطلاقها على المخلوق، فإنّ إطلاق «العالم» عليه يشير إلى عدم جهله بشيء وليس الأمر هكذا بالنسبة إلى المخلوق، وهذا الذي بيّنه الإمام(ع) هو عين التوصيف بما وصف به نفسه.

ص: 206


1- تحف العقول: 327؛ بحارالأنوار: 65/275 ح31.
2- توحيدالإماميّة : 64.

* روى الكليني عن محمّد بن أبي عبداللّه عن الإمام أبي عبدالله(ع) قال بينا أميرالمؤمنين(ع) يخطب على منبر الكوفة إذ قام إليه رجل يقال له ذعلب ذو لسان بليغ في الخطب شجاع القلب فقال: يا أميرالمؤمنين، هل رأيت ربّك؟

قال: ويلك يا ذعلب ما كنت أعبد ربّاً لم أره.

فقال: يا أميرالمؤمنين، كيف رأيته؟

قال: ويلك يا ذعلب لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان. ويلك يا ذعلب إنّ ربّي لطيف اللطافة لا يوصف باللطف، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ، قبل كلّ شيء لا يقال شيء قبله، وبعد كلّ شيء لا يقال له بعد، شاء الأشياء لا بهمّة، درّاك لا بخديعة، في الأشياء كلّها غير متمازج بها ولا بائن منها، ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجلّ لا باستهلال رؤية، ناء لا بمسافة، قريب لا بمداناة، لطيف لا بتجسّم، موجود لا بعد عدم، فاعل لا باضطرار، مقدّر لا بحركة، مريد لا بهمامة، سميع لا بآلة، بصير لا بأداة، لا تحويه الأماكن، ولا تضمنه الأوقات، ولا تحدّه الصفات، ولا تأخذه السنات، سبق الأوقات كونه، والعدم وجوده، والابتداء أزله، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، وبتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له، وبمضادّته بين الأشياء عرف أن لا ضدّ له، وبمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له، ضادّ النور بالظلمة، واليبس بالبلل، والخشن بالليّن، والصرد بالحرور، مؤلّف بين متعادياتها، ومفرّق بين متدانياتها، دالّة بتفريقها على مفرّقها، وبتأليفها على مؤلّفها، وذلك قوله تعالى: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلِّكُمْ تَذَكَّرُون)(1) . ففرّق بين قبل وبعد ليعلم أن لا قبل له ولا بعد له، شاهدة بغرائزها أن لا غريزة لمغرزها، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقّتها، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه وبين خلقه، كان ربّاً إذ لا مربوب، وإلهاً إذ لا مألوه، وعالماً إذ لا معلوم، وسميعاً إذ لا مسموع .(2)

ص: 207


1- . الذاريات: 49.
2- الكافي : 1/138 ح4؛ بحارالأنوار: 4/304 ح34.

أنت ترى أنّ الإمام(ع) يصف ربّه بما وصف به نفسه، فإنّه ليس في شيء من الأوصاف التي ذكرها تشبيه بينه تعالى وبين خلقه بل كلّها تنزيه وتقديس للذات الربوبيّ. فبيّن(ع) أنّ لطافته تعالى ليست كلطافة الأشياء المحسوسة بل هو لطيف لعلمه بالشيء اللطيف أو لخلقه الشيء اللطيف، وجميع ما ذكره الإمام(ع) هكذا فليس فعله بهمّة ولا دركه بخديعة. ومع أنّه في الأشياء ولكن لا يمازجها، كما أنّ ظهوره لا يوجب رؤيته بالعين، وتجلّيه لا يوجب مباشرته... وهكذا.

* روى الصدوق عن أبو سمية محمد بن علي الصيرفي عن محمّد بن عبداللّه الخراساني خادم الإمام الرضا(ع) قال: دخل رجل من الزنادقة على الإمام الرضا(ع) وعنده جماعة فقال له أبوالحسن(ع): أرأيت إن كان القول قولكم - وليس هو كما تقولون - ألسنا وإيّاكم شرعاً سواء ولا يضرّنا ما صلّينا وصمنا وزكّينا وأقررنا؟ فسكت.

قال الرجل: فأخبرني عن قولكم إنّه لطيف وسميع وبصير وعليم وحكيم، أيكون السميع إلّا بالأذن والبصير إلّا بالعين واللطيف إلّا بعمل اليدين والحكيم إلّا بالصنعة؟

فقال الإمام أبوالحسن(ع): إنّ اللطيف منّا على حدّ اتخاذ الصنعة أو ما رأيت الرجل يتخذ شيئاً فيلطف في اتخاذه، فيقال ما ألطف فلاناً فكيف لايقال للخالق الجليل لطيف إذ خلق خلقاً لطيفاً وجليلاً وركّب في الحيوان منه أرواحها وخلق كلّ جنس متبائناً من جنسه في الصورة ولا يشبه بعضه بعضاً؟! فكلّ له لطف من الخالق اللطيف الخبير في تركيب صورته. ثمّ نظرنا إلى الأشجار وحملها أطايبها المأكولة منها وغير المأكولة، فقلنا عند ذلك إنّ خالقنا لطيف لا كلطف خلقه في صنعتهم، وقلنا إنّه سميع لأنّه لا يخفى عليه أصوات خلقه ما بين العرش إلى الثرى من الذرّة إلى أكبر منها في برّها وبحرها ولا تشتبه عليه لغاتها، فقلنا عند ذلك إنّه سميع لا بإذن وقلنا إنّه بصير لا ببصر لأنّه يرى أثر الذرّة السحماء في الليلة الظلماء على الصخرة السوداء، ويرى دبيب النمل في الليلة الدجنة ويرى مضارّها ومنافعها وأثر سفادها وفراخها ونسلها، فقلنا عند ذلك إنّه بصير لا كبصرخلقه قال فما برح حتى أسلم .(1)

ص: 208


1- التوحيد للصدوق: 1/250 ح3؛ بحارالأنوار : 3/36 ح12.

أقول: من الواضح أنّ إطلاق أسماء اللّه تعالى الذي سمّى بها نفسه لا يوجب الإحاطة عليه تعالى بل لمّا عرّفنا نفسه القدّوس في العوالم السابقة - كما ورد في الأدلّة - وسمّى نفسه بأسماء ودعا العباد إلى أن يدعوه بها، يكون إيقاع الأسماء عليه تعبير إلى اللّه القدّوس الخارج عن الحدّين. فلمّا عرفنا بأنّ اللّه تعالى خلق الشيء اللطيف ولمّا سمّى نفسه باللطيف، يكون إطلاق اللطيف عليه من باب خلقه تعالى الشيء اللطيف. ول-مّا عرفناه بما عرّفنا نفسه بأنّه يعلم المسموعات، يكون إطلاق السميع عليه إشارة إلى عدم جهله بالمسموعات وهكذا الأمر بالنسبة إلى البصير.

* روى أيضاً عن إبراهيم بن هاشم عن أحمد بن سليمان قال: سأل رجل الإمام أبا الحسن(ع) وهو في الطواف، فقال له: أخبرني عن الجواد؟ فقال: إنّ لكلامك وجهين؛ فإن كنت تسأل عن المخلوق، فإنّ الجواد الذي يؤدّي ما افترض اللّه عزّوجلّ عليه، والبخيل من بخل بما افترض اللّه عليه. وإن كنت تعني الخالق، فهو الجواد إن أعطى وهو الجواد إن منع، لأنّه إن أعطى عبداً أعطاه ما ليس له، وإن منع منع ما ليس له .(1)

كلام الإمام(ع) صريح في اختلاف اطلاق لفظ «الجواد» على الخالق عن اطلاقه على المخلوق، فإنّ اللّه تعالى جواد إن أعطى وجواد إن منع لأنّه إن أعطى أعطى ما ليس للعبد وإن منع منع ما ليس للعبد بخلاف المخلوق الذي قد تنطبق عليه صفة البخل.

* روى العلّامة المجلسي عن الخصال عن أبي هاشم الجعفري قال: كنت عند أبي جعفر الثاني(ع) فسأله رجل فقال: أخبرني عن الربّ تبارك وتعالى، أله أسماء وصفات في كتابه؟ وهل أسماؤه وصفاته هي هو؟

فقال أبو جعفر(ع): إنّ لهذا الكلام وجهين؛ إن كنت تقول هي هو أنّه ذو عدد وكثرة، فتعالى اللّه عن ذلك. وإن كنت تقول هذه الأسماء والصفات لم تزل فإنّما لم تزل، محتمل معنيين: فإن قلت لم تزل عنده في علمه وهو يستحقها فنعم، وإن كنت تقول لم يزل

ص: 209


1- الخصال: 1/43 ح36؛ بحارالأنوار : 4/172 ح1.

صورها وهجاؤها وتقطيع حروفها، فمعاذ اللّه أن يكون معه شيء غيره بل كان اللّه تعالى ذكره ولا خلق، ثمّ خلقها وسيلة بينه وبين خلقه، يتضرّعون بها إليه ويعبدونه وهي ذكره، وكان اللّه سبحانه ولا ذكر والمذكور بالذكر هو اللّه القديم الذي لم يزل، والأسماء والصفات مخلوقات والمعنيّ بها هو اللّه الذي لا يليق به الاختلاف ولا الإيتلاف وإنّما يختلف ويأتلف المتجزّي، ولا يقال له قليل ولا كثير ولكنّه القديم في ذاته لأنّ ما سوى الواحد متجزّئ، واللّه واحد لا متجزّئ ولا متوهَّم بالقلّة والكثرة، وكلّ متجزّئ أو متوهَّم بالقلّة والكثرة فهو مخلوق، دالّ على خالق له. فقولك إنّ اللّه قدير خبرت أنّه لا يعجزه شيء فنفيت بالكلمة العجز وجعلت العجز سواه، وكذلك قولك عالم إنّما نفيت بالكلمة الجهل وجعلت الجهل سواه، فإذا أفنى اللّه الأشياء، أفنى الصورة والهجاء والتقطيع فلا يزال من لم يزل عالماً.

فقال الرجل: فكيف سمّينا ربّنا سميعاً؟

فقال(ع): لأنّه لا يخفى عليه ما يدرك بالأسماع ولم نصفه بالسمع المعقول في الرأس، وكذلك سمّيناه بصيراً لأنّه لا يخفى عليه ما يدرك بالأبصار من لون أو شخص أو غير ذلك ولم نصفه ببصر طرفة العين، وكذلك سمّيناه لطيفا لعلمه بالشيء اللطيف مثل البعوضة وما هو أخفى من ذلك وموضع المشي منها والعقل والشهوة للسفاد والحدب على أولادها وإقامة بعضها على بعض ونقلها الطعام والشراب إلى أولادها في الجبال والمفاوز والأودية والقفار، فعلمنا بذلك أنّ خالقها لطيف بلا كيف إذ الكيفيّة للمخلوق المكيَّف وكذلك سمّينا ربّنا قويّاً بلا قوّة البطش المعروف من الخلق، ولو كان قوّته قوّة البطش المعروف من الخلق لوقع التشبيه واحتمل الزيادة، وما احتمل الزيادة احتمل النقصان، وما كان ناقصاً كان غير قديم، وما كان غير قديم كان عاجزاً، فربّنا تبارك وتعالى لا شبه له ولا ضدّ ولا ندّ ولا كيفيّة ولا نهاية ولا تصاريف، محرّم على القلوب أن تحتمله، وعلى الأوهام أن تحدّه، وعلى الضمائر أن تصوّره، جلّ وعزّ عن أداة خلقه وسمات بريّته وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً .(1)

ص: 210


1- الإحتجاج: 2/442؛ بحارالأنوار : 4/153 ح1.

بيّن الإمام(ع) بأنّ أسماء اللّه تعالى مخلوقة خلقها الباري تعالى وسيلة بينه وبين خلقه، فليست أزليّة ولكن المعنيّ بها هو اللّه تعالى الأزليّ الأبديّ. فالقول بأنّه تعالى قدير يدلّ على نفي العجز عنه تعالى، والقول بأنّه عالم يدلّ على نفي الجهل عنه.

ثمّ بيّن(ع) بأنّ هذه الأسماء لا تثبت الكمال في اللّه تعالى بمعنى ثبوت الكمال بإثبات الأسماء بل إنّه تعالى عالم لا يجهل شيئاً حتى لو لم تكن الأسماء.

ثمّ بيّن(ع) أنّ إطلاق السميع والبصير واللطيف عليه ليس إلّا وصفاً بما وصف به نفسه. فإطلاق السميع عليه من باب أنّه تعالى يعلم المسموعات، وإطلاق البصير عليه من باب أنّه تعالى يعلم المبصرات... وهكذا.

* روى الصدوق عن أبي القاسم إبراهيم بن محمّد العلوي عن فتح بن يزيد الجرجاني قال: لقيته(ع) على الطريق عند منصرفي من مكّة إلى أن قال: قلت السّميع البصير سميع بأذن وبصير بالعين؟ فقال: إنّه يسمع بما يبصر ويرى بما يسمع، بصير لا بعين مثل عين المخلوقين، وسميع لا بمثل سمع السامعين، لكن ل-مّا لا تخفى عليه خافية من أثر الذرّة السوداء على الصخرة الصمّاء في الليلة الظلماء تحت الثرى والبحار قلنا بصير لا بمثل عين المخلوقين، وسميع بما لم تشتبه عليه ضروب اللغات ولم يشغله سمع عن سمع قلنا سميع لا بمثل السامعين؛ الخبر .(1)

أقول: إنّ الإمام(ع) أجاب الراوي بأنّ اللّه تعالى يسمع بعين ما يرى ويرى بعين ما يسمع، وإطلاق السميع عليه باعتبار عدم خفاء شيء حتى أثر الذرّة السوداء عليه.

* روى أيضاً عن محمّد بن علي الصيرفي الكوفي عن محمّد بن سنان عن أبان الأحمر قال: قلت للإمام الصادق جعفر بن محمّد(ع): أخبرني عن اللّه تبارك وتعالى، لم يزل سميعاً بصيراً عليماً قادراً ؟ قال: نعم. فقلت له: إنّ رجلاً ينتحل موالاتكم أهل البيت يقول إنّ اللّه تبارك وتعالى لم يزل سميعاً بسمع وبصيراً ببصر وعليماً بعلم وقادراً بقدرة. قال: فغضب(ع) ثمّ قال: من قال ذلك ودان به فهو مشرك وليس من ولايتنا على شيء. إنّ اللّه

ص: 211


1- التوحيد للصدوق: 1/60 ح18؛ بحارالأنوار : 4/292 ح21.

تبارك وتعالى ذات علّامة سميعة بصيرة قادرة .(1)

أقول: الوجه في كون الرجل مشركاً هو أنّ كلامه يستلزم كون السمع والبصر والعلم شيئاً آخر غير الربّ تعالى قديماً معه، فلذا لا بدّ من وصفه بما وصف به نفسه من أنّه تعالى ذات علّامة سميعة بصيرة قادرة أزلاً وأبداً.

* روى أيضاً عن محمّد بن أبي عمير عن هارون بن عبدالملك قال: سئل الإمام أبوعبدالله(ع) عن التوحيد؟ فقال: هو عزّوجلّ مثبت موجود لا مبطل ولا معدود ولا في شيء من صفة المخلوقين، وله عزّوجلّ نعوت وصفات. فالصفات له وأسماؤها جارية على المخلوقين مثل السميع والبصير والرؤوف والرحيم وأشباه ذلك، والنعوت نعوت الذات لا يليق إلّا باللّه تبارك وتعالى، واللّه نور لا ظلام فيه، وحيّ لاموت فيه، وعالم لا جهل فيه، وصمد لا مدخل فيه، ربّنا نوريّ الذات، حيّ الذات، عالم الذات، صمديّ الذات .(2)

* روى أيضاً عن العباس بن عمرو عن هشام بن الحكم قال في حديث الزنديق الذي سأل الإمام أباعبدالله(ع) أنّه قال له: أتقول إنّه سميع بصير؟ فقال الإمام أبوعبدالله(ع): هو سميع بصير. سميع بغير جارحة وبصير بغير آلة، بل يسمع بنفسه ويبصر بنفسه وليس قولي إنّه يسمع بنفسه أنّه شيء والنفس شيء آخر ولكنّي أردت عبارة عن نفسي إذ كنت مسؤولاً وإفهاماً لك إذ كنت سائلاً، فأقول يسمع بكلّه لا أنّ كلّه له بعض، ولكنّي أردت إفهامك والتعبير عن نفسي وليس مرجعي في ذلك إلّا إلى أنّه السميع البصير العالم الخبير بلا اختلاف الذات ولا اختلاف معنى .(3)

أقول: في هذا الخبر الشريف خصوصيّة وهي أنّ التعبيرات العديدة عن اللّه تعالى وكمالاته ليست إلّا إشارة إلى الحقائق، فيجب أن لا نفهم من التعابير عن اللّه تعالى ما نفهمها عن التعبير بها عن الخلائق، فحينما يقال «أنّه تعالى يسمع بكلّه» لا يعني ذلك

ص: 212


1- الأمالي للصدوق: 610 ح6؛ بحارالأنوار : 4/63 ح2.
2- التوحيد للصدوق: 1/140 ح4؛ بحارالأنوار : 4/68 ح12.
3- لتوحيد للصدوق: 1/144 ح10؛ بحارالأنوار : 4/69 ح15.

أنّ له بعض، إنّما هو تعبير لغرض وهو أنّه تعالى غير متجزّئ فإنّه يسمع بما يرى ويرى بما يسمع وهكذا فتأمّل مليّاً.

والحاصل: إنّ اطلاق أسمائه تعالى عليه لا يوجب التشبيه ووصفه بما لم يصف به نفسه، بل هو تعبير إلى ما يعرفه كلّ إنسان بما عرّفه اللّه تعالى نفسه.

ص: 213

الباب الرابع والعشرون: الرضا والسخط في اللّه تعالى

ص: 214

قال اللّه تعالى: (قَالَ اللّه هذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللّه عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) .(1)

وقال تعالى: (تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّه عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ) .(2)

* روى الصدوق عن المشرقي عن حمزة بن الربيع عمّن ذكره قال: كنت في مجلس الإمام أبي جعفر(ع) إذ دخل عليه عمرو بن عبيد فقال له: جعلت فداك، قول اللّه عزّوجلّ: (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى)(3) ما ذلك الغضب؟

فقال أبوجعفر(ع): هو العقاب يا عمرو إنّه من زعم أنّ اللّه عزّوجلّ قد زال من شيء إلى شيء فقد وصفه صفة مخلوق إنّ اللّه عزّوجلّ لا يستفزّه شيء ولا يغيّره .(4)

بيّن الإمام(ع) بأنّ غضبه تعالى ليس كغضب الخلائق لامتناع ذلك عليه، فإنّه مستلزم لتغيّره تعالى من حال إلى آخر وهذا صفة المخلوق، بل غضبه تعالى فعله أي يفعل فعل المغضب فيكون غضبه عبارة عن عقوبته.

* روى أيضاً عن العباس بن عمرو الفقيمي عن هشام بن الحكم أنّ رجلاً سأل الإمام أباعبدالله(ع) عن اللّه تبارك وتعالى له رضى وسخط؟

ص: 215


1- المائدة : 119.
2- المائدة : 80.
3- طه: 81.
4- التوحيد للصدوق: 1/168 ح1؛ بحارالأنوار : 4/64 ح5.

قال: نعم، وليس ذلك على ما يوجد من المخلوقين وذلك لأنّ الرضا والغضب دخال يدخل عليه فينقله من حال إلى حال معتمل مركّب للأشياء فيه مدخل، وخالقنا لا مدخل للأشياء فيه واحد أحديّ الذات وأحديّ المعنى، فرضاه ثوابه وسخطه عقابه، من غير شيء يتداخله فيهيجه وينقله من حال إلى حال فإنّ ذلك صفة المخلوقين العاجزين المحتاجين، وهو تبارك وتعالى القويّ العزيز لا حاجة به إلى شيء م-مّا خلق، وخلقه جميعاً محتاجون إليه إنّما خلق الأشياء لا من حاجة ولا سبب اختراعاً وابتداعاً .(1)

أوضح الإمام(ع) أنّه لا يمكن توصيف الربّ تعالى بصفة المخلوق، ولذا يكون رضاه تعالى ثوابه وغضبه عقابه.

ثمّ لا يخفى أنّ جميع الألفاظ الدالّة على الصفات النفسانيّة في الإنسان كالرحمة والغضب والرأفة والغلظة والحلم والسخاء والكرم والبغض والمودّة والحبّ ونحوها إذا استعملت في الباري تعالى تكون بمعنى الفعل أي يفعل فعل المحبّ والحليم والسخيّ والكريم والرؤوف... وهكذا.

الباب الخامس والعشرون: روح التوحيد

ص: 216


1- التوحيد للصدوق: 1/169 ح3؛ بحارالأنوار : 4/66 ح7.

قال اللّه تعالى: (تَاللّه إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) .(1)

عرفت ممّا سبق أنّ للتوحيد رابطة وثيقة بعدم شباهة اللّه تعالى بالمخلوقات فإنّه ل-مّا كان اللّه تعالى منزّها عن صفات الكائنات، يكون واحدا حقيقة، ولذا يكون من شبّهه تعالى بخلقه مشركا وغير موحّد بالضرورة.

وعرفت أيضا أنّ معرفته تعالى لا تنفكّ عن معرفة توحيده، فمن ادّعى أنّه يعرفه ولكنّه لا يوحّده فما عرف اللّه تعالى بل عرف غيره كما بيّن ذلك مولى الموحّدين الإمام عليّ بن أبي طالب(ع):

* روى العلّامة المجلسي عن نهج البلاغة عن مسعدة بن صدقة عن الإمام الصادق(ع) أنّه قال: فأشهد أنّ من شبّهك بتباين أعضاء خلقك وتلاحم حقاق مفاصلهم المحتجبة لتدبير حكمتك، لم يَعْقد غيبَ ضميره على معرفتك، ول-م يباشرقلبَهُ اليقينُ بأنّه لا ندّ لك، وكأنّه ل-م يسمع تبرّء التابعين من المتبوعين إذ يقولون: (تَاللّه إن كُنّا لَفِي ضَلالٍ مُبينٍ، إِذْ نُسَوّيكُم بِرَبِّ الْعالَمينَ) ، كذب العادلون بك إذ شبّهوك بأصنامهم، ونحلوك حيلة المخلوقين بأوهامهم، وجزّؤوك تجزئة المجسّمات بخواطرهم، وقدّروك على الخلقة المختلفة القوى بقرائح عقولهم، وأشهد أنّ من ساواك بشيء من خلقك فقد عدل بك، والعادل بك كافر بما نزلت به محكمُ آياتك، ونطقت عنه شواهد حجج بيّناتك .(2)

* روى أيضاً عن نهج البلاغة قال(ع): ما وحّده من كيّفه، ولا حقيقته أصاب من مثّله،

ص: 217


1- الشعراء : 97 - 98.
2- نهج البلاغة : 126 الخطبة 91؛ بحارالأنوار: 54/106 ح90.

ولا إيّاه عنى من شبّهه، ولا صَمَدَه من أشار إليه وتوهّمه؛ الخطبة .(1)

نعم، يمكن أن يكون العبد متذّكراً بحقّانيّته تعالى من دون تذكّر بوحدانيّته كما هو المراد - على إحتمال - من قول أميرالمؤمنين(ع) «وكمال معرفته توحيده»(2) إلّا أنّ ذلك نقص في المعرفة ولابدّ من التذكّر بتوحّد الوهيّته وهذا الأمر يختلف اختلافاً تامّاً عن ادّعاء المعرفة به وبأنّه يشبه الخليقة كما هو واضح.

قال اللّه تعالى: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وإِسْماعِيلَ وإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) .(3)

وقال تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّه وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) .(4)

وقال تعالى: (أَجَعَلَ الآْلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) .(5)

وقال تعالى: (بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * قُلْ هُوَ اللّه أَحَدٌ * اللّه الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَد) .(6)

* روى أيضاً عن نهج البلاغة سئل أميرالمؤمنين(ع) عن التوحيد والعدل؟ فقال: التوحيد أن لا تتوهّمه والعدل أن لا تتّهمه .(7)

* روى أيضاً عن أعلام الدين عن الإمام الصادق(ع) لهشام بن الحكم: ألا أعطيك جملة في العدل والتوحيد؟ قال: بلى، جعلت فداك. قال: من العدل أن لا تتّهمه، ومن

ص: 218


1- نهج البلاغة : 272 الخطبة 186؛ بحارالأنوار: 74/310 ح14.
2- الكافي: 1/140 ح6؛ الوافي: 1/438 ح358
3- البقرة : 133.
4- التوبة : 31.
5- ص : 5.
6- التوحيد: 1 - 4.
7- نهج البلاغة: 558 الحكمة 470؛ بحارالأنوار : 5/52 ح86.

التوحيد أن لا تتوهّمه .(1)

أنت ترى أنّ الإمام(ع) بيّن بأنّ المراد من التوحيد هو عدم توهّمه تعالى. والظاهر أنّ الوجه في ذلك هو أنّ التوهّم يوجب شباهة الخالق تعالى بمن يمكن توهّمه، ولذا يكون منافياً للتوحيد.

* روى أيضاً عن داود بن كثير عن يونس بن ظبيان قال: دخلت على الإمام الصادق جعفر بن محمّد8 فقلت: يا ابن رسول اللّه إنّي دخلت على مالك وأصحابه، فسمعت بعضهم يقول: إنّ للّه وجهاً كالوجوه وبعضهم يقول له يدان واحتجوا لذلك بقول اللّه تبارك وتعالى: (بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ)(2) وبعضهم يقول: هو كالشاب من أبناء ثلاثين سنة. فما عندك في هذا يا بن رسول اللّه؟

قال: وكان متكئاً فاستوى جالساً وقال: اللّهم عفوك عفوك، ثمّ قال: يا يونس، من زعم أنّ للّه وجها كالوجوه فقد أشرك، ومن زعم أنّ للّه جوارح كجوارح المخلوقين فهو كافر بالله، فلا تقبلوا شهادته ولا تأكلوا ذبيحته، تعالى اللّه عمّا يصفه المشبّهون بصفة المخلوقين. فوجه اللّه أنبياؤه وأولياؤه، وقوله (خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ) اليد القدرة كقوله (وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ)(3) فمن زعم أنّ اللّه في شيء أو على شيء أو يحول من شيء إلى شيء أو يخلو منه شيء أو يشتغل به شيء، فقد وصفه بصفة المخلوقين، واللّه خالق كلّ شيء، لا يقاس بالقياس، ولا يشبه بالناس، لا يخلو منه مكان، ولا يشتغل به مكان، قريب في بعده، بعيد في قربه، ذلك اللّه ربّنا لا إله غيره. فمن أراد اللّه وأحبّه بهذه الصفة فهو من الموحّدين، ومن أحبّه بغير هذه الصفة، فاللّه منه بريء ونحن منه براء .(4)

هذا الخبر الشريف صريح في أنّ من شبه اللّه تعالى بخلقه فهو مشرك وليس

ص: 219


1- أعلام الدين: 1/318؛ بحارالأنوار : 5/58 ح106.
2- سورة ص: 75.
3- الأنفال: 26.
4- . كفاية الأثر: 1/255؛ بحارالأنوار : 3/287 ح2.

بموحّد، ولكن من عرفه منزّهاً عن صفة المخلوقين فهو من الموحّدين.

* روى الكليني عن سهل عن إبراهيم بن محمّد الهمذانيّ قال: كتبت إلى الرجل(ع)، أنّ من قبلنا من مواليك قد اختلفوا في التوحيد، فمنهم من يقول جسم ومنهم من يقول صورة. فكتب(ع) بخطّه: سبحان من لا يحدّ ولا يوصف ليس كمثله شيء وهو السميع العليم، أو قال البصير .(1)

* روى الصدوق عن المعافى بن عمران عن إسرائيل عن المقدام بن شريح بن هاني عن أبيه قال: إنّ أعرابيّاً قام يوم الجمل إلى أميرالمؤمنين(ع) فقال: يا أميرالمؤمنين أتقول إنّ اللّه واحد؟ قال: فحمل الناس عليه وقالوا: يا أعرابيّ أما ترى ما فيه أميرالمؤمنين من تقسّم القلب؟!

فقال أمير المؤمنين(ع): دعوه فإنّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم. ثمّ قال: يا أعرابيّ إنّ القول في أنّ اللّه واحد على أربعة أقسام: فوجهان منها لا يجوز على اللّه عزّوجلّ ووجهان يثبتان فيه، فأمّا اللذان لا يجوزان عليه، فقول القائل واحد يقصد به باب الأعداد، فهذا ما لا يجوز لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد. أما ترى أنّه كفر من قال إنّه ثالث ثلاثة. وقول القائل هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس فهذا ما لا يجوز لأنّه تشبيه وجلّ ربّنا وتعالى عن ذلك. وأمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه، فقول القائل هو واحد ليس له في الأشياء شبه كذلك ربّنا، وقول القائل إنّه عزّوجلّ أحديّ المعنى يعني به أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم، كذلك ربّنا عزّوجلّ .(2)

هذا الخبر الشريف صريح في أنّه تعالى ليس واحداً عدديّاً لاستلزامه التشبيه بالخلق فمن كان واحداً بالعدد كان له ثان أو أمكن أن يكون له ثان ولكنّه تعالى منزّه عن كلّ شبه. والمراد من وحدانيّته تعالى هو أنّه واحد ليس له شبيه وأنّه أحديّ المعنى لا يمكن تقسيمه وتجزئته ولو في الوهم والعقل.

ص: 220


1- الكافي : 1/102 ح5؛ بحارالأنوار: 3/294 ح17.
2- الخصال: 1/2 ح1؛ بحارالأنوار : 3/206 ح1.

فالموحّد هو من يكون في توحيده موحّداً بمعنى أنّ الوحدة الثابتة له تعالى غير الوحدة المستعملة في الخلق.

* روى الكليني عن عبدالأعلى عن أبي عبدالله(ع) قال: اسم اللّه غيره وكلّ شيء وقع عليه اسم شيء، فهو مخلوق ما خلا الله، فأمّا ما عبّرته الألسن أو عملت الأيدي فهو مخلوق واللّه غاية من غاياته، والمغيّا غير الغاية، والغاية موصوفة وكلّ موصوف مصنوع، وصانع الأشياء غير موصوف بحدّ مسمّى، ل-م يتكوّن فيعرف كينونيّته بصنع غيره، ول-م يتناه إلى غاية إلّا كانت غيره، لا يزلّ من فهم هذا الحكم أبداً وهو التوحيد الخالص فارعوه وصدّقوه وتفهّموه بإذن الله. من زعم أنّه يعرف اللّه بحجاب أو بصورة أو بمثال، فهو مشرك لأنّ حجابه ومثاله وصورته غيره، وإنّما هو واحد متوحّد فكيف يوحّده من زعم أنّه عرفه بغيره وإنّما عرف اللّه من عرفه بالله، فمن لم يعرفه به فليس يعرفه إنّما يعرف غيره ليس بين الخالق والمخلوق شيء واللّه خالق الأشياء لا من شيء كان، واللّه يسمّى بأسمائه، وهو غير أسمائه، والأسماء غيره .(1)

الظاهر من هذا الخبر الشريف هو أنّ الإقرار بأنّه تعالى غير موصوف بحدّ وتنزيهه تعالى عن صفة الخليقة من التوحيد الخالص.

* قال الإمام أبو جعفر(ع): الأحد الفرد المتفرّد والأحد والواحد بمعنى واحد، وهو المتفرّد الذي لا نظير له، والتوحيد الإقرار بالوحدة وهو الإنفراد، والواحد المتبائن الذي لا ينبعث من شيء ولا يتّحد بشيء، إلى أن قال(ع): فمعنى قوله: (اللّه أَحَد)(2) المعبود الذي يأله الخلق عن إدراكه والإحاطة بكيفيّته، فرد بإلهيّته متعالي عن صفة خلقه .(3)

أقول: كلام الإمام(ع) صريح في أنّ المراد من الواحد هو الفرد الذي لا نظير له، وهذا يقتضي عدم شباهته بالخلق.

ص: 221


1- الكافي : 1/113 ح4؛ بحارالأنوار: 4/160 ح6.
2- التوحيد: 2.
3- التوحيد للصدوق: 90.

فتحصّل من ذلك أنّ المراد من التوحيد هو الإقرار بأنّه تعالى فرد لا نظير له ولاشبيه، فإطلاق الواحد عليه لا يكون من باب الواحد من العدد بل هو تعالى واحد حقيقة لا عدداً.

الباب السادس والعشرون: التوحيد ونفي الآلهة

ص: 222

إلى هنا انتيهنا من بيان ما يمكن استفادته من كلام اللّه تعالى وكلام حملة الوحي: في التذكير بمعرفة اللّه ومعرفة كمالاته وأمّا العلوم البشريّة والمعارف المستوحاة من فلاسفة اليونان فهي لا تزيد العبد إلّا بُعداً من ربّه وضلالاً وتيهاً عن الحقّ إذ ليست إلّا اقتباس أضاليل من ضلّال و جهائل من جهّال وقد عرفت نتائج أفكار من تنحّى عن القرآن الكريم وحمتله: في باب معرفة اللّه تعالى فإنّه يسلك مسالك توصله إلى ادعاء العينيّة بين الخالق و مخلوقاته أو ادعاء السنخيّة بينهما وهذه الأقوال ونظائرها منافية للعقل والنصوص الصريحة المبيّنة لبينونته تعالى عن خليقته.

وأمّا المتكلّمون فقد أقاموا عدّة من البراهين على وحدة الصانع المتعال، منها برهان التمانع، وبرهان النظم، وبرهان الفرجة. ولا شكّ أنّ برهان التمانع يغاير برهانَ النظم وهما يغايران برهان الفرجة إلّا أنّ الكلام في المقام يدور حول إمكان استفادة هذه البراهين من الآيات والأخبار كما استفادوه. فإنّ الظاهر أنّه لا يمكن المساعدة على جميع ما استفاده المتكلّمون من الأدلّة كما ستعرف، بل إنّ الظاهر منها أنّ عدم الفساد في العالم قد يكون ناشئاً من عدم التمانع، وقد يكون ناشئا من الحكمة، وقد يكون ناشئا من تهيئة ما يحتاجه المخلوق. فعدم الفساد والنظم يدلّ على التوحيد من جهة عدم التمانع ومن جهة حكمة الخالق تعالى ومن جهة تهيئته لجميع ما يحتاجه الخلق، فتأمّل جيّداً.

ص: 223

النظم واتصال التدبير دليل على الصانع الواحد

قال اللّه تعالى: (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللّه لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللّه ربّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَلا يُسْئَلُ عَمَّا يُفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون) .(1)

* روى الصدوق عن محمّد بن أبي عمير عن هشام بن الحكم قال: قلت للإمام أبي عبدالله(ع): ما الدليل على أنّ اللّه واحد؟

قال(ع):اتّصال التدبير وتمام الصنع كما قال عزّوجلّ (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللّه لَفَسَدَتا) .(2)

من الواضح أنّه ليس المراد من الآية المباركة بيان فساد عالم التكوين عند فقدان معيّة اللّه تعالى مع الآلهة، بل المراد أنّه لو كان في عال-م التكوين آلهة غي-ر اللّه تعالى - أي الشيء بحقيقة الشيئيّة المتحيّر فيه والذي هو علم لا جه-ل في-ه وقدرة لا عجز فيه - لفسد العالم وتفطّر. ول-مّا رأينا تمام الصنع بلا خلل، واتصال التدبير للكائنات بحيث نجد الكون كسلسلة متصلة أشدّ الاتصال، عرفنا أنّ الخالق والرازق والربّ واحد وهو اللّه تعالى الذي هو علم لا جهل فيه وقدرة لا عجز فيه، وعليه لا يعقل أن يكون المدبّر لعالم التكوين كائناً غير متّصف بصفات الكمال الإلٰهيّة.

و بعبارة ثانية: الظاهر أنّ المراد من الآية المباركة - بقرينة الخبر الشريف - هو أنّه لو كان في السماء والأرض آلهة غير الربّ الذي هو عين العلم وعين الكمال ومتولّه فيه وملجأ إليه، المعروف عند كلّ أحد بما عرّف نفسه القدّوس، لفسدتا وتفطّرتا لعدم أهليّة غير الخالق لإدارة العالم. فعدم فساد العالم يدلّ على أمرين:

الأوّل: وحدانيّة الربّ تعالى لاستلزام التعدّد التضارب في الآراء ذلك أنّ الفعل الحسن لا ينحصر - بحسب الغالب - في صورة واحدة. فكما أنّه حسن أن يتعامل مع

ص: 224


1- . الأنبياء : 22 - 23.
2- التوحيد للصدوق: 1/250 ح2؛ بحارالأنوار : 3/229 ح19.

المذنب بعدله، كذلك عفوه عنه بفضله حسن، فتأمّل جيّداً. ويدلّ على ذلك قوله تعالى: (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ)(1) فله تعالى أن يرحم من يشاء بما يشاء كيف يشاء ويعذّب من يشاء بما يشاء كيف يشاء، لا يسئل عن فعله ولا ينازع في أمره. كما أنّه يدلّ عليه قوله تعالي حكاية عن قول النبيّ عيسى(ع): (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزيزُ الْحَكيمُ)(2) فلاحظ الخبر التالي:

* روى الصدوق عن عمرو بن شمر عن جابر بن يزيد الجعفي قال: قلت للإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر(ع): يا ابن رسول الله، إنّا نرى من الأطفال من يولد ميّتاً، ومنهم من يسقط غير تامّ، ومنهم من يولد أعمى أو أخرس أو أصمّ، ومنهم من يموت من ساعته إذا سقط على الأرض، ومنهم من يبقى إلى الإحتلام، ومنهم من يعمر حتى يصير شيخاً، فكيف ذلك وما وجهه؟

فقال(ع): إنّ اللّه تبارك وتعالى أولى بما يدبّره من أمر خلقه منهم، وهو الخالق والمالك لهم، فمن منعه التعمير فإنّما منعه ما ليس له، ومن عمّره فإنّما أعطاه ما ليس له، فهو المتفضّل بما أعطاه، وعادل في ما منع، ولا يسئل عمّا يفعل وهم يسألون.

قال جابر فقلت له: يا ابن رسول الله، وكيف لا يسئل عمّا يفعل؟

قال: لأنّه لا يفعل إلّا ما كان حكمة وصواباً وهو المتكبّر الجبّار والواحد القهّار، فمن وجد في نفسه حرجاً في شي ء ممّا قضى اللّه فقد كفر، ومن أنكر شيئاً من أفعاله جحد . (3)

والوجه في ذلك ما ذكرناه من عدم انحصار الحُسْن في طرف واحد بل له أن يغفر وله أن لا يغفر وله أن يخلق وله أن لا يخلق.

والحاصل: لمّا لم تكن الحكمة منحصرة في وجه واحد لا يجوز السؤال من اللّه تعالى عن العلّة في اختيار طرف على الآخر، إذ كما أنّه لو غفر لشخص كان ذلك

ص: 225


1- الأنبياء: 23.
2- المائدة: 118.
3- التوحيد للصدوق: 397 ح13؛ تفسير كنز الدقائق: 8/339.

الفعل حكيما كذلك لو عذّبه بسبب ذنبه عدلاً يكون ذلك حكمة وصواباً وكذا لا يُسأل عن فعله في اختيار طرف على الآخر إذ كلا الطرفين حكيمان لا يعتريهما النقص وللّه تعالى السلطنة والرأي في اختيار ما شاء كيف شاء.

الثاني: أنّ الخالق الواحد لا يمكن أن يكون فاقداً للكمالات اللائقة بمقام الربوبيّة، فلابدّ للربّ تعالى من أن يكون علماً لا جهل فيه، وقدرة لا عجز فيه.

ففقدان أحد الأمرين يستلزم فساد السماوات والأرض.

و بعبارة أوضح: إنّ الآية المباركة بصدد بيان نفي الآلهة الفاقدة للشؤون الربوبيّة التي اتّخذها بعض الخلق آلهة. فإذا كان من المقرّر أن يكون في عالم التكوين آلهة غير اللّه تعالى، لفسد العالم لعدم أهليّة تلك الآلهة لإدارة شؤون التكوين لفقدانها الكمالات الإلهيّة، هذا بحسب ظاهر الآية المباركة.

وأمّا بحسب خبر الإمام الصادق(ع) الذي استدلّ فيه الإمام(ع) على وحدة الخالق من جهة اتصال التدبير بالآية المباركة، فتكون الآية المباركة دالّة على وحدانيّة الربّ تعالى من جهة وحدة التدبير وتمام الصنع.

و يمكن أن يقال بأنّ المراد من الآية المباركة هو كلا الأمرين، ذلك أنّ وحدة التدبير وتمام الصنع يدلّان على وحدة الخالق واتصافه بشؤون الربوبيّة من العلم والقدرة الذاتيّين، واللّه تعالى العالم بكلامه.

* قال أميرالمؤمنين(ع) في خبر أخذنا منه موضع الحاجة: أمّا الردّ على الثنويّة من الكتاب، فقوله عزّوجلّ: (مَا اتَّخَذَ اللّه مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ ولَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللّه عَمَّا يَصِفُونَ)(1) فأخبر اللّه تعالى أن لو كان معه آلهة لانفرد كلّ له منهم بخلقه ولأبطل كلّ منهم فعل الآخر وحاول منازعته، فأبطل تعالى إثبات إلهين خلّاقين بالممانعة وغيرها. ولو كان ذلك لثبت الاختلاف وطلب كلّ إله أن يعلو على

ص: 226


1- المؤمنون: 91.

صاحبه، فإذا شاء أحدهم أن يخلق إنساناً وشاء الآخر أن يخلق بهيمة، اختلفا وتباينا في حال واحد واضطرّهما ذلك إلى التضادّ والاختلاف والفساد، وكلّ ذلك معدوم وإذا بطلت هذه الحال كذلك ثبت الوحدانيّة بكون التدبير واحداً والخلق متّفق غير متفاوت والنظام مستقيم. وأبان سبحانه لأهل هذه المقالة ومن قاربهم أنّ الخلق لا يصلحون إلّا بصانع واحد فقال: (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلّا اللّه لَفَسَدَتا) ثمّ نزّه نفسه فقال: (سُبْحانَ اللّه عَمَّا يَصِفُونَ)(1) والدليل على أنّ الصانع واحد حكمة التدبير وبيان التقدير؛ الخبر .(2)

أقول: إنّ كلام الإمام(ع) يدلّ على أنّ المراد من الآية المباركة هو بيان الوحدانيّة للربّ ذي الشؤون الإلٰهيّة كما لا يخفى والدليل على ذلك هو انتظام العالم وعدم فساده.

قال شيخنا المحقّق آية اللّه محمّد باقر الملكيّ1:

قال المولى العلّامة الطبرسي: «ومعناه: لو كان ف-ي السماء والأرض آلهة سوى اللّه، لفسدتا وما استقامتا وفسد من فيهما ولم ينتظم أمرهم، وهذا هو دليل التمانع الذي عليه المتكلّمون ف-ي مسألة التوحيد. وتقرير ذلك أنّه لو كان مع اللّه سبحانه إله آخر لكانا قديمين والقدم من أخصّ الصفات فالإشتراك فيه يوجب التماثل». أقول: دلالة الآية على برهان التمانع غير واضح فإنّ موضوع برهان التمانع فرض وجود إله مع اللّه والمفروض ف-ي الآية الكريمة كون الآلهة من دون اللّه لا معه. فإن «إلّا» بمعنى الغير. فالمعنى: لو كان فيهما آلهة غير اللّه لفسدتا. قال ابن هشام ف-ي معاني إلّا: «الثاني أن تكون صفة بمنزلة «غير» فيوصف بها وبتاليها جمع منكر أو شبهه. فمثال الجمع المنكر: (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلّا اللّه لَفَسَدَتا) فلا يجوز ف-ي «إلّا» هذه أن تكون للاستثناء من جهة المعنى. إذ

ص: 227


1- الأنبياء: 22.
2- . بحارالأنوار : 90/35.

التقدير حينئذ: لو كان فيهما آلهة ليس فيهم اللّه، لفسدتا. وذلك يقتضي بمفهومه أنّه لو كان فيهما آلهة فيهم اللّه، لم تفسدا. وليس ذلك المراد. فعلى هذا فالآية الكريمة نصّ ف-ي نفي الآلهة سوى اللّه تعال-ى واختصاص الألوهية به سبحانه. روى الصدوق مسنداً عن هشام بن الحكم قال: قلت لأبي عبداللّه(ع): ما الدليل على أنّ اللّه واحد؟ قال: اتصال التدبير وتمام الصنع. كما قال عزّ وجلّ: (لَوْ كانَ فِيهِما آلِ-هَةٌ إِلّا اللّه لَفَسَدَتا). أقول: إتقان النظم وإحكام الصنع تذكرة وهداية إل-ى اللّه سبحانه، فيرتفع الغفلات والنسيان فيتعرف سبحانه إل-ى عباده متوحّداً خارجاً عن الحدّين، كما استقصينا الكلام ف-ي ما تقدّم. قال مولانا الحسين بن علي صلوات اللّه عليهما ف-ي دعائه يوم عرفة: الحمد للّه الذي لم يتخذ ولداً فيكون موروثاً، ولم يكن له شريك ف-ي الملك فيضادّه ف-ي ما ابتدع، ولا وليّ من الذلّ فيرفده ف-ي ما صنع. سبحانه. سبحانه. سبحانه. لو كان فيهما آلهة إلّا اللّه لفسدتا وتفطّرتا. أقول قوله(ع): سبحانه -- ثلاث مرّات -- الظاهر أنّه تنزيه للّه سبحانه عن اتخاذ الولد وكونه موروثاً، وأن يكون له شريك ف-ي ملكه مضادّ له ف-ي ملكه، وأن يحتاج إل-ى معاونة الغير وعطائه .(1)

أقول: ومن مجموع ما ذكرناه يُعلم بطلان ما بيّنه مصنّف الميزان في دلالة الآية وإليك نصّ عبارته:

قد تقدّم ف-ي تفسير سورة هود وتكرّرت الإشارة إليه بعده أن النزاع بين الوثنيّين والموحّدين ليس ف-ي وحدة الإله وكثرته بمعنى الواجب الوجود الموجود لذاته الموجد لغيره فهذا ممّا لا نزاع ف-ي أنّه واحد لا شريك له، وإنّما النزاع ف-ي الإله بمعنى الربّ المعبود والوثنيّون على أنّ تدبير العالم على طبقات أجزائه مفوّضة إلى موجودات شريفة مقرّبين عند اللّه ينبغي أن يعبدوا حتى يشفعوا لعبادهم عند اللّه ويقرّبوهم إليه زلفى كربّ السماء

ص: 228


1- وحيد الإماميّة : 201 - 202.

وربّ الأرض وربّ الإنسان وهكذا وهم آلهة من دونهم واللّه سبحانه إله الآلهة وخالق الكلّ كما يحكيه عنهم قوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّه)(1) وقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيز الْعَلِيم)(2) . والآية الكريمة إنّما تنفي الآلهة من دون اللّه ف-ي السماء والأرض بهذا المعنى لا بمعنى الصانع الموجد الذي لا قائل بتعدّده .(3)

إذ الآية المباركة تشير إلى بطلان النظام وفساده في فرض تعدّد الآلهة فلو كان هناك آلهة تتصف بصفات الألوهيّة - الاختيار والقدرة والعلم والسطلة المطلقة الذي لا يُعقل أن تكون إلّا في الإله الواحد - لفسد العالم. فليس الكلام حول آلهة العبادة الذين كان يزعم بعض المشركين بتقرّبهم إلى اللّه بهم، بل الكلام حول فساد النظام لو كان هناك عدّة آلهة لما عرفت ول-مّا ل-م نرَ الفساد عرفنا أنّ اللّه تعالى واحد.

عدم التمانع وضرورة كون الخالق المتعال عين الكمعدم التمانع وضرورة كون الخالق المتعال عين الكمال والقدرة وكونه تعالى ذا رأي ومشيّة دليل على الصانع الواحد:

قال اللّه تعالى:(مَا اتَّخَذَ اللّه مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ ولَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللّه عَمَّا يَصِفُونَ) .(4)

* روى الكليني عن عباس بن عمرو الفقيمي عن هشام بن الحكم في حديث الزنديق الّذي أتى الإمام أباعبدالله(ع) وكان من قول أبي عبدالله(ع): لا يخلو قولك إنّهما اثنان من أن يكونا قديمين قويّين، أو يكونا ضعيفين، أو يكون أحدهما قويّاً والآخر ضعيفاً. فإن كانا قويّين، فلم لا يدفع كلّ واحد منهما صاحبه ويتفرّد بالتّدبير. وإن زعمت أنّ أحدهما قويٌّ

ص: 229


1- الزخرف: 87.
2- الزخرف: 9.
3- الميزان: 14/266.
4- . المؤمنون: 91.

والآخر ضعيف، ثبت أنّه واحد كما نقول للعجز الظاهر في الثاني. فإن قلت إنّهما اثنان، ل-م يخل من أن يكونا متّفقين من كلّ جهة أو مفترقين من كلّ جهة. فلمّا رأينا الخلق منتظماً، والفلك جارياً، والتدبير واحداً، والليل والنهار والشمس والقمر، دلّ صحّة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أنّ المدبّر واحد؛ الخبر .(1)

أقول: بيّن الإمام(ع) أنّ القول بإلهين لم يخل من كونهما ضعيفين معاً، ومن الواضح بطلان ذلك لأنّ الإله لابدّ وأن يكون قويّاً غنيّاً بالذات أو أن يكون أحدهما قويّاً والآخر ضعيفاً، ومن المعلوم أنّ القويّ هو الإله دون الضعيف. أو أن يكون كلاهما قويّين على الإطلاق، وبناء على ذلك لابدّ من أن يكون كلّ منهما قادراً على دفع الآخر والتفرّد في التدبير.

ثمّ إنّه لو كانا إلهين، لاستوجب ذلك إمّا أن يكونا متّفقين من كلّ جهة وإمّا مختلفين من كلّ جهة.

أمّا الأوّل فواضح البطلان لأنّ من شؤون الربّ أن يكون ذا رأي وإرادة ومشيّة، ول-مّا كان الحسن في الأفعال غير منحصر في فعل واحد - فإنّ حسن العدل وحسن الفضل لا يخفى على العقلاء، فكما يحسن أن يتعامل الربّ بعدله مع المذنب كذلك يحسن أن يتعامل بفضله معه فيغفر له - فلا محالة يقع التعارض بين رأييهما في أكثر الموارد، ولذا يكون انتظام الخلق وجريان الفلك والتدبير الواحد دليلاً على الخالق الواحد فلاحظ الخبر السابق المرويّ عن أميرالمؤمنين(ع) في الردّ على الثنويّة .(2)

وفي بيان الخبر نقول: أنّ الإمام(ع) أشار إلى أنّ عدم الفساد في العال-م يدلّ على وحدة الصانع إذ تعدّده يستلزم الفساد وإبطال كلّ واحد منهم أمر الآخر وانفراد كلّ واحد منهم بالخلق والمنازعة بينهما وعلوّ كلّ واحد على صاحبه... وهكذا.

وأمّا انطباق هذه الآية المباركة على برهان التمانع المعروف عند المتكلّمين، فقد

ص: 230


1- الكافي : 1/80 ح5؛ بحارالأنوار: 10/194 ح3.
2- بحارالأنوار: 90/35.

أفاد شيخنا المحقّق آية اللّه محمّد باقر الملكيّ1 عدم امتناع انطباق الآية عليه إلّا أنّ الأظهر هو أنّ من شأن القادر المطلق بالذات أن يكون مالكا وقادرا على الإله الذي في مقابله وعلى جميع ما يقدر عليه ويملكه، وإن ل-م يكن قادرا ومالكا عليه فليس بقادر ومالك على الإطلاق فيكون دليلا قطعيّا على توحيد صانع العال-م ونفي الآلهة الأخرى دونه جلّ ثناؤه وإليك نصّ عبارته:

الآية الكريمة مسوقة لبيان التوحيد ونفي الشريك. فإنّ صريح الآية فرض إله آخر معه سبحانه. قوله تعال-ى: (إِذاً لَذَهَبَ كُلّ إِله...).

ذكر المفسّرون ف-ي تفسير أنّه لابدّ من تمييز كلّ إله ما خلقه من خلقه من حيث تدبيره ف-ي خلقه وتصرّفه ف-ي كلّ شأن من شؤونه إيجاداً وإبقاءً وتدبيراً وإصلاحاً وغير ذلك. وذكروا أيضاً وقوع التغالب والتمانع بينهما بمعنى عدم المانع التكوينيّ ل-من يريد الغلبة منهما. فاتصال التدبير وانتظام العالم دليل وشاهد على عدم التمايز والتغالب والتمانع.

والآية الكريمة لا تأبى عن انطباقها على برهان التمانع الذي أوردناه عن المجمع ف-ي تفسير قوله تعال-ى: (لَوْ كانَ فيهِما آلِ-هَةٌ...) وأمّا كون الغرض المسوق له الآية هو برهان التمانع، فغير معلوم، لإمكان أن يقال: إنّ من شأن القادر المطلق بالذات أن يكون مالكاً وقادراً على الإله الذي ف-ي مقابله وعلى جميع ما يقدر عليه ويملكه. وإن لم يكن قادراً ومالكاً عليه، فليس بقادر ومالك على الإطلاق. فيكون دليلاً قطعيّاً على توحيد صانع العالم ونفي الآلهة الأخرى دونه جلّ ثناؤه.

قال الطبرسي: (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِله). «من» هاهنا وف-ي قوله: (من ولده) مؤكّدة. فهو آكد من أن يقول: ما اتّخذ اللّه ولداً وما كان معه إله. نفى عن نفسه الولد والشريك على آكد الوجوه. (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِماخَلَقَ). والتقدير: إذ لو كان معه إله آخذ، لذهب كلّ إله بما خلق، أي: لميّز كلّ إله

ص: 231

خلقه عن خلق غيره ومنعه من الاستيلاء على ما خلقه، أو نصب دليلاً يميز به بين خلقه وخلق غيره. فإنّه كان لا يرضى أن يضاف خلقه وإنعامه إل-ى غيره. (وَلَعَلا بَعْضَهُم عَلى بَعْضٍ)، أي: ولطلب بعضهم قهر بعض ومغالبته. وهذا معنى قول المفسّرين: ولقاتل بعضهم بعضاً كما يفعل الملوك ف-ي الدنيا.

وقيل: معناه: ولمنع بعضهم بعضاً عن مراده. وهو مثل قوله: (لَوْ كانَ فِيهِما آلِ-هَةٌ إِلَّا اللّه لَفَسَدَتا). وف-ي هذا دلالة عجيبة ف-ي التوحيد وهو أنّ كلّ واحد من الآلهة من حيث يكون إلهاً، يكون قادراً لذاته فيؤدّي إل-ى أن يكون قادراً على كلّ ما يقدر عليه غيره من الآلهة، فيكون غالباً ومغلوباً من حيث إنّه قادر لذاته.

وأيضاً فإنّ من ضرورة كلّ قادرين صحّة التمانع بينهما. فلو صحّ وجود إلهين، صحّ التمانع بينهما من حيث إنّهما قادران، وامتنع التمانع بينهما من حيث إنّهما قادران للذّات. وهذا محال. وف-ي هذا الدلالة على إعجاز القرآن، لأنّه لا يوجد ف-ي كلام العرب كلمة وجيزة تضمّنت ما تضمّنته هذه. فإنّها قد تضمّنت دليلين باهرين على وحدانيّة اللّه وكمال قدرته. انتهى. لعلّ ما ذكرناه أظهر ممّا ذكره ف-ي المجمع واللّه العالم بحقيقة كلامه .(1)

وتبيّن من مجموع ذلك دلالة الآية المباركة بقرينة الأخبار على بطلان فكرة تعدّد الآلهة ببيان أنّ التعدّد يوجب الفساد واستعلاء واحد على الآخر واللّه تعالى لابدّ أن يكون قادراً على الإطلاق وعليه لا وجه ل-مّا بيّنه مصنّف الميزان في الآية - من أنّ الآية لا تدلّ على نفي الآلهة بمعنى الربّ الخالق إذ لا قائل بهذه المقالة - إذ دلالة الآية واضحة على المراد ولا يعتريها الريب فلاحظ ما بيّنه صاحب الميزان:

وقوله : (إذاً لَذَهَبَ كُلّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) حجّة على نفي التعدّد ببيان

ص: 232


1- توحيدالإماميّة : 203.

محذوره إذ لا يتصوّر تعدّد الآلهة إلّا ببينونتها بوجه من الوجوه بحيث لا تتّحد ف-ي معنى ألوهيتها وربوبيّتها، ومعنى ربوبيّة الإله ف-ي شطر من الكون ونوع من أنواعه تفويض التدبير فيه إليه بحيث يستقل ف-ي أمره من غير أن يحتاج فيه إلى شيء غير نفسه حتى إلى من فوّض إليه الأمر، ومن البيّن أيضاً أنّ المتباينين لا يترشّح منهما إلّا أمران متباينان.

ولازم ذلك أن يستقل كلّ من الآلهة بما يرجع إليه من نوع التدبير وتنقطع رابطة الاتحاد والاتصال بين أنواع التدابير الجارية ف-ي العالم كالنظام الجاري ف-ي العالم الإنساني عن الأنظمة الجارية ف-ي أنواع الحيوان والنبات والبرّ والبحر والسهل والجبل والأرض والسماء وغيرها وكلّ منها عن كلّ منها، وفيه فساد السماوات والأرض وما فيهنّ، ووحدة النظام الكونيّ والتئام أجزائه واتصال التدبير الجاري فيه يكذبه. وهذا هو المراد بقوله: (إِذاً لَذَهَبَ كُلّ إِله بِما خَلق) أي انفصل بعض الآلهة عن بعض بما يترشّح منه من التدبير.

وقوله: (وَلَعَلا بَعْضهم عَلى بَعْضٍ) محذور آخر لازم لتعدّد الآلهة تتألّف منه حجة أخرى على النفي، بيانه أنّ التدابير الجارية ف-ي الكون مختلفة منها التدابير العرضية كالتدبيرين الجاريين ف-ي البرّ والبحر والتدبيرين الجاريين ف-ي الماء والنار، ومنها التدابير الطولية التي تنقسم إلى تدبير عام كلّي حاكم وتدبير خاص جزئي محكوم كتدبير العالم الأرضي وتدبير النبات الذي فيه، وكتدبير العالم السماوي وتدبير كوكب من الكواكب التي ف-ي السماء، وكتدبير العالم المادي برمته وتدبير نوع من الأنواع المادية.

فبعض التدبير وهو التدبير العام الكلي يعلو بعضاً بمعنى أنّه بحيث لو انقطع عنه ما دونه بطل ما دونه لتقوّمه بما فوقه، كما أنّه لو لم يكن هناك عالم أرضي أو التدبير الذي يجري فيه بالعموم لم يكن عالم إنساني ولا التدبير الذي يجري فيه بالخصوص.

ص: 233

ولازم ذلك أن يكون الإله الذي يرجع إليه نوع عال من التدبير عالياً بالنسبة إلى الإله الذي فوّض إليه من التدبير ما هو دونه وأخصّ منه وأخسّ واستعلاء الإله على الإله محال.

لا لأنّ الاستعلاء المذكور يستلزم كون الإله مغلوباً لغيره أو ناقصاً ف-ي قدرته محتاجاً ف-ي تمامه إلى غيره أو محدوداً والمحدودية تفضي إلى التركيب، وكلّ ذلك من لوازم الامكان المناف-ي لوجوب وجود الإله فيلزم الخلف -- كما قرّره المفسرون -- فإنّ الوثنيين لا يرون لآلهتهم من دون اللّه وجوب الوجود بل هي عندهم موجودات ممكنة عالية فوّض إليهم تدبير أمر ما دونها، وهي مربوبة للّه سبحانه وأرباب لما دونها واللّه سبحانه ربّ الأرباب وإله الآلهة وهو الواجب الوجود بالذات وحده.

بل استحالة الاستعلاء إنّما هو لاستلزامه بطلان استقلال المستعلى عليه ف-ي تدبيره وتأثيره إذ لا يجامع توقف التدبير على الغير والحاجة إليه الاستقلال فيكون السافل منها مستمداً ف-ي تأثيره محتاجاً فيه إلى العالي فيكون سبباً من الأسباب التي يتوسّل بها إلى تدبير ما دونه لا إلهاً مستقلاً بالتأثير دونه فيكون ما فرض إلهاً غير إله بل سبباً يدبّر به الأمر هذا خلف.

هذا ما يعطيه التدبر ف-ي الآية، وللمفسرين ف-ي تقرير حجة الآية مسالك مختلفة يبتني جميعها على استلزام تعدد الآلهة أموراً تستلزم إمكانها وتناف-ي كونها واجبة الوجود فيلزم الخلف، والقوم لا يقولون ف-ي شيء من آلهتهم من دون اللّه بوجوب الوجود، وقد أفرط بعضهم فقرّر الآية بوجوده مؤلّفة من مقدمات لا إشارة ف-ي الآية إلى جلّها ولا إيهام، وفرط آخرون فصرّحوا بأنّ الملازمة المذكورة ف-ي الآية عادية لا عقلية، والدليل إقناعي لا قطعي.

ثمّ لا يشتبهنّ عليك أمر قوله : (لذهب كلّ إله بما خلق) حيث نسب الخلقة إليها وقد تقدّم أنّهم قائلون بإله التدبير دون الايجاد وذلك لأنّ بعض

ص: 234

الخلق من التدبير فإنّ خلق جزئي من الجزئيات ممّا يتمّ بوجوده النظام الكلي من التدبير بالنسبة إلى النظام الجاري فالخلق بمعنى الفعل والتدبير مختلطان وقد نسب الخلق إلى أعمالنا كما ف-ي قوله:(وَاللّه خَلَقَكُمْ وَما تَعملون)(1) ، وقوله : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعام ما تركبون) .(2)

فالقوم يرون أنّ كلاّ من الآلهة خالق لما دونه أي فاعل له كما يفعل الواحد منّا أفعاله، وأمّا إعطاء الوجود للأشياء فممّا يختصّ باللّه سبحانه وحده لا يرتاب فيه موحد ولا وثني إلّا بعض من لم يفرق بين الفعل والايجاد من المتكلمين.

وقد ختم الآية بالتنزيه بقوله: (سُبْحانَ اللّه عَمّا يَصِفُون) .(3)

برهان الفرجة دليل نقضيّ على وحدة الصانع

* قال الإمام الصادق(ع) في الخبر عن هشام بن الحكم في حديث الزنديق الذي أتى أباعبدالله(ع): ثمّ يلزمك إن ادّعيت اثنين فرجة ما بينهما حتى يكونا اثنين فصارت الفرجة ثالثاً بينهما قديماً معهما فيلزمك ثلاثة، فإن ادّعيت ثلاثة لزمك ما قلت في الاثنين حتى تكون بينهم فرجة فيكونوا خمسة، ثمّ يتناهى في العدد إلى ما لا نهاية له في الكثرة؛ الخبر .(4)

أقول: بيّن الإمام الصادق(ع) بأنّ القول بالإثنينيّة يستوجب تعدّد الآلهة إلى ما لا نهاية لاستلزام التعدّد لثبوت الفرجة بين كلّ منهما فتكون

ص: 235


1- الصافات: 96.
2- الزخرف: 12.
3- تفسير الميزان: 15/62.
4- الكافي : 1/80 ح5؛ بحارالأنوار: 10/194 ح3.

الفرجة قديما أيضا وثبوت الفرجة القديمة بين كلّ إله وآخر يستلزم التسلسل إذ لابدّ حينئذ من فرجة أخرى بين الفرجة القديمة والإلهين وهكذا.

و الحاصل أنّه يستفاد من انتظام العالم ووحدة التدبير وحدانيّة الربّ تعالى.

تهيئة ما يحتاجه المخلوق دليل على وحدة الصانع

* قال الإمام الصادق(ع) للمفضّل بن عمر: يا مفضّل، أوّل العبر والأدلة على البارئ جلّ قدسه تهيئة هذا العالم وتأليف أجزائه ونظمها على ما هي عليه. فإنّك إذا تأمّلت العال-م بفكرك، وميّزته بعقلك، وجدته كالبيت المبنيّ المعدّ فيه جميع ما يحتاج إليه عباده، فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض ممدودة كالبساط، والنجوم منضودة كالمصابيح، والجواهر مخزونة كالذخائر، وكلّ شيء فيها لشأنه معدّ، والإنسان كالمملّك ذلك البيت والمخوّل جميع ما فيه، وضروب النبات مهيأة ل-مآربه، وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه ومنافعه، ففي هذا دلالة واضحة على أنّ العالم مخلوق بتقدير وحكمة ونظام وملائمة، وأنّ الخالق له واحد، وهو الذي ألّفه ونظّمه بعضاً إلى بعض، جلّ قدسه وتعالى جدّه وكرم وجهه ولا إله غيره، تعالى عمّا يقول الجاحدون، وجلّ وعظم عمّا ينتحله الملحدون؛ الخبر .(1)

أقول: كلام الإمام(ع) تذكير بوحدة الصانع المتعال من حيث تهيئة ما يحتاجه المخلوق، فلمّا رأينا كلّ ما يحتاجه المخلوق معدّا له علمنا أنّ الخالق حكيم، والنظام مخلوق بحكمة، ومآل ذلك إلى عدم الفساد في السماوات والأرض الدالّ على وحدة الصانع. فإنّ عدم تهيئة ما يحتاجه الخلائق، يوجب الخلل في النظام، فعدم الخلل - بتهيئة ما يحتاجه الخلائق - نظم لناظم حكيم واحد قديم.

قال اللّه تعالى: (مَا اتَّخَذَ اللّه مِنْ وَلَدٍ وما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ ولَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللّه عَمَّا يَصِفُونَ) .(2)

ص: 236


1- توحيد المفضّل: 1/47؛ بحارالأنوار : 3/61 ح1.
2- المؤمنون : 91.

* قال الإمام الصادق(ع) في حديث الإهليلجة إلى أن قال: فعرف القلب بأعلام المنيرة الواضحة أنّ مدبّر الأمور واحد، وأنّه لو كان اثنين أو ثلاثة لكان في طول هذه الأزمنة والأبد والدهر اختلاف في التدبير وتناقض في الأمور، ولتأخّر بعض وتقدّم بعض، ولكان تسفّل بعض ما قد علا ولعلا بعض ما قد سفل. ولطلع شيء وغاب فتأخّر عن وقته أو تقدّم ما قبله، فعرف القلب بذلك أنّ مدبّر الأشياء ما غاب منها وما ظهر هو اللّه الأوّل خالق السماء وممسكها وفارش الأرض وداحيها وصانع ما بين ذلك ممّا عددنا وغير ذلك ممّا لم يحص، وكذلك عاينت العين اختلاف الليل والنهار دائبين جديدين لا يبليان في طول كرهما ولا يتغيّران لكثرة اختلافهما ولا ينقصان عن حالهما، النهار في نوره وضيائه والليل في سواده وظلمته يلج أحدهما في الآخر حتى ينتهي كلّ واحد منهما إلى غاية محدودة معروفة في الطول والقصر على مرتبة واحدة، ومجرى واحد مع سكون من يسكن في الليل، وانتشار من ينتشر في الليل، وانتشار من ينتشر في النهار، وسكون من يسكن في النهار، ثمّ الحرّ والبرد وحلول أحدهما بعقب الآخر حتى يكون الحرّ برداً والبرد حراً في وقته وإبّانة، فكلّ هذا ممّا يستدلّ به القلب على الربّ سبحانه وتعالى، فعرف القلب بعقله أنّ مدبّر هذه الأشياء هو الواحد العزيز الحكيم الذي لم يزل ولا يزال وأنّه لو كان في السماوات والأرضين آلهة معه سبحانه (لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ ولَعَلابَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ)(1) ولفسد كلّ واحد منهم على صاحبه؛ الخبر .(2)

أقول: الظاهر من الآية المباركة أنّ فرض تعدّد الآلهة لا يمكن المصير إليه عقلاً ذلك أنّه لو كان الأمر كذلك، ل-ما رأينا انتظاما في العالم، ولكان علا بعض ما تسفّل وتسفّل بعض ما علا وهكذا. ول-مّا رأينا انتظام العالم ووحدة التدبير، دلّنا ذلك على وحدة الربّ تعالى.

آثار المملكة الواحدة دليل على الصانع الواحد

* قول الإمام عليّ(ع) لولده(ع): يا بنيّ أنّه لو كان إله آخر، لأتتك رسله ولرأيت

ص: 237


1- المؤمنون: 91.
2- بحارالأنوار : 3/165 ح1؛ الإهليلجة (من سلسلة مصادر بحارالأنوار9): 93 - 95.

آثار مملكته .(1)

لعلّ المراد من كلامه(ع) هو أنّه لو كان هناك إلهان لرأيت آثار نظامه وحكومته ببعث رسول إليك، ولرأيت آثار مملكته من خلق كائنات تختلف جوهرا وعرضا عن هذه الكائنات. ول-مّا لم نرَ آثار نظام آخر من بعث رسل وآثار مملكته وخلقة مختلفة عن هذه الخلقة عرفنا أنّ الخالق المتعال واحد.

الدقّة في تفصيل الخلائق دليل على التوحيد

* روى العلّامة المجلسي عن الإحتجاج عن مولانا أميرالمؤمنين(ع) في خطبة له: انظروا إلى النملة في صغر جثّتها ولطافة هيأتها، لا تكاد تُنال بلحظ البصر ولا بمستدرك الفكر، كيف دبّت على أرضها وضنّت على رزقها، تنقل الحبّة إلى حجرها، وتعدّها في مستقرّها، تجمع في جحرها لبردها، وفي ورودها لصدورها، مكفولة برزقها، مرزوقة بوفقها، لا يغفلها المنّان ولا يحرمها الديّان ولو في الصفا اليابس والحجر الجامس، لو فكّرت في مجاري أكلها وفي علوّها وسفلها وما في الجوف من شراسيف بطنها وما في الرأس من عينها وأذنها لقضيت من خلقها عجباً، ولقيت من وصفها تعباً، فتعالى الذي أقامها على قوائمها وبناها على دعائمها، لم يشركه في فطرتها فاطر، ولم يعنه على خلقها قادر. ولو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلّتك الدلالة إلّا على أنّ فاطر النملة هو فاطر النحلة لدقيق تفصيل كلّ شيء وغامض اختلاف كلّ حيّ. وما الجليل واللطيف والثقيل والخفيف والقويّ والضعيف في خلقه إلّا سواء، كذلك السماء والهواء والريح والماء. فانظر إلى الشمس والقمر والنبات والشجر والماء والحجر، واختلاف هذا الليل والنهار، وتفجّر هذه البحار، وكثرة هذه الجبال، وطول هذه القلال، وتفرّق هذه اللغات والألسن

ص: 238


1- . وسائل الشيعة : 27/175 ح33530 - 67.

المختلفات؛ الخطبة .(1)

بيّن مولى الموحّدين(ع) بأنّ دقيق تفصيل كلّ شيء وغامض اختلاف كلّ حيّ دليل على الخالق الواحد، ذلك أنّ العقل يرى أنّ الدقّة المستعملة في هذا الكائن هي نفس الدقّة المستعملة في الآخر كما يعرف الإنسان العاقل اللبيب من نوع البناء البنّاءَ الواحد، فكيفيّة هندسة بيتين جميلين ترجع إلى مهندس واحد لوجود آثار تدلّ على أنّ البنّاء واحد كالدقّة المستعملة في كلّ بناء ونوع الهندسة المعماريّة المستفادة فيه.

ص: 239


1- الإحتجاج: 1/204؛ بحارالأنوار : 3/26 ح1.

الفصل الثاني: المعرفة الفطريّة

الباب الأوّل: معنى المعرفة الفطريّة إجمالاً

ص: 240

قد دلّت الأدلّة الكثيرة على تعريف اللّه تعالى نفسه القدّوس للعباد في العوالم السابقة وتذكيرهم بتلك المعرفة في نشأة الدنيا عند الوقوع في البأساء والضرّاء أو في بعض حالات تلاوة القرآن والدعاء والمناجاة، كما أنّها دلّت على أنّ المعرفة به تعالى تزداد أبداً للمؤمنين حتى حين يدخلون جنّة العدن.

والظاهر الذي لا ريب فيه أنّ هذه المعرفة ليست من شؤون المعرفة العقليّة بل هي معرفة باللّه به تعالى لا بتوسّط العقل - وإن كان العقل حاكماً بعد المعرفة بلزوم التصديق باللّه تعالى - فإنّ الأدلّة الكثيرة تدلّ على امتناع معرفة اللّه تعالى بالعقل إلّا ايقاناً بالغيب وانحصار طريق المعرفة باللّه به تعالى - كما ستعرف ذلك إن شاء اللّه تعالى - .

والشاهد على ذلك حصولها للمؤمن والكافر والمتذكّر والغافل عند البأساء والضرّاء ومن دون توسّط دلالة الآيات على باريها. فعند وقوع العبد في المآزق، لا يفكّر في دلالة الآيات على الخالق الحكيم العليم القدير ولا يلتفت إليها، بل يجد وجداناً لا ريب فيه أنّ هناك حقيقة لا ريب فيها هي أقرب إليه من حبل الوريد وقادرة على الإنجاء حيث لا منجي والإغاثة عند فقدان المغيث.

قال شيخنا الأستاذ آية اللّه الميرزا حسن علي المرواريد1:

وليس هذا من طريق العقل والإستدلال بالآيات، إلى أن قال: بل يحصل هذا الوجدان وهذه المعرفة قهراً وقسراً، عند الإنقطاع عن جميع الأسباب، وعند الوقوع ف-ي المهالك التي يغفل معه عن جميع الآيات وعن

ص: 241

إعمال التعقّل والتفكّر؛ انتهى كلامه رفع مقامه .(1)

و نتيجة هذه المعرفة - التي لا تحصل إلّا بتعريف اللّه تعالى نفسه القدّوس - هي المعاينة للّه تعالى ولقائه والوصول إليه والمؤانسة معه معاينة ولقاء ووصالاً ومؤانسة متعالياً عن المعروفيّة والموصوفيّة، فهي وجدان به تعالى لسبّوحيّته وقدّوسيّته وكمالاته ورحمته وكبريائه وعظمته على اختلاف مراتب الوجدان.

ولا يذهب عليك فإنّ هذه المعرفة لا توجب انكشاف الربّ السبّوح به تعالى، لامتناع ذلك عقلاً، فإنّه تعالى لا يقع مكشوفاً لكونه نور كلّ نور ومنوّر كلّ نور ونور على نور، والنور لا يقع منوَّراً والربّ تعالى لا يصير معقولاً فإنّ المعقوليّة من صفة المخلوق المنزّه عنه الخالق المتعال، فممّا لا ريب فيه امتناع وقوعه تعالى معقولاً مفهوماً معلوماً ولو بتعريف نفسه للخُلف ، فإنّ حقيقته تعالى وكنهه تفريق بينه وبين خلقه فكيف يصير معروفاً بخلاف حقيقته والواقع!

وبعبارة أخرى: إنّ العقل قد دلّ على امتناع معرفته تعالى بالعقل لأنّ تعقّله يوجب المعقوليّة التي هي من صفة المخلوق والخالق المتعال منزّه عنها، وقد عرفت ذلك سابقاً فالمعرفة الفطريّة لا توجب صيرورته تعالى مهبّاً لتيّار العقل والإدراك بل هي معرفة باللّه به تعالى لا بتوسّط العقل وهي معرفة بالسبّوحيّة والقدّوسيّة والمنزَّهيّة.

وبعبارة ثالثة: العقل يرى امتناع معرفة اللّه تعالى بالمعقوليّة، لاستلزامه تشبيه الخالق بما يمكن أن يُتعقّل، وهذا الامتناع العقليّ ثابت أزلاً وأبداً في المعرفة العقليّة والمعرفة الفطريّة، إلّا أنّ معرفة اللّه تعالى به ليس من باب معرفته تعالى بالمعقوليّة والمعلوميّة بل هي معرفة به تعالى بالسبّوحيّة والقدس والعلوّ، فالعبد بعد التعريف يجد ربّه سبّوحاً قدّوساً عظيماً متعالياً عن صفات الخلائق وتوصيفاتهم وسيأتي مزيد توضيح لذلك فانتظر.

إذا عرفت ذلك، فلنشرع في بيان ما دلّ على المعرفة الفطريّة وهو كثير إلّا أنّا أتينا بأهمّ الأدلّة وأصرحها.

الباب الثاني: الآيات الدالّة على المعرفة الفطريّة

ص: 242


1- تنبيهات حول المبدأ والمعاد : 96.

الآية الاولى:

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّه ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(1) .

* روى الكليني مسنداً عن هشام بن سالم عن الإمام أبي عبدالله(ع) قال: قلت: (فِطْرتَ اللّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) قال: التوحيد .(2)

* روى الكليني مسنداً عن عبداللّه بن سنان عن الإمام أبي عبدالله(ع) قال: سألته عن قول اللّه عزّوجلّ: (فِطْرَتَ اللّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) ما تلك الفطرة؟

قال: هي الإسلام، فطرهم اللّه حين أخذ ميثاقهم على التوحيد قال: ألست بربّكم وفيه المؤمن والكافر .(3)

* روى أيضاً عن علي بن رئاب عن زرارة قال: سألت الإمام أباعبدالله(ع) عن قول اللّه عزّوجلّ: (فِطْرَتَ اللّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها)؟

قال: فطرهم جميعاً على التوحيد .(4)

* روى أيضاً عن محمّد الحلبي عن الإمام أبي عبدالله(ع) في قول اللّه عزّوجلّ: (فِطْرَتَ اللّه الَّتِي فَطَرَالنَّاسَ عَلَيْها) قال: فطرهم على التوحيد .(5)

ص: 243


1- . الروم : 30.
2- الكافي : 2/12 ح1؛ بحارالأنوار: 3/277 ح5 بسند آخر.
3- الكافي : 2/12 ح2؛ بحارالأنوار: 3/278 ح7 بسند آخر.
4- الكافي : 2/12 ح3؛ بحارالأنوار: 2/278 ح8 بسند آخر.
5- الكافي : 2/13 ح5؛ بحارالأنوار: 3/277 ح6 بسند آخر.

* روى عليّ بن إبراهيم عن الإمام عليّ بن موسى الرضا صلوات اللّه عليه عن أبيه عن جدّه محمّد بن عليّ بن الحسين: في قوله (فِطْرَتَ اللّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) قال: هو لا إله إلّا اللّه محمّد رسول الله(ص) عليّ أميرالمؤمنين(ع) إلى هاهنا التوحيد .(1)

* روى الصدوق في كتابه عن الإمام أبي عبدالله(ع) في قول اللّه عزّوجلّ: (فِطْرَتَ اللّه الَّتِي فَطَرَالنَّاسَ عَلَيْها) قال: التوحيد ومحمّد رسول اللّه وعليّ أميرالمؤمنين .(2)

* روي في التوحيد للصدوق عن ابن مسكان عن زرارة قال: قلت للإمام أبي جعفر(ع): أصلحك الله، قول اللّه عزّوجلّ في كتابه: (فِطْرَتَ اللّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها)؟

قال: فطرهم على التوحيد عند الميثاق على معرفته أنّه ربّهم، قلت: وخاطبوه؟ قال: فطأطأ رأسه ثمّ قال: لولا ذلك لم يعلموا مَن ربّهم ولا مَن رازقهم .(3)

* روى الكليني عن زرارة عن أبي جعفر(ع) قال: سألته عن قول اللّه عزّوجلّ: (حُنَفاءَ للّه غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) وعن الحنيفيّة؟

فقال: هي الفطرة التي فطر الناس عليها (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ) قال: فطرهم اللّه على المعرفة.

قال زرارة: وسألته عن قول اللّه (وإِذْ أَخَذَ ربّك مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ) الآية؟

قال: أخرج من ظهر آدم ذريّته إلى يوم القيامة فخرجوا كالذرّ فعرفهم وأراهم صنعه ولولا ذلك لم يعرف أحد ربّه، وقال:قال رسول الله(ص):كلّ مولود يولد على الفطرة يعني على المعرفة بأنّ اللّه عزّوجلّ خالقه فذلك قوله (ولَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ والْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّه) . (4)(5)

ص: 244


1- تفسير القمي: 2/155؛ بحارالأنوار : 3/277 ح3.
2- التوحيد للصدوق: 329 ح7؛ بحارالأنوار : 3/278 ح9.
3- التوحيد للصدوق: 330 ح8؛ بحارالأنوار : 3/278 ح10.
4- لقمان: 25.
5- الكافي: 2/12 ح4؛ بحارالأنوار : 3/279.

* روي في كتاب المحاسن عن زرارة قال: سألت الإمام أباجعفر(ع) من قول اللّه (حُنَفاءَ للّه غَيْرَ مُشْرِكِينَ)(1) ما الحنيفية؟

قال: هي الفطرة التي (فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) فطر اللّه الخلق على معرفته .(2)

* قال العلّامة المجلسي في بحارالأنوار عن الإمام أبي عبدالله(ع) في قول اللّه عزّوجلّ: (فِطْرَتَ اللّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها)؟

قال: هي التوحيد وأنّ محمّداً رسول اللّه(ع) وأنّ عليّاً أميرالمؤمنين(ع) .(3)

أقول: أمر اللّه تعالى رسوله بإقامة الوجه للدين حنيفاً مقبلاً إلي الحق ومعرضا عن الباطل، والظاهر أنّ «فطرة الله» صفة للدين فالمأمور به هو إقامة الوجه للدين الفطريّ الذي فطر اللّه تعالى جميع البشر عليه، وغير حفيّ أنّ الآية المباركة صريحة في إسناد الفطرة إلى اللّه تعالى فإنّه هو الذي فطر الناس على تلك الفطرة. وقد دلّت الأخبار على أنّ المراد منها هو التوحيد الذي فطر اللّه عليه جميع الناس وفي بعضها إضافة النبوّة والإمامة إلى التوحيد ولعلّ أخذ الميثاق علي نبوّة رسول اللّه(ص) وكذا ولاية أميرالمؤمنين(ع) كان في ظلّ تعريفه تعالي لمقام حججه: - ولا تعارض بين المثبتات - فاللّه تعالى هو الذي فطر العباد على معرفته تعالى(4) فلا أحد يفقد هذه

ص: 245


1- الحجّ: 31.
2- المحاسن: 1/241 ح223؛ بحارالأنوار : 3/279 ح12.
3- بحارالأنوار : 3/280 ح18؛ اليقين: 188.
4- بمعني أنّه خلقهم وفي بدء الخلق في العوالم السابقة عرّفهم نفسه القدّوس ولذا صحّ أن يُقال أنّه فطرهم علي معرفته إذ بعد خلقهم وقبل اتيانهم إلي الدنيا عرّفهم نفسه، والشاهد علي حصول هذه المعرفة في العوالم السابقة - مضافا إلي عنوان «مفطوريّتهم علي معرفة اللّه» الدال علي وقوع المفطوريّة عند خلقهم وقد عرفنا من الأدلّة سبق الخلق علي الدنيا - ما ورد في رواية زرارة عن الإمام الباقر(ع) «فطرهم علي التوحيد عند الميثاق» وكذا خبر ابن سنان عن الإمام الصادق(ع) «فإنّ الميثاق اُخذ منهم في العوالم السابقة وقد بيّنا ذلك في بحوثنا حول عالم الذرّ فراجع. وهذا الفعل الالهي لا يمكن لأحد أن يتجاوزه بمعني أن يسلب المعرفة التي غرسها اللّه في قلبه منه - إذ لا تبديل لخلق اللّه، فالباري تعالي هو الخالق ولا يمكن للمخلوق تغيير خلقه تعالي - (عليّ الرضويّ) .

المعرفة الفطريّة لأنّ اللّه تعالى شاء أن يعرّف عباده التوحيد وقد فعل.

قال شيخنا المحقّق آية اللّه الشيخ محمّد باقر الملكيّ1 بعد ذكر كلام الطبرسيّ1 الذي جعل الآية بمثابة قوله تعالي (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون)(1) :

وهو ضعيف . فإنّ العبادة غاية تشريعيّة للخلقة والآية المبحوثة عنها لا إشعار فيها بالغاية - لا تشريعا ولا تكوينا - وليست إلّا إخبارا عن سنّة اللّه القائمة الفاضلة. أي: إنّ في إقامة الوجه للدين مناسبة ومشاكلة للسنّة الإلهيّة في خلقة الناس. فإنّ اللّه سبحانه خلق الخلق عارفا بالتوحيد عرفانا مرموزا بسيطا وشاعرا به شعورا بسيطا يتمايل إلى التوحيد ويرغب عما يضادّه ويخالفه ويجري في ذلك طبق الشعور الفطريّ الذي أعطاهم اللّه هذا النور عندما فطرهم وخلقهم.

وكذلك الكلام في تفسير قوله(ص): كلّ مولود يولد على الفطرة. وسيجيء مزيد توضيح لذلك في تفسير قوله تعالى: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم.

فتحصّل أنّ إقامة الوجه إلى الدين متمايلا إلى الحقّ ومعرضا عن الباطل، هي الفطرة الإلهية التي فطر الناس عليها فيعرفون اللّه وتوحيده ويشعرون به تعالى معرفة وشعورا بسيطا بحيث لا يستغنون عن هداية هاد وإرشاد مذكر. فالآية الكريمة إرشاد وتذكرة إلى إقامة الدين للّه جلّ ثناؤه متقربا ومخلصا وتائبا إليه تعالى ونفي الشرك بجميع أنواعه وتبعاته .(2)

ص: 246


1- الذاريات : 51.
2- وحيدالإماميّة : 83.

الآية الثانية:

(وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهيمَ حَنيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكينَ * قُولُوا آمَنَّا بِاللّه وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهيمَ وَإِسْماعيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ في شِقاقٍ فَسَيَكْفيكَهُمُ اللّه وَهُوَ السَّميعُ الْعَليمُ * صِبْغَةَ اللّه وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّه صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُون) .(1)

* روى الكليني عن ابن محبوب عن عبداللّه بن سنان عن الإمام أبي عبدالله(ع) في قول اللّه عزّوجلّ: (صِبْغَةَ اللّه ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّه صِبْغَةً)؟ قال: الإسلام، وقال في قوله عزّوجلّ: (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى)(2) قال: هي الإيمان باللّه وحده لا شريك له .(3)

* روى أيضاً عن عدّة من أصحابنا عن الإمام أبي عبدالله(ع) في قول اللّه عزّوجلّ: (صِبْغَةَ اللّه ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّه صِبْغَةً) قال: الصبغة هي الإسلام .(4)

* روى العيّاشي عن عبدالرحمن بن كثير عن الإمام أبي عبدالله(ع) في قول الله: (صِبْغَةَ اللّه ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّه صِبْغَةً) قال: الصبغة معرفة أميرالمؤمنين(ع) بالولاية في الميثاق .(5)

* روى فرات بن إبراهيم مسنداً عن محمّد بن علي عن الإمام أبي عبدالله(ع) في قوله تعالى: (صِبْغَةَ اللّه ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّه صِبْغَةً) قال: صبغة المؤمنين بالولاية في الميثاق، وقال: نزل قوله تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ) في علي بن أبي

ص: 247


1- البقرة : 138.
2- البقرة: 256، لقمان: 22.
3- . الكافي : 2/14 ح1؛ بحارالأنوار: 64/131 ح1.
4- الكافي : 2/14 ح2؛ بحارالأنوار: 64/132 ح2.
5- تفسير العياشي: 1/62 ح109؛ بحارالأنوار : 3/281 ح20.

طالب(ع) . (1)(2)

أقول: قد أُسندت الصبغة في هذه الآية المباركة إلى اللّه تعالى فإنّها صبغة اللّه تعالى ومن أحسن منه صبغة. وقد فُسّرت الصبغة في الأخبار بالإسلام، فاللّه تعالى صبغ عباده بالإسلام الذي - هو بحسب الأخبار(3) - عبارة عن الدين الإلهيّ الذي

ص: 248


1- تفسير فرات الكوفي: 1/61 ح25؛ بحارالأنوار : 23/366 ح32.
2- حكي اللّه تعالي قول اليهود والنصاري للمسلمين بأن يصبوا إلي دينهم ثمّ أمر رسوله الأكرم(ص) أن يلتزم ملّة ابراهيم(ع) الذي كان مائلاً عن الباطل مقبلاً علي الحقّ ولم يكن من المشركين فإنّ اليهوديّة المحرّفة وكذا النصرانيّة التي مسّتها يد الخونة لا وحدانيّة فيهما، ثمّ أمر سبحانه المؤمنين أن يرفضوا نداء التنصّر والتهوّد ويصبوا إلي الإيمان باللّه تعالي وما أنزل إليهم وما نزّلعلى سائر الأنبياء: وأن لا يفرّقوا بين الأنبياء: من حيث الإيمان بل يؤمنوا بجميعهم، ثمّ بيّن اللّه تعالي معالم الهداية ورسم حدودها ألا وهي الإيمان باللّه تعالي وحده وبجميع ما أنزل بلا تفريق وتبعيض بين الأديان وكتبها ومن أنزل عليهم الكتب والصحف وبيّن أنّ تولّي اليهود والنصاري عن هذه الدعوة سيجعلهم في شقاق وناحية عن الملّة الموحّدة (وقد فسّر الشقاق بالكفر في حديث عن الإمام الصادق(ع) [مجمع البيان ج1، ص406] وهو واضح فإنّ الإلحاد عن الموحّدين وما يؤمنوا به ليس إلّا كفراً) وقد وعد اللّه تعالي رسوله(ص) أن يكفيه شرّ اليهود والنصاري ثم بيّن سبحانه أنّ ملّة إبراهيم(ع) هي صبغة اللّه - بناء علي كون «صبغة اللّه» بدل عن «ملّة ابراهيم» - أو الإيمان باللّه صبغة اللّه - بناء علي كون «صبغة اللّه» عطف علي «قولوا آمنّا باللّه» بحذف العاطف - و كيفما كان فإنّ الصبغة فعل الهيّ حكيم ومن أحسن من اللّه صبغة فإنّه تعالي صبغهم بالإسلام ومعرفة أوليائه - بحسب الأخبار المبيّنة للآية - وبما أنّ سياق الآيات حول دعوة اليهود والنصاري للإصباء إلي دينهم قال اللّه تعالي عليكم بصبغة اللّه التي هي الإسلام، والإشكال الاساسيّ علي اليهوديّة والنصرانيّة المحرّفة هو الإشكال المعرفيّ العقائديّ فالإسلام أُسّه التوحيد والولاية بخلاف الأديان المحرّفة التي أساسها علي الشرك ومن هنا يكون تفسير «صبغة اللّه» بالإسلام من باب الاتيان بالعامّ (أي الدين الإسلاميّ) وإرادة الخاصّ (أي التوحيد الفطريّ) لكون مغزي دعوة اليهود والنصاري إلي أديانهم الخروج من التوحيد والدخول في الشرك وقد أجاب اللّه تعالي وحرّض المؤمنين وغيرهم إلي الإسلام حيث أنّه يحمل التوحيد الحقيقيّ. والشاهد علي ذلك تفسير الصبغة في بعض الأخبار بصبغة المؤمنين بالولاية في الميثاق فإنّ المراد من الميثاق هو الميثاق المأخوذ من العباد في العوالم السابقة ونسبة الصبغة إلي اللّه تعالي ومدح اللّه تعالي نفسه بهذا الفعل يدلّ دلالة واضحة علي فعله بتعريف الإسلام للبشر، (عليّ الرضويّ).
3- عن المفضّل أنّ الإمام(ع) كتب إليه في جواب مسائله... إنّ اللّه تبارك وتعالى اختار الإسلام لنفسه ديناً ورضي من خلقه فلم يقبل من أحد إلّا به وبه بعث أنبيائه ورسله ؛ الخبر. البصائر : 548.

ارتضاه لنفسه ولأنبيائه.

قال شيخنا المحقّق آية اللّه الشيخ محمّد باقر الملكيّ1:

الصبغة - بالكسر - مثل الجلسة، أي: النوع من الصبغ. وفي إعرابه أقوال: الأول: إنه منصوب بالإغراء. الثاني: إنه بدل من قوله تعالى: ملة إبراهيم. الثالث: قال الطبرسي: مصدر مؤكد ينتصب عن قوله: آمنا باللّه كما انتصب وعد اللّه عما تقدمه.

أقول: الظاهر أنه بدل أو عطف بحذف العاطف على قوله تعالى: آمنا باللّه أو على قوله: ونحن له مسلمون، والمعنى: آمنا باللّه نتبع صبغته، أو ونتبع صبغته، أو يقال:ونحن له مسلمون ونتبع صبغته.

ويظهر من كلماتهم أن المراد من الصبغة، الإيمان الذي هو عمل اختياري لهم وفريضة من اللّه عليهم، فيجب عليهم أن يكسبوا صبغ الإيمان ويتزينوا بحليته ووقاره وجماله وبهائه.

قال البلاغي: «عن ابن عباس قال: دين اللّه. وسميت صبغة باعتبار الأثر الكريم الظاهر من التوحيد ومكارم الأخلاق وزينة الشريعة».

أقول: هذا تكلف لا يلائم ولا يناسب ذيل الآية: ومن أحسن من اللّه صبغة.

والظاهر الآية أن هذه الصبغة من صنع اللّه الكريم ومن فضله وقوله تعالى: ومن أحسن من اللّه صبغة قرينة واضحة على ما ذكرناه. أي، إنّه من صنع اللّه شديد الحسن. والمراد هداية اللّه تعالى إياهم بالفطرة والجبلة وتعريفه تعالى نفسه إليهم. وهو الصراط الحق الذي لا يختف عن الواقع، وفطرة اللّه التي لا تبديل ولا تغيير فيها. والآية الكريمة نظيرة قوله تعالى: فطرة اللّه التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق اللّه ذلك الدين القيم.

وبهذا البيان يتجلى معنى الآية ويأخذ الاحتجاج على اليهود والنصارى موقعه ومحله ويتم عليهم الاحتجاج بأن الأمر المخالف للفطرة خلاف

ص: 249

البداهة والضرورة.

واعلم أن فاطر الخلق على توحيد اللّه ومعرفته لا تبديل فيها ولا تغيير وصانعهم على ذلك صنعا لا يتحول ولا يزول، هو اللّه سبحانه وحده لا شريك له. وهو اللّه الذي فطرهم وصبغهم فطرة قيمة لا عوج فيها وصبغة حسنة جميلة لا غيب فيها. فعلى ذلك يكون قوله تعالى: ومن أحسن من اللّه صبغة دالّاً على شدة حسن فعله وغاية جماله وكماله. وحيث إنه فعله تعالى مستقيما ولا يقدر عليه أحد غيره ، متفردا ومتوحدا في ذلك، لا يشترك فيه معه أحد. ويشهد على ذلك أن « أفعل» في صفاته ونعوته تعالى، منسلخ عن التفاضل. فلا يمكن أن يقال: إن فعله تعالى في هذه الفطرة والصبغة أحسن من فعل غيره سبحانه: لظهور أن مقايسة شيء لشيء متوقفة على وحدة مرتبة الشيئين، وليس هناك فاعل غيره سبحانه حتى يكون هو تعالى أحسن فعلا منه .(1)

ثمّ قال1 في بيان الوجه في تفسير الصبغة بالإسلام في الأخبار:

ومنها إطلاقه على حقيقة الدين الذي اختاره سبحانه لأحبائه وأصفيائه وبعثهم لبلاغه قال تعالى :

(إنّ الدين عند اللّه الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلّا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم).

قوله تعالى: عند اللّه، أي: إن الدين عبارة عن عدة من الحقائق الواقعية الثابتة تستدعي وتستوجب إمضاءه تعالى ورضاءه بالأمر به وبالتذكر إليه من حقائق أخرى من الأحكام والقوانين طبق النظام الصحيح الواقعي يستدعي تشريعه تعالى إياها وبلاغها وحمل الناس على العمل بها والجري عليها. ووجه تسمية ذلك إسلاما أن الإقرار بهذه الحقائق والتعبد بهذه الأحكام بعينه من مصاديق المعنى اللغوي للإسلام.

ص: 250


1- توحيدالإماميّة : 100 - 102.

فتحصل أن حق الاعتقاد بالحقائق المذكورة والتسليم التام بالتعبد العملي والالتزام القلبي ، هو الإسلام بالعناية التي ذكرناها.

روى الكليني عن العدة مسندا عن عبد اللّه بن مسكان عن بعض أصحابه، عن أبي عبد اللّه(ع) قال: قلت له: ما الإسلام؟ فقال:

دين اللّه اسمه الإسلام. وهو دين اللّه قبل أن تكونوا حيث كنتم وبعد أن تكونوا. فمن أقر بدين اللّه، فهو مسلم.

أقول: قد صرح - عليه السلام - أن الدين الذي ارتضاه لأنبيائه هو الإسلام وهو دين الأولين والآخرين وهو عند اللّه قبل الناس وبعد الناس.

وروى الصفار بإسناده عن المفضل أن الإمام(ع) كتب إليه في جواب مسائله:

... إن اللّه تبارك وتعالى اختار الإسلام لنفسه دينا، ورضي من خلقه فلم يقبل من أحد إلّا به. وبه بعث أنبياءه ورسله. ثمّ قال: وبالحق أنزلناه وبالحق نزل، فعليه وبه بعث أنبياءه ورسله ونبيه محمدا(ص) .(1)

وقال1 أيضاً:

الآية الكريمة المبحوثة عنها فيها أيضاً شهادة ودلالة على هذا التفسير الوارد عن أئمة أهل البيت:، حيث أمر اللّه سبحانه أولياءه وأصفياءه أن يقولوا ف-ي الاحتجاج على اليهود والنصارى: (آمَنّا بِاللّه... لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُون...) ونحن له عابدون أي: إنّ هذا الدين النازل على جميع أنبيائه تعال-ى ورسله الذي آمنّا به واتّبعنا صبغته وفطرته، هو الدين الحقّ والصراط المبين المطابق للعلم الفطريّ وهداية اللّه سبحانه، وهو صنع اللّه الكريم وصبغته الحسنى. فإن آمن الناس بمثل ما آمنتم به من الدين، فقد اهتدوا. وإن لم يؤمنوا، أو آمنوا بغير ما آمنتم به من الدين، فهم بعد ف-ي شقاقهم ولجاجهم. ومن هنا يعلم أنّ المخاطبين ف-ي قوله

ص: 251


1- توحيدالإماميّة : 104 - 105.

تعالى: (قُولُوا آمَنّا...) إنّما هم عصابة خاصّة وهم صفوة اللّه وخالصته، لاستحالة أن يأمر اللّه سبحانه الناس بالإيمان بما آمن به كلّ من انتحل نفسه إل-ى الإسلام من المنافقين والشكّاكين والأراذل.

وقد تبيّن من جميع ما ذكرنا أنّ الصبغة فعل عمديّ للّه سبحانه ومن فضله الواسع وحكمته البالغة وهو عين الإسلام وعين تعريفه تعالى إل-ى عباده نفسه ونعوت كماله وجلاله وما يستتبع ويستوجب من الأحكام الضروريّة الفطريّة من المستقلاّت العقليّة الفطريّة ووظائف العبوديّة بين العابد والمعبود وغيرها من المكارم والفضائل.

والأخبار الواردة ف-ي تفسير الصبغة بالإسلام، ناظرة إل-ى حقيقة صبغة اللّه التي أوضحناها. والآية الكريمة والروايات الواردة ف-ي تفسيرها متّحدة المفاد ف-ي ما يراد منها. والشاهد على ذلك بيان شيء من مصاديق الصبغة والإسلام ف-ي جملة من هذه الأخبار، وهي معرفة عليّ(ع) بالولاية ف-ي الميثاق على ما سيأتي بيانه عن قريب. هذا أوّلاً.

وثانياً أنّ الآيات والروايات الدالّة على تحديد العلم الفطريّ عن غيره، كافية ف-ي تقييد الروايات الواردة ف-ي تفسي--ر الصبغة والإسلام. ولا مانع - بحسب القواعد الشرعيّة - عن ذلك، أي كون تلك الأدلة مقيّدة للإسلام الوارد ف-ي تلك الأخبار ف-ي تفسير الصبغة والهداية الفطريّة .(1)توحيدالإماميّة : 105 - 106.(2)

الآية الثالثة:

(وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّاعَنْ هذا غافِلِينَ) .(3)

ص: 252


1-
2-
3- الأعراف : 172.

* روي مسنداً عن زرارة عن الإمام أبي جعفر(ع) قال: سألته عن قول اللّه عزّوجلّ (حُنَفاءَ للّه غَيْرَمُشْرِكِينَ بِهِ) قال: الحنيفيّة من الفطرة التي فطر اللّه الناس عليها لا تبديل لخلق اللّه قال: فطرهم على المعرفة به. قال زرارة: وسألته عن قول اللّه عزّوجلّ (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى)؛ الآية قال: أخرج من ظهر آدم ذرّيّته إلى يوم القيامة فخرجوا كالذرّ فعرّفهم وأراهم نفسه ولولا ذلك لم يعرف أحد ربّه. وقال: قال رسول الله(ص): كلّ مولود يولد على الفطرة يعني المعرفة بأنّ اللّه عزّوجلّ خالقه كذلك قوله (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماوات وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه) . (1)(2)

* روى الصدوق عن البطائني عن أبي بصير عن الإمام أبي عبدالله(ع) قال: قلت له: أخبرني عن اللّه عزّوجلّ هل يراه المؤمنون يوم القيامة؟

قال: نعم وقد رأوه قبل يوم القيامة.

فقلت: متى؟

قال: حين قال لهم (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) ثمّ سكت ساعة ثمّ قال: وإنّ المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة ألست تراه في وقتك هذا؟

قال أبوبصير: فقلت له: جعلت فداك، فأحدّث بهذا عنك؟

فقال: لا فإنّك إذا حدّثت به فأنكره منكر جاهل بمعنى ما تقوله ثمّ قدّر أنّ ذلك تشبيه وكفر وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين، تعالى اللّه عمّا يصفه المشبّهون والملحدون .(3)

* روى جميل بن دراج عن زرارة عن الإمام أبي عبدالله(ع) في قول اللّه (وإِذْ أَخَذَ ربّك مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) قال: كان ذلك معاينة اللّه

ص: 253


1- لقمان: 25.
2- الكافي : 2/12 ح4؛ بحارالأنوار: 64/135 ح7 بسند آخر.
3- التوحيد للصدوق: 117 ح20؛ بحارالأنوار : 4/44 ح24.

فأنساهم المعاينة وأثبت الإقرار في صدورهم ولولا ذلك ما عرف أحد خالقه ولارازقه وهو قول اللّه (ولَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّه) . (1)(2)

* روى عليّ بن إبراهيم في تفسيره عن ابن أبي عمير عن ابن مسكان عن الإمام أبي عبدالله(ع) في قوله (وإِذْ أَخَذَ ربّك مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا) قلت: معاينة كان هذا؟

قال: نعم، فثبتت المعرفة ونسوا الموقف وسيذكرونه، ولولا ذلك لم يدر أحد من خالقه ورازقه، فمنهم من أقرّ بلسانه في الذرّ ولم يؤمن بقلبه، فقال اللّه (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) . (3)(4)

* في بصائر الدرجات عن عبدالرحمن بن كثير عن الإمام أبي عبدالله(ع) في قول اللّه (وإِذْ أَخَذَ ربّك مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)؛ إلى آخر الآية قال: أخرج اللّه من ظهر آدم ذريّته إلى يوم القيامة، فخرجوا كالذرّ فعرّفهم نفسه ولولا ذلك لن يعرف أحد ربّه، ثمّ قال: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى)، وإنّ هذا محمّد رسولي وعليّ أميرالمؤمنين خليفتي وأميني .(5)

* روى المجلسي عن كشف الغمة عن أبي هاشم الجعفري قال: كنت عند الإمام أبي محمّد(ع) فسأله محمّد بن صالح الأرمني عن قول اللّه (وإِذْ أَخَذَ ربّك مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا)، قال أبومحمّد(ع): ثبتت المعرفة ونسوا ذلك الموقف وسيذكرونه، ولولا ذلك لم يدر أحد من خالقه ولا من رازقه.

ص: 254


1- الزخرف: 87.
2- المحاسن: 1/281 ح411؛ بحارالأنوار : 5/223 ح13.
3- ونس: 74.
4- تفسير القمي: 1/248؛ بحارالأنوار : 5/237 ح14.
5- بصائر الدرجات: 71 ح6؛ بحارالأنوار : 5/250 ح41.

قال أبو هاشم: فجعلت أتعجّب في نفسي من عظيم ما أعطى اللّه وليّه وجزيل ما حمله، فأقبل أبومحمّد عَليّ فقال: الأمر أعجب ممّا عجبت منه يا أباهاشم وأعظم، ما ظنّك بقوم من عرفهم عرف الله، ومن أنكرهم أنكر الله، فلا مؤمن إلّا وهو بهم مصدِّق، وبمعرفتهم موقن .(1)

أقول: الآية الكريمة تصرّح بأنّ اللّه تعالى عرّف نفسه، وتدلّ - بقرينة الأخبار - على تعريف اللّه تعالى نفسه القدّوس للعباد في العوالم السابقة وهذا التعريف أوجب المعاينة للربّ تعالى ومخاطبته ولولاه لما عرف أحد من خالقه ولا من رازقه. وقد تعرّضنا لبيان الآية المباركة والروايات الواردة في تفسيرها في كتابنا سدّ المفرّ على منكر عالم الذرّ، فراجع. (2)

الآية الرابعة:

(لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّه والْيَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّه ورَسُولَهُ ولَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمانَ وأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ويُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللّه عَنْهُمْ ورَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللّه أَلا إِنَّ حِزْبَ اللّه هُمُ الْمُفْلِحُونَ) .(3)

* روى الكليني عن أحمد بن صنوان عن أبان عن فضيل قال: قلت للإمام أبي عبدالله(ع): (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان) هل لهم في ما كتب في قلوبهم صنع؟ قال: لا .(4)

* روى العلّامة الأسترآبادي في كتابه مسنداً عن محمّد بن الحنفية(ع): إنّما حبّنا أهل

ص: 255


1- كشف الغمة: 2/420؛ بحارالأنوار : 5/260 ح67.
2- سد المفرّ علي منكر عالم الذر: 213.
3- المجادلة : 22.
4- الكافي : 2/15 ح2؛ بحارالأنوار: 66/200 ح22.

البيت شيء يكتبه اللّه في أيمن قلب العبد، ومن كتبه اللّه في قلبه لا يستطيع أحد محوه. أما سمعت اللّه تعالى يقول: (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان) فحبّنا أهل البيت الإيمان .(1)

أقول: صريح الآية المباركة أنّ اللّه تعالى كتب في قلوب العباد الذين آمنوا وعملوا بمقتضى الهداية الأوليّة الإيمان وقد صرّح الخبر المفسّر لها بعدم مدخليّة إرادة العبد في ما صنعه اللّه تعالى. والظاهر أنّ المراد من الإيمان - الذي ليس للعبد فيه صنع - هو المعرفة وازديادها في قلوب المؤمنين الكادحين في عمل الخير فإنّها التي ليس للعبد فيها صنع بحسب الأخبار الكثيرة - كما ستعرف - نعم الآية لا تدلّ على كتب أصل المعرفة إنّما عنايتها بازدياد المعرفة ولكن هذا أيضا دليل على أنّ معرفة اللّه تعالى وزيادتها بيده سبحانه.

والظاهر أنّ إطلاق الإيمان على المعرفة الفطريّة من باب المجاز وباعتبار أنّ العقل يحكم بلزوم الإيمان به تعالى بعد تعريفه نفسه القدّوس، ومن باب أنّ تلك المعرفة تقتضي الإيمان به تعالى.

وأمّا تفسير الإيمان بحبّ أهل البيت: فأيضاً يدلّ على فطريّة معرفتهم كما هو ظاهر قوله تعالى حكاية لقول إبراهيم(ع): (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) .(2)

قال شيخنا المحقّق آية اللّه الشيخ محمّد باقر الملكيّ1:

الظاهر أنّ المراد من الكتابة هي الكتابة التكوينيّة لا التشريعيّة، والمراد من الإيمان هو معرفة اللّه سبحانه بتعريفه نفسه إل-ى عباده، وهو فعله تعال-ى مستقيماً وليس للعباد فيه صنع. وإطلاق الإيمان عليها من باب إطلاق المسبّب على السبب .(3)

ص: 256


1- تأويل الآيات الظاهرة: 650؛ بحارالأنوار : 23/366 ح31 وفيه «المؤمن» بدل «العبد».
2- إبراهيم: 37.
3- توحيد الإماميّة : 39.

الآية الخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتاسعة:

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وللّه جُنُودُ السَّماواتِ والْأَرْضِ وكانَ اللّه عَلِيماً حَكِيماً) (1).

(لَقَدْ رَضِيَ اللّه عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) .(2)

(ثُمَّ أَنْزَلَ اللّه سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) .(3)

(إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّه إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللّه مَعَنا فَأَنْزَلَ اللّه سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وكَلِمَةُ اللّه هِيَ الْعُلْيا واللّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ) .(4)

(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللّه سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وكانُوا أَحَقَّ بِها وأَهْلَها وكانَ اللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) .(5)

أقول: من الواضح دلالة الآيات على أنّ إنزال السكينة فعل من أفعال اللّه تعالى، وقد فسّرت السكينة في الأخبار المباركة بالإيمان - كما ستعرف - ومن الواضح أنّ المراد من الإيمان ليس هو الإيمان المستند إلى العبد ذلك أنّه الإيمان المستند إلى العبد لا يستند إلى اللّه تعالى إلّا باعتبار المقدّمات كالتوفيقات والهدايات، بل المراد منه المعرفة الفطريّة والتذكّر بها وازديادها - وقد عرفت الوجه في إطلاق الإيمان على

ص: 257


1- . الفتح : 4.
2- الفتح : 18.
3- التوبة : 26.
4- التوبة : 40.
5- الفتح : 26.

المعرفة - والظاهر أنّ هذه السكينة من قبيل الهداية بعد قبول الهداية الأوليّة لا أصل المعرفة.

قال شيخنا المحقّق آية اللّه الشيخ محمّد باقر الملكيّ1:

بيان: قد مجّد سبحانه نفسه القدّوس أنّ الذي أنزل السكينة ف-ي قلوب المؤمنين واصطفاهم بهذه الكرامة الكبيرة هو اللّه سبحانه، كي يزدادوا إيماناً على إيمانهم ونوراً على نورهم. فتفيد الآيات الكريمة أنّ السكينة - كما أنّها موجبة لزيادة الإيمان - كذلك تكون موجبة وشرطاً لحصول أصل الإيمان. ومنه يعلم أنّ هذه السكينة ليست بمعنى السكون المقابل للحركة ف-ي الأجسام ولا بمعنى توقف القلب -- أي سكونه وخموده -- فإنّه عين سقوطه وسلب أنواره ومعرفته وعين ابتلائه بالخذلان، بل المراد سكونه ف-ي مقابل الاضطراب والخواطر المتضادّة الواردة على القلوب والترديد والارتياب. فإنّ ذلك كلّه من تبعات الجهل وفقدان العلم والعرفان ومن نفثات الشيطان. فلابدّ أن تكون السكينة حقيقة مانعة أو رافعة لجميع ما ذكرناه من الأمراض. فالسكينة الشافية الرافعة لها، ليست إلّا حقيقة نوريّة تنشرح بها الصدور وتطمئنّ بها القلوب. فالموقف الذي ترد فيه السكينة على القلب موقف الكرامة وموطن الرحمة. فإنّ الموقف مقام تعريفه تعال-ى نفسه للمؤمنين وانبساط الرحمة الموجبة لتحقّق الإيمان أو ازدياده، كما هو صريح قوله تعال-ى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ في قُلُوبِ الْمُؤْمِنينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِم). ويشهد على ذلك أيضاً الروايات الواردة ف-ي هذا الباب:

- روى الكليني عن محمّد بن يحيى مسنداً عن أبي حمزة، عن الإمام أبي جعفر(ع) قال: سألته عن قول اللّه عزّوجلّ: (أَنْزَلَ السَّكِينَةَ في قُلُوبِ الْمُؤْمِنينَ) قال: هو الإيمان .(1)

ص: 258


1- الكافي: 2/15 ح1؛ بحارالأنوار: 66/199 ح18.

- وروى أيضاً عن عدّة من أصحابنا مسنداً عن محمّد بن مسلم، عن الإمام أبي جعفر(ع) قال: السكينة الإيمان .(1)

- وروى أيض-اً ع-ن عليّ بن إبراهيم مسنداً عن حفص بن البختري وهشام بن سالم وغيرهما، عن الإمام أبي عبداللّه(ع) في قول اللّه عزّوجلّ: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ في قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) قال: هو الإيمان (2).

- وروى أيضاً عن عليّ بن إبراهيم مسنداً عن جميل، قال: سألت الإمام أبا عبداللّه(ع) عن قوله عزّوجلّ: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ في قُلُوبِ المُؤمِنينَ) قال: هو الإيمان .(3)

- وقال صاحب التحف: دخل عليه [أي: على الإمام الصادق(ع)] رجل فقال له: ممّن الرجل؟... قال الإمام جعفر(ع): إنّ لمحبّينا في السرّ والعلانية علامات يعرفون بها.

قال الرجل: وما تلك العلامات؟

قال: تلك خلال، أوّلها أنّهم عرفوا التوحيد حقّ معرفته وأحكموا علم توحيده، والإيمان بعد ذلك بما هو وما صفته، ثمّ علموا حدود الإيمان وحقائقه وشروطه وتأويله.

قال سدير: يا ابن رسول الله، ما سمعتك تصف الإيمان بهذه الصفة!

قال: نعم، ليس للسائل أن يسأل عن الإيمان ما هو حتى يعلم الإيمان بمن .(4)

ص: 259


1- الكافي: 2/15 ح3؛ بحارالأنوار: 13/443 ح7 بسند آخر.
2- لكافي: 2/15 ح4؛ بحارالأنوار: 66/200 ح20.
3- الكافي: 2/15 ح5؛ بحارالأنوار: 66/200 ح21.
4- تحف العقول: 326؛ بحارالأنوار: 65/276 ح31.

أقول: إنّ الإيمان لا يتحقّق ولا يتحصّل حتى عرف الإنسان أنّ الإيمان بمن. وإنّ الإيمان عبارة عن التسليم والقبول ف-ي مقابل ما عرف من الحقّ المبين والتعهّد بالوفاء به وبلوازمه. وهذه فريضة ذاتيّة ببداهة العقل. وكذلك وجوب التسليم والتصديق عند معرفته تعالى. فعليه يكون الإيمان الذي هو فعل الإنسان بقلبه وعمله ف-ي مرتبة متأخرة عن معرفته تعالى. فلا محالة تكون المعرفة ف-ي مرتبة العلّة لتحقّق الإيمان ووجوده، وزيادته وكماله وتمامه، على حسب درجات العارفين بحسب العرفان والإيمان، على ما سيجيء من البيان، فتسمية السكينة إيماناً -- كما ف-ي بعض الروايات -- إنّما هو من باب تسمية السبب باسم المسبّب. ولا يناف-ي ذلك ما ذكره بعض اللغويّين من أنّ السكينة بمعنى الوقار ونظائره. فإنّ السكينة لها مراتب ودرجات وكلّ مرتبة من مراتب الوقار لابدّ أن تكون مناسبة لمرتبة من مراتب السكينة. انتهى كلامه رفع مقامه .(1)

الآية العاشرة:

(واعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللّه لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ولكِنَّ اللّه حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمانَ وزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ

ص: 260


1- توحيدالإماميّة : 88 - 91.

والْفُسُوقَ والْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) .(1)

* روى الكليني بسنده عن عبدالرّحمن بن كثير عن الإمام أبي عبدالله(ع) في قوله تعالى: (وهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ)(2) قال: ذاك حمزة وجعفر وعبيدة وسلمان وأبوذرّ والمقداد بن الأسود وعمّار هدوا إلى أميرالمؤمنين(ع) وقوله (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان وزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) يعني أميرالمؤمنين (وكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ والْفُسُوقَ والْعِصْيانَ) الأوّل والثاني والثالث .(3)

* روى صاحب كتاب المحاسن عن الحسن بن زياد قال: سألت الإمام أباعبدالله(ع) عن قول اللّه (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان وزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) هل للعباد بما حبّب صنع؟ قال: لا، ولا كرامة .(4)

أقول: الآية الكريمة صريحة في إسناد تحبيب الإيمان إلى اللّه تعالى فهو الذي حبّب إلينا الإيمان وزيّنه في الصدور وقد أكّد الخبر هذا الظهور وأقرّه، والظاهر أنّ المراد من التحبيب هو تعريف اللّه تعالى نفسه بحيث يحبّه العباد.

إن قلت: كيف يحبّه الكفّار مع أنّهم منكرون له؟

قلت: وجه إنكارهم إمّا هو الغفلة عن كونه المنعم والمحسن بالنعم وأنّ ما يكون بأيديهم نعمه عليهم، ولذا أمر اللّه تعالى نبيّه موسى(ع) وهكذا داود(ع) بتحبيب الخلق إليه بتذكير نعمه.

* روى العلّامة المجلسي عن تفسير الإمام الحسن العسكريّ(ع) أنّه قال: قال عليّ بن الحسين8: أوحى اللّه تعالى إلى موسى، حبّبني إلى خلقي وحبّب خلقي إليّ.

قال: يا ربّ كيف أفعل؟

قال: ذكّرهم آلائي ونعمائي ليحبّوني، فلئن تردّ آبقاً عن بابي، أو ضالّاً عن فنائي أفضل لك من عبادة مائة سنة بصيام نهارها وقيام ليلها.

قال موسى: ومن هذا العبد الآبق منك؟

قال: العاصي المتمرّد.

قال: فمن الضالّ عن فنائك؟

قال: الجاهل بإمام زمانه، تعرفه والغائب عنه بعد ما عرفه، الجاهل بشريعة دينه، تعرفه شريعته وما يعبد به ربّه ويتوصّل به إلى مرضاته.

ص: 261


1- الحجرات : 7.
2- الحجّ: 24.
3- الكافي : 1/426 ح71؛ بحارالأنوار: 22/125 ح96.
4- المحاسن: 1/199 ح29؛ بحارالأنوار : 5/222 ح8.

قال الإمام عليّ بن الحسين8: فأبشروا علماء شيعتنا بالثواب الأعظم والجزاء الأوفر .(1)

* وعن رسول الله(ص) أنّه قال: قال اللّه عزّوجلّ لداود(ع): أحبّني وحبّبني إلى خلقي.

قال: ربّ نعم أنا أحبّك فكيف أحبّبك إلى خلقك؟

قال: أذكر أيادي عندهم فإنّك إذا ذكرت ذلك لهم أحبّوني .(2)

وإمّا هو عنادهم وإنكارهم للحقّ بعد وضوحه لهم كما قال تعالى: (جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) .(3)

الآية الحادية عشرة:

(هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسان) .(4)

* عن الإمام علي(ع) في قول اللّه عزّوجلّ (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلّاالْإِحْسانُ) قال: سمعت رسول الله(ص) يقول: إنّ اللّه عزّوجلّ قال: ما جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلّا الجنّة .(5)

بيان: تدلّ الآية المباركة - بقرينة تفسير الإمام(ع) - أنّ اللّه تعالى هو الذي أنعم على العباد بالتوحيد. والظاهر أنّ المراد من ذلك هو تعريف اللّه تعالى نفسه القدّوس متوحّداً بالألوهيّة. (6)

ص: 262


1- التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري(ع): 1/342 ح219؛ بحارالأنوار : 2/4 ح6.
2- قصص الأنبياء (للراوندي): 1/205 ح266؛ بحارالأنوار : 14/37 ح16.
3- النمل: 14.
4- الرحمن : 60.
5- الأمالي (للصدوق): 386 ح7؛ بحارالأنوار : 3/2 ح2.
6- وظاهر أن إدخال العارفين بتوحيده الجنّة متوقّف علي قبولهم للمعرفة وخضوعهم أمام اللّه تعالي. إذ جميع البشر مفطورون علي المعرفة ومن الواضح أنّ من كان عارفاً ولكن لم يعمل وفق معرفته لا يكون له ثواب الجنّة، (عليّ الرضويّ).

الآية الثانية عشرة والثالثة عشرة والرابعة عشرة:

(لا يُكَلِّفُ اللّه نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَ-ها ما كَسَبَتْ وعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا ولا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا ولا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ واعْفُ عَنَّا واغْفِرْ لَنا وارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) .(1)

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وأَوْفُوا الْكَيْلَ والْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا ولَوْ كانَ ذا قُرْبى وبِعَهْدِ اللّه أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) .(2)

(لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ومَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللّه لا يُكَلِّفُ اللّه نَفْساً إِلَّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللّه بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) .

قال شيخنا المحقّق آية اللّه محمّد باقر الملكيّ1 في بيان الآيات:

بيان: قد تقرّر ف-ي محلّه ف-ي بيان شرائط التكليف بالأحكام أنّ من جملتها العقل والبلوغ والقدرة على الفعل والترك. وقد منّ اللّه على العباد وتفضّل عليهم وقال: (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(3) و(يُريدُ اللّه بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُريدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(4) . فكلّفهم ما يطيقون وما يسعون له، بل تفضّل عليهم وكلّفهم دون ما يطيقون ودون ما يسعون له بحيث لم يستوعب التكليف جميع فضاء طاقتهم ووسعهم، تسهيلاً وإرفاقاً وهم يطيقون ويسعون لأزيد ممّا كلّفوا.

-- روى المجلسي عن المحاسن، عن علي بن الحكم، مسنداً عن حمزة

ص: 263


1- . البقرة : 286.
2- الأنعام : 152.
3- الحج: 78.
4- البقرة: 185.

الطيار، عن الإمام أبي عبدالله(ع) قال: قال لي: اكتب، وأملي: إنّ من قولنا: إنّ اللّه يحتجّ على العباد بالذي آتاهم وعرفهم، ثمّ أرسل إليهم رسولاً وأنزل عليه الكتاب... ما أمروا إلّا بدون سعتهم وكلّ شيء أمر الناس به، فهم يسعون له. وكلّ شيء لا يسعون له، فموضوع عنهم. ولكنّ الناس لا خير فيهم .(1)

-- وروى الصدوق عن أبيه ومحمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد رحمهما اللّه مسنداً عن محمّد بن عليّ الحلبي، عن الإمام أبي عبدالله(ع) قال: ما أمر العباد إلّا بدون سعتهم. فكل شيء أمر الناس بأخذه، فهم متّسعون له. وما لا يتّسعون له، فهو موضوع عنهم. ولكن الناس لا خير فيهم .(2)

-- وروى المجلسي عن المحاسن، عن علي بن الحكم، عن هشام بن سلام، عن الإمام أبي عبدالله(ع) قال: ما كلّف اللّه العباد إلّا ما يطيقون. وإنّما كلّفهم في اليوم والليلة خمس صلوات، وكلّفهم في كلّ مائتي درهم خمسة دراهم، وكلّفهم صيام شهر رمضان في السنة وكلّفهم حجّة واحدة، وهم يطيقون أكثر من ذلك. وإنّما كلّفهم دون ما يطيقون ونحو هذا .(3)

إذا تقرّر ذلك فنقول: قوله تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللّه نَفْساً إلَّا وُسْعَها)، أي: ما جعل اللّه سبحانه ف-ي دينه تكليفاً لا يقدر العباد على امتثاله. وكذلك ما جعل عليهم ف-ي دينه من حرج وعسر. وليس التكليف إلّا ما

ص: 264


1- . المحاسن: 1/236 ح204؛ بحارالأنوار: 5/300 ح4.
2- التوحيد للصدوق: 347 ح6؛ بحارالأنوار: 5/36 ح51.
3- المحاسن: 1/296 ح465؛ بحارالأنوار: 5/41 ح66.

يوافق وسعهم وطاقتهم. فقوله تعالى: (وُسْعها) مطلق يشمل ما كان التكليف مستوعباً لفضاء وسعهم وطاقتهم ويشمل ما دون طاقتهم ووسعهم أيضاً. فالأخبار التي أوردناها، تصلح أن تكون مقيدة للإطلاق المذكور. فيكون المراد من الوسع المذكور ف-ي الآية ما دون وسعهم وطاقتهم. أي: لا يكلّف اللّه نفساً إلّا ما دون وسعهم وطاقتهم.

-- روى الكليني، عن عليّ بن إبراهيم مسنداً عن عبدالأعلى، قال: قلت للإمام أبي عبدالله(ع) أصلحك الله، هل جعل في الناس أداة ينالون بها المعرفة؟

قال: فقال:لا.

قلت: فهل كلّفوا المعرفة؟

قال: لا. على اللّه البيان. (لا يُكَلِّفُ اللّه نَفْساً إلَّا وُسْعَها) و(لا يُكَلِّف اللّه نَفْساً إلَّا ما آتاها) (1)

أقول: الرواية الشريفة صريحة ف-ي أنّ اللّه سبحانه لم يجعل للناس أداة ينالون بها المعرفة. والمراد من المعرفة هي معرفة اللّه سبحانه. ضرورة أنّ ما سواها من الأحكام الشرعيّة، لإمكان تحصيل المعرفة بها، يجب تحصيل العلم بها بالإجتهاد والتفقّه وجوباً كفائيّاً وبالتقليد على العوامّ وجوباً عينيّاً للعمل بها. وكذلك عدّة من المعارف الأصليّة يجب تحصيل العلم والإيمان، والتصديق والتديّن بها.

قال تعالى: (فَلَوْلا نَفَرَمِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُم طائِفة لِّيَتَفَقَّهُوا في الدِّين). فقوله(ع): «على اللّه البيان» نصّ على أنّ المعرفة لا يكون إلّا بتعريفه تعالى. فلا تشمل المعرفة المذكورة ف-ي الرواية الشريفة تحصيل القطع

ص: 265


1- المحاسن: 1/276 ح392؛ الكافي: 1/163 ح5؛ بحارالأنوار: 5/302 ح10.

بوجود الصانع بالمقدّمات المتعارفة ف-ي المنطق الذي سمّوه معرفة بالوجه. فإنّه تحصيل للحاصل. وليس التصدّي لتحصيله إلّا تكلّفاً مستغنىً عنه. أو يقال: إذا لا يمكن معرفته تعالى إلّا بتعريفه سبحانه، فلا يكون المعرفة بالوجه معرفة بحسب الواقع وبحسب اللّغة والشرع.

قوله تعالى: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللّه لا يُكَلِّفُ اللّه نَفْساً إِلَّا ما آتاها). أقول: إن كان المراد من الموصول ف-ي الآية هو إقدار اللّه تعالى المكلّف، فيصحّ الإستدلال بهذه الآية على أنّ معرفته تعالى خارجة عن وسع العباد. وهذا هو الظاهر من سياق الآية الكريمة. وأمّا إن كان المراد من الموصول هو المال، تخرج الآية الكريمة من الدلالة على ما نحن بصدده .(1)

أقول: الظاهر أنّ الرواية بصدد بيان الآيات المباركات، فتكون الآيات دالّة على المقصود حتى الآية الأخيرة لأنّ المستفاد من كلامه(ع) أنّ «ما» في قوله تعالى (لا يكلّف اللّه نفساً إلّا ما آتاها) هو المعرفة، ومن المحتمل أن يكون بيان الإمام(ع) في الحديث غير ناظر إلى الآيات بل هو بيان على حدة في عدم تكليف اللّه تعالى العباد المعرفة لأنّها ليست في وسعهم. وبناء على ذلك، لا تكون الآيات من الآيات الدالّة على المقصود، ويشهد لذلك أنّ آيات سورتي الأنعام والطلاق مرتبطان بالقضايا الماليّة لا القضايا المعرفيّة.

وأمّا الآية في سورة البقرة فلا ظهور لها في الأمور المعرفيّة ولم نعثر على خبر يتضمّن بيان الآيات صريحاً.

ص: 266


1- توحيدالإماميّة : 107 - 109.

الآية الخامسة عشرة والسادسة عشرة والسابعة عشرة:

(إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) .(1)

(وَيَزِيدُ اللّه الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدى) .(2)

(وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) .(3)

* روى عبداللّه بن جعفر الحميري عن أحمد عن البزنطي قال:قلت له: قول اللّه تبارك وتعالى (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى)؟

قال: اللّه يهدي من يشاء ويضلّ من يشاء.

فقلت له: أصلحك اللّه إنّ قوماً من أصحابنا يزعمون أنّ المعرفة مكتسبة وأنّهم إذا نظروا منه وجه النظر أدركوا. فأنكر(ع) ذلك وقال: فما لهؤلاء القوم لا يكتسبون الخير لأنفسهم ليس أحد من الناس إلّا وهو يحبّ أن يكون خيراً ممّن هو خير منه. هؤلاء بنو هاشم موضعهم موضعهم وقرابتهم قرابتهم، وهم أحقّ بهذا الأمر منكم، أفترون أنّهم لا ينظرون لأنفسهم وقد عرفتم ولم يعرفوا.

قال الإمام أبو جعفر(ع): لو استطاع الناس لأحبّونا .(4)

أقول: صريح الآية الأولى أنّ الهداية من الشؤون المختصّة باللّه تعالى فإنّه هو الذي يهدي من يشاء ويضلّ من يشاء. وهناك آياتٌ أخرى تدلّ على ما ذكرنا نظير الآية المباركة (إِنّا هَدَيْناهُ السَّبِيل) (5).

و أمّا الخبر الشريف فهو صريح في أنّ المعرفة غير مكتسبة حتى معرفة أوليائه تعالى لأنّها متوقّفة على معرفته تعالى، فلا يمكن معرفة الرسول إلّا بعد معرفة المرسِل

ص: 267


1- الليل : 12.
2- مريم : 72.
3- . محمّد : 17.
4- قرب الإسناد: 356 ح1274؛ بحارالأنوار : 5/199 ح20.
5- الإنسان: 3.

وواضح أنّ المحبّة فرع المعرفة، ولذا لا يمكن للعباد محبّة أوليائه لأنّها متوقفّة على معرفتهم ومعرفتهم متوقّفة على معرفة اللّه تعالى الذي اجتباهم واصطفاهم.

و أمّا الآية الثانية والثالثة فهما صريحان في إسناد ازدياد الهداية إلى اللّه تعالى، فهو الذي يزيد الذين قبلوا الهداية الأوليّة هدى ونوراً وهذه هي سنّته الحكيمة. فمن آمن به تعالى وصدّق برسله وأوليائه واتقاه وخافه، يزيده اللّه نوراً على نوره وهداية على هدايته.

قال شيخنا المحقّق آية اللّه محمّد باقر الملكيّ1:

بيان: لا يخفى أنّه لا دلالة ف-ي قوله تعالى: (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) على اختصاص الهداية بالهداية التشريعيّة، كما زعمه الزمخشري. ولا بالهداية التكوينيّة كما هو ظاهر الطبرسي. بل الظاهر بمعونة الألف واللام هي الأعم من التكوينيّة والتشريعيّة.

نعم، الآية الكريمة شاملة للهداية التكوينيّة: أي: معرفته تعالى ومعرفة نعوته وكمالاته بتعريفه سبحانه نفسه إلى عباده بالأولية والأولوية. وصريح هذه الآية الكريمة أنّ الهداية المذكورة فيها هي الهداية الإبتدائيّة التي تفضّل اللّه سبحانه بها على عباده فيجب -- بالضرورة العقليّة -- التعهّد الصريح بالإيمان والوفاء بهذه الهداية. فعليه يجب على عباده أدب العبوديّة وقبول كرامته تعالى وإحسانه إليهم والاهتداء بها.

وقد شكر اللّه تعالى المؤمنين الذين اهتدوا بهذه الهداية، ووعدهم أن يزداد على هدايتهم الأولى هداية، فلا يزال يضاعف عليهم هداية بعد هداية وكرامة بعد كرامة. فلا حدّ لمعرفته تعالى إلّا على قدر ما يشاؤه سبحانه، كما قال تعالى: (يَزِيدُ اللّه الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) .(1)(2)

ص: 268


1- مريم: 76.
2- توحيدالإماميّة : 98 - 99.

الآية الثامنة عشرة:

(حُنَفاءَ للّه غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ومَنْ يُشْرِكْ بِاللّه فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) .(1)

* روى الكليني بسنده عن زرارة عن الإمام أبي جعفر(ع) قال: سألته عن قول اللّه عزّوجلّ (حُنَفاءَ للّه غَيْرَمُشْرِكِينَ بِهِ)؟

قال(ع): الحنيفيّة من الفطرة التي فطر اللّه الناس عليها لا تبديل لخلق الله. قال: فطرهم على المعرفة به؛ الخبر .(2)

* وفي المحاسن عن ابن أبي عمير عن عمر بن أُذينة عن زرارة قال: سألت أباجعفر(ع) عن قول اللّه (حُنَفاءَ للّه غَيْرَمُشْرِكِينَ) ما الحنيفيّة؟

قال(ع): هي الفطرة التي فطر الناس عليها، فطر اللّه الخلق على معرفته .(3)

بيان: الظاهر من الآية المباركة - بقرينة الأخبار الواردة في تفسيرها - أنّ المراد من الحنيفيّة هي الفطرة التي فطر اللّه تعالى الناس عليها وهي معرفته تعالى. فالحنيفيّة هي الميلان إلى اللّه والإعراض عن الباطل ول-مّا كانت هذه الأفعال متوقّفة على المعرفة، صارت الحنيفيّة من المعرفة الفطريّة. وباعتبار علاقة السبب والمسبّب، يكون المراد منها خصوص المعرفة الفطريّة.

الآية التاسعة عشرة:

(أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللّه جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفي شَكٍّ

ص: 269


1- الحج : 31.
2- الكافي : 2/12 ح4؛ بحارالأنوار: 64/135 ح7.
3- المحاسن: 1/241 ح223؛ بحارالأنوار : 3/279 ح12.

مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُريبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّه شَكٌّ فَاطِر السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكِمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) .(1)(2)

أقول: أفاد شيخنا المحقّق آية اللّه محمّد باقرالملكيّ1 بأنّ الوجه في عدم الشكّ والإرتياب في اللّه تعالى هو تعريفه نفسه القدّوس لعباده وإليك نصّ عبارته:

بيان: الظاهر أنّ قوله تعالى: (أَفي اللّه شَكٌّ) مسوق للردّ والإنكار على الكافرين بالرسل وبما جاؤوا به وعلى الذين أظهروا الشك والارتياب ف-ي دعوتهم، ف- (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفي اللّه شَكٌّ). فإنكار الكافرين على الرسل والشاكّين ف-ي دعوتهم - وإن كان يعمّ جميع موارد دعوتهم -- إلّا أنّ الآية الكريمة اكتفت ف-ي الجواب عن مقالاتهم بأنّ الشكّ والارتياب ف-ي وجوده سبحانه ممّا لا يمكن ولا ينبغي لعاقل ارتكابه. فالإقرار بوجوده سبحانه الذي هو الأصل الأصيل ف-ي دعوة الأنبياء، يكفي ف-ي إبطال جميع مقالاتهم وأباطيلهم.

وممّا ذكرنا يعلم أنّه لا شاهد ولا دلالة ف-ي الآية الكريمة على ما قاله

ص: 270


1- ابراهيم :9 - 10.
2- يظهر من الآيتين المباركتين أنّ الأنبياء: جاؤوا قومهم بالبيّنات ولكنّ القوم لم يؤمنوا بذريعة الشكّ في أمر اللّه تعالي، فأجاب الأنبياء: أنّه لا يمكن التشكيك في اللّه تعالي الذي فطر السماوات والأرض، والوجه في عدم إمكان التشكيك هو معروفيتّه تعالي بالفطرة فلا يمكن التشكيك فيه. لا يقال: إنّ الوجه من عدم جواز التشكيك في الآية هو البيّنات التي جاء بها الأنبياء:. لأنّه يقال: لسان الآية المبيِّن لعدم جواز التشكيك يدلّ علي أنّ ما يسعون للتشكيك فيه أمر لا يجوز الشكّ به لظهوره أشدّ الظهور لا لأجل الاستدلال عليه. أضف إلي ذلك أنّ لسان الآية لا يلائم الاستدلال علي اللّه تعالي بالأدلّة العقليّة، إذ هناك أمر بالتعقّل بقوله تعالي «أفلا يعقلون» أو قوله تعالي «لآيات لأولي الألباب»، و أمّا في المقام فليس هناك إلّا بياناً لعدم جواز التشكيك، فيظهر من ذلك أنّها تساوق أمثال قوله تعالي «ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولنّ اللّه» في الدلالة علي الأمر الفطريّ، (عليّ الرضويّ).

بعض المفسّرين من أنّ مورد الإنكار والإثبات هو توحيده تعالى فقط بعد الفراغ عن ثبوته سبحانه. ضرورة أنّ صدر الآية صريحة ف-ي كفرهم وارتيابهم ف-ي ما جاءتهم الرسل به على نحو الإطلاق. كما أنّه لا شاهد فيها على أنّ المنكرين أجمعين هم الوثنيّون فقط، بل يعمّ جميع الأمم الكافرة.

وبديهيّ أنّ قوله تعالى: (فاطِر السَّماواتِ وَالأَرْض) مسوق ف-ي مقام التمجيد، لا لأجل الإثبات والإستدلال عليه سبحانه. ويشهد على ذلك قوله تعالى: (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ)... فإنّه تجليل وتشريف آخر منه تعالى وثناء على نفسه بأنّه يدعو عباده بوساطة أنبيائه إلى نفسه لغفران ذنوبهم وإمهالهم عن الأخذ بذنوبهم وتأخيرهم إلى آجالهم المسمّاة لهم.

قال الطبرسي: (أَفي اللّه شَكٌّ) دخلت همزة الإنكار على الظرف لأنّ الكلام ف-ي المشكوك فيه وأنّه لا يحتمل الشكّ. وقد تبيّن ممّا ذكرنا أنّ الآية الكريمة ناصّة على نفي الشكّ عن اللّه سبحانه. والظاهر - بقرينة ما سيأتي من الشواهد - أنّ المراد من نفي الشكّ هو أنّ اللّه سبحانه قد عرّف نفسه لعباده وصاروا عارفين به تعالى عرفاناً بسيطاً لا يعرفون أنّهم يعرفون، فلا يستغنون عن تذكرة المذكّرين وتنبيه المنبّهين. وقد أفادت أنّه تعالى ليس أمراً مشكوكاً مبهماً يحتاج إثبات وجوده إلى إقامة برهان .(1)

الآية العشرون

قال اللّه تعالى: (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللّه فَإِنَّ أَجَلَ اللّه لَآتٍ وهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) .(2)

* وفي الكافي عن الإمام أبي جعفر(ع) قال: أنزل اللّه تعالى النصر على الحسين(ع) حتى كان ما بين السماء والأرض ثمّ خيّر النصر أو لقاء اللّه فاختار لقاء اللّه تعالى .(3)

ص: 271


1- توحيدالإماميّة : 78 - 79.
2- العنكبوت : 5.
3- الكافي : 1/260 ح8.

* وفيه أيضاً عن عبدالصمد بن بشير عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله(ع) قال: قلت: أصلحك الله، من أحبّ لقاء اللّه أحبّ اللّه لقاءه ومن أبغض لقاء اللّه أبغض اللّه لقاءه؟

قال: نعم.

قلت: فو اللّه إنّا لنكره الموت؟

فقال: ليس ذلك حيث تذهب، إنّما ذلك عند المعاينة إذا رأىما يحبّ فليس شيء أحبّ إليه من أن يتقدّم واللّه تعالى يحبّ لقاءه وهو يحبّ لقاء اللّه حينئذ، وإذا رأى ما يكره فليس شيء أبغض إليه من لقاء اللّه واللّه يبغض لقاءه .(1)

* روى الصدوق مسنداً عن هشام بن سالم عن الإمام الصادق عن أبيه عن جدّه: قال: سئل أميرالمؤمنين(ع)، بما ذا أحببت لقاء الله؟

قال: ل-مّا رأيته قد اختار لي دين ملائكته ورسله وأنبيائه علمت أنّ الذي أكرمني بهذا ليس ينساني فأحببت لقاءه .(2)

* روى المجلسي عن مصباح الشريعة قال النبيّ(ص): من أحبّ لقاء اللّه أحبّ اللّه لقاءه، ومن كره لقاء اللّه كره اللّه لقاءه .(3)

* روى المجلسي عن الإختصاص أنّه قال عليّ أميرالمؤمنين صلوات اللّه عليه: يفتح لوليّ اللّه من منزله من الجنّة إلى قبره تسعة وتسعين باباً يدخل عليها روحها وريحانها وطيبها ولذّتها ونورها إلى يوم القيامة، فليس شيء أحبّ إليه من لقاء الله .(4)

أقول: الظاهر أنّ المراد من لقاء اللّه تعالى هو معرفته تعالى به فهو اللقاء حقيقة، ومن الواضح أنّ اللقاء لا يطلق على معرفته تعالى بالمعرفة العقليّة.

ص: 272


1- الكافي : 3/134 ح12؛ وسائل الشيعة: 2/428 ح2[2550].
2- الخصال: 1/33 ح1؛ بحارالأنوار : 6/127 ح11.
3- بحارالأنوار : 6/133 ح32؛ مصباح الشريعة: 172.
4- الإختصاص: 345؛ بحارالأنوار : 8/211 ح205.

الآية الحادية والعشرون إلى آخر الآيات:

(ولَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ والْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّه قُلِ الْحَمْدُ للّه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُون) .(1)

(وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّه فَأَنَّى يُؤْفَكُون) .(2)

* روى الصدوق مسنداً عن ابن أُذينة عن زرارة عن الإمام أبي جعفر7 قال: سألته عن قول اللّه عزّوجلّ (حُنَفاءَ للّه غَيْرَمُشْرِكِينَ بِهِ)(3) وعن الحنيفيّة فقال: هي الفطرة التي فطر الناس عليها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ. قال: فطرهم اللّه على المعرفة.

قال زرارة: وسألته عن قول اللّه (وَإِذْأَخَذَ ربّك مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ) الآية، قال: أخرج من ظهر آدم ذريّته إلى يوم القيامة فخرجوا كالذرّ فعرفهم وأراهم صنعه ولولا ذلك لم يعرف أحد ربّه. وقال: قال رسول الله(ص): كلّ مولود يولد على الفطرة يعني على المعرفة بأنّ اللّه عزّوجلّ خالقه فذلك قوله (ولَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ والْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّه) (4).

* وروى البرقي في المحاسن عن جميل بن دراج عن زرارة عن الإمام أبي عبدالله(ع) في قول اللّه (وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ) قال: كان ذلك معاينة اللّه فأنساهم المعاينة وأثبت الإقرار في صدورهم، ولولا ذلك ما عرف أحد خالقه ولا رازقه، وهو قول اللّه (ولَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّه) .(5)

أقول: صريح هذين الخبرين أنّ الوجه في إجابة الجميع بألوهيّة اللّه تعالى هو المعرفة الفطريّة فإنّ الاستشهاد بقوله تعالي (ولَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّه) في

ص: 273


1- لقمان : 25.
2- الزخرف : 87.
3- . الحجّ: 31.
4- لتوحيد للصدوق: 1/330 ح9؛ بحارالأنوار : 3/279 ح11.
5- المحاسن: 1/281 ح411؛ بحارالأنوار : 5/223 ح13.

إطار عالم الذرّ الذي عرّف فيه نفسه للعباد شاهد صدق علي المدّعي.

وممّا يدلّ على المعرفة الفطريّة آيات كثيرة من الذكر الحكيم تدلّ على انصياع العباد جميعهم برّهم وفاجرهم ومؤمنهم وكافرهم إلى اللّه تعالى عند البأساء والضرّاء، فلاحظ:

قال اللّه تعالى: (وإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) .(1)

وقال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ والضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) .(2)

وقال تعالى: (وما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ والضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) .(3)

وقال تعالى: (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللّه ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) .(4)

وقال تعالى: (وإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) .(5)

وقال تعالى: (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) .(6)

وقال تعالى: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ والْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللّه يُنَجِّيكُمْ مِنْها ومِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) .(7)

ص: 274


1- . لقمان : 32.
2- . الأنعام : 42.
3- الأعراف : 94.
4- النحل : 53.
5- الإسراء : 67.
6- العنكبوت : 65.
7- لأنعام : 63.

وقال تعالى: (قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللّه أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّه تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) .(1)

وقال تعالى: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ والْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعا وخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) .(2)

وقال تعالى: (وإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) .(3)

وقال تعالى: (وإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وجَعَلَ للّه أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) .(4)

فهذه الآيات صريحة في أنّ الناس برمّتهم يتوجّهون إلى اللّه مولاهم الحقّ عند الشدائد ولا يشذّ منهم شاذّ عن ذلك وهذا لا يكون إلّا لمفطوريّتهم على المعرفة به وإلّا ل-ما توجّهوا إليه هنالك. فعند انقطاع الأسباب يتوجّهون إلى مسبّب الأسباب، وعند الإضطراب ينقلبون إلى منزل السكينة، وفي البأساء يتضرّعون ويصرخون وينادون من هو قادر على كشف الضرّ عنهم.

وأمّا الآية الأخيرة فصريحة في كون المتضرّعين من المشركين الذين يجعلون للّه أندادا، وكذلك الأمر بالنسبة إلي الآية في سورة لقمان، فتأويلهما بالشرك الخفيّ ممّا لا يمكن بوجه من الوجوه. وبذلك يتم الإستدلال بهذه الآيات علي المعرفة الفطريّة، إذ توجّه المشركين والكفّار إلي اللّه تعالي في تلك الحالات مع عدم أنسهم الذهنيّ به دليل علي وجود نور المعرفة الفطريّة فيهم.

ص: 275


1- الأنعام : 41 - 40.
2- الأنعام : 63.
3- الروم : 33.
4- الزمر : 8.

نعم بعد أن ينجيهم اللّه تعالى يعود أكثرهم إلى شركه وكفره وينسى من كان يدعوه كأن لم يدعه بضرّ مسّه من قبل. فالمشرك بالشرك الجليّ يعود إلى شركه الجليّ، والمشرك بالشرك الخفيّ يعود إلى شركه الخفيّ. ومن أنجاه اللّه تعالى من البحر وظلماته إمّا أن يثبت على الإيمان به تعالى وهم أقلّ القليل، وإمّا أن يعود إلى الشرك الجليّ أو إلى الشرك الخفيّ فيقول لولا قبطان السفينة ومهارته لكنّا في اليمّ غارقين مع أنّ القبطان كان ممّن تضرّع إلى اللّه تعالى بعد اصطدام فلكه بأمواج هي بالجبل أشبه، وأظهر عجزه وفقره عن إيصال الركّاب إلى شاطئ السلامة!

قال شيخنا الأستاذ آية اللّه الميرزا حسن علي المرواريد1 بعد إيراد بعض هذه الآيات:

وبالتأمّل فيها يظهر اندفاع احتمال كون تلك الحالة من آثار الإعتقاد بالتوحيد الثابت بالعقل والآيات، فإنّ مورد تلك الآيات هم المشركون بالشرك الجليّ لا المعتقدون بالتوحيد فقط .(1)

و قال شيخنا الأستاذ آية اللّه المحقّق محمّد باقر الملكيّ1 بعد نقل بعض هذه الآيات:

واضح أنّ هذه الآيات الكريمة صريحة ف-ي أنّ المضطر عند هجوم الكربات عليه، يستغيث به تعالى ويلتجئ إليه ويناجيه أن ينجيه منها ليكون من الشاكرين، وفيها توبيخ بأنّه يعود بعد التذكّر به تعالى إلى الغفلة وبعد التوحيد إلى الشرك.

وهذه الآيات بالنسبة إلى المضطر مطلقة وبعضها صريحة ف-ي شمولها للمضطرّين من الملحدين والكافرين أيضاً. فالإنسان المضطر عند الاضطرار يرتفع الغفلة والنسيان عنه بالنسبة إلى ساحة ربّه تعالى، فيعرف تعالى نفسه إلى عبده فضلاً وإحساناً، فيعرف العبد ربّه بالحقيقة خارجاً عن

ص: 276


1- تنبيهات حول المبدأ والمعاد : 98.

حدّ التعطيل والتشبيه، ويعرفه تعالى بالوحدانيّة أيضاً.

وهذه المعرفة بعينها جارية ف-ي جميع نعوته سبحانه، سواء كانت نعوتاً ذاتية مثل العليم والقدير والحيّ، أو فعليّة مثل الخالق والرزاق والقاهر والباطش. فعلى عهدة الباحث والمفسّر معرفة جميع الآيات الواردة المسوقة بالإرشاد إلى كلّ واحد من هذه النعوت الجميلة الجليلة. وكذلك الكلام بعينه عند سوق العبد إلى الآيات والتفكّر والتعقّل فيها.

وهذه المعرفة ليست على سبيل العلم الحصولي والجزم بوجوده تعالى وتصوّره سبحانه بالوجوه العامّة، ولا على سبيل العلم الحضوري كي يكون سبحانه معروفاً بهذا العلم ومحاطاً به، بل الظاهر أنّ مرجع هذا التعريف والبيان هو ظهوره الذاتيّ من حيث وجوده سبحانه وجميع نعوته تعالى، وحيث إنّه تعالى لا حدّ ولا نهاية لظهوره، فيعرف تعالى نفسه إلى عباده على حسب ما شاءه ويريده من المعرفة، لا بما شاءه العارفون. فلا ينال العارفون من فضله ورحمته إلّا ما شاءه وأراده .(1)

ومن الواضح أنّ المشرك بالشرك الجليّ لا أنس له باللّه تعالى إلّا بناء على المعرفة الفطريّة، ولذا لا يمكن التشكيك في دلالة هذه الطائفة من الأدلّة على المعرفة الفطريّة.

و يشهد على افتراق طريق الفطرة عن المعرفة العقليّة الخبر الآتي، فلاحظ:

* في كتاب متشابه القرآن ومختلفه لابن شهرآشوب أنّه قال رجل للإمام الصادق(ع): ما الدليل على اللّه ولا تذكر لي العالم والجوهر والعرض؟

فقال(ع): هل ركبت في البحر؟

قال: نعم.

قال(ع): فهل عصفت بكم الريح حتى خفتم الغرق؟

ص: 277


1- توحيدالإماميّة : 180 - 181.

قال: نعم.

قال(ع): فهل انقطع رجاؤك من المركب والملّاحين؟

قال: نعم.

قال(ع): فهل تتبّعك نفسك أن ثمَّ من ينجيك؟

قال: نعم.

قال(ع): فإنّ ذلك هو اللّه تعالى، قال تعالى: (ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) . (1)(2)

و الوجه في الإستدلال هو أنّ الراوي طلب من الإمام(ع) طريقاً إلى معرفة اللّه تعالى غير طريق الآيات - فإنّه لا حاجة في معرفته بالآيات إلى مثل هذه الواقعة - وقد أشار الإمام(ع) إلى البأساء والضرّاء.

* وفي التوحيد عن الإمام أبي محمّد العسكري(ع) في قول اللّه عزّوجلّ (بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)، قال: اللّه هو الذي يتألّه إليه عند الحوائج والشدائد كلّ مخلوق عند انقطاع الرجاء من كلّ من دونه وتقطّع الأسباب من جميع من سواه، يقول بسم اللّه أي أستعين على أموري كلّها باللّه الذي لا تحقّ العبادة إلّا له المغيث إذا استغيث والمجيب إذا دعي وهو ما قال رجل للصادق(ع): يا ابن رسول الله، دلّني على اللّه ما هو فقد أكثر عليّ المجادلون وحيّروني.

فقال(ع) له: يا عبد الله، هل ركبت سفينة قطّ؟

قال: نعم.

قال(ع): فهل كُسر بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟

قال: نعم.

قال(ع): فهل تعلّق قلبك هنالك أنّ شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك؟

ص: 278


1- النحل: 53.
2- متشابه القرآن : 1/27؛ البرهان في تفسير القرآن: 1/106 ح267.

قال: نعم.

قال الصادق(ع): فذلك الشيء هو اللّه القادر على الإنجاء حيث لا منجى وعلى الإغاثة حيث لا مغيث.

ثمّ قال الصادق(ع): وربما ترك بعض شيعتنا في افتتاح أمره بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فيمتحنه اللّه عزّوجلّ بمكروه لينبّهه على شكر اللّه تبارك وتعالى والثناء عليه ويمحق عنه وصمة تقصيره عند تركه قول بسم اللّه الرحمن الرحيم.

قال: وقام رجل إلى علي بن الحسين8 فقال: أخبرني ما معنى بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ؟

فقال عليّ بن الحسين8: حدّثني أبي عن أخيه الحسن عن أبيه أميرالمؤمنين(ع) أنّ رجلاً قام إليه فقال: يا أميرالمؤمنين، أخبرني عن بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ما معناه؟

فقال(ع): إنّ قولك اللّه أعظم اسم من أسماء اللّه عزّوجلّ، وهو الاسم الذي لا ينبغي أن يسمّى به غير اللّه ولن يسمّ به مخلوق.

فقال الرجل: فما تفسير قول الله؟

قال(ع): هو الذي يتألّه إليه عند الحوائج والشدائد كلّ مخلوق عند انقطاع الرجاء من جميع من دونه، وتقطّع الأسباب من كلّ من سواه وذلك أنّ كلّ مترئّس في هذه الدنيا ومتعظّم فيها وإن عظم غناؤه وطغيانه وكثرت حوائج من دونه إليه، فإنّهم سيحتاجون حوائج لا يقدر عليها هذا المتعاظم وكذلك هذا المتعاظم يحتاج إلى حوائج لا يقدر عليها فينقطع إلى اللّه عند ضرورته وفاقته حتى إذا كفى همّه عاد إلى شركه، أما تسمع اللّه عزّوجلّ يقول (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللّه أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّه تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ)(1) فقال اللّه جلّ جلاله لعباده: أيّها الفقراء إلى رحمتي إنّي قد ألزمتكم الحاجة إليّ في كلّ حال وذلّة العبوديّة في

ص: 279


1- الأنعام: 40 - 41.

كلّ وقت فإلىّ فافزعوا في كلّ أمر تأخذون فيه وترجون تمامه وبلوغ غايته، فإنّي إن أردت أن أعطيكم لم يقدر غيري على منعكم، وإن أردت أن أمنعكم لم يقدر غيري على إعطائكم، فأنا أحقّ من سئل وأولى من تضرّع إليه، فقولوا عند افتتاح كلّ أمر صغير أو عظيم بِسْمِ اللّه الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أي أستعين على هذا الأمر باللّه الذي لا تحقّ العبادة لغيره، المغيث إذا استغيث، والمجيب إذا دعي الرحمن، الذي يرحم ببسط الرزق علينا، الرحيم بنا في أدياننا ودنيانا وآخرتنا، خفّف علينا الدين وجعله سهلاً خفيفاً، وهو يرحمنا بتميّزنا عن أعاديه.

ثمّ قال: قال رسول الله(ص): من حزنه أمر تعاطاه فقال بسم اللّه الرحمن الرحيم وهو مخلص للّه ويقبل بقلبه لم ينفكّ من إحدى اثنتين: إمّا بلوغ حاجته في الدنيا، وإمّا يعدّ له عند ربّه ويدّخر لديه، وما عند اللّه خير وأبقى للمؤمنين .(1)

أقول: قد أشار الإمام(ع) إلى معنى «الله» وأنّه تعالى هو الذي يفزع إليه الجميع عند انقطاع الأسباب فيخلصون له الدعوة. ثمّ قال(ع) بأنّ هذا هو المراد من قول الإمام الصادق(ع) فإنّه ذكّر السائل بحال البأساء والضرّاء حيث تنقشع جميع الحجب فيسطع نور المعرفة في القلب. ثمّ نقل الإمام الصادق(ع) عن الإمام علي بن الحسين عن أبيه عن أمير المؤمنين: معنى بسم اللّه الرحمن الرحيم وأنّ المراد من لفظة «الله» هو المتألّه إليه في الحوائج والمستغاث به عند الشدائد، فالجميع يفزع إليه ويرجع إليه في الورطات، فلا أحد يفزع إلى غيره أو يدعوا إلهاً سواه بل هو المدعوّ دون غيره.

* روى الكليني عن هشام بن سالم عن عمّار الساباطيّ قال: سألت أباعبدالله(ع) عن قول اللّه تعالى: (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ)(2) قال: نزلت في أبي الفصيل إنّه كان رسول الله(ص) عنده ساحراً فكان (إِذَا مَسَّهُ الضُّرُّ) يعني السّقم (دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً

ص: 280


1- التوحيد للصدوق: 231 ح5؛ بحارالأنوار : 89/232 ح14.
2- . الزمر: 8.

إِلَيْهِ) يعني تائباً إليه من قوله في رسول الله(ص) ما يقول (ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ) يعني العافية (نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) يعني نسي التوبة إلى اللّه عزّوجلّ ممّا كان يقول في رسول الله(ص) إنّه ساحر، ولذلك قال اللّه عزّوجلّ (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) يعني إمرتك على الناس بغير حقّ من اللّه عزّوجلّ ومن رسوله (ص).

قال: ثمّ قال أبوعبدالله(ع): ثمّ عطف القول من اللّه عزّوجلّ في عليّ(ع) يخبر بحاله وفضله عند اللّه تبارك وتعالى فقال (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ ويَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ) أنّ محمّداً رسول اللّه (والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أنّ محمّداً رسول اللّه وأنّه ساحر كذّاب (إنّمايَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ).

قال: ثمّ قال أبوعبدالله(ع): هذا تأويله يا عمّار .(1)

أقول: أنت ترى أنّ أبا الفصيل يدعو اللّه في المرض مع أنّه كان يسخر من رسوله(ص) وذلك ليس إلّا لمفطوريّته على معرفة اللّه تعالى.

هذا ما أردنا نقله من الآيات الدالّة علي المعرفة الفطريّة.

ص: 281


1- الكافي : 8/204 ح246؛ بحارالأنوار: 24/121 ح8.

الباب الثالث: الأخبار الدالّة على المعرفة الفطريّة

ص: 282

و أمّا الأخبار الدالّة على معرفة اللّه تعالى به فكثيرة جدّاً، فلاحظ الأخبار التالية:

1- روى الصدوق مسنداً عن خالد بن يزيد عن عبدالاعلى عن الإمام أبي عبداللّه(ع) قال: اسم اللّه غير اللّه، وكلّ شيء وقع عليه اسم شيء فهو مخلوق ما خلا اللّه، فأمّا ما عبّرت الألسن عنه أو عملت الأيدي فيه فهو مخلوق، واللّه غاية من غاياه، والمغيّا غير الغاية، والغاية موصوفة، وكلّ موصوف مصنوع، وصانع الأشياء غير موصوف بحدّ مسمّى، لم يتكوّن فتعرف كينونته بصنع غيره، ولم يتناه إلى غاية إلّا كانت غيره، لا يزلّ من فهم هذا الحكم أبداً وهو التوحيد الخالص فاعتقدوه وصدّقوه وتفهّموه بإذن اللّه عزّوجلّ، ومن زعم أنّه يعرف اللّه بحجاب أو بصورة أو بمثال فهو مشرك، لأنّ الحجاب والمثال والصّورة غيره، وإنّما هو واحد موحّد فكيف يوحّد من زعم أنّه عرفه بغيره، إنّما عرف اللّه من عرفه بالله، فمن لم يعرفه به فليس يعرفه، إنّما يعرف غيره، ليس بين الخالق والمخلوق شيء، واللّه خالق الأشياء لا من شيء، يسمّى بأسمائه فهو غير أسمائه والأسماء غيره، والموصوف غير الواصف، فمن زعم أنّه يؤمن بما لا يعرف فهو ضالّ عن المعرفة، لا يدرك مخلوق شيئاً إلّا بالله، ولا تدرك معرفة اللّه إلّا بالله، واللّه خلو من خلقه وخلقه خلو منه، وإذا أراد شيئاً كان كما أراد بأمره من غير نطق، لا ملجأ لعباده ممّا قضى، ولا حجّة لهم فيما ارتضى، لم يقدروا على عمل ولا معالجة ممّا أحدث في أبدانهم المخلوقة إلّا بربّهم، فمن زعم أنّه يقوى على عمل لم يرده اللّه عزّوجلّ فقد زعم أنّ إرادته تغلب إرادة الله، تبارك اللّه ربّ العالمين .(1)

ص: 283


1- التوحيد للصدوق: 142؛ بحارالأنوار : 4/160 ح6.

أقول: هذا الخبر الشريف صريح في انحصار معرفة اللّه تعالى به، فلا أحد يستطيع أن يعرف اللّه تعالى إلّا إذا عرفه به، فهو المعرّف لنفسه للعباد معرفة سبّوحةً عن المعلوميّة والمعقوليّة. وأمّا المعرفة بالآيات فهي معرفته خارجا عن الحدّين؛ حدّ التعطيل وحدّ التشبيه، فمن زعم أنّه يؤمن بما لا يعرف فهو ضالّ عن المعرفة ولابدّ من تذكيره بحالات البأساء والضرّاء حيث يلتجي فيها إلى القيّوم القدير الرحيم الرؤوف فيرى نفسه عارفاً بربّه من دون توسّط حجاب وصورة ومثال، فيراه بحقيقة الإيمان حقّاً لا ريب فيه، وقادراً لاعجز فيه، وعليماً لا جهل فيه، وعادلاً لا يظلم أحداً، وسبّوحاً متعالياً عن صفة الخلق، فيراه خلواً من خلقه مبايناً لهم بالبينونة الصفتيّة، فإنّه تعالى موصوف وهم صفات قائمات به لشهادة الصفة أنّها غير الموصوف وشهادة الموصوف أنّه غير الصفة.

والحاصل: إنّ العقل إذا رام معرفة شيء، إنّما يعرفه إمّا بالحجاب أو بالصورة أو بالمثال وكلّها منفيّة عنه تعالى لخلوّه عن المخلوق الذي يمكن معرفته بتوسّط الصورة أو الحجاب أو المثال.

ومن رام أنّه يؤمن بما لا يعرف بعد أن وجد بعقله انسداد باب معرفته بالعقل، فقد ضلّ عن المعرفة. إذ كيف يمكن له أن يؤمن بمن لا يعرفه، فلابدّ من تذكيره فإنّهم يرون المدبّر والمقدّر. فمع أنّهم يدبّرون الأمر لشيء ما، إلّا أنّ الحاكم هو القضاء الإلهي الدالّ على قدرته تعالى، فلا ملجأ لهم ممّا قضى ولا حجّة لهم في ما ارتضى فإنّه تعالى عرّف نفسه للخلق والطريق إلى معرفته منحصر بتعريفه تعالى فإنّما عرف اللّه من عرفه بالله، فمن لم يعرفه به فليس يعرفه.

لا يقال: قد دلّت بعض الأدلّة على عدم إمكان معرفته تعالى بالعقل كقوله(ع) «لم يطلع العقول على تحديد صفته ولم يحجبها عن واجب معرفته»(1) وغير ذلك، فلا محالة يقع

ص: 284


1- نهج البلاغة: 87.

التعارض بين هذه الطائفة وبين ما دلّ على انحصار معرفته تعالى به.

لأنّه يقال: إنّ العقل يعرفه بتوسّط الآيات بمعنى أنّه ل-مّا يرى هذه الآيات يرى دلالتها على صانعها وخالقها وبارئها، فلا يعقل أن تصير موجودة من تلقاء أنفسها، كما أنّه يكشف عن علمِ وقدرةِ وحكمةِ باريها، فإنّها مصنوعة بعلم وحكمة، وبصمات قدرته مطبوعة عليها، بل يرى عجزها وافتقارها إلى خالقها آناً فآناً. ولذا يحكم بالبينونة بين الخالق والمخلوق، فإنّ العاجز يلجأ إلى القادر، والفقير بالذات يلجأ إلى الغنيّ بالذات، فترى أنّ العقل يستكشف حقّانيّة الخالق عبر التأمّل الدقيق في الخليقة، فطريق استكشافه لثبوت الخالق ليس إلّا التأمّل في المخلوق.

وفي الحقيقة يقع المخلوق تحت تيّار إدراك العقل لا الخالق المتعال، ولكن بما أنّ العقل يرى أنّه من المستحيل أن يكون أثراً من دون مؤثّر، يحكم بضرورة ثبوت المؤثّر وعلمه وقدرته وحكمته وتعاليه عن صفة خليقته، وهذا حاصل بيان المعرفة العقليّة.

وأمّا المعرفة الفطريّة فهي معرفة للّه تعالى باللّه ومعرفة لقدسه وسبّوحيّته من دون توسّط العقل وأحكامه، ومعرفة لجلاله وكماله من دون نظر إلى المخلوق. فالعارف باللّه يعرفه به معرفة بالمباشرة ومن دون دخل للآيات فيها فيعرف تنزّهه عن خلقه وسبّوحيّته وجلاله وكماله.

ثمّ لا ينبغي الغفلة عن هذه الحقيقة وهي أنّه ليس المراد من معرفة اللّه تعالى به صيرورته مكشوفاً به، تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً، فإنّه أعلى وأجلّ من المكشوفيّة. فليس المراد من معرفته به انكشاف ذاته القدّوس كانكشاف المخلوقات بنور العقل، بل المراد وجدان الربّ به تعالى متعالياً عن المكشوفيّة ووجدان كمالاته من دون توسّط العقل.

2- روى ابن شعبة الحرّاني في تحف العقول أنّه دخل على الإمام الصادق(ع) رجل فقال له: ممّن الرجل؟

فقال: من محبّيكم ومواليكم.

ص: 285

فقال له الإمام جعفر(ع): لا يحبّ اللّه عبداً حتى يتولّاه، ولا يتولّاه حتى يوجب له الجنّة، ثمّ قال له: من أيّ محبّينا أنت؟ فسكت الرجل.

فقال له سدير: وكم محبّوكم يا ابن رسول الله؟

فقال: على ثلاث طبقات: طبقة أحبّونا في العلانية ولم يحبّونا في السرّ، وطبقة يحبّونا في السرّ ولم يحبّونا في العلانية، وطبقة يحبّوننا في السرّ والعلانية، هم النمط الأعلى، شربوا من العذب الفرات وعلموا تأويل الكتاب، وفصل الخطاب، وسبب الأسباب، فهم النمط الأعلى. الفقر والفاقة وأنواع البلاء أسرع إليهم من ركض الخيل، مسّتهم البأساء والضرّاء وزلزلوا وفتنوا، فمن بين مجروح ومذبوح، متفرّقين في كلّ بلاد قاصية، بهم يشفي اللّه السقيم، ويغني العديم، وبهم تنصرون، وبهم تمطرون، وبهم ترزقون، وهم الأقلّون عدداً، الأعظمون عند اللّه قدراً وخطراً. والطبقة الثانية النمط الأسفل، أحبّونا في العلانية، وساروا بسيرة الملوك، فألسنتهم معنا، وسيوفهم علينا. والطبقة الثالثة النمط الأوسط، أحبّونا في السرّ، ولم يحبّونا في العلانية، ولعمري لئن كانوا أحبّونا في السرّ دون العلانية فهم الصوّامون بالنّهار، القوّامون بالليل، ترى أثر الرهبانيّة في وجوههم، أهل سلم وانقياد.

قال الرجل: فأنا من محبّيكم في السرّ والعلانية.

قال الإمام جعفر(ع): إنّ لمحبّينا في السرّ والعلانية علامات يعرفون بها.

قال الرجل: وما تلك العلامات؟

قال: تلك خلال، أوّلها أنّهم عرفوا التوحيد حقّ معرفته، وأحكموا علم توحيده، والإيمان بعد ذلك بما هو وما صفته، ثمّ علموا حدود الإيمان وحقائقه، وشروطه وتأويله.

قال سدير: يا ابن رسول الله، ما سمعتك تصف الإيمان بهذه الصفة؟

قال: نعم يا سدير، ليس للسائل أن يسأل عن الإيمان ما هو، حتى يعلم الإيمان بمن؟

قال سدير: يا ابن رسول الله، إن رأيت أن تفسّر ما قلت.

قال الإمام الصادق(ع): من زعم

ص: 286

أنّه يعرف اللّه بتوهّم القلوب، فهو مشرك. ومن زعم أنّه يعرف اللّه بالاسم دون المعنى، فقد أقرّ بالطعن، لأنّ الاسم محدث. ومن زعم أنّه يعبد الاسم والمعنى، فقد جعل مع اللّه شريكاً. ومن زعم أنّه يعبد المعنى بالصفة لا بالإدراك، فقد أحال على غائب. ومن زعم أنّه يعبد الصفة والموصوف، فقد أبطل التوحيد، لأنّ الصفة غير الموصوف. ومن زعم أنّه يضيف الموصوف إلى الصفة، فقد صغّر الكبير (وَمَا قَدَرُوا اللّه حَقَّ قَدْرِهِ) .(1)

قيل له: فكيف سبيل التوحيد؟

قال: باب البحث ممكن، وطلب المخرج موجود. إنّ معرفة عين الشاهد قبل صفته، ومعرفة صفة الغايب قبل عينه.

قيل: وكيف تعرف عين الشاهد قبل صفته؟

قال: تعرفه وتعلم علمه، وتعرف نفسك به ولا تعرف نفسك بنفسك من نفسك، وتعلم أنّ ما فيه له وبه كما قالوا ليوسف: (أَءِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي)(2) فعرفوه به ولم يعرفوه بغيره، ولا أثبتوه من أنفسهم بتوهّم القلوب. أما ترى اللّه يقول: (مَا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا)(3) يقول: ليس لكم أن تنصبوا إماماً من قبل أنفسكم تسمّونه محقّاً بهوى أنفسكم وإرادتكم. ثمّ قال الصادق(ع): ثلاثة لا يكلّمهم اللّه ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم: من أنبت شجرة لم ينبته الله، يعني من نصب إماماً لم ينصبه الله، أو جحد من نصبه الله، ومن زعم أنّ لهذين سهماً في الإسلام وقد قال اللّه (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) .(4)(5)

أقول: في الخبر الشريف مواضع تدلّ على المراد ولكن نقلناه برمّته لما فيه من

ص: 287


1- الأنعام : 91.
2- يوسف : 90.
3- النمل : 60.
4- القصص : 68.
5- تحف العقول: 325؛ بحارالانوار : 65/275 ح31.

الفائدة. (1)

أفاد شيخنا الأستاذ آية اللّه الملكيّ:

قوله(ع): «من زعم أنه يعرف اللّه بتوهم القلوب فهو مشرك».

أقول: لأنّ الأمر المتوهم غير اللّه سبحانه بالضرورة.

قوله(ع): «ومن زعم أنه يعرف اللّه بالاسم دون المعنى فقد أقرّ بالطعن».

أقول: لا يخفى عند أولي الألباب أن قول هذا القائل مطعون مدخول لإقراره بالجهل بالواقع وتشبثه بالمعرفة بوساطة الاسم. والظاهر أن المراد بالاسم ما كان حاكيا عن المسمى. فينطبق على الصفة أيضاً وعلى كل ما كان عنواناً وعلامة للواقع والمعنى، لا الاسم الاصطلاحي في مقابل الفعل، وإن كان الاسم بهذا المعنى من مصاديق الاسم اللغوي. وكيف يكون معرفة الصفة والاسم والعنوان معرفة للموصوف والمسمى والمعنون؟! وأي دليل على أن معرفة الصفة والاسم معرفة للمسمى والموصوف، وإحراز المطابقة إنما يكون بعد معرفة الموصوف والمسمى، فحينئذ لا يكون معرفة بالصفة. فمحصل إيقاع الأسماء والصفات عليه تعالى بما لها من المفاهيم، ليس إلا توصيفاً له بهذه المفاهيم. فمن وصف اللّه سبحانه، فقد قرنه، كما

ص: 288


1- بيّن الامام(ع) أنّ من زعم معرفة اللّه عن طريق توهّم القلب فهو مشرك إذ لازم ذلك جعل متوهّم القلب إلهاً والحال أنّه مخلوق التوهّم، و من زعم أنّه يعرف اللّه بالإسم دون المعني أقرّ بالطعن إذ الاسم ما دلّ علي المسمّي فلا شأن له سوي الدلالة علي المسمّي فكيف يعرف اللّه بالاسم دون المعني مع أنّ الاسم ليس إلّا دلالة علي المسمّي والمعني، و لذا يكون أقرّ بالطعن فالاسم محدث والمسمّي أزليّ أبديّ والفرق بينهما فرق المخلوق مع الخالق المتعال. ومن زعم أنّه يعبد الاسم و المعني فهو مشرك ومن زعم أنّه يعبد المعني بالتوصيف لا بالوجودان والإدراك فقد أحال علي غائب إذ خطاب اللّه مشافهةً بأمثال (ايّاك نعبد) والأنس معه لا يكون بالتوصيف بل بوجدانه تعالي بتعريفه نفسه للعباد. ومن زعم أنّه يضيف الموصوف إلي الصفة فقد صغّر الكبير إذ اللّه تعالي قادر إذ لا مقدور وخالق ولا مخلوق فليس مذ خلق استحقّ معني الخالقّية ثمّ بعد ذلك بيّن الإمام(ع) أنّ معرفة الشاهد قبل توصيفه كما أنّ أخوة يوسف عرفوا يوسف به لا بتوصيف أحد كذلك الأمر بالنسبة إلي معرفة اللّه تعالي، (عليّ الرضويّ).

صرح(ع)، لأن الاسم محدث. ولعل هذا التعليل إشارة إلى ما ورد في الخطب المباركة عن أهل البيت: كما أوردنا عن الإمام أبي الحسن الرضا(ع) أن شهادة كل صفة وموصوف بالاقتران وشهادة الاقتران بالحدث وشهادة الحدث بالامتناع من الأزل الممتنع من الحدث .

قوله(ع): «ومن زعم أنه يعبد الاسم والمعنى فقد جعل مع اللّه شريكاً».

أقول: هذا البيان مسوق لبيان أن العبادة لا يستحقها إلّا اللّه سبحانه وأن أسماءه تعالى غيره ولا تستحق العبادة والتعظيم الذي حق للمسمى، وأن الاسم مخلوق له سبحانه، فمن عبد الاسم والمعنى، فقد جعل مع اللّه شريكاً، وهو واضح، قوله(ع): «ومن زعم أنه يعبد المعنى بالصفة لا بالإدراك فقد أحال على غائب».

أقول: إن الذي يحق ويجب العبادة له على العباد، هو إله العالم وقيومه الذي يعرفه بفطرته. ومن اعتقد أنه لا يعرفه إلا بإيقاع الأوصاف والأسماء عليه، فقد أحال العبادة على غائب مجهول. لأنه تعالى في عين أنه غائب شاهد.

قوله(ع): «ومن زعم أنه يضيف الموصوف إلى الصفة فقد صغر الكبير».

أقول: المراد من الإضافة هو الانتساب والاتصاف، أي انتساب الموصوف واتصافه بالصفة. وهذا تصغير للكبير وتحديد لما هو غير محدود بحسب الواقع.

ضرورة أن الانتساب بعنوان التقييد بهذا النعت، تحديد للمعروف. فإن المراد بالصفة هي التوصيف. ويدل على ذلك استدلاله(ع) بقوله تعالى: وما قدروا اللّه حق قدره.

وروى الصدوق عن سعد بن عبد اللّه مسنداً عن الفضيل بن يسار قال:

سمعت أبا عبداللّه(ع) يقول:

إن اللّه

ص: 289

عز وجل لا يوصف. قال: وقال زرارة: قال أبو جعفر(ع) إن اللّه عزّ وجلّ لا يوصف وكيف يوصف وقد قال في كتابه وما قدروا اللّه حق قدره؟! فلا يوصف بقدرة إلا كان أعظم من ذلك.

قوله(ع): «باب البحث ممكن وطلب المخرج موجود».

أقول: لما أبطل(ع) الوجوه المذكورة في باب معرفته تعالى وباب عبادته سبحانه ، قيل له(ع): فكيف سبيل التوحيد؟ فأجاب(ع) بقوله: «باب البحث ممكن...» أي: أن البحث والفحص عن التوحيد لكثرة الأمارات والدلائل عليه أمر ممكن والتخلص والخروج عن الشبهات والأوهام الباطلة في التوحيد موجود وأمر عادي عند أهل العقل والإنصاف.

قوله(ع): «معرفة عين الشاهد قبل صفته ومعرفة صفة الغائب قبل عينه.» أقول: الشاهد والشهيد من جملة أسمائه تعالى الحسنى. فهما متقاربان من العالم والعليم. والعناية الملحوظة في العالم والعليم، هو حيث كشف العلم وانكشاف المعلوم به وأما العناية الملحوظة في الشاهد والشهيد، هو حيث شهوده تعالى مورد الشهادة.

روى السيد ابن طاووس في دعاء العرفة عن الصادق(ع) قال:

أنت أقرب حفيظ وأدنى شهيد.

حيث إن معرفته تعالى لا يكون إلا بتعريفه تعالى نفسه القدوس إلى عباده فيعرفونه تعالى بحقيقة الإيمان والعيان، فيكون تعالى في موقف معرفة العارفين بالمنظر الأعلى وبالأفق المبين. وبديهي أن موقف المعرفة عند المناجاة والدعاء وفي موقف الإرشاد والتذكير، يكون في مرتبة متقدمة على مرتبة معرفة الأسماء والنعوت فإطلاق الأسماء والنعوت التي سمى اللّه تعالى نفسه بها وأمر الناس أن يدعوه بها، تعبيرات عنه تعالى، لا أنها معرفات للّه سبحانه. والشهادة بهذا المعنى تستحيل في غيره سبحانه. فيكون ما سواه تعالى غائبا بالحقيقة، فتحتاج معرفة غيره تعالى إلى معرفة أسمائه ونعوته. وتكون معرفة غيره تعالى في مرتبة متأخرة عن معرفة

ص: 290

أسمائه ونعوته.

وأما إطلاق الغائب عليه تعالى، فعلى سبيل التنزيه والتقديس، أي كونه تعالى متعالياً ومتأبياً عن المعلومية والمفهومية بالعقول والأوهام والإدراكات والحواس.

روى الكليني عن العدة مسندا عن عمرو بن أبي المقدام قال: أملا عليّ هذا الدعاء أبو عبداللّه(ع) وهو جامع للدنيا والآخر تقول بعد حمد اللّه والثناء عليه:

... وأنت اللّه لا إله إلا أنت الغائب الشاهد...

وروى الصدوق مسندا عن علي بن أبي طالب(ع)، قال: قال رسول اللّه(ص):

التوحيد ظاهره في باطنه وباطنه في ظاهره.... حاضر غير محدود، وغائب غير مفقود.

وروى أيضا عن أبي محمد جعفر بن علي بن أحمد الفقيه القمي مسندا عن أبي البختري وهب بن وهب القرشي، عن أبي عبد اللّه الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي الباقر(ع) في قول اللّه تبارك وتعالى: قل هو اللّه أحد قال:

... و «هو» اسم مكنى مشار إلى غائب. فالهاء تنبيه على معنى ثابت. والواو إشارة إلى الغائب عن الحواس.... فالهاء تثبيت للثابت. والواو إشارة إلى الغائب عن درك الأبصار ولمس الحواس وأنه تعالى عن ذلك، بل هو مدرك الأبصار ومبدع الحواس.

لا يبعد أن يقال: إن في لفظ «هو» الوارد في عدة من الآيات الكريمة في القرآن، كقوله تعالى: (شهد اللّه أنه لا إله إلا هو) . وقوله تعالى: (هو اللّه الخالق البارئ). وغيرهما من الآيات، تأييدا على ذلك. (1)

ص: 291


1- . توحيد الإماميه، ص234 - 238.

3 - روى الكليني مسنداً عن درست بن أبي منصور عن بريد بن معاوية عن الإمام أبي عبدالله(ع) قال: ليس للّه على خلقه أن يعرفوا، وللخلق على اللّه أن يعرّفهم، وللّه على الخلق إذا عرّفهم أن يقبلوا .(1)

الظاهر أنّ عدم تكليف اللّه عباده بالمعرفة إنّما هو لأجل قصورهم عن ذلك، وعدم إمكانهم أن يصلوا إليها ولو بالعلم، ولذا يكون هو الذي يتفضّل عليهم بها وعلى العباد، وحينذاك عليهم أن يقبلوا ويقرّوا بها.

4 - وروى أيضاً عن محمّد بن حكيم قال: قلت للإمام أبي عبدالله(ع): المعرفة من صنع من هي؟

قال: من صنع الله، ليس للعباد فيها صنع .(2)

أقول: نفي الصنع للعباد إرشاد إلى حكم العقل بعدم إمكان معرفة القدّوس الذي هو محيط على كلّ شيء ولا يحيط عليه شيء.

5 - وروى أيضاً عن عدّة من أصحابنا عن أبان الأحمر عن حمزة بن الطيّار عن الإمام أبي عبدالله(ع) قال: قال لي اكتب، فأملى عليّ: إنّ من قولنا إنّ اللّه يحتجّ على العباد بما آتاهم وعرّفهم ثمّ أرسل إليهم رسولاً وأنزل عليهم الكتاب فأمر فيه ونهى، أمر فيه بالصلاة والصيام؛ الخبر .(3)

الظاهر من هذا الخبر أنّ اللّه تعالى هو الذي يؤتى العلم ويعطيه للعباد وهو الذي يعرّف الناس نفسه وبعد ذلك يصبحون مستعدّين لإرسال الرسل وإنزال الكتب والأمر والنهي.

لا يقال: يمكن أن يكون المراد من الخبر إتيان العلم والعقل فحسب.

لأنّه يقال: قوله(ع) «وعرّفهم» بحسب الفهم العرفي وسائر الأخبار يناسب تعريف

ص: 292


1- الكافي : 1/164 ح1؛ الفصول المهمّة: 1/677 ح2[1065].
2- الكافي : 1/163 ح2.
3- بحارالأنوار : 2/280 ح46؛ الكافي: 1/164 ح4.

اللّه تعالى نفسه للعباد ولا يناسب إعطاء العلم والعقل.

6 - وروى أيضاً مسنداً عن أبي عبداللّه الأصفهانيّ عن درست بن أبي منصور عمّن ذكره عن الإمام أبي عبدالله(ع) قال: ستّة أشياء ليس للعباد فيها صنع: المعرفة، والجهل، والرضا، والغضب، والنوم، واليقظة .(1)

أقول: الظاهر أنّ إطلاق المعرفة في الأخبار ينصرف إلى معرفة اللّه تعالى ولايطلق على إعطاء العلم والعقل، ولعلّ الفرق بين العلم والمعرفة هو وقوع الشيء مكشوفاً في الأوّل دون الثاني، فإنّ المعرفة لا تلازم المكشوفيّة والمفعوليّة.

يؤيّد ذلك استعمال «المعرفة» في كثير من الأخبار في معرفة اللّه تعالى وعدم استعمالها على حسب تتبّعنا في إعطاء العلم، بل عبّر عن ذلك بإتيان العلم وايتائه ووهبه وغير ذلك من التعبيرات.

7 - روى المجلسي عن المحاسن عن صفوان قال: قلت لعبد صالح هل في الناس استطاعة يتعاطون به المعرفة؟

قال: لا إنّما هو تطوّل من الله.

قلت: أفلهم على المعرفة ثواب إذا كان ليس فيهم ما يتعاطونه بمنزلة الركوع والسجود الذي أمروا به ففعلوه؟

قال: لا إنّما هو تطوّل من اللّه عليهم وتطوّل بالثواب .(2)

هذا الخبر الشريف صريح في عدم إمكان معرفة اللّه تعالى للعباد وأنّهم لا يستطيعون ذلك بل هو فضل وتطوّل من اللّه تعالى. ثمّ بيّن الإمام(ع) بأنّه وإن كانت المعرفة تطوّليّة ولم يكن للعباد فيها دخل إلّا أنّه تعالى يتطوّل عليهم بالثواب كما تطوّل بالمعرفة. فالظاهر من الخبر أنّ الثواب ليس على قبول المعرفة وإن كان القبول من أوجب الواجبات العقليّة، بل هو على نفس المعرفة ذلك أنّ الإمام(ع) أجاب الراوي

ص: 293


1- الكافي: 1/164 ح1؛ بحارالأنوار : 5/221 ح2.
2- المحاسن: 1/281 ح410؛ بحارالأنوار : 5/223 ح12.

بأنّ الثواب تطوّل لا لأجل عمل من العباد كالركوع والسجود.

8 - روى أيضاً عن قرب الإسناد عن معاوية بن حكيم عن البزنطي قال: قلت للإمام أبي الحسن الرضا(ع): للناس في المعرفة صنع؟

قال: لا.

قلت: لهم عليها ثواب؟

قال: يتطوّل عليهم بالثواب كما يتطوّل عليهم بالمعرفة .(1)

9 - روى أيضاً عن المحاسن عن فضل الأسدي عن عبدالأعلى مولى آل سام عن الإمام أبي عبدالله(ع) قال: لم يكلّف اللّه العباد المعرفة ولم يجعل لهم إليها سبيلاً .(2)

أقول: عدم التكليف بالمعرفة لأجل عدم إمكان ذلك فإنّه ليس في قدرتهم واستطاعتهم ذلك كما أشارت إليه بعض الأخبار الماضية.

ويشهد على أنّ المراد من المعرفة في المقام وأمثاله خصوص معرفة اللّه تعالى أنّ العباد قادرون على المعرفة بالعلم بعد إعطاء العلم فمن الواضح استطاعتهم على معرفة الأشياء بالعلم والعقل بالتوجّه إليها، وبذلك تعرف أنّ المراد من المعرفة في المقام هو خصوص معرفته تعالى.

10 - روى الصدوق مسنداً عن ابن أبي نجران عن حمّاد بن عثمان عن عبدالرحيم القصير قال: كتبت على يدي عبدالملك بن أعين فسألته عن المعرفة والجحود أهما مخلوقتان؟

فكتب(ع): سألت عن المعرفة ما هي، فاعلم رحمك اللّه أنّ المعرفة من صنع اللّه عزّوجلّ في القلب مخلوقة والجحود صنع اللّه في القلب مخلوق، وليس للعباد فيهما من صنع ولهم فيها الاختبار من الاكتساب، فبشهوتهم الإيمان اختاروا المعرفة فكانوا بذلك مؤمنين عارفين، وبشهوتهم الكفر اختاروا الجحود فكانوا بذلك كافرين جاحدين ضلّالاً،

ص: 294


1- قرب الإسناد: 347 ح1256؛ بحارالأنوار : 5/221 ح1.
2- . المحاسن: 1/198 ح26؛ بحارالأنوار : 5/222 ح5.

وذلك بتوفيق اللّه لهم وخذلان من خذله الله، فبالاختيار والاكتساب عاقبهم اللّه وأثابهم الخير .(1)

هذا الخبر صريح في كون المعرفة من صنع اللّه تعالى، والعبد لا يستطيع نيلها ولكنّه يستطيع - بعد المعرفة - أن يؤمن بها وذلك بتوفيق منه تعالى بإرسال الرسل وبعث الأنبياء وإنزال الكتب.

وأمّا الجحود في الخبر فيحتمل أن يكون المراد منه أنّ اللّه تعالى إذا عرّف نفسه للعباد عرفوه، ولكن إذا لم يعرّف نفسه لهم إظلمّت قلوبهم وبقيت خالية من النور فيكونوا ضلّالاً، ولكن إن وكلهم الباري تعالى إلى أنفسهم بعد المعرفة تراهم يميلون إلى إنكاره المعرفة. وقد ذكر شيخ مشايخنا العلّامة الفهّامة آية اللّه الميرزا مهديّ الإصفهانيّ1 أنّ المراد من الجحود في السؤال والجواب هو الجهل وعدم المعرفة لا فعل العبد .(2)

وأمّا الثواب والعقاب فهو على الإكتساب والفعل الإختياريّ، فإن آمن وصدّق أثابه اللّه تعالى، وإن جحد وأنكر عاقبه تعالى.

لا يقال: إنّ هذا الخبر بنى الثواب على الأمر الإختياريّ وهو الإيمان فيكون منافٍ لخبر صفوان والبزنطي.

لأنّه يقال: لا تنافي بين المثبتات فيكون للمؤمن ثواب من جهة المعرفة وثواب من جهة الإيمان عند اختياره الإيمان.

وأمّا الكافر فلا يكون له ثواب أصلاً - لكفرانه النعمة العظمى والموهبة الكبرى وهي المعرفة - ذلك أنّه بنفسه سبب لزوال الثواب بسوء اختياره لا أنّه يكون له ثواب واحد، واللّه تعالى العالم.

11 - عن محمّد بن حكيم قال: كتبت رقعة إلى الإمام أبي عبدالله(ع) فيها، أتستطيع

ص: 295


1- . التوحيد للصدوق: 1/226 ح7؛ بحارالأنوار : 5/221 ح3.
2- معارف القرآن المخطوط : 140.

النفس المعرفة؟

قال: فقال: لا.

فقلت: يقول الله: (الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) .(1)

قال: هوكقوله: (مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ) .(2)

قلت: فعابهم؟

قال: لم يعبهم بما صنع في قلوبهم، ولكن عابهم بما صنعوا، ولو لم يتكلّفوا لم يكن عليهم شيء .(3)(4)

12 - روى الكليني مسنداً عن صفوان بن يحيى عن منصور بن حازم قال: قلت للإمام أبي عبدالله(ع): إنّي ناظرت قوماً فقلت لهم إنّ اللّه أكرم وأجلّ من أن يعرف بخلقه بل العباد يعرفون بالله.

فقال: رحمك الله .(5)

من الواضح أنّ معرفة اللّه تعالى بالخلق مستحيلة، ذلك أنّ اللّه تعالى مباين لجميع ما أحدثه بالصفات، فمعرفته بصفات الخلائق خلف للمباينة والمفارقة بينه تعالى وبينهم.

وأمّا معرفته بالعقل فقد عرفت أنّ العاقل حينما يرى الآثار والآيات، يحكم بثبوت

ص: 296


1- الكهف : 101.
2- هود : 20.
3- بحارالأنوار : 5/306 ح28؛ تفسير كنز الدقائق: 8/171
4- أقول: يحتمل أن يكون مراد السائل من الآية الإستدلال علي عدم إمكان المعرفة من قبل العباد فأيّده الامام وقال أنّها كآية سورة هود فقال الراوي: هل يعاب من لا يستطيع السمع علي عدم سمعه فأجابه الإمام(ع): إنّ اللّه تعالي لا يعيب علي ما صنع في قلوبهم - من إذهاب السمع - إنّما عابهم علي تكلّف ما لا يستطيعون فمع أنّهم لا يستطيعون السمع أرادوا السمع ومع أنّهم لا يستطيعون المعرفة راموا الحصول عليها بالتكلّف، (عليّ الرضويّ).
5- الكافي: 1/86 ح3؛ بحارالأنوار : 3/270 ح6.

ذي الآية والمؤثّر وهذا بمعزل عن معرفته بالخلق بمعنى الإحاطة عليه كما يُحاط الخلق عند المعروفيّة.

وأمّا معرفة العباد أنفسهم باللّه تعالى فلعلّ المراد منه عرفان الإنسان نفسه أيضاً عند تجلّي معرفته تعالى.

بيان ذلك: إذا عرّف اللّه تعالى نفسه القدّوس للعباد تتنوّر قلوبهم بنور المعرفة فيعرفون ربّهم بالسبّوحيّة والقدّوسيّة عن أن يضاهيه شيء من خلقه، كما أنّهم يعرفون عند ذلك مخلوقيّتهم وحقيقة كيانهم وأنّ المخلوق شيء قائم بالغير الذي هو قيّومه ومحتاج إلى الغنيّ بالذات ومفتقر إلى القادر بالذات. فعند عرفان العبد ربّه به تعالى، يعرف العبد ربّه تعالى، ولذا يلتجى إليه ويستغيث به. فمعرفة اللّه تعالى به مستلزمة لمعرفة المخلوق نفسه، فعند تجلّى المعرفة الفطريّة يجد الإنسان البينونة بينه وبين ربّه وأنّه الغنيّ بالذات وهو الفقير بالذات. فمن عرف ربّه به تعالى بالغنى، عرف نفسه بالفقر أيضاً.

13 - روى الصدوق مسنداً عن عدّة من أصحابنا عن عليّ بن عقبه رفعه قال: سئل أميرالمؤمنين(ع) بم عرفت ربّك؟

فقال: بما عرّفني نفسه.

قيل: وكيف عرّفك نفسه؟

فقال: لا تشبهه صورة، ولا يحسّ بالحواسّ، ولا يقاس بالناس، قريب في بعده، بعيد في قربه، فوق كلّ شيء ولا يقال شيء فوقه، أمام كلّ شيء ولا يقال له أمام، داخل في الأشياء لا كشيء في شيء داخل، وخارج من الأشياء لا كشيء من شيء خارج، سبحان من هو هكذا ولا هكذا غيره ولكلّ شيء مبدأ .(1)

بيّن الإمام(ع) بأنّ معرفة اللّه تعالى به لا تستلزم المعلوميّة والمعروفيّة، إنّما عرفانه به تعالى ليس إلّا عرفان سبّوحيّته ووجدانها وأنّه لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء، وأنّه

ص: 297


1- التوحيد للصدوق: 1/285 ح2؛ بحارالأنوار : 3/270 ح8.

تعالى لا يحسّ بالحواسّ، وأنّه تعالى قريب للداعين والذاكرين والراجين مع أنّه بعيد عن حواسّهم وتعقّلهم، وأنّ دخوله في الأشياء ليس كدخول شيء في شيء فإنّ ذلك صفة الخلق وهو منزّه عن ذلك.

14 - عن الفضل بن السكن عن الإمام أبي عبدالله(ع) قال: قال أميرالمؤمنين(ع): اعرفوا اللّه بالله، والرسول بالرسالة، وأولي الأمر بالمعروف والعدل والإحسان .(1)

الظاهر أنّ المراد من قوله(ع): «اعرفوا اللّه بالله» بيان أنّ معرفته تعالى لا تكون إلّا به تعالى فإذا أردتم معرفته فاطلبوها منه تعالى.

وأمّا قوله(ع): «والرسول بالرسالة» فالظاهر أنّ المراد منه هو أنّ معرفة الرسول تكون بمعرفة رسالته التي أرسل بها فإن كان المدّعي للرسالة مثيراً للعقل الدفين ومذكّراً بالأحكام العقليّة ويوقظ لنا العقل من السُبات وكذا يذكّرنا بمنسيّ النعمة في باب معرفة اللّه تعالى، يُعرف صدقه في ادعائه الرسالة.

وأمّا العبارة الثالثة فالظاهر أنّ المراد منها هو بيان صفات أولي الأمر فإنّهم عارفون بالمعروفات العقليّة والشرعيّة وعاملون بها ومحسنون.

15 - روى الكليني عن محمّد بن خالد بن يزيد عن عبدالأعلى عن الإمام أبي عبدالله(ع) قال: اسم اللّه غير الله، وكلّ شيء وقع عليه اسم شيء فهو مخلوق ما خلا الله، فأمّا ما عبّرت الألسن عنه أو عملت الأيدي فيه فهو مخلوق، واللّه غاية من غاياه [غاية من غاياته] والمغيّا غير الغاية، والغاية موصوفة، وكلّ موصوف مصنوع، وصانع الأشياء غير موصوف بحدّ مسمّى، لم يتكوّن فتعرف كينونته بصنع غيره، ولم يتناه إلى غاية إلّا كانت غيره، لا يزل من فهم هذا الحكم أبداً وهو التوحيد الخالص فاعتقدوه وصدّقوه وتفهّموه بإذن اللّه عزّوجلّ، ومن زعم أنّه يعرف اللّه بحجاب أو بصورة أو بمثال فهو مشرك، لأنّ الحجاب والمثال والصورة غيره، وإنّما هو واحد موحّد فكيف يوحّد من زعم أنّه عرفه بغيره، إنّما عرف اللّه من عرفه بالله، فمن لم يعرفه به فليس يعرفه إنّما يعرف غيره، ليس

ص: 298


1- الكافي: 1/85 ح1؛ بحارالأنوار : 3/270 ح7.

بين الخالق والمخلوق شيء واللّه خالق الأشياء لا من شيء؛ الخبر .(1)

بيّن الإمام(ع) افتراق اللّه تعالى عن اسمائه، فإنّ الإسم - سواء كان اسماً لفظيّاً أو اسماً تكوينيّاً - غير المسمّى وإنّما هو تعبير إلى المسمّى.

قوله(ع): «واللّه غاية من غاياه» أي نهاية مقصود من جعله مقصده ومقصوده فهو المقصد كما قال سيّد الساجدين(ع) في مناجاته «فأنت لا غيرك مرادي ولك لا سواك سهري وسهادي» (2)فليس اللّه تعالى طريقاً للوصول إلى شيء بعده، بل العارفون باللّه تعالى يرونه الغاية التي من أجلها ولأجلها التضحيات.

هذا بناء على هذا النقل، وأمّا بناء على النقل الآخر فالظاهر ارتباط الجملة بما قبلها فيكون المعنى هكذا:

أنّ الاسم غير المسمّى، فالأسماء اللفظيّة والتكوينيّة غير اللّه تعالى واللّه تعالى غاية من غايات هذه المخلوقات، فمن قال: «يا ربّ يا رحمن» نادى بهذه الأسماء اللفظيّة ربّه تعالى، ومن نظر إلى المخلوق بنظر العبرة يرى أنّ لها خالقاً قيّوماً رازقاً حيّاً فهو تعالى غاية من غايات الخليقة.

ومن الواضح أنّ المغيّا غير الغاية للتباين بين الخالق والمخلوق والغاية موصوفة مخلوقة. ومن الواضح أنّه تعالى غير موصوف بحدّ مسمّى وهو تعالى كائن لا عن حدث فليس له صانع ولم يتناه إلى غاية إلّا كانت غيره إذ التناهي إلى الغاية والوصول إليها ومعرفتها والإحاطة بها يوجب خروجها عن حقيقة الربوبيّة ودخولها في زمرة المخلوقين، واللّه تعالى العالم.

ثمّ منّ الإمام(ع) علينا وتفضّل بتبيين أنّ اللّه تعالى لا يعرف بالحجاب والمثال والصورة، ذلك أنّها غيره تعالى فكيف يمكن معرفة اللّه تعالى بغيره مع أنّه هو نور على نور ونور فوق كلّ نور ونور كلّ نور؟ فإنّ ذلك يوجب الشرك حيث إنّه يوجب تنزيله

ص: 299


1- الكافي: 1/113 ح4؛ بحارالأنوار : 4/160 ح6.
2- بحارالأنوار : 91/147.

تعالى إلى رتبة الخلائق المعروفين بالمثال والحجاب والصورة، وهذا يستلزم عدّ الخلائق في رتبة الخالق وهو شرك صريح.

ثمّ بيّن(ع) أنّ من زعم أنّه يعرف اللّه تعالى بغيره ليس بموحّد، ولعلّ الوجه في ذلك أنّه لو أمكن معرفة اللّه تعالى الذي هو نور كلّ نور ومنوّر كلّ نور بغيره لكان المعرِّف له شيئاً مثله في الكمالات والجلال والكبرياء، وهذا منافٍ لجميع ما دلّ على التوحيد وأنّه لا يمكن أن يكون هناك إلهان قادران عليمان بذاتهما (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللّه لَفَسَدَتَا)(1) ، واللّه تعالى العالم.

ثمّ بيّن(ع) انحصار طريق المعرفة بمعرفته به تعالى. فمن أراد المعرفة لابدّ من أن يدعو ويتضرّع إلى الباري تعالى كي ينعم عليه بتعريفه نفسه القدّوس.

والظاهر أنّ المراد من الدعاء والتضرّع إليه في أن يعرّف نفسه لنا هو طلب رفع الغفلة عن المعرفة الفطريّة التي يُولد عليها كلّ مولود.

ثمّ بيّن الإمام(ع) أنّه ليس بين الخالق والمخلوق شيء، فليس الفارق بينهما حدود عدميّه تكون هي الماهيّات ويكون هو الوجود، بل هناك حقيقيتان: إحداهما: اللّه تعالى القائم بذاته العزيز القدّوس الغني بالذات العالم بالذات. والأخرى: المخلوق القائم بالغير الضعيف الحقير المسكين المحتاج إلى ربّه تعالى وقد خلقه تعالى لا من شيء ولا من أصول أزليّة.

16 - وفي دعاء الصباح: يا من دلّ على ذاته بذاته، وتنزّه عن مجانسة مخلوقاته .(2)

أقول: إنّ اللّه تعالى هو الذي يدلّ على ذاته بذاته وهو الذي يعرّف نفسه للعباد، ومع ذلك منزّه عن صفات الخلائق ولا يجانسهم.

17 - وفي الكافي عن إبراهيم بن عمر قال: سمعت الإمام أباعبدالله(ع) يقول: إنّ أمر

ص: 300


1- الأنبياء : 22.
2- بحارالأنوار : 84/339 ح19؛ زاد المعاد: 386.

اللّه كلّه عجيب إلّا أنّه قد احتجّ عليكم بما قد عرّفكم من نفسه .(1)

الظاهر أنّ المراد من أمر اللّه تعالى تعريفه نفسه القدّوس للعباد وهو عجيب لا يمكن تعقّل كيفيّة التعريف كما أنّه لا يقع المعروف بغير كيفيّة مهبّاً لتيّار العقل بعد التعريف، وبعد تعريفه نفسه القدّوس يحتجّ سبحانه على العباد.

18 - وفي المناجاة الشعبانيّة المعروفة عن مولانا أميرالمؤمنين(ع): وأنِر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك .(2)

الظاهر أنّ اطلاق الحجاب على النبيّ و الأئمّة عليهم الصلاة والسلام في الأخبار إنّما هو لأجل وساطتهم بين اللّه تعالى وبين خلقه، فإنّ الحجاب هو الواسطة بين الشيئين، كما أنّ الحاجب يطلق على من يكون واسطة بين الرعيّة والسلطان.

ولذا يكون المراد (واللّه العالم بحقائق الأمور وأوليائه:) من جملة «وأنِرْ أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة»(3) أنر أبصار أرواحنا بضياء النظر إليك بأنوار معرفتك حتى تخرق أبصار قلوبنا جميع الحُجُب، وتتأثّر أبصار أرواحنا بتذكيرات المذكّرين، وتتنوّر أرواحنا بعد تذكيراتهم بإثارة عقولنا واستيدائهم مواثيق فطرتنا فتصل إلى معرفة عظمتك ومجدك. وقد شرحنا هذا المقطع من الدعاء بصورة أوفى في كتابنا «سدّ المفرّ على منكر عالَم الذرّ»(4) فراجع.

19 - وفي دعاء أبي حمزة الثمالي: بك عرفتك وأنت دللتني عليك ودعوتني إليك ولولا أنت لم أدر ما أنت .(5)

ص: 301


1- الكافي : 1/86 ح3؛ الوافي: 1/552 ح456.
2- إقبال الأعمال: 2/687؛ بحارالأنوار : 91/99 ح13.
3- إقبال الأعمال: 2/687؛ بحارالأنوار : 91/99.
4- سدّ المفر على منكر عالم الذر: 330.
5- إقبال الأعمال: 1/67؛ بحارالأنوار : 95/82 ح2.

لا يخفى أنّ الخبر ظاهر في انحصار معرفته تعالى به، فلولا تعريفه تعالى نفسه القدّوس ما كنّا ندري ما هو.

20 - كتاب سليم بن قيس قال: أتى أميرالمؤمنين(ع) رجل فقال له: يا أميرالمؤمنين، ما أدنى ما يكون به الرجل مؤمناً وأدنى ما يكون به كافراً وأدنى ما يكون به ضالّاً؟

قال: سألت فاسمع الجواب، أدنى ما يكون به مؤمناً أن يعرّفه اللّه نفسه فيقرّ له بالربوبيّة والوحدانيّة، وأن يعرّفه نبيّه فيقرّ له بالنبوّة وبالبلاغة، وأن يعرّفه حجّته في أرضه وشاهده على خلقه فيقرّ له بالطاعة.

قال: يا أميرالمؤمنين، وإن جهل جميع الأشياء غير ما وصفت.

قال: نعم، إذا أمر أطاع وإذا نهي انتهى، وأدنى ما يكون به كافراً أن يتديّن بشيء فيزعم أنّ اللّه أمره به ما نهى اللّه عنه ثمّ ينصبه فيتبرّأ ويتولّى ويزعم أنّه يعبد اللّه الذي أمره به. وأدنى ما يكون به ضالّاً أن لا يعرف حجّة اللّه في أرضه وشاهده على خلقه الذي أمر اللّه بطاعته وفرض ولايته.

قال: يا أميرالمؤمنين سمّهم لي؟

قال: الذين قرنهم اللّه بنفسه ونبيّه فقال: (أَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) .(1)

قال: أوضحهم لي.

قال: الذين قال رسول اللّه في آخر خطبة خطبها ثمّ قبض من يومه: إنّي قد تركت فيكم أمرين لن تضلّوا ما تمسّكتم بهما، كتاب اللّه وأهل بيتي، فإنّ اللطيف الخبير قد عهد إليّ أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض كهاتين إصبعيّ، فتمسّكوا بهما لا تضلّوا، ولا تقدَّموهم فتهلكوا، ولا تخلّفوا عنهم فتفرّقوا، ولا تعلّموهم فهم أعلم منكم .(2)

أقول: بيّن الإمام(ع) أنّ أدنى ما يكون به العبد مؤمناً هو أن يعرّف اللّه تعالى نفسه

ص: 302


1- النساء: 59.
2- كتاب سليم بن قيس الهلالي: 2/616؛ بحارالأنوار : 66/16 ح3.

له فيقرّ به تعالى فالإقرار القلبي أدنى درجات الإيمان وأوّلها.

21 - وفي دعاء عرفه لسيّدالشهداء(ع): تعرّفت لكلّ شيء فما جهلك شيء. وقال: تعرّفت إليّ في كلّ شيء فرأيتك ظاهراً في كلّ شيء، فأنت الظاهر لكلّ شيء .(1)

لا يخفى صراحة الدعاء في أنّه تعالى تعرّف لكلّ شيء حتى لم يجهله شيء. ومن الواضح أنّ هذه المعرفة ليست معرفة عقليّة بالآيات الباهرات الدالّة على بارئها وبحدوثها على محدثها.

22 - روى الصدوق عن عليّ بن معبد عن عبداللّه بن سنان عن أبيه قال: حضرت الإمام أباجعفر محمّد بن عليّ الباقر(ع) ودخل عليه رجل من الخوارج فقال: يا أباجعفر أيّ شيء تعبد؟

قال: اللّه.

قال: رأيته؟

قال: لم تره العيون بمشاهدة العيان ورأته القلوب بحقائق الإيمان، لا يعرف بالقياس، ولا يدرك بالحواس، ولا يشبه بالناس، موصوف بالآيات، معروف بالعلامات، لا يجور في حكمه، ذلك اللّه لا إله إلّا هو.

قال: فخرج الرجل وهو يقول اللّه أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ .(2)

من الواضح أنّ إطلاق الرؤية لا يصحّ على معرفة اللّه تعالى بالمعرفة العقليّة فإنّ معرفة الباني بعد النظر إلى البناء ليست رؤية له.

23 - وفي خطبة مولانا أميرالمؤمنين(ع): الذي عجزت الملائكة على قربهم من كرسيّ كرامته وطول ولههم إليه وتعظيم جلال عزّه وقربهم من غيب ملكوته، أن يعلموا من أمره إلّا ما أعلمهم وهم من ملكوت القدس بحيث هم، ومن معرفته على ما فطرهم عليه أن قالوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ؛ الخطبة .(3)

ص: 303


1- إقبال الأعمال: 1/350؛ بحارالأنوار : 64/142 ح7.
2- . التوحيد للصدوق: 1/108 ح5؛ بحارالأنوار : 4/26 ح1.
3- التوحيد للصدوق: 50 ح13؛ بحارالأنوار : 4/274 ح16.

هذا الخبر صريح في مفطوريّة الملائكة على معرفة الباري تعالى.

24 - روى الكليني عن صالح بن حمزة عن فتح بن عبداللّه مولى بني هاشم قال: كتبت إلى أبي إبراهيم(ع) أسأله عن شيء من التوحيد، فكتب إليّ بخطّه: الحمد للّه الملهم عباده حمده .(1)

25 - وفي خطبة مولانا أميرالمؤمنين(ع): الحمد للّه الملهم عباده حمده، وفاطرهم على معرفة ربوبيّته؛ الخطبة .(2)

ظاهر هذين الخبرين إلهام اللّه تعالى حمده لعباده وهو يدلّ على تعريفه تعالى نفسه للعباد، فإنّ حمد المحمود فرع معرفته.

26 - قال محمّد بن حسن الصفار في كتابه بصائر الدرجات عن الإمام أبي عبدالله(ع) قال: إنّ اللّه جعل لنا شيعة فجعلهم من نوره، وصبغهم في رحمته، وأخذ ميثاقهم لنا بالولاية على معرفته يوم عرّفهم نفسه، فهو المتقبّل من محسنهم، المتجاوز عن مسيئهم، من لم يلق اللّه بما هو عليه لم يتقبَّل منه حسنة ولم يُتجاوز عنه سيئة .(3)

27 - وروى أيضاً عن عيسى بن أسلم عن معاوية بن عمّار قال: قلت للإمام أبي عبدالله(ع): جعلت فداك، هذا الحديث الذي سمعته منك ما تفسيره؟

قال: وما هو؟

قال: إنّ المؤمن ينظر بنور الله.

فقال: يا معاوية، إنّ اللّه خلق المؤمنين من نوره، وصبغهم في رحمته، وأخذ ميثاقهم لنا بالولاية على معرفته يوم عرّفهم نفسه، فالمؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمّه، أبوه النور وأمّه الرحمة، وإنّما ينظر بذلك النور الذي خلق منه .(4)

ص: 304


1- الكافي : 1/140 ح6؛ بحارالأنوار: 54/166 ح106.
2- الكافي : 1/139 ح5؛ بحارالأنوار: 54/166 ح105.
3- بصائر الدرجات: 1/80 ح3؛ بحارالأنوار : 64/74 ح3.
4- بصائرالدرجات : 1/80 ح2؛ بحارالأنوار: 64/74 ح2.

أقول: صريح هذين الخبرين تعريف اللّه تعالى نفسه للشيعة.

28 - وفي الدعاء عن أميرالمؤمنين(ع): وأسألك باسمك الذي ظهرت به لخاصّة أوليائك، فوحّدوك وعرفوك فعبدوك، أن تعرّفني نفسك لأقرّ لك بربوبيّتك على حقيقة ا لإيمان بك ولا تجعلني يا إلهي ممّن يعبد الاسم دون المعنى وألحظني بلحظة من لحظاتك تنوّر بها قلبي بمعرفتك خاصّة .(1)

29 - وعن الإمام زين العابدين(ع): الحمد للّه على ما عرّفنا من نفسه وألهمنا شكره وفتح لنا من أبواب العلم بربوبيّته .(2)

30 - قال في كتاب المحاسن عن أبي عبدالله(ع) قال: قال موسى(ع): يا ربّ أيّ الأعمال أفضل عندك؟

قال: حبّ الأطفال فإنّي فطرتهم على توحيدي فإن أمتّهم أدخلتهم برحمتي جنّتي .(3)

فتحصّل من جميع ذلك أنّه ليس للعباد في المعرفة صنع ، إنّما هي تطوّل من اللّه تعالى كما أنّه تعالى يتطوّل عليهم بالثواب، وعلى العباد أن يقبلوا ويعترفوا بربوبيّة اللّه تعالى بعد أن عرّفهم نفسه كما هو صريح قول أميرالمؤمنين(ع) «أدنى ما يكون به مؤمناً أن يعرّفه اللّه نفسه فيقرّ له بالربوبيّة والوحدانيّة» .(4)

ص: 305


1- بحارالأنوار: 94/96 ح12 عن كتاب العتيق الغروي.
2- الصحيفة السجادية: 20 الدعاء 1.
3- لمحاسن: 1/457 ح1057؛ بحارالأنوار: 101/97 ح57.
4- كتاب سليم بن قيس: 2/615؛ بحارالأنوار : 66/17 ح3.

الباب الرابع: دلالة الفطرة على التوحيد

ص: 306

قد تبيّن لك بأنّ اللّه تعالى هو الذي عرّف نفسه للعباد في العوالم السابقة، وهو الذي يذكّرهم بتلك المعرفة ويزيد الذين اهتدوا هدى.

ومن الواضح غاية الوضوح أنّ تعريف اللّه تعالى نفسه القدّوس للعباد هو تعريف نفسه لهم بالسبّوحيّة والقدّوسيّة. فمن عرف اللّه تعالى به، يعرفه سبّوحاً قدّوساً إلهاً، وهذا هو المراد من التوحيد. وقد مرّ أنّ التوحيد هو انفراده وتوحّده بالألوهيّة، ومن كان منزّهاً عن صفة خليقته يكون واحداً فرداً صمداً، ولذا يكون تعريف اللّه تعالى نفسه القدّوس للعباد عين تعريفه تعالى نفسه القدّوس بالوحدانيّة. فمن عرفه به، يعرفه واحداً فرداً صمداً لا شبيه له ولا نظير. ولذا يأله فيه ويتحيّر لمعرفته إيّاه - بتعريفه نفسه القدّوس - بالسبّوحيّة والقدّوسيّة. وقد ذكّرنا القرآن الكريم وحملته: بهذه الحقيقة، فلاحظ هذه الآيات:

قال اللّه تعالى: (وإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) .(1)

وقال تعالى: (وما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللّه ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) .(2)

وقال تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللّه أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّه تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) .(3)

ص: 307


1- لقمان : 32.
2- النحل : 53.
3- الأنعام : 40.

وقال تعالى: (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) .(1)

وقال تعالى: (وإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ) .(2)

وقال تعالى: (وللّه ما فِي السَّماواتِ وما فِي الْأَرْضِ وكَفى بِاللّه وَكِيلاً) .(3)

وقال تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللّه أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّه تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) .(4)

وقال تعالى: (وإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) .(5)

فأنت ترى أنّ الآيات المباركة تشير إلى أنّ المتورّطين في البأساء والضرّاء لا يدعون إلّا اللّه الذي أله الخلق في درك حقيقته، فمن عرفه به بالسبّوحية، يعرفه بالوحدانيّة والإنفراد وعدم شباهته بخليقته.

و من اللطيف أنّ هذه الآيات تذكّر بأنّ المتضرّعين - وإن كانوا مشركين بالشرك الجليّ - يدعون «الله» تعالى ربّهم لا أنّهم يدعون ربّاً مّا، بل يدعون اللّه الذي دعا إليه الأنبياء ويدعون الربّ الذي يأله الخلق في درك حقيقة ذاته.

كما أنّ من عرفه تعالى به يعرفه متفرّداً بلا ندّ مثابر ولا نظير معاضد. فحينما يعرّف اللّه تعالى نفسه للعباد، يعرفونه واحداً حقيقة لا ضدّ له ولا نظير.

ص: 308


1- العنكبوت : 65.
2- لقمان : 32.
3- النساء : 132.
4- الأنعام : 40 - 41.
5- الروم : 33.

قال اللّه تعالى: (وإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) .(1)

وقال تعالى: (وإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وجَعَلَ للّه أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) .(2)

وهذا الأمر واضح بالوجدان، فمن عرفه تعالى به يعرف ما ذكرناه بل إنّ من تذكّر به تعالى في حال البأساء والضرّاء يرى أنّ من يتوجّه إليه في هذه الحالة وهذا اليوم هو نفس الحقيقة التي توجّه إليها في حالة أخرى ويوم آخر، بل يرى أنّ من يتوجّه إليه في هذا الآن هو نفس الحقيقة التي يتوجّه إليه جميع العباد في جميع الآنات كما ورد في الدعاء «يا من إليه ملجأ العباد في المهمّات وإليه يفزع الخلق في الملمّات» .(3)

ص: 309


1- الاسراء : 67.
2- الزمر : 8.
3- إقبال الأعمال: 2/696؛ بحارالأنوار : 95/409 ح65.

الفصل الثالث: الفرق بين المعرفة العقليّة والمعرفة الفطريّة

الباب الأوّل:إجمال الكلام حول افتراق المعرفة العقليّة عن المعرفة الفطريّة

ص: 310

قد عرفت أنّ هناك طريقين لمعرفة اللّه تعالى:

أحدهما: العقل.

ثانيهما: الفطرة.

أمّا طريق العقل، فإنّ الإنسان بعد الإستضاءة بنور العقل قادر على كشف وجود المؤثّر. فكلّ أثر يدلّ على المؤثّر، وكلّ مصنوع يدلّ على صانعه، فيكون باستضاءته بنور العقل - بعد النظر الدقيق والتأمّل العميق في الكائنات - قادراً على المعرفة بأنّ لهذه الكائنات خالقاً عالماً قادراً حيّاً ويكون العقل كاشفاً عن أنّه تعالى منزّه و متعال عن الشبه بالمخلوق.

وبعبارة أخرى: إنّ العاقل يعرف بعقله ربّه تعالى - بعد النظر إلى الآيات والتدبّر فيها - خارجاً عن الجهتين المذمومتين أعني التعطيل والتشبيه.

تفصيل ذلك: إنّ العاقل يعرف الربّ تعالى بالنظر إلى آياته فالآيات تنادي بأعلى صوتها بأنّها مربوبة ومصنوعة، وأنّ صانعها وربّها هو الربّ الصانع القادر العالم الحكيم. ودلالة الآيات والمصنوعات على الصانع ممّا لا شكّ فيه ولا ارتياب، فإنّ العقل يرى بطلان وجود الأثر من دون مؤثّر، فالآيات تشير إلى خالقها وتدلّ على بارئها.

* روى العلّامة المجلسي عن الإحتجاج قال أميرالمؤمنين(ع): دليله آياته ووجوده إثباته .(1)

ص: 311


1- الإحتجاج: 1/201؛ بحارالأنوار : 4/253 ح7.

* وفي خطبة الإمام الرضا(ع): بصنع اللّه يستدلّ عليه، وبالعقول تعتقد معرفته .(1)

فالدليل على اللّه تعالى آياته التي نستكشف بنور العقل مخلوقيّتها ومصنوعيّتها وأنّه لولا صنعه تعالى وخلقه إيّاها لما كانت ولما تحقّقت.

* روى الكليني عن هشام بن الحكم قال: قال الإمام الصادق(ع) في جواب الزنديق الذي سأله عن الدليل على وجود صانع العالم: وجود الأفاعيل التي دلّت على أنّ صانعاً صنعها. ألا ترى أنّك إذا نظرت إلى بناء مشيّد مبنيّ،علمت أنّ له بانياً، وإن كنت لم تر الباني ولم تشاهده؛ الخبر .(2)

* وقال أميرالمؤمنين(ع): هل يكون بناء من غير بان، أو جناية من غير جان .(3)

فالعاقل يعرف الربّ تعالى بعد النظر إلى آياته ويعرف أنّه تعالى عالم وقادر لدلالة الآيات على علمه وقدرته، فإنّه لا يمكن للعاجز أو الجاهل أن يخلق هذه الكائنات العظيمة.

ثمّ إنّ العاقل إذا نظر بنور عقله إلى المخلوقات يرى احتياجها إلى الربّ المتعال وافتقارها إليه حتى في أصل كونها وثباتها، ويرى قيامها به تعالى وأنّه قيّومها ومكوّنها وصانعها. ولذا يحكم بعدم شباهة خالقها بها بوجه من الوجوه لأنّه إذا شابهها في شيء من صفاتها لجرى عليه ما يجري عليهم من الاحتياج والفقر ولتحوّل مخلوقاً بعد أن كان خالقاً، ومصنوعاً بعد أن كان صانعاً، ولصار دليلاً بعد أن كان مدلولاً عليه.(4)

* وفي كتاب تحف العقول قال أميرالمؤمنين(ع): بها تجلّى صانعها للعقول، وبها امتنع عن نظر العيون، لا يجري عليه السكون والحركة، وكيف يجري عليه ما هو أجراه، ويعود فيه ما هو أبداه، ويحدث فيه ما هو أحدثه، إذاً لتفاوتت ذاته ولتجزّأ كنهه، ولا امتنع من الأزل معناه، ولكان له وراء إذ وجد له أمام، ولا التمس التمام إذ لزمه النقصان، وإذاً لقامت آية المصنوع فيه، ولتحوّل دليلاً بعد أن كان مدلولاً عليه .

ص: 312


1- التوحيد للصدوق: 1/34 ح2؛ بحارالأنوار : 4/227 ح3.
2- الكافي: 1/81 ح5؛ بحارالأنوار : 3/29 ح3.
3- الإحتجاج: 1/204؛ بحارالأنوار : 3/26 ح1.
4- تحف العقول: 67؛ بحارالأنوار : 74/311 ح14.

هذا هو نصيب العاقل في معرفة الربّ تعالى بنور العقل وهو أن يخرجه تعالى عن حدّ النفي وحدّ التشبيه، وهو أوّل درجات معرفته تعالى ولا يقبل من أحد التوحيد إلّا بها.

* روى الصدوق عن مختار بن محمد بن مختار الهمداني عن الفتح بن يزيد الجرجاني عن الإمام أبي الحسن(ع) قال: سألته عن أدنى المعرفة؟

فقال: الإقرار بأنّه لا إله غيره، ولا شبه له ولا نظير له، وأنّه قديم مثبت، موجود غير فقيد، وأنّه ليس كمثله شيء .(1)

* روى الكليني عن الحسين بن الحسن عن بكر بن صالح، عن الحسين بن سعيد قال: سئل الإمام أبوجعفر الثاني(ع)، يجوز أن يقال لله: إنّه شيء؟

قال: نعم، تخرجه من الحدّين، حدّ التعطيل وحدّ التشبيه .(2)

وقد مرّ تفصيل ذلك، فلا داعي للإعادة.

وأمّا طريق الفطرة فنقول في بيانه أنّ هاهنا ثلاثة أقوال:

أحدها: ما ذهب إليه البعض من إنكار طريق الفطرة وانحصار طريق معرفة اللّه تعالى بالعقل، وأنّ المراد من الفطرة هو أنّ اللّه تعالى خلق الإنسان عاقلاً يتمكّن من معرفة ربّه بعقله.

ثانيها: ما ذهب إليه العرفاء وهو أنّ الوجود حقيقة واحدة فاردة لا شبه له ولا نظير لأنّ الماهيّات أعدام محضة وما يتراءى من التشخّصات فهي تجلّيات للوجود. فإذا شاهد الإنسان تلك الحقيقة الواحدة بوحدتها، وحصلت له المكاشفة بأنّ تشخّصه لا حقيقة له، وأنّه ليس في الدار غيره ديّار، فهي المعرفة الحضوريّة، أي حض-ور المعلول عن-د العلّة وفنائه فيها - وقد أشرنا إلى كلماتهم وبيّنا بطلانها ووهنها -، وهي التي يعبّر عنها بالفطرة.

ثالثها: ما ذهب إليه جمع من الأعاظم وفقاً للآيات والأخبار، وهو المختار عندنا.

ومجمل الكلام فيه هو أنّه ليس للعباد طريق إلى معرفة الربّ تعالى إلّا أن يعرّفهم

ص: 313


1- التوحيد للصدوق: 1/283؛ بحارالأنوار : 3/267 ح1.
2- الكافي: 1/82 ح2؛ بحارالأنوار : 3/262 ح18.

نفسه القدّوس. وقد قامت الأدلّة على تعريف اللّه تعالى نفسه للعباد في النشئات السابقة وفي الدنيا في بعض الأحوال - كالبأساء والضرّاء أو في بعض أحوال العبادات والمناجاة - فيعرف العبد ربّه بتعريفه، ويراه ويشاهده ويخاطبه ويأنس بمناجاته، ويسكن قلبه إليه ويطمئنّ به.

وهذا التعريف يكون تعريفاً لائقاً بجلاله وقدسه وعلوّه، بمعنى أنّ معرفته به تعالى تكون معرفة متعالية عن المعلوميّة والمعروفيّة، فلا يحصل للعبد - بعد نيله لتلك المعرفة بفضله تعالى ومنّه - صورة في ذهنه، بل يحصل للعبد بتلك المعرفة تحيّراً وولهاً وأنساً ومحبّةً لا يوصف بالبيان، ويجد العبد ربّه تعالى أقرب إليه من حبل الوريد، ويراه بقلبه بحقيقة الإيمان، ويراه ربّاً رؤوفاً رحيماً عالماً قادراً حيّاً، ويجد بحقيقة الوجدان أنّه عين العلم والقدرة والحياة، وأنّه ليس له صفة زائدة على ذاته، بل تكون كمالاته عين ذاته.

وأيضاً يحصل للعبد حين حصول معرفة اللّه بالله، المعرفة بنفسه، ويجد نفسه فقيراً بحسب ذاته، وعاجزاً بالذات، وميّتاً بالذات.

والحاصل أنّه إذا منّ اللّه على عبده بتعريفه نفسه له، يجد العبد بالوجدان الحقيقي أمرين:

أحدهما: يجد أنّه ربّ عالم قادر رؤوف رحيم غنيّ مالك حيّ قريب مجيب، وأنّ كمالاته عين ذاته، ومع وجدانه ربّه يجد أنّه لا يتمكّن من توصيفه ولا يتمكّن من إدراك ذاته، ولذا تستوجب هذه المعرفة ازدياد التحيّر والوله فيه تعالى.

ثانيهما: يجد نفسه بأنّه مربوب مصنوع فقير مملوك ضعيف عاجز ميّت بحسب ذاته، وفاقد لجميع الكمالات، ويحتاج إلى ربّه أشدَّ الاحتياج، وفقير إليه بكمال الفقر، ولذا يلجأ ويتضرّع إليه ويدعوه ويسئله ويرجو الإجابة من ربّه.

وما أحسن مناجاة مولى الموحّدين أميرالمؤمنين(ع) وماأبنيها لهذه المعرفة:

«مولاي يا مولاي، أنت الربّ وأنا العبد، وهل يرحم العبد إلّا الربّ... مولاي يا مولاي،

ص: 314

أنت المالك وأنا المملوك، وهل يرحم المملوك إلّا المالك» .(1)

وأنت ترى بينونة هذه المعرفة (التي هي المعرفة العالية الحاصلة للعبد بفضل اللّه تعالى ومنّه) لما ذكره العرفاء والقائلون بالحكمة المتعالية أخذاً عن الصوفيّة في مبحث المعرفة فإنّهم ذهبوا إلى أنّ الإنسان يرى - بعد حصول المعرفة الكاملة له (بالمكاشفة والشهود والوصول إلى الحقّ) - أنّه ليس في الدار غيره ديّار ويرى فناء نفسه في اللّه تعالى بل يرى فناء كلّ شيء فيه، ويرى ربّه برؤية كلِّ شيء وأنّه تجلّى في كلّ صورة مع أنّه ليست للصور حقيقة، وهذا بخلاف معرفة الربّ به تعالى فإنّ العبد العارف يجد ربّه تعالى ويجد نفسه ويجد المباينة التامّة بين الربّ والمربوب والخالق والمخلوق فيعرف أنّ في الدار حقيقتين:

أحدهما: الربّ تعالى القائم بذاته، القيّوم لغيره، الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.

ثانيهما: المخلوق القائم بربّه، الفاقد بذاته لذاته، والفاقد بذاته لجميع الكمالات النوريّة من العلم والحيات والقدرة.

فمن الواضح بينونة مقالتنا لمقالة العرفاء فإنّ الأولى تثبت الخالق القادر القيّوم المتعال عن الجهل والعجز، وتثبت المخلوق الحادث بالحدوث الحقيقي، والقائم بربّه تعالى، والفقير ذاتاً، والمحتاج إلى الربّ الغنيّ بالذّات.

وأمّا المقالة الثانية فإنّها تذهب إلى نفي المخلوق رأساً وأنّ ليس في الدار غيره ديّار وأنّ المخلوق عين الخالق وتجلّ من تجلّياته، جلّت ساحة قدس ربّنا عن ذلك.

فلاحظ كلام القيصري في شرح فصوص الحكم:

فالعالِم باللّه ومظاهره يعلم أنّ المعبود هو الحقّ ف-ي أيّ صورة كانت سواء كانت حسّية كالأصنام أو خياليّة كالجنّ أو عقليّة كالملائكة .(2)

ولاحظ ما بُيّن في كتاب «الإنسان الكامل»:

ص: 315


1- البلد الأمين: 319؛ بحارالأنوار : 91/109 ح15.
2- شرح فصوص الحكم، الفص النوحي: 524.

العرفاء يرجحون دائماً السكر (بالمعنى الذي هم يفسّرونه) على العقل لهؤلاء كلام خاص بهم، التوحيد عندهم له معنى آخر، فتوحيدهم هو وحدة الوجود، التوحيد الذي إذا وصل إليه الإنسان يكون كلّ شيء على هيئة المعنى الحرف-ي، ف-ي هذا المذهب الإنسان الكامل ف-ي النهاية يصير عين اللّه جلّ وعلا الإنسان الكامل الحقيقي عندهم تفنى ذاته ويكون هو اللّه جلّ وعلا .(1)

وكذا ما أشير إليه في كتاب «الروح المجرّدة»:

لا تقل حتى إنّي أريد اللّه جلّ وعلا، من أنت حتى تريد اللّه جلّ وعلا؟ أنت لم تستطع ولا تستطيع أن تريده وتطلبه، فهو غير محدود وأنت محدود! وطلبك الذي هو مع نفسك وناشئ من نفسك محدود، وهيهات أن تريد وتطلب اللّه جلّ وعلا الذي لا يتناهي بهذا الطلب المحدود، وذلك لأنّ الاهك الذي طلبته هو مطلوبك ف-ي إطار طلبك، ومحدود ومقيّد بإرادتك، وداخل ف-ي وعاء نفسك لعلّة طلبك. وعلى هذا، فذلك ليس هو اللّه، إنّه الإله المتصوّر والمتخيّل والمتوهّم بصورة ذهنك ووهمك وخيالك وف-ي الحقيقة نفسك التي خلتها ربّاً لك.

بناءً على هذا فكفّ عن طلبك وبأَملك مع نفسك إلى القبر حتى تستطيع أن ترى اللّه جلّ وعلا أو تصل إلى لقاءه وطلبه فاخرج أنت من طلبك واصرف النظر عن إرادتك وطلبك وكِل نفسك إلى اللّه، وليكن هو الذي يريد لك وهو الذي يطلب لك وف-ي هذه الصورة الأخرى أنت لم تصل

ص: 316


1- السنخية أم الاتحاد والعينية أم التباين: 109 نقلاً عن الإنسان الكامل: 126 وإليك نصّ كلامه: عرفا هميشه مستي را - به آن معنا كه خود مي گويند - بر عقل ترجيح مي دهند. آنها حرفهاي خاصي دارند. توحيد نزد آنها معني ديگري دارد. توحيد آنها وحدت وجود است، توحيدي است كه اگر انسان به آنجا برسد همه چيز شكل [حرفي] پيدا مي كند. در اين مكتب انسان كامل در آخر عين خدا مي شود؛ اصلاً انسان كامل حقيقي خودِ خداست و هر انساني كه انسان كامل مي شود، از خودش فاني مي شود و به خدا مي رسد.

إلى اللّه جلّ وعلا كما لم تصل من قبل ولا تصل لكن حيث خرجت من طلبك وإرادتك وأعطيت زمامك إليه وهو سار بك ف-ي المعارج ومدارج الكمال والتي حقيقتها السير إلى اللّه جلّ وعلا مع فناء المراحل والمنازل وآثار النفس وبالنتيجة الاندكاك وفناء كلّ وجودك بتمامه ف-ي وجود الذات المقدسة حينذاك فإنّ اللّه جلّ وعلا عرف اللّه جلّ وعلا، لا أنّك عرفت اللّه جلّ وعلا انّ وصول الممكن إلى الواجب محال وهاهنا شيئان محالان وصول الممكن للواجب وانضمامهما الذي يستلزم التركب ف-ي الذات المقدسة والمستلزم للحدوث وهذا مناف لقدمه جلّ وعلا.

أمّا فناء العبد المطلق واندكاكه ف-ي ذاته جلّ وعلا وذهابه وانعدامه ف-ي جلاله وجماله، فأيّ إشكال فيه؟ ولكن لابدّ أن نعلم أنّ ذاته جلّ وعلا بحت وصرف وغير متناهية وأنّى للعبد أن يمكنه الذهاب هناك وإن فنيت فيها وذلك لأنّه جلّ وعلا لا يقبل عنوان العبودية وعنوان فناء العبد وهناك لا يوجد شيء غير الذات لا العبد وفناءه، هنالك الذات والذات هي ذات اللّه، واللّه هو اللّه .(1)

ص: 317


1- السنخية أم الاتحاد والعينية أم التباين: 114 نقلاً عن الروح المجردة: 169 و188 وإليك نصّ عبارته: حتي نگو: من خدا را مي خواهم! تو چه كسي هستي كه خدا بخواهي؟! تو نتوانسته اي و نخواهي توانست او را بخواهي و طلب كني! او لا محدود و تو محدودي! و طلب تو كه با نفس تو و ناشي از نفس توست محدود است و هرگز با آن، خداوند را كه لا يتناهي است نمي تواني بخواهي و طلب كني! چرا كه آن خداي مطلوب تو در چارچوب طلب توست، و محدود و مقيد به خواست توست و وارد در ظرف نفس توست به علت طلب تو. بنابراين آن خدا خدا نيست. آن خداي متصور و متخيل و متوهم به صورت و وهم و خيال توست و در حقيقت نفس توست كه خداي پنداشته اي! بناءً علي هذا دست از طلب خود بردار و با خود اين آرزو را به گور ببر كه بتواني خداوند را ببيني و يا به لقاي او برسي و يا او را طلب كني! تو خودت را از طلب بيرون بياور و از خواست و طلبت كه تا به حال داشته اي صرف نظر كن و خودت را به خدا بسپار، بگذار او براي تو بخواهد و او براي تو طلب كند. در اين صورت ديگر تو به خدا نرسيده اي همان طور كه نرسيده بودي و نخواهي رسيد اما چون از طلب و خواست بيرون شدي و زمامت را به دست او سپردي و او تو را در معارج و مدارج كمال كه حقيقتش سير الي اللّه با فناي مراحل و منازل و آثار نفس و بالأخره اندكاك و فناي تمام هستي و وجودت در هستي و وجود ذات اقدس وي مي باشد سير داد. خدا خدا را شناخته است نه تو خدا را. وصول ممكن به واجب محال است. در آنجا دو چيز بودن محال است. ممكن و واجب و وصول همه اينها ضم و ضميمه است كه مستلزم تركيب ذات اقدسش بوده و بالأخره سر از حدوث وي در مي آورد و اين منافات با قدم او دارد. اما فناي مطلق و اندكاك عبد در ذات او و از بين رفتن و نيست شدن او در جلال و جمال او اين چه اشكالي دارد؟!ولي بايد دان--ست كه در آن ذات بح-ت وصرف و غيرمتناهي بنده اي نمي تواند برود گرچه فاني شود چ--را كه عنوان بنده و عن--وان فناي بنده را ه--م ذات وي نمي پذيرد. در آنجا غير ذات چيزي نيست نه بنده است و نه فناي او. آنجا ذات است و ذات، ذات است. آنجا خداست. و خدا، خداست.

و ما باح به ابن العربي وشارح كتابه حسن زاده الآمليّ:

فكان موسى أعلم بالأمر من هارون لأنّه علم ما عبده أصحاب العجل لعلمه بأنّ اللّه جلّ وعلا قد قضى إلّا يعبد إلّا إيّاه وما حكم اللّه بشيء إلّا وقع فكان عتاب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتّساعه فإنّ العارف من يرى الحقّ ف-ي كلّ شيء بل يراه عين كلّ شيء .(1)

قال حسن زاده الآمليّ:

غرض الشيخ ف-ي مثل هذه المسائل ف-ي الفصوص والفتوحات وسائ-ر ال--زبر وال--رسائل بي--ان أسرار الولاية والباطن لأولئك الذين هم أهل السرّ ولو كان بحسب نبوة التشريع مقرّ بأنّ عموم الناس لابدّ وأن يعرضوا عن عبادة الأصنام كما أنكر الأنبياء عبادة الأصنام .(2)

بل في الحقيقة لا ظاهر ولا مظهر ولا متجلي ولا مجلى... الحكيم والمنطقي يرى الإمكان الاستعدادي ف-ي المادة وباقي الامكانات جهات ف-ي النسبة ويرى العارف الامكان بأنّه وجودات متكثرة هي محض الربط

ص: 318


1- السنخية أم الاتحاد والعينية أم التباين: 87 نقلاً عن فصوص الحكم: 1/192.
2- السنخية أم الاتحاد والعينية أم التباين: 87 عن ممد الهمم في شرح فصوص الحكم: 415 وإليك نصّ عبارته: غرض شيخ در اين گونه مسايل در فصوص و فتوحات و ديگر زُبُر و رسائلش بيان اسرار ولايت و باطن است براي كساني كه اهل سرّند هر چند به حسب نبوت تشريع مقرّ است كه بايد توده مردم را از عبادت اصنام بازداشت چنانكه انبياء عبادت اصنام را انكار مي فرمودند.

ولا وجود إلّا للواجب ولو دققت النظر فإنّ كلّ ما في دار الوجود وجوب (يعني كلّ شيء واجب الوجود) والبحث عن الامكان لأجل التلهي .(1)

أقول: أين هذه الكلمات من مقالة التابعين للقرآن الكريم وبيان حملته القائلين بالمعرفة الفطريّة! فهناك بون بعيد بين القائلين بالمعرفة الفطرية بالبيان الذي ذكرناه والقائلين بالعينيّة والفاصلة بينهما نفس الفاصلة بين الهدى والضلالة.

ص: 319


1- السنخية أم الاتحاد والعينية أم التباين: 88 عن ممد الهمم في شرح فصوص الحكم: 107 وإليك نصّ عبارته: بلكه در حقيقت ظاهر و مظهر و متجلي و مجلي هم نيست... خلاصه حكيم و منطقي امكان استعدادي را در ماده و ديگر امكانات را جهات در نسبت مي گيرند و عارف امكان را وجودات متكثره كه ربط محض اند و جز واجب نيستند و چون به دقت بنگري آنچه در دار وجود است وجوب است و بحث در امكان براي سرگرمي است.

الباب الثاني: تفصيل الكلام حول افتراق المعرفة العقليّة عن المعرفة الفطريّة

ص: 320

إنّ العقل يرى أنّه لا يتمكّن من معرفة الربّ المتعال لتعاليه عن المعروفيّة فكيف يعقل أن يقع الربّ المتعال تحت تيّار ادراك العقل والعلم، وقد أشارت الأخبار إلى هذه الحقيقة. وإليك بعضها تذكرة:

* قال أميرالمؤمنين(ع): لم يطلع العقول على تحديد صفته، ولم يحجبها عن واجب معرفته .(1)

* في توحيد المفضّل: فإن قالوا: فكيف يكلّف العبد الضعيف معرفته بالعقل اللطيف ولا يحيط به؟

قيل لهم: إنّما كُلّف العباد من ذلك ما في طاقتهم أن يبلغوه، وهو أن يوقنوا به ويقفوا عند أمره ونهيه، ولم يكلّفوا الإحاطة بصفته، كما أنّ الملك لا يكلّف رعيّته أن يعلموا أطويل هو أم قصير، أبيض هو أم أسمر، وإنّما يكلّفهم الإذعان بسلطانه والإنتهاء إلى أمره، ألا ترى أنّ رجلاً لو أتى باب الملك فقال: أعرض عليّ نفسك حتى أتقصّى معرفتك وإلّا لم أسمع لك، كان قد أحلّ نفسه العقوبة، فكذا القائل: إنّه لا يقرّ بالخالق سبحانه حتى يحيط بكنهه متعرّض لسخطه .

فالظاهر من هذا الخبر الشريف أنّ العقل يعرف الربّ معرفة غيابيّة فعليه أن يقرّ به

ص: 321


1- نهج البلاغة (صبحي صالح): 1/87؛ بحارالأنوار : 4/308 ح36.

إيماناً بالغيب ولا يستطيع أن يعرف كنه الربّ تعالى.

* وعن الإمام السجّاد(ع) في مناجاة العارفين: إلهي قصرت الألسن عن بلوغ ثنائك كما يليق بجلالك، وعجزت العقول عن إدراك كنه جمالك، وانحصرت الأبصار دون النظر إلى سُبُحات وجهك، ولم تجعل للخلق طريقاً إلى معرفتك إلّا بالعجز عن معرفتك .(1)

وبما أنّ حيطة كشف العقل لا تشمل الربّ المتعال ولا يمكن الإحاطة عليه بالعقول (لتعاليه وعلوّه عن المعقوليّة والمكشوفيّة)، فقد وردت الآيات والأخبار في النهي عن التفكّر فيه تعالى وأنّه يوجب الكفر والزندقة لأنّ طريق معرفته ليس هو التفكّر في ذاته، فمن رام الوصول إلى معرفة اللّه تعالى بالتفكّر فيه فسوف يعرف غير اللّه ويظنّ أنّه هو اللّه تعالى.

* عن أميرالمؤمنين(ع): من تفكّر في ذات اللّه تزندق .(2)

* عن الإمام الصادق(ع): من نظر في اللّه كيف هو هلك .(3)

* وعنه(ع):... التفكّر في اللّه لا يزيد إلّا تيهاً... .(4)

وغيرها من الأخبار الكثيرة المرشدة إلى حكم العقل الحاكم بأنّ الخالق المتعال لا يمكن أن يقع في مهبّ تيّار الإدراكات، لبينونته التامّة عمّا يمكن أن يقع معقولاًوموصوفاً.

ومن هنا نرى أنّ الأخبار تشير إلى أنّ العباد لم يكلّفوا المعرفة لأنّها ليست في وسعهم.

* روى العلّامة المجلسي عن المحاسن عن عبدالأعلى مولى آل سام عن الإمام أبي عبدالله(ع): لم يكلّف اللّه العباد المعرفة، ولم يجعل لهم إليها سبيلاً .(5)

ص: 322


1- بحارالأنوار : 91/150 ح2.
2- تحف العقول: 92؛ بحارالأنوار : 74/285 ح1.
3- الكافي: 1/93 ح5؛ بحارالأنوار : 3/264 ح24.
4- بحارالأنوار : 3/259 ح4.
5- المحاسن: 1/198 ح26؛ بحارالأنوار : 5/222 ح5.

والحاصل أنّ العاقل يرى ويكشف بنور عقله أنّ ربّه متعال عن أن يقع في مهبّ تيّار إدراكه، ويرى سبوحيّته عن أن يصير معلوماً ومعقولاً، وليس هذا لنقص في نور العقل إنّما هو لأجل تعالي الربّ وقدسه وجلاله عن أن يصير معقولاً لنور العقل ومعلوماً له، ذلك أنّ العقل يرى البينونة التامّة بين الخالق وخلقه، فبما أنّه يمكن تعقّل الخلق، لا يمكن تعقّل الخالق، فكلّ ما جرى فيه لا يجري في خالقه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا يرى العاقل مانعاً لتعريف اللّه تعالى نفسه للعباد.

وبعبارة أخرى إنّ العقل يرى امتناع معرفته تعالى بالعقل وأنّه لا يمكن إحاطة العقول به لأنّه محيط بكلّ شيء ولكنّه لا يرى امتناعاً لتعريف اللّه تعالى نفسه للعباد تعريفاً متعالياً عن المعلوميّة والمعقوليّة، فإنّه تعالى فوق المعروف والمعقول وفوق العلم والجهل. فمن عرفه به تعالى يعرفه متعالياً عن المعلوميّة والمعقوليّة ويعرفه بسبّوحيّته وقدّوسيّته عن صفات الخليقة التي منها إمكان المعلوميّة والمعقوليّة، فليست معرفة اللّه باللّه ممّا يمتنع عقلاً بل إنّ العقل يجد انحصار معرفته تعالى بتعريفه نفسه القدّوس، فلا طريق إلى معرفته إلّا هو كما ورد في الدعاء: «بك عرفتك وأنت دللتني عليك ودعوتني إليك ولولا أنت لم أدر ما أنت»(1) وورد في الخبر: «إنّما عرف اللّه من عرفه باللّه فمن لم يعرفه به فليس يعرفه... ولا تدرك معرفة اللّه إلّا بالله» (2)ولذا يجب التسليم - قبال الآيات والأخبار المرشدة - إلى أنّ اللّه تعالى يعرّف نفسه لعباده، وأنّه ليس للعباد أن يعرفوا ربّهم بل المعرفة من صنعه تعالى ويجب على العباد التصديق به بعد حصول المعرفة.

وينبغي هنا التنبيه على أمور:

التنبيه الأوّل: أنّ معرفة الربّ بالربّ هي معرفة لائقة بجلاله وشأنه وقدسه، فبعد

ص: 323


1- إقبال الأعمال: 1/67؛ بحارالأنوار : 95/82 ح2.
2- . التوحيد للصدوق: 1/142 ح7؛ بحارالأنوار : 4/160 ح6.

أن يعرف العبد ربّه بربّه لا يصير الربّ معلوماً ومعقولاً إنّما يجد العبد ويرى ربّه به رؤية متعالية عن المعلوميّة والمعقوليّة. فعندما يعرّف اللّه تعالى نفسه للعبد يرى العبد جلال الربّ وقدسه وعلوّه وسبوحيّته كما أنّه يرى نفسه عين العجز والفقر إلى اللّه الغنيّ الحميد.

وبعبارة أخرى: إنّ معرفة الربّ بالربّ هي وجدان كمالاته به ومنها قدسه وعلوّه عن المعلوميّة والمفهوميّة. فبعد أن يعرف العبد ربّه بربّه، لا يصير اللّه تعالى معلوماً ومعقولاً للعبد بل هو باق في علوّه وجلاله.

وبعبارة ثالثة: إنّ اللّه تعالى إذا عرّف نفسه لعبده يرى العبد ويشاهد بينونته تعالى عن المخلوقات، كما أنّه يرى تعاليه عن كلّ نقص وسبوحيّته عن أن يشابه خلقه، فلا يصير اللّه تعالى - بعد أن عرّف نفسه للعبد - معلوماً بل يرى العبد سبوحيّته وقدوسيّته ويرى أنّه تعالى أكبر من أن يوصف، ولذا يتحيّر ويأله فيه، كما أنّه إذا عرّف اللّه تعالى نفسه لعبده يرى العبد ربّه عالماً بذاته كما أنّه يعرف نفسه جاهلاً بذاته، ويرى ربّه حيّاً بذاته كما أنّه يرى نفسه ميّتاً بذاته، ويرى ربّه قادراً بذاته كما أنّه يرى نفسه عاجزاً بذاته، ويرى ربّه مالكاً بذاته كما أنّه يرى نفسه مملوكاً بذاته.

وعلى ضوء ما ذكرنا ظهر أنّه لا تنافي بين المعرفة الفطريّة والمعرفة العقليّة والفرق بينهما هو أنّ العاقل يكشف بنور عقله الآيات فيحكم - عند رؤيتها والتدبّر فيها - بامتناع كينونتها بنفسها، بل لابدّ لها من الصانع العليم الحكيم القدير المباين لها في الصفات والمفارق إنّيتها. فالمكشوف هنا هو المخلوق ولكنّ العاقل يحكم بضرورة الخالق العالم المتعال. فالعقل يكشف للعاقل وجود صانع حكيم عالم قادر متعال عن الزمان والمكان والمادّة ولواحقها وسائر صفات المخلوق.

وأمّا في المعرفة الفطريّة فلا يكون اللّه تعالى معلوماً كمعلوميّة الأشياء بنور العقل كيف وإنّه تعالى فوق المعلوميّة والمكشوفيّة ولو بنفسه لأنّ المكشوفيّة خلاف ذاته تعالى، بل يرى العبد ربّه تعالى بعد تعريفه سبّوحاً قدّوساً عن المعلوميّة والمكشوفيّة

ص: 324

فيجد السبوحيّة والقدّوسيّة. فما حكم به العاقل بنور العقل من امتناع شباهة اللّه تعالى بخلقه وسبّوحيّته عن صفات المخلوق ايماناً بالغيب وجده العارف ربّه بربّه تعالى بحقيقة الإيمان.

وبذلك تعرف أنّ امتناع صيرورة اللّه تعالى مكشوفاً معروفاً معلوماً ممّا لا يتغيّر ولا يمكن رفع اليد عنه.

وبعبارة أخرى: التنافي بين المعرفتين إنّما يكون إذا قلنا بأنّ العقل لا يستطيع أن يكشف الربّ القدّوس تعالى ولكنّ اللّه تعالى يكشف ذاته بحيث تصير معقولةً ومعلومةً للخليقة، ولكن هذا لا يجوز التفوّه به فإنّه تنزيل للقدّوس عن قدسه وسلب لجلاله وكماله ولابدّ من الإقرار والتصديق بسبّوحيّته عن المعروفيّة والمكشوفيّة على كلّ حال.

نعم الفرق بين المعرفتين هو أنّ المعرفة العقليّة مبتنية على معرفة الآيات والتصديق بأنّ لها صانعاً عليماً لا يضاهيها في الصفات، ولكن المعرفة الفطريّة مبتنية على تعريف اللّه تعالى نفسه القدّوس لعباده فهم يرونه بقلوبهم ويرون جلاله وجماله وكماله وسبّوحيّته وقدّوسيّته وبينونته عن الخلائق ومفارقته إنيّتهم.

فالبرهان العقليّ يكون كاشفاً عن الحقيقة للعاقل بحيث يرى على نفسه لزوم التصديق بها وأنّه لا يتمكّن من إنكارها، والفطرة توجب حصول الوجدان والرؤية بالنسبة إلى الحقيقة.

وبعبارة رابعة: أنّ هناك ثلاثة أنواع من المعرفة؛ الأولى: المعرفة الإحاطيّة، والثانية المعرفة الغيابيّة، والثالثة المعرفة المحاطيّة.

أمّا الأولى فهي معرفة الإنسان الأشياء بنور العلم والعقل، فهذه المعرفة توجب الإحاطة بالأشياء واكتناهها وهي مختصّة بالمخلوق.

وأمّا في معرفة الإنسان ربّه القدّوس المتعال بنور العقل بعد النّظر في الآيات فلا يكون له حظّ من المعرفة إلّا إخراجه من الجهتين المذمومتين أعني التعطيل والتشبيه.

ص: 325

والمعرفة - بمعناها الحقيقي - لا تحصل إلّا بما صار معروفاً وهي الآيات فقط، وعليه يكون الإنسان عارفاً بربّه بعد كشف العقل عن ثبوت ذي الآية القادر القيّوم الحيّ العالم الواحد.

وأمّا الثالثة فهي معرفة العبد ربّه بربّه فإنّ العبد يعرف الربّ به تعالى معرفة متعالية عن المعلوميّة والمعقوليّة فيعرف الربّ بأنّه لا يُعرف، ويعرف أنّه تعالى أعلى وأجلّ وأعظم من أن يقع عليه الوهم أو يصير مهبّاً لأمواج تيّار العقل والعلم. فبعد أن يعرف العبد ربّه بربّه، يرى نفسه محاطاً للربّ ويرى نفسه ذليلاً بين يديه، كما أنّه يرى ربّه تعالى أعلى من توهّم القلوب، ولذا يأله ويتحيّر فيه فيقف العبد بين موقفين:

الموقف الأوّل: موقف عدم إمكانه إنكار الربّ تعالى لما يرى ويشاهد من جلاله وكبريائه وعظمته في قلبه.

والموقف الثاني: موقف عدم إمكان تعقّله وتصوّره ولذا يأله ويتحيّر فيه.

فتحصّل من جميع ذلك أنّ معرفة الربّ به تختلف عن معرفة الربّ بالنظر بنور العقل إلى الآيات (بعد ما ظهر عدم التنافي والبينونة بينهما) ضرورة أنّ العبد حينما ينظر بنور عقله إلى الآيات يعرف أنّ له ولها ربّاً عالماً متعالياً عن المعلوميّة والمدركيّة، وأنّه لا يجوز تشبيه خالقها بها لأنّ تشبيهه تعالى بها يوجب جريان أحكامها (من العجز والضعف والفقر) عليه وهو لا يليق بجلال الربّ المتعال. والمعرفة العقليّة تختلف عن معرفة الربّ بالربّ لوضوح أنّ العبد في هذه المعرفة يرى ربّه ويأنس به ويناجيه ويراه أقرب إليه من حبل الوريد، كما أنّه يرى عدم مشابهته لخلقه وتعاليه عن المعلوميّة والمعقوليّة، ويرى ويشاهد ربّه بأنّه غنيّ بالذات، عالم بالذات، مالك بالذات، قادر بالذات، وحيّ بالذات، ويرى ويشاهد نفسه بأنّها فقيرة بالذات، جاهلة بالذات، مملوكة بالذات، عاجزة بالذات، وميّتة بالذات.

لاحظ هذه التعابير الدالّة على نتيجة معرفة الربّ بالربّ:

* روى الصدوق عن عبداللّه بن يونس عن ابن طريف عن الأصبغ في حديث قال: قام

ص: 326

إليه رجل يقال له ذعلب فقال: يا أميرالمؤمنين، هل رأيت ربّك؟

فقال: ويلك يا ذعلب لم أكن بالذي أعبد ربّاً لم أره.

قال: فكيف رأيته صفه لنا؟

قال: ويلك لم تره العيون بمشاهدة الأبصار ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان. ويلك يا ذعلب إنّ ربّي لا يوصف بالبُعد ولا بالحركة ولا بالسكون ولا بالقيام قيام انتصاب ولا بجيئة ولا بذهاب، لطيف اللطافة لا يوصف باللطف، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ، رؤوف الرحمة لا يوصف بالرقّة، مؤمن لا بعبادة، مدرك لا بمجسّة، قائل لا بلفظ، هو في الأشياء على غير ممازجة، خارج منها على غير مباينة، فوق كلّ شيء ولا يقال شيء فوقه، أمام كلّ شيء ولا يقال له أمام، داخل في الأشياء لا كشيء في شيء داخل، وخارج منها لا كشيء من شيء خارج. فخرّ ذعلب مغشيّاً عليه؛ الخبر .(1)

من الواضح أنّ الرؤية القلبيّة لا تطلق على المعرفة العقليّة فإنّه لا رؤية فيها ذلك أنّ العارف بالمعرفة العقليّة لا يكشف إلّا الآيات فيصدّق بخالقها العليم القدير الحكيم السبّوح.

ومن الواضح أيضاً أنّ هذه الرؤية القلبيّة لا كيفيّة لها ولذا عبّر الإمام(ع) عن تلك الرؤية بتعبيرات تليق بجلال اللّه تعالى وسبّوحيّته.

* روى الصدوق عن عليّ بن حمزة عن أبي بصير عن الإمام أبي عبدالله(ع) قال: قلت له أخبرني عن اللّه عزّ وجلّ، هل يراه المؤمنون يوم القيامة؟

قال: نعم، وقد رأوه قبل يوم القيامة.

فقلت: متى؟

قال: حين قال لهم ألست بربّكم، قالوا بلى. ثمّ سكت ساعة، ثمّ قال: وإنّ المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة، ألست تراه في وقتك هذا؟

ص: 327


1- الأمالي للصدوق: 341؛ بحارالأنوار : 4/27 ح2.

قال أبوبصير: فقلت له: جعلت فداك فأحدّث بهذا عنك؟

فقال: لا، فإنّك إذا حدّثت به فأنكره منكر جاهل بمعنى ما تقوله ثمّ قدّر أنّ ذلك تشبيه وكفر. وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين، تعالى اللّه عمّا يصفه المشبّهون والملحدون .(1)

هذا الخبر الشّريف صريح في المعرفة الفطريّة، تلك المعرفة التي تكمن في ضمير كلّ إنسان بصريح القرآن الكريم كما قال تعالى: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)(2) والوجدان شاهد على ذلك. والشاهد على صراحة الخبر الشريف في معرفة الربّ بالربّ - مضافاً إلي لفظ المعاينة الذي لا تستعمل في المعرفة القلبيّة - نهي الإمام(ع) عن التحديث بهذا الأمر فإنّه أمر يصعب على الجاهلين قبوله والتسليم له.

* روى أيضاً عن محمّد بن عاصم الطريفيّ عن عيّاش بن يزيد بن الحسن عن أبيه عن الإمام موسى بن جعفر عن آبائه عن الإمام الحسين بن عليّ(ع) قال: كنّا جلوساً في المسجد، إذ صعد المؤذّن المنارة فقال: اللّه أكبر اللّه أكبر، فبكى أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع) وبكينا ببكائه، فلمّا فرغ المؤذّن، قال: أتدرون ما يقول المؤذّن؟

قلنا: اللّه ورسوله ووصيّه أعلم.

فقال: لو تعلمون ما يقول، لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، فلقوله اللّه أكبر معان كثيرة منها أنّ قول المؤذّن اللّه أكبر يقع على قدمه وأزليّته وأبديّته وعلمه وقوّته وقدرته وحلمه وكرمه وجوده وعطائه وكبريائه، فإذا قال المؤذّن اللّه أكبر، فإنّه يقول اللّه الذي له الخلق والأمر وبمشيّته كان الخلق ومنه كان كلّ شيء للخلق وإليه يرجع الخلق، وهو الأوّل قبل كلّ شيء لم يزل، والآخر بعد كلّ شيء لا يزال، والظاهر فوق كلّ شيء لا يدرك، والباطن دون كلّ شيء لا يحدّ، فهو الباقي وكلّ شيء دونه فان، إلى أن قال(ع): ومعنى قد قامت الصلاة في الإقامة أي حان وقت الزيارة والمناجاة وقضاء الحوائج ودرك المنى والوصول

ص: 328


1- . التوحيد للصدوق: 117 ح20؛ بحارالأنوار : 4/44 ح24.
2- العنكبوت : 65.

إلى اللّه عزّوجلّ وإلى كرامته وغفرانه وعفوه ورضوانه .(1)

لا يخفى أنّ التعبير عن معرفة اللّه تعالى بالزيارة والمناجاة ودرك المنى والوصول إلى اللّه وإلى كرامته لا يليق إلّا بالمعرفة الفطريّة، فإنّ اللّه تعالى إذا عرّف نفسه للعبد يراه العبد بحقيقة الإيمان ويناجيه ويأنس به ويصل إليه وإلى كرامته وعفوه وغفرانه.

ومن الواضح أنّه ليس المراد بالوصول إليه تعالى الإندكاك بذاته - كما زعمه العرفاء - فإنّ ذلك لا يكون حتى لسيّد الكائنات رسول الله(ص)، للبينونة التامّة بين الخالق والمخلوق، كيف وإنّ العبد في تلك اللحظة يرى عجزه وفقره واحتياجه إلى الغنيّ بالذات القادر بالذات، والعقل حاكم بامتناع صيرورة الجاهل بالذات عالماً بالذات وصيرورة المحتاج بالذات غنيّاً بالذات.

أضف إلى ذلك أنّه لو كان الأمر كما ذهب إليه العرفاء، لما بقي غافر ومغفور وربّ ومربوب وراضٍ ومرضيّ عنه، والحال أنّ الإمام(ع) أشار إلى أنّ الغفران والعفو والرضوان والكرامة تصل إلى المصلّي عند وصوله إلى اللّه تعالى، وهذا دليل واضح على بقاء المباينة بين الخالق وخلقه حتى في المراتب العالية من المعرفة.

* وفي الدعاء المأثور عن مولانا سيّدالشهداء(ع) في يوم عرفة: واطلبني برحمتك حتى أصل إليك .(2)

* وفي الخبر عن أميرالمؤمنين(ع) إنّ كميلاً قال له: ما الحقيقة؟

فقال(ع): ما لك والحقيقة؟

قال كميل: أولست صاحب سرّك؟

قال(ع): بلى، ولكن يرشح عليك ما يطفح منّي؟

قال كميل: أو مثلك يخيب سائلاً؟

فقال(ع): الحقيقة كشف سبحات الجلال من غير إشارة.

ص: 329


1- . التوحيد للصدوق: 1/238 ح1؛ بحارالأنوار : 81/131 ح24.
2- إقبال الأعمال: 1/339؛ بحارالأنوار : 95/226.

فقال: زدني بياناً.

قال(ع): محو الموهوم مع صحو المعلوم.

فقال: زدني بياناً.

قال(ع): جذب الأحديّة لصفة(1) التّوحيد.

فقال: زدني بياناً.

قال(ع): نور يشرق من صبح الأزل، فيلوح على هياكل التوحيد آثاره.

فقال: زدني.

قال(ع): أطفئ السراج فقد طلع الصبح .(2)

قال شيخنا الأستاذ آية اللّه الميرزا حسن عليّ المرواريد1 في الخبر المنسوب إلى أميرالمؤمنين(ع):

«و بعبارة أخرى بعد صحو جميع المعلومات الصحيحة ومحو جميع الموهومات الباطلة، يظهر ويكشف للإنسان سبحات جلال اللّه كما هو محتمل الرواية المنسوبة إلى أميرالمؤمنين(ع)»(3) .

وقال شيخ مشايخنا العلّامة الفهّامة آية اللّه الميرزا مهدي الإصفهاني1 في ذيل الخبر ما حاصله أنّ المراد من ظهور سبحات الجلال بغير إشارة هو ظهوره تعالى بذاته القدّوس ومن غير إشارة كما يعرفه الإنسان في حال البأساء والضرّاء فيتحيّر ويتولّه بحيث يعرف امتناع الإشارة إليه بوجه من الوجوه.

وقال1 في شرح قوله(ع) «جذب الأحديّة لصفة التوحيد» ما حاصله أنّ معرفته تعالى فضل ولطف منه وإنّما هو بجذبه تعالى العبد وقطعه عن المخلوق .(4)

ص: 330


1- الصفة مصدر بمعنى الوصف.
2- روضة المتقين: 2/81؛ ميزان المطالب : 1/29 الطبعة القديمة، وقريب منه ما في نور البراهين للسيّد نعمة اللّه الجزائري: 221.
3- تنبيهات حول المبدأ والمعاد : 97.
4- معارف القرآن المخطوط : 317.

* وفي المناجاة الشعبانيّة لمولانا أميرالمؤمنين(ع): وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك .(1)

* وفي الدعاء عن مولانا زين العابدين(ع): بسم اللّه الرحمن الرحيم، سبحانك ما أضيق الطرق على من لم تكن دليله، وما أوضح الحقّ عند من هديته سبيله. إلهى فاسلك بنا سبل الوصول إليك، وسيّرنا في أقرب الطرق للوفود عليك، قرّب علينا البعيد، وسهّل علينا العسير الشديد، وألحقنا بالعباد الذين هم بالبدار إليك يسارعون، وبابك على الدوام يطرقون، وإيّاك في الليل يعبدون، وهم من هيبتك مشفقون، الذين صفّيت لهم المشارب، وبلّغتهم الرغائب، وأنجحت لهم المطالب، وقضيت لهم من وصلك المآرب، وملأت لهم ضمائرهم من حبّك، وروّيتهم من صافي شربك، فبك إلى لذيذ مناجاتك وصلوا، ومنك أقصى مقاصدهم حصّلوا، فيا من هو على المقبلين عليه مقبل، وبالعطف عليهم عائد مفضل، وبالغافلين عن ذكره رحيم رؤوف، وبجذبهم إلى بابه ودود عطوف، أسألك أن تجعلني من أوفرهم منك حظّاً، وأعلاهم عندك منزلاً، وأجزلهم من ودّك قسماً، وأفضلهم في معرفتك نصيباً، فقد انقطعت إليك همّتي، وانصرفت نحوك رغبتي، فأنت لا غيرك مرادي، ولك لا لسواك سهري وسهادي، ولقاؤك قرّة عيني، ووصلك منى نفسي، وإليك شوقي، وفي محبّتك ولهي، وإلى هواك صبابتي، ورضاك بغيتي، ورؤيتك حاجتي، وجوارك طلبتي، وقربك غاية سؤلي، وفي مناجاتك أنسي وراحتي، وعندك دواء علّتي، وشفاء غلّتي، وبرد لوعتي، وكشف كربتي، فكن أنيسي في وحشتي، ومقيل عثرتي، وغافر زلّتي، وقابل توبتي، ومجيب دعوتي، ووليّ عصمتي، ومغني فاقتي، ولا تقطعني عنك، ولا تبعدني منك، يا نعيمي وجنّتي ودنياي وآخرتي .(2)

أشار الإمام(ع) في هذه المناجاة العالية المضامين إلى أنّ الوصول إلى اللّه تعالى

ص: 331


1- بحارالأنوار : 91/99.
2- بحارالأنوار : 91/147 المناجاة الثامنة.

يكون بإرادة منه سبحانه. ثمّ بيّن شدّة اشتياقه إلى الوصول إليه ولقائه والكون في جواره والقرب منه. ومن الواضح أنّ هذه التعبيرات لا تتلاءم إلّا مع معرفة الربّ بالربّ.

* وفي الدعاء عن مولانا زين العابدين(ع): بسم اللّه الرحمن الرحيم، إلهي من ذا الذي ذاق حلاوة محبّتك فرام منك بدلاً، ومن ذا الذي أنس بقربك فابتغى عنك حولاً، إلهي فاجعلنا ممّن اصطفيته لقربك وولايتك، وأخلصته لودّك ومحبّتك، وشوّقته إلى لقائك، ورضّيته بقضائك، ومنحته بالنظر إلى وجهك، وحبوته برضاك، وأعذته من هجرك وقلاك، وبوّأته مقعد صدق في جوارك، وخصصته بمعرفتك، وأهّلته لعبادتك، وهيّمته لإرادتك، واجتبيته لمشاهدتك، وأخليت وجهه لك، وفرّغت فؤاده لحبّك، ورغّبته في ما عندك، وألهمته ذكرك، وأوزعته شكرك، وشغلته بطاعتك، وصيّرته من صالحي بريّتك، واخترته لمناجاتك، وقطعت عنه كلّ شيء يقطعه عنك... .

(1)

من الواضح أنّ الأنس وحلاوة المحبّة والقرب لا يحصل إلّا إذا اصطفى اللّه تعالى عباده لذلك بأن يعرّفهم نفسه القدّوس. وقد صرّح الإمام(ع) أنّ المشاهدة تكون باجتباء اللّه تعالى، فالمشاهدة فعل اللّه تعالى وبمشيّته.

* وفي الدعاء عن مولانا زين العابدين(ع): بسم اللّه الرحمن الرحيم، إلهي كسري لا يجبره إلّا لطفك وحنانك، وفقري لا يغنيه إلّا عطفك وإحسانك، وروعتي لا يسكّنها إلّا أنانك، وذلّتي لا يعزّها إلّا سلطانك، وأمنيّتي لا يبلّغنيها إلّا فضلك، وخلّتي لا يسدّها إلّا طولك، وحاجتي لا يقضيها غيرك، وكربي لا يفرّجها سوى رحمتك، وضرّي لا يكشفه غير رأفتك، وعلّتي لا يبرّدها إلّا وصلك، ولوعتي لا يطفئها إلّا لقاؤك، وشوقي إليك لا يبلّه إلّا النظر إلى وجهك، وقراري لا يقرّ دون دنوّي منك، ولهفتي لا يردّها إلّا روحك، وسقمي لا يشفيه إلّا طبّك، وغمّي لا يزيله إلّا قربك، وجرحي لا يبرئه إلّا صفحك، ورين قلبي لا يجلوه إلّا عفوك، ووسواس صدري لا يزيحه إلّا أمرك، فيا منتهى أمل الآملين، ويا غاية سؤال السائلين، ويا أقصى طلبة الطالبين، ويا أعلى رغبة الراغبين، ويا وليّ الصالحين، ويا

ص: 332


1- بحارالأنوار : 91/148 المناجاة التّاسعة.

أمان الخائفين، ويا مجيب المضطرّين... .(1)

لا يخفى على العارف الفقيه صراحة هذه التّعابير في بيان معرفة الربّ بالربّ. فالوصل والقرب واللقاء والنظر إلى وجهه الكريم ليس إلّا بتعريفه نفسه القدّوس للعباد.

* وفي الدعاء عن مولانا زين العابدين(ع): بسم اللّه الرحمن الرحيم، إلهي قصرت الألسن عن بلوغ ثنائك كما يليق بجلالك، وعجزت العقول عن إدراك كنه جمالك، وانحسرت الأبصار دون النظر إلى سبحات وجهك، ولم تجعل للخلق طريقاً إلى معرفتك إلّا بالعجز عن معرفتك. إلهي فاجعلنا من الذين توشّحت أشجار الشوق إليك في حدائق صدورهم، وأخذت لوعة محبّتك بمجامع قلوبهم، فهم إلى أوكار الأفكار يأوون، وفي رياض القرب والمكاشفة يرتعون، ومن حياض المحبّة بكأس الملاطفة يكرعون، وشرائع المصافاة يردون، قد كشف الغطاء عن أبصارهم، وانجلت ظلمة الريب عن عقائدهم من ضمائرهم، وانتفت مخالجة الشكّ عن قلوبهم وسرائرهم... .(2)

يستفاد من هذا الدّعاء أنّ العقول عاجزة عن درك كنه جمال اللّه تعالى، ولكن لا يستحيل أن يجعل اللّه تعالى خاصّة عباده يرتعون في رياض القرب والمكاشفة ويكرعون من حياض المحبّة بكأس الملاطفة، وبذلك يكونوا ممّن كشف عن أبصار قلوبهم الغطاء وممّن انتفى الشكّ عن قلوبهم وسرائرهم ذلك، أنّهم رأوا ربّهم به تعالى وعرفوه بالمعاينة فلا يبقى مجال للشكّ والشبهة.

* روى الصدوق عن ابن بكير عن زرارة قال: سألت الإمام أباجعفر(ع) عن قول اللّه عزّوجلّ: (وإِذْ أخذ ربُّك مِن بنِي آدم مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتهُمْ وأشْهدهُمْ على أنْفُسِهِمْ ألسْتُ بِربِّكُمْ قالُوا بلى)(3) قال: ثبتت المعرفة ونسوا الوقت، وسيذكرونه يوماً، ولولا ذلك لم يدر

ص: 333


1- بحارالأنوار : 91/149 المناجاة الحادية عشر.
2- بحارالأنوار : 91/150 المناجاة الثانية عشر.
3- الأعراف : 172.

أحد من خالقه ولا من رازقه .(1)

إنّ هذه التّعابير التي تكرّرت في الأدلّة تدلّ على أنّ الحاصل للعباد بتعريف اللّه نفسه القدّوس هو عرفان اللّه بالمعرفة الشهوديّة بحيث خاطبهم وتكلّم معهم وسألهم (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) وأجابوه بقولهم (بَلى) وهذا غير المعرفة الحاصلة باستضائة العبد بنور العقل، فإنّ الحاصل للعبد بنور العقل هو أنّ له خالقاً عالماً قديراً حكيماً من دون لقائه ورؤيته ووصاله.

فالمتحصّل من جميع ذلك هو أنّ اللّه تعالى عرّف نفسه للعباد معرفة متعالية عن المعلوميّة والمفهوميّة. ويمكن تجلّي هذه المعرفة للعباد في الدنيا بفضل اللّه تعالى ومنّه في حال البأساء والضرّاء وفي حال الصلاة والمناجاة والدعاء وتلاوة القرآن.

فإسناد التعريف إلى اللّه تعالى (كقوله(ع): أنر أبصار...، وقوله(ع): واسلك بنا سبل الوصول إليك، وقوله(ع): جذب الأحديّة لصفة التوحيد) لا يتناسب إلّا مع تعريف اللّه تعالى نفسه للعباد بحيث لم يكن للعبد دخل في حصول تلك المعرفة، بخلاف المعرفة العقليّة فإنّها (وإن كان حصولها للعبد بفضل اللّه تعالى ومنّه ويتوقّف على إفاضة العقل وتوفيق العبد لاستنارته بنور العقل ويتوقّف على تذكّر العبد - بفضل اللّه تعالى - لما يستكشفه العقل) تتوقّف على مقدّمة تكون من فعل العبد وهي النظر في الآيات والتأمّل فيها، فلا تتناسب هذه التعابير الواردة في هذه الأخبار مع المعرفة العقليّة.

ويشهد لذلك أنّ المعرفة بالآيات لا تتأتّى إلّا إذا التفت الإنسان إلى الآيات المعلومة التي يكون العلم بها سبباً لمعرفة خالقها ليرى دلالتها على ذي الآية، ولكنّ المعرفة الفطرية تتجلّى حينما ينقطع المرء عن جميع المعلومات الصحيحة وجميع الموهومات الباطلة كما قال أميرالمؤمنين(ع) في جواب كميل صاحب سرّه حينما

ص: 334


1- علل الشرائع: 1/117 ح1؛ بحارالأنوار : 5/243 ح32.

سأله عن الحقيقة فأجابه «محو الموهوم مع صحو المعلوم»(1) فطريق وجدان الربّ بالربّ أن يمحو الإنسان جميع المعلومات الصحيحة وجميع الموهومات الباطلة لتتهيأ الأمور لتعريف اللّه تعالى نفسه للعبد.

وبعبارة أخرى، إنّ العبد لا تحصل له المعرفة باللّه تعالى إلّا بتعريف اللّه نفسه له. وتعريف اللّه تعالى نفسه للعبد في المعرفة الفطريّة ليس بإرادة العبد، إنّما هو بإرادة اللّه تعالى وليس على العبد إلّا أن يضع نفسه في مهبّ رياح الرحمة الإلهيّة مع عزمه على قبول الهداية عند تعريف نفسه القدّوس له وذلك يحصل في المعرفة الفطريّة بصحو جميع المعلومات الصحيحة ومحو جميع الموهومات الباطلة، فحينئذٍ يعرّف اللّه تعالى نفسه للعبد.

ولا يخفى أنّ المعرفة الفطريّة تحصل للمؤمنين والكفّار حينما يقعون في الورطات و هي التي يعبر عنها في الآيات والأخبار بالبأساء والضرّاء قال اللّه تعالى (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)(2) ولا تغفل عن لطافة التعبير في قوله تعالى (دَعَوُا اللّه) فإنّهم حينما ينقطعون عمّن سواه تعالى يجدون ربّهم به تعالى وجداناً ورؤية متعالية عن المعلوميّة والمفهوميّة، ولذا يألهون ويتحيّرون فيه ويلتجأون إليه فإنّ لفظة «الله» مشتقّة من أله وأله يقتضي مألوهاً، وهذا هو السرّ في دعائهم ربّهم باسم «الله»، وما أحلى تعبير الإمام(ع) «بالفطرة تثبت حجّته»(3) فالفطرة خير شاهد على معرفة اللّه ومعرفة توحيده وكمالاته.

فكم فرق بين من يقف مصدّقا ومتحيّرا بين يدي الربّ لرؤيته ووجدانه كمالاته وعظمته به تعالى ووجدانه أنّ المخلوق الضعيف أعجز من أن يعرف الربّ العزيز إلّا

ص: 335


1- ميزان المطالب : 1/29.
2- العنكبوت : 65.
3- . التوحيد للصدوق: 1/34 ح2؛ بحارالأنوار : 4/228 ح3.

بتعريفه تعالى نفسه، وبين من يصدّقه ويتحيّر فيه بعد النظر في الآيات واستكشاف العقل بأنّه لا يمكن وجود مصنوع بلا صانع وحدوث حادث بلا محدث مع عدم مشاهدته وعدم رؤيته كمالاته وعظمته.

نعم لا يستطيع العبد أن يصف ربّه أو يتصوّره في كلتا المعرفتين لجلاله ومجده وعلوّه عن المعلوميّة والمفهوميّة، ولذا يتحيّر فيه حيث إنّه يرى أنّه لا يستطيع إنكار الربّ الصانع العالم القادر الحيّ لمعرفته به تعالى أو لمعرفته بالآيات الدالّة عليه. ومع ذلك لا يستطيع أن يتعقّله ويتصوّره ويتوهّمه.

ففي كلتى المعرفتين لا يصير الربّ تعالى مكشوفاً ومعلوماً لأنّ المكشوفيّة خلاف ذاته التي هي علم كلّه وقدرة كلّه وكمال كلّه. فلا يعقل مكشوفيّته بوجه من الوجوه، فما هو منفيّ في المعرفة العقليّة - من استحالة وقوع الربّ مكشوفاً معلوماً - منفيّ في المعرفة الفطريّة أيضاً، بل إنّما يجد العبد في المعرفة الفطريّة سبّوحيّة الربّ تعالى عن المكشوفيّة والمعروفيّة.

ويشهد للفرق بين المعرفة العقليّة والمعرفة الفطريّة أيضاً ما في بعض الأخبار من جعل المعرفة بالآيات في قبال المعرفة الفطريّة فلاحظ:

* قال أميرالمؤمنين(ع): بالعقول تعتقد معرفته، وبالفطرة تثبت حجّته .(1)

بتقريب أنّ العقول توجب عقد المعرفة في القلب والفطرة توجب ثبوت الحجّة لأنّها توجب الرؤية والمعاينة، فتكون الحجّة أتمّ وأكمل.

* وقال(ع) أيضاً: الحمد للّه المتجلّي لخلقه بخلقه، والظاهر لقلوبهم بحجّته .(2)

ص: 336


1- التوحيد للصدوق: 1/34 ح2؛ بحارالأنوار : 4/228 ح3.
2- نهج البلاغة: 155 الخطبة 108؛ بحارالأنوار : 34/239 ح999.

بتقريب أنّ تجلّيه للخلق بالخلق هو دلالة آياته عليه، وأمّا ظهوره لهم بالحجّة هو تعريفه نفسه لهم بحيث يمكنه الإحتجاج عليهم.

* وقال(ع): «هو الدالّ بالدليل عليه والمؤدّي بالمعرفة إليه» .(1)

بتقريب أنّ اللّه تعالى هو الذي وهب للإنسان العقل ليعرف الإنسان دلالة الآيات عليه، وهو الذي عرّف نفسه للعباد وأدّى بالمعرفة إليه.

لا يقال: إنّ العطف للتفسير.

لأنّه يقال: إنّ الأصل فيه التأسيس وتغاير المعطوف مع المعطوف إليه لا التفسير.

* وقال سيّدالشهداء أبي عبداللّه(ع): إلهي تردّدي في الآثار يوجب بعد المزار فاجمعني عليك بخدمة توصلني إليك .(2)

بتقريب أنّ الآثار هي الكائنات الدالّة على مكوّنها وخالقها، وهذه المعرفة وإن كانت معرفة ويتحقّق بها الإيمان فإنّ أدنى المعرفة هو إخراجه عن الجهتين المذمومتين أي: التعطيل والتشبيه وهذه المعرفة تحصل للعبد بعد النظر فى الآيات إلّا أنّ لزيارة الربّ تعالى ولقائه شأناً من الشأن لا يدانيه شيء، فطريق معرفة الربّ بالربّ ليس هو النظر في الآثار إنّما هو الطلب من الحيّ القيّوم الخالق الرحيم بأن يعرّف نفسه القدّوس للعبد. ولذا طلب سيّدالشهداء(ع) من اللّه تعالى تلك الخدمة التي توصله إلى لقائه ووصله، لقاءً ووصالاً متعالياً عن المعلوميّة والمفهوميّة. ولعلّ كان مراده(ع) من ذلك اللقاء هو اللقاء والوصال الذي عرضه في اللحظات الأخيرة من عمره الشريف حينما كان مشغولاً بمناجاة ربّه بين يدي أكثر من ثلاثين ألف عدوّ، ولذا قال(ع) مناجياً ربّه «صبراً على قضائك يا ربّ، لا إله سواك، يا غياث المستغيثين، ما لي ربّ سواك، ولا معبود غيرك، صبراً على حكمك، يا غياث من لاغياث له، يا دائماً لا نفاذ له، يا محيي الموتى، يا قائماً على كلّ نفس بما كسبت، احكم بيني وبينهم وأنت خير الحاكمين» .(3)

* وعن أميرالمؤمنين(ع): أنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور، فتصل إلى معدن العظمة .(4)

ص: 337


1- . الإحتجاج: 1/201؛ بحارالأنوار : 4/253 ح7.
2- إقبال الأعمال: 1/339؛ بحارالأنوار : 95/225 ح3.
3- . مقتل الحسين للسيّد المقرّم : 357.
4- إقبال الأعمال: 2/685؛ بحارالأنوار : 91/99 ح13.

بتقريب أنّ الإمام يطلب من الربّ تعالى أن ينوّر قلبه بالنظر إليه بأن يعرّفه نفسه كي يخرق حجب النور فيصل إلى معدن العظمة، فإنّ العلم والعقل وإن كانا آيتين للربّ تعالى ومَثَلين له كما في قوله(ع): «بالعلم يطاع اللّه ويعبد وبالعلم يعرف اللّه ويوحّد»(1) فإنّ معرفة الإنسان العلم بالعلم معرفة محاطيّة لا إحاطيّة، إلّا أنّ لمعرفة الربّ تعالى نفسه به شأناً من الشأن لا يدانيه فضل. وقد طلب الإمام(ع) لقاء الربّ ومعرفته به تعالى وبغضّ النظر عن آيتيّة نور العلم والعقل.

* وقال أميرالمؤمنين(ع) (في خطبة طويلة يذكر فيها آدم(ع)):فأهبطه إلى دار البليّة وتناسل الذريّة، واصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم، ل-مّا بدّل أكثر خلقه عهد اللّه إليهم فجهلوا حقّه، واتّخذوا الأنداد معه، واجتالتهم الشياطين عن معرفته، واقتطعتهم عن عبادته، فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكّروهم منسيّ نعمته، ويحتجّوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ويروهم آيات المقدرة من سقف فوقهم مرفوع، ومهاد تحتهم موضوع، ومعايش تحييهم، وآجال تفنيهم، وأوصاب تهرمهم، وأحداث تتتابع عليهم، ولم يخل اللّه سبحانه خلقه من نبيّ مرسل، أو كتاب منزل، أو حجّة لازمة، أو محجّة قائمة، رسل لا يقصّر بهم قلّة عددهم، ولا كثرة المكذّبين لهم، من سابق سمّي له من بعده، أو غابر عرّفه من قبله على ذلك، نسلت القرون، ومضت الدهور، وسلفت الآباء، وخلفت الأبناء، إلى أن بعث اللّه سبحانه محمّداً لإنجاز عدته وتمام نبوّته؛ الخطبة .(2)

بتقريب أنّ جعل إثارة دفائن العقول في قبال استيداء ميثاق الفطرة شاهد على تغايرهما، فيكون استيداء ميثاق الفطرة شاهداً على المعرفة الفطريّة كما أنّه يكون إثارة دفائن العقول دليلاً على تذكيرهم بالأحكام العقليّة.

وممّا يشهد على الفرق بين المعرفة الفطريّة والمعرفة العقليّة هو الجمع بين الآيات

ص: 338


1- الأمالي للصدوق: 615 ح1؛ بحارالأنوار : 1/166 ح7.
2- نهج البلاغة: 43 الخطبة 1؛ بحارالأنوار : 11/60 ح70.

والأخبار الدالّة على وجوب النظر في آياته لكي يعرف العبد خالقها وصانعها بنور العقل وبين الآيات والأخبار الدالّة على عدم امكان العباد أن يتعاطوا المعرفة وأنّها من صنع اللّه وبين الآيات والأخبار الدالّة على تعريف اللّه تعالى نفسه للعباد.

فإنّ الطائفة الأولى تدلّ على لزوم معرفة اللّه تعالى بالعقل التي مآلها إلى إخراجه عن الجهتين المذمومتين النفي والتشبيه، بينما الطائفة الثانية من الآيات والأخبار إنّما تدلّ على عدم إمكان معرفة الربّ تعالى فلا محالة يتوهّم التعارض البدويّ بينهما فتكون الطائفة الثالثة رافعة لهذا التوهّم بحمل الطائفة الأولى على وجوب النظر إلى الآيات حتى تحصل أدنى المعرفة باللّه تعالى بنور العقل، وحمل الطائفة الثانية على عدم إمكان معرفة اللّه تعالى ولقائه ووصاله بإرادة العبد بل لابدّ من معرفته تعالى به.

إذا عرفت ذلك، تعلم أنّه لا وجه لإرجاع المعرفة الفطريّة إلى المعرفة بالعقل كما عن بعض الأعاظم(1) لصراحة الآيات والأخبار على تباينهما ودلالة الوجدان عليه.

ولعلّه أنكر ذلك لأحد الأمور التالية:

أحدهما: - ولعلّه العمدة في وجه إنكاره - أنّ العرفاء والصوفيّة ادعوا لقاء الربّ ووصاله ورؤيته بالمكاشفات الباطلة والمشاهدات الكاذبة، والقول بالمعرفة الفطريّة يضاهي مقالة العرفاء ولكنّك خبير بوهن هذا التوهّم للبينونة التامّة بين المقالتين حيث إنّ العرفاء والصوفيّة يدّعون اندكاكهم بذات الربّ المتعال وكون الجميع حتى الشياطين والكفرة تجليّاً من تجلّيّات الربّ المتعال، وهذا بمعزل عن مقالتنا حيث إنّ العبد حينما يعرف ربّه بربّه يرى ويجد لنفسه تقوّمها باللّه تعالى ويراها فقيرة ومحتاجة إلى الغنيّ بالذات والقادر بالذات والحيّ بالذات، كما أنّه يراها مباينة للربّ المتعال، وشتّان ما بين ذين وذين.

ثانيهما: أنّه حينما ينظر العبد بنور عقله إلى الآيات، يرى صانعيّة اللّه تعالى لها،

ص: 339


1- . آية اللّه الشيخ جواد الخراساني1.

وقد تتجلّى المعرفة الفطريّة في ذلك الحين كما تتجلّى في حال البأساء والضرّاء.

ثالثهما: بعض الأخبار الدالّة على انحصار معرفة اللّه تعالى بالمعرفة العقليّة كقوله(ع): «الدالّ على وجوده بخلقه» وقوله(ع): «معروف بالآيات»(1) وقوله7: «ولا يعرف إلّا بخلقه»(2) لكنّ الظاهر أنّ المراد من هذه الأخبار هو انحصار الطريق الذي هو بوسع الإنسان، فالطريق الذي بوسع الإنسان أن يسلكه في باب معرفة اللّه تعالى هو النظر في آياته بنور العقل لا رؤية ذاته القدّوس بالرؤية القلبيّة، فلا تكون هذه الطائفة من الأخبار مسوقة لنفي المعرفة الفطريّة، فتدبّر جيّداً.

رابعهما: توهّم عدم وجود دليل صريح يدلّ على المعرفة فطريّة وتوهّم أنّ ما نقل من الآيات كقوله تعالى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ)(3) ومانقل من الأخبار كقوله(ع): «ثبتت المعرفة ونسوا الموقف»(4) غير صريح في المطلب لأنّ الآيات يمكن حملها على خصوص الفطرة التشريعيّة وأمّا الأخبار فغاية ما يمكن أن يقال فيها هو أنّها تدلّ على المعرفة الفطريّة إلّا أنّه يمكن اختصاصها بنشأة الذرّ.

نعم إنّ المستشكل قد اعترف بدلالة هذه الرواية بالخصوص على المعرفة الفطريّة إلّا أنّه لم يأخذ بظاهرها لادّعائه عدم وجدان الإنسان المعرفة الفطريّة، فإنّه يرى أنّ إيمانه باللّه تعالى مستند إلى المعرفة بالإستدلال لا إلى المعرفة الفطريّة.

ولكن لا يمكن المساعدة عليه بوجه لصراحة بعض الآيات في كون المسؤولين هم خصوص من ليس له أنس باللّه تعالى كالمشركين بالشرك الجليّ كقوله تعالى: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)(5) فإنّه من

ص: 340


1- التوحيد للصدوق: 1/79 ح35؛ بحارالأنوار : 4/297 ح24.
2- التوحيد للصدوق: 1/56 ح14؛ بحارالأنوار : 4/285 ح17.
3- لقمان : 25.
4- تفسير القمي: 1/248؛ بحارالأنوار : 5/237 ح14.
5- العنكبوت : 65.

الواضح أنّ المشركين ليسوا مأنوسين باللّه تعالى كي يلتجئوا إليه في الشدّة، وعليه فيكون التجاؤهم إليه في الشدائد لظهور المعرفة الفطريّة هنالك.

وأمّا الأخبار، فدعوى عدم دلالتها على المعرفة الفطريّة خالية عن الإنصاف كما نبيّنه إن شاء اللّه تعالى. فحمل مثل قوله(ع) في المعرفة «أنّها من صنع اللّه ليس للعباد فيها صنع»(1) على المعرفة بالعقل بمعزل عن التحقيق كما لا يخفى.

وأمّا ما أفاده في خبر الإمام الصادق(ع) «ثبتت المعرفة ونسوا الموقف» فغير سديد، لأنّنا - وإن كنّا نأخذ بالمعرفة العقليّة في كثير من المواقع - إلّا أنّا نرى أنفسنا عارفين بالربّ تعالى معرفة شديدة عند البأساء والضرّاء وفي بعض أحوال العبادات، فهل يُعقل توجّه المتحيّر المتورّط في المآزق إلى المعرفة الإستدلاليّة ودلالة الأثر على المؤثّر؟ ومع ذلك (أي ومع غفلته عن جميع الآثار والإستدلالات العقليّة) تراه يتوجّه إلى اللّه تعالى، ويفزع إليه، ويناجيه، وبخاطبه، ويأنس به، ويتضرّع إليه.

والحاصل: إنّ الفقيه المنصف إذا تتبّع الآيات والأخبار يجد دلالتها على المعرفة الفطريّة فإنكارها لا يليق بالعالم بعلوم أهل بيت العصمة:.

التنبيه الثاني: إنّ اللّه تعالى عرّف نفسه للعباد في عدّة مواقف في العوالم السابقة وأتمّ الحجّة عليهم وأراهم نفسه وخاطبهم وخاطبوه، ولولا تلك المعرفة لما عرف العباد ربّهم ورازقهم. وقد يجدّد عليهم التعريف في نشأة الدنيا ويتجلّى لهم في البأساء والضرّاء حينما تنقطع الأسباب كما أنّه يتجلّى لقلوب المؤمنين خاصّة في بعض أحوال العبادات والأدعية كما جاء به الأثر وهو المشهود لأهله.

التنبيه الثالث: الظاهر - كم-ا عن بعض الأعاظم(2) - أنّ اختلاف التعابير عن المعرفة الفطريّة الحاصلة للعباد بتعريف اللّه تعالى نفسه لهم هو باعتبار اختلاف

ص: 341


1- الخصال: 1/325 ح13؛ بحارالأنوار : 5/221 ح2.
2- شيخنا الأستاذ العالم الربّانيّ الميرزا جلال المرواريد حفظه اللّه تعالى.

حالات العباد الحاصلة لهم بسبب اختلاف درجات المعرفة، فلاحظ قوله(ع) «معاينة كان هذا»(1)وقوله7 «لم أكن لأعبد ربّاً لم أره»(2) وقوله7 «كشف سبحات الجلال من غير اشارة»(3) وقوله7 «جذب الأحديّة لصفة التوحيد»(4) وقوله7 «منك أطلب الوصول إليك»(5) وقوله7 «لقاؤك قرّة عيني ووصلك منى نفسي»(6) وقوله7 في معنى قد قامت الصلاة «حان وقت الزيارة والمناجاة»(7) وقوله7 «الهي اطلبني برحمتك حتى أصل إليك واجذبني بمنّك حتى أقبل عليك»(8) وقوله7 «وابتهل إليك بعواطف رحمتك ولطائف برّك أن تحقّق ظنّي... والتمتّع بالنظر إليك» وقوله7 «الهي فاجعلنا ممّن اصطيفته لقربك... وشوّقته إلى لقائك ومنحته بالنظر إليك... (9)وهيّمت قلبه لإرادتك»(10) وقوله7 «وعلّتي لا يبرّدها إلّا وصلك ولوعتي لا يطفيها إلّا لقائك وشوقي لا يبلّه إلّا النظر إلى وجهك» .(11)

فتارة يعبّر بالوصول، وتارة يعبّر بالمعاينة، وثالثة بالرؤية، ورابعة بكشف سبحات الجلال، وخامسة بجذب الأحديّة، وسادسة باللقاء، وسابعة بالنظر إليه، وثامنة بالزيارة، وتاسعة بالمشاهدة. وقد مرّ شطر من الأخبار الشاملة لهذه التعابير.

التنبيه الرابع: إذا عرفت ما ذكرناه تعرف وجه التعبير بانحصار طريق المعرفة

ص: 342


1- تفسير القمي: 1/248؛ بحارالأنوار : 5/237 ح14.
2- الأمالي للصدوق: 341 ح1؛ بحارالأنوار : 4/27 ح2.
3- ميزان المطالب : 1/29.
4- ميزان المطالب : 1/29.
5- إقبال الأعمال: 1/339؛ بحارالأنوار : 95/226.
6- بحارالأنوار : 91/147 المناجاة الثامنة.
7- التوحيد للصدوق: 1/238 ح1؛ بحارالأنوار : 81/131 ح24.
8- إقبال الأعمال: 1/350؛ بحارالأنوار : 95/227.
9- بحارالأنوار : 91/145 المناجاة الخامسة.
10- زاد المعاد: 412؛ بحارالأنوار : 91/148 المناجاة التاسعة.
11- بحارالأنوار : 91/150 المناجاة الحادية عشر.

باللّه في تعريفه تعالى نفسه لأنّ المراد هو انحصار طريق معرفته شهوداً به فلا تنافي بين هذه المقولة وبين المعرفة العقليّة، فإنّ المعرفة العقليّة ليست معرفة شهوديّة وليست لقاءً ووصالاً، ويشهد على ذلك أنّ المعرفة الفطريّة توجب المحبّة للّه تعالى والانقياد لأوامره والإنزجار عن نواهيه أكثر وأشدّ ممّا يحصل بالمعرفة العقليّة.

نعم، حصول المعرفة العقليّة يتوقّف على تفضلّة وتطوّله بإفاضة نور العقل، ويتوقّف على توفيقه العبد حتى ينظر إلى الآيات بعين الاعتبار كي تحصل له المعرفة، ولكن مع ذلك لا تكون المعرفة العقليّة معرفة للربّ بالربّ بالمعنى الذي ذكرناه.

والحاصل أنّ انحصار طريق معرفته تعالى في تعريفه نفسه إمّا هو لأجل أنّ المراد من المعرفة هي المعرفة الشهوديّة (التي تورث المحبّة للّه والإنقياد لإوامره والإنزجار عند نواهيه وتورث القرب إليه بحيث يجد العبد أنّه تعالى أقرب إليه من حبل الوريد فيلجأ إليه ويناجيه ويستعين به) وهي المعرفة الفطريّة لا المعرفة العقليّة لأنّها لا توجب إلّا أدنى المعرفة (الخروج عن الحدّين) فيحكم العاقل بما له من نور العقل بضرورة التصديق به تعالى.

وإمّا هو لأجل أنّ المعرفة الفطريّة لا تحصل إلّا بتعريف اللّه نفسه والمعرفة العقليّة لا تحصل إلّا بإفاضته تعالى نور العقل على العبد وتوفيقه له.

التنبيه الخامس: لا يبعد أن يقال إنّ الفرق بين تجلّى المعرفة في البأساء والضرّاء وتجلّيها في بعض أحوال الدعاء والمناجاة وتلاوة القرآن هو أنّ اللّه تعالى يعرّف نفسه القدّوس للعبد - بحسب الغالب - في البأساء والضرّاء بالقدرة والإحاطة والجبروت، ولكنّه تعالى يعرّف نفسه - بحسب الغالب - في التجلّى الخاص للمؤمنين بالرأفة والرحمة والعطف والرفقة والكرامة وإن كان جميع هذه الصفات كمالات للربّ تعالى، فتأمّل جيّداً.

التنبيه السادس: معرفة اللّه باللّه وإن كانت فعلٌ حكيم من أفعاله تعالى إلّا أنّه

ص: 343

دلّنا إلى ما يستوجب ذلك وإليك بعض ما يدلّ على هذا المعنى.

قال اللّه تعالى: (فَاذْكُرُوني أَذْكُرْكُمْ) .(1)

* وفي عدة الداعي عن بعض الأحاديث القدسيّة: أيما عبد اطلعت على قلبه فرأيت الغالب عليه التمسك بذكري توليت سياسته و كنت جليسه و محادثه و أنيسه . (2)

* وروى الصدوق عن عياش بن يزيد عن موسى بن جعفر عن آبائه عن أميرالمؤمنين(ع): ومعنى «قد قامت الصلاة» في الإقامة أي حان وقت الزيارة والمناجاة وقضاء الحوائج ودرك المنى، والوصول إلى اللّه عزّوجلّ، وإلى كرامته وغفرانه وعفوه ورضوانه .(3)

* وروى الديلمي عن أميرالمؤمنين(ع) قال: قال النبيّ(ص): يا ربّ ما ميراث الجوع؟ قال: الحكمة، وحفظ القلب، والتقرب إليّ، والحزن الدائم، وخفة المؤنة بين الناس، وقول الحق، ولا يبالي عاش بيسر أم بعسر.... الصوم يورث الحكمة، والحكمة تورث المعرفة، والمعرفة تورث اليقين....

يا أحمد، إنّ العبد إذا جاع بطنه وحفظ لسانه علمته الحكمة، وإن كان كافراً تكون حكمته حجة عليه ووبالاً، وإن كان مؤمناً تكون حكمته له نوراً وبرهاناً وشفاء ورحمة؛ فيعلم ما لم يكن يعلم ويبصر ما لم يكن يبصر، فأوّل ما أبصره عيوب نفسه حتى يشغل بها عن عيوب غيره، وأبصره دقائق العلم حتى لا يدخل عليه الشيطان .(4)

* وروى أيضاً عن أميرال-مؤمنين(ع) - في حديث المعراج -: قال اللّه تعالى: ...أمّا الحياة الباقية، فهي التي يعمل لنفسه حتى تهون عليه الدنيا، وتصغر في عينيه، وتعظم الآخرة عنده... فإذا فعل ذلك أسكنت في قلبه حبّاً حتى أجعل قلبه لي، وفراغه واشتغاله

ص: 344


1- البقرة: 152.
2- عدة الداعي: 235، بحارالأنوار: 90/162 ح42؛ العقائد: 3/250.
3- التوحيد للصدوق: 241؛ بحارالأنوار: 81/131 ح24.
4- إرشاد القلوب: 1/205؛ موسوعة العقائد الإسلامية: 3/251 ح3651.

وهمّه وحديثه من النعمة التي أنعمت بها على أهل محبّتي من خلقي، وأفتح عين قلبه وسمعه حتى يسمع بقلبه، وينظر بقلبه إلى جلالي وعظمتي .(1)

* وفي حلية الأولياء عن إبراهيم بن أدهم: إنّ اللّه تعالى أوحى إلى يحيى بن زكريا8: إنّي قضيت على نفسي ألّا يحبّني عبد من عبادي أعلم ذلك منه إلّا كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي يتكلّم به، وقلبه الذي يفهم به، فإذا كان ذلك كذلك بغضت إليه الاشتغال بغيري، وأدمت فكرته، وأسهرت ليله، وأظمأت نهاره.

يا يحيى، أنا جليس قلبه وغاية أمنيته وأمله، أهب له كلّ يوم وساعة؛ فيتقرّب منّي وأتقرّب منه، أسمع كلامه وأجيب تضرّعه، فوعزّتي وجلالي لأبعثنه مبعثاً يغبطه به النبيّون والمرسلون، ثمّ آمر منادياً ينادي: هذا فلان بن فلان، وليّ اللّه وصفيّه، وخيرته من خلقه، دعاه إلى زيارته ليشفي صدره من النظر إلى وجهه الكريم .(2)

* وروى العلّامة المجلسي عن إختيار ابن الباقي عن رسول الله(ص) في الدعاء: إلهي من ذا الذي انقطع إليك فلم تصله؟! (3)

* وروى أيضاً عن الكتاب العتيق الغروي عن أميرالمؤمنين(ع) - من مناجاته في شهر شعبان -: إلهي هب لي كمال الإنقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور، فتصل إلى معدن العظمة، وتصير أرواحنا معلقة بعزّ قدسك .(4)

* وعنه(ع): الوصلة باللّه في الانقطاع عن الناس .(5)

ص: 345


1- إرشاد القلوب: 1/204؛ موسوعة العقائد الإسلامية: 3/252 ح3653.
2- حلية الأولياء: 10/82؛ موسوعة العقائد الإسلامية: 3/253 ح3658.
3- بحارالأنوار: 90/342 ح54 نقلاً عن اختيار ابن الباقي؛ موسوعة العقائد الإسلامية: 3/255 ح3660.
4- إقبال الأعمال: 2/687؛ موسوعة العقائد الإسلامية: 3/255 ح3662.
5- غرر الحكم: 93 ح1777؛ موسوعة العقائد الإسلامية: 3/256 ح3663.

* وعنه(ع): لن تتّصل بالخالق حتى تنقطع عن الخلق .(1)

* روى المحاسن عن بكر بن صالح عن الإمام أبي الحسن الرضا(ع): من سرّه أن ينظر إلى اللّه بغير حجاب، وينظر اللّه إليه بغير حجاب فليتولّ آل محمّد، وليتبرأ من عدوّهم، وليأتم بإمام المؤمنين منهم؛ فإنه إذا كان يوم القيامة نظر اللّه إليه بغير حجاب، ونظر إلى اللّه بغير حجاب .(2)

* وروى العلّامة المجلسي عن الكتاب العتيق الغروي عن أميرالمؤمنين(ع) - من دعاء علّمه نوفا البكالي -: أسألك باسمك الذي ظهرت به لخاصة أوليائك، فوحّدوك وعرفوك فعبدوك بحقيقتك، أن تعرفني نفسك لأقرّ لك بربوبيّتك على حقيقة الإيمان بك، ولا تجعلني يا إلهي ممّن يعبد الاسم دون المعنى، والحظني بلحظة من لحظاتك تنوّر بها قلبي بمعرفتك خاصة ومعرفة أوليائك، إنّك على كلّ شيء قدير .(3)

* وروى السيّد ابن طاووس عن الإمام الحسين(ع) - من دعائه يوم عرفة -: إلهي تردّدي في الآثار يوجب بعد المزار، فاجمعني عليك بخدمة توصلني إليك، كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك! متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك!... وبك أستدلّ عليك، فاهدني بنورك إليك .(4)

* وروى العلّامة المجلسي عن الكتاب العتيق الغروي عن الإمام زين العابدين(ع): اللّهمّ صلّ على محمد وآل محمّد، واجعلنا من الذين فتقت لهم رتق عظيم غواشي جفون حدق عيون القلوب، حتى نظروا إلى تدبير حكمتك، وشواهد حجج بيّناتك، فعرفوك بمحصول فطن القلوب، وأنت في غوامض سترات حجب القلوب. فسبحانك أي عين تقوم بها

ص: 346


1- غرر الحكم: 553 ح27؛ موسوعة العقائد الإسلامية: 3/256 ح3664.
2- المحاسن: 1/60 ح101؛ موسوعة العقائد الإسلامية: 3/258 ح3672.
3- بحارالأنوار:91/96ح12 نقلاً عن الكتاب العتيق الغروي؛ موسوعة العقائد الإسلامية:3/259 ح3675.
4- . إقبال الأعمال: 1/349؛ موسوعة العقائد الإسلامية: 3/259 ح3676.

نصب نورك، أم ترقأ إلى نور ضياء قدسك، أو أي فهم يفهم ما دون ذلك إلّا الأبصار التي كشفت عنها حجب العمية، فرقت أرواحهم على أجنحة الملائكة، فسمّاهم أهل الملكوت زواراً، وأسماهم أهل الجبروت عماراً، فترددوا في مصاف المسبحين، وتعلقوا بحجاب القدرة، وناجوا ربّهم عند كلّ شهوة، فحرقت قلوبهم حجب النور، حتى نظروا بعين القلوب إلى عزّ الجلال في عظم الملكوت، فرجعت القلوب إلى الصدور على النيات بمعرفة توحيدك، فلا إله إلّا أنت، وحدك لا شريك لك، تعاليت عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً .(1)

* وقال الإمام الصادق(ع) - من دعاء علّمه زرارة -: اللّهمّ عرّفني نفسك؛ فإنّك إن لم تعرّفني نفسك لم أعرف نبيّك، اللّهمّ عرّفني رسولك؛ فإنّك إن لم تعرّفني رسولك لم أعرف حجّتك، اللّهمّ عرّفني حجّتك؛ فإنّك إن لم تعرّفني حجّتك ضللت عن ديني .(2)

ص: 347


1- بحارالأنوار: 91/128 ح19؛ موسوعة العقائد الإسلامية: 3/260 ح3678.
2- الكافي: 1/337 ح5؛ موسوعة العقائد الإسلامية: 3/261 ح3683.

الفصل الرابع: تتمّة في بيان الاشكالات على المعرفة الفطريّة والردود عليها

ص: 348

قد استشكل بعض الأعاظم من المتأخّرين رضوان اللّه تعالى عليه على القول بالمعرفة الفطريّة في قبال المعرفة العقليّة بأمور؛ قسم منها يرجع إلى مقام الثبوت، والآخر يرجع إلى مقام الإثبات.

أمّا القسم الأوّل فحاصل إشكالاته أربعة:

الاشكال الأوّل: ما أشار إليه بقوله:

ثمّ الثب-وت لا ي--زيد للمق--رّ شيئاً ولا يفيد إلزام المصرّ

فليس للبحث محصّل بلى من ابتلى يجد لها محصّلا

ثمّ الثبوت للفطرة وتسلُّمها، لا تثمر ثمرة مُهمّة، لأنّ ثبوتها النفس الأمري لا يزيد للمقرّ للصانع شيئاً ف-ي إيمانه واعتقاده، ولا يفيد إلزام المصرّ على الإنكار.

أمّا الأوّل، فلأنّ المؤمن المقرّ، موقن بالصانع، فهذا العلم بالثبوت؛ أي الاعتقاد بثبوت الفطرة وأنّ التوحيد فطريّ للبشر، لا يؤثر فيه شيئاً؛ بل هو مقرٌّ، مذعنٌ، معترفٌ بربّه، ثبتت فطرةٌ للبشر أم لم تثبت، خصوصاً أنّه إذا راجع وجدانه لا يرى ف-ي نفسه أثراً من الفطرة، ولا أنّ إقراره وإيمانه الموجود من أثر الفطرة.

وأمّا الثاني، فلأنّ المنكر -- ف-ي حال إنكاره -- غافل عن الفطرة بزعم

ص: 349

مدّعيها، وهي مذهول عنها من قلبه؛ فكيف يمكن إلزامه بأنّ التوحيد فطريّ لك وأنت الآن لا تشعر به؟

وعلى هذا، فليس للبحث عن ثبوت الفطرة محصّل، بلى من ابتلى وصار مضطرّاً يجد لها (أي للفطرة) محصّلاً، إن كانت هي ثابتة واقعاً؛ كما يدّعون. ففائدتها مخصوصة بالمضطرّين عند أنفسهم، ومثل هذه الفائدة ليست ممّا يهتمّ بها؛ فالأولى، الإضراب عنها .(1)

توضيح كلامه1: أنّه لا فائدة في القول بالمعرفة الفطرية لأنّ كلّ إنسان إمّا مؤمن مقرّ باللّه تعالى، وإمّا كافر منكر له تعالى.

أمّا المؤمن فقد حصل له الإيمان بنور العقل بعد النظر إلى الآيات. فالإعتقاد بالفطرة وأنّ التوحيد فطريّ لا يؤثّر في إقراره باللّه تعالى لأنّه مؤمن، سواء كان التوحيد فطريّاً أم لم يكن، مضافاً إلى أنّ المؤمن إذا راجع وجدانه، لا يرى في نفسه أثراً من الفطرة، ولا أنّ إقراره وإيمانه الموجود من آثارها.

وأمّا المنكر الكافر فهو - في حال إنكاره - غافل عن الفطرة على فرض ثبوتها، فكيف يمكن إلزامه بأنّك مفطور على التوحيد ولكنّك لا تشعر به؟

وعلى هذا، فلا يمكن الإحتجاج بها على المنكر كما أنّ المؤمن لا تنفعه الفطرة لأنّه مقرّ مذعن باللّه تعالى على كلّ حال.

ثمّ فرّع على ما أفاده بأنّه على ما ذكرنا لا محصّل ولا فائدة في كون التوحيد فطريّاً و لا أثر لمفطوريّة الناس على التوحيد إلّا بالنسبة إلى المضطرّين منهم على فرض كونه فطريّاً، ومثل هذه الفائدة لا يهتمّ بها عند العقلاء، فالأولى الإضراب عنها.

ويرد عليه أوّلاً: إنّ النّاس ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: الضالّ، الكافر والمؤمن، وهذا التقسيم ممّا صُرّح به في الأخبار.

* روى العيّاشي عن يعقوب بن شعيب قال: سألت أباعبدالله(ع) عن قول الله: (كانَ

ص: 350


1- هداية الأمّة إلى معارف الأئمّة : 32.

النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) ؟(1)

قال: كان هذا قبل نوح أمّة واحدة فبدا لله، فأرسل الرسل قبل نوح.

قلت: أعلى هدى كانوا أم على ضلالة؟

قال: بل كانوا ضلالاً، كانوا لا مؤمنين ولا كافرين ولا مشركين .(2)

وفي بيان فائدة المعرفة الفطريّة بالنسبة إلى الأقسام الثلاثة نقول:

أمّا بالنسبة إلى الضالّ ففائدتها أنّه يمكن تذكيره باللّه بتذكيره بما يجد في حالة البأساء والضرّاء كما يشير إلى ذلك الإمام الصادق(ع) في جوابه لقول السائل عن المعبود (3)وقد مضى الخبر فراجع.

وأمّا بالنسبة إلى المؤمن ففائدتها أنّها ممّا تثبّت المؤمن على الحجّة ويهوّن عليه مصائب الدنيا والمحَن، وقد أقرّ المستشكل نفسه بأهميّة مثل هذه الفائدة في كتابه الموسوم ب-«مهدي منتظر» عند الجواب على أدلّة المنكرين للحجّة عجّل اللّه فرجه الشريف (4)، فقال ما حاصله أنّ هناك دليلاً على وجود الحجّة بن الحسن(ع) ينتفع به المؤمنون وهو أنّهم يرون النتيجة عند توسّلهم به(ع) ويرون إجابته لهم، فهذا الدليل - وإن كان لا يفيد في الإثبات - إلّا أنّه يثبّت المؤمن على الإيمان دون شكّ.

مضافاً إلى أنّ المعرفة الفطريّة توجب قوّة الإيمان بالنسبة إلى المؤمنين، فإنّه من الواضح أنّ كلّا من المعرفة الفطريّة والمعرفة العقليّة ممّا يوجب حصول الإيمان فاجتماعهما يوجب قوّته.

ص: 351


1- البقرة: 213.
2- تفسير العياشي: 1/104 ح306؛ البرهان في تفسير القرآن: 1/405 [1106]4.
3- بحارالأنوار: 89/232 ح14.
4- مهدي منتظر: 36 وإليك نصّ كلامه: اين دليل اختصاص دارد به معتقدين وي يعني تنها براي معتقدين اين امر ظاهر است و آن عبارت است از آثار وجوديه حضرت كه براي پيروانش و منتظرينش ظاهر است از مشاهده او و توسّلات به او و دادرسي هاي او... و اين آثار وجوديه دالّ است بر وجود او.

وأمّا ما ذكره من أنّ المؤمن لا يرى في نفسه أثراً من الفطرة ولا يرى أنّ إقراره وإيمانه من أثر الفطرة، فبطلانه ممّا لا يحتاج إلى البيان حيث إنّ أثر الفطرة هي الإيمان سواء التفت المؤمن إلى أنّ منشأ إيمانه الفطرة أم لم يلتفت، ومن الواضح أنّ الإيمان لا يتوقّف على الإلتفات إلى منشأه، مضافاً إلى أنّ عدم رؤية المؤمن وعدم التفاته إلى الفطرة لا يدلّ على عدم الفطرة هذا أوّلا.

ثانيا: إنّ هذا الإشكال مطّرد الورود فإنّه يرد أيضاً على الإستدلال بالعقل، فإنّه لوحصل الإيمان لأحد بعد نظره إلى الآيات وبعد استكشاف عقله بأنّ الأثر يحتاج إلى المؤثّر مع الإلتفات إلى وساطة العقل في ذلك، فهل يوجب ذلك إنكار المعرفة العقليّة؟ وهل يصحّ الإستدلال على إنكارها بعد الرؤية؟ وهل يصحّ الحكم بعدم إيمانه لأجل أنّه لا يرى للعقل أثراً؟

وأمّا بالنسبة إلى الكافر ففائدتها أنّه بعد ظهور الفطرة في البأساء والضرّاء، تتمّ الحجّة من اللّه تعالى عليهم فيحتجّ بها عليهم يوم القيامة ولا يمكنهم إنكارها هناك كما روي «بالفطرة تثبت حجّته» .(1)

هذا كلّه بناء على كون الحاصل بالمعرفة الفطريّة هو الحاصل بالمعرفة العقليّة. وقد مرّ بيان الفرق بينهما مفصّلاً وأنّ الحاصل بالفطرة هو وجدان السبوحيّة والقدّوسيّة لا الإيمان بهما غيباً، فراجع.

وثالثا: إنّ القرآن وصف نفسه بكونه مذكّراً وأنّه نزل من قبل اللّه تعالى لتذكير العباد، وكذا وصف رسول الله(ص) بكونه ذكراً ومذكّراً وأنّ اللّه تعالى أرسله لتذكير العباد، وغير خفيّ أنّه لا معنى لكونهما «ذكراً» و«مذكّراً» إلّا بعد مفطوريّة الناس على ما يذكّران العباد به.

وأمّا ما ذكره في التفريع من أنّ المعرفة الفطريّة - على فرض ثبوتها - لا تنفع إلّا

ص: 352


1- التوحيد للصدوق: 1/34 ح2؛ بحارالأنوار : 4/228 ح3.

المضطرّين وهي فائدة لا يعتدّ بها عند العقلاء، فيرد عليه:

أوّلاً: إنّ تجلّي المعرفة الفطريّة لا ينحصر بالبأساء والضرّاء بل يمكن ظهورها عند الدعاء وقراءة القرآن وفي مناسك الحجّ وفي الصلاة كما ورد به الأثر وقد مرّ بعض ما يدلّ علي ذلك.

ثانياً: إنّ المعرفة الفطريّة تتجلّى لجميع الناس ضالّهم ومؤمنهم وكافرهم كي تتمّ الحجّة من اللّه تعالى عليهم.

وثالثاً: لو سلّمنا أنّ المعرفة الفطريّة لا تتجلّى إلّا لشخص واحد من الناس وبظهورها له تتمّ الحجّة عليه أو تصير سبباً لإيمانه، فليست هذه الفائدة فائدةً ضئيلة لا يعتدّ بها العقلاء، لأنّ إتمام الحجّة ولو على واحد وكذا الإيمان ولو من قِبل شخص واحد أمر عظيم. ويشهد على ما ذكرنا أنّ اللّه تعالى جعل هداية كلّ واحد إلى الحقّ بمنزلة هداية جميع الناس من جهة الفضل والأهمّية، فقال عزّ من قائل: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعا) .(1)

الاشكال الثاني: إنّ الاعتقاد بالفطرة يوجب الطعن من قبل المنكرين بأنّ المؤمنين يعتمدون على مثل هذه الأدلّة الواهية في إثبات الصانع فقال ما نصّه:

إلّا أنّ الفطرة صارت اليوم من المسائل المهمّة، يهتمّون بها أكثر الاهتمام، ويعتمدون عليها أكثر من الاعتماد على الأدلّة والبراهين. ولذلك، يكون مظنّة أن يصير الاعتقاد بالصانع موهوناً عند المنكرين المعطّلين؛ فيطعنون على الموحّدين زعما بأنّ اعتمادهم ف-ي الدليل، على مثل هذا الطريق السقيم العليل، وأنّه ليس لهم إلّا الدعاوى على الأنفس والقلوب وشهادة الزور والقول بغير العلم على السرائر. فلابدّ من التنبيه على بطلان هذه الدعوى لئلاّ يغترّ بها الآخرون .(2)

ص: 353


1- المائدة : 32.
2- هداية الأُمّة إلى معارف الأمّة : 32.

ويرد عليه أوّلاً: إنّ المقرّين بالفطرة لا ينفون دليل العقل، فليكن دليل العقل للإثبات ودليل الفطرة لتثبيت المؤمنين على إيمانهم.

وثانياً: قد مرّ أنّه يمكن تصوير الإثبات للفطرة - كما يشير إليه خبر الإمام الصادق(ع)-، فتذكير المنكر المنصف بحالات البأساء والضرّاء التي قد تجلّى له اللّه تعالى فيها ليس بأقلّ شأناً من إقامة البراهين العقليّة، ولذا ورد في الخبر بأنّه «بالفطرة تثبت حجّته» .(1)

وثالثاً: إنّ الطعن من المبطلين على المحقّين لو كان دليلاً على بطلان ما ذهب إليه المحقّون فلا يبقى حقّ يقرّ به من كان طالباً للحقّ، كما طعن المشركون على رسول اللّه بأنّه مجنون لمقالته بالمعاد الجسمانيّ والروحانيّ، فهل يوجب طعنهم إنكار المعاد؟!

الاشكال الثالث: إنّ المثبتين للفطرة قد استدلوا على ثبوتها بالآيات والأخبار ويرد على هذا الإستدلال أمران:

الأوّل: عدم تماميّة دلالة الآيات والأخبار على ثبوت الفطرة.

الثاني: إنّه على فرض تماميّة دلالتهما على ثبوتها، فيرد على القائل بالمعرفة الفطريّة أنّه هل تكون الفطرة تأييدا لحقّانيّة الصانع أو دليلاً على ثبوته؟

أمّا كون الفطرة مؤيّدة لإثبات الصانع ففيه أنّ التأييد - في ما كان المطلوب - أمر ثابت وجدانيّ أو مثبت بالبرهان فيكون الشاهد على ذلك المطلوب من الآيات والروايات وغيرها مؤيّداً له. وقد عرفت أنّ المطلوب في ما نحن فيه - وهي الفطرة - ليست من الوجدانيّات (فإنّه قد مرّ في الإشكال السابق أنّ المؤمن إذا راجع وجدانه لا يرى في نفسه أثراً من الفطرة ولا أنّ إقراره وإيمانه الموجود من أثر الفطرة) وليست من الأمورالثابتة بالبرهان العقليّ، فيكون ذكر الفطرة في باب إثبات الصانع من قبيل الدعوى على الدعوى، فإنّ إثبات الصانع هو محلّ الكلام والفطرة أيضاً تكون محلّ

ص: 354


1- التوحيد للصدوق: 1/34 ح2؛ بحارالأنوار : 4/228 ح3.

الكلام والبحث.

مضافاً إلى أنّ تأييد إثبات الصانع بالفطرة الثابتة بالتعبّد ل-مّا كان أصل المتعبّد به (أي الآيات والأخبار) في محلّ الإنكار، يكون كالاستدلال بالفطرة.

وأمّا الاستدلال بالفطرة على إثبات الصانع مع أنّ الدليل عليها هي الآيات والأخبار (كما هو المفروض) فغير سديد اذ الآيات والأخبار (على فرض تماميّة دلالتهما) يثبتان الفطرة تعبّداً ومثل هذا لا يكون دليلاً على إثبات الصانع.

والحاصل: إنّ دليل الفطرة لا ينفع في الاستدلال على الباري تعالى، لأنّه على فرض ثبوته فإنّه من التعبديّات ولا ينفع الدليل التعبّدي في إثبات الصانع بل لا ينفع في مقام التأييد أيضاً لأنّه سيكون من قبيل الدعوى على الدعوى، وإليك نصّ عبارته:

فاعلم، إنّ ال-مُثبتين للفطرة استشهدوا لثبوتها بالآيات والأخبار، وهذا من قصور فهم أو قلّة تأمّل. فإنّه مع الغضّ عن عدم تماميّة دلالتها على ما أرادوا، وفرضها دالّةٌ على ما استفادوا، فإن أرادوا بها التأييد، فغير مفيد؛ وإن أرادوا بها الاستدلال، فغير سديد. أمّا التأييد، فإنّك خبير بأنّه ف-ي ما كان المطلوب المؤيّد له ف-ي نفسه، أمراً، ثابتاً، وجدانيّاً أو مُثبتاً، برهانيّاً؛ ففي مثله إذا وردت آية أو رواية، كانت مُؤيّدة له، لثبوته ف-ي نفسه بدونها؛ وقد عرفت أنّ الفطرة ليست إلّا دعوىً على دعوى، ولم يتمّ لها ثبوت ف-ي نفسها ولم تقع مبرهناً عليها؛ مع أنّ التأييد بالأمر التعبّدي ل-مّا كان أصل المتعبّد به ف-ي محلّ الإنكار، ليس إلّا كالاستدلال. وأمّا الاستدلال، فهو بعكس التأييد؛ إنّما يصحّ ف-ي ما كان الاستشهاد بالآية أو الرواية بنظر الاستقلال، لتكون دليلاً مُثبتاً للمطلوب، ولا يكون ذلك إلّا إذا لم يكن المطلوب ثابتاً ف-ي نفسه. وحينئذٍ فالذي يثبت بهما إنّما هو ثبوت تعبّدي، وهو لا يفيد ف-ي مقام الدليل على إثبات الصانع بحيث يجعل من أدلّته الفطرة التي ثبتت بالتعبّد، هذا .(1)

ص: 355


1- هداية الأُمّة إلى معارف الأئمّة : 32 - 33.

ويرد عليه أوّلاً: أنّ ما ذكره من أنّ الفطرة ليست من الوجدانيّات لعدم وجدان المؤمن لها فقد مرّ الجواب عنه في نقد الإشكال الأوّل المذكور في كلامه.

وثانياً: إنّه يمكن أن يقال تنزيلا (بناء على مسلك المستشكل من أنّ الدليل على إثبات الصانع هو الدليل العقليّ) أنّ الدليل على إثبات الصانع هو البرهان العقليّ، والفطرة تكون تأييداً والآيات والأخبار تدلّان على الفطرة، وإنّما يصحّ تأييد إثبات الصانع بالفطرة لأنّ المطلوب (إثبات الصانع) أمر ثابت بالبرهان، وقد ذكر المستشكل أنّ التأييد يصحّ في ما إذا كان المطلوب أمراً وجدانيّاً أو أمراً مثبتاً بالبرهان.

وثالثاً: إنّ الصانع لا يمكن أن يشكّ به لأنّه ليس مجهولاً كي يحتاج إلى الدليل المثبت له، فإنّه تعالى معروف بنفسه وغيره معروف به وهو الدالّ على ذاته بذاته. قال اللّه تعالى (أَفِي اللّه شَكٌّ فَاطِرِ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ)(1) ، والمراد من الفطرة - كما ظهر لك ممّا سبق - هي معرفة الإنسان ربّه به معرفة متعالية عن المعروفيّة والمفهوميّة، وعلى هذا تكون حجيّتها ذاتيّة كالعلم، ولذا ورد في الخبر «بالفطرة تثبت حجّته»(2) فجميع العباد عارفون باللّه تعالى معرفة متعالية عن المعلوميّة وعارفون به معرفة بسيطة لا معرفة لهم بمعرفتهم بل هم في غفلة عن معرفتهم باللّه تعالى، ولذا يحتاجون إلى التذكرة والمذكّر، فبعث اللّه تعالى إليهم أنبياءه وواتر إليهم رسله ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكّروهم منسيّ نعمته، وعلى هذا لا يكون الربّ المتعال مجهولاً كي نحتاج إلى إقامة البراهين على إثباته لوضوح ظهور اللّه تعالى بنفسه للعباد كما ورد في دعاء عرفة لسيّدالشهداء(ع) «متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك، ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي تدلّ عليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك... عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك له نصيباً» .(3)

ص: 356


1- ابراهيم : 10.
2- التوحيد للصدوق: 1/34 ح2؛ بحارالأنوار : 4/228 ح3.
3- إقبال الأعمال: 1/339؛ بحارالأنوار : 95/226 ح3.

ولكن بما أنّ العباد - لكثرة شهواتهم وغفلتهم - محجوبون عن معرفته ولقائه، لابدّ من تذكير الأنبياء: لإيقاظ الفطرة كما أنّه لابدّ من تذكيرهم لإثارة العقول الدفينة. ففي خبر مولى الموحّدين(ع) «وواتر عليهم أنبيائه ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكّروهم منسيّ نعمته وليثيروا لهم دفائن العقول»(1) فليس دليل الفطرة من التعبديّات المحضة كالتعبّد بعدد ركعات الصلاة، إنّما هو من الوجدانيّات التي يجدها العباد بعد تذكير الأنبياء والأئمة:.

وواضح أنّ الوجدان من أدلّ الأدلّة لأنّه رؤية الحق وعيانه والتعبّد يكون في ما لا يكون رؤية للمطلب, فالوجدان بنفسه دليل على نفسه، وبنفسه حجّة على ذاته.

والحاصل: إنّ من يقول بالفطرة (بالمعنى الذي قرّرناه) لا يقول بكون اللّه تعالى مجهولاً كي يحتاج إلى إقامة البراهين عليه، وعلى هذا لا يكون الاستدلال بالفطرة استدلالاً تعبديّاً على شيء مجهول، ولذا قلنا بأنّ الفطرة من أدلّ الأدلّة على اللّه تعالى لأنّها دليل نفسيّ وليست من قبيل الدعوى على الدعوى، فلا يكون ثبوت الصانع تعالى ولا الفطرة من الادّعائيّات.

الاشكال الرابع: إنّ القول بالمعرفة الفطريّة - على فرض ثبوتها ودلالة الآيات والأخبار عليها - هو قول بحسب الخلقة الأوليّة والطينة الصرفة والآيات والأخبار حاكية عن حصول تلك المعرفة في عالم الذرّ نظير الحكاية عن سبق خلق الأرواح على الأجساد وهو من التعبديّات، فلا يمكن الإنتفاع به في إثبات الصانع. وإليك نصّ عبارته:

ولكنّ التحقيق بعد عدم تماميّة دعوى الفطرة ف-ي نفسها، أنّه لو تمّت دلالة الآيات والروايات على ثبوتها (مع أنّها مغفولة، مذهولة، لا يجدها المقرّ ف-ي وجدانه ولا المنكر ف-ي جنانه) لكان مفادها الحكاية عن الجعل بحسب الخلقة الأوّليّة والطينة الصرفة؛ نظير الحكاية عن أنّ الأرواح خلقت قبل

ص: 357


1- نهج البلاغة: 43 الخطبة 1؛ بحارالأنوار : 11/61 ح70.

الاجساد، وأنّها أقرّت ف-ي عالم الذرّ بالتوحيد، وغير ذلك ممّا لا علم لنا به؛ إلّا أنّه لا يفيد إلّا تعبّداً محضاً، نظير التعبّد بأمثال تلك الأمور. كُلّ ذلك على فرض تماميّة دلالتها، ولكنّ الكلام بعدُ فيها، فلنذكر ما استدلّ به وننظر في دلالته .(1)

أقول: الظاهر أنّ مراده هو أنّ القول بالمعرفة الفطريّة لا يمكن الإنتفاع به لأنّه لا أثر له في الدنيا، إنّما كان الإنتفاع به على فرض ثبوته في نشأة الذرّ، والأدلّة الدالّة عليها تكون من باب الحكاية والإخبار بأمر ماض متصرّم سابقاً.

ويرد عليه بأنّ الفطرة وإن كان منشؤها نشأة الذرّ، إلّا أنّ آثار تلك المعرفة موجودة في الإنسان.

منها سهولة الأمر على الأنبياء: في مقام الدعوة إلى اللّه تعالى، لأنّ جميع العباد مفطورون على معرفة اللّه تعالى ولا يحتاجون إلّا إلى التذكير، وهذا هو السرّ في طريقة دعوة النبي الأكرم(ص) إلى اللّه فإنّه دعا الناس بقوله «قولوا لا إله إلّا اللّه تفلحوا»(2) وكان قوله سبباً لتذكيرهم بالمعرفة الفطرية.

نعم، كان الرسول الأكرم(ص) يستدلّ بالاستدلالات العقليّة أيضاً إلّا أنّه لم يستدلّ بها - بحسب الغالب - إلّا في مقام إفحام الخصم والمحاجّة عليه، وقد تكون تلك الاستدلالات سبباً للتذكّر بحقيقة يجدها الإنسان بفطرته، فنفس المعرفة الفطريّة كافية في الدعوة إلى اللّه تعالى.

ومنها إتمام الحجّة من اللّه تعالى على العباد بعد ظهور تلك المعرفة الفطريّة في حال البأساء والضرّاء.

ومنها تقوية إيمان المؤمن بعد ظهورها في بعض أحوال تلاوة القرآن وقراءة الأدعية

ص: 358


1- هداية الأمّة إلى معارف الأئمّة : 33.
2- بحارالأنوار : 18/202 ح32. لمزيد الاطلاع لبيان معنى «لا إله إلّا الله» راجع كتاب خورشيد تابان در علم قرآن: 255 - 262 ومناهج البيان: 29/167.

والمناجاة.

وأمّا قوله1 من كون الفطرة الحاصلة في عالم الذرّ - على فرض دلالة الآيات والأخبار عليها - لا تفيد إلّا تعبّداً محضاً، فقد عرفت ما فيه لأنّ الفطرة نور وبها تثبت حجّة اللّه تعالى، كما أنّ الأنبياء والرسل كانوا يذكّرون الناس بفطرتهم وكان الناس يتذكّرون بتذكيرهم ويجدون ما يدعوا إليه الأنبياء من معرفة اللّه تعالى بقلوبهم.

ولعلّ هذا هو المراد من قوله(ع) «اعرفوا اللّه باللّه والرسول بالرسالة...»(1) لأنّ رسالة الرسول هي أقوى شاهد على صدق مدّعاه. فإذا كان الرسول يذكّرنا بما نجده بالفطرة، يكون تجلّي الفطرة أقوى دليل على صدق رسالته، فتدبّر جيّداً.

وأمّا القسم الثاني وهو الاشكال على مقام الإثبات وهو على قسمين:

القسم الأوّل: الاشكال على إثبات الفطرة بالآيات:

الاشكال الأوّل: إنّ الاستدلال بقوله تعالى (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ...)(2) وقوله تعالى (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّه ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ)(3) وقوله تعالى (وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ) (4)على مفطوريّة الإنسان على معرفة اللّه تعالى متوقّف على اختصاصها بالمنكرين حتى يكون إقرارهم باللّه - بعد السؤال وفي البأساء والضرّاء - دليلاً على أنّ كلّ إنسان مفطور على معرفة اللّه تعالى، والحال أنّ بعض هذه الآيات تخاطب المؤمنين العصاة وتوبّخهم على الرذالة والدنائة بالعتوّ والطغيان في حال الرخاء والتضرّع والإلتجاء في حال البلاء.

وبعضها الآخر تخاطب المشركين وتوبّخهم على عبادة الأصنام وغيرها، مع اعترافهم بالربّ المتعال والخالق لكلّ شيء وليس المخاطب في هذه الآيات

ص: 359


1- التوحيد للصدوق: 1/285 ح3؛ بحارالأنوار : 3/270 ح7.
2- العنكبوت : 65.
3- النحل : 53.
4- . يونس : 12.

المنكرين كي تكون دليلاً على ما ادّعاه القائل بالفطرة. وواضح أنّ المؤمنين والمشركين لا ينكرون وجود الربّ المتعال، وهذا هو السرّ في إقرارهم باللّه تعالى بعد السؤال منهم (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ والْأَرْضَ)(1) و(مَن يَرْزُقُكُم) (2).

ولو سلّمنا شمول هذه الآيات للمنكرين، فلا تكون دليلاً على ما ادّعاه القائلون بالفطرة لأنّ المراد منها هو أنّ كلّ منكر لو سُئل عمّن خلق السماوات والأرض لأقرّ باللّه تعالى بمقتضى الحجّة القاطعة، وهي دلالة العقل على أنّ كلّ أثر كاشف عن المؤثّر وإليك نصّ عبارته:

وحيث أنّ ال-مُدّعي للفطرة قد ادّعى دعويين؛ أعني دعوىً على الخالق والخلق معاً. أمّا على الخلق، فلما مرّ؛ وأمّا على الخالق، فلأنّ من يدّعي الفطرة للبشر يدّعي على اللّه تعالى أنّه مودِّعها فيه، وجاعلها له، وفاطره عليها؛ فلابدّ له ف-ي هذا الادّعاء على اللّه أيضاً من إقامة شاهد. فلذلك استشهد للدعويين بالآيات والأخبار معاً؛ ليُسند الأمر بصنع الباري تعالى أيضاً، ويستدلّ بها على الثبوت أو يؤيّده بها.

وليس ف-ي الآيات من دلالة، إذ بعضها ذمّ المقرّين لا المنكرين على الرذالة والدنائة بالعتوّ والطغيان والتضرّع والإلتجاء ف-ي حالتي الأمن والبلاء والفاقة والرخاء؛ مثل قوله تعالى: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)(3) . ونظائره كثير؛ كقوله: (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّه ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ)(4) وقوله: (وَإِذَا مَسَّ

ص: 360


1- . الكافى : 2/12 ح4؛ بحارالأنوار: 64/135 ح7.
2- ونس : 31.
3- العنكبوت : 65.
4- . النحل : 53 - 54.

الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) .(1)

ولا صراحة ف-ي أمثال هذه الآيات على فطرة ولا إيهام، والاستدلال بها كأصل الدعوى، مبنيّ على الدعوى أيضاً؛ وهي دعوى أنّ المخاطب بها، المنكرون، فيختصّ بهم؛ والمنكر الغافل المصرّ على الإنكار، كيف ينقلب إلى الإلتجاء لولا ظهور الفطرة ف-ي حال الاضطرار؟ ولعمري! إنّ هذه الدعوى على مورد هذه الآيات، وحملها على مورد الإنكار من أظهر مصاديق «التفسير بما لا يرضي صاحبه».

وبعضها توبيخ من أشرك به، بعبادة الأصنام وغيرها، مع أنّه يكون معترفاً بربّه وصاحبه؛ كمشركي قريش، فإنّهم كانوا معترفين بأنّ ربّهم وخالقهم، اللّه، وكانوا يقولون: أنشدك باللّه والرحم؛ وكانوا يقولون: لا شريك لك إلّا شريك هو لك تملّكه وما ملك، وكانوا يعتذرون ف-ي عبادتهم الأصنام، بقولهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى...)(2) ، وقولهم: (هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللّهِ) .(3)

فمثل هذا المشرك، ليس منكرا للّه ولا غافلاً عنه، بل هو بحيث لو سألته من خالقك وخالق السماء؟ أو من رازقك؟ قال: هو اللّه المفيض خيره على الكائنات. فعند ذلك، فقل لأمثال هؤلاء توبيخاً لهم على الشرك؛ كما علّم اللّه نبيّه(ص): لماذا تعبدون غيره؟ هذا مضمون الآيات التي استدلّ بها، مثل قوله تعالى: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللّه فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)(4) ، وقوله: (وَلَئِن

ص: 361


1- يونس : 12.
2- الزمر : 3.
3- يونس : 18.
4- العنكبوت : 61.

سَأَلْتَهُم مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللّه فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)(1) ، ونظائره كثيرة. وهذه الآيات أيضاً لا صراحة فيها على الفطرة ولا إيهام؛ والاستدلال بها أيضاً، مبنيّ على دعوى اختصاص الخطاب فيها بالمنكرين، وهي كما ترى؛ بل ظهورها وظهور سياقها قبلاً وبعداً يُنادي بالمخاطبة مع المشركين.

ولو فرضنا أنّ المخاطبة ف-ي هذه الآيات، تعمّ كلّ منكر له تعالى (سواءً كان الإنكار، إنكاراً للربوبيّة أو الألوهيّة) فتكون الآية -- من حيث شمولها للمنكر الغافل -- دالّةً على الفطرة بالتقريب المذكور كان السؤال هكذا؛ يعني على هذا النحو: من خلق السماوات والأرض؟ من يرزقكم...؟استدلاله للصانع بعينه؛ غاية الأمر، أنّه استدلال وبرهان على طريق السؤال. وحينئذٍ فالإقرار بعد ذلك والإعتراف لا يكون إقراراً عن الفطرة، بل هو إقرار عن الحجّة والبرهان، وظهور الحقّ على قلبه، ظهور بعد البيان. فلو كان مثل ذلك فطرة، لما كان لاختصاصها بالتوحيد وجهٌ، بل الإنسان على هذا مفطور على كلّ شيء حقيقةً، وكان منكراً له لشوب ذهنه، لأنّه يقبله ويقرّبه مع البيّنة والبرهان .(2)

ويرد عليه أوّلاً: إنّ ما ذكره من اختصاص بعض هذه الآيات بالمقرّين وبعضها بالمشركين فمردود لأنّ فيها ما يشمل المؤمنين والمقرّين والمشركين والمنكرين بعمومه وإطلاقه نظير قوله تعالى (وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ) (3)الآية، فإنّ كلمة الإنسان مع الألف واللام الدالّة على الجنس ممّا تفيد العموم، ونظير قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لايَشْعُرُونَ)(4) وقوله تعالى:

ص: 362


1- الزخرف : 87.
2- هداية الأمّة إلى معارف الأئمّة : 33 - 35.
3- يونس : 12.
4- الأعراف : 94 - 95.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُبْلِسُونَ)(1) فإنّه من الواضح أنّ المبعوث عليهم ليسوا جميعا من المؤمنين.

والحاصل: إنّ في الآيات التي استشهد بها القائل بالمعرفة الفطريّة ما يشمل بعمومه وإطلاقه المؤمنين والمقرّين والكافرين والمشركين والمنكرين.

ثانياً: إنّ ما ذكره المستشكل من كون دلالة هذه الآيات على المعرفة الفطريّة متوقفة على اختصاصها بالمنكرين، مردود إذ الاستدلال بهذه الآيات ونظائرها على الفطرة ليس متوقّفاً على اختصاصها بالمنكرين بل يمكن الاستدلال بها على الفطرة حتى على فرض اختصاصها بالمشركين لأنّهم ليسوا عارفين باللّه تعالى وبكمالاته لوضوح كفرهم بسبب شركهم والتزامهم بالشريك للّه تعالى، فالإقرار بخالق مّا من دون الإقرار بتوحيده ليس معرفة، فلاحظ هذه الادلّة الدالّة على عدم معرفة المشركين باللّه تعالى.

قوله تعالى (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌّ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّه يُضْللّه وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّه أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّه تَدْعُونَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ) .(2)

فإنّ المشركين في هذه الآية هم المكذّبون بالآيات فيكونوا بذلك من الكفّار، وتدلّ الآيات على أنّ الكفّار والمشركين يتذكّرون بمعرفة الربّ تعالى في حالة البأساء والضرّاء.

ص: 363


1- الأنعام : 42 - 44.
2- الأنعام : 39 - 41.

* ورد في خطبة أميرالمؤمنين(ع): وأشهد أنّ من شبهك بتباين أعضاء خلقك وتلاحم حقاق مفاصلهم المحتجبة لتدبير حكمتك، لم يعقد غيب ضميره على معرفتك، ولم يباشر قلبه اليقين بأنه لا ندّ لك، وكأنّه لم يسمع تبرّؤ التابعين من المتبوعين، إذ يقولون (تَاللّه إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ)(1) كذب العادلون بك إذ شبّهوك بأصنامهم، ونحلوك حلية المخلوقين بأوهامهم، وجزّءوك تجزئة المجسّمات بخواطرهم، وقدّروك على الخلقة المختلفة القوى بقرائح عقولهم، وأشهد أنّ من ساواك بشيء من خلقك فقد عدل بك، والعادل بك كافر بما تنزّلت به محكمات آياتك ونطقت عنه شواهد حجج بيّناتك، وأنّك أنت اللّه الذي لم تتناه في العقول فتكون في مهبّ فكرها مكيَّفاً، ولا في رويّات خواطرها فتكون محدودا مصرَّفاً .(2)

* وروى الصدوق عن مختار بن محمّد بن مختار الهمداني عن الفتح بن يزيد الجرجاني عن أبي الحسن(ع) قال: سألته عن أدنى المعرفة؟

فقال: الإقرار بأنّه لا إله غيره، ولا شبه له، ولا نظير له، وأنّه قديم مثبت موجود غير فقيد وأنّه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) .

* روى أيضاً عن محمّد بن علي الطاحي عن طاهر بن حاتم بن ماهويه قال: كتبت إلى الطيب يعني الإمام أبي الحسن(ع): ما الذي لا تجزئ في معرفة الخالق جلّ جلاله بدونه؟

فكتب(ع): (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(3)(4) لم يزل سميعاً وعليماً وبصيراً وهو الفعّال ل-ما يريد .(5)

أقول: هذا الخبر صريح أشدّ الصراحة في كون أدنى درجات المعرفة هي معرفة اللّه متوحّداً في كمالاته، وعليه فالمشرك (لأجل شركه) لا يكون عارفاً باللّه تعالى،

ص: 364


1- . الشعراء: 98.
2- نهج البلاغة: 126 الخطبة 91؛ بحارالأنوار : 74/319 ح17.
3- الشورى: 11.
4- التوحيد: 1/283 ح1؛ بحارالأنوار : 3/267 ح1.
5- التوحيد: 1/284 ح4؛ بحارالأنوار : 3/269 ح5.

ولذا يكون كافراً به.

وثالثا: لو سلّمنا إختصاص بعض هذه الآيات بالمشركين، فمع ذلك تكون دليلاً على الفطرة حيث إنّ مفادها هو أنّهم يجيبون عن السؤال (من خلق السماوات ومن يرزقكم) بأنّ الخالق والرازق هو «الله» تعالى، ومن الواضح أنّ هذه الكلمة (الله) علم شخصيّ للذات الواحد الأحد الحيّ العالم القادر الذي يكون مألوهاً فيه، وهذا هو الجواب الصحيح عن ذلك السؤال.

والحاصل: إنّ الآيات تدلّ على أنّه لو سئل المشركون عمّن خلق السماوات وعمّن يرزقكم لأجابوا بما هو الصحيح في مقام الجواب ولا يجيبون بما يدلّ على وجود خالق ما ورازق ما.

ورابعاً: إنّه لا دليل على إختصاص هذه الآيات بالمؤمنين والمشركين إلّا ما يلوح من السياق في بعضها.

وخامساً: إنّ أثر الفطرة وظهورها في بعض الحالات لا ينحصر في إثبات الصانع والخالق والرازق حتى يرد الإشكال على القائل بها بأنّ تلك الآيات لا تشمل المنكرين، بل لها فوائد كثيرة حتى بالنسبة إلى المؤمنين والغافلين. وقد مرّ بيانها آنفاً وعلى ضوء ما ذكرنا لا مانع من دلالة الآيات على ثبوت المعرفة الفطريّة مع إختصاصها بالمؤمنين والمشركين.

وأمّا ما ذكره المستشكل من أنّه لو كانت الآيات عامّة وشاملة حتى للمنكرين فال-مراد منها أنّه لو سئل ال-منكرون عمّن خلق السم-اوات والأرض لأجابوا - بمقتضى البرهان العقليّ - بأنّه هو اللّه فيرد عليه: أنّ المراد من البرهان العقليّ الكاشف عن وجود الخالق والرازق هو أنّ الأثر يدلّ على المؤثّر والصنع يدلّ على الصانع. ومن الواضح أنّه لابدّ في هذا البرهان من التذكّر إلى الأثر والصنع حتى يكشف العاقل بنور عقله أنّه لا يمكن تحقّقهما بدون المؤثّر والصانع وغير خفيّ أنّ في البأساء والضرّاء لا يكون الإنسان ذاكراً للآيات والمصنوعات بل يكون منقطعاً عمّا سواه تعالى، فكيف

ص: 365

يمكن أن يدّعي المستشكل بأنّ ما يظهر للإنسان في تلك الحالة هو ما يجده بالبرهان العقليّ؟

والحاصل: إنّ الفرق بين معرفة اللّه تعالى بالآيات - بعد النظر إليها والتأمّل فيها - وبين معرفة الربّ به تعالى الحاصلة للعبد بفضله ومنّه مع قطع النظر عن الآيات واضح، و يكون العبد في حال حصول تلك المعرفة منقطعاً عن غيره تعالى.

إذا عرفت ما ذكرنا، فنقول إنّ ما ذكره المستشكل من أنّ الآيات التي استدلّ بها على المعرفة الفطريّة ناظرة إلى المعرفة بالآيات لذكر آثار صنعه تعالى فيها (نظي-رقوله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ والْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ)(1) ) - لو صحّ لكان جارياً في الآيات التي كان فيها ذكر من آيات صنعه تعالى - كخلق السماوات والأرض وكونه تعالى رازقاً - وأمّا في الآيات التي لم يكن فيها ذكر لآيات صنعه فلا يجري فيها ما ذكره المستشكل نظير قوله تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُبْلِسُونَ)(2) فإنّ الآية الأخيرة صريحة بأنّ حالة البأساء والضرّاء سبب لتذكّر ما نساه الإنسان من المعرفة الفطريّة ونظير قوله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَيَشْعُرُونَ) (3)(4).

ص: 366


1- لقمان: 25.
2- الأنعام : 42 - 44.
3- الأعراف : 94 - 95.
4- بل أنّ هذه الآيات لا تشير إلي صنعة السماوات والارض بنحو الاستدلال إنّما تدلّ علي أنّ المسؤول عمّن صنع السماوات والأرض سيجيب الجواب الصحيح ألا وهو «اللّه» عزّوجلّ، والجواب الصحيح من الجميع دليل علي المعرفة الفطريّة، هذا هو سياق هذه الآيات.

الاشكال الثاني: أنّ الإستدلال بآية (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)(1) على المعرفة الفطريّة متوقّف على كون المراد من الفطرة هي الفطرة التكوينيّة مع أنّ المراد منها هي الفطرة التشريعيّة، بمعنى أنّ اللّه تعالى شرّع الدين لجميع أفراد البشر حتى يصير لهم فطرة ثانويّة بطول ممارستهم وشاكلة لهم باعتبار تشاكلهم بشكل واحد.

فالدين فطرة للّه تعالى بمعنى أنّه تعالى شرّعه بجعله كمالاً للبشر، كما أنّه فطرة للناس باعتبار إضافته إليهم، فإنّ اللّه تعالى سيّر شريعته طبيعة للناس بالطوع والاختيار لا بالجبر بحسب التكوين.

وقد استشهد المستشكل على ما ادّعاه في تفسير الآية وأنّ المراد من الفطرة هي الفطرة التشريعيّة لا التكوينيّة بأنّ الروايات تفسّر الفطرة تارة بالإسلام وأخرى بالتوحيد وثالثة بالنبوّة والولاية، وليست الأخبار بصدد بيان بطون الآية بل هي بصدد بيان تنزيلها. فلو كان المراد من الفطرة هي الفطرة التكوينيّة (كما ادّعاه القائل بالمعرفة الفطريّة) فلابدّ من أن يكون الإنسان مفطوراً على الإسلام والدين والنبوّة والولاية مع أنّه لا يمكن ادّعاء ذلك. والقائل بالمعرفة الفطريّة يدّعي مفطوريّته على التوحيد ومعرفة الربّ. وإليك نصّ عبارته:

و «آية الفطرة» التي استدلّ بها أيضاً، وهي قوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّه ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)(2) . وهي وإن كانت صريحة ف-ي لفظ «الفطرة»، إلّا أنّ الكلام، ف-ي معناها هُنا وما هو الموصوف بها. فإنّه لم يرد بها فطرة التوحيد وإذعان كلّ نسمة؛ أي مخلوق، بربّها خاصّة؛ بل هي

ص: 367


1- الروم : 30.
2- الروم : 30.

كالقيّم والحنيف المذكورين فيهما، وصف لكلّ دينه الشريف وتمامه، لا لخصوص معرفة الربّ والإقرار به؛ لذاك فُسّرت آية الفطرة به تماماً؛ أي بالدين بجميعه: نبوّة، ولاية وإسلاماً.

فقد فسّرت تارة: بالإسلام؛ كرواية عبداللّه بن سنان، عن أبي عبداللّه(ع) قال: «سألته عن قول اللّه عزّ وجلّ: (فِطْرَةَ اللّه الَّتِي فَطَرَالنَّاسَ عَلَيْهَا)، ما تلك الفطرة؟ قال(ع): هي الاسلام، فطرهم اللّه حين أخذ ميثاقهم على التوحيد، فقال: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)؟ وفيهم المؤمن والكافر»(1) .

وأخرى: بالولاية؛ كرواية أبي بصير عن الباقر(ع)، قال(ع): «الولاية» .(2)

وثالثة: بالتوحيد خاصّة؛ كرواية زُرارة والحلبي وهشام بن سالم، عن أبي عبداللّه(ع)، قال(ع): «التوحيد»(3) ، وقال(ع): «فطرهم جميعاً على التوحيد»(4) .

ورابعة: بالتوحيد والنبوّة والولاية؛ كرواية عبدالرحمن بن كثير، عن أبي عبداللّه(ع)، قال: «التوحيد ومحمّد رسول اللّه وعليّ أميرالمؤمنين»(5) ؛ ورواية الهيثم الرماني، عن الرضا(ع)، عن جدّه الباقر(ع)، قال: «هو لا إله إلّا اللّه ومحمّد رسول اللّه وعليّ أميرالمؤمنين إلى هاهنا التوحيد»(6) .

فهذه التفاسير المختلفة، شاهدة على أنّ المراد بها الدين، إلّا خصوص

ص: 368


1- الكافي: 2/12 ح2؛ بحارالأنوار: 3/278 ح7.
2- بحارالأنوار: 3/277 ح2.
3- الكافي: 2/13 ح5؛ بحارالأنوار: 3/277 ح4 و 5 و 6.
4- التوحيد للصدوق: 1/329 ح6؛ بحارالأنوار: 3/278 ح8.
5- التوحيد للصدوق: 1/329 ح7؛ بحارالأنوار: 3/278 ح9.
6- تفسير القمي: 2/154؛ بحارالأنوار: 3/277 ح3.

التوحيد منه؛ وليس هذا الاختلاف مبنيّاً على الباطن والتأويل، بل هو على مقتضى ظاهر التنزيل؛ ومن المعلوم أنّ النبوّة والولاية والإسلام، ليست فطريّات ولم يدّع أحدٌ أنّها فطريّة.

فهذه التفاسير كظاهر الإطلاق، شواهد على أنّ الفطرة ليست بذلك المعنى؛ فإنّ هذه الأمور ليست ممّا تهتدي إليها النفوس عند تخليتها وبقائها على صرافتها، بل معنى الفطرة هنا حيث إنّها وصف للدين، إنّما هو الشرعة؛ وبهذا الاعتبار تضاف إلى اللّه فيقال: فطرة اللّه؛ كما يضاف الدين إليه، فيقال: دين اللّه. فالدين فطرة له تعالى، بمعنى كونه فاطره وجاعله وشارعه، فهي أيضاً فطرة شرعيّة وهو باعتبار آخر: صبغة اللّه التي قدّرها على البريّة، وكلّ دين أهله الفاطر والمبتدع له، فصار فطرة ثانويّة لهم بطول ممارستهم ونموّهم عليه؛ وصار أيضاً شاكلة لهم باعتبار تشاكلهم بشكل واحد. وذوالجلال بنفسه فاطر الإسلام وجاعله ديناً قد اصطفاه للأنام.

وقد تضاف الفطرة إلى الخلق؛ كما قال تعالى: (فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)؛ كما أنّ الدين أيضاً يضاف إليهم، فيقال: ديني ودين الناس؛ فالفطرة إذن لها معنيان باعتبار الإضافتين؛ كما أتمّ الدين كذلك، فالدين فطرة له تعالى؛ بمعنى أنّه شرّعه بجعله كمالاً للبشر، وفطرة لنا أيضاً باعتبار إضافته الينا؛ إذ الشريعة صيّرها اللّه طوعاً وبالاختيار، لا جبراً وبالاضطرار لنا طبيعةً؛ فالدين شريعة وطبيعة ثانويّة، طبع اللّه عباده عليه تشريعاً لا تكويناً.

ثمّ إنّه فرّق بين الفطرة والفطريّ، والدين فطرة بناه ربّنا وفطره، لا أنّه يكون فطريّاً لنا، فتهتدي النفس له جليّاً لو خلّيت وطبعها الفطريّ؛ يعني، أنّ الدين ف-ي ظاهر الآية محكوم بأنّه نفس الفطرة، باعتبار أنّه فطرة اللّه للنّاس، وبهذا الاعتبار، يسمّى الإسلام «الفطرة»؛ يقال: وُلد على الفطرة؛ أي على الإسلام، ويقال: المرتدّ الفطريّ؛ أي الذي ارتدّ عن الإسلام بعد أن

ص: 369

وُلد فيه، وكون الدين فطرة، لا يستلزم كونه فطريّاً؛ فلو فرض أنّ المراد بالدين هو التوحيد خاصّة، فلا دلالة ف-ي الآية أيضاً على كونه فطريّاً. والحاصل: إنّ الدين أو الإسلام مسند إلى الفطرة، لا إلى الفطري.

ونسبة الفطريّ إليه لو ترى ف-ي بعض الموارد، أريد به أحد المعاني الثلاثة: إمّا أنّ الدين ممّا فُطر؛ أي ممّا فطره اللّه وجعله فطرة للناس؛ أو أنّه الفطريّ ف-ي القبول، تقبلها الفطرة بالعقول؛ يعني، أنّ قبوله بعد الثبوت بالبيّنة من فطريّات العقول، فهو فطريّ القبول؛ أو هو طبعيّ بلا سخيمة فيه، يلائم الطبايع السليمة عن حبّ الشهوات أو شوب الظلمات؛ يعني، أنّ الدين قد جُعل فطريّاً؛ أي طبعيّاً، إذ الفطرة تأتي بمعنى الطبع أيضاً؛ يعني، أنّه رُوعِىَ ف-ي صبغه وصوغه من القوانين والأحكام ما يلائم الطباع ويوافقها، حيث لم تكلّف نفس إلّا وسعها ولم يجعل فيه عسر وحرج وغير ذلك. والفرق بين الوجهين ظاهر، فإنّ الأوّل بمعنى أنّه فطريّ القبول للعقول، والثاني أنّه فطريّ الطباع ومقبول الطباع. فافهم .(1)

ويرد عليه أوّلاً: أنّ هذه الآية بضميمة الأخبار المصرّحة الواردة في تفسيرها ممّا تدلّ على المعرفة الفطريّة، كما مرّ بيانه فراجع.

ولذا لم يجد المستشكل بُدّاً من الاعتراف بأنّ مفاد تلك الأخبار هو أنّ اللّه تعالى فطر العباد تكويناً على التوحيد في عالم الذرّ، ولكنّه أنكر بقاء الفطرة بحالها بعده فإنّه قال «و لا مانع أن يكون اللّه تعالى فطرهم كذلك ف-ي ذلك الوقت ولا دلالة على بقاء الفطرة بحالها بعده إلّا بضميمة الأخبار الآتية ويأتي حالها» .(2)

وثانياً: إنّ المستشكل لم يقم دليلاً على عدم مفطوريّة الإنسان على النبوّة والولاية و الإسلام بل قال: «و من المعلوم أنّ النبوّة والولاية والإسلام ليست فطريّات ولم يدع أحد أنّها فطريّة» انتهى كلامه.

ص: 370


1- . هداية الأمّة إلى معارف الأئمّة : 35 - 38.
2- هداية الأمّة إلى معارف الأئمّة : 20 باب استشهاد القائلين بالفطرة بالآيات ودفعه.

وقد أثبتنا في كتاب «سدّ المفرّ على منكر عالَم الذرّ» أنّ الدين وجميع الأحكام والنبوّة والولاية ممّا أخذ اللّه تعالى عليه ميثاق العباد، ويدلّ عليه من الأخبار الصريحة ما لا يمكن ردّها لكثرتها ولا يمكن توجيهها لصراحتها.

فليس ما ذكره المستشكل إلّا استبعاد محض، وهل ذكر برهاناً على مدّعاه؟

وثالثاً: إنّ غاية ما يمكن أن يدّعي هو أنّ الآية تدلّ على أنّ اللّه تعالى فطر الناس على الدين إمّا بالفطرة التشريعيّة أو التكوينيّة، فتكون مجملة ولا يصحّ الاستدلال بها على المعرفة الفطريّة، ولكن نقول فما هو الدليل على أنّ اللّه تعالى أراد من الفطرة خصوص الفطرة التشريعيّة كما ذهب إليه المستشكل؟

والحق أنّ الآية بصدد بيان كون الدين فطريّاً للبشر بحسب جعل اللّه تعالى وخلقته- فتكون دالّة على أنّ الدين فطريّ بالفطرة التكوينيّة ويشهد على هذا قوله تعالى (لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ) (1).

وأمّا ما ذكره المستشكل أخيراً في الاستدلال بالآية على المعرفة الفطريّة من أنّ القائل بالمعرفة الفطريّة يقول بأنّ الدين فطريّ للبشر مع أنّ الآية تدلّ على أنّ الدين فطرة للبشر لا فطريّ له، والفرق بينهما واضح فإنّ الفطريّ يكون بمعنى أنّ الدين شيء منسوب إلى الفطرة فهو غير الفطرة للزوم التغاير بين المنسوب والمنسوب إليه.

ففيه أوّلاً: أنّ الاختلاف بين القائل بالمعرفة الفطريّة والمنكر لها ليس في الألفاظ، فإنّ القائل بها لم يدّع بأنّ دلالة الآية تكون هكذا «فأقم وجهك للدين حنيفاً فطريّاً الذي فطر» حتى يستشكل عليه بأنّ الآية تدلّ على أنّ الدين فطرة لا فطريّ.

وثانياً: إنّ الآية تدلّ على أنّ الدين فطريّ وإن كان المراد من الفطرة فيها هو الدين.

توضيح ذلك: إنّ الفطرة على وزن «فعلة» بكسر الفاء وسكون العين تكون بمعنى نوع الخلقة، فإنّ هذا الوزن يدلّ على النوع - كما صرّح به اللغويّون - فيكون مفاد الآية

ص: 371


1- الروم : 30.

أنّ الدين نوع خلقة خلق اللّه الإنسان عليه، فمهما قيل إنّ الدين فطريّ يكون المراد منه أنّ الدين طبيعي الإنسان ويكون في طبيعته بحسب الجعل التكويني من اللّه تعالى.

وبعبارة أخرى: إنّ الآية بصدد بيان نوع الفعل الصادر عن اللّه تعالى، فإنّ اللّه تعالى خلق الإنسان بكيفيّة خاصّة وهو كونه عارفاً به تعالى وبالدين عرفاناً بسيطاً لا يستغني فيه عن تذكير الأنبياء، مع أنّه كان من الممكن أن يخلقه بنحو يكون أجنبيّاً عن الدين وعن معرفته تعالى، فتكون خلقته عارفاً باللّه وبدينه نوعاً من الخلقة.

وثالثاً: إنّ المستشكل نفسه صرّح بأنّ الدين فطريّ ولكنّه جعل الدين فطريّاً بالفطرة التشريعيّة الثانويّة بطول ممارسته. فلو لم يصحّ إطلاق الفطريّ على الدين، للزوم التغاير بين المنسوب والمنسوب إليه لم يصحّ ما ذكره أيضاً.

وبعبارة أخرى: إنّ المستشكل قد اعترض على ما ذكره القائل بالمعرفة الفطريّة من كون الدين فطريّاً بأنّ الدين فطرة لا فطريّ، ولا يصحّ أن يقال إنّه فطريّ مع أنّه صرّح بأنّ الدين فطريّ بالفطرة التشريعيّة.

ورابعاً: قد صرّح المستشكل بأنّ اللّه تعالى شرع الدين للعباد حتى يصير طبيعيّاً وفطريّاً لهم بالطبيعة الثانويّة بطول ممارستهم له، ونقول لو أمكن أن يصير الدين طبيعيّاً لهم بالطبيعة الثانويّة، فما هو الوجه في إنكار أن يكون طبيعيّاً وفطريّاً لهم بالطبيعة الأوّليّة بحسب الجعل التكوينيّ الإلهيّ كما دلّت عليه الأدلّة؟

وخامساً: إنّ المستشكل يقول بأنّه يمكن أن يقال أنّ الدين فطرة اللّه كما يصحّ أن يقال أنّ الدين فطرة الناس، والمراد من الأوّل أنّ الدين شرعة شرّعها اللّه للعباد والمراد من الثاني أنّ الدين يصير فطريّاً للإنسان بطول ممارسته، وعلى هذا فالدين فطرة ولكنّه يصير فطريّاً وطبيعيّاً له بطول ممارسته. وعليه فنقول إنّ مراد القائل بالمعرفة الفطريّة من كون الدين فطريّاً بالفطرة التكوينيّة هو أنّه صار طبيعيّاً له بالطبيعة الأوّلية التكوينيّة بحسب الجعل الإلهيّ، فما هو الوجه في الاشكال عليه بأنّ الدين فطرة لا فطريّ.

وسادساً: لو كان المراد من الآية ما ذكره المستشكل من أنّ الدين فطرة اللّه للبشر

ص: 372

بمعنى أنّه مجعول لهم بالجعل التشريعيّ حتى يصير طبيعيّاً لهم بالطبيعة الثانويّة، فلابدّ أن تكون الآية هكذا «فطرة اللّه التي فطرها للناس» أي شريعة شرّعها اللّه تعالى للناس ولا معنى لأن يقال «فطر الناس عليها» أي شريعة شرع الناس عليها. كما أنّه ورد في الأخبار المفسّرة للآية أنّ اللّه تعالى فطر الناس على التوحيد أو على الإسلام أو على النبوّة والولاية لا أنّ اللّه تعالى شرّع الإسلام أو التوحيد أو الولاية للناس، وبينهما بون بعيد.

إذا عرفت ما ذكرنا، يظهر لك ضعف ما ذكره في توجيه كون الدين فطريّاً في آخر كلامه حيثما قال:

ونسبة الفطريّ إليه لو ترى أري-د أنّ ال---دي--ن م--مّا فُط----را

أو أنّه الفطريّ ف-ي القب-ول تقبل-ه-ا الف---ط---رة بالع----ق--ول

أو هو طب-عيّ ب-لا سخ-يمة يلائ----م الط--ب--ايع ال--سل-ي-م-ة

وأمّا الأخبار فحمل-ها ع--لى ما قلت في الآيات ليس مشكلا (1)

ومن المناسب في هذا المقام التعرّض لما ذكره شيخنا المحقّق الأستاذ آية اللّه الشيخ محمّد باقر الملكيّ1 في كتابه توحيد الإماميّة، وإليك نصّ عبارته:

لا يخفى أنّ تحصيل المعرفة به تعالى -- واجباً كان أو لا --، متوقّف على كونه تعالى أمراً مشكوكاً فيه، أو حقيقة مجهولة مبهمة، مثل غيره تعالى من الأمور المجهولة الأخرى، وأنّ العرفان به تعالى كمعرفة غيره من الحقائق المجهولة أو المشكوكة وف-ي جملة عدادها. ومتوقّف أيضاً على إمكان تحصيل المعرفة به تعالى والعلم بوجوده سبحانه على سبيل العلم الحصوليّ وكونه تعالى متصوّراً. والحقّ المبيّن الذي لا ريب فيه أنّ وجوده تعالى ليس أمراً مشكوكاً مجهولاً حتى يحتاج إثباته وتحصيل المعرفة به إلى إقامة برهان الإنّ أو اللمّ. وحيث أنّه لا يمكن تصوّره تعالى قالوا: تحصيل

ص: 373


1- هداية الأمّة إلى معارف الأئمّة : 25.

المعرفة به تعالى أي القطع بوجوده سبحانه إنّما هو بتصوّره تعالى بالوجوه. ويسمّون ذلك معرفة بالوجه وأرضوا أنفسهم بذلك. والآيات الكريمة والروايات المباركة تنادي بأعلى صوتها على خلاف ذلك واستحالته، وأنّ معرفته تعالى أمر فطريّ بسيط خارج عن الحدّين حدّ التعطيل والتشبيه ولا يستغني عن تذكير المذكّرين وتنبيه العارفين، والأنبياء والرسل والأئمة الصدّيقون صلوات اللّه عليهم يذكّرون الناس ف-ي مقام التعليم والبلاغ وف-ي مقام المجادلة الحسنة، على ما سيأتي من البيان إن شاء اللّه. فالبحث ف-ي ذلك يقع ف-ي مقامين:

ألف: الآيات الدالة على أن معرفته سبحانه أمر فطريّ بسيط:

1 -- قال تعالى: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللّه جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ * قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّه شَكٌّ فَاطِرِ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً) .(1)

بيان: الظاهر أنّ قوله تعالى: (أفي اللّه شك) مسوق للردّ والإنكار على الكافرين بالرسل وبما جاؤوا به وعلى الذين أظهروا الشك والارتياب في دعوتهم، (قالت رسلهم أفي اللّه شك). فإنكار الكافرين على الرسل والشاكين في دعوتهم -- وإن كان يعمّ جميع موارد دعوتهم -- إلّا أنّ الآيةالكريمة اكتفت ف-ي الجواب عن مقالاتهم، بأنّ الشكّ والارتياب ف-ي وجوده سبحانه ممّا لا يمكن ولا ينبغي لعاقل ارتكابه، فالإقرار بوجوده سبحانه الذي هو الأصل الأصيل ف-ي دعوة الأنبياء، يكفي ف-ي إبطال جميع مقالاتهم وأباطيلهم.

ص: 374


1- ابراهيم : 9 - 10.

وممّا ذكرنا يعلم أنّه لا شاهد ولا دلالة ف-ي الآية الكريمة على ما قاله بعض المفسّرين من أنّ مورد الإنكار والإثبات هو توحيده تعالى فقط بعد الفراغ عن ثبوته سبحانه. ضرورة أنّ صدر الآية صريحة ف-ي كفرهم وارتيابهم ف-ي ما جاءتهم الرسل به على نحو الإطلاق. كما أنّه لا شاهد فيها على أنّ المنكرين أجمعين هم الوثنيّون فقط، بل يعمّ جميع الأمم الكافرة.

وبديهي أنّ قوله تعالى: (فاطر السماوات والأرض) مسوق ف-ي مقام التمجيد، لا لأجل الإثبات والاستدلال عليه سبحانه. ويشهد على ذلك قوله تعالى: (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم...) فإنّه تجليل وتشريف آخر منه تعالى وثناء على نفسه بأنّه يدعو عباده بوساطة أنبيائه إلى نفسه لغفران ذنوبهم وإمهالهم عن الأخذ بذنوبهم وتأخيرهم إلى آجالهم المسمّاة لهم. قال الطبرسي: (أَفِي اللّه شَكٌّ) دخلت همزة الإنكار على الظرف لأنّ الكلام ف-ي المشكوك فيه وأنّه لا يحتمل الشكّ.

وقد تبيّن ممّا ذكرنا أنّ الآية الكريمة ناصّة على نفي الشكّ عن اللّه سبحانه. والظاهر -- بقرينة ما سيأتي من الشواهد -- أنّ المراد من نفي الشكّ هو أنّ اللّه سبحانه قد عرّف نفسه لعباده وصاروا عارفين به تعالى عرفاناً بسيطاً لا يعرفون أنّهم يعرفون، فلا يستغنون عن تذكرة المذكّرين وتنبيه المنبّهين. وقد أفادت أنّه تعالى ليس أمراً مشكوكاً مبهماً يحتاج إثبات وجوده إلى إقامة برهان.

2 -- قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّه ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(1) .

بيان: أمر اللّه سبحانه نبيّه وصفيّه وجميع الموحّدين بإقامة الوجه إلى

ص: 375


1- الروم : 30 - 31.

الدين.

قال الزمخشري: «وهو تمثيل لإقباله على الدين واستقامته عليه وثباته واهتمامه بأسبابه. فإنّ من اهتمّ بالشيء، عقد عليه طرفه وسدّد إليه نظره وقوّم له وجهه مقبلاً به عليه».

أقول: هذا المعنى غير ملائم لظاهر الآية، فإن اللّه أمر رسوله بإقامة الوجه للدين الذي عند اللّه وبحسب الواقع، لا بإقامة الدين بمعنى تسبيب الأسباب لوجوده وترويجه وبقائه.

وبعبارة أخرى: مورد الآية بعد الفراغ عن تحقّق الدين وف-ي المرتبة المتأخّرة عن وجوده. وإنّما أمر اللّه سبحانه بإقامة الوجه إليه حنيفاً مخلصاً خالصاً. ويشهد على ذلك قوله تعالى: (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ)، أي: رجعوا وتابوا عن كلّ ما يخالف مرضاة الحق سبحانه إليه تعالى مخلصين.

قال الطبرسي: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ)، أي: أقم قصدك للدين، والمعنى، كن معتقداً للدين. وقيل: معناه: أثبت ودم على الاستقامة. وقيل: معناه: أخلص دينك. عن سعيد بن جبير. وقيل: معناه: سدّد عملك.

أقول: هذه الوجوه كلّها ضعيفة خارجة عن غرض الآية. فالآية الكريمة تأمر بإقامة الوجه حنيفاً مخلصاً بخلع الأنداد ونفي الأوثان، وهو التوحيد الخالص للّه جلّ مجده. قوله تعالى: (للدين). الدين هو مجموع ما جاء به أنبياؤه تعالى من الشرائع الحقّة أصولاً وفروعاً. ويطلق أيضاً على أبعاضه وأجزائه بعناية ومناسبة، ويحتاج ذلك إلى القرينة. واللام فيه ليست غاية للجملة المتقدّمة عليه، ولا ف-ي موقع العلّة منها. بل الظاهر أنّها بمعنى «إلى»، مثل قوله تعالى: (اسْجُدُوا لآِدَمَ)(1) . قال ابن هشام ف-ي ذكر معاني اللام: وموافقة «إلى»، نحو قوله تعالى: (بِأَنَّ ربّك أَوْحَى لَهَا)(2) .

ص: 376


1- الأعراف : 11.
2- الزلزلة : 5.

-- روى الشيخ الحر العاملي عن التهذيب مسنداً عن أبي بصير يعني المرادي عن أبي عبدالله(ع) قال: سألته عن قول اللّه عزّوجلّ: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) قال: أمره أن يقيم وجهه للقبلة ليس فيه شيء من عبادة الأوثان، خالصاً مخلصاً(1) .

-- وروى علي بن إبراهيم مسنداً عن الفضيل بن يسار وربعي بن عبدالله، عن أبي عبدالله(ع) في قول اللّه تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) قال: قم في الصلاة ولا تلتفت يميناً ولا شمالاً .(2)

أقول: قوله(ع): «للقبلة»، أي: إلى القبلة. فتحصّل أنّ الصلاة دين، والتوجّه بها إلى القبلة دين، ونفي الأضداد والأنداد عنه تعالى دين، والإخلاص فيها حنيفاً دين اللّه، وهو دين الأنبياء المقرّبين. فتعيّن أنّ إقامة الوجه إلى الدين مخلصاً مسلماً ف-ي الصلاة وف-ي أيّ مورد ومورد من الدين، هو الدين الحنيف الذي ارتضاه تعالى لأنبيائه.

قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللّه يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ)(3) . (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(4) . (قُلْ أَمَرَ ربّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (5).

وقد ورد ف-ي تفسير الآية الأخيرة عدّة من الروايات، أن أقيموا وجوهكم

ص: 377


1- تهذيب الأحكام: 2/42 ح133 - 1؛ وسائل الشيعة: 4/295 ح5194.
2- تفسير القمي: 2/155؛ بحارالأنوار: 81/64 ح17.
3- الروم : 43.
4- ونس : 105.
5- الأعراف : 29.

نحو القبلة عند كلّ مسجد من المساجد. قوله تعالى: (حنيفاً). قال صاحب مرآة الأنوار: «الحنيف هو المسلم المائل إلى الدين المستقيم. والجمع: حنفاء. والدين الحنيف، أي: المستقيم الذي لا عوج فيه».

أقول: ومعناه بحسب التحليل، مائلاً إلى الحق، معرضاً عن الباطل. وهو حال من الفاعل ف-ي قوله تعالى: (فأقم). قوله تعالى: (فطرة اللّه التي...) قيل: نصب على المصدر.

قال الطبرسي: «ألزموا فطرة اللّه. أو: عليكم فطرة اللّه». وقال ابن منظور: «أصل الفطر: الشق... والفطرة: مافطر اللّه عليه الخلق من المعرفة بها. وقد فطره يفطره بالضم فطرا: أي: خلقه... وقوله: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) فهذه فطر عليها المؤمن. قال: وقيل: فطر كلّ إنسان على معرفته بأنّ اللّه ربّ كلّ شيء وخالقه. واللّه أعلم».

قال الطبرسي: فطرة اللّه: الملّة، وهي الدين والإسلام والتوحيد التي خلق الناس عليها ولها وبها، أي لأجلها والتمسّك بها. فيكون كقوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(1) .

أقول: وهو ضعيف. فإنّ العبادة غاية تشريعيّة للخلقة والآية المبحوثة عنها لا إشعار فيها بالغاية لا تشريعاً ولا تكويناً وليست إلّا إخباراً عن سنّة اللّه القيّمة الفاضلة. أي: إنّ ف-ي إقامة الوجه للدين مناسبة ومشاكلة للسنّة الإلهية ف-ي خلقة الناس. فإنّ اللّه سبحانه خلق الخلق عارفاً بالتوحيد عرفاناً مرموزاً بسيطاً وشاعراً به شعوراً بسيطاً يتمايل إلى التوحيد ويرغب عما يضادّه ويخالفه ويجري ف-ي ذلك طبقاً لشعور الفطري الذي أعطاهم اللّه هذا النور عندما فطرهم وخلقهم.

ص: 378


1- الذاريات : 56.

وكذلك الكلام ف-ي تفسير قوله(ص): كلّ مولود يولد على الفطرة. وسيجيء مزيد توضيح لذلك ف-ي تفسير قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ ربّك مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ)(1) .

فتحصّل أنّ إقامة الوجه إلى الدين متمايلاً إلى الحق ومعرضاً عن الباطل، هي الفطرة الإلهية التي فطر الناس عليها فيعرفون اللّه وتوحيده ويشعرون به تعالى معرفة وشعوراً بسيطاً بحيث لا يستغنون عن هداية هاد وإرشاد مذكر.

فالآية الكريمة إرشاد وتذكرة إلى إقامة الدين للّه جلّ ثناؤه متقرّباً ومخلصاً وتائباً إليه تعالى ونفي الشرك بجميع أنواعه وتبعاته.

- روى الكليني عن علي بن إبراهيم مسنداً عن هشام بن سالم، عن الإمام أبي عبدالله(ع)، قال: قلت: (فِطْرَةَ اللّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها)(2) . قال: التوحيد .(3)

- وروى أيضاً عن علي بن إبراهيم مسنداً عن عبداللّه بن سنان، عن الإمام أبي عبدالله(ع)، قال: سألته عن قوله اللّه عزّوجلّ: (فِطْرَةَ اللّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها)، ما تلك الفطرة؟ قال: هي الإسلام. فطرهم اللّه حين أخذ ميثاقهم على التوحيد قال: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)، وفيه المؤمن والكافر .(4)

- وروى أيضاً عن محمّد بن يحيى مسنداً عن زرارة قال: سألت الإمام أباعبدالله(ع) عن قول اللّه عزّوجلّ: (فِطْرَةَ اللّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها)

ص: 379


1- الأعراف : 172.
2- الروم : 30.
3- الكافي: 2/12 ح1؛ بحارالأنوار: 3/277 ح5.
4- الكافي: 2/12 ح2؛ الفصول المهمّة: 1/423 ح580.

قال: فطرهم جميعاً على التوحيد .(1)

- وروى أيضاً عن علي بن إبراهيم مسنداً عن زرارة، عن الإمام أبي جعفر(ع)، قال: سألته عن قول اللّه عز وجل: (حُنَفَاءَ للّه غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ)(2) قال: «الحنيفيّة من الفطرة التي فطر اللّه الناس عليها». (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ). قال: فطرهم على المعرفة به... .(3)

- وروى أيضاً عن علي بن إبراهيم مسنداً عن محمّد الحلبي، عن الإمام أبي عبدالله(ع) في قول اللّه عزّوجلّ: (فِطْرَةَ اللّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) قال: فطرهم على التوحيد .(4)

- وروى الصدوق عن أبيه مسنداً عن العلاء بن فضيل، عن الإمام أبي عبدالله(ع) قال: سألته عن قول اللّه عز وجل (فِطْرَةَ اللّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها). قال: التوحيد .(5)

- وروى أيضاً عن محمّد بن الحسن بن الوليد رحمه اللّه مسنداً عن زرارة، عن الإمام أبي عبدالله(ع) في قوله عز وجل: (فِطْرَةَ اللّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) قال: فطرهم على التوحيد .(6)

- وروى أيضاً عن محمّد بن الحسن بن الوليد رحمه اللّه مسنداً عن

ص: 380


1- الكافي: 2/12 ح2؛ بحارالأنوار: 3/278 ح8.
2- . الحجّ : 31.
3- الكافي: 2/12 ح3؛ بحارالأنوار: 64/135 ح7.
4- الكافي: 2/13 ح5؛ بحارالأنوار: 3/277 ح6.
5- التوحيد للصدوق: 328 ح1؛ بحارالأنوار: 3/277 ح4.
6- التوحيد للصدوق: 329 ح4؛ بحارالأنوار: 3/277 ح6.

عبدالرحمن بن كثير مولى أبي جعفر، عن الإمام أبي عبدالله(ع) في قول اللّه عزّوجلّ: (فِطْرَةَ اللّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) قال: التوحيد، ومحمّد رسول اللّه وعلي أميرالمؤمنين .(1)

- وروى أيضاً، عن أبيه مسنداً عن زرارة قال: قلت للإمام أبي جعفر(ع): أصلحك الله، قول اللّه عز وجل في كتابه: (فِطْرَةَ اللّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) قال: فطرهم على التوحيد عند الميثاق على معرفته أنّه ربّهم. قلت: وخاطبوه؟ قال: فطأطأ رأسه. ثمّ قال: لولا ذلك لم يعلموا من ربّهم ولا من رازقهم .(2)

- وروى أيضاً عن علي بن أحمد بن محمّد بن عمران الدقاق رحمه اللّه مسنداً عن فتح بن يزيد الجرجاني قال: كتبت إلى الإمام أبي الحسن الرضا(ع) أسأله عن شيء من التوحيد. فكتب إليّ بخطه: - قال جعفر: وإنّ فتحاً أخرج إلىّ الكتاب فقرأته بخطّ أبي الحسن(ع) - بسم اللّه الرحمن الرحيم، الحمد للّه الملهم عباده الحمد، وفاطرهم على معرفة ربوبيّته .(3)

- وروى الكليني عن علي بن إبراهيم مسنداً عن إسماعيل الجعفي، عن الإمام أبي جعفر(ع) قال: كانت شريعة نوح(ع) أن يعبد اللّه بالتوحيد والإخلاص وخلع الأنداد. وهي الفطرة التي فطر الناس عليها... .(4)

- وروى العياشي عن مسعدة عن الإمام أبي عبدالله(ع) في قول الله:

ص: 381


1- التوحيد للصدوق: 329 ح7؛ بحارالأنوار: 3/278 ح9.
2- التوحيد للصدوق: 330 ح8؛ بحارالأنوار: 3/278 ح10.
3- التوحيد للصدوق: 56 ح14؛ بحارالأنوار: 4/284 ح17.
4- الكافي: 8/282 ح424؛ بحارالأنوار: 11/331 ح53.

(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّه النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ...)(1)قلت: أفضلّالاً كانوا قبل النبيّين أم على هدى؟ قال: لم يكونوا على هدى. كانوا على فطرة اللّه التي فطرهم عليها لا تبديل لخلق الله. ولم يكونوا ليهتدوا حتى يهديهم الله. أما تسمع يقول إبراهيم: (لَئِن لَمْ يَهْدِنِي ربّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ)(2) ، أي: ناسياً للميثاق .(3)

بيان: توحيده تعالى عين معرفته سبحانه. بل كمال معرفته توحيده. فإنّ من الممكن جِدّاً حصول معرفته تعالى لأحد بحيث خرج عن البساطة بالنسبة إلى المعرفة ولم يشعر بعد بتوحيده، أي لم يخرج توحيده عن حدّ البساطة إلى التركيب. فهذه معرفة ضعيفة تحتاج إلى الاشتداد والتكامل. فلا ينفكّ توحيده تعالى عن معرفته أبداً. فعلى هذا من ادّعى معرفته تعالى وألحد ف-ي توحيده، فما عرف اللّه بالضرورة. فالمراد من معرفة التوحيد، معرفته تعالى متوحّداً بالألوهيّة.

وهكذا الكلام ف-ي جميع نعوته تعالى. فمن الممكن معرفته تعالى بالوحدانيّة ولم يشعر بغيرها من نعوت كماله وجماله وكبريائه. فلا يزال المؤمن تشتدّ وتزداد معرفته به تعالى إذ ليس للمعرفة به تعالى وتوحيده وكلّ واحد من نعوته حدّ ينتهي إليه العارفون. فلا محالة يمكن أن تزداد المعارف وتشتدّ من غير نهاية وحدّ. فالمراد من معرفة التوحيد ف-ي هذه الروايات الكثيرة معرفته تعالى متوحداً بالألوهيّة.

وأمّا حقيقة الفطرة والمراد منها ف-ي هذه الآيات والروايات الكثيرة ف-ي شرحها وتفسيرها، هي عين معرفته تعالى بتعريفه نفسه إلى عباده وبشي ء

ص: 382


1- البقرة : 213.
2- الأنعام : 77.
3- تفسير العياشي: 1/104 ح309؛ البرهان: 1/451 ح1109.

من نعوته سبحانه من الوحدانيّة والرازقيّة والخالقيّة وغيرها من النعوت الجليلة.

وهذه المعرفة ليست إلّا بتعريفه تعالى نفسه إليهم فيعرفونه تعالى بتعريفه، وليست إلّا فعله تعالى مستقيماً من دون اختيار منهم، وليست بكسب كاسب من باب العلوم والمعارف الحاصلة بالمقدّمات البرهانيّة، ولا متصوّراً بالوجه والعناوين والمفاهيم الكلّيّة، إذ ليست ذاته القدوس محكيّة ومتصوَّرة بالوجوه. بل تعريفه تعالى نفسه تعريفاً حقيقياً، عين فعله تعالى.

وأوّل درجات هذه المعرفة، تعريفه تعالى نفسه خارجاً عن حدّ التعطيل والتشبيه. والأسماء التي تطلق عليه تعالى ليست معرِّفات وحكايات عنه تعالى، بل هذا الإطلاق إنّما ف-ي مرتبة متأخّرة عن تعريفه تعالى نفسه إلى عباده. فلا يكون هو تعالى محكيّاً ومتصوِّراً بهذه الأسماء، بل هي تعبيرات عن الذات القدوس الخارجة عن الحدّين ف-ي مرتبة تحقّق المعرفة به تعالى.

وأمّا الإقرار والإيمان والتصديق به تعالى بما عرفوا وعاينوا من الحقّ المبين، فهي فريضة ذاتيّة يستقلّ بها العقل الضروريّ. والمراد من العقل ليس هو العقل الاصطلاحي، بل هي موهبة وكرامة من اللّه سبحانه على عباده وإلهام منه سبحانه. وهو الذي جعله تعالى ملاكاً للتكليف، وبه يحتج اللّه تعالى على عباده، وبه يثاب العباد ويعاقبوا، وهي حجّة على ذاته بذاته، وحجّة على جميع ما أدركه .(1)

ثمّ تعرّض شيخنا العلّامة1 لخمس طوائف أخرى من الآيات الدالّة على أنّ المعرفة فطريّة ومن أراد الاطّلاع عليها فليراجع ما ذكره .(2)

القسم الثاني وهو الاشكال على الاستدلال بالأخبار على الفطرة:

ص: 383


1- وحيد الإماميّة : 77 - 88.
2- توحيد الإماميّة : 88 - 110.

ذكر المستشكل الأخبار التي استدلّ بها القائل بالمعرفة الفطريّة في ذيل سبع طوائف، ثمّ استشكل على الاستدلال بكلّ طائفة بما سنوضّحه ونجيب عنه.

الطائفة الأولى: ما ورد في تفسير قوله تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّه)(1) فمنها ما روي عن أبي هاشم الجعفري عن الإمام أبي جعفر الثاني قال: قلت: (قُلْ هُوَ اللّه أَحَدٌ)(2) ما معنى «الأحد»؟ قال(ع): المجتمع عليهم بالوحدانيّة يقول: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ)(3) ، بعد ذلك له شريك وصاحبة(4) . ثمّ نقل رواية أخرى وبعد ذلك ذكر تقريب الاستدلال بهما على المعرفة الفطريّة، وإليك نصّ عبارته:

«وجه دلالتها على مرادهم أنّ المراد بالمجتمع عليه إجتماع الكلّ من المقرّ والمنكر ولا يتمّ من المنكر إلّا بالفطرة».

ثمّ استشكل على هذا التقريب بأنّ المراد من اجتماع الألسن اجتماع المقرّين من المخلصين والمشركين دون المنكرين، و ذكر لهذا التوجيه مؤيّدات سنذكرها.

وفيه أوّلا: أنّ السؤال في الخبرين عن معنى الواحد والأحد، فأجاب الإمام(ع) بأنّ معناهما إجتماع ألسن الجميع عليه بالتوحيد. ومن الواضح أنّه لا يصحّ هذا الجواب إلّا إذا أريد به إجتماع ألسن جميع الناس من الموحّد والمشرك والمنكر، وظهور الخبرين (لو لم نقل بصراحتهما) في ما ذكرنا واضح لا ريب فيه ولا وجه لتخصيص الخبرين بالمخلصين والمشركين، فإنّه تخصيص بلا مخصّص.

وثانياً: إنّ المستشكل توهّم أنّ الناس ينقسمون إلى ثلاث طبقات: الموحّدين والمشركين والمنكرين، وبطلان هذا التقسيم واضح لأنّ الناس ينقسمون - بحسب

ص: 384


1- الكافى : 2/12 ح4؛ بحارالأنوار: 64/135 ح7.
2- التوحيد : 1.
3- العنكبوت : 61.
4- هداية الأمّة إلى معارف الأئمّة : 39.

الأخبار - إلى الموحّد والكافر والضالّ، والكافر إمّا يكون منكراً وإمّا مشركاً. فالمشركون من الكفّار لأنّهم كفروا بالتوحيد كما أنّ المنكرين كفروا بالربوبيّة وقد مرّ ما يدلّ من الأخبار على أنّ أدنى المعرفة هو الإقرار بألوهيّة اللّه تعالى وأنّه لا شبيه ولا شريك له، فالمشركون كفّار لإنكارهم التوحيد.

وما توهّمه المستشكل من أنّ المشركين غير المنكرين هو السبب الوحيد في إنكاره مقالة القائلين بالمعرفة الفطريّة في استدلالهم بهذه الآية (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ والْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ)(1) .

وبعد اتّضاح كون المشرك كافراً، يظهر لك أنّ قوله تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) الآية والأخبار المفسّرة له تدلّ على إجتماع ألسن جميع الناس على التوحيد.

ويظهر لك أنّ ما ذكره المستشكل من أنّ هذه الآية والأخبار في مقام بيان حال المخلصين والمشركين دون المنكرين، لا وجه له.

وأمّا ما ذكره المستشكل من المؤيّدات لما ذكره في بيان مفاد الآية والأخبار المفسّرة لها، فنقول: قد استشهد أوّلاً بما قاله الإمام الكاظم(ع) في جواب هارون حين سأله عن معنى الزنديق، فقال7:

الزنديق هو الرادّ على اللّه وعلى رسوله قال اللّه تعالى (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ)(2) الآية وهم الملحدون عدلوا عن التوحيد إلى الإلحاد.

فقال هارون: أخبرني عن أوّل من ألحد وتزندق؟

فقال الإمام موسى الكاظم(ع): أوّل من ألحد وتزندق في السماء إبليس اللعين، فاستكبر وافتخر على صفيّ اللّه ونجيّه آدم فقال اللعين: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَني مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِين)(3) ، فعتى عن أمر ربّه وألحد فتوارث الإلحاد ذريّته إلى أن تقوم الساعة.

ص: 385


1- الكافى : 2/12 ح4؛ بحارالأنوار: 64/135 ح7.
2- المجادلة : 22.
3- الأعراف: 12، سورة ص: 76.

فقال: ولإبليس ذريّة؟

فقال: نعم ألم تسمع إلى قول اللّه (إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً * مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً)(1) لأنّهم يضلّون ذريّة آدم بزخارفهم وكذبهم، ويشهدون أن لا إله إلّا اللّه كما وصفهم اللّه في قوله تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ والْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّه قُلِ الْحَمْدُ للّه بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ)(2) أي أنّهم لا يقولون ذلك إلّا تلقيناً وتأديباً وتسمية ومن لم يعلم وإن شهد كان شاكّاً حاسداً معانداً، ولذلك قالت العرب: من جهل أمراً عاداه ومن قصر عنه عابه وألحد فيه لأنّه جاهل غير عالم .(3)

وجه التأييد هو ما ذكره المستشكل بقوله:

«فإنّه صريح ف-ي أنّ المخاطب ف-ي السؤال هم المقرّون مع الإنكار أو المنكرون مع الإقرار بل قول أبي جعفر(ع) ف-ي الرواية الأولى «بعد ذلك شريك وصاحبة» أي بعد الإقرار بأنّ خالق السماوات والأرض هو اللّه أيضاً ظاهر ف-ي أنّ جوابهم بالاعتراف ف-ي قوله تعالى (لَيَقُولُنَّ اللّه) شهادة عن الاعتقاد والاقرار، لا الالتفات إلى الفطرة بعد الانكار» .(4)

وفيه أوّلاً: أنّا نسلّم أنّ الخبر يدلّ على أنّ الشياطين الملحدين يشهدون أن لا إله إلّا اللّه مع إلحادهم وزندقتهم، ووجه شهادتهم بالتوحيد هو أنّهم لو سئلوا عمّن خلق السماوات والأرض ليقولنّ اللّه فالآية - بحسب مفاد هذا الخبر - تكون في حقّ المنكرين للتوحيد بقلوبهم مع الإقرار به بألسنتهم، كما أنّ الشياطين يكونون هكذا،

ص: 386


1- الكهف : 50 - 51.
2- الكافى : 2/12 ح4؛ بحارالأنوار: 64/135 ح7.
3- تحف العقول: 404؛ بحارالأنوار : 10/243 ح2.
4- هداية الأمّة إلى معارف الأئمّة : 26.

ولكن لايستفاد من هذا الخبر انحصار الآية في حقّهم بل المستفاد منه أنّ المنكرين مع الإقرار من مصاديقها.

ومن الواضح أنّ إثبات حكم لموضوع لا يدلّ على انتفائه عمّا عداه. فمن الممكن أن يكون للآية مصداق آخر غير المنكرين مع الإقرار. وقد دلّت الأخبار الصريحة على أنّ جميع الناس من مصاديق هذه الآية بحسب تعريف اللّه تعالى نفسه لهم في العوالم السابقة كما بينّاه في كتابنا «سدّ المفرّ على منكر عالَم الذرّ» وكذا راجع الكافي ج2 ص12 لترى صدق الدعوى.

وثانياً: إنّ غاية ما يمكن أن يستفاد من هذا الخبر - بحسب استظهار المستشكل - أنّ الآية المباركة تبيّن حال المنكرين مع الإقرار، فما هو وجه إلحاق المقرّين مع الإنكار بهم في كلامه؟

وثالثاً: إنّ استشهاد الإمام(ع) بهذه الآية في أخبار الذرّ إنّما هو لبيان حال أفراد الإنسان وأنّ جميعهم عاينوا ربّهم وعرفوه بتعريفه نفسه القدّوس لهم، واستشهاد الإمام(ع) بهذه الآية في هذا الخبر لبيان حال الشياطين.

ومن الممكن أن تكون الآية جارية في حقّ جميع أفراد الإنسان المقرّ منهم والمشرك والكافر والشاكّ والموحّد، وأمّا بالنسبة إلى الشياطين تكون جارية في حقّ المنكرين مع الإقرار دون غيرهم، ولا وجه لقياس الناس بالشياطين في الحكم المستفاد من الآية خصوصاً مع ورود الأخبار المطلقة في المقام.

ورابعاً: قد يكون للآية الواحدة معان متعدّدة، ويكون لها ظهر وبطن وبطن وبطن إلى سبعة بطون. فلو سُلّم لما ذكره المستشكل يمكن أن يقال أنّه من الممكن أن يكون هذا الخبر بصدد بيان بطن للآية، وما ورد في أخبار الذرّ بطن آخر لها.

ثمّ استشهد المستشكل ثانياً على ما ذكره في توجيه الخبر المرويّ عن أبي هاشم الجعفري وأنّ المراد منه اجتماع ألسن المقرّين والمشركين دون المنكرين بما ورد في ذيله من قول الإمام(ع) «بعد ذلك له شريك وصاحبة».

ص: 387

وفيه أوّلاً: أنّه قد مرّ مراراً أنّ المشركين يعدّون من المنكرين والكفّار وقد أوضحناه سابقاً.

وثانياً: إنّا لو سلّمنا ما ذكره في توجيه الخبر لأجل ما ورد في آخره، فلا وجه لهذا التوجيه ولا يجري في الخبر الآخر المرويّ عنه أيضاً بدون هذا الذيل. وقد نقله المستشكل بعد الخبر المبحوث عنه.

وثالثاً: إنّ مفاد الخبر الأوّل المنقول عن أبي هاشم الجعفري هو أنّ معنى الأحد في قوله تعالى (قُلْ هُوَ اللّه أَحَدٌ)(1) أي المجتمع عليه بالوحدانيّة ويدلّ على أنّه تعالى هو الذي اجتمع عليه الكلّ بالوحدانيّة، أي أنّهم لو سئلوا من خلق السماوات والأرض ليقولنّ الله. فهل يجوز بعد اجتماع الكلّ عليه بالوحدانيّة، ادّعاء الشريك أو الصاحبة له تعالى من بعضهم؟

وعلى ضوء ما ذكرنا، فجملة «بعد ذلك له شريك وصاحبة» التي تكون بصورة الإستفهام الإنكاري توبّخ من ادّعى له تعالى شريكاً وصاحبة بعد أن كان ممّن اجتمع على وحدانيّته تعالى، فليست هذه الجملة تفسيراً للآية كي تكون مخصّصة لها بالمشركين الذين ادّعوا شريكاً أو صاحبة له تعالى. والآية مذكورة بعد جملة «المجتمع عليهم بالوحدانيّة» بعنوان الدليل على اجتماع الكلّ على وحدانيّته تعالى، فلابدّ أن يكون المراد من الآية هو اجتماع جميع الناس من المشركين والمنكرين والمقرّين على وحدانيّته.(2)

الطائفة الثانية: ما ورد من الأخبار في تفسير قوله تعالى (فِطْرَةَ اللّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها)(3) الآية وقوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ ربّك مِن بَنِي آدَمَ)(4) الآية وفي بعضها استشهاد بآية

ص: 388


1- التوحيد : 1.
2- هداية الأمّة إلى معارف الأئمّة : 25.
3- الروم : 30.
4- الأعراف : 172.

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ والْأَرْضَ)(1) الآية فأجاب عنها بأنّها محمولة على الفطرة التشريعيّة، إلّا أنّ بعضها ممّا لا يأبى على الحمل عليها والبعض الآخر إنّما يتوهّم إباؤها لورود مثل قوله(ع) «ولولا ذلك لم يدر أحد من خلقه ولا من رازقه» وقوله(ع) «ثبتت المعرفة ونسوا الموقف» ثمّ عمد إلى بيان تلك الأخبار بنحو لا ينافي ما ذكره من إنكار المعرفة الفطريّة، وإليك نصّ عبارته:

وهذه الروايات كما ترى، بعضها غير آب عن الحمل على الفطرة التشريعيّة؛ كالأولى والثانية ف-ي السؤال عن الحنيفيّة، والبواقي إنّما يتوهّم إباؤها عن ذلك لمكان قوله(ع): «ولولا ذلك لم يدر أحد»؛ وقوله(ع): «ثبتت المعرفة ف-ي قلوبهم»؛ وهذا ظاهر ف-ي أنّ الفطرة، فطرة قلبيّة نفسيّة؛ ولكن بعضها كالصريح ف-ي اختصاص ذلك بعالم الذرّ عند أخذ الميثاق، كالرابعة.

ويؤيّده ما عن أبي بصير، قلت لأبي عبداللّه(ع): كيف علموا القول حيث قيل لهم: (ألست بربّكم)؟

قال(ع): «إنّ اللّه جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه؛ يعني، في الميثاق». وف-ي أخرى عنه(ع) ف-ي قوله: (ألست بربّكم)، قلت: قالوا بلى بألسنتهم؟ قال(ع): نعم، وقالوا بقلوبهم. فقلت: وأيّ شيء كانوا يومئذ؟ قال عليه السلام: صنع منهم ما اكتفى به».

فهذه الجملة (ولولا ذلك...)، لا يمنع من حمل جميعها على الاختصاص بذلك الوقت؛ لأنّه تعالى أراد أن يسألهم ويأخذ منهم الميثاق، فلابدّ أن يفطرهم بوجه يعرفونه فيجيبونه، إلّا أنّ قوله(ع): «ثبتت المعرفة...»، ربّما يناف-ي ذلك.

ص: 389


1- الكافى : 2/12 ح4؛ بحارالأنوار: 64/135 ح7.

وهذه الجملة، أظهر جملة فيها يتخيّل شهادتها على مراد المدّعين؛ لكنّها لو أبقيت على ظاهرها لزم منها الدعوى الكاذبة، لأنّ هذه الروايات تنبئ عن أمر واقعيّ عامّ، فلابدّ له من شاهد ظاهر ف-ي النفوس، لأنّها تدّعي ثبوتها لها، مع أنّه شيء لا يجده المقرّ ف-ي نفسه ولا المنكر.

أمّا المنكر، فظاهر؛ وأمّا المقرّ، فلأنّ أحدا من المقرّين لا يرى ف-ي نفسه إسناد إقراره إلى فطرته؛ بل إمّا مستند إلى تحقيقه واستدلاله، أو إلى رسوخه فيه بحسب نشأه ف-ي أهل الاقرار؛ فكيف يمكننا تصديق دعوى شيء على أنفسنا، مع أنّا لا نَرى ف-ي وجداننا منه أثر؟

ولا مجال للحمل على أنّها مخفيّة أو منسيّة؛ لأنّ ظاهر قوله(ع): «فثبتت المعرفة ونسوا ذلك الموقف...»، بل صريحه، أنّ المعرفة غير منسيّة، وأنّ المنسيّ هو الموقف؛ ولازم تلك الدعوى، أنّهم ينكرون ما يعرفون، ولازمه انحصار الإنكار والكفر ف-ي الجحود. وعليه، فلا يبقى محلّ لطرو الإلجاء والاضطرار إلّا لأجل الإلجاء إلى الإقرار؛ فلابدّ -- حينئذ -- من صرفها عن ظاهرها خروجاً من لزوم الكذب.

والوجه الصحيح، أن تحمل على أنّ الثابت هو التمكّن من المعرفة لا نفسها؛ يعني، أنّه تعالى ل-مّا عرّفهم نفسه وأراهم صنعه وجعل فيهم ما إذا سألهم، أجابوه ومكّنهم من المعرفة والقبول؛ ثمّ استنطقهم فأجابوه، وأخذ منهم الميثاق فأطاعوه؛ رفع عنهم تلك الأحوال وأنساهم ذلك المشهد؛ ولكن أبقى فيهم ذلك التمكّن من تحصيل المعرفة وادراكها وقبولها. فهذه الأخبار ردّ على القائل بالجبر ومنكر الاستطاعة.

وأمّا استشهاد الباقر(ع) ف-ي الحديث الخامس بقوله: (ولئن سألتهم...) فإنّه أيضاً لا يستقيم بظاهره؛ ويرد عليه ما أوردنا على قوله(ع): «... ثبتت المعرفة...»؛ فإنّ المسؤولين لو كانوا هم المشركين، فقد عرفت أنّ إقرارهم ليس مستنداً إلى الفطرة ولا عن تذكّر الفطرة، ولا عن كونهم مولودين على

ص: 390

الفطرة، ولا عن أنّه أراهم ف-ي عالم الذرّ نفسه وصنعه، ولو كانوا هم الغافلين.

فمع أنّ الحديث الثامن أثبت أنّهم لا يؤمنون؛ ومثله روايات أخرى ف-ي أخذ الميثاق، أنّ منهم من آمن ومنهم من جحد، ومن جحد هناك لم يؤمن هُنا، فكيف يمكن نسبتهم إلى الفطرة على الإقرار مع أنّهم لم يؤمنوا هناك؟

لم يكن إقرارهم أيضاً لو اقرّوا مستنداً إلى الفطرة، قابل إلى الاحتجاج والاستدلال بعد السؤال. فلابدّ لهذا الاستشهاد أيضاً من محمل، والمحمل أيضاً ما ذكرنا؛ وتوجيهه، أنّه(ع) أراد أنّه تعالى ل-مّا أراهم صنعه وعرّفهم نفسه بما صنع منهم ما يعرفون، ليعرفوا الخالق والرازق عن غيره، وثبتت الاستطاعة والتمكّن من المعرفة وتميّز الخالق عن غيره؛ ولم يرفع ذلك عنهم حتى أنّهم ولدوا أيضاً على هذه الفطرة من التمكّن والتمييز، فلذلك لئن سألتهم؛ يعني، هؤلاء المشركين، من خلق السماوات والأرض؟ فمع أنّهم يعبدون الأصنام، ليقولنّ اللّه دون الأصنام، لأنّهم يتمكّنون من معرفة الخالق والرازق وتمييزه عن غيره فقوله(ع): «يعني، على المعرفة بأنّ اللّه - عزّ وجلّ - خالقه» ف-ي تفسير قوله(ع): «يولد على الفطرة»، يحمل على التمكّن على المعرفة .(1)

وفيه أوّلاً: أنّ ما ذكره من حمل تلك الأخبار على الفطرة التشريعيّة وهكذا الآية المباركة (فِطْرَةَ اللّه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) مناف لظاهر الآية وصريح الأخبار، وقد أوضحنا مدلول الآية وقلنا أنّه لو كان المراد من تلك الآية والأخبار الواردة في تفسيرها هي الفطرة التشريعيّة، فلابدّ من أن تكون هكذا «فطرة اللّه التي فطرها للناس» وأن تكون الأخبار هكذا «فطر الإسلام أو التوحيد أو الولاية للناس».

ص: 391


1- هداية الأمّة إلى معارف الأئمّة : 41 - 43.

وثانياً: إنّ صرف إمكان حمل الخبر على معنى، لا يوجب ادّعاء دلالته عليه خصوصاً مع ظهوره في غيره.

وأمّا ما أجاب به عن استدلال المثبتين بالأخبار التي نسب إليهم توهّم عدم امكان حملها على الفطرة التشريعيّة لصراحتها في الفطرة التكوينيّة القلبيّة النفسيّة (كقوله(ع) «لولا ذلك لم يدر أحد من خالقه» وقوله(ع) «ثبتت المعرفة ونسوا الموقف» وقوله(ع) «فطرهم على التوحيد عند الميثاق») بأنّ فيها ما يكون كالصريح في اختصاصه بعالم الذرّ عند أخذ الميثاق لما ورد فيه «فطرهم على التوحيد عند الميثاق» ولما ورد في الخبر «ما إذا سألهم أجابوه يعني في الميثاق» ولما ورد في الخبر «وأيّ شيء كانوا يومئذ» فلا ينفع في إثبات الصانع في النشأة الدنيويّة.

ففيه: أنّ ما ذكره من اختصاص هذه الأخبار بعالم الذرّ متوقّف على كون الظرف في قوله(ع) «فطرهم على التوحيد عند الميثاق» ظرفاً للمفطور عليه وهو التوحيد مع أنّ الظاهر كونه ظرفاً للفعل.

والحاصل: إنّ المراد من الخبر هو أنّ اللّه تعالى فطرهم عند الميثاق (أي عند أخذ الميثاق) على التوحيد.

وكذا ما ذكره من اختصاصها بعالم الذرّ يتوقّف على أن يكون الظرف في قوله(ع) «إنّ اللّه جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه يعني في الميثاق» (بناء على كون جملة «يعني في الميثاق» من كلام الإمام لا من كلام الراوي) ظرفاً للمجعول لا للجعل، ويتوقّف أيضاً على أن يكون المجعول هو التوحيد والمعرفة مع أنّ الظاهر من الخبر أنّ جملة «يعني في الميثاق»(1) ظرف للفعل وهو الجعل لا للمفعول كما أنّ صريح الخبر أنّ الراوي سأل عن كيفيّة حصول المعرفة والعلم لهم بقوله تعالى (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) مع كونهم بصورة الذرّ فأجاب(ع) بأنّ اللّه جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه أي زوّدهم بالعقل واللسان

ص: 392


1- الكافي: 2/12 ح1؛ بحارالأنوار : 64/100 ح17.

كي تحصل لهم المعرفة والإقرار بعد تعريفه تعالى نفسه القدّوس لهم فالمجعول هو العقل واللسان لا المعرفة.

وأمّا الخبر الأخير المذكور في كلامه فهو صريح في أنّ الظرف «وأيّ شيء كانوا يومئذ»(1) ظرف للمفطورين على التوحيد والمعرفة ولا يحتمل أن يكون ظرفاً لنفس التوحيد والمعرفة.

وأمّا ما ذكره من أنّ جملة «و لو لا ذلك لم يدر أحد»(2) لا يمنع من حمل جميعها على الإختصاص بذلك الوقت.

ففيه أوّلاً: قد ظهر ممّا بيّناه في مفاد الأخبار بطلان ما ذكره من اختصاصها بعالم الذرّ.

وثانياً: إنّ جملة «و لولا ذلك لم يدر أحد من خالقه» تفيد الإستمرار أي لولا ذلك لم يدر أحد إلى الأبد من خالقه ولا من رازقه لا أنّه لم يدر في عالم الذرّ من خالقه.

وثالثاً: إنّ اسم الإشارة في قوله(ع) «لولا ذلك» اشارة إلى تعريف اللّه تعالى نفسه لا إلى عالم الذرّ ولا إلى تعريف اللّه نفسه في خصوص عالم الذرّ، فإنّه لا خصوصيّة في الزمان والمكان.

وحاصل الخبر أنّه لولا تعريف اللّه نفسه القدّوس لعباده لم يدر أحد من خالقه ولا من رازقه لأنّ المعرفة من صنع اللّه تعالى لا من صنع العباد.

وأمّا ما ذكره المستشكل في توجيه ما دلّ من الأخبار على ثبوت أصل المعرفة ونسيان الموقف نظير قوله(ع) «ثبتت المعرفة ونسوا الموقف وسيذكرونه يوماً» بعد الاعتراف بأنّ هذه الجملة تكون ظاهرة في ما ذكره المثبتون لعالم الذرّ ولكنّه قال لابدّ من توجيه هذه الجملة، فإنّها لو أُبقيت على ظاهرها، لزم منها الدعوى الكاذبة لأنّ هذه الروايات تنبئ عن أمر واقعيّ عامّ وهو ثبوت المعرفة في قلوب جميع الناس فلابدّ له

ص: 393


1- تفسير العياشى : 2/40؛ بحارالأنوار : 64/102 ح20.
2- تفسير القمي: 1/248؛ بحارالأنوار : 5/237 ح14.

من شاهد ظاهر في النفوس لأنّها تدّعي ثبوتها لها مع أنّه شيء لا يجده المقرّ في نفسه ولا المنكر.

أمّا المنكر فظاهر، وأمّا المقرّ فلأنّ لا أحد من المقرّين يرى في نفسه استناد إقراره إلى فطريته بل إمّا يسنده إلى تحقيقه واستدلاله أو إلى رسوخه فيه بحسب نشوئه في أهل الإقرار، فكيف يمكننا تصديق دعوى شيء على أنفسنا مع أنّه لا نرى في وجداننا منه أثراً؟

وأمّا التوجيه الذي ذكره لهذه الأخبار - بعد الاشكال عليها بما ذكرنا - فهو أنّ الوجه الصحيح حملها على أنّ الثابت هو التمكّن من المعرفة لا نفسها، يعني أنّه تعالى ل-مّا عرّفهم نفسه، وأراهم صنعه، وجعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه، ومكّنهم من المعرفة والقبول، ثمّ استنطقهم فأجابوه، وأخذ منهم الميثاق فأطاعوه، رفع عنهم تلك الأحوال، وأنساهم ذلك المشهد، ولكن أبقى فيهم ذلك التمكّن من تحصيل المعرفة وإدراكها وقبولها، فهذه الأخبار ردّ على القائل بالجبر ومنكر الإستطاعة فيرد عليه أمور:

أحدها: أنّه لا ريب في أنّ الإنسان مفطور بقضاء اللّه تعالى تكويناً على أمور كشكر المنعم وحبّ من أحسن إليه كما قال رسول الله(ص): «جبلت القلوب على حبّ من أحسن إليها وبغض من أساء إليها»(1) وقال(ص):«إنّ اللّه جبل قلوب عباده على حبّ من أحسن إليها وبغض من أساء إليها»(2) .

ومن الواضح أنّ ما فُطر عليه الإنسان تظهر آثاره في حالات خاصّة وعند حصول ما يقتضي ظهورها، كما إذا أحسن أو أساء شخص إلى آخر فحينئذ يظهر أثر ما يكون الإنسان مفطوراً عليه من الحبّ والبغض.

ومن الواضح أيضاً أنّه لا يلزم أن يعرف الإنسان حين ظهور آثار الحبّ والبغض في قبال من أحسن أو أساء إليه أنّ تلك الآثار مستندة إلى الأمر الفطريّ، ولا يلزم أن يعرف

ص: 394


1- تحف العقول: 37؛ بحارالأنوار : 74/142 ح18.
2- تحف العقول: 53؛ بحارالأنوار: 74/159 ح137.

(حين ظهور تلك الآثار) أنّه مفطور على الحبّ أو البغض بالنسبة إلى من أحسن إليه أو أساء.

ولا ريب في صحّة القول بأنّ الإنسان مفطور على حبّ من أحسن إليه وبغض من أساء إليه ولو لم يحسن أحد إليه أو لم يسئ إليه.

إذا عرفت ما ذكرنا، فنقول في جواب الاشكال أنّ الإنسان مفطور على معرفة اللّه تعالى ولكنّها تظهر في حال البأساء والضرّاء أو الدعاء وقراءة القرآن ونظائره، ولا يلزم أن يعرف في تلك الحالات أنّ المعرفة فطريّة ولا يلزم أن يعرف أنّ ما يظهر من آثار تلك المعرفة - مثلاً الإلتجاء والإنابة تستند إلى الأمر الفطريّ - فما ذكره المستشكل من أنّ المقرّ لا يرى استناد إقراره إلى الفطرة فلا تكون المعرفة فطريّة ظاهر البطلان لأنّه لا تلازم بينهما.

ومن الواضح أنّ المنكر يكون مقرّاً ومعترفاً بربّه تعالى في البأساء والضرّاء فإنّ في تلك الحالة ونظائرها يظهر أثر مفطوريّة الناس على المعرفة، فلا وجه لما ذكره من أنّ المنكر لا يكون مقرّاً حتى يرى اعتقاده مستنداً إلى الفطرة.

ثانيها: إنّ هذه الأخبار تدلّ على أنّ الإنسان ناس للموقف بإنساء اللّه تعالى ولذا لا يذكره أبداً. وأمّا المعرفة فهي ثابتة في قلبه ولكنّه لا يلزم من ثبوتها فيه تذكّره لها دائماً بل يمكن أن يكون غافلاً عن المعرفة كسائر الأمور الثابتة في قلب الإنسان. فمن أحبّ أحداً أو أبغض آخر لا يلزمه أن يتذكّر حبّه أو بغضه دائماً، مع أنّ الحبّ والبغض ثابتان في قلبه.

ثالثها: إنّ ما ذكره المستشكل من أنّه يلزم ممّا ادّعاه المثبتون وفقاً لظاهر تلك الأخبار من نسيان الموقف وثبوت أصل المعرفة وعدم نسيانها أمران:

الأوّل: أن يكون الإنكار والكفر منحصراً في الجحود حيث إنّ جميع الخلق عارفون بربّهم، فلا يتحقّق الكفر من أحدٍ إلّا بجحده وإنكاره.

الثاني: أن يكون طروّ البأساء والضرّاء ووقوع الإنسان فيها لأجل إلجائه إلى الإقرار

ص: 395

حيث إنّ الكفر لم يكن إلّا بالجحود والإنكار. وعلى هذا فلا ينفع في حصول الإيمان لأنّه لا يحصل للإنسان من حال البأساء والضرّاء التصديق ولا المعرفة بل يصير ملجئاً إلى الإقرار.

ففيه: مضافاً إلى ما قلنا سابقاً من أنّ المعرفة - بحسب الأخبار - ثابتة في القلوب ولا يستفاد منها أنّ الإنسان ذاكر للمعرفة دائماً، بل يمكن أن يكون الإنسان غافلاً عنها، ومضافاً إلى ما مرّ من أنّ الإلجاء والإضطرار ونحوهما ليسا إلّا من المقتضيات لظهور المعرفة الفطريّة، إنّا نقول بإنحصار الإنكار والكفر في الجحود كما ورد في الأخبار (1)(وهذا يشمل المشركين أيضاً كما يشمل الكفّار الجاحدين للربّ تعالى ذلك أنّهم انكروا وحدانيّة الربّ تعالى. ومن الواضح أنّ معرفته تعالى لا تنفصل عن معرفته متوحّداً بالألوهيّة، فالذي ينكر التوحيد، ينكر الربّ تعالى. نعم يمكن أن يكون الإنسان متذكّراً بأصل المعرفة من دون تذكّر إلى توحيده تعالى كما في خطبة أميرالمؤمنين(ع): «أوّل الدّين معرفته وكمال معرفته توحيده»(2) ولكن هذا غير الإنكار، فإنّ الإنكار يرجع إلى المعرفة وجحدها).

وأمّا بالنسبة إلى من لم يكن جاحداً للربّ تعالى فيمكن أن يكون ضالّاً كما ورد تقسيم الناس في الأخبار إلى المؤمن والكافر والضالّ .(3)

ولو أغمضنا عن جميع ما ذكرنا في نقد كلامه، نقول إنّ الإنكار في قبال الإقرار لا في قبال المعرفة فإنّ المعرفة ثابتة في قلوب جميع الناس إلّا أنّ بعضهم يقرّون وبعضهم ينكرون وفي حالة البأساء والضرّاء يحصل لجميعهم الإقرار على حسب تلك المعرفة الفطريّة.

ونقول أيضاً إنّ المعرفة الفطريّة التي تظهر للإنسان في حال البأساء والضرّاء معرفة

ص: 396


1- الكافي: 2/385 ح6؛ بحارالأنوار: 69/97 ح14.
2- الإحتجاج: 1/199؛ بحارالأنوار: 4/247 ح5.
3- . تفسير العياشي: 1/104 ح306؛ البرهان: 1/450 ح1106.

بسيطة شهوديّة بحيث يعاين العبد ربّه تعالى ويراه به ربّاً عالماً قادراً متعالياً عن جميع الأوهام والحواسّ، ويرى نفسه فقيراً عاجزاً ميّتاً جاهلاً قائماً بالغير، وهذا غير المعرفة العقليّة الحاصلة بالنظر إلى الآيات والآثار.

ويرد على ما ذكره من التوجيه لهذه الأخبار أيضاً أمور:

أحدها: أنّه خلاف الظاهر، فإنّ ظاهرها ثبوت أصل المعرفة في قلوب العباد لا ثبوت التمكّن من المعرفة.

ثانيها: أنّ المستشكل اعترف بأنّ اللّه تعالى عرّفهم نفسه وأراهم صنعه واستنطقهم فأجابوه وأخذ الميثاق فأطاعوه. وبعد حصول جميع هذه الأمور في عالم الذرّ، حكم بزوال المعرفة وبقاء التمكّن منها في قلوبهم، فما الدليل على ذلك؟ وما الوجه في الالتزام بما خالف ظواهر الأخبار الكثيرة بل صريحها؟

ثالثها: وأمّا ما ذكره من أنّ هذه الأخبار في مقام الردّ على القائل بالجبر، ففيه أنّه ينافي سياق هذه الأخبار الواردة في مقام بيان أنّ المعرفة من صنع اللّه تعالى وأنّه تعالى هو المعرّف لنفسه القدّوس ولولا ذلك لم يعرف أحد ربّه، كما يظهر لمن راجعها وتدبّر فيها.

وأمّا ما ذكره من أنّ استشهاد الإمام الباقر(ع) بقوله تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) الآية بأنّه لا يستقيم بظاهره لما مرّ من أنّ إقرارهم لا يمكن إسناده إلى الفطرة أو إلى تذكّر الفطرة أو إلى أنّهم رأوا ربّهم بإرائته في عالم الذرّ، لأنّ المخاطبين في هذه الآية هم المشركون. وقد وردت أخبار تدلّ على أنّ بعض الناس ومنهم المشركون لم يؤمنوا في عالم الذرّ، فكيف يمكن إسناد إقرارهم في الدنيا إلى إقرارهم في نشأة الذرّ؟ ثمّ عمد إلى توجيه هذا الخبر وحمّله على تمكّنهم من المعرفة وتمييز الخالق عن غيره، فلذلك إن سألتهم من خلق السماوات والأرض - فمع أنّهم يعبدون الأصنام - ليقولنّ اللّه دون الأصنام لأنّهم يتمكّنون من معرفة الخالق والرازق وتمييزه عن غيره.

ص: 397

وفيه أوّلاً: إنّ الفرق بين الإيمان والمعاينة والإقرار واضح، فإنّ الإيمان هو التصديق بالقلب وتارة يعبّر عنه بالإقرار القلبي، وأمّا المعاينة فهي عبارة عن الوجدان والرؤية سواء آمن الرائي والواجد بعدها أم لا، وأمّا الإقرار فتارة يكون بالقلب وهو الإيمان وتارة أخري يكون باللسان من دون الإقرار القلبي وهو النفاق.

وعلى ضوء ما ذكرنا نقول: إنّ المستفاد من الأخبار هو أنّ اللّه تعالى عرّف في العوالم السابقة نفسه لجميع العباد وأراهم نفسه بحيث عاينوا كلّهم ربّهم، وأخذ منهم الإقرار بوجدانهم ورؤيتهم ربّهم فأقرّوا جميعاً بأنّهم عاينوا ربّهم وحصلت لهم المعرفة به تعالى.

ثمّ إنّهم - بعد ذلك - انقسموا إلى المؤمن والكافر، فمنهم من آمن بربّه أي أقرّ بقلبه وصدّق به مضافاً إلى إقراره بلسانه، وبعضهم لم يؤمن بقلبه، فليس كلّ من أقرّ برؤيته ربّه تعالى ووجدانه إيّاه في تلك النشأة آمن به قلباً، ولذلك ورد في الأخبار أنّ البعض أقرّ باللّه تعالى بلسانه ولم يؤمن بقلبه، ومنهم من آمن به تعالى بقلبه ولسانه.

نعم، يستفاد من الأخبار أنّ الجميع رأوا ربّهم وعاينوه بتعريفه نفسه القدّوس إيّاهم و لذا من آمن به تعالى آمن به عن معرفة ومن كفر به بقلبه كفر به بعد المعرفة.

إذا عرفت ذلك نقول: إنّ المستشكل ل-مّا لم يفرّق بين الإقرار وأصل المعرفة والإيمان القلبي، وقع في الخلط وقال بأنّ إقرار المشركين لا يمكن إسناده إلى إقرارهم في العوالم السابقة لأنّهم لم يؤمنوا باللّه تعالى هنالك.

وبما ذكرنا، ظهر لك أنّ المشركين عاينوا ربّهم وحصلت لهم المعرفة بتعريف اللّه نفسه لهم، ثمّ أخذ اللّه تعالى منهم الإقرار على وجدانهم ربّهم ومعرفتهم به ولكنّهم لم يؤمنوا ولم يصدّقوا ولم يقرّوا بقلوبهم.

وظهر لك أيضاً أنّ إقرار المشركين مستند إلى معاينتهم ربّهم ووجدانهم إيّاه به تعالى في العوالم السابقة، لا أنّ إقرارهم في الدنيا لابدّ أن يكون مستنداً إلى إقرارهم في العوالم السابقة حتى يرد عليه ما ذكره المستشكل.

ص: 398

وثانياً: إنّ المراد من الإقرار الصادر عن جميع العباد في العوالم السابقة بعد تعريف اللّه تعالى نفسه هو الإقرار بأنّهم عاينوا ربّهم وعرفوه بتعريفه لا أنّهم أقرّوا جميعاً بأنّ اللّه تعالى ربّهم بالإقرار اللساني الناشئ من التصديق بالقلب، فإنّه لو أقرّوا جميعاً بهذا النحو من الإقرار فلابدّ أن يكونوا جميعاً مؤمنين، والأخبار المصرّحة بأنّ بعضهم أقرّوا بالقلب واللسان وبعضهم أقرّوا باللسان دون القلب وكذا قوله تعالى (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى) الآية يدلّان بالصراحة على أنّ الجميع أقرّوا بعد ما عرّف اللّه تعالى نفسه لهم، والجمع بينهما يكون بما ذكرنا فلاحظ:

* روى العلّامة المجلسي عن ابن أبي عمير عن ابن مسكان، عن أبي عبد الله(ع) في قوله : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَني آدَم مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا) قلت: معاينة كان هذا؟ قال: نعم، فثبتت المعرفة ونسوا الموقف وسيذكرونه، ولولا ذلك لم يدر أحد من خالقه ورازقة، فمنهم من أقرّ بلسانه في الذرّ ولم يؤمن بقلبه، فقال الله: (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كذّبُوا بِهِ مِنْ قَبْل)(1) .

وثالثاً: إنّ ما ذكره المستشكل في بيان مفاد الآية المباركة من أنّ المراد منها أنّ المشركين قادرون ومتمكّنون من الإقرار باللّه تعالى بعد التذكّر والتوجّه إلى آثار صنعه تعالى مع أنّه لم يفرّق بين الإقرار والإيمان غير صحيح، لأنّه من الواضح أنّ الآية بصدد توبيخ المشركين بسسب شركهم مع أنّهم لو سئلوا (في حال كونهم مشركين) عمّن خلق السماوات والأرض ليقولنّ الله. وعلى هذا نقول في الجواب (عمّا ذكره المستشكل في بيان مفاد الآية): هل يكون إقرار المشركين بعد التذكّر بالآيات في حال كونهم مشركين أو في حال كونهم مؤمنين؟

أمّا الأوّل فلا يمكن المصير إليه لأنّ من أقرّ (بالمعنى الذي أراده المستشكل وهو التصديق) باللّه تعالى بعد التذكّر إلى الآيات، فلا يكون مشركاً قطعاً.

ص: 399


1- تفسير القمي: 1/248؛ بحارالأنوار: 5/237 ح14.

وأمّا الثاني فهو أيضاً ممّا لا يمكن المصير إليه لأنّ الآية بصدد توبيخ المشركين كما أوضحناه.

إن قلت: إنّ المراد من الآية هو توبيخ المشركين على شركهم مع أنّهم بعد التذكّر بالآيات يؤمنون باللّه تعالى بألسنتهم وقلوبهم.

قلت: إنّ كثيراً من المشركين لا يؤمنون باللّه تعالى حتى بعد التذكّر بالآيات لعنادهم للحقّ، وحكايته تعالى هذا الجواب عن جميع المشركين دليل على أنّ جميعهم يقرّون باللّه تعالى.

ومن الواضح أنّ إقرار الجميع لا يتأتّى إلّا إذا رأوا ربّهم به تعالى كما حصل لهم ذلك في نشأة الذرّ، مضافاً إلى أنّ ما ذكره المستشكل لا يساعده لأنّه فسّر الآية بأنّ المشركين متمكّنون من المعرفة الفطريّة بعد التذكّر بالآيات.

إن قلت: يرد هذا الاشكال بعينه على ما ذهبتم إليه من أنّ الآية في مقام بيان ظهور المعرفة الفطريّة.

قلت: بما أنّا فرّقنا بين المعرفة القلبيّة الوجدانيّة وبين الإقرار اللساني وبين الإيمان القلبي، لا يرد علينا ما أوردناه على المستشكل لأنّ المشركين إنّما يجيبون عن سؤال السائل بالنظر إلى المعرفة الوجدانيّة الشهوديّة ومع ذلك فهم باقون على شركهم لعدم عقد قلوبهم على معرفة اللّه تعالى وعدم التصديق به بعد الرؤية والوجدان به تعالى.

ولو حصل لهم التصديق به تعالى والإقرار القلبي به في حالة ظهور المعرفة الفطريّة كما يستفاد من الآية المباركة (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)(1) فهو لأجل شدّة الظهور ووجدانهم فقرَهم إلى الربّ المتعال القادر على دفع الضرر والخطر عنهم.

إن قلت: إنّ المعرفة الشهوديّة والمعاينة والرؤية حصلت لجميع العباد في عالم

ص: 400


1- العنكبوت : 65.

الذرّ مع أنّه لم يؤمنوا جميعاً كما هو صريح الأخبار، فكيف يؤمنون جميعاً في الدنيا بعد ظهور تلك المعرفة في البأساء والضرّاء؟

قلت: أنّه حصلت لهم المعرفة الشهوديّة والمعاينة في نشأة الذرّ ولكنّهم لم يضطرّوا ولم يقعوا في المآزق الشديدة كما يضطرّون في الدنيا بمقتضى الحكمة الربّانيّة والرأفة الإلهيّة. ولذا لم يؤمن الجميع بقلوبهم في النشأة السابقة وآمن الجميع بقلوبهم في البأساء والضرّاء وإن رجع أكثرهم إلى شركه وكفره بعد الخروج من تلك الحالة.

أضف إلى ذلك أنّ الجميع وإن لم يؤمنوا باللّه تعالى في النشأة السابقة لتكبّرهم عن الإنصياع إلى ربّ الأرباب إلّا أنّ جميعهم أقرّوا به تعالى فقالوا «بلى».

وأمّا ما ذكره في توجيه قوله(ع) «يعني على المعرفة بأنّ اللّه عزّوجلّ خالقه في تفسير قوله(ص) يولد على الفطرة» فسيأتي ضعفه في الجواب عن التوجيه الذي ذكره في الطائفة الثالثة.

الطائفة الثالثة: الأخبار الدالّة على أنّ كلّ مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه اللذان يهوّدانه وينصّرانه. وقال المستشكل في توجيهه أنّه لا يمكن حمل هذه الأخبار على معرفة الصانع لأنّه من الواضح أنّ اليهود والنصارى مقرّون بالربّ، ولذا لابدّ من حمل الفطرة على الطبيعة الساذجة الصرفة الخالية التي يتمكّن الناس معها من قبول الحقّ وتمييز الباطل.

ثمّ استشهد على كلامه بما رواه الكافي عن أبي عبدالله(ع) حيث قال «إنّ اللّه عزّوجلّ خلق الناس كلّهم على الفطرة التي فطرهم عليها لا يعرفون إيماناً بشريعة ولا كفراً بجحود ثمّ بعث اللّه الرسل تدعوا العباد إلى الإيمان به فمنهم من هدى اللّه ومنهم من لم يهد الله» (1)وإليك نصّ عبارته:

ص: 401


1- الكافي : 2/416 ح1؛ بحارالأنوار: 66/212 ح1.

ومنها: قوله(ص): «كلّ مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهوّدانه وينصّرانه»؛ والظاهر من السيّد المرتضى رحمه اللّه أنّه ممّا نقله العامّة والخاصّة، وهو أيضاً لا يدلّ على مرادهم؛ فإنّ الفطرة هنا لا يراد بها فطرة معرفة الصانع، بقرينة يهوّدانه وينصّرانه، إذ اليهود والنصارى مُقرّون بالربّ؛ بل المراد بها الفطرة الأوليّة؛ أي الطبيعة الساذجة الصرفة الخالية، التي يتمكّن معها من قبول الحقّ وتمييز الباطل .(1)

ويرد عليه أوّلاً: أنّه لابدّ من تفسير الفطرة بصورة تتناسب مع قوله(ص) «حتى يكون أبواه يهوّدانه وينصّرانه»(2) لأنّ الفطرة في الخبر تقابل اليهوديّة والنصرانيّة.

ومن الواضح أنّ اليهود والنصارى ليسوا عارفين باللّه تعالى لأنّ معرفة اللّه تعالى لا تنفكّ عن معرفة توحيده، فليس العارف بوجود الصانع من دون الإقرار بوحدانيّته بعارف حقيقة. وبما أنّ اليهود والنصارى يقولون بالولد للّه تعالى، فلا يكونون عارفين باللّه تعالى حقيقة.

وعلى هذا، فالمراد من الفطرة هي معرفة اللّه تعالى بوحدانيّته وسائر كمالاته، ولذا حينما يقع الإنسان في البأساء والضراء يتوجّه ويتضرّع إلى اللّه وهو الذات المألوه فيه المنزّه عن جميع النقائص، لا أنّه يتوجّه ويتضرّع إلى خالق وصانع ما، فإنّه لا معنى للتوجّه والتضرّع والإنابة إلى الكلّي. ومن هنا عبّر القرآن في بيان من يلتجئ ويتضرّع إليه الكلّ في البأساء بهذا التعبير (لَيَقُولُنَّ اللّه)(3) أو (دَعَوُا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)(4) ولم يعبّر بأنّهم توجّهوا إلى صانع ما، وهذا ممّا يدلّ على توجّههم إلى وحدانيّته وألوهيّته وسائر كمالاته.

ص: 402


1- هداية الأمّة إلى معارف الأئمّة : 43 - 44.
2- عوالي اللئالي: 1/35 ح18؛ بحارالأنوار : 3/281 ح22.
3- العنكبوت : 61 و63 ؛ لقمان : 25 ؛ الزّمر : 38 ؛ الزخرف : 87.
4- العنكبوت : 65.

وثانياً: إنّ الأخبار فسّرت الفطرة بالتوحيد ومعرفة اللّه ومعرفة نبيّه ووليّه والإسلام.

نعم، لا يستغني المولودون على الفطرة عن تذكير الأنبياء، ولذا تكون معرفتهم بسيطة وتحتاج في تجلّيها إلى تذكير الأنبياء.

وأمّا ما ذكره من التأييد بقول الإمام الصادق(ص) «لا يعرفون إيماناً بشريعة ولا كفراً بجحود»(1) ففيه:

أوّلاً: إنّه لا يفسّر الفطرة كما هو واضح، إنّما يبيّن احتياج الناس إلى تذكير الأنبياء: وأنّه لولا تذكير الأنبياء لما خرجت معرفتهم من البساطة.

وثانياً: إنّ هذا الخبر بصدد بيان أنّ الناس لم يُخلقوا مؤمنين أو كافرين وهم مستغنون عن الأنبياء والرسل، بل خلقوا بحيث يستطيعون ويقدرون على الإيمان والكفر ببركة هداية اللّه وتوفيقه أو خذلانه.

وأمّا ما ذكره من لزوم حمل قوله(ع) «المعرفة بأنّ اللّه عزّوجلّ خالقه» في تفسير قوله(ص) «يولد على الفطرة»(2) ، على التمكّن من المعرفة.

فيرد عليه أوّلاً: بأنّه خلاف ظاهر الخبر. فإنّ ظاهره تفسير الفطرة بالمعرفة بأنّ اللّه خالقه، فيكون مفاد الخبر (بعد أخذ ما ذكرنا سابقاً - من أنّ الفطرة لغة عبارة عن نوع الخلقة - بعين الاعتبار) أنّ نوع خلقة الإنسان خلقةٌ على معرفة اللّه تعالى، فأين موقع التمكّن من المعرفة في هذا الخبر؟

وثانياً: إنّ الإمام فسّر الفطرة بمعرفة ألوهيّة اللّه تعالى لا بمعرفة خالق ما، وهذا لا يتناسب إلّا مع المعرفة الفطريّة التي بيّناها.

وثالثاً: إنّ هذا الخبر المنقول في الكافي نُقل في ذيل الخبر المرويّ عن النبي(ص) و ليس الإمام الّا في مقام بيان تعريف اللّه نفسه القدّوس لجميع العباد في عالم الذرّ.

ومع أخذ ذلك بعين الاعتبار ، نقل(ع) ما قاله النبيّ(ص) «كلّ مولود يولد على

ص: 403


1- . الكافي : 2/416 ح1؛ بحارالأنوار: 66/212 ح1.
2- الكافي : 2/12 ح3؛ البرهان: 4/712 ح9229.

الفطرة» ثمّ بعد ذلك فسّر الإمام(ع) الفطرة في كلام النبيّ بالمعرفة بأنّ اللّه خالقه. فهل يكون كلامه(ع) (يعني المعرفة) مع كونه في ذيل ما ذكره إلّا صريحاً في مقالة المثبتين للمعرفة الفطريّة؟ وإليك نصّ الخبر حتى يظهر لك ما ذكرنا.

* عن زرارة عن أبي جعفر(ع) قال: سألته عن قول اللّه عزّوجلّ (حُنَفاءَ للّه غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ)؟

قال: الحنيفيّة من الفطرة التي فطر اللّه الناس عليها (لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّه) قال فطرهم على المعرفة به.

قال زرارة: وسألته عن قول اللّه عزّ وجلّ (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) الآية؟

قال: أخرج من ظهر آدم ذرّيّته إلى يوم القيامة فخرجوا كالذرّ فعرّفهم وأراهم نفسه، ولولا ذلك لم يعرف أحد ربّه وقال قال رسول الله(ص): كلّ مولود يولد على الفطرة، يعني المعرفة بأنّ اللّه عزّوجلّ خالقه كذلك قوله (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ والْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّه) .(1)

الطائفة الرابعة: ما دلّ على ثبوت الحجّة بالفطرة نظير قول الإمام الرضا(ع) «بالفطرة تثبت حجّته» وقد قال المستشكل في توجيه الخبر ما حاصله أنّ هذه الخطبة تضاهي خطب أميرالمؤمنين(ع) كقوله «بالفكر تثبت حجّته» فيكون احتمال التصحيف فيها قويّاً خصوصاً أنّ ثبوت الحجّة بالفكر أظهر من ثبوته بالفطرة.

ثمّ قال لا وجه لذكر الفطرة بعد العقل في الخبر لأنّ ربوبيّة اللّه تعالى ثبتت بالعقل فأيّ احتياج إلى الفطرة خصوصاً مع ذكر الإمام(ع) لِ-جَعْلِ اللّه الخلق دليلاً عليه

ص: 404


1- الكافي : 2/12 ح4؛ بحارالأنوار: 64/135 ح7.

فكشف بذلك عن ربوبيّته!

ثمّ قال: بل لا تأبى الرواية (بناء على كون الخبر بالفطرة تثبت حجّته)(1) على الحمل على الفطرة التشريعيّة.

ثمّ احتمل أن يكون المراد من الفطرة بمعنى الفطور والحدوث كقوله(ع) «وبفطورها على قدمته» ولذا يكون معنى الحديث أنّه تثبت حجّة اللّه تعالى بحدوث الكائنات وإليك نصّ عبارته:

ومنها: خطبة الإمام الرضا(ع) بمحضر المأمون: «بِصنع اللّه يستدلّ عليه، وبالعقول تعتقد معرفته، وبالفطرة تثبت حجّته...»؛ لكنّ هذه الخطبة توافق خطبة أميرالمؤمنين(ع) ف-ي أكثر العبارات، وهذه العبارة بعينها ف-ي خطبته(ع) موجودة، وفيها: «بالفكر تثبت حجّته»(2)؛ فاحتمال التصحيف ف-ي خطبة الإمام الرضا(ع) ظاهر؛ مع أنّ ثبوت الحجّة بالفكر، أظهر وأنسب من ثبوته بالفطرة. مع أنّه لا يبقى بعد قوله(ع): «بصنع اللّه يستدلّ عليه وبالعقول تعتقد معرفته» للفطرة معنى ولا مجال، خصوصاً أنّه(ع) قال (بلا فصل): «جعل الخلق دليلاً عليه فكشف به عن ربوبيّته»، فلو كانت الفطرة ثابتة وبها تثبت الحجّة، فأيّ معنى بعدها لجعله الخلق دليلاً عليه وكاشفاً عن ربوبيّته؟

ولو بنينا على أنّ العبارة غير مصحّفة، فالفطرة قابلة للحمل على الشرع والدين، فالمعنى أنّ بشرعه تعالى الدين؛ كما قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصّى بِهِ نُوحاً...)(3) ، ثبتت حجّته؛ كما قال: (لِئَلاَّ يَكُون لِلنَّاسِ عَلَى اللّه حُجَّةً بَعْدَ الرُّسُلِ...)(4) . ويمكن أن تكون الفطرة من الفطور بمعنى

ص: 405


1- التوحيد للصدوق: 1/34 ح2؛ بحارالأنوار : 4/228 ح3.
2- الإحتجاج: 1/200؛ بحارالأنوار : 4/253 ح6.
3- شورى : 13.
4- النساء : 165.

الحدوث؛ كقوله أي الرضا(ع) أيضاً: «مستشهد بكليّة الأجناس على ربوبيّته، وبعجزها على قدرته، وبفطورها على قدمته»(1) فالمعنى أنّ بحدوث الأشياء الذي يُرى بالعيان ثبتت حجّته، فإنّ الحدوث، حجّة على ثبوت ال-مُحدِث .

ويرد عليه أوّلاً: أنّ ما روي عن الإمام الرضا(ع) حديث على حدة فلا وجه لإرجاعه إلى ما روي عن أميرالمؤمنين(ع)، وادّعاء اتحادهما بمجرّد المشابهة في بعض العبارات مجازفة. فإنّ المشابهة في الألفاظ أو المضامين أو كليهما لو كانت دليلاً على اتّحاد المتشابهين، لاتّحد كثير من الأخبار، وبطلان هذا الإدّعاء غير خفيّ على من تتبّعها.

وثانياً: أنّه لا وجه لكون ثبوت الحجّة بالفكر أظهر وأنسب من ثبوته بالفطرة، بل ثبوت الحجّة بالفطرة أظهر من ثبوتها بالفكر، لأنّ الفطرة توجب الرؤية والمعاينة والوجدان، ولأنّ المعرفة الفطريّة تحصل لجميع الناس بتعريف اللّه نفسه القدّوس، وتظهر هذه المعرفة لجميعهم بالوقوع في البأساء والضرّاء لتتمّ الحجّة عليهم من اللّه تعالى بخلاف المعرفة العقليّة المتقوّمة بالتفكّر، فإنّ كثيراً من الناس لا يتفكّرون، ولذا ذمّهم اللّه تعالى على ذلك في محكم كتابه.

وثالثاً: ما ذكره من أنّه لا وجه للفطرة بعد دلالة العقل مخدوش، إذ لو أُريد منه أنّه لا وجه لثبوت الحجّة بالفطرة بعد ثبوتها بالعقل، ففيه أنّ تأكيد الحجّة على الخلق بتعدّدها - خصوصاً في هذه المسألة المهمّة التي هي في غاية الأهمّية - هو الموجب لثبوت الحجّة.

وإن أُريد منه أنّه لا وجه لذكر الفطرة بعد العقل، ففيه أنّه مع تعدّدهما يكون ذكر الفطرة بعد العقل لبيان تغايرهما وصرف مجيء «جعل الخلق دليلاً عليه فكشف به عن ربوبيّته»(2) لا يدلّ على عدم صحّة ذكر الفطرة، كما أنّه لا يدلّ على اتّحاد المعرفة

ص: 406


1- التوحيد للصدوق: 1/69 ح26؛ بحارالأنوار : 4/222 ح2.
2- . الإحتجاج: 1/200؛ بحارالأنوار : 4/253 ح6.

الفطرية مع المعرفة العقليّة كما هو واضح.

ورابعاً: إنّ ما ذكره من إمكان حمل الفطرة على الفطرة التشريعيّة باطل، لأنّ صدر الخطبة وذيلها في بيان التوحيد والحجج التي أقامها اللّه تعالى عليه للعباد من العقل والفطرة وليست بصدد بيان التشريع من اللّه تعالى. والفطرة التشريعيّة لا تثبت الحجّة في مسألة معرفة الباري وتوحيده وإن كانت حجّة في الأحكام وسائر مسائل الدين بعد معرفة اللّه تعالى ومعرفة خلفائه.

وخامساً: ما ذكره من أنّه يمكن أن تكون الفطرة من الفطور بمعنى الحدوث، لا يمكن المساعدة عليه إذ الفطرة مشتقّة من فَطَر بمعنى اخترع أو بمعنى ابتدع أو بمعنى أنشأ ومعناها - كما في اللغة - نوع الخلقة والصفة التي يتّصف بها كلّ موجود في أوّل زمان خلقته، فليست الفطرة بمعنى الحدوث كما احتمله المستشكل.

وأمّا كون الفطور في الخبر الآخر (عن الإمام الرضا(ع) عن آبائه عن أميرالمؤمنين(ع)) بمعنى الحدوث، فلو صحّ ما ادّعاه في معناه فهو لا يدلّ على كون الفطرة أيضاً بهذا المعنى، مضافاً إلى أنّ الفطور ليس بمعنى الحدوث بل هو أيضاً كالفطرة بمعنى الإبداع والإختراع والإنشاء، و لازم ذلك هو الحدوث. وقد جاء بمعناه الأصلي في كلامه(ع) «وبالفطور على قدمته».

الطائفة الخامسة: ما روي عن الإمام الرضا(ع) من كون اللّه تعالى فطر العباد على معرفة ربوبيّته «الحمد للّه الملهم عباده الحمد وفاطرهم على معرفة ربوبيّته الدالّ على وجوده بخلقه وبحدوث خلقه على أزليّته»(1) وقال المستشكل في بيان الخبر بأنّ المراد من الفطرة هنا خصوص الفطرة التشريعيّة أي جعل معرفته فطرة وصبغة لهم فدعاهم إليها، أو طبيعيّة ولكن الطبيعة الإطلاقيّة القابلة لكلّ شيء أي جعلهم مفطوراً على قبول معرفته بالاستدلال كما قال(ع) «الدالّ على وجوده بخلقه» وإليك نصّ عبارته:

ص: 407


1- التوحيد للصدوق: 1/56 ح14؛ بحارالأنوار : 4/284 ح17

والفطرة هنا، إمّا تشريعيّة: أي جعل معرفته فطرة وصبغة لهم فدعاهم إليها؛ أو طبيعيّة، ولكن الطبيعة الإطلاقيّة القابلة لكلّ شيء؛ أي جعلهم مفطوراً على قبول معرفته بالاستدلال؛ كما قال(ع): «الدالّ على وجوده بخلقه...»(1) .

أقول: إنّه لابدّ في توضيح ضعف ما ذكره في توجيه هذا الخبر من بيان عدّة أمور:

الأوّل: أنّ قوله(ع) «الحمد للّه الملهم عباده الحمد» يدلّ على أنّ اللّه تعالى هو الذي عرّف نفسه للعباد بالحياة والعلم والقدرة والقيوميّة وسائر الكمالات بحيث يستحقّ الحمد من الجميع بل لا يجوز حمد غيره الّا بإذنه.

الثاني: أنّ ما ذكره المستشكل من أنّ قوله(ع) «وفاطرهم على معرفة ربوبيّته» يدلّ على أنّ اللّه تعالى فطرهم بالفطرة التشريعيّة، مردود فإنّ المراد منه هو أنّ اللّه تعالى فطرهم بالفطرة التكوينيّة على معرفة ربوبيّته لوجهين:

أحدهما: أنّ معنى الفطرة - كما أوضحناها سابقاً - هو نوع الخلقة، وعلى هذا فالخبر يدلّ على أنّ اللّه تعالى خلقهم بنوع من الخلقة وهو كونهم عارفين بربوبيّته.

ثانيهما: أنّه يستفاد من المقابلة بين جملة «الحمد للّه الملهم عباده الحمد» وجملة «وفاطرهم على معرفة ربوبيّته» وجملة «الدالّ على وجوده بخلقه» وجملة «وبحدوث خلقه على أزليّته» أنّ المعنى المراد من كلّ جملة يغاير المعنى المراد من الجملة الأخرى. فمن الواضح أنّ جملة «الدالّ على وجوده بخلقه» إرشاد وتذكير إلى ما يجده الإنسان بنور العقل من أنّ المصنوع يحتاج إلى الصانع، والمخلوق يحتاج إلى الخالق وجملة «وبحدوث خلقه على أزليّته» إرشاد إلى ما يكشفه الإنسان بنور العقل من أنّ الخالق للمخلوق الحادث لابدّ أن يكون أزليّاً لأنّه لو لم يكن أزليّاً لكان مصنوعاً.

إذا عرفت ما ذكرنا من تغاير مفاد الجملة الثالثة مع الرابعة، نقول: إنّ الجملة الأولى

ص: 408


1- التوحيد للصدوق: 1/56 ح14؛ بحارالأنوار : 4/285 ح17.

و الجملة الثانية تدلّان على معنيين مغايرين لمكان الجملة الثالثة والرابعة، كما أنّ الجملة الأولى تدلّ على معنى مغاير للمعنى المستفاد من الجملة الثانية، فإنّ المستفاد من الجملة الأولى هو أنّ اللّه تعالى عرّف العباد جميع كمالاته التي يستحقّ الحمد عليها بخلاف الجملة الثانية الدالّة على أنّ اللّه تعالى فطرهم على معرفة خصوص الربوبيّة.

فبعد ما ظهر لك تغاير كلّ جملة مع سائر الجمل في المعنى المراد، يتّضح لك ضعف ما ذكره المستشكل في توجيه الجملة الثانية من أنّ المراد منها هي المعرفة العقليّة واتّحادها مع الجملة الثانية في المفاد.

الثالث: إنّ ما ذكره من أنّ المراد من جملة «الدالّ على وجوده بخلقة» هو أنّ الإنسان يتمكّن من معرفة الخالق بالمخلوق، مردود لوجهين:

أحدهما: إنّ الظاهر منه اكتسابيّة المعرفة، ولا شكّ أنّ معرفة اللّه تعالى ليست تحصيليّة إنّما هي وهبيّة ومن صنع اللّه تعالى.

ثانيهما: إنّه من الواضح أنّ قوله «الدالّ على وجوده بخلقه» في مقام بيان ما صنعه اللّه تعالى لا بيان حال الإنسان وأنّه متمكّن من قبول المعرفة.

الطائفة السادسة: خطبة أميرالمؤمنين(ع) «فبعث فيهم رسله وواتر فيهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته»(1) وأجاب المستشكل عن الإستدلال بها على مقالة المثبتين بأنّ المراد من الفطرة فيها هي التشريعيّة لا التكوينيّة لوجوه:

أحدها: إنّ الأنبياء مبعوثون لتبليغ الدين ولم يبعثوا لتبليغ التوحيد وحده، والخطبة ظاهرة في بيان الغرض من بعث الأنبياء:. فمع أنّ الأنبياء مبعوثون لتبليغ الدين كلّه - لا لخصوص التوحيد - فلابدّ أن يكون المراد من الفطرة هي الفطرة الدينيّة والتشريعيّة لا الفطرة التكوينيّة حتى تختصّ بالتوحيد وحده.

ص: 409


1- نهج البلاغة: 43 الخطبة 1؛ بحارالأنوار : 11/60 ح70.

وثانيها: إنّ كثيراً من الأنبياء بل أكثرهم إنّما بعثوا إلى قوم مقرّين باللّه تعالى (سواء كانوا من المشركين أو من المؤمنين فإنّ المشركين يعدّون من المقرّين لدى المستشكل) فلا يكون الغرض من بعثتهم حصول المعرفة باللّه حتى تُحمل جملة «ليستأدوهم ميثاق فطرته» على ما ذكره المثبتون، وعلى هذا فالمراد منها هي الفطرة التشريعيّة.

ثالثها: إنّ سيرة الأنبياء كانت على الاحتجاج والاستدلال لا على مطالبة الناس بالتوحيد وايكالهم إلى فطرتهم.

أقول: إنّ الوجوه المذكورة كلّها مردودة.

أمّا الوجه الأوّل ففيه أوّلاً: إنّ اللّه تعالى فطر الناس كلّهم على الدين كلّه بالفطرة التكوينيّة لا على خصوص التوحيد كما ذكرناه في كتابنا «سدّ المفرّ على منكر عالَم الذرّ».

وثانياً: إنّ الفطرة في اللغة بمعنى نوع الخلقة كما مرّ ذلك، و بناء عليه فلا وجه لحملها على الفطرة التشريعيّة.

وثالثاً: إنّ المستفاد من الخطبة هو أنّ اللّه تعالى بعث الأنبياء لاستيداء ميثاق يكون في فطرة الناس. ومن الواضح أنّ ما ذكره المستشكل في توجيهه من أنّ اللّه تعالى خلق الإنسان بحيث يكون متمكّنا من قبول الدين ينافي المستفاد من الخبر لأنّه لا يكون حينئذ ميثاقاً ولا معنى لاستيدائه.

فظهر ممّا ذكرنا أنّه لا معنى لهذه الجملة «ليستأدوهم ميثاق فطرته» إلّا ما ذكرنا من الفطرة التكوينيّة خصوصاً مع ملاحظة المقابلة بينها وبين جملة «ويثيروا لهم دفائن العقول» المشيرة إلى ما يستكشفه الإنسان بنور العقل التي منها المعرفة بالآيات والإستدلال بها.

وأمّا الوجه الثاني ففيه أوّلاً: إنّا لا نسلّم ما ذكره من أنّ الأنبياء أكثرهم بعثوا إلى قوم مقرّين، فإنّه لا دليل على ذلك ولا يصحّ ما ذكره إلّا بناء على ما ادّعاه من أنّ المشركين

ص: 410

من المقرّين، وقد ذكرنا سابقاً أنّهم ليسوا من المقرّين فإنّ الإقرار باللّه تعالى لا يحصل إلّا بعد الإقرار به وبوحدانيّته وجميع كمالاته.

وثانياً: أنّه لو سلّمنا أنّ الأنبياء بُعثوا إلى قوم مقرّين، ومع ذلك نقول: أنّ إقرارهم كان بإرشاد الأنبياء وتذكيرهم، فالنبيّ نوح(ع) مثلاً بعثه اللّه تعالى إلى قوم مقرّين باللّه ، ولكنّهم أقرّوا بإرشاد الأنبياء السابقين على نوح وتذكيرهم.

ومن الواضح أنّ إقرار الأمم باللّه تعالى ليس من عند أنفسهم بل المعرفة الفطريّة حاصلة للجميع إلّا أنّها منسيّة وتفتقر إلى المذكّر، كما أنّ المعرفة العقليّة مغفول عنها - بحسب الغالب - فيفتقر البشر إلى من يرشد الإنسان إليها ويذكّره بها.

وأمّا الوجه الثالث ففيه: إنّا لا ننكر كون سيرة الأنبياء: على الاحتجاج والاستدلال، وأمّا انحصار سيرتهم في ذلك فهو أوّل الكلام ولا دليل عليه بل الدليل على خلافه، فإنّ سيرتهم على الاحتجاج والاستدلال وعلى التذكّر بالفطرة التي فطر اللّه الناس عليها. ويظهر ذلك من التتبّع في الآيات والأخبار.

وأمّا ما ذكره في قوله:

فإن قيل: «إنّ الإستدلال كالإضطرار، نوع من كشف الغطاء عن الفطرة المغشيّة؛ قلت: «إذا كانت الفطرة بهذه الحيثيّة من الخفاء لكلّ أحد، حتى يحتاج ف-ي إزالتها إلى الاستدلال، فأيّ فائدة للفطرة؟ مع أنّه على هذا، لا وجه لتخصيص التوحيد بالفطرة كما تقدّم؛ إذ كلّ شيء يرفع غطاؤه بالإستدلال، فكلّ قضيّة إذن فطريّة .(1)

ففيه: إنّ الفطرة تكون مغشيّة غالباً والإضطرار سبب لكشف الغطاء عنها، كما أنّ الصلاة وقراءة القرآن والحجّ ونظائرها من العبادات أسباب لتجلّيها.

وأمّا ما استشكل به من أنّ الفطرة المخفيّة عن الجميع لا فائدة فيها، ففيه أوّلاً: إنّا لا ندّعي خفاء الفطرة على جميع الناس.

ص: 411


1- هداية الأمّة إلى معارف الأئمّة : 45.

وثانياً: إنّ الفائدة في مفطوريّة الناس على معرفة الربّ المتعال القدّوس بتعريفه نفسه لهم إنّما هو التمكّن من معرفته، فإنّه لو لم يعرّف اللّه نفسه القدّوس لهم ولم يكن الإنسان مفطوراً على معرفته لم يدر أحد من خالقه ولا من رازقه.

الطائفة السابعة: ما روي عن الإمام العسكري(ع) في تفسير بسم اللّه الرحمن الرحيم: فقال:

اللّه هو الذي يتألّه إليه عند الحوائج والشدائد كلّ مخلوق عند انقطاع الرجاء من كلّ من دونه وتقطّع الأسباب من جميع من سواه. تقول بسم اللّه أي أستعين على أموري كلّها باللّه الذي لا تحقّ العبادة إلّا له، المغيث إذا استغيث، والمجيب إذا دُعي، وهو ما قال رجلٌ للصادق(ع): يا ابن رسول اللّه دُلّني على اللّه ما هو، فقد أكثر عليّ المجادلون وحيّروني.

فقال له: يا عبداللّه هل ركبت سفينة قطّ؟

قال: نعم.

قال: فهل كُسر بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك؟

قال: نعم.

قال: فهل تعلّق قلبك هنالك أنّ شيئاً من الأشياء قادرٌ على أن يخلّصك من ورطتك؟

قال: نعم.

قال الصّادق(ع): فذلك الشيء هو اللّه القادر على الإنجاء حيث لا منجي، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث .(1)

بيّن المستشكل بأنّه لا يمكن الاستدلال بالخبر على الفطرة لأنّ الحديث بنفسه غير صريح في الفطرة، وأشار الى أنّ استظهارها منه استنباطيّ محض، ولذا استدلّ القائل بالفطرة باستشهاد الإمام العسكري(ع) بكلام الإمام الصادق(ع).

وقد استشهد على ما ادّعاه بأنّ الإمام العسكري صلوات اللّه عليه كان في مقام بيان معنى قوله تعالى «بسم اللّه الرحمن الرحيم» لا الفطرة وفسّر(ع) كلمة «الله» بأنّه المغيث

ص: 412


1- معاني الأخبار: 4/2؛ بحارالأنوار : 3/41 ح16.

إذا استغيث حيث لا مغيث، والمجيب إذا دعي حيث لا مجيب، وبأنّ السائل الذي سأل الإمام الصادق(ع) لم يكن من المنكرين حتى يكون إنكاره قرينة على أنّ الإمام (ع) كان في مقام إثبات اللّه تعالى للسائل بالفطرة بل كان ممّن اشتبه الأمر عليه من جهة ماهويّة الباري تعالى. ولذا قال «دلّني على الله» ولم يقل «ما الدليل على إثبات الصانع» فإنّه يقال دلّني على فلان بعد المعرفة به والجهل بمكانه أو بأحواله لا في مقام إنكار شيء وطلب الدليل على إثباته، فلا يكون الخبر في مقام بيان الفطرة أصلاً، وإليك نصّ عبارته:

وأمّا بيان خلط المستدلّ: فهو أنّ الحديث بنفسه غير صريح ف-ي الفطرة؛ واستظهارها منه استنباطيّ محض، ومقدّماته كلّها وهميّة فرضيّة؛ إذ ليس فيه وف-ي كلام الصادق(ع) ذكر فطرة صريحاً، ولا بها الإمام العسكريّ(ع) استند ف-ي كلامه وعلّلا كلامه بكلام الصادق(ع)، حتى يستفاد منه الفطرة بقرينة التعليل والإستشهاد؛ بل هو(ع) إنّما فسّر معنى «اللّه»: «بأنّه المغيث إذ استغيث حيث لا مغيث، والمجيب إذا دُعي حيث لا مجيب».

ثمّ استشهد له بقول الصادق(ع): «ف-ي أنّه المغيث حين لا مغيث» فليس هو(ع) ف-ي مقام الفطرة؛ ولا عن إنكار للصانع وقع سؤال السائل حتى يكون إنكاره قرينة على أنّ الصادق(ع) كان بصدد إثباته له بالفطرة؛ بل الظاهر من قوله: «فقد أكثر عليّ المجادلون وحيّروني» أنّه كان من المقرّين وأنّه جار فيه بسبب اختلاف المختلفين فيه، من أنّه جسم أو صورة أو غير ذلك؛ فاشتهى أن ينجلي عليه ذاته؛ فقال: «دُلّني على الله» فإنّه إنّما يقال: دلّني على فلان، بعد المعرفة به والجهل بمكانه أو بأحواله لا ف-ي مقام إنكار شيء وطلب الدليل على إثباته؛ ألا ترى الزنادقة كانوا يقولون: ما الدليل على إثبات الصانع؟

ص: 413

فالسائل إنّما سأل عن الذات لا عن الإثبات، أراد أن يعرف ما هويّته تعالى، أهو جسم وصورة؟ أم لا؟ وأنّه ما كيفيّته؟ فعند ذلك أجابه(ع) بما ابتلى به، من ركوب السفينة ووقوعه ف-ي الإضطرار الملجئ له إلى الإلتجاء به تعالى، وأنّه تعالى، هو الذي قد التجى به مع فقد كلّ ما به النجاة يرتجى؛ فكأنّه(ع) قال: بأيّ شيء كان قد تعلّق قلبك إذ خِفْت عليك الغرقا؟ فهل هناك كان ف-ي الخيال، من جسم أو صورة أو مثال؟ فهو الذي تعلّق القلب به بلا تكيّف ولا تشبّه.

ولو بنى الخصم على المنازعة، وأصرّ على أنّ السائل كان من المنكرين، وأنّ الجواب من الإمام(ع)، جواب استدلاليّ، ولا يتمّ الاستدلال إلّا بالفطرة؛ لقلنا جواباً عنه: فإنّها قضيّةٌ ف-ي واقعةٍ خاصّة، واتّفاق خاصّ وقع لهذا الشخص بالخصوص؛ وقد علم الإمام(ع) به فاستدلّ له بمقتضى حاله، فلا عموم فيها بنصّ لفظيّ تدلّ على أنّ كلّ منكر يتّفق له عند الإضطرار هذا الإتّفاق؛ بل ولا محال أن كان قد اتّفق لهذا الرجل أيضاً، إلهام خاصّ من اللّه؛ فإنّه تعالى مقلّب القلوب، فوجّه قلبه إليه عناية به أو كان منه استدلال بعجزه ف-ي تلك الحال إلى القادر المتعال؛ وقد علم به الإمام(ع)، فنبّهه على تلك الحال واستدلّ له به؛ إذ لا صراحة ف-ي نصّ الخبر، على أنّ ظهور الحقّ عليه كان بسبب بدوّ الفطرة عن غطائها وظهورها بعد خفائها.

هذا تمام الكلام ف-ي الفطرة وشواهدها. وقد تحصّل: أنّ هذه الدعوى غير تامّة لا ف-ي نفسها، لأنّها دعوى على ما لم يكن من دون شاهد له، لا من الوجدان ولا من العيان، ولا ف-ي شواهدها لورودها لغير هذا الشأن.

بل التحقيق: أنّ هذه الدعوى، يكذّبها ما هو المعلوم المعهود بل المشهود من فطرة أرباب العقائد المختلفة وسيرتهم؛ فإنّا نرى أنّ كلّ صاحب عقيدة إنّما يتوجّه عند إلجائه واضطراره إلى ما يعتقده، فيتوسّل به

ص: 414

أو إليه، ولا يرجع أحد منهم إلى الحقّ؛ فكيف تصدق الفطرة ف-ي خصوص المنكر الجاهل من غير عيان ولا شاهد؟ بل مقتضى وحدة الطبائع أنّه لا يرجع إلى شيء، لأنّه موقن بعدم قاهر غير عاديّ بعد انقطاع الأسباب. اللهمّ إلّا أن يشاء اللّه شيئاً وسع ربّي كلّ شيء علماً، نعم يرجع إلى اللّه وإلى الحقّ، كلّ أهل باطل عند ظهور آثار الموت ومعاينة العذاب؛ كما دلّت عليه السنّة والكتاب، لكنّه من جهة المعاينة لا الفطرة، وأين هذا من تلك؟

فتبصّر كيلا يشبّهون عليك الأمر؛ كما أنّهم كثيراً ما يدلّسون أو يشبّهون هذه الفطرة، بالفطرة العقليّة والفطرة الاستدلاليّة، فإنّ الإنسان مفطور على التحقيق ومجبول على الاستدلال، حتى أنّ ذلك مودع ف-ي الأطفال، ولكن أين هذه أيضاً من تلك؟ فلا يغرنّك ما يأتون به من الأمثال، فإنّ كلّها من أمثلة فطرة الاستدلال لا فطرة الانتقال عند شدّة الحال .(1)

ويرد عليه أوّلاً: إنّ النزاع بين القائل بالمعرفة الفطريّة والمنكر لها ليس نزاعاً لفظيّاً، فما استشكل به من أنّه ليس في الخبر لفظ الفطرة ممّا لا وجه له.

وثانياً: إنّ ما ذكره المستشكل من أنّ السائل حار في اللّه تعالى بسبب اختلاف المختلفين فيه من أنّه جسم أو صورة أو غير ذلك من صفات المخلوقين لا دليل عليه، مضافاً إلى أنّه مناف لما أقرّ به هو نفسه من أنّ السائل أراد أن يعرف ماهويّته تعالى، ولا أقلّ من أن يكون سؤاله عن جميع ذلك.

وثالثاً: إنّ الظاهر من الخبر أنّ السائل أراد أن يعرف ألوهيّة الربّ تعالى، ولذا قال «بدلّني على الله» ولم يقل على الصانع أو على الخالق أو على الباري تعالى أو على الربّ، فإنّ الألوهيّة هي التي توجب الحيرة والتألّه والوله بالنسبة إليه تعالى، ولذا ذكر الإمام العسكري(ع) في تفسير كلمة «الله» ما أجاب به الإمام الصادق(ع) عن سؤال من قال «دلّني على الله».

ص: 415


1- هداية الأمّة إلى معارف الأئمّة : 46 - 48.

ورابعاً: إنّ ما ادّعاه من أنّ جملة «دلّني على فلان» تستعمل في خصوص ما إذا كان الإنسان عارفاً بشيء مع الجهل بخصوصيّاته، لا دليل عليه، فإنّ الدلالة على الشيء لغةً بمعنى الإرشاد والهداية إليه.

وخامساً: إنّ ما توهّمه المستشكل من اختصاص أثر المعرفة الفطريّة بإثبات الصانع ممّا لا وجه له لأنّ المعرفة الفطريّة هي معاينة الربّ ورؤيته بجميع كمالاته، وأنّه منزّه عن جميع النقائص سبّوح قدّوس، وأنّه المجيب إذا دُعي، والمغيث إذا استغيث، كما أنّ من آثارها وجدان الإنسان فقره وجهله وعجزه وضعفه بذاته.

وأمّا ما أشار اليه من أنّ ما ذكره الإمام الصادق(ع) في جواب السائل ليس دليلاً على ما رامه القائل بالمعرفة الفطريّة لأنّه قضيّة شخصيّة لا يمكن الاستدلال بها، فبطلانه أوضح من أن يخفى لأنّه لو كان الأمر كما أفاده فلا وجه لاستشهاد الإمام العسكريّ(ع) بذلك في مقام تفسير كلمة «الله» بقوله «وهو ما قال رجل للصادق(ع)».

مضافاً إلى أنّ الآيات الواردة في أنّ اللّه تعالى يأخذ العباد بالبأساء والضرّاء، عامّةً شاملة لجميع الناس.

وأمّا ذكره في هامش كلامه دليلاً على أنّ السائل لم يكن من المنكرين ببيان أنّ ظهور الفطرة وخروجها عن الخفاء بسبب الاضطرار يوجب حصول العلم واليقين بالصانع للإنسان ، فلا يكون منكراً كي تكون الفطرة جواباً له.

ففيه أوّلاً: أنّ الفطرة من الأمور التي قد يغفل عنها وتزول تلك الغفلة بالاضطرار بإذن اللّه تعالى.

وثانياً: إنّا لا نقول باختصاص ظهور الفطرة بالمنكرين بل تظهر الفطرة للمقرّين أيضاً، وأثره بالنسبة إليهم ازدياد اليقين وكمال المعرفة وتثبيته على الإيمان. قال اللّه تعالى (وَيَزِيدُ اللّه الذينَ اهْتَدَوْا هُدى)(1) .

ص: 416


1- مريم: 76.

وثالثاً: لو سلّمنا اختصاص فائدة الفطرة بالمنكرين، فيمكن أن يكون هناك ثمّة فائدة بالنسبة للمقرّ حيث إنّ أكثر المقرّين مبتلون بالشرك الخفيّ كما هو صريح الآية المباركة: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللّه إِلّا وَهُم مُشْرِكُونَ)(1) وظاهر بعض الأخبار. ولذا قال تعالى (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)(2) فبعد ظهور الفطرة تتجلّى المعرفة الإلهيّة من دون أي شوب، ولكن بعد أن ينجيهم اللّه تعالى إلى شاطئ السلام، يعود أكثر المشركين إلى شركهم، كما أنّه يعود بعض المؤمنين المبتلون بالشرك الخفيّ إلى شركهم، فمثَلاً يقول المؤمن بعد أن رأى أنّ اللّه هو المنجي الوحيد من الورطات ل-مّا أن أنجاه اللّه تعالى أنّه لولا القبطان الماهر لغرقت السفينة، فيكون مشركاً بالشرك الخفيّ كما روى في تفسير قوله تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللّه إِلّا وَهُم مُشْرِكُونَ).

* روى العياشي عن مالك بن عطية عن أبي جعفر وأبي عبدالله8 أنّه قال: قول الرجل: لولا فلان لهلكت ولولا فلان لضاع عيالي جعل للّه شريكاً في ملكه يرزقه ويدفع عنه، فقيل له: لو قال: لولا أن منّ اللّه عليّ بفلان لهلكت، قال: لا بأس بهذا .(3)

ورابعاً: قد مرّت الإشارة الى الفرق بين المعرفة والتصديق. وعلى ضوء ما ذكرنا سابقاً نقول: نسلّم أنّ المنكر يحصل له العلم واليقين بعد ظهور الفطرة، ولكنّه لا يكون ذلك دليلا على إيمانه للفرق الواضح بينهما. قال اللّه تعالى (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ) .(4)

وخامساً: لا مانع من حصول الإيمان للمنكر بعد ظهور الفطرة وصيرورته بعد

ص: 417


1- . يوسف : 106.
2- العنكبوت : 65.
3- تفسير العياشي: 2/200 ح96؛ بحارالأنوار : 9/106 ح5 وج55/317 ح8.
4- النمل : 14.

الإيمان كافراً كما يستفاد من الآية (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) .(1)

وأمّا ما ذكره من أنّ استشهاد الإمام العسكريّ(ع) بقول الإمام الصادق(ع) من أنّ اللّه تعالى هو المغيث وأنّ السائل استغاث به تعالى في الورطات يدلّ على أنّ السائل ليس من المنكرين بل هو مقرّ لأنّ المقرّ يستغيث ويدعوا ربّه، ففيه أوّلاً: أنّ الإستغاثة في البأساء والضرّاء بعد الإنقطاع عن الأسباب العاديّة لا يختصّ بالمقرّين فقط.

وثانياً: إنّ الجواب لابدّ أن يكون مطابقاً للسؤال إلّا ما خرج بالدليل. وفي هذا الخبر كان السؤال عن معنى «الله» وعن الربّ تعالى بعد وقوع السائل في الحيرة فيه. فهنا يكون السائل غافلاً أو جاهلاً بمعنى الألوهيّة أو غيرها، فأجابه الإمام(ع) بأنّك عالم ولست بجاهل ولكنّك عرضت عليك الغفلة وقد زالت بتذكير الإمام(ع).

ووجه معرفة السائل وعلمه هو استغاثته باللّه تعالى ودعاؤه، فإنّ الإستغاثة لا تكون في تلك الحالة إلّا بالذات المقدّس المتعال.

وأمّا ما ذكره من أنّ كلّ صاحب عقيدة إنّما يتوجّه عند إلجائه واضطراره إلى ما يعتقده فيتوسّل به أو إليه ولا يرجع أحد منهم إلى الحقّ، ففيه أوّلاً: أنّه صرف ادّعاء محض ولم يشمّ رائحة البرهان.

وثانياً: إنّ الآية المباركة (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ)(2) ونظائرها تصرّح بخلاف ذلك، فإنّها تدلّ على أنّ من كان مشركاً وملتجئاً عند عدم الإضطرار إلى إلهين، يصير موحّداً مخلصاً حين الإضطرار ثمّ بعد زوال الإضطرار يرجع إلى شركه، فهو قبل الإضطرار كان من أهل الباطل ورجع في الإضطرار إلى الحقّ.

هذا تمام الكلام فيما أفاده من الاشكالات على المعرفة الفطريّة وقد عرفت ضعفها و أنّها لا ترجع إلى محصّل.

الفصل الخامس: آثار معرفة اللّه تعالى

ص: 418


1- العنكبوت : 65.
2- العنكبوت : 65.

قال اللّه تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّه وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (1).

المعرفة باللّه تعالى لها آثار، فمن كان عارفاً به تعالى يعرف آثار المعرفة ويجد طعمها ويطلب من اللّه تعالى ازديادها إذ هي أنس من كلّ وحشة، ونور في كلّ ظلمة. فمن كان باللّه عارفاً كانت معرفته أنساً له، فلا يعمل عملاً إلّا حبّاً لمن يعمل، ولذا لا يملّ من الأعمال الصالحة بل يفعلها بأحسن وجه.

* عن الكافي مسنداً عن جميل بن درّاج عن الإمام أبي عبدالله(ع) قال: لو يعلم الناس ما في فضل معرفة اللّه عزّوجلّ ما مدّوا أعينهم إلى ما متّع اللّه به الأعداء من زهرة الحياة الدنيا ونعيمها، وكانت دنياهم أقلّ عندهم ممّا يطؤونه بأرجلهم، ولنعّموا بمعرفة اللّه جلّ وعزّ، وتلذّذوا بها تلذّذ من لم يزل في روضات الجنان مع أولياء الله. إنّ معرفة اللّه عزّ وجلّ أنس من كلّ وحشة، وصاحب من كلّ وحدة، ونور من كلّ ظلمة، وقوّة من كلّ ضعف، وشفاء من كلّ سقم، ثمّ قال(ع): وقد كان قبلكم قوم يقتلون ويحرقون وينشرون بالمناشير وتضيق عليهم الأرض برحبها، فما يردّهم عمّا هم عليه شيء ممّا هم فيه من غير ترة وتروا من فعل ذلك بهم ولا أذى، بل ما نقموا منهم إلّا أن يؤمنوا باللّه العزيز الحميد، فاسألوا ربّكم درجاتهم، واصبروا على نوائب دهركم، تدركوا سعيهم .(2)

ص: 419


1- الأنفال : 2.
2- الكافي : 8/247 ح347.

ولذا، يكون العارف باللّه تعالى غير ناس لذكره تعالى لما يرى في معرفته من آثار.

* في بحارالأنوار عن كتاب الخرائج والجرائح عن الإمام الحسين بن علي8 أنّه قال: إذا صاح النسر، فإنّه يقول: يا ابن آدم عش ما شئت فآخره الموت، وإذا صاح البازي يقول: يا عالم الخفيّات ويا كاشف البليّات، وإذا صاح الطاوس يقول: مولاي ظلمت نفسي واغتررت بزينتي فاغفر لي، وإذا صاح الدراج يقول: الرحمن على العرش استوى، وإذا صاح الديك يقول:من عرف اللّه لم ينس ذكره .(1)

وقد رأينا أنّه من اللازم عقد باب نذكر فيه بعض آثار المعرفة كي يتبيّن للقاريء أهميّة تلك الآثار وكيف أنّها تسري في جميع جوانب الحياة. فليس الإيمان باللّه تعالى إيماناً بلا أثر، بل له من الآثار ما لو عمّت الدنيا لجعلتها جنّة نعيم قبل أوان الآخرة.

الأثر الأوّل: الخوف من اللّه تعالى

قال اللّه تعالى: (وَللّه يَسْجُدُ مَا فِي السَّماوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَابَّةٍ وَالْمَلاَئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَايُؤْمَرُونَ) .(2)

قد ذكرت الأدلّة أنّ المؤمنين باللّه تعالى يخافونه وقلوبهم وجلة منه فلا يطمئنّون إلى أعمالهم الصالحة التي عملوها ولا يتّكلون عليها، بل يخافونه أبداً. والظاهر أنّ الخوف الناشئ من المعرفة يعود إلى أحد أمور:

الأمر الأوّل: الخوف منه تعالى لأجل وجدان عظمته تعالى في القلوب.

الأمر الثاني: الخوف منه تعالى لأجل الأعمال السيئة الصادرة من العبد.

الأمر الثالث: الخوف منه تعالى لأجل وجدان التقصير في قبال عظمة الربّ تعالى.

ص: 420


1- الخرائج والجرائح: 1/149 ج5؛ بحارالأنوار : 61/27 ح8.
2- النحل : 49 - 50.

أمّا الأمر الأوّل فلأنّ العارف باللّه تعالى - بالمعرفة العقليّة المنتجة لإخراجه عن حدّ التعطيل وحدّ التشبيه والمعرفة الفطريّة الناتجة من تعريفه تعالى نفسه للعبد - يجد سبّوحيّة اللّه تعالى، بمعنى أنّه يعرف اللّه تعالى سبّوحاً وقدّوساً عن صفة الخليقة، وكما يرى أنّه لا يتمكّن من إنكاره لدلالة الآيات عليه، يجد أنّه لا يمكنه الإحاطة به لكونه سبّوحاً عمّا يمكن أن يقع في حيطة العقل والفكر. كما أنّ العبد يجد هذا المعنى في المعرفة الفطريّة حيث إنّه يتألّه إلى القديم الذي لا يحيط به الزمان والمكان ومعرفة عظمة الربّ الخالق للزمان والمكان والكون والإنسان وغيرهم من الكائنات يبعث الخوف في الجنان، فيتبيّن ذلك على الإركان فيلتجي العبد الضعيف إلى الربّ القويّ، ويتمسّك به، ويهرب منه إليه.

إذا عرفت ذلك، يتّضح لك الوجه في خوف أولياء اللّه تعالى منه مع أنّهم لم يرتكبوا خطئاً قطّ، إذ معرفة عظمة الباري تعالى تبعث الخوف في قلوب أوليائه، فتسهر عيونهم وتتجافى جنوبهم عن المضاجع وتستقيم أقدامهم وتصطفّ أبدانهم خضوعاً للّه تعالى وخشوعاً له.

* عن الكافي مسنداً عن أبي حمزة قال: قال الإمام أبو عبدالله(ع): من عرف الله، خاف الله، ومن خاف الله، سخت نفسه عن الدنيا .(1)

* روى المجلسي في البحار عن رسول الله(ص): من كان باللّه أعرف كان من اللّه أخوف .(2)

* وروى أيضاً في البحار عنه(ع): من ذا يعرسف قدرك فلا يخافك ومن ذا يعلم ما أنت فلا يهابك .(3)

ص: 421


1- الكافي : 2/68 ح9؛ بحارالأنوار: 67/357 ح3.
2- بحارالأنوار: 7/393 عن روضة الواعظين: 64.
3- بحارالأنوار: 87/341 ح19 وأيضاً موسوعة العقائد الإسلامية: 3/285 ح3707.

* وفي غرر الحكم عن أميرالمؤمنين(ع): عجبت لمن عرف اللّه كيف لا يشتدّ خوفه .(1)

* عن الكافي مسنداً عن الإمام أبي عبدالله(ع) قال: قال رسول الله(ص): من عرف اللّه وعظّمه، منع فاه من الكلام، وبطنه من الطعام، وعفا نفسه بالصيام والقيام.

قالوا: بآبائنا وأمّهاتنا يا رسول اللّه هؤلاء أولياء الله.

قال: إنّ أولياء اللّه سكتوا فكان سكوتهم ذكراً، ونظروا فكان نظرهم عبرة، ونطقوا فكان نطقهم حكمة، ومشوا فكان مشيهم بين الناس بركة، لولا الآجال التي قد كتبت عليهم لم تقرّ أرواحهم في أجسادهم خوفاً من العذاب وشوقاً إلى الثواب .(2)

* في مستدرك الوسائل عن زيد النَرْسي في أصله عن الإمام أبي عبدالله(ع) قال: من عرف اللّه خافه، ومن خاف اللّه حثّه الخوف من اللّه على العمل بطاعته والأخذ بتأديبه، فبشّر المطيعين المتأدّبين بأدب اللّه والآخذين عن اللّه أنّه حقّ على اللّه أن ينجيهم من مضلّات الفتن .(3)

* عن البحار قال الإمام الصادق(ع): الخوف رقيب القلب، والرجاء شفيع النفس، ومن كان باللّه عارفاً، كان من اللّه خائفاً وإليه راجياً وهما جناحا الإيمان يطير العبد المحقق بهما إلى رضوان الله، وعينا عقله يبصر بهما إلى وعد اللّه ووعيده، والخوف طالع عدل اللّه ناهي وعيده، والرجاء داعي فضل اللّه وهو يحيي القلب، والخوف يميت النفس .(4)

أنت ترى أنّ الخوف من اللّه تعالى لم يعلّل في هذه الأخبار بشيء سوى معرفته، ومعرفة عظمته تعالى، فمن كان باللّه عارفاً كان من اللّه خائفاً.

وأمّا الأمر الثاني فهو حقّ لا ريب فيه، فإنّ العبد العارف باللّه تعالى يخافه لما للأعمال السيئّة القبيحة، فلاحظ الأخبار التالية:

ص: 422


1- غرر الحكم: 6261.
2- الكافي : 2/237 ح25؛ مستدرك الوسائل: 12/168 ح13796.
3- مستدرك الوسائل : 11/228 ح12817؛ بحارالأنوار: 67/400 ح73.
4- بحارالأنوار : 67/390 ح58.

* عن الكافي عن عدّة من أصحابنا عن أبي عبيدة الحذّاء عن الإمام أبي عبدالله(ع) قال: المؤمن بين مخافتين؛ ذنب قد مضى لا يدري ما صنع اللّه فيه، وعمر قد بقي لا يدري ما يكتسب فيه من المهالك، فهو لا يصبح إلّا خائفاً ولا يصلحه إلّا الخوف .(1)

* في مستدرك الوسائل قال رسول الله(ص): العبد المؤمن بين مخافتين؛ أجل مضى لا يدري ما اللّه صانع فيه، وبين أجل قد بقي لا يدري ما اللّه قاض فيه .(2)

وغير خفيّ أنّ العبد لا يزال خائفاً من اللّه تعالى لأجل أعماله القبيحة الصادرة عنه، فإنّ اللّه قد أخفى غفرانه - بحسب الغالب - فلا يدري العبد هل غفر له الباري تعالى أم أركسه في ذنوبه، فما يفتأ عن الإستغفار، ولا ينقطع لسانه عن ذكر التوبة.

وهذا الخوف لا يكون لأولياء اللّه تعالى أعني المعصومين الأربعة عشر:، إذ العصمة تمنعهم من اقتحام المهالك عن علم وقدرة واختيار، فلا يفعلون القبيح عن كامل اختيار وتمام سلطنة، فلا يكون في قلوبهم الخوف من معصية اللّه تعالى إلّا أنّهم مع ذلك ذكروا في مناجاتهم وأدعيهم ما يوهم إمكان صدور القبيح منهم كما في دعاء الكميل «اللّهمّ اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم، اللّهمّ اغفر لي الذنوب التي تغيّر النعم» وكما في حديث أبي الدرداء، فلاحظ:

* في البحار عن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير قال: كنّا جلوساً في مجلس في مسجد رسول الله(ص) فتذاكرنا أعمال أهل بدر وبيعة الرضوان، فقال أبو الدرداء: يا قوم ألا أخبركم بأقلّ القوم مالاً، وأكثرهم ورعاً، وأشدّهم اجتهاداً في العبادة؟

قالوا: من؟

قال: أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع).

قال: فواللّه إن كان في جماعة أهل المجلس إلّا معرض عنه بوجهه. ثمّ انتدب له رجل من الأنصار فقال له: يا عويمر، لقد تكلّمت بكلمة ما وافقك عليها أحد منذ أتيت بها.

ص: 423


1- . الكافي : 2/71 ح12؛ بحارالأنوار: 67/365 ح10
2- مستدرك الوسائل : 11/231 ح12830.

فقال أبو الدرداء: يا قوم إنّي قائل ما رأيت وليقل كلّ قوم منكم ما رأوا. شهدت عليّ بن أبي طالب بشويحطات النجّار وقد اعتزل عن مواليه واختفى ممن يليه واستتر بمغيلات النخل، فافتقدته وبعد عليَّ مكانه، فقلت لحق بمنزله، فإذا أنا بصوت حزين ونغمة شجي وهو يقول: إلهي، كم من موبقة حلمت عن مقابلتها بنقمتك، وكم من جريرة تكرّمت عن كشفها بكرمك. إلهي، إن طال في عصيانك عمري، وعظم في الصحف ذنبي، فما أنا مؤمّل غير غفرانك، ولا أنا براج غير رضوانك. فشغلني الصوت واقتفيت الأثر، فإذا هو عليّ بن أبي طالب(ع) بعينه، فاستترت له، وأخملت الحركة، فركع ركعات في جوف الليل الغابر، ثمّ فرغ إلى الدعاء والبكاء والبثّ والشكوى، فكان ممّا به اللّه ناجاه أن قال: إلهي، أفكّر في عفوك فتهون عليَّ خطيئتي، ثمّ أذكر العظيم من أخذك فتعظم عليَّ بليتي. ثمّ قال: آه، إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها وأنت محصيها فتقول: خذوه، فيا له من مأخوذ لا تنجيه عشيرته، ولا تنفعه قبيلته، يرحمه الملأ إذا أذن فيه بالنداء، ثمّ قال: آه من نار تنضج الأكباد والكلى، آه من نار نزّاعة للشوى، آه من غمرة من ملهبات لظى، قال: ثمّ أنعم في البكاء فلم أسمع له حسّاً ولا حركة، فقلت: غلب عليه النوم لطول السهر أوقظه لصلاة الفجر. قال أبو الدرداء: فأتيته فإذا هو كالخشبة الملقاة، فحرّكته فلم يتحرّك، وزويته فلم ينزو، فقلت: إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، مات واللّه علي بن أبي طالب. قال: فأتيت منزله مبادراً أنعاه إليهم. فقالت فاطمة3: يا أبا الدرداء ما كان من شأنه ومن قصّته. فأخبرتها الخبر، فقالت: هي واللّه يا أبا الدرداء الغشية التي تأخذه من خشية الله، ثمّ أتوه بماء فنضحوه على وجهه فأفاق ونظر إليَّ وأنا أبكي، فقال: ممّا بكاؤك يا أبا الدرداء؟

فقلت: ممّا أراه تنزله بنفسك.

فقال: يا أبا الدرداء فكيف ولو رأيتني ودعي بي إلى الحساب، وأيقن أهل الجرائم بالعذاب، واحتوشتني ملائكة غلاظ وزبانية فظاظ، فوقفت بين يدي الملك الجبّار، قد أسلمني الأحبّاء، ورحمني أهل الدنيا، لكنت أشدّ رحمة لي بين يدي من لا تخفى عليه خافية.

ص: 424

فقال أبوالدرداء: فواللّه ما رأيت ذلك لأحد من أصحاب رسول الله(ص) .(1)

وغير ذلك من الأدعية والمناجاة، ول-مّا كانت العصمة أصلاً أصيلاً في الإمامة، لا يمكن الإلتزام بظاهر هذه المناجاة والأدعية ولابدّ من توجيهها إمّا بأنّها تعليم لشيعتهم كما كان من أعظم شؤونهم التعليم، وإمّا لأنّهم تحمّلوا ذنوب الشيعة فيبكون ويستغفرون اللّه منها كما يتحمّل الأب الحنون العطوف ذنوب أولاده، فيعتذر منها، وهناك احتمال آخر وهو الأمر الثالث وسيأتي توضيحه قريباً.

* روى عليّ بن إبراهيم عن عليّ بن أيّوب عن عمر بن يزيد قال: قلت للإمام أبي عبدالله(ع): قول اللّه عزّوجلّ: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللّه ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّر) ؟(2)

قال: ما كان له ذنب ولا هم بذنب، ولكن اللّه حمّله ذنوب شيعته ثمّ غفرها له .(3)

وأنت ترى أنّ هذا الخبر صريح في أنّ النبي الأكرم(ص) تحمّل ذنوب الشيعة ويستغفر اللّه تعالى منها.

وأمّا الأمر الثالث وهو وجدان التقصير في قبال الربّ تعالى، فإنّ العارف به تعالى يعرف أنّ المخلوق الضعيف مهما بلغ من الكمال لا يستطيع أن يؤدّي شكر أنعم اللّه تعالى ولا يتسنّى له أداء حقّه تعالى، ولذا يخافه لما يرى في نفسه من التقصير.

* روى الكليني عن يونس عن بعض أصحابه عن الإمام أبي عبدالله(ع) قال: قال اللّه عزّ وجلّ لداود(ع): يا داود، بشّر المذنبين وأنذر الصدّيقين.

قال: كيف أبشّر المذنبين وأنذر الصدّيقين؟

قال: يا داود، بشّر المذنبين أنّي أقبل التوبة وأعفو عن الذنب، وأنذر الصدّيقين أن لا يعجبوا بأعمالهم فإنّه ليس عبد أنصبه للحساب إلّا هلك .(4)

ص: 425


1- بحارالأنوار : 41/11 ح1؛ الأمالي للصدوق: 77 ح1 المجلس الثامن عشر.
2- الفتح: 2.
3- تفسير القمي: 2/314؛ بحارالأنوار : 17/76.
4- الكافي: 2/314 ح8؛ بحارالأنوار : 14/40 ح22.

* روي في تحف العقول عن الإمام الصادق(ع) أنّه قال لعبداللّه بن جندب: يا ابن جندب، يهلك المتّكل على عمله ولا ينجو المجترئ على الذنوب الواثق برحمة الله.

قلت: فمن ينجو؟

قال: الذين هم بين الخوف والرجاء كأنّ قلوبهم في مخلب طائر، شوقاً إلى الثواب وخوفاً من العذاب .(1)

* وفي دعاء أبي حمزة الثمالي: لست أتّكل في النجاة من عقابك على أعمالنا بل بفضلك علينا لأنّك أهل التقوى وأهل المغفرة .(2)

* وفي دعاء عرفه: اللّهمّ إنّي أرغب إليك وأشهد لك مقرّاً بأنّك ربّي، وإليك مردّي، ابتدأتني بنعمتك قبل أن أكون شيئاً مذكوراً، خلقتني وأنا من التراب، وأسكنتني وأنا من الأصلاب، آمناً لريب المنون واختلاف الدهر، فلم أزل ظاعناً من صلب إلى صلب إلى رحم في تقادم الأيّام الماضية والقرون الخالية، لم تخرجني بلطفك لي وإحسانك إليَّ في دولة أئمّة الكفر الذين نقضوا عهدك وكذّبوا رسلك، لكنّك أخرجتني رأفة منك وتحنّناً عليَّ للذي سبق لي من الهدى الذي يسّرتني، وعليه أنشأتني من قبل ذلك رأفة بي بجميل صنعك، وسوابغ نعمتك، ابتدعت خلقي من منيّ يمنى، ثمّ أسكنتني في ظلمات ثلاث بين لحم وجلد ودم، لم تشهرني بخلقي، ولم تجعل لي شيئاً من أمري، ثمّ أخرجتني إلى الدنيا تامّاً سويّاً، وحفظتني في المهد طفلاً صبيّاً، ورزقتني من الغذاء لبناً مريئاً، وعطفت عليَّ قلوب الحواضن، وكفّلتني بالأمّهات الرحائم، وكلأتني من طوارق الحدثان، وسلّمتني من الزيادة والنقصان، فتعاليت ربّنا يا أرحم الراحمين حتى إذا استهللت بالكلام، أتممت عليَّ بالإنعام، وربّيتني متزايداً في كلّ عام، حتى إذا أكملت فطرتي، واعتدلت قوّتي، أوجبت عليَّ حجّتك بأن ألهمتني معرفتك، وروّعتني بعجائب رحمتك، وأيقظتني بما ذرأت في سمائك وأرضك في بدائع خلقك، ونبّهتني لشكرك وذكرك، وأوجبت طاعتك وعبادتك، وفهّمتني ما جاءت به رسلك، ومننت عليَّ بجميع ذلك بعونك ولطفك، ثمّ إذ خلقتني يا

ص: 426


1- تحف العقول: 301؛ مستدرك الوسائل : 11/226 ح12811.
2- البلد الأمين : 206؛ إقبال الأعمال: 1/67.

ربّ في حرّ الثرى لم ترض لي يا إلهي بنعمة دون أن أحييتني، ورزقتني من أنواع المعاش وصنوف الرياش بمنّك العظيم وإحسانك القديم إليَّ، حتى أتممت عليَّ جميع النعم، لم يمنعك جهلي وجرأتي عليك أن دللتني إلى ما يقرّبني منك، ووفّقتني لما يزلفني لديك، إن دعوتك أجبتني، وإن سألتك أعطيتني، وأن أطعتك شكرتني، وإن شكرتك زدتني، وإن عصيتك سترتني، كلّ ذلك إكمالاً لنعمك عليَّ، وإحسانك إليَّ، فسبحانك سبحانك من مبدئ حميد مجيد، تقدّست أسماؤك، وعظمت آلاؤك، فأيّ نعمك يا مولاي ويا إلهي أحصي عددها أو ذكرها، أم أيّ عطائك أقوم بها شكراً وهي يا ربّ أكثر من أن يحصي العادّون، أو يبلغ علماً بها الحافظون، ثمّ ما فرقت وذرأت عنّي من الهمّ والغمّ والضرّ والضرّاء أكثر ما ظهر لي من العافية والسرّاء، وأنا أشهدك يا إلهي بحقيقة إيماني، وعقد عزمات معرفتي، وخالص صريح توحيدي، وباطن مكنون ضميري، وعلائق مجاري نور بصري، وأسارير صفحة جبيني، وما ضمّت عليه شفتاي، وحركات لفظ لساني، ومسارب صماخ سمعي، ومنابت أضراسي، ومساغ مطعمي ومشربي، وحمالة أمّ رأسي، وبلوغ حبائل عنقي، وما اشتمل عليه تامور صدري، وحمل حبائل وتيني، ونياط حجاب قلبي، وأفلاذ حواشي كبدي، وما حواه شراسيف أضلاعي، وحقاق مفاصلي، وأطراف أناملي، وقبض شراسيف عواملي، ولحمي، ودمي، وشعري، وبشري، وعصبي، وقصبي، وعظامي، ومخي، وعروقي، وجميع جوارحي وجوانحي، وما انتسج على ذلك أيّام رضاعي، وما أقلّت الأرض منّي في نومي ويقظتي وسكوني وحركاتي وحركات ركوعي وسجودي، لو حاولت واجتهدت مدى الأعمار والأحقاب لو عُمّرتها أن أؤدّي بعض شكر واحدة من أنعمك فما استطعت ذلك إلّا بمنّك الموجب به عليَّ شكراً آنفاً جديداً أو ثناء طارقاً عتيداً، أجل، ولو حرصت أنا والعادّون من أنامك أن نحصي شيئاً من إنعامك سالفة وآنفة، ما حصرناه عدداً، ولا أحصيناه أبداً، هيهات، أنّى ذلك وأنت المخبر في كتابك الصادق، والنبإ الصادق، (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللّه لا تُحْصُوها)(1) صدق كتابك اللّهمّ ونبؤك، وبلّغت أنبياؤك ورسلك ما أنزلت عليهم من وحيك، وشرعت لهم ولنا من دينك، غير أنّي يا إلهي

ص: 427


1- النحل: 18.

بجدّي واجتهادي وجهدي ومبلغ طاقتي ووسعي أقول مؤمناً موقناً، الحمد للّه الذي لم يتّخذ ولداً فيكون موروثاً، ولم يكن له شريك في ملكه فيضادّه فيما ابتدع، ولا وليّ من الذلّ فيرفده فيما صنع، سبحانه (لَوْ كانَ فِيهِما آلِ-هَةٌ إِلَّا اللّه لَفَسَدَتا) (1)، سبحان اللّه الواحد الأحد الحيّ الصمد (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَد)(2) والحمدللّه حمداً يعدل حمد ملائكته المقرّبين وأنبيائه المرسلين، وصلّى اللّه على سيّدنا محمّد وآل محمّد الطيبين الطاهرين .(3)

فإنّ الظاهر من هذه الأخبار أنّ العارف باللّه تعالى لا يرى لنفسه شأناً ولا لأعماله، ولا يتّكل على أعماله، بل يثق باللّه وبرحمته، ولذا يرى حسناته سيئات، وتوجّهه إلى غير اللّه تعالى وإن كان بأمره تعالى ذنباً، ولذا يستغفر اللّه تعالى من تلك اللحظات وإن كانت طاعة. كما أنّه يرى أنّه لا يستطيع أن يؤدّي شكر أنعم اللّه تعالى لأنّ التوفيق إلى معرفة النعمة وشكرها نعمة تستوجب الشكر أبداً. ولذا لا يرى نفسه إلّا مقصّراً في حقّه تعالى، ولذا يخافه ويخشاه بل قد يُغشى عليه خوفاً من اللّه تعالى فالخوف الناتج من الاحساس بالتقصير خوف حقيقيّ والمعصومون لا يتّكلون على أعمالهم بل يتّكلون على اللّه تعالى ويفرحون بها كما قال تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللّه وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)(4) .

* ففي عدّة الداعي، روي أنّ إبراهيم(ع) كان يُسمع تأوّهه على حدّ ميل حتى مدحه اللّه بقوله (إِنَّ إِبْراهيمَ لَحَليمٌ أَوّاهٌ مُنِيبٌ)(5) ، وكان في صلاته يسمع له أزيز كأزيز المرجل، وكذلك كان يُسمع من صدر سيّدنا رسول الله(ص) مثل ذلك، وكانت فاطمة3 تنهج في

ص: 428


1- الأنبياء: 22.
2- التوحيد: 3 - 4.
3- إقبال الأعمال: 1/341؛ بحارالأنوار : 94/315 ح16.
4- يونس: 85.
5- هود: 75.

الصلاة من خيفة الله .(1)

والنهيج هو تواتر النفس من شدّة الحركة، وليس هذا إلّا لأجل الخوف من اللّه تعالى إمّا لعظمته تعالى، وإمّا لوجدانها3 التقصير في قبال أنعم اللّه تعالى التي لا تحصى كثرة.

هذا مع أنّ المعصومين الأربعة عشر: قد أدّوا ما عليهم من وظائف وواجبات بأحسن وجه، كما ورد في زيارة أمين اللّه «أشهد أنّك جاهدت باللّه حقّ جهاده» فالإحساس بالتقصير لا يتنافى مع أداء ما بوسعهم فتأمّل جيّداً.

أضف إلى ذلك، أنّ الاستغفار قد يكون إستغفار رجاء، وإستغفار رغبة، وإستغفار توكّل، فلاحظ:

* ربّ إنّي أستغفرك استغفار حياء، وأستغفرك استغفار رجاء، واستغفرك استغفار إنابة، وأستغفرك استغفار رغبة، وأستغفرك استغفار رهبة، وأستغفرك استغفار طاعة، وأستغفرك استغفار إيمان، وأستغفرك استغفار إقرار، وأستغفرك استغفار إخلاص، وأستغفرك استغفار تقوى، وأستغفرك استغفار توكّل، وأستغفرك استغفار ذلّة، وأستغفرك استغفار عامل لك هارب منك إليك، الدعاء .(2)

الأثر الثاني: الرجاء

قال اللّه تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللّه أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللّه وَاللّه غَفُورٌ رَحِيمٌ)(3) .

من آثار المعرفة الرجاء للّه تعالى، فإنّ العارف باللّه تعالى يرجوه لما يجد في قلبه من معرفة رحمته ورأفته، وهذا الأثر من الآثار المهمّة المترتّبة على معرفة اللّه تعالى.

ص: 429


1- عدة الداعي: 1/151؛ مستدرك الوسائل : 4/100 ح4226.
2- . الدعاء بعد زيارة الإمام الرّضا عليه السّلام، بحارالأنوار: 99/56 ح11.
3- البقرة : 218.

* روى العلّامة المجلسي عن الحسن بن أبي سارة عن الإمام الصادق(ع) أنّه قال: لا يكون العبد مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو .(1)

* وعنه(ع) قال: كان أبي(ع) يقول: ليس من عبد مؤمن إلّا وفي قلبه نوران: نور رجاء، ونور خوف، لو وزن هذا لم يزد على هذا .(2)

* عن عوالي اللئالي في حديث أنّ داود(ع) قال: يا ربّ، ما يحمل لمن عرفك أن يقطع رجاءه منك .(3)

* قال ابن أبي الحديد في شرحه عن أميرالمؤمنين(ع): الرجاء للخالق سبحانه أقوى من الخوف، لأنّك تخافه لذنبك وترجوه لجوده، فالخوف لك والرجاء له .(4)

أقول: الظاهر أن الرجاء للّه تعالى يغلب على الخوف في النهاية، فإنّ الرجاء للّه تعالى إن كان مقروناً بالخوف منه غلب الخوف، إذ يكون من الرجاء الصادق فلا تنافي بين هذا الخبر وما دلّ على أنّ الخوف والرجاء نوران في قلب المؤمن لا يزيد أحدهما على الآخر، فتدبّر.

ولمّا كان الرجاء باللّه تعالى من أهم آثار المعرفة، أصبح اليأس من رحمته ذنباً عظيماً إذ إنّه نقص في المعرفة بسعة رحمته وقدرته على أن يغفر الذنوب جميعاً، ولذا هدّد القرآن من اليأس من رحمته تعالى.

قال اللّه تعالى: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللّه إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَوْحِ اللّه إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) .(5)

ص: 430


1- تحف العقول: 383؛ بحارالأنوار: 67/393 ح61.
2- مستدرك الوسائل : 11/225؛ مشكاة الأنوار: 199.
3- عوالي اللئالي: 4/116 ح184؛ موسوعة العقائد الإسلامية: 3/286 ح3712.
4- شرح نهج البلاغة : 20/319.
5- يوسف : 87.

وقال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللّه إِنَّ اللّه يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) .(1)

الأثر الثالث: التوكّل على الله

ص: 431


1- الزمر : 53.

ومن آثار معرفة اللّه تعالى هي التوكّل عليه، فإنّ من عرف ربّه بالقدرة والرحمة وأنّه قائم على كلّ نفس ويتولّى أمر المتوكّلين عليه، لا يترك التوكّل عليه تعالى.

قال اللّه تعالى: (قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّه عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّه فَتَوَكَّلُوا إِن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ) .(1)

* روى العلّامة المجلسي عن مصباح الشريعة أنّه قال الإمام الصادق(ع): التوكّل كأس مختوم يختم اللّه عزّوجلّ، فلا يشرب بها ولا يفض ختامها إلّا المتوكّل كما قال اللّه تعالى (وَعَلَى اللّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُون) (2)وقال اللّه عزّوجلّ (وَعَلَى اللّه فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُم مُؤْمِنِين)(3) جعل التوكّل مفتاح الإيمان والإيمان قفل التوكّل .(4)

الأثر الرابع: الرضا بقضائه تعالى

قال اللّه تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللّه عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدَاً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (5).

ومن الآثار التابعة للمعرفة الرضا بقضائه تعالى إذ العارف به يعلم أنّه تعالى لا يريد الربح على عباده إنّما يريد الأصلح لهم، ولذا يرضى بقضائه وقدره.

* روى الكليني عن عبداللّه بن محمد ال-جُعْفي عن الإمام أبي جعفر(ع) قال: أحقّ خلق اللّه أن يسلّم لما قضى اللّه عزّوجلّ من عرف اللّه عزّوجلّ، ومن رضي بالقضاء أتى عليه القضاء وعظّم اللّه أجره، ومن سخط القضاء مضى عليه القضاء وأحبط اللّه أجره .(6)

* روى العلّامة المجلسي عن أعلام الدين في مناجاة موسى(ع) مع ربّه: يا ربّ، حقّ لمن عرفك أن يرضى بما صنعت .(7)

* روى الصدوق عن جعفر بن سليمان بن أيوب الخزاز عن عبداللّه بن الفضل الهاشمي قال: قلت للإمام أبي عبدالله(ع): لأيّ علّة جعل اللّه عزّوجلّ الأرواح في الأبدان بعد كونها في ملكوته الأعلى في أرفع محل؟

فقال(ع): إنّ اللّه تبارك وتعالى علم أنّ الأرواح في شرفها وعلوّها متى ما تركت على حالها نزع أكثرها إلى دعوى الربوبيّة دونه عزّوجلّ، فجعلها بقدرته في الأبدان التي قدّر لها في ابتداء التقدير نظراً لها ورحمة بها، وأحوج بعضها إلى بعض، وعلّق بعضها على بعض، ورفع بعضها على بعض، ورفع بعضها فوق بعض درجات، وكفى بعضها ببعض، وبعث إليهم رسله، واتخذ عليهم حججه مبشّرين ومنذرين، يأمرون بتعاطي العبوديّة والتواضع لمعبودهم بالأنواع التي تعبّدهم بها، ونصب لهم عقوبات في العاجل وعقوبات في الآجل، ومثوبات في العاجل ومثوبات في الآجل، ليرغبهم بذلك في الخير ويزهدهم في الشرّ وليذلّ-هم بطلب المعاش والمكاسب، فيعلموا بذلك أنّهم بها مربوبون وعباد مخلوقون ويقبلوا على عبادته، فيستحقّوا بذلك نعيم الأبد وجنّة الخلد، ويأمنوا من النزوع إلى ما ليس لهم بحقّ.

ثمّ قال(ع): يا ابن الفضل، إنّ اللّه تبارك وتعالى أحسن نظراً لعباده منهم لأنفسهم، ألا

ص: 432


1- المائدة : 23.
2- إبراهيم: 12.
3- الزمر: 53.
4- مصباح الشريعة: 1/164؛ بحارالأنوار : 68/147 ح42.
5- التوبة : 100.
6- الكافي : 2/62 ح9؛ بحارالأنوار: 69/332 ح16.
7- أعلام الدين: 1/433؛ بحارالأنوار: 13/350 ح38.

ترى أنّك لا ترى فيهم إلّا محبّاً للعلوّ على غيره حتى أنّه يكون منهم لمن قد نزع إلى دعوى الربوبيّة، ومنهم من نزع إلى دعوى النبوّة بغير حقّها، ومنهم من نزع إلى دعوى الإمامة بغير حقّها، وذلك ما يرون في أنفسهم من النقص والعجز والضعف والمهانة والحاجة والفقر والآلام والمناوبة عليهم والموت الغالب لهم والقاهر لجميعهم. يا ابن الفضل، إنّ اللّه تبارك وتعالى لا يفعل بعباده إلّا الأصلح لهم، ولا يظلم الناس شيئاً ولكنّ الناس أنفسهم يظلمون .(1)

أنت ترى أنّ الخبر الشريف صريح في أنّ اللّه تعالى لا يفعل لعباده إلّا الأصلح لهم، فلماذا الإضطراب عند حلول المصائب؟ ولماذا السخط على تقديره تعالى؟!

الأثر الخامس: حبّ اللّه

قال اللّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّه بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّه وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللّه يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّه وَاسِعٌ عَلِيمٌ) .(2)

* وعن الإمام الحسن المجتبى(ع): من عرف اللّه أحبّه .(3)

ومن آثار معرفة اللّه تعالى حبّه تعالى، فمن عرفه أحبّه لما يرى من النعم الجسيمة التي أنعم بها عليه ولما يرى من العلوّ والعظمة والكمال والكرم والرحمة والرأفة والمجد والشموخ وكلّ سمات الخير، ولذا ترى العارف به تعالى محبّاً له فلا يفعل أفعاله استناداً إلى الخوف منه أو الطمع في ثوابه بل يفعلها حبّاً له وشوقاً إلى رضاه، فلاحظ:

* روى الكليني عن هارون بن خارجة عن الإمام أبي عبدالله(ع) قال: إنّ العبّاد ثلاثة؛

ص: 433


1- التوحيد للصدوق: 1/402 ح9؛ بحارالأنوار : 58/133 ح6.
2- المائدة : 54.
3- تنبيه الخواطر: 1/52.

قوم عبدوا اللّه عزّوجلّ خوفاً فتلك عبادة العبيد، وقوم عبدوا اللّه تبارك وتعالى طلب الثواب فتلك عبادة الأجراء، وقوم عبدوا اللّه عزّوجلّ حبّاً له فتلك عبادة الأحرار وهي أفضل العبادة .(1)

أقول: الفرق بين العمل الصادر بداعي الحبّ والعمل الصادر بدواعي أخرى هو شدّة الإخلاص في الأوّل دون غيره، ولذا يكون المحبّ شديد المواظبة على الأعمال المرضيّة لحبيبه لأنّه لا يفعلها خوفاً منه ولا طمعاً في مكافأته بل يفعل ما يفعل كسباً لرضا الحبيب.

* روى الصدوق عن الزهري عن أَنس قال رسول الله(ص): بكى شعيب(ع) من حبّ اللّه عزّوجلّ حتى عمي، فردّ اللّه عزّوجلّ عليه بصره، ثمّ بكى حتى عمي، فردّ اللّه عليه بصره، ثمّ بكى حتى عمي، فردّ اللّه عليه بصره. فلمّا كانت الرابعة أوحى اللّه إليه: يا شعيب، إلى متى يكون هذا أبداً منك، إن يكن هذا خوفاً من النار فقد آجرتك، وإن يكن شوقاً إلى الجنة فقد أبحتك. فقال: إلهي وسيّدي أنت تعلم أنّي ما بكيت خوفاً من نارك ولا شوقاً إلى جنّتك ولكن عقد حبّك على قلبي، فلست أصبر أو أراك. فأوحى اللّه جلّ جلاله إليه: أمّا إذا كان هذا هكذا فمن أجل هذا سأخدمك كليمي موسى بن عمران (2)

ولذا كانت بغية أهل البيت: محبّة اللّه تعالى المتوقّفة على معرفته، فلاحظ:

* روى الكليني عن ابن أبي يعفور عن الإمام أبي عبدالله(ع) أنّه كان يقول: اللّهمّ املأ قلبي حبّاً لك وخشية منك وتصديقاً وإيماناً بك وفرقاً منك وشوقاً إليك .(3)

وقد روي هذا الدعاء عن المعصومين:: «اللّهمّ ارزقني حبّك وحبّ من يحبّك وحبّ كلّ عمل يقرّبني إلى حبّك»(4) والظاهر أنّ الوجه في طلب الحبّ هو أنّ الحبّ فرع

ص: 434


1- الكافي : 2/84 ح5؛ بحارالأنوار: 67/255 ح12.
2- علل الشرائع: 1/57 ح1؛ بحارالأنوار : 12/380 ح1.
3- الكافي : 2/586 ح24؛ بحارالأنوار: 84/247 ح57.
4- إقبال الأعمال: 2/611؛ بحارالأنوار: 95/360 ح3.

المعرفة، فمن عرف اللّه تعالى وكمالاته وعرف ما أولانا به من نعمة، أحبّ اللّه تعالى حبّاً لا يدانيه لذّة، ول-مّا كان أمر المعرفة بيده تعالى كما هو صريح الأدلّة الكثيرة كقوله(ع): «اللهم عرّفني نفسك فإنّك إن لم تعرّفني نفسك لم أعرف نبيّك»(1) ، يكون المراد من طلب حبّه طلب المعرفة الموجبة لحبّه.

نعم، الظاهر أنّ طلب حبّه تعالى منه يكون بتعريفه تعالى نفسه بالرأفة والرحمة والغفران، لا تعريفه تعالى نفسه القدّوس بمطلق الكمالات.

* روى الصدوق عن سليمان بن عبداللّه الهاشمي عن الإمام محمّد بن علي8 يقول: قال رسول الله(ص) للناس وهم مجتمعون عنده: أحبّوا اللّه لما يغذوكم به من نعمة وأحبّوني للّه عزّوجلّ وأحبّوا قرابتي لي .(2)

* وفي دعاء أبي حمزة الثمالي: إلهي وسيّدي وعزّتك وجلالك، لئن طالبتني بذنوبي لأطالبنّك بعفوك، ولئن طالبتني بلؤمي لأطالبنّك بكرمك، ولئن أدخلتني النار لأخبرنّ أهل النار بحبّي لك .(3)

أنت ترى أنّ الحبيب لا يدع حبّ حبيبه حتى وإن رأى ما لا يحبّ منه، فإنّ الإمام زين العابدين(ع) يشير إلى شدّة حبّه للّه تعالى بهذه العبارات الرائعة.

الأثر السادس: التولّه إلى اللّه تعالى والإلتجاء به

لمّا يرى العارف باللّه تعالى أنّه الغني بالذات والعالم بالذات والقادر بالذات يلتجأ إليه.

* عن أميرالمؤمنين(ع) - في خطبة له في صفة الملائكة -: ووصلت حقائق الإيمان بينهم وبين معرفته، وقطعهم الإيقان به إلى الوله إليه، ولم تجاوز رغباتهم ما عنده إلى ما

ص: 435


1- كمال الدين: 2/342 ح24؛ بحارالأنوار: 52/146.
2- علل الشرائع: 2/599 ح52؛ بحارالأنوار : 17/14.
3- البلد الأمين : 212؛ مصباح المتهجد: 2/585.

عند غيره. قد ذاقوا حلاوة معرفته، وشربوا بالكأس الرويّة من محبته، وتمكّنت من سويداء قلوبهم وشيجة خيفته .(1)

الأثر السابع: الدعاء

من عرف اللّه تجلّت عظمته في قلبه وعرف أنّه أرحم الراحمين يدعوه ويسأله.

* قال أميرالمؤمنين(ع): أعلم الناس باللّه أكثرهم له مسألة .(2)

* روى الشهيد الأول عن ميثم عن أميرالمؤمنين(ع) - في دعائه -: إلهي كيف أدعوك وقد عصيتك؟! وكيف لا أدعوك وقد عرفتك؟! (3)

ولابدّ أن نكتفي بهذا المقدار من بيان آثار المعرفة رعاية للإختصار، ونسأل اللّه تعالى أن يوفّقنا لما يحبّ ويرضى، ويملأ قلوبنا من حبّه وحبّ أحبّائه، إنّه وليّ التوفيق.

هذا والحمد للّه ربّ العالمين، وصلّى اللّه على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين، واللعن على أعدائهم أجمعين.

المصادر

ص: 436


1- نهج البلاغة: 130 الخطبة 91؛ موسوعة العقائد الإسلامية: 3/282 ح3688.
2- عيون الحكم: 122 ح2795؛ موسوعة العقائد الإسلامية: 3/293 ح3742.
3- المزار للشهيد الأول: 270؛ موسوعة العقائد الإسلامية: 3/294 ح3743.

القرآن الكريم

نهج البلاغة

الصحيفه السجادية

تفسير الإمام الحسن العسكريّ (ع)

1. الاحتجاج علي أهل اللجاج. الطبرسيّ، أحمد بن عليّ(ت 588 ق). تحقيق: محمّد

باقر الخرسان. مشهد: نشر المرتضي.الطبعة الأولي

1403 ق. :

2. الاختصاص . المفيد، محمد بن محمد (ت 413 ق). قم: الموتمر العالمي لألفية الشيخ

المفيد. الطبعة الأولي: 1413 ق.

3. إرشاد القلوب إلي الصواب. الديلمي، حسن بن محمد(ت 841 ق). قم: الشريف

الرضي . الطبعة الأولي: 1412 ق.

4. أعلام الدين في صفات المؤمنين . الديلمي، حسن بن محمد (ت 841 ق). قم:

مؤسسة آل البيت:. الطبعة الأولي: 1408 ق.

5. إقبال الأعمال. سيّد ابن طاوس (ت 664 ق). تهران: دار الكتب الإسلاميّة. 1367 ش.

6. الفقه المنسوب إلي الإمام الرضا (ع) . منسوب إلي علي بن موسي، الإمام الثامن (ع)

203 ق). مشهد: مؤسسة آل البيت: . الطبعة الأولي : 1406 ق. )

7. الأمالي. المفيد، محمد بن محمد (ت 413 ق). قم: مؤتمر الشيخ المفيد. الطبعة الأولي:

1413 ق.

8. الأمالي. محمّد بن الحسن الطوسيّ (ت 460 ق). قم: دار الثقافة. 1414 ق.

9. الأمالي. محمّد بن عليّ بن بابويه الصدوق (ت 381 ق). النجف الأشرف: المكتبة

الحيدرية. 1369 ق.

10 . بحارالأنوار الجامعة لدرر الأخبار الأئمّة الأطهار. المجلسيّ، محمّد باقر(ت

1110 ق). بيروت: منشورات دار إحياء التراث العربيّ. الطبعة الثانية: 1403 ق.

ص: 437

11 . بصائر الدرجات في فضائل آل محمّد. الصفّار، محمّد بن حسن(ت 290 ق).

تحقيق: محسن بن عباسعلي كوچه باغي. قم: مكتبة آية الله المرعشيّ النجفيّ. الطبعة الثانية: 1404 ق.

12 . البلد الأمين والدرع الحصي ن. الكفعمي العاملي، إبراهيم بن علي (ت 905 ق).

بيروت: مؤسسة الأعلمي للمطبوعا ت. الطبعة الأولي: 1418 ق.

13 . تأويل الآيات الظاهرة. السيّد شرف الدين الحسيني الأسترآباديّ ( 940 ق). قم

المقدّسة: جامعة المدرّسين. 1409 ق.

14 . تحف العقول. الحرانيّ، حسن بن شعبه (القرن الرابع). قم المقدّسة: جامعة المدرّسين.

1404 ق.

15 . تفسير العياشيّ. العيّاشيّ، محمّد بن مسعود(ت 320 ق). تحقيق: السيّد هاشم الرسوليّ

المحلاتيّ. طهران: منشورات المطبعة العلميّة. الطبعة الأولي

ُ

1380 ش. :

16 . تفسير القمّيّ. القمّيّ، علي بن ابراهيم(ت 307 ق). تحقيق: السيّد الطيّب الموسويّ

الجزائريّ. قم: منشورات دار الكتاب. الطبعة الثانية: 1404 ق.

17 . تفسير كنزالدقائق وبحرالغرائب.القمّيّ المشهديّ، محمّدبن محمّد رضا(ت 1125 ق).

تحقيق: حسين الدرگاهيّ. طهران: وزارة الثقافيّة والإرشاد الاسلاميّ. الطبعة الأولي

ُ

1368 ش. :

18 . تفسير نور الثقلين . العروسي الحويزي، عبد علي بن جمعة (ت 1112 ق). قم:

إسماعيليان . الطبعة الرابعة: 1415 ق.

19 . تفصيل وسائل الشيعة إلي تحصيل مسائل الشريعة. الحرّ العامليّ، محمّد بن

حسن(ت 1104 ق). قم: مؤسسة آل البيت: لإحياء التراث. الطبعة الأولي

ُ

1409 ق. :

20 . تنبيه الخواطر ونزهة النواظر المعروف بمجموعة ورّا م. ورام بن أبي فراس، مسعود

بن عيس ي (ت 605 ق). قم: مكتبة الفقيه . الطبعة الأولي: 1410 ق.

21 . تنبيهات حول المبدأ والمعاد. الميرزا حسنعليّ المرواريد. المشهد المقدسة: مجمع

البحوث الإسلاميّة للآستانة الرضوية المقدسة. الطبعة الثانية: 1418 ق.

22 . تهذيب الأحكام. محمّد بن الحسن الطوسيّ ( 460 ق). طهران: دار الكتب الإسلاميّة.

1365 ش.

23 . توحيد الإماميّة. محمّد باقر الملكيّ الميانجيّ ( 1419 ق). تنظيم: محمّد البيابانيّ

الأسكوئيّ ُ

. طهران: مؤسسة الطباعة والنشر وزارة الثقافة والإرشاد الاسلامي. الطبعة الأولي

ُ

1415 ق. :

ص: 438

24 . توحيد المفضل . المفضل بن عمر (ت 148 ق). قم: داوري . الطبعة الثالثة.

25 . التوحيد. محمّد بن عليّ بن بابويه الصدوق ( 381 ق). قم المقدّسة: انتشارات جامعة

المدرّسين. 1398 ق.

26 . جامع الأخبار. الشعيري، محمد بن محمد (القرن السادس). النجف: المطبعة

الحيدرية. الطبعة الأولي .

27 . الجعفريات. ابن الأشعث، محمد بن محمد (القرن الرابع). طهران: مكتبة النينوي

الحديثة. الطبعة: الأولي .

28 . الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة. صدر المتألّهين، محمّد ابراهيم(ت

1050 ق). بيروت: منشورات دار إحياء التراث. الطبعة الثالثة: 1981 م.

29 . حلية الأولياء، الاصفهاني، أحمد بن عبداللّه (ت 430 ق). بيروت: دار الكتب العربي.

الطبعة الخامسة: 1470 ق.

30 . الخرائج والجرائح. الراونديّ، قطب الدين (ت 573 ق). قم المقدّسة: مؤسسة الإمام

المهديّ. 1409 ق.

31 . الخصال. محمّد بن عليّ بن بابويه الصدوق ( 381 ق). قم المقدّسة: جامعة المدرّسين.

1403 ق.

32 . روح مجرد. الطهراني، محمد حسين (ت 1416 ق). مشهد المقدّسة: منشورات العلامة

الطباطبائي.

33 . روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه. المجلسي، محمد تقي بن مقصود

علي (ت 1070 ق). قم: مؤسسة كوشانبور للثقافة الإسلامية. الطبعة الثانية: 1406 ق.

34 . روضة الواعظين وبصيرة المتعظين. فتال النيشابوري، محمد بن أحمد (ت

508 ق). قم: منشورات الرضي . الطبعة الأولي: 1417 ق.

35 . زاد المعاد. المجلسي، محمد باقر بن محمد تقي (ت 1110 ق). بيروت: موسسة

الأعلمي للمطبوعا ت. الطبعة الأولي: 1423 ق.

36 . سدّ المفر علي القائل بالقدر. علم الهديٰ، محمّد باقر(ت 1431 ق). تقرير: السيد

عليّ الرضويّ، أمير الفخاريّ وحسن الكاشانيّ. طهران: منشورات منير. الطبعة الأولي

ُ

1388 ش. :

37 . السنخيّة أم الإتّحاد والعينيّة أم التباين؟. السيّدان، السيّد جعفر. ترجمة: ماجد

ص: 439

الكاظمي. مشهد: منشورات پارسيران. الطبعة الأولي

ُ

.

39 . شرح فصوص الحكم. القيصريّ الروميّ، محمّد بن داوود(ت 751 ق). بمساعي

السيد جلال الدين الآشتيانيّ. منشورات العلميّة الثقافيّة. الطبعة الأولي

ُ

1375 ش. :

40 . صفات الشيعة. ابن بابويه، محمد بن علي (ت 381 ق). طهران: الأعلمي . الطبعة

الأولي : 1403 ق.

41 . إعلام الوري بأعلام الهدي. الطبرسيّ، فضل بن حسن (ت 548 ق). طهران:

منشورات الاسلاميّة. الطبعة الثالثة: 1390 ق.

42 . عدة الداعي ونجاح الساع ي. ابن فهد الحلي، أحمد بن محمد (ت 841 ق).

منشورات دار الكتب الإسلام ي. الطبعة الأولي: 1407 ق.

43 . علل الشرايع. محمّد بن عليّ بن بابويه الصدوق (ت 381 ق). قم: منشورات مكتبة

الداوريّ. الطبعة الأولي

ُ

1385 ق. :

44 . عوالي اللئالي العزيزية في الأحاديث الدينية. ابن أبي جمهور، محمد بن زين الدين

(حي في 901 ق). قم: دار سيد الشهداء للنشر. الطبعة الأولي : 1405 ق.

45 . عيون أخبار الرضا. محمّد بن عليّ بن بابويه الصدوق (ت 381 ق). تحقيق: مهدي

اللاجورديّ. طهران: منشورات جهان. الطبعة الأولي

ُ

1378 ق. :

46 . عيون الحكم والمواعظ. الليثي الواسطي، علي بن محمد (القرن السادس). قم: دار

الحديث . الطبعة الأولي : 1418 ق.

47 . غرر الحكم ودرر الكلم (مجموعة من كلمات وحكم الإمام علي (ع)). التميمي

الآمدي، عبد الواحد بن محمد ( 550 ق). قم: دار الكتاب الإسلامي . الطبعة الثانية: 1410 ق.

48 . الفتوحات المكيّة.ابن عربيّ، محمّدبن عليّ (ت 638 ق).بيروت:منشورات دار الصادر.

49 . فصوص الحكم. الفارابيّ، أبو نصر (ت 339 ق). قم: منشورات بيدار. الطبعة الثانية:

1405 ق.

50 . القاموس المحيط. الفيروز آباديّ،محمد(ت 817 ق).بيروت:مؤسسةالرسالة. 1407 ق.

51 . مقتل الحسين. السيّد ابن طاووس.

52 . قرب الإسناد. الحميري، عبد الله بن جعفر (ت النصف الثاني من القرن الثالث). قم:

مؤسسة آل البيت: . الطبعة الأولي : 1413 ق.

ص: 440

53 . قصص الأنبياء:. قطب الدين الراوندي، سعيد بن هبة اللّه (ت 573 ق). مشهد:

مركز الدراسات الإسلامية. الطبعة الأولي : 1409 ق.

54 . كتاب سليم بن قيس الهلالي . الهلالي، سليم بن قيس (ت 76 ق). قم: الهادي .

الطبعة الأولي : 1405 ق.

55 . كشف الغمة في معرفة الأئمة. الإربلي، علي بن عيس ي (ت 92 ق) . تبريز: بني

هاشمي . الطبعة الأولي : 1423 ق.

56 . كفاية الأثر في النصّ علي الأئمة الإثني عشر. الخزاز الرازي، علي بن محمد (القرن

الرابع). قم: بيدار. 1401 ق.

57 . كمال الدين وتمام النعمة. ابن بابويه، محمد بن علي (ت 381 ق). طهران:

الإسلامية. الطبعة الثانية: 1395 ق.

58 . كنز الفوائد. الكراجكي، محمد بن علي (ت 449 ق). قم: دار الذخائر. الطبعة الأولي :

1410 ق.

59 . الكافي. الكلينيّ، محمّد بن يعقوب بن إسحاق(ت 329 ق). تحقيق: علي أكبر الغفاريّ.

طهران: منشورات دارالكتب الاسلاميّة. الطبعة الرابعة: 1407 ق.

60 . لسان العرب. محمد بن مكرم بن منظور (ت 711 ق). تحقيق: جمال الدين ميردامادي.

بيروت: انتشارات دارالفكر. الطبع الثالث: 1414 ق.

61 . الفصول المهمة في أصول الأئمة (تكملة الوسائل). الشيخ الحر العاملي، محمد بن

حسن (ت 1104 ق).قم: مؤسسة الإمام الرضا (ع) للمعارف الإسلامية. الطبعة الأولي: 1418 ق.

62 . متشابه القرآن ومختلفه. ابن شهرآشوب المازندراني، محمد بن علي (ت 588 ق). قم:

دار بيدار للنشر. الطبعة الأولي : 1369 ق.

63 . مجموعه آثار استاد مطهري. المطهريّ، مرتضي (ت 1358 ش). قم: منشورات صدرا .

64 . المحاسن. البرقيّ، أحمد بن محمّد بن خالد(ت 280 ق). قم: منشورات دارالكتب

الاسلاميّة. الطبعة الثانية: 1371 ق.

65 . المزار في كيفية زيارات النبيّ والأئمة:. الشهيد الأول، محمد بن مكي (ت

786 ق). قم: مدرسة الإمام المهدي* . الطبعة الأولي: 1410 ق.

66 . مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل. الميرزا حسين النّوري (ت 1320 ق). قم

ص: 441

المقدّسة: تحقيق مؤسّسة آل البيت: لإحياء التّراث. الطبعة الأولي: 1408 ق.

67 . المشاعر. صدر المتألّهين، محمّد ابراهيم(ت 1050 ق). طهران: مكتبة الطهوري .

الطبعة الثانية: 1404 ق.

68 . مصباح الشريعة. المنسوب للإمام جعفر بن محمّد الصادق (ع) (ت 148 ق). مؤسسة

الأعلمي للمطبوعات، 1400 ق.

69 . معارف القرآن المخطوط . الإصفهانيّ، الميرزا مهدي (ت 1365 ق).

70 . معاني الأخبار. محمّد بن عليّ بن بابويه الصدوق (ت 381 ق). قم المقدّسة: جامعة

المدرّسين. 1361 ش.

71 . ممد الهمم در شرح فصوص الحكم. حسن زاده الآمليّ، حسن. طهران: وزارت

فرهنگ و ارشاد اسلامي. الطبعة الأولي: 1378 ش.

72 . مناهج البيان في تفسير القرآن. الملكيّ الميانجيّ، محمّد باقر(ت 1377 ش). طهران:

مؤسسة الطباعة والنشر وزارة الثقافة والإرشاد الاسلاميّ. الطبعة الأولي

ُ

1417 ق. :

73 . مهج الدعوات ومنهج العبادا ت. ابن طاووس، علي بن موسي (ت 664 ق). قم: دار

الذخائر. الطعبة الأولي: 1411 ق.

74 . مهدي منتظر. الخراسانيّ، محمدجواد (ت 1317 ق). طهران: مكتبة الصدوق.

1384 ق.

75 . موسوعة العقائد الإسلامية. الريشهريّ، محمد. قم: دار الحديث للطباعة و النشر.

الطبعة الثانية: 1426 ق.

76 . الميزان في تفسير القرآن. الطباطبائي، السيد محمد حسين (ت 1402 ق). قم: مؤسسة

النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين في الحوزة العلمية بقم. الطبعة الخامسة: 1417 ق.

78 . ميزان المطالب. الطهراني، ميرزا جواد (ت 1410 ق). قم المقدّسة: مؤسسة در راه حق.

الطبعة الرابعة: 1374 ش.

79 . هداية الأمّة إلي معارف الأئمّة. الخراسانيّ، محمد جواد (ت 1397 ق).

80 . الوافي. الفيض الكاشانيّ ، محمّد محسن(ت 1091 ق). الإصفهان: مكتبة الإمام

1406 ق. . أميرالمؤمنين (ع)

ص: 442

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.